تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : نكبة الامام ابن رشد بين الحقيقة والافتراء


المهندس هلال
2009-08-07, 17:27
د. أحمد شحـــــلان





كانت نكبة ابن رشد حدثا كبيرا في تاريخ الأندلس والفكر وحياة الفيلسوف ابن رشد، وتسببت بشكل من الأشكال، في تغميم طريق البحث والمعرفة وحرية التفكير، وتردد صدى هذه النكبة في كل الكتب التي أرخت لابن رشد، منذ زمانه وفي مجمل التراث العربي وحتى عهد قريب، وأورد أسبابها الذين ذكروها بصور مختلفة وغير متماثلة، ويتبين عند التمحيص والتأمل أن الصور التي ذُكرت لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون سبب النكبة العظيمة التي أحدثت رجة في المجتمع عندها، وأزعجت ذوي السلطان ومَنْ حولهم ومن كان يستفيد من واقع الحال• وكان من أهم الفقرات في أطروحتي1، فقرة وقفت فيها عند هذه النكبة وأسبابها، لأن فهم وقائعها قمين بإيضاح كثير مما اعترى فكرنا وثقافتنا، وقمين أيضا بتجلية أسباب ما نحن فيه اليوم من وضع علمي غير مريح، كلما تعلق الأمر بتاريخ فكرنا• وأَرجعتُ أسباب النكبة إلى كتاب خاص وضعه ابن رشد، لم يصلنا في أصله العربي ولا هو معروف في تراثنا ولا عند من اشتغل بالفكر الرشدي قبل اهتمام الغربيين به، ومن اهتم بهذا الكتاب فيهم قليل• والكتاب هو مختصر سياسة المدينة لأفلاطون، وقد اهتم به ابن رشد في انتظار أن يجد كتاب السياسة لأرسطو، وابن رشد هو أكبر شراحه• وتَرجم الكتابَ إلى العبرية أحدُ المهتمين اليهود، وهو شموئل بن يهودا المرسلي، في جنوب فرنسا سنة 1322م ولم يبق الكتاب في غير ترجمته إذ ذاك2 • لم يعترض على فرضيتي المذكورة من أعضاء اللجنة المذكورة التي ناقشتني إلا الأستاذ محمد عابد الجابري، فهو وحده رفض أطروحتي هاته، وقال بأنه فكر معي طويلا، وأنه قارن بين تاريخ كتابة المختصر وتاريخ النكبة، فوجد فرقا زمنيا طويلا بين الحدثين جعله لا يقبل الافتراض، مع أني أبديت رأيا في التاريخ المفترض لتأليف المختصر، وبينت كيف يمكن أن يقع الخطأ فيه، خصوصا وأن التأريخ إذ ذاك كان بالحروف ولم يكن بالأرقام• سُجلت المناقشة كاملة، وفيها رفض الأستاذ، وهي في مكتبة كلية الآداب موضوعة، ووُضعتْ أطروحتي، في خزانة الكلية منذ ذاك التاريخ 1991، ونص الفرضية فيها مثبت كما ستأتي أسفله• وتمر أيام، ويسرني أن تصبح فرضيتي التي رفضها أستاذي محمد عابد الجابري هي الفرضية التي يبني عليها أبحاثه في هذا الموضوع، وخصوصا في كتابه المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية، محنة ابن حنبل و نكبة ابن رشد 1995، وكتابه ابن رشد سيرة وفكر حيث يقول: 1 - آراء جريئة جدا•••بقيت مجهولة• هذا ميدان آخر، مهم جدا، من الميادين التي سجل فيها ابن رشد حضوره القوي بآراء اجتهادية وجريئة، بقيت مجهولة بسبب ضياع النص للكتاب الذي يحملها، والذي اختصر فيه جمهورية أفلاطون، إذ لم يبق منه سوى ترجمة عبرية لم يقدر لها أن تترجم إلى لغة حديثة (الإنجليزية) إلا منذ بضعة عقود• وقد بقيت هذه الترجمة، هي