الياس محمد
2014-11-20, 21:00
ولي الأمر ( الإمام أو الخليفة أو السلطان أو الحاكم أو الرئيس أو الأمير أو...)
افتتح الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ كتاب الفتن من صحيحه ـ
والذي جعله جامع لأحاديث الإمارة ـ بقوله تعالى :
{ واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } [ الأنفال : 25 ]
فتراه جعل مسألة الإمارة من جملة الفتن الذي تبتلى بها الأمة كنزول الدجال وغيره ، وأن الخلل الذي يحدث في هذا الباب يَجُر الفتن على الأمة جميعاً وليس على الذين ظلموا خاصة .
فأمر الإمارة وملازمة الجماعة من الأمور التي جاءت بها الشريعة الإسلامية ، وغلظت النكير على من لا يلتزم بها ، لأن المخالفة هنا لا تعنى إلا الشقاق والنزاع ، والتشبه بأهل الجاهلية ومخالفة سمت أهل الإسلام ، وبهذا تعلم معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم :
( من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية )أخرجه البخاري ، وفي رواية مسلم ( فميته ميتة جاهلية ) .
وعند الترمذي وابن خزيمة وابن حبان ( من فارق الجماعة شبرا فكأنما خلع ربقة الإسلام من عنقه ) .
وعند مسلم في صحيحه (من خلع يدا من طاعة ، لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة ، مات ميتة جاهلية ) .
والمراد من قوله صلى الله عليه وسلم : (من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية ) أو (من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية ) .
يعنى حال موته : فالذي يفارق جماعة المسلمين في طاعة ولي الأمر ، ويخرج عن طاعة السلطان في السمع والطاعة يموت على حال أهل الجاهلية ، يموت كموتهم على ضلال و ليس له إمام مطاع . لأنهم كانوا لا يعرفون ذلك ، إنما كانوا قبائل متناحرة لا يرون لأحد عليهم سمع و لا طاعة ، فجاء الإسلام بمخالفة أهل الجاهلية وذلك بتنصيب رجل يكون إمام وقائد للناس يلتزمون بأمره ونهيه في المعروف .[ أفاده ابن حجر في الفتح] .
ومن حكمته ـ سبحانه و تعالى ـ أن جعل هذا القائد الإمام من طينة الرعية وعلى صورتها . قال تعالى : {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } ، فإن كانت الرعية صالحة كان سلطانهم صالحا ، وإن كانت الرعية ظالمة كان كذلك ، فكما تكونوا يولى عليكم .
ولم يجعل الله ـ عز وجل ـ سبيل تسلكه الرعية لإقامة سلطان عادل عليهم إلا أن يستقيموا على أمر الله ، وأن يلتزموا شرعه ، فإن ظهر منهم العدل والصلاح نصب الله عليهم سلطانٌ صالح ، وإن ظهر منهم خلاف ذلك كان سلطانهم كذلك .
لأن أمر تَنصيب الحاكم على الناس هو لله وحده ، يقول ـ سبحانه ـ : { قُلِ اللهم مالك الملك تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء ... } [ آل عمران : 26 ]
من هو الإمام الذي يتوجب طاعته
يقول الإمام ابن حجر في الفتح في معرض شرحه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( السمع والطاعة حقٌ ـ يعني : للإمام ـ ما لم يؤمر بمعصية ...) الحديث .
قال : ((والمراد بالإمام كل قائم بأمور الناس والله أعلم )). اهـ
فالذي له الاستطاعة في السيطرة على الأمور ، وله القدرة على كف أذى الناس بعضهم عن بعض ، ومنع العدو من إيذاء المسلمين كان هو الإمام . وهذا هو معنى كلمة ( السلطان ) يعني : يكون له سلطة وقوة وإحكام على مقاليد الأمور .
ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ...وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به ... ) متفق على صحته .
ومعنى جُنة بضم الجيم : إي سترة . فالإمام بالنسبة للمسلمين سترة
يتقى به الشر من العدو ، ومن أذى الناس بعضهم البعض .
