علي النموشي
2009-08-09, 21:48
حدثنا عباس النموشي قال : تذكرت مرحلة الطفولة ، و زمن اللهو و الفحولة و رفقتي الأوفياء ، يوم كنا ندرس بالإبتدائية كالأشقاء في إخاء و وجاء ، نلج الفصل في شلة ، و نخرج منه ثلة ، بالحي تجدنا نهارا للعب نبادر و بالليل نتسامر و في العطل نغامر ، و في أحد المرات ، خطرت لي إحدى المسرات ، و كان الفصل خريفا و الجو أليفا ، في موسم جني التمور ، و الخير و السرور ، فقلت لصحبتي : ما رأيكم يا أحسن عصبتي ، لو نذهب إلى الواحات القريبة ، قصد جلب التمور بطريقة عجيبة ، و نشرب من ماء النبع ، مقصد الثعلب و الضبع ، فاحتار الجمع كيف العمل و التبع ، و قالوا : هل لك أن تدلنا على الخطة ، و على الطريق و المحطة ، و كيف ندخل البستان ، و نعرف المكان ، فقلت : إني أعرف أقرب واحة يملكها شيخ له من السماحة ، و طيبة القلب و الصراحة ، ما يجعلنا في طمأنينة و راحة ، إسمه ميهوب متعب الحال شيبوب ، حتى و إن ظفر بنا ، لن يضرنا و سوف يطلقنا ، فعزمنا أمرنا الذهاب ، و حددنـا وقت العودة و الإياب ، و كنا أربعة لنا من البطش كقوة الزوبعة ، منا طفل رقيق العود ، يسمى بمسعود ، و آخر طويل القامة يشبه في شكله الصمصامة ، يدعى المنوّر ، دوما من الجوع يتضوّر و الثالث يسمى محمدا ، أنفه معقوفا ممددا ، و شعره أشعثا مجعدا ، و أنا و العياذ بالله من كلمة أنا فلما وصلنا ، كشفت الطريق و دخلنا ، و كان البستان محاطا بسياج و من الجهة الخلفية سورا من حجر كلسي كالزجاج ، و هرعنا خلسة إلى نخلة ، من صنف الدقلة أحلى من تمور الفرات و دجلة ، ثم وزعت المجموعة كل في مهمة موضوعة ، واحد يحرس الباب ، و الآخر يكشف الزاب ، و أنا تحت النخلة و المنور يتسلقها في عجلة ، حتى وصل إلى العرجون ، و أخذ يلتهم التمر بجنون فقلت له : يا هذا أرم لنا بتميرات كي نشفي بها الطوى و المضرات ، فناولني شمروخا ، شكله ممسوخا ، و شرعت أتلذذ بطعمه ، و أنظر لونه و حجمه ، حتى نادى المنادي ، يا رفاق ها قد جاء طيف عاد ، و لا أضنه إلا الشيخ قد أقبل من الوادي ، فروا بجلودكم ، و اهربوا هو خير لكم من قعودكم ، فالتفتت في خوف و إذا بميهوب ينزل من الجرف ، فبدأ قلبي بالخفقان ، و عقلي بالهذيان ، واختلطت عليّ الهضبة و الدبيلة ، و ما عرفت العمل و الحيلة ، فأطلقت ساقي للريح و المنور من فوق النخلة يصيح ، وهرب الصاحبان ، و ابتعدا كثيرا عن البستان و أنا أجري بسرعة ، كمن تناول منشطا أو جرعة ، و إذ بالشيخ يرميني بحجر ضربني على الظهر ، حتى كدت أسقط على الأرض ، من وقعه الضوء بين عيني ومض ، لكنني فلتت منه ، و أصبحت بعيدا عنه و تحول لنا إلى فارس همام خفيف الحركة مقدام ، لا يشق له غبار ، كأنه في ساحة الوغى غـوّار ، أو في وطيس القتال ، يصول فيه و يجول ختـّـال ، و حاصر رفيقي في النخلة ، و منعه الهبوط و النزلة ، فصار يصرخ و يبكي ، و لحاله ينعي ، و أنا أشاهد الوضع من بعيد ، من وراء السياج المديد ، لأني أنا من تسبب في هذا الوعيد ، و تشجعت و بحيلة فكرت ، فقلت له : يا سيدي الكريم ، أقر بأنني أنا هو اللئيم ، و لا يأتي هذا الفعل إلا الزنيم ، إن العفو و الصفح من شيم الرجال ، و الغل و الحقد من صفات الأنذال ، قد عهدناك جوادا ، والكل يعرفك عوّادا ، تقر الضيف و لا تحب الحيف رجاءا أطلق سراح صديقي ، فهو صاحبي و رفيقي ، فأنا من سـوّل له فعل هذا الأمر ، و أوقعه في الوزر ، و الله يعلم أننا ما جئنا مفسدين ، و لا للحرث مهلكين ، بل إشتهينا بعض الرطب ، و كما تعلم طبع الطفل و عقله و اللب ، فارأف به و اطلق سراحه ، و فك أسره و خلي سبيله ، و لك منا العهد ، أن لا نرجع لضيعتك إلى الأبد ، و الله على هذا يشهد . فخمن برهة ، و تأوه هنيهة ، و قال : فعلت هذا بكم ، لكي أؤدبكم ، و يجب عليكم أن لا تأخذوا ما ليس ملككم ، كان الأحرى بكم أن تطلبوا الإذن ، قبل أن تلجوا في غفلة مني ، أمَا أنني قد لقنتكم درسا ، و كنت معكم شديدا شرسا ، و طبعي طيب ، لكل الولدان و الشيب ، و الله يعلم أنني لم أحـْرم منها لا طيرا و لا بشرا ، إلا أنني لا أحب هذه الأساليب ، و لا تنطلي علي الألاعيب فقد نالكم عفوي ، و رضائي وصفحي . و قال لي إقترب و لا تخف ، و خذ ما شئت من التمر و ضف كيلا و نصف ، و أطلق حينها صاحبي ، و أجزل له العطاء و هو بجانبي ، و خرجنا سالمين غانمين ، و مررنا بالنبع فشربنا من ماءه ، و تفكهنا حذاءه ، و مضينا إلى ديارنا و اهتدينا ، و أنا أحكي مع حالي ، وضميري يؤنبني و بالي ، و لساني يقول : أنْ ليست كل مرة تسلم الجرة ، و عزمت أن لا أعيد الكرة و أن لا أعرّض زملائي إلى المضرة .