أبو همام الجزائري
2014-11-11, 10:11
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح أذكار الصلاة من التكبير إلى التسليم
...................................
تكبيرة الإحرام (الله أكبر)
عن عائشة رضي الله عنها ، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم «يستفتح الصلاة بالتكبير.
رواه مسلم(498)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:التكبير يراد به أن يكون عند العبد أكبر من كل شيء؛ كما قال صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: {يا عدي ما يفرك؟ أيفرك أن يقال: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله إلا الله؟ يا عدي ما يفرك؟ أيفرك أن يقال: الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟} وهذا يبطل قول من جعل أكبر بمعنى كبير.
مجموع الفتاوى (5/239)
قال الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله:والله أكبر :تعظيم لله عز وجل، وأنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، وكل شيء ضئيل أمام عظمته وكبريائه سبحانه وتعالى.
شرح سنن أبي داود(575/3)
أدعية الإستفتاح
.
صلاة الفريضة
عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة - قال أحسبه قال: هنية - فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: " أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد .
رواه البخاري(744)
قال الصنعاني رحمه الله:قوله(اللهم باعد بيني وبين خطاياي) المباعدة: المراد بها محو ما حصل منها، أو العصمة عما يأتي منها (كما باعدت بين المشرق والمغرب) فكما لا يجتمع المشرق والمغرب لا يجتمع هو وخطاياه «اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس» بفتح الدال المهملة والنون فسين مهملة؛ في القاموس أنه الوسخ، والمراد أزل عني الخطايا بهذه الإزالة «اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد» بالتحريك، جمع بردة قال الخطابي: ذكر الثلج والبرد تأكيد، أو لأنهما ماءان لم تستعملهما الأيدي؛ وقال ابن دقيق العيد: عبر بذلك عن غاية المحو، فإن الثوب الذي تكرر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء، وفيه أقوال أخر متفق عليه.
سبل السلام(1/246)
قال الشيخ عبد الرزاق البدر حفظه الله :وفي هذا الإستفتاح سؤال لله تبارك وتعالى أن يباعد بين العبد وبين خطاياه وهي الذنوب كما باعد بين المشرق والمغرب ،وذلك بمحو الذنوب وعدم المؤاخذة عليها والتوفيق للبعد عنها ،وأن ينقيه من خطاياه أي:ينظفه كما ينظف الثوب الأبيض من الدنس بحيث لا يبقى فيه أي أثروأن يغسله من خطاياه بالثلج والماء والبرد وفي هذا إشارة إلى شدة حاجة القلب والبدن إلى مايطهرهما ويبردهما ويقويهما .
فقه الأدعية والأذكار(3/131-132)
صلاة النافة
عن أبي سعيد الخدري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر، ثم يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك» ، ثم يقول: «لا إله إلا الله» ثلاثا، ثم يقول: «الله أكبر كبيرا» ثلاثا، «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه، ونفثه» ، ثم يقرأ.
رواه أبو داود (775)وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود(775)
قال الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله:قوله: (سبحانك -اللهم- وبحمدك) تنزيه لله عز وجل وتعظيم له؛ لأن التسبيح هو تنزيه، والحمد هو ثناء.
ثم بعد ذلك قال: (وتبارك اسمك) و (تبارك) لا تأتي إلا مضافة إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يطلق على غيره هذا اللفظ، ولا يقال لمخلوق: تبارك.
ولا يقال: تعالى.
ولا يقال: سبحان فلان.
لأن هذه الألفاظ الثلاثة كلها من خصائص الله، ولا تقال إلا لله سبحانه وتعالى.
قوله: (وتعالى جدك) الجد هو العظمة، ومنه قول الله عز وجل فيما حكاه عن الجن: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن:3] فالجد هنا العظمة، فيأتي الجد بمعنى العظمة كما هنا، وكما في الآية، ويأتي الجد بمعنى الحظ والنصيب، ومنه قول الشاعر: الجد بالجد والحرمان بالكسل.
يعني: الحظ والنصيب إنما يكون بالجد والاجتهاد، والحرمان الذي هو مقابل الحظ ومقابل الجد يكون بالكسل.
ويأتي بمعنى أبي الأب وأبي الأم، فيقال له: جد.
فلفظ الجد يأتي ويراد به العظمة، ويأتي ويراد به الجد الذي هو الأب الثاني، سواءٌ من جهة الأب أو الأم، ويأتي بمعنى الحظ والنصيب، ومنه الحديث: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) يعني: لا ينفع صاحب الحظ حظه عندك، وإنما ينفعه العمل الصالح.
