تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الى محبي الروايات


ithran sara
2014-06-05, 20:59
هذه احدى الروايات التي قراتها فيما مضى .............. اردت ان اشارك بها بعنوان...........


........................................سيدة الشتاء.......................................... للكاتبه Blue me ..........





أليكم الفصل الأول


سحر شيطان

- مئة وثمانون سنتيمترا..
قدرت (جودي) بصمت طول الرجل الواقف في إحدى زوايا المطعم ..
يتحدث إلى مدير المطعم مانحا إياها ظهره .. لم تكن قادرة على تمييز ملامح وجهه .. ولكنها استطاعت بالتأكيد وبوضوح ملاحظة تناسق جسده النحيل وعرض كتفيه وهو يهزهما تجاوبا مع كلمات محدثه ورشاقة يديه وذراعيه وهو يلوح بهما معترضا ..

ما الذي أصابها ؟ لم تكن هذه المرة هي المرة الأولى التي تلمح فيها رجلا جذابا .. ولكنها لم تشعر أبدا بهذا التقلص في معدتها والاضطراب من النظرة الأولى نحو أي رجل
حتى عندما قابلت طارق للمرة الأولى لم تشعر بهذه الطريقة ..راقبت بدقة كيف أخذ يسير برشاقة خطيرة إلى جانب المدير متجها نحو مكان ما داخل المطعم .. لابد أن يكون وسيما ..

لايمكن أن يمتلك أي شخص كل هذه الثقة بالنفس في خطاه إن لم يكن وسيما .. فقط لو يستدير قليلا .....
بدا واضحا أنه ليس نادلا .. فهو لا يرتدي الزي الرسمي للعاملين في المطعم ..

وليس زبونا أيضا فملابسه أبسط بكثير من أن تلائم مكانا بهذه الفخامة .. كان يرتدي سروالا من الجنز الباهت اللون وقميصا قطنيا أسود .. ملابس بسيطة ورخيصة ..

ما لذي يفعله رجل ذو موارد محدودة في مكان كهذا ....
أبعدت نظرها عنه مرغمة عندما دوى صوت رنين هاتف (طارق ) المحمول ..

التفتت نحو خطيبها الذي رفع هاتفه نحو أذنه مستقبلا إحدى مكالماته المهمة قاطعا حديثه مع (بشار) بينما سألتها (ريما ) خطيبته وصديقتها المقربة :- أين كنت شاردة الذهن .. بدوت وكأنك على بعد أميال ..
ارتبكت (جودي )وخشيت أن تكون صديقتها أو احد الرجلين قد لاحظ أنها كادت تلتهم شابا غريبا بنظراتها .. نظرت باضطراب الى حيث كان الشاب الجذاب واقفا إلا أنه كان قد اختفى .. نظرت ريما الى حيث كانت جودي تبحث بعينيها قائلة بفضول :- ما الأمر ؟ هل رأيت شخصا تعرفينه ؟
احمر وجه جودي للحظات ثم سيطرت على اضطرابها بسرعة قائلة :- بالتأكيد لا كم شخص مما أعرفهم معتاد على ارتياد مكان كهذا ؟
- قال بشار متظاهرا بالتفكير : - دعيني أفكر كم شخص مما أعرفهم

أنا قادر على ارتياد مكان كهذا ؟ آه .. اثنان .. جودي وطارق
ضحكت ريما بينما قالت جودي باحتجاج :- هذا غير صحيح ولكنا كانت تعرف تماما بأن طارق مهووس بالأماكن الراقية ولا يرتاد غيرها ..
تأملت المطعم الفخم .. إنه جزء من أشهر سلسلة مطاعم في المدينة ..
يتميز بديكوراته الراقية والكلاسيكية .. مع الإنارة الخافتة والرومانسية للمكان وبالخدمة الممتازة والأسعار الباهظة ..
طبعا هي كانت قادرة على تحمل تكاليف مكان كهذا بفضل المصروف الكبير الذي تحصل عليه من والدها كل شهر ..ولكنها مع هذا لم تكن تحب الأماكن
الباهظة والمتكلفة .. بل تفضل تناول بعض الساندويتشات الخفيفة برفقة أصدقائها في أحد مطاعم الوجبات السريعة المحيطة بالحرم الجامعي
.. ولكن طارق كان صاحب الدعوة .. ولولا حماس كل من بشار وريما لما وافقت على اختياره
قالت ريما :- يعجبني المكان .. إنه أشبه بالحلم .. ولكن
لا يمكن للإنسان أن يكون مرتاحا وأمن يأكل بسلام وحوله كل هذه الفخامة
قال بشار مداعبا :- لهذا أصطحبك دائما الى الأماكن البسيطة التي تحبينها .. يهمني أن تشعري بالراحة أثناء الأكل معي .
قالت ساخرة :- نعم .. لهذا السبب بالتأكيد وليس لأنك بخيل للغاية

وعاجز عن إنفاق بعض القروش لإسعاد خطيبتك .
أحاط كتفيها بذراعه وهو يقول :- لا تبدأي بالهجوم ..