الأخرى، مجهولة في الوسط الثقافي العربي المعاصر إلا عند قلة من المختصين، ولم يقع الاهتمام بها - داخل الوطن العربي على الأقل - إلا منذ سنوات حينما نشرنا دراستنا عن نكبة ابن رشد، ونبهنا إلى أن هذا الكتاب هو السبب الحقيقي لتلك النكبة، كما أبرزنا أهمية وجدة الآراء التي سجلها فيه فيلسوف قرطبة• ومنذ بضعة أسابيع فقط أصبح هذا الكتاب في متناول القراء في ترجمة أصلية عن النسخة العبرية (بيروت ، 1998 • ص• 64 -70، 239)• هذا ما جاء في كتاب الأستاذ، وإليه يَنْسب الفرضيةَ كلُّ الذين اهتموا بأبحاثه بعد ذاك• أمور نسيها الأستاذ محمد عابد الجابري : نسي أن يَذْكرني فيمن ذكر، ونسي أن يشير إلى مناقشتنا ورفضه للفرضية بادئ الأمر، ونسي أن يشير في مصادره إلى أطروحتي التي اقترحت عليه أن تنشر ضمن المشروع الذي كان يشرف عليه في مركز دراسات الوحدة العربية، فأخبرني بأن المركز لا يهتم بمثل هذه الدراسات، ونسي أن يشير إلى أن ما قرأ من سياسة أفلاطون كان من المقتطفات التي ترجمتها من العبرية إلى العربية في أطروحتي، وكانت أول مرة تخط بلغة عربية، وتحدث عن ترجمة إنجليزية كانت مجهولة - عمَّنْ؟ - ولم يزد، ونسي أن يذكر بأنه تراجع عن رفضه ذاك المشار إليه• غير مهم كل ذلك، المهم أن نضع اليوم الفرضية في أصولها الأولى بين يدي القارئ ليطلع عليها وهي كالآتي (ابن رشد والفكر العبري الوسيط: فعل الثقافة العربية في الفكر العبري اليهودي، 1998، ج• 1 ص • 167ـ 18http://www.midouza.net/vb/images/smilies/icon_cool.gif• ولد أبو الوليد محمد بن محمد بن رشد بقرطبة سنة 520 / 1126 وتوفي في مراكش سنة 595 / 1189 ، وقد استطاع في هذه الفترة من عمره أن يشغل الناس والفكر، سواء في مجتمعه الإسلامي أو في المجتمع المسيحي واليهودي في العصر الوسيط• غير أن هذا الصيت الذي بلغه فكر الفيلسوف إذ ذاك لدى المفكرين والكنيسة ومجتمع النخبة اللاتيني أو لدى مفكري اليهود، لم يكن مـتوازيا ولا متساويا مع ما نقلته عنه كتب الرجال والتراجم العربية في عصره أو بـعـد عصره• فالمراكشي في المعجب ، وهو أقرب الناس إلى عصر ابن رشد، لم يعنه من هذا الفيلسوف إلا أخبار محنته ( المعجب في تلخيص أخبار المغرب، 1949 ، ص 305 )، والضبي صاحب كتاب ـ بغية الملتمس ـ ، المتوفى سنة 599 ، لم يزد على أن قال بأنه فقيه حافظ مشهور مـشارك في علوم جمة، وله تواليف تدل على معرفته• توفي بحضرة مراكش سنة 595 ( بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس، 67 ، الترجمة رقم 39 ) وابن خلكان في الشرق، المتوفى سنة 681 ، والذي كان يتتبع أخبار من هم دون ابن رشد، لم يذكره إلا عرضا في ترجمة يوسف بن عبد المؤمن صاحب المغرب (وفيات الأعيان ، بيروت 1971ج 7 ، ص 135)• كما أن حاجي خليفة لم يذكره إلا عرضا أيضا، لما تحدث عن أرجوزة ابن سينا في الطب والتهافت للغزالي مع ذكر كتاب فصل المقال في ما بين الشريعة والطبيعة [هكذا] من الاتصال (حاجي خليفة، كشف الظنون، بغداد• ص 92 ، 512و1261) أما القفطي المتوفى سنة 646 ، والمعروف