وتكون إمامته على الناس :
الأولى : ببيعة شرعية ، كما حدث مع الخلفاء الأربعة ، فبعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع أعيان الصحابة في سقيفة بني ساعده لاختيار رجل يقود الأمة بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم فوقع الاختيار على الصديق ـ رضي الله عنه ـ ، ثم اجتمع الناس على الرضا به حاكماً عليهم تبعاً لما ذهب إليه اختيار أهل الحل والعقد من صفوة الصحابة رضي الله عنهم ، ثم لما مات الصديق عَهِدَ بالخلافة لعمر الفاروق رضي الله عنه فبايعه الناس إماماً إقراراً لاختيار الصديق ثم عهد الفاروق بالأمر من بعده لستة من الصحابة مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض فاختار الناس عثمان بن عفان من هؤلاء الستة ، ثم اختاروا على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ بعد مقتل عثمان ، ... وهكذا .
فالطريقة الأولى في اختيار إمام للناس أو حاكماً لهم يكون باجتماع أهل الحل والعقد من أولى الفهم والعلم على رجل ثم يلتزم عامة الناس بالبيعة لهذا الرجل . وليس معنى الالتزام بالبيعة له أن تذهب إليه وتصافحه وتقول : لك السمع والطاعة مني في المكره والمنشط وأن لا أخالفك في أمر فيه طاعة لله ، ولكن يكفيك النية أن فلاناً أصبح إماما مطاعا .
أما الطريقة الثانية في نصب الإمام أو الحاكم : هو أن يتغلب الإمام على الحكم والسلطة بالسيف والقوة ، فيتسلط على الحكم بقوته وسلطانه ، وعندها يلزمنا أيضا أن نبايعه على السمع والطاعة كحال الحاكم الذي جاء ببيعة شرعية ، شريطة أن يكون هذا الحاكم المتغلب مسلماً ، أما إذا تغلب كافر على ديار الإسلام كـ (نابليون بونابرت ) مثلاً ، هل يكون ولي أمر ؟ بالطبع لا ؛ لأن ولي الأمر لابد أن يكون مسلماً .
قال ابن بطال ـ رحمه الله ـ أحد شراح صحيح البخاري : اجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء ... ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها .
وقال الإمام ابن حجر العسقلاني المصري في فتح الباري :
(( فإذا اجتمع الناس على إمام ولو بالتغلب بالسيف وجب طاعته، ثم ساق قصه فتنة ابن الزبير وما كان من الاقتتال بينه وبين جيش الشام في الصراع على الخلافة ، وانتهى الأمر بقتل ابن الزبير وصَلبه عند الحرم ، واجتمعت الكلمة لعبد الملك بن مروان بالخلافة ، ودخول ابن عمر فقيه الفتن ـ رضي الله وعن أبيه ـ على عبد الملك و أعطاه البيعة ، وكان ممتنعاً من إعطاء البيعة لأي أحد من الفريقين عند الاقتتال فلما انتهت الفتنه . قال ابن عمر حينها وهو يعطى ببيعته لعبد الملك بن مروان الذي اخذ الخلافة بالسيف والقوة : والله ما كنت لأعطى بيعتي في فرقة ، ولا امنعها في جماعة )).
فالشاهد أن ابن عمر بايع عبد الملك بن مروان وقد أخذ الخلافة بالسيف ))
وهذا هو كلام السلف وفعلهم .
وعن حرملة قال : سمعت الشافعي يقول : ((كل من غلب على الخلافة بالسيف ،حتى يسمى خليفة ، ويجتمع الناس عليه فهو خليفة)) .
ونحن نقول كل من غلب على السلطة بالقوة وسماه الناس حاكماً أو رئيساً فهو حاكم تجب طاعته .
و أهل العلم متفقون على طاعة من تغلب ، وحكى الإجماع على ذلك جماعة منهم ابن حجر
ولهذا تجد في كتب اعتقاد أهل السنة : (ونصلى خلف كل بر وفاجر) ، (ونصلى وراء من غلب) ، وجاء هذا مسندا إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ فانه كان يصلى أيام فتنة ابن الزبير تارة خلف ابن الزبير ـ رضي الله عنهما ـ وتارة خلف الحجاج بن يوسف الثقفي ـ الذي قتل سبعون إلفا صبرا ، قتلهم وهم يرون السيف ، وذهب بعضهم لتكفيره ـ فلما سئل ابن عمر عن هذا عن صلاته خلف ابن الزبير تارة وخلف الحجاج تارة ؟ قال : ((وأُصلى وراء من غلب)) .
وقد وردت النصوص وتعددت في وجوب السمع والطاعة للسلطان منها قوله تعالى : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ } [ النساء : 59 ] ، رجح الإمام البخاري أنها نزلت في طاعة الأمراء خلافاً لمن قال أنها نزلت في العلماء كما بين ابن حجر في بداية كتاب الإحكام ، وهو ما رجحه الإمام الطبري أيضا ، وذهب جماعة من السلف أنها عامة في طاعة الأمراء والعلماء معاً .
وأخرج البخاري في صحيحه من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال : بايعنا رسول الله صلى الله وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، وأن نقوم بالحق حيثما كنا ، لا نخاف في الله لومة لائم .
وعند مسلم وغيره عن إبى ذر قال : إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع ، وإن كان عبداً حبشياً مُجَدَّع الأطراف .
يعني : إن كان هذا الحاكم أو الأمير الذي عليك ( عبداً ) ، فأنت أفضل منه لأنك حر ، وأيضا ليس سيلم الخلقة بل مُجَدَّع الأطراف يعني : مقطع الأطراف ، وأنت سليم البنيان ، ومعلوم أن المسلم القوي خير من المسلم الضعيف ،ومع ذلك فاسمع له وأطع فهذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى ذر الغفاري ـ رضي الله عنه ـ .
وعن أسيد بن خضير : أن رجلا من الأنصار قال يا رسول الله استعملت فلاناً ولم تستعملني ؟ قال: ((فإنكم سترون بعدي أثرة ، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)) . أخرجه البخاري
وعن ابن مسعود قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((سَتَكونُ أُثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ: تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكمْ وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكمْ)) . أخرجه البخاري .
وعن ابن عباس أن النبي صلى اله عليه وسلم قال : ((من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه ؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية)) .
قال ابن حجر في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم : ((إنكم سترون بعدى أثرة ))؛ قال : حاصلها الاختصاص بحظ دنيوي . اهـ
يعني : هؤلاء الأمراء يستأثرون بالدنيا بعيداً عن الرعية ؛ فماذا على الرعية حينها ؟ يقول عليه الصلاة والسلام : ( فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ) فعلى الرعية الصبر علي جور هؤلاء الحكام وإن استلزم الأمر الصبر عليهم إلى يوم القيامة حتى نلقى النبي صلى الله عليه وسلم على الحوض ، هذا الحوض الذي يُفصل عنده بين من التزم السنة وصبر عليها ، وبين من بدل وغير فيقال له : سحقاً سحقاً ، بعداً بعداً .
وهذا الجور و الظلم الذي يكون من الحكام لا يمنعهم حقهم ، فعلينا أن نوفي إليهم حقهم ونسأل الله ـ عز وجل ـ حقنا الذي لنا .
قال ابن حجر : أي بأن يلهمهم إنصافكم أو يبدلكم خيراً منهم .
وقال الإمام النووي في شرح مسلم تعقيبا على حديث ( إنها سَتَكونُ أُثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا فأدوا الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكمْ ) ، قال : هذا من معجزات النبوة ، وقد وقع هذا الإخبار متكرراً ووجد مخبره متكرراً ( وهو استئثار الحكام بالدنيا كما اخبر النبي صلى الله عليه وسلم ) قال : وفيه الحث على السمع والطاعة وإن كان المتولي ظالماً عسوفاً فيُعطى حقه من الطاعة، ولا يُخرج عليه ولا يُخلع ، بل يُتضرع إلى الله تعالى في كشف أذاه ورفع شره وإصلاحه .
وبوب الإمام النووي على حديث ( يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا ) قال : باب في طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق . ثم قال : ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم )
إن الله تعالى حمل الولاة وأوجب عليهم العدل بين الناس ، فإذا لم يقيموا أثموا ، وحمل الرعية السمع والطاعة لهم ، فإن قاموا بذلك أثيبوا عليه وإلا أثموا .وقال في شرح حديث ( عليك بالسمع والطاعة في عسرك ويسرك ) قال معناه : تحب طاعة ولاة الأمور فيما يشق وتكرهه النفوس وغيره مما ليس بمعصية ، فإن كانت معصية فلا سمع ولا طاعة .
ومعنى الأثرة : الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا عليكم فاسمعوا و أطيعوا وإن اختص الأمراء بالدنيا ولم يوصلوكم مما عندهم .
افتتح الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ كتاب الفتن من صحيحه ـ
والذي جعله جامع لأحاديث الإمارة ـ بقوله تعالى :
{ واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } [ الأنفال : 25 ]
فتراه جعل مسألة الإمارة من جملة الفتن الذي تبتلى بها الأمة كنزول الدجال وغيره ، وأن الخلل الذي يحدث في هذا الباب يَجُر الفتن على الأمة جميعاً وليس على الذين ظلموا خاصة .
فأمر الإمارة وملازمة الجماعة من الأمور التي جاءت بها الشريعة الإسلامية ، وغلظت النكير على من لا يلتزم بها ، لأن المخالفة هنا لا تعنى إلا الشقاق والنزاع ، والتشبه بأهل الجاهلية ومخالفة سمت أهل الإسلام ، وبهذا تعلم معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم :
( من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية )أخرجه البخاري ، وفي رواية مسلم ( فميته ميتة جاهلية ) .
وعند الترمذي وابن خزيمة وابن حبان ( من فارق الجماعة شبرا فكأنما خلع ربقة الإسلام من عنقه ) .
وعند مسلم في صحيحه (من خلع يدا من طاعة ، لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة ، مات ميتة جاهلية ) .
والمراد من قوله صلى الله عليه وسلم : (من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية ) أو (من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية ) .
يعنى حال موته : فالذي يفارق جماعة المسلمين في طاعة ولي الأمر ، ويخرج عن طاعة السلطان في السمع والطاعة يموت على حال أهل الجاهلية ، يموت كموتهم على ضلال و ليس له إمام مطاع . لأنهم كانوا لا يعرفون ذلك ، إنما كانوا قبائل متناحرة لا يرون لأحد عليهم سمع و لا طاعة ، فجاء الإسلام بمخالفة أهل الجاهلية وذلك بتنصيب رجل يكون إمام وقائد للناس يلتزمون بأمره ونهيه في المعروف .[ أفاده ابن حجر في الفتح] .
ومن حكمته ـ سبحانه و تعالى ـ أن جعل هذا القائد الإمام من طينة الرعية وعلى صورتها . قال تعالى : {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } ، فإن كانت الرعية صالحة كان سلطانهم صالحا ، وإن كانت الرعية ظالمة كان كذلك ، فكما تكونوا يولى عليكم .
ولم يجعل الله ـ عز وجل ـ سبيل تسلكه الرعية لإقامة سلطان عادل عليهم إلا أن يستقيموا على أمر الله ، وأن يلتزموا شرعه ، فإن ظهر منهم العدل والصلاح نصب الله عليهم سلطانٌ صالح ، وإن ظهر منهم خلاف ذلك كان سلطانهم كذلك .
لأن أمر تَنصيب الحاكم على الناس هو لله وحده ، يقول ـ سبحانه ـ : { قُلِ اللهم مالك الملك تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء ... } [ آل عمران : 26 ]
من هو الإمام الذي يتوجب طاعته
يقول الإمام ابن حجر في الفتح في معرض شرحه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( السمع والطاعة حقٌ ـ يعني : للإمام ـ ما لم يؤمر بمعصية ...) الحديث .
قال : ((والمراد بالإمام كل قائم بأمور الناس والله أعلم )). اهـ
فالذي له الاستطاعة في السيطرة على الأمور ، وله القدرة على كف أذى الناس بعضهم عن بعض ، ومنع العدو من إيذاء المسلمين كان هو الإمام . وهذا هو معنى كلمة ( السلطان ) يعني : يكون له سلطة وقوة وإحكام على مقاليد الأمور .
ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ...وإنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به ... ) متفق على صحته .
ومعنى جُنة بضم الجيم : إي سترة . فالإمام بالنسبة للمسلمين سترة
يتقى به الشر من العدو ، ومن أذى الناس بعضهم البعض .
وتكون إمامته على الناس :
الأولى : ببيعة شرعية ، كما حدث مع الخلفاء الأربعة ، فبعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع أعيان الصحابة في سقيفة بني ساعده لاختيار رجل يقود الأمة بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم فوقع الاختيار على الصديق ـ رضي الله عنه ـ ، ثم اجتمع الناس على الرضا به حاكماً عليهم تبعاً لما ذهب إليه اختيار أهل الحل والعقد من صفوة الصحابة رضي الله عنهم ، ثم لما مات الصديق عَهِدَ بالخلافة لعمر الفاروق رضي الله عنه فبايعه الناس إماماً إقراراً لاختيار الصديق ثم عهد الفاروق بالأمر من بعده لستة من الصحابة مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض فاختار الناس عثمان بن عفان من هؤلاء الستة ، ثم اختاروا على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ بعد مقتل عثمان ، ... وهكذا .
فالطريقة الأولى في اختيار إمام للناس أو حاكماً لهم يكون باجتماع أهل الحل والعقد من أولى الفهم والعلم على رجل ثم يلتزم عامة الناس بالبيعة لهذا الرجل . وليس معنى الالتزام بالبيعة له أن تذهب إليه وتصافحه وتقول : لك السمع والطاعة مني في المكره والمنشط وأن لا أخالفك في أمر فيه طاعة لله ، ولكن يكفيك النية أن فلاناً أصبح إماما مطاعا .
أما الطريقة الثانية في نصب الإمام أو الحاكم : هو أن يتغلب الإمام على الحكم والسلطة بالسيف والقوة ، فيتسلط على الحكم بقوته وسلطانه ، وعندها يلزمنا أيضا أن نبايعه على السمع والطاعة كحال الحاكم الذي جاء ببيعة شرعية ، شريطة أن يكون هذا الحاكم المتغلب مسلماً ، أما إذا تغلب كافر على ديار الإسلام كـ (نابليون بونابرت ) مثلاً ، هل يكون ولي أمر ؟ بالطبع لا ؛ لأن ولي الأمر لابد أن يكون مسلماً .
قال ابن بطال ـ رحمه الله ـ أحد شراح صحيح البخاري : اجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء ... ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها .
وقال الإمام ابن حجر العسقلاني المصري في فتح الباري :
(( فإذا اجتمع الناس على إمام ولو بالتغلب بالسيف وجب طاعته، ثم ساق قصه فتنة ابن الزبير وما كان من الاقتتال بينه وبين جيش الشام في الصراع على الخلافة ، وانتهى الأمر بقتل ابن الزبير وصَلبه عند الحرم ، واجتمعت الكلمة لعبد الملك بن مروان بالخلافة ، ودخول ابن عمر فقيه الفتن ـ رضي الله وعن أبيه ـ على عبد الملك و أعطاه البيعة ، وكان ممتنعاً من إعطاء البيعة لأي أحد من الفريقين عند الاقتتال فلما انتهت الفتنه . قال ابن عمر حينها وهو يعطى ببيعته لعبد الملك بن مروان الذي اخذ الخلافة بالسيف والقوة : والله ما كنت لأعطى بيعتي في فرقة ، ولا امنعها في جماعة )).
فالشاهد أن ابن عمر بايع عبد الملك بن مروان وقد أخذ الخلافة بالسيف ))
وهذا هو كلام السلف وفعلهم .
وعن حرملة قال : سمعت الشافعي يقول : ((كل من غلب على الخلافة بالسيف ،حتى يسمى خليفة ، ويجتمع الناس عليه فهو خليفة)) .
ونحن نقول كل من غلب على السلطة بالقوة وسماه الناس حاكماً أو رئيساً فهو حاكم تجب طاعته .
و أهل العلم متفقون على طاعة من تغلب ، وحكى الإجماع على ذلك جماعة منهم ابن حجر
ولهذا تجد في كتب اعتقاد أهل السنة : (ونصلى خلف كل بر وفاجر) ، (ونصلى وراء من غلب) ، وجاء هذا مسندا إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ فانه كان يصلى أيام فتنة ابن الزبير تارة خلف ابن الزبير ـ رضي الله عنهما ـ وتارة خلف الحجاج بن يوسف الثقفي ـ الذي قتل سبعون إلفا صبرا ، قتلهم وهم يرون السيف ، وذهب بعضهم لتكفيره ـ فلما سئل ابن عمر عن هذا عن صلاته خلف ابن الزبير تارة وخلف الحجاج تارة ؟ قال : ((وأُصلى وراء من غلب)) .