وقوله: [(تبارك اسمك)] يعني: كثرت بركته وخيره.
شرح سنن أبي داود(101/22)
وقال أيضا حفظه الله :إشتمل هذا الإستفتاح العظيم على أنواع التوحيد الثلاثة ،توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات.
فقه الأدعية والأذكار(ج3/132)
صلاة قيام الليل
عن عبد الرحمن بن عوف، قال: سألت عائشة بأي شيءكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل يفتتح صلاته «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك أنت تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم».
رواه مسلم(767)
قال الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله:وهذا توسل إلى الله عز وجل بربوبيته لجبريل وميكائيل وإسرافيل، وهم من أشراف الملائكة، وقيل: إنه ذكر هؤلاء الثلاثة وتوسل إلى الله عز وجل بربوبيته لهم لأن جبريل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب، وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأبدان، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به الحياة بعد الموت والبعث بعد الموت، ثم بعد ذكر ربوبيته لجبريل وميكائيل وإسرافيل أثنى على الله عز وجل بما هو أهله فقال: [(فاطر السموات والأرض)]. يعني: فاطرهما وموجدهما.
وقوله: [(عالم الغيب والشهادة)] يعني: يعلم ما غاب وما خفي، ما كان علانيةً وما كان سراً وخفياً، كما قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7].
قوله: [(أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون)]. يعني: أنت المرجع في الحكم، لا حكم إلا حكمك.
والله عز وجل والله عز وجل يقول: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، ويقول عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59].
ثم بعد ذلك وصل إلى الغاية وهي السؤال؛ لأن هذا كله تمهيد وكله توطئة وكله تقديم بين يدي السؤال، وهو قوله: [(اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)] فما قبل هذا الدعاء وهذا الطلب من الله عز وجل كله تمهيد وثناء على الله عز وجل، وذلك بين يدي هذا الدعاء الذي هو الهداية لما اختلف فيه من الحق، بأن يوفق للصواب، ويوفق للحق في الذي اختلف فيه.
شرح سنن أبي داود(101/5)
الإستعاذة من الشيطان الرجيم
عن أبي سعيد الخدري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر، ثم يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك» ، ثم يقول: «لا إله إلا الله» ثلاثا، ثم يقول: «الله أكبر كبيرا» ثلاثا، «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه، ونفثه» ، ثم يقرأ.
رواه أبو داود (775)وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود(775)
قال ابن كثير رحمه الله:ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أي: أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه؛ فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله؛ ولهذا أمر الله تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه، ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شرير بالطبع ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه، وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة، قوله في الأعراف: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف: 199] ، فهذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر، ثم قال: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم} [الأعراف: 200] ، وقال تعالى في سورة " قد أفلح المؤمنون ": {ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون * وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين * وأعوذ بك رب أن يحضرون} [المؤمنون: 96 -98] ، وقال تعالى في سورة " حم السجدة ": {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} [فصلت: 34 -36] .
والشيطان في لغة العرب مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بفسقه عن كل خير، وقيل: مشتق من شاط لأنه مخلوق من نار، ومنهم من يقول: كلاهما صحيح في المعنى، ولكن الأول أصح، وعليه يدل كلام العرب؛ قال أمية بن أبي الصلت في ذكر ما أوتي سليمان، عليه السلام:
أيما شاطن عصاه عكاه ... ثم يلقى في السجن والأغلال
فقال: أيما شاطن، ولم يقل: أيما شائط.
وقال النابغة الذبياني -وهو: زياد بن عمرو بن معاوية بن جابر بن ضباب بن يربوع بن مرة بن سعد بن ذبيان-:
نأت بسعاد عنك نوى شطون ... فبانت والفؤاد بها رهين
يقول: بعدت بها طريق بعيدة.
[وقال سيبويه: العرب تقول: تشيطن فلان إذا فعل فعل الشيطان ولو كان من شاط لقالوا: تشيط] . والشيطان مشتق من البعد على الصحيح؛ ولهذا يسمون كل ما تمرد من جني وإنسي وحيوان شيطانا، قال الله تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} [الأنعام: 112] . وفي مسند الإمام أحمد، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا ذر، تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن "، فقلت: أو للإنس شياطين؟ قال: " نعم " . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر -أيضا-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود ". فقلت: يا رسول الله، ما بال الكلب الأسود من الأحمر والأصفر فقال: " الكلب الأسود شيطان " . وقال ابن وهب: أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ركب برذونا، فجعل يتبختر به، فجعل لا يضربه فلا يزداد إلا تبخترا، فنزل عنه، وقال: ما حملتموني إلا على شيطان، ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي. إسناده صحيح.