بتتبعه للحكماء، فإنه لم يترجم له نهائيا، مع أنه ترجم لموسى بن ميمون ناقل آثار ابن رشد إلى الفكر اليهودي• ورغم أنه ذكر كتب ابن ميمون، فإنه لم يشر إلى أي كتاب من كتب ابن رشد• وفي ترجمته لأرسطو أيضا كـان يذكر مؤلفات هذا الفيلسوف، ويذكر الذين شرحوها دون ذكر لابن رشد، مع أنــه كان يعرف الشارحين، يقول في كتاب السماع الطبـيـعي: وقد شرحه جـمـاعة بعد هؤلاء الأقدمين من فلاسفة الملة الإسلامية وغيرهم يطول ذكرهم أخبار العلمـاء بـأخـبار الحكماء، 1326 هج ص 29 و 210، كما جاءت ترجمته مقتضبة في كل من الكتب الآتية: التكملة لكتاب الصلة لابن الأبار، التكملة لكتاب الصلة، 1375 - 195، ص 554 -555 • و البيان المغرب لابن عذاري المـراكـشـي 695 (البيان المغرب، الرباط ج 3 ، ص 202 ) وشذرات الذهب لابن العماد (حوادث سنة 595، مكتبة القدس) و الديباج المذهب لابن فرحون ) دار الشرق 1972 ج 2، ص 257-259.) أما أخبار أبي الوليد في مراكش، وكانت إقامته بها المنطلق الرسمي لشروحه، فإنها نادرة لا تسمن ولا تغني من جوع، إذ لم يستطع العباس بن إبراهيم، في كتابه الإعلام بمن حل مراكش من الأعلام ، وهو ممن توسع في الحديث عن ابن رشد في مراكش، أن يخبرنا بأكثر من أنه كان في هذه المدينة سنة 548، وأنه ختم رسالته في جوهر الكون بها سنة 574، وأن يوسف بن عبد المؤمن استدعاه إلى حضرته سنة 578 بعد وفاة ابن طفيل وأن يعقوب المنصور ولاه القضاء بالمدينة إلى أن توفي سنة 595 • وقد نسب إليه صاحب الإعلام منصب القضاء بمراكش مرتين: الأولى سنة 548 ، وهو ابن سبع وعشرين سنة، والثانية أيام يعقوب المنصور حيث يقول: فلم يزل على القضاء إلى أن توفي سنة 595 ، وهذا أمر يدعو إلى إعادة النظر، إذ جل من ترجم له لم ينسب إليه القضاء إلا في إشبيلية و قرطبة، فضلا عن أن يكون قاضيا بمراكش مرتين (الإعلام بمن حل مراكش من الأعلام، أجزاء متعددة وص• متعددة)• ولم يأت ذكر لمُقام ابن رشد بـمـراكش في كتاب الذيل والتكملة ، مع أنه من أهم من ترجم له، إلا عندما قال : استدعي إلى مراكش فـتـوفى بها سنة 595 ودفن بجبانة باب تغزوت ثلاثة أشهر، ثم حمل إلى قرطبة • وقد أفادنا عبد الواحد المراكشي في كتابه المعجب ، خبر قدوم أبي الوليد أيام يوسف بن عبد المؤمن ، كما سنرى• وأهم ترجماته ما احتوى عليه كتاب الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي (دار الشرق 1972 ج 2 ، ص 257 - 259( وعيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة ( دار مكتبة الحياة ، بيروت ، 1965 ، ص• 530)• وهي ترجمات للأقدمين تدعو الحاجة إلى إعادة النظر فيها وتحقيقها، وأن ما جاء فيها غير كاف لعكس ما يمكن أن تحدثه شخصية مثل شخصية ابن رشد في ذلك الوقت • ما بين الحكمة والشريعة فإلى أي شيء يرجع خفوت ظلال الفيلسوف في هذه المؤلفات ؟ هل تعكس حقا تضاءل شخصيته في زمانه إذ ذاك ؟ أم هي ظلال أسدلت عليه بعد موته ؟ إن المراجع الكثيرة التي ذكرناها مليئة بجمل قصيرة تدل على تقدمه في العلم والفلسفة والطب وسبقه في هذا المجال، وإن فحواها يدل على أن قيمة ابن رشد العلمية كانت أعظم بكثير من الأخبار التي نقلت إلينا والتي عرفت بطبيعة الحال بعد ظهور مؤلفاته في هذا العصر• ومن هنا نقول إن خفوته ما كان ليحدث لولا حدوث النكبة المشهورة، وأن هذه النكبة ما كانت لتقع لولا وجود صراع فكري كانت الأندلس والمغرب موطنا له منذ الفتح الإسلامي، صراع مال فيه العقل إلى الظهور حينا، وغلبت فيه المعارف التقليدية أحيانا كثيرة• ولم تكن المحنة إلا مظهرا بسيطا لهذا الصراع• وأن أسبـاب المحنة كما جاءت في كتب التاريخ غير كافية لحدوث ما نزل بابن رشـد، وكان ما نزل به عظيما كما يشهد هو نفسه (رسالة الخليفة، الذيل والتكملة، 6 ص• 26)• لقد كانت محنة ابن رشد محنة العقل عامة في هذه الفترة، ولم يتعرض لها ابن رشد وحده، بل تعرض لها معه مجموعة من العلماء (عيون الأنباء، ص• 531) ، بل ظهرت هذه المحنة قبل هذه الفترة منذ أن تولى زمام الأندلس المنصور بن أبي عامر• لم تكن الأندلس غائبة عن الصراع الفكري المضطرم في الشرق، خصوصا وأن الضعف أخذ يدب إلى الإمبراطورية الإسلامية هناك، فتوافدت جموع العلماء على الأندلس، وكان حظ الفقهاء أوفر من غيرهم في هذه الرحلة، فأثروا في الحياة الفكرية تأثيرا كبيرا، وقيدوا سبل العقل ومناهجه، وهذا أمر لم يرتضه هذا العقل فبحث له عن متنفس في التيار الشافعي ثم الاعتزالي، حتى إذا ظل الأمر مستعصيا مال الناس إلى الزهد والانعزال أو التصوف (ابن مسرة )• وكان خاتمة هذه المذاهب المذهب الظاهري الذي رأسه ابن حزم (محمد زنيبر: ابن رشد والرشدية في إطارهما التاريخي ، أعمال ندوة، بيروت 1981) وكان من بعض مظاهر هذا الصراع سقوط الدولة المرابطية التي وقف كثير من فقهائها موقفا معاديا للعقل، وسيكون فكرهم هذا هدفا للمهدي بن تومرت، بعد أن تشبع بأفكار الغزالي وابن حزم، رغبة في تغيير واقع الحال• وما أن استقر خلفه عبد المؤمن حتى تقاطرت وفود العلماء من جديد إلى المغرب، تبحث عن ملجأ للعقل والعقلانية، كما سبق أن توافدوا من الشرق إلى الأندلس أيام الحكم الثاني• إلا أن نفس البذرة التي وفدت من الشرق مع الوافدين إلى الأندلس فقتلت روح هذا العقل، هي نفس البذرة التي تريد أن تخنقه من جديد أيام خلافة مراكش الموحدية• وكان لابد لها من ظروف مواتية لتعمل عملها، فكانت هذه الظروف هي : 1 ظاهرة إنسانية عامة وهي رفض كل جديد أو كل داع إلى الجدة أو راغب في إدخال غير المعتاد• 2 وجود طبقة ترى أن هذا الجديد يهددها في مركزها الاجتماعي والمادي في حين أنها تعتبر نفسها من سدنة الثقافة التقليدية• 3 تسلط هذه الطبقة على العامة حيث تسيرهم كما تشاء فتقذف بهم كل مُبْدع • 4 وجود حام لهذه الطبقة إما لضعف فيه، أو لهدف مشترك بين الاثنين• وقد تضافرت كل هذه العوامل بل تكاملت في شخصية أبي يوسف التي جعلته بـعض الأحداث السياسية يسير الأمور تسييرا غير عقلاني في كثير من المـواقف (المعجب، ص 279 ،80 - 286 )• في هذه الفترة كان ابن رشد يحارب الخرافة ويحمل الناس على العقل ويرفض غيره (الذيل، ص• 29)• ولا يمكن فهم كتابيه فصل المقال في تقرير ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال و الكشف عن مناهج الأدلة، إلا إذا وضعا في هذا الإطار، إطار الصراع الفكري الذي يتزعم أحدَ طرفيه الفقهاءُ وسلاحهم علمهم المنقول مع ما أضافته إليه السنون من خرافات، والطرف الثاني ابن رشد وعلمه المعقول الفلسفي الموسوعي• كان الطرف الأول يعتقد بأن النظر العقلي مضل مهلك، وكان الثاني يرى أن الفهم ضرورة من ضرورات الإسلام• كان الطرف الأول يكتفي بالتشنيع والتزيد والسعاية، وكان الطرف الثاني يحاج بالمنطق والعقل ووسم أعدائه بجمع الدنيا: فكم من فقيه كان الفقه سببا لقلة تورعه وخوضه في الدنيا، بل أكثر الفقهاء هكذا نجدهم، وصناعتهم إنما تقتضي بالذات الفضيلة العملية ( فصل المقال، دار المعارف بمصر، 1972 ، ص 30) وكان أمر الفضيلة شغلا شاغلا لم يفارق ابن رشد طوال حياته• ونعتقد أن الفضيلة كـانـت تمثل مجمل فلسفة ابن رشد، لأنها تمثل وجها من وجوه الكمال الإنساني، وخصوصا إذ تمثلت في الإنسان وفي المدينة• كان لا بد لما بلغته الإمبراطورية الإسلامية في الشرق من ازدهار وحضارة وعمران، من ظهور فكرة المدينة الفاضلة لدى فلاسفة الإسلام• غير أن الوضع في الغرب الإسلامي أصبح غير الوضع الذي عرفته تلك الإمبراطورية بالشرق، خصوصا أيام الفتن والحروب ودويلات الطوائف، فلم تعد فكرة الدولة الإسلامية العظمى ذات أثر في فلاسفة الغرب الإسلامي، فابن باجة الذي ولد في آخر القرن الحادي عشر، عاصر أحداثا لا يمكن لها لا بالفعل ولا بالقوة أن تخلق تصورا لمدينة فاضلة، إذ رأى بداية قص أطراف الأندلس الزاهرة، وتحقق ذلك في استيلاء الفونصو الأول على أرغون سنة 1119 ، وهذه دويلات الطوائف متناحرة تستنجد بأعداء الإسلام، والعُدْوَة كلها أصبحت تهفو إلى مخلص يـأتيها من وراء اليَم • وعليه فلا ملجأ لابن باجة إلا رسالة الوداع أو تدبير المتوحد فالهروب من المجتمع المريض أفضل طريق للفيلسوف، والتوحد هو ملجؤه ومأواه• وهـذه حال لم ينج منها ابن طفيل، فبعد أن شاهد هو أيضا تداعي أطراف الأندلس، وبعد أن شاهد ما بلغته الدولة المرابطية من قوة وعدة، لاحظ أن البِلَى ما لبث أن امتد إلى بنيانها، فانهارت تحت ضربات الثائرين وتحكم المنتهزين وضعف الحاكمين• ورأى هو أيضا أن لا ملجأ إلا في الابتعاد عن مجتمع لا يمكنه أن يبلغ الفضائل الكاملة• ففر بحيه ( حي بن يقظان) من هذا المجتمع، وكأن الكبر والشيخوخة لم تسمحا له بالتفكير في بناء صرح هذه المدينة المنشودة في دولة فتية أسست بنيانها على العلم والعرفان، أو على الأقل، هذا ما بدا في بداية الأمر• وربما رأى أن بإمكانه أن يساهم في هذه المدينة بطريقة غير مباشرة، تلك هي تقديمه ابن رشد إلى أبي يعقوب يوسف في قصره بمراكش• ابن رشد رجلا سياسيا تمثل المدينة الفاضلة روى لنا عبد الواحد المراكشي في كتابه المعجب، خبر قدوم ابن رشد أيام يوسف بن عبد المؤمن، والكيفية التي قدمه بها ابن طفيل: قال الخليفة ما رأيهم في السماء، يعني الفلاسفة، أقديمة أم محدثة ؟ • لم يستطع ابن رشد جوابا، فقد خجل وجزع وتعلل، وأنكر أن يكون من أهل هذا العلم• ولم يكن يدري أن ابن طفيل كان قد عرًّف به وبعلمه، وأن الخليفة كان يعرف عنه الكثير، خصوصا وأنه حل بمراكش قبل هذه الزيارة• وأدرك الخليفة ما هي عليه حال ابن رشد، فالتفت الأمير إلى ابن طفيل فجعل يتكلم عن المسألة التي سأله عنها، ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم• فرأى منه ابن رشد غزارة حفظ لم يظنها في أحد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له، ولم يزل الأمير يبسطه حتى تكلم فعرف ما عنده (المعجب، ص• 242-243)• وينقل أيضا المراكشي أن ابن رشد قال: استدعاني أبو بكر بن طفيل يوما، فقال لي: سمعت اليوم أمير المؤمنين يتشكى من قلق عبارة أرسطوطاليس أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أغراضه ويقول لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهما جيدا، لقرَّب مأخذَها على الناس• فإن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل، وإني لأرجو أن تفي به، لما أعلمه من جودة ذهنك وصفاء قريحتك وقوة نزوعك إلى الصناعة• وما يمنعني من ذلك إلا ما تعلمه من كبر سني، واشتغالي بالخدمة، وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه• قال أبو الوليد: فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب أرسطوطاليس (المعجب، ص• 243) وطوَّى عبد الواحد المراكشي عمل ابن رشد الكبير وخفاه في السنين، وانتقل بعد ذلك إلى نكبته التي أرجعها إلى سببين حكايته في كـتـابه شـرح الحـيـوان أنـه رأى الـزرافة لـدى مـلـك البربر ، وثانـيـهما أن أعداءه اقتطفوا فقرة من شرحه وهي: فقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة فأوقفوا أبا يوسف على هذه الكلمة •••، إلى آخر الخبر (المعجب، ص• 305-306)• وقد أضافت بعض المصادر أسبابا غير ما ذكر (الذيل والتكملة ، السفر 6، بيروت 1973 ، ص 21 -31 وابن أبي أصيبعة، ص 530 وما بعدها)• وكلها أسباب لا تنبني على أسس فلسفية مذهبية أو على الأقل، لم تحمل لنا كتب التاريخ أو الفكر، صدى لصراع مذهبي مفصل حدث بين الفقهاء وأهل المذاهب وابن رشد، كما حدث للفكر الرشدي ورجال الكنيسة• وإننا نستبعد أن تكون نكبة ابن رشد قد نتجت عن هذه الأمور القريبة التي قد تكون إحدى مظاهر الخلاف لا الخلاف نفسه• إن ابن رشد كان رجلا سياسيا تمثل المدينة الفاضلة، كما اطلع عليها في علوم اليونان، وارتأى أن من واجبه أن يبحث عن شروطها في الغرب الإسلامي، هذا الغرب الإسلامي الذي تتوفر فيه نفس الشروط التي توفرت في اليونان، كما يقول ابن رشد في تلخيصه لجمهورية أفلاطون (ص• 82)، ولم يختر ابن رشد طريقة ابن باجة التوحد ولا مسار حي بن يقظان، بل اعتبر نفسه شيخا من شيوخ المدينة الفاضلة، وحارسا من حراسها، ووضع المقدمات للبحث في هذه المدينة في عصر الموحدين• عاش أبو الوليد أحداث الدولة الموحدية، وتحمل مسؤولياتها، وخبر حكامها، واطلع بدون شك على آثار المهدي رأس