ما أنا إلا طالب مسكين على وشك التخرج ولا يمتلك أكثر من مصروف يده
قالت :- ماكان عليك التورط بخطبتي إن لم تكن قادرا على تلبية متطلباتي
أطلت من عينيه نظرة هيام وهو يقول :- تعرفين بأنني
لا أستطيع الإبتعاد عنك لحظة .. ولو لم أتقدم لخطبتك لقتلني والدك في حال اقترابي منك .
اختفى تهكمها فجأة ومنحته ابتسمة ساحرة
وهي تقول :- ماكان ليوافق على خطبتنا لو لم أهدده بالهرب معك .. فأنت الشخص الذي لن أحب غيره أبدا .
حسنا ... من كان صاحب فكرة دعوة هذا الزوج العاشق ؟ ..

بالتأكيد لم تكن فكرة جودي .. فبالرغم من أنها تحب صحبة ريما التي كانت صديقتها طيلة السنوات التي قضتاها في كلية الآداب .. وبشار طالب الهندسة الذي تعرفت جودي الى طارق من خلاله .. إلا أن تواجدهما معها يصيبها بالإحباط .. ويذكرها دائما بالحلقة المفقودة بينها وبين طارق .. مع أنهما متحابان إلا أن تلك
الشرارة التي تميز علاقة بشار وريما لم تكن موجودة أبدا في علاقتهما .. رمقت طارق بطرف عينها .. مازال يتحدث هاتفيا وقد تركزت حواسه بشكل تام مع محدثه .. يجب ألا تقارن علاقتها بطارق أبدا بعلاقة الزوج الجالس أمامها
فبينما بشار مجرد طالب يجاهد للتخرج من الكلية ..
ولديه من الوقت ما يكفي ليقضيه برفقة خطيبته .. فإن طارق بالرغم من صغر سنه فهو ابن أحد أثرى رجال الأعمال في المدينة .. انخرط في عالم الأعمال فور تخرجه من الجامعة .. ولا وقت لديه ليضيعه مع خطيبته الحالمة .. فعليا .. طارق هو الرجل المثالي .. تعرفت إليه منذ أشهر في حفلة زفاف كبيرة أقامها أحد معارف والدها لإبنه البكر .. وكالعادة كانت هي مرافقة والدها لرفض شقيقتها الكبرى القاطع حضور هذه الحفلات المزيفة والسطحية .. وطارق كان هناك بصفته ابن عم للعريس .. أعجبت به من النظرة الأولى .. أعجبتها ثقته بنفسه .أناقته المفرطة .. هدوءه وتصرفاته اللبقة والمهذبة .. ظهر اهتمامه بها منذ عرفه بشار إليها .. وهو قريب آخر للعريس .. بعد ذلك التقت به مرة أو اثنتين .. ثم تقدم لخطبتها فورا .. هكذا كان دائما .. مباشرا وواضح النوايا .. لا وقت لديه لترهات العاشقين .. قابلها .. أعجب بها .. أحبها .. ووجد أنها الشريكة المثالية له فاتخد الطريق الأسهل والأسرع ..وافق والدها فورا .. ولم يبذل أي جهد في إقناع جودي بأنه الرجل المناسب لها .. ثري .. ناجح .. ومن طبقة اجتماعية راقية تناسب اسم العائلة العريق .
لم تتردد جودي في إعلان موافقتها .. فقد كان حلمها منذ الطفولة أن ترتبط بالرجل المثالي .. في الواقع ..
لقد كان هذا حلم والدها .. أن يزوج ابنتيه الوحيدتين لشخصين مناسبين له هو .. غير مبال رأيهما ..
.. ربما لهذا السبب علاقته بشقيقتها أماني ليست جيدة منذ سنوات ..فبينما يحاول هو فرض سيطرته عليها تقاومه هي كالقطة المتوحشة محاولة التحرر بشخصيتها وكيانها عنه .. لحسن الحظ أن جودي هي ذات الطبع السلس والسهل الإنقياد في العائلة .. فطموحاتها لم تتجاوز أبدا إرضاء والدها وإيجاد الزوج المناسب .. والعيش بسعادة وهناء ..