وقد وردت النصوص وتعددت في وجوب السمع والطاعة للسلطان منها قوله تعالى : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ } [ النساء : 59 ] ، رجح الإمام البخاري أنها نزلت في طاعة الأمراء خلافاً لمن قال أنها نزلت في العلماء كما بين ابن حجر في بداية كتاب الإحكام ، وهو ما رجحه الإمام الطبري أيضا ، وذهب جماعة من السلف أنها عامة في طاعة الأمراء والعلماء معاً .
وأخرج البخاري في صحيحه من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال : بايعنا رسول الله صلى الله وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، وأن نقوم بالحق حيثما كنا ، لا نخاف في الله لومة لائم .
وعند مسلم وغيره عن إبى ذر قال : إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع ، وإن كان عبداً حبشياً مُجَدَّع الأطراف .
يعني : إن كان هذا الحاكم أو الأمير الذي عليك ( عبداً ) ، فأنت أفضل منه لأنك حر ، وأيضا ليس سيلم الخلقة بل مُجَدَّع الأطراف يعني : مقطع الأطراف ، وأنت سليم البنيان ، ومعلوم أن المسلم القوي خير من المسلم الضعيف ،ومع ذلك فاسمع له وأطع فهذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى ذر الغفاري ـ رضي الله عنه ـ .
وعن أسيد بن خضير : أن رجلا من الأنصار قال يا رسول الله استعملت فلاناً ولم تستعملني ؟ قال: ((فإنكم سترون بعدي أثرة ، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)) . أخرجه البخاري
وعن ابن مسعود قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((سَتَكونُ أُثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ: تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكمْ وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكمْ)) . أخرجه البخاري .
وعن ابن عباس أن النبي صلى اله عليه وسلم قال : ((من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه ؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية)) .
قال ابن حجر في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم : ((إنكم سترون بعدى أثرة ))؛ قال : حاصلها الاختصاص بحظ دنيوي . اهـ
يعني : هؤلاء الأمراء يستأثرون بالدنيا بعيداً عن الرعية ؛ فماذا على الرعية حينها ؟ يقول عليه الصلاة والسلام : ( فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ) فعلى الرعية الصبر علي جور هؤلاء الحكام وإن استلزم الأمر الصبر عليهم إلى يوم القيامة حتى نلقى النبي صلى الله عليه وسلم على الحوض ، هذا الحوض الذي يُفصل عنده بين من التزم السنة وصبر عليها ، وبين من بدل وغير فيقال له : سحقاً سحقاً ، بعداً بعداً .
وهذا الجور و الظلم الذي يكون من الحكام لا يمنعهم حقهم ، فعلينا أن نوفي إليهم حقهم ونسأل الله ـ عز وجل ـ حقنا الذي لنا .
قال ابن حجر : أي بأن يلهمهم إنصافكم أو يبدلكم خيراً منهم .
وقال الإمام النووي في شرح مسلم تعقيبا على حديث ( إنها سَتَكونُ أُثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا فأدوا الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكمْ ) ، قال : هذا من معجزات النبوة ، وقد وقع هذا الإخبار متكرراً ووجد مخبره متكرراً ( وهو استئثار الحكام بالدنيا كما اخبر النبي صلى الله عليه وسلم ) قال : وفيه الحث على السمع والطاعة وإن كان المتولي ظالماً عسوفاً فيُعطى حقه من الطاعة، ولا يُخرج عليه ولا يُخلع ، بل يُتضرع إلى الله تعالى في كشف أذاه ورفع شره وإصلاحه .
وبوب الإمام النووي على حديث ( يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا ) قال : باب في طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق . ثم قال : ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم )
إن الله تعالى حمل الولاة وأوجب عليهم العدل بين الناس ، فإذا لم يقيموا أثموا ، وحمل الرعية السمع والطاعة لهم ، فإن قاموا بذلك أثيبوا عليه وإلا أثموا .وقال في شرح حديث ( عليك بالسمع والطاعة في عسرك ويسرك ) قال معناه : تحب طاعة ولاة الأمور فيما يشق وتكرهه النفوس وغيره مما ليس بمعصية ، فإن كانت معصية فلا سمع ولا طاعة .
ومعنى الأثرة : الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا عليكم فاسمعوا و أطيعوا وإن اختص الأمراء بالدنيا ولم يوصلوكم مما عندهم .