والرجيم: فعيل بمعنى مفعول، أي: أنه مرجوم مطرود عن الخير كله، كما قال تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين} [الملك: 5] ، وقال تعالى: {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب * وحفظا من كل شيطان مارد * لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب * دحورا ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب} [الصافات: 6 -10] ، وقال تعالى: {ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين * وحفظناها من كل شيطان رجيم * إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين} [الحجر: 16 -18] ، إلى غير ذلك من الآيات. [وقيل: رجيم بمعنى راجم؛ لأنه يرجم الناس بالوساوس والربائث والأول أشهر].
تفسيرابن كثير(1/115)
سورة الفاتحة
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تمام، فقيل لـ أبي هريرة: إنا نكون خلف الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة:2]، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} [الفاتحة:3]، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مالك يوم الدين} [الفاتحة:4] قال الله: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي، فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة:5] قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة:6 - 7] قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل). رواه مسلم(395)
قال فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي رحمه الله:{بِسْمِ اللَّهِ} أي: أبتدئ بكل اسم لله تعالى، لأن لفظ {اسم} مفرد مضاف، فيعم جميع الأسماء [الحسنى] . {اللَّهِ} هو المألوه المعبود، المستحق لإفراده بالعبادة، لما اتصف به من صفات الألوهية وهي صفات الكمال. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء، وعمت كل حي، وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله. فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة، ومن عداهم فلهم نصيب منها.
واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها، الإيمان بأسماء الله وصفاته، وأحكام الصفات.
فيؤمنون مثلا بأنه رحمن رحيم، ذو الرحمة التي اتصف بها، المتعلقة بالمرحوم. فالنعم كلها، أثر من آثار رحمته، وهكذا في سائر الأسماء. يقال في العليم: إنه عليم ذو علم، يعلم [به] كل شيء، قدير، ذو قدرة يقدر على كل شيء.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} [هو] الثناء على الله بصفات الكمال، وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل، فله الحمد الكامل، بجميع الوجوه. {رَبِّ الْعَالَمِينَ} الرب، هو المربي جميع العالمين -وهم من سوى الله- بخلقه إياهم، وإعداده لهم الآلات، وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة، التي لو فقدوها، لم يمكن لهم البقاء. فما بهم من نعمة، فمنه تعالى.
وتربيته تعالى لخلقه نوعان: عامة وخاصة.
فالعامة: هي خلقه للمخلوقين، ورزقهم، وهدايتهم لما فيه مصالحهم، التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
والخاصة: تربيته لأوليائه، فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له، ويكمله لهم، ويدفع عنهم الصوارف، والعوائق الحائلة بينهم وبينه، وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير، والعصمة عن كل شر. ولعل هذا [المعنى] هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب. فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة.
فدل قوله {رَبِّ الْعَالَمِينَ} على انفراده بالخلق والتدبير، والنعم، وكمال غناه، وتمام فقر العالمين إليه، بكل وجه واعتبار.
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} المالك: هو من اتصف بصفة الملك التي من آثارها أنه يأمر وينهى، ويثيب ويعاقب، ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات، وأضاف الملك ليوم الدين، وهو يوم القيامة، يوم يدان الناس فيه بأعمالهم، خيرها وشرها، لأن في ذلك اليوم، يظهر للخلق تمام الظهور، كمال ملكه وعدله وحكمته، وانقطاع أملاك الخلائق. حتى [إنه] يستوي في ذلك اليوم، الملوك والرعايا والعبيد والأحرار.
كلهم مذعنون لعظمته، خاضعون لعزته، منتظرون لمجازاته، راجون ثوابه، خائفون من عقابه، فلذلك خصه بالذكر، وإلا فهو المالك ليوم الدين ولغيره من الأيام.
وقوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي: نخصك وحدك بالعبادة والاستعانة، لأن تقديم المعمول يفيد الحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور، ونفيه عما عداه. فكأنه يقول: نعبدك، ولا نعبد غيرك، ونستعين بك، ولا نستعين بغيرك.
وقدم العبادة على الاستعانة، من باب تقديم العام على الخاص، واهتماما بتقديم حقه تعالى على حق عبده.
و {العبادة} اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة. و {الاستعانة} هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع، ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك.
والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية، والنجاة من جميع الشرور، فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما. وإنما تكون العبادة عبادة، إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصودا بها وجه الله. فبهذين الأمرين تكون عبادة، وذكر {الاستعانة} بعد {العبادة} مع دخولها فيها، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى. فإنه إن لم يعنه الله، لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر، واجتناب النواهي.
ثم قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أي: دلنا وأرشدنا، ووفقنا للصراط المستقيم، وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله، وإلى جنته، وهو معرفة الحق والعمل به، فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط. فالهداية إلى الصراط: لزوم دين الإسلام، وترك ما سواه من الأديان، والهداية في الصراط، تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما وعملا. فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته، لضرورته إلى ذلك.
وهذا الصراط المستقيم هو: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. {غَيْرِ} صراط {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم. وغير صراط {الضَّالِّينَ} الذين تركوا الحق على جهل وضلال، كالنصارى ونحوهم.
فهذه السورة على إيجازها، قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن، فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية يؤخذ من قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وتوحيد الإلهية وهو إفراد الله بالعبادة، يؤخذ من لفظ: {اللَّهِ} ومن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وتوحيد الأسماء والصفات، وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى، التي أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه، وقد دل على ذلك لفظ {الْحَمْدُ} كما تقدم. وتضمنت إثبات النبوة في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة.
وإثبات الجزاء على الأعمال في قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وأن الجزاء يكون بالعدل، لأن الدين معناه الجزاء بالعدل.
وتضمنت إثبات القدر، وأن العبد فاعل حقيقة، خلافا للقدرية والجبرية. بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع [والضلال] في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} لأنه معرفة الحق والعمل به. وكل مبتدع [وضال] فهو مخالف لذلك.
وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى، عبادة واستعانة في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فالحمد لله رب العالمين.
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان(1/40)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح أذكار الصلاة من التكبير إلى التسليم
...................................
تكبيرة الإحرام (الله أكبر)
عن عائشة رضي الله عنها ، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم «يستفتح الصلاة بالتكبير.
رواه مسلم(498)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:التكبير يراد به أن يكون عند العبد أكبر من كل شيء؛ كما قال صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: {يا عدي ما يفرك؟ أيفرك أن يقال: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله إلا الله؟ يا عدي ما يفرك؟ أيفرك أن يقال: الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟} وهذا يبطل قول من جعل أكبر بمعنى كبير.
مجموع الفتاوى (5/239)
قال الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله:والله أكبر :تعظيم لله عز وجل، وأنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، وكل شيء ضئيل أمام عظمته وكبريائه سبحانه وتعالى.
شرح سنن أبي داود(575/3)
أدعية الإستفتاح
.
صلاة الفريضة
عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتة - قال أحسبه قال: هنية - فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: " أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد .
رواه البخاري(744)
قال الصنعاني رحمه الله:قوله(اللهم باعد بيني وبين خطاياي) المباعدة: المراد بها محو ما حصل منها، أو العصمة عما يأتي منها (كما باعدت بين المشرق والمغرب) فكما لا يجتمع المشرق والمغرب لا يجتمع هو وخطاياه «اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس» بفتح الدال المهملة والنون فسين مهملة؛ في القاموس أنه الوسخ، والمراد أزل عني الخطايا بهذه الإزالة «اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد» بالتحريك، جمع بردة قال الخطابي: ذكر الثلج والبرد تأكيد، أو لأنهما ماءان لم تستعملهما الأيدي؛ وقال ابن دقيق العيد: عبر بذلك عن غاية المحو، فإن الثوب الذي تكرر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء، وفيه أقوال أخر متفق عليه.
سبل السلام(1/246)
قال الشيخ عبد الرزاق البدر حفظه الله :وفي هذا الإستفتاح سؤال لله تبارك وتعالى أن يباعد بين العبد وبين خطاياه وهي الذنوب كما باعد بين المشرق والمغرب ،وذلك بمحو الذنوب وعدم المؤاخذة عليها والتوفيق للبعد عنها ،وأن ينقيه من خطاياه أي:ينظفه كما ينظف الثوب الأبيض من الدنس بحيث لا يبقى فيه أي أثروأن يغسله من خطاياه بالثلج والماء والبرد وفي هذا إشارة إلى شدة حاجة القلب والبدن إلى مايطهرهما ويبردهما ويقويهما .
فقه الأدعية والأذكار(3/131-132)
صلاة النافة
عن أبي سعيد الخدري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر، ثم يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك» ، ثم يقول: «لا إله إلا الله» ثلاثا، ثم يقول: «الله أكبر كبيرا» ثلاثا، «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه، ونفثه» ، ثم يقرأ.
رواه أبو داود (775)وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود(775)
قال الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله:قوله: (سبحانك -اللهم- وبحمدك) تنزيه لله عز وجل وتعظيم له؛ لأن التسبيح هو تنزيه، والحمد هو ثناء.
ثم بعد ذلك قال: (وتبارك اسمك) و (تبارك) لا تأتي إلا مضافة إلى الله سبحانه وتعالى، ولا يطلق على غيره هذا اللفظ، ولا يقال لمخلوق: تبارك.
ولا يقال: تعالى.
ولا يقال: سبحان فلان.
لأن هذه الألفاظ الثلاثة كلها من خصائص الله، ولا تقال إلا لله سبحانه وتعالى.
قوله: (وتعالى جدك) الجد هو العظمة، ومنه قول الله عز وجل فيما حكاه عن الجن: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن:3] فالجد هنا العظمة، فيأتي الجد بمعنى العظمة كما هنا، وكما في الآية، ويأتي الجد بمعنى الحظ والنصيب، ومنه قول الشاعر: الجد بالجد والحرمان بالكسل.
يعني: الحظ والنصيب إنما يكون بالجد والاجتهاد، والحرمان الذي هو مقابل الحظ ومقابل الجد يكون بالكسل.
ويأتي بمعنى أبي الأب وأبي الأم، فيقال له: جد.
فلفظ الجد يأتي ويراد به العظمة، ويأتي ويراد به الجد الذي هو الأب الثاني، سواءٌ من جهة الأب أو الأم، ويأتي بمعنى الحظ والنصيب، ومنه الحديث: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) يعني: لا ينفع صاحب الحظ حظه عندك، وإنما ينفعه العمل الصالح.
وقوله: [(تبارك اسمك)] يعني: كثرت بركته وخيره.
شرح سنن أبي داود(101/22)
وقال أيضا حفظه الله :إشتمل هذا الإستفتاح العظيم على أنواع التوحيد الثلاثة ،توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات.
فقه الأدعية والأذكار(ج3/132)
صلاة قيام الليل
عن عبد الرحمن بن عوف، قال: سألت عائشة بأي شيءكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل يفتتح صلاته «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك أنت تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم».
رواه مسلم(767)
قال الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله:وهذا توسل إلى الله عز وجل بربوبيته لجبريل وميكائيل وإسرافيل، وهم من أشراف الملائكة، وقيل: إنه ذكر هؤلاء الثلاثة وتوسل إلى الله عز وجل بربوبيته لهم لأن جبريل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب، وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأبدان، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به الحياة بعد الموت والبعث بعد الموت، ثم بعد ذكر ربوبيته لجبريل وميكائيل وإسرافيل أثنى على الله عز وجل بما هو أهله فقال: [(فاطر السموات والأرض)]. يعني: فاطرهما وموجدهما.
وقوله: [(عالم الغيب والشهادة)] يعني: يعلم ما غاب وما خفي، ما كان علانيةً وما كان سراً وخفياً، كما قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7].
قوله: [(أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون)]. يعني: أنت المرجع في الحكم، لا حكم إلا حكمك.
والله عز وجل والله عز وجل يقول: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، ويقول عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59].
ثم بعد ذلك وصل إلى الغاية وهي السؤال؛ لأن هذا كله تمهيد وكله توطئة وكله تقديم بين يدي السؤال، وهو قوله: [(اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)] فما قبل هذا الدعاء وهذا الطلب من الله عز وجل كله تمهيد وثناء على الله عز وجل، وذلك بين يدي هذا الدعاء الذي هو الهداية لما اختلف فيه من الحق، بأن يوفق للصواب، ويوفق للحق في الذي اختلف فيه.
شرح سنن أبي داود(101/5)
الإستعاذة من الشيطان الرجيم
عن أبي سعيد الخدري، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر، ثم يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك» ، ثم يقول: «لا إله إلا الله» ثلاثا، ثم يقول: «الله أكبر كبيرا» ثلاثا، «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه، ونفثه» ، ثم يقرأ.
رواه أبو داود (775)وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود(775)
قال ابن كثير رحمه الله:ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أي: أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه؛ فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله؛ ولهذا أمر الله تعالى بمصانعة شيطان الإنس ومداراته بإسداء الجميل إليه، ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل؛ لأنه شرير بالطبع ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه، وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة، قوله في الأعراف: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} [الأعراف: 199] ، فهذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر، ثم قال: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم} [الأعراف: 200] ، وقال تعالى في سورة " قد أفلح المؤمنون ": {ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون * وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين * وأعوذ بك رب أن يحضرون} [المؤمنون: 96 -98] ، وقال تعالى في سورة " حم السجدة ": {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} [فصلت: 34 -36] .
والشيطان في لغة العرب مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بفسقه عن كل خير، وقيل: مشتق من شاط لأنه مخلوق من نار، ومنهم من يقول: كلاهما صحيح في المعنى، ولكن الأول أصح، وعليه يدل كلام العرب؛ قال أمية بن أبي الصلت في ذكر ما أوتي سليمان، عليه السلام:
أيما شاطن عصاه عكاه ... ثم يلقى في السجن والأغلال
فقال: أيما شاطن، ولم يقل: أيما شائط.
وقال النابغة الذبياني -وهو: زياد بن عمرو بن معاوية بن جابر بن ضباب بن يربوع بن مرة بن سعد بن ذبيان-:
نأت بسعاد عنك نوى شطون ... فبانت والفؤاد بها رهين
يقول: بعدت بها طريق بعيدة.
[وقال سيبويه: العرب تقول: تشيطن فلان إذا فعل فعل الشيطان ولو كان من شاط لقالوا: تشيط] . والشيطان مشتق من البعد على الصحيح؛ ولهذا يسمون كل ما تمرد من جني وإنسي وحيوان شيطانا، قال الله تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} [الأنعام: 112] . وفي مسند الإمام أحمد، عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا ذر، تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن "، فقلت: أو للإنس شياطين؟ قال: " نعم " . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر -أيضا-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود ". فقلت: يا رسول الله، ما بال الكلب الأسود من الأحمر والأصفر فقال: " الكلب الأسود شيطان " . وقال ابن وهب: أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ركب برذونا، فجعل يتبختر به، فجعل لا يضربه فلا يزداد إلا تبخترا، فنزل عنه، وقال: ما حملتموني إلا على شيطان، ما نزلت عنه حتى أنكرت نفسي. إسناده صحيح.
والرجيم: فعيل بمعنى مفعول، أي: أنه مرجوم مطرود عن الخير كله، كما قال تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين} [الملك: 5] ، وقال تعالى: {إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب * وحفظا من كل شيطان مارد * لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب * دحورا ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب} [الصافات: 6 -10] ، وقال تعالى: {ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين * وحفظناها من كل شيطان رجيم * إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين} [الحجر: 16 -18] ، إلى غير ذلك من الآيات. [وقيل: رجيم بمعنى راجم؛ لأنه يرجم الناس بالوساوس والربائث والأول أشهر].
تفسيرابن كثير(1/115)
سورة الفاتحة
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تمام، فقيل لـ أبي هريرة: إنا نكون خلف الإمام، فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة:2]، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} [الفاتحة:3]، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مالك يوم الدين} [الفاتحة:4] قال الله: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي، فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة:5] قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [الفاتحة:6 - 7] قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل). رواه مسلم(395)
قال فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي رحمه الله:{بِسْمِ اللَّهِ} أي: أبتدئ بكل اسم لله تعالى، لأن لفظ {اسم} مفرد مضاف، فيعم جميع الأسماء [الحسنى] . {اللَّهِ} هو المألوه المعبود، المستحق لإفراده بالعبادة، لما اتصف به من صفات الألوهية وهي صفات الكمال. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء، وعمت كل حي، وكتبها للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله. فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة، ومن عداهم فلهم نصيب منها.
واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها، الإيمان بأسماء الله وصفاته، وأحكام الصفات.
فيؤمنون مثلا بأنه رحمن رحيم، ذو الرحمة التي اتصف بها، المتعلقة بالمرحوم. فالنعم كلها، أثر من آثار رحمته، وهكذا في سائر الأسماء. يقال في العليم: إنه عليم ذو علم، يعلم [به] كل شيء، قدير، ذو قدرة يقدر على كل شيء.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} [هو] الثناء على الله بصفات الكمال، وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل، فله الحمد الكامل، بجميع الوجوه. {رَبِّ الْعَالَمِينَ} الرب، هو المربي جميع العالمين -وهم من سوى الله- بخلقه إياهم، وإعداده لهم الآلات، وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة، التي لو فقدوها، لم يمكن لهم البقاء. فما بهم من نعمة، فمنه تعالى.
وتربيته تعالى لخلقه نوعان: عامة وخاصة.
فالعامة: هي خلقه للمخلوقين، ورزقهم، وهدايتهم لما فيه مصالحهم، التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
والخاصة: تربيته لأوليائه، فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له، ويكمله لهم، ويدفع عنهم الصوارف، والعوائق الحائلة بينهم وبينه، وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير، والعصمة عن كل شر. ولعل هذا [المعنى] هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب. فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة.
فدل قوله {رَبِّ الْعَالَمِينَ} على انفراده بالخلق والتدبير، والنعم، وكمال غناه، وتمام فقر العالمين إليه، بكل وجه واعتبار.
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} المالك: هو من اتصف بصفة الملك التي من آثارها أنه يأمر وينهى، ويثيب ويعاقب، ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات، وأضاف الملك ليوم الدين، وهو يوم القيامة، يوم يدان الناس فيه بأعمالهم، خيرها وشرها، لأن في ذلك اليوم، يظهر للخلق تمام الظهور، كمال ملكه وعدله وحكمته، وانقطاع أملاك الخلائق. حتى [إنه] يستوي في ذلك اليوم، الملوك والرعايا والعبيد والأحرار.
كلهم مذعنون لعظمته، خاضعون لعزته، منتظرون لمجازاته، راجون ثوابه، خائفون من عقابه، فلذلك خصه بالذكر، وإلا فهو المالك ليوم الدين ولغيره من الأيام.
وقوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي: نخصك وحدك بالعبادة والاستعانة، لأن تقديم المعمول يفيد الحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور، ونفيه عما عداه. فكأنه يقول: نعبدك، ولا نعبد غيرك، ونستعين بك، ولا نستعين بغيرك.
وقدم العبادة على الاستعانة، من باب تقديم العام على الخاص، واهتماما بتقديم حقه تعالى على حق عبده.
و {العبادة} اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال، والأقوال الظاهرة والباطنة. و {الاستعانة} هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع، ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك.
والقيام بعبادة الله والاستعانة به هو الوسيلة للسعادة الأبدية، والنجاة من جميع الشرور، فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما. وإنما تكون العبادة عبادة، إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصودا بها وجه الله. فبهذين الأمرين تكون عبادة، وذكر {الاستعانة} بعد {العبادة} مع دخولها فيها، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى. فإنه إن لم يعنه الله، لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر، واجتناب النواهي.
ثم قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أي: دلنا وأرشدنا، ووفقنا للصراط المستقيم، وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله، وإلى جنته، وهو معرفة الحق والعمل به، فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط. فالهداية إلى الصراط: لزوم دين الإسلام، وترك ما سواه من الأديان، والهداية في الصراط، تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما وعملا. فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته، لضرورته إلى ذلك.
وهذا الصراط المستقيم هو: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. {غَيْرِ} صراط {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم. وغير صراط {الضَّالِّينَ} الذين تركوا الحق على جهل وضلال، كالنصارى ونحوهم.
فهذه السورة على إيجازها، قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن، فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية يؤخذ من قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
وتوحيد الإلهية وهو إفراد الله بالعبادة، يؤخذ من لفظ: {اللَّهِ} ومن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وتوحيد الأسماء والصفات، وهو إثبات صفات الكمال لله تعالى، التي أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تشبيه، وقد دل على ذلك لفظ {الْحَمْدُ} كما تقدم. وتضمنت إثبات النبوة في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} لأن ذلك ممتنع بدون الرسالة.
وإثبات الجزاء على الأعمال في قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وأن الجزاء يكون بالعدل، لأن الدين معناه الجزاء بالعدل.
وتضمنت إثبات القدر، وأن العبد فاعل حقيقة، خلافا للقدرية والجبرية. بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع [والضلال] في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} لأنه معرفة الحق والعمل به. وكل مبتدع [وضال] فهو مخالف لذلك.
وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى، عبادة واستعانة في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فالحمد لله رب العالمين.
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان(1/40)