الموحدين، بل شرح مؤلفا من مؤلفاته، وهو عقيدة المهدي (برنامج ابن رشد منشور في ملحق :E.Renen , Averroès...Paris 1852 , p 351) واطلع على أعز ما يطلب، ولا شك أنه وقف عند أول عبارات هذا الكتاب وهي: أعز ما يطلب وأفضل ما يكتب وأنفس ما يذخر وأحسن ما يعمل، العلم الذي جعله الله سبب الهداية إلى كل خير، هو أعز المطالب وأفضل المكاسب وأنفس الذخائر وأحسن الأعمال (هويدي، تاريخ فلسفة الإسلام•••القاهرة، 1965 ، ص•291 • وص 270 -274)• إذن فالمهدي يضع العلم في مقدمة الدولة، وأفلاطون أيضا يضع العلم في مقدمتها• لقد أغرت صورة البداية هذه ابنَ رشد• والظاهر أن الأمل لم يطل كثيرا، إذ اكتست لغة مختصراته نبرة شؤم وتشاؤم، وران عليه اليأس بعد أمل كان قد بَرَق، يقول ابن رشد في مختصر النفس: والقول في هذه الأشياء التي تلتئم منها هذه [ الأقاويل المنطقية] على الاستقصاء، يستدعي قولا أبسط من هذا بكثير، لكن قولنا جرى في هذه الأشياء بحسب الأمر الضروري فقط، وإن أفسح الله في العمر وجلى هذا الكرب••• (ابن رشد [تلخيص] مختصر كتاب النفس، مدريد 1985 ، ص 60 )• وجاء فـي مقدمـة مختصر المنطق: وطلب الأفضل في زماننا هذا يكاد أن يكون ممتنعا (من الترجمة العبرية لمختصر المنطق التي نشرها يعقوب بـ 1560 Riva di Trento ، ص ب ) ويقول في مختصر المجسطي: فنحن في هذا الزمان كحال من وقعت النار في بيته فرام أن يُخرج منه ما هو أعز مما هو ضروري في حياته (Munk,Mélange de Phlosophie arabe,Paris, 1955,p.423) وقال في آخر مختصر الحيوان: وليعذرني من وقف على هذا الكتاب، لأني كتبته في زمن يسير مع ما اعترضنا من عوارض هذا الزمان ••• وأنهيته في شهر صفر سنة 565 للهجرة من مدينة إشبيلية بعد أن انتقلت إليها من قرطبة( مخطـوط بـاريـس 956 ع، الورقة (485 1 ناقشتُ أطروحتي التي كان عنوانها ابن رشد والفكر العبري الوسيط: فعل الثقافة العربية الإسلامية في الفكر العبر اليهودي في رحاب كلية الآداب بالرباط بتاريخ 14 يونيو 1991. وكانت لجنة المناقشة تتكون من الأساتذة الدكاترة محمد بنشريفة (الأدب العربي وحضارة الأندلس) ومحمد عابد الجابري (فلسفة) وعلي أمليل (فلسفة)، وكلهم من كلية الآداب جامعة محمد الخامس، ولبروفسور حاييم الزعفرني من جامعة باريس (التراث العبري في الغرب الإسلامي) ولبروفسور مانويل فايشر من جامعة هامبورغ، ألمانيا (التصوف والحضارات واللغات القديمة) ولبروفسور فان كونينكسفلد من جامعة لَيْدَن، هولندا (اللاهوت وتاريخ الأديان)• 2 ترجمنا الكتاب من العبرية إلى العربية ونشر بعنوان الضروري في السياسة: مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،1998 •

المصدر:
صحيفة الاتحاد الاشتراكي المغربية، 17/10/2006.

الفيلسوفة
2009-08-13, 09:35
بارك الله فيك اخي على هذه المعلومات القيمة

أمجد الجلفـة
2009-08-13, 11:17
فيلسوف له باع كبير في مجاله .شكرا لك

المهندس هلال
2009-08-13, 11:39
بورك في الاخوة

نرجو من الاخوة اضافة ما تيسر لهم او مناقشة ما يرونه حسنا للمناقشة