وهي الآن في طريقها لتحقيق كل هذه الطموحات .. فهي مخطوبة الى طارق منذ ستة أشهر وستزف إليه فور انتهاء السنة الدراسيو وتخرجها من كلية الآداب .. والكل متحمس باستثناء أماني المعترضة دائما ..
ولكن ماهي إلا مسألة وقت قبل أن تقتنع بطارق عندما تلاحظ كم هي سعيدة معه .
..أنهى مكالمته أخيرا .. وقال مخاطبا إياها :- أنا آسف يا حبيبتي .. كانت مكالمة مهمة .
منحته ابتسامة باهتة .. جميع مكالماته الهاتفية مهمة للغايةباستثناء مكالماتها .. لا تذكر عدد المرات التي قطع فيها اتصالاتها وتحاشى الإجابة عليها لانشغاله في عمله .
.. سرعان ما عاد الحديث المرج والشيق يدور بين الأربعة ..

ارتفعت ضحكة جودي عاليا عندما أخدت ريما تحكي عن الرسومالكاريكاتورية التي رسمتها جودي والتي تمثل معظم أساتذة الكلية .. وطبعت منها عدة نسخ ونشرتها بين الطلاب .. وعن ردة فعل الأساتذة على مبادرتها بين معجب وساخط .. قالت ريما ضاحكة :- والمعجزة أن أحدا لم يعرف بأن جودي هي الفاعلة
ضحك طارق وهو يداعب شعرها الكستنائي الطويل والمحيط بوجهها البيضاوي الجميل بنعومة وقال :- يجب أن تقلعي عن شقاوتك هذه بعد أن نتزوج .. لا أعتقد بأن قلبي قادر على احتمال أحد مقالبك
منحته ابتسامة عريضة وقالت :- ستلاحقك شقاوتي الى آخر يوم في حياتك .. هل تظن بأن تجرؤك على طلب يدي والزواج مني قد يمر دون أن تعاني من العواقب ؟
.. ارتفع في هذه اللحظة صوت عزف رقيق على الجيتار .. لحن ناعم وشاعري ..
تعرفت جودي على أغنيتها المفضلة فاستدارت تبحث بعينيها عن العازف الذي ظهر فجأة .. وقد كان هناك .. جالسا فوق المنصة الصغيرة التي تصدرت المطعم .. ممسكا بجيتاره بين يديه معانقا إياها وكأنه يعانق حبيبته .. مسبلا عينيه المظللتين برموش كثيفة داكنة . في
اندماج تام مع اللحن الذي يعزفه
.. خفق قلب (جودي ) بقوة .. لقد تعرفت على صاحب الملابس البسيطة والجسد الطويل الساحر .. أنه نفس الرجل الذي لفت نظرها منذ دقائق دون حتى أن ترى وجهه .. ومن مقعدها المواجه له ..

تمكنت من تبين ما ظهر من ملامحه تحت الإنارة الخافتة وعبر المسافة الفاصلة بينهما .. ميزت حاجبين كثيفي السواد منعقدين بتأثر مع الألحان الرائعة التي كان يبدعها .. أنف مستقيم وفم مغر بشفتين ممتلئتين شهوانيتي التأثير .. وجنتين منحوتتين أعطت وجهه شكلا كلاسيكيا فريدا ..
يا إلهي .. هل يمكن أن يمتلك رجلا واحدا كل هذا الكمال .. لك تتبين عينيه جيدا .. ولكنها حدثت نفسها برجاء بأنهما ربما كانتا ضيقتين .. أو مقاربتين .. وربما جاحظتين .. أي شيء إلا أن تكونا بمثل كمال ملامحه ..
تعلقت أنظارها بيديه وهما تداعبان أوتار الجيتار بحنان واحتراف .. بدت أصابعه طويلة و نحيلة .. ولسبب ما توردت وجنتاها .. وابتلعت ريقها باضطراب ..

ما الذي أصابها ؟ لقد فقدت عقلها تماما .. لو عرفت أماني بما يتصارع داخلها من مشاعر لسخرت منها طويلا .. وتشفت في كل ذرة اضطراب تغزو روحها ..
.. أحس طارق بنظراتها فقال باسما :- هل أعجبك عزفه؟
أعرف أنك تحبين الموسيقى .. يبدو أنه عازف جديد فأنا لم أره هنا من قبل
تمتمت بصوت حاولت أن يكون لا مباليا :- حقا ؟ لا بأس به .
عادت تنظر الى عازف الجيتار المجهول .. وهي لا تكاد تسمع شيئا من ثرثرة مرافقيها ..
هناك شيء يمنعها من إزاحة عينيها عنه.. لم تعرف ما هو .. لم يكن أول رجل جميل تقابله .. فطارق لا يقل عنه وسامة ..

ولكن هناك شيء لا تفهمه يميز هذا الرجل .. الذي رفع رأسه فجأة ونظر إليها ..
وكأنه قد أحس بنظراتها المركزة عليه ..
.. أحست جودي بالمكان يظلم من حولها .. وبوجود الآخرين يتلاشى ..
حتى الموسيقى لم تعد تجد طريقها إليها .. شيء ما حبس أنفاسها في اللحظات التي التقت فيها نظراتهما .. شعور غير مألوف بالخوف امتد ليزحف على طول عمودها الفقري . . كحال الفريسة عندما تشعر بعيني قناصها عليها ..شهقت أخيرا سامحة للهواء أن يدخل الى رئتيها .. وحررت نفسها من أسره بالإلتفات بعيدا وهي تحاول السيطرة على اضطراب أنفاسها ..

مما جذب انتباه طارق الذي سألها بقلق :- هل أنت بخير ؟
ظرت إليه بذعر .. ثم إلى صديقيها اللذين نظرا إليها بحيرة ..
ثم قالت بعصبية :- عن إذنكم .. سأجري مكالمة هاتفية .قفزت من مكانها فلحقت بها ريما قائلة :- سأرافقك
غابتا داخل أخد أروقة المطعم الداخلية المؤدية إلى الحمامات ..
راقبت ريما صديقتها وهي تخرج هاتفها وتضغط أزراره بأصابع مرتعشة ..
وقالت بريبة :- أنت لست طبيعية .. ليس من عادتك قطع إحدى جلساتك لتتصلي بأماني .
رفعت جودي الهاتف الى أذنها قائلة بتوتر :- أحتاج إلى أن أكلمها علها تستعيد شيئا من تعقلها .. أو تستمد من أختها القليل من قوتها ..
كالعادة كان هاتف أماني مقفلا .. تأففت بضيق فقالت
ريما وهي تنظر إلى وجهها متفحصة :- إنه طارق .. تنتابك من جديد تلك الشكوك والوساوس بشأن علاقتك به صحيح ؟
تنهدت جودي قائلة :- أنت محقة .. مازال ذلك الإحساس ينتابني بأن ثمة شيء ناقص في علاقتنا
وإلا ما الذي يفسر انجذابها إلى رجل غريب بينما خطيبها على بعد سنتيمترات منها ؟
قالت ريما بانزعاج :- إنها أماني بالتأكيد .. هل عادت تعبث بعقلك مجددا ؟
ليس سرا أنها لا تطيق طارق .. ولكن ليس من حقها أبدا أن تفسد عقلك بوساوسها ..
تمتمت جودي :- كل مافي الأمر أنها تريدني أن أتأكد من مشاعري قبل أن أرتبط به نهائيا
قالت ريما بسخرية غاضبة :- ما الذي تعرفه أماني عن المشاعر ؟ أنها فتاة عاملة قررت أن تكرس حياتها لصنع تلك الهالة حولها مانعة أي رجل من الاقتراب منها وتريد أن تصنع منك نسخة أخرى عنها .. في الواقع أظنها تغار منك لأنها لن تجد أبدا رجل كطارق يحبها كما يحبك
.. حسنا .. لم تدهش جودي لمشاعر ريما السلبية اتجاه أماني ..فهي تعرف من زمن بكراهية كل منهما للأخرى .. ولكن ما تظنه ريما بأماني غير صحيح .. هي أكثر من يعرف أماني ..
تعرف جيدا كم هي عاطفية وضعيفة .. وأن عاطفيتها كانت السبب في تحطيم علاقتها بوالدها وبجنس الرجال ككل
تمتمت في النهاية :- لا علاقة لأماني في الموضوع
:- ما المشكلة إذن ؟
زفرت أماني عاجرة عن البوح بالسبب الحقيقي لتوترها فصاحت فجأة بحنق :-
:- أيجب أن تقومي أنت وخطيبك في كل مرة يتلك المشاهد الغرامية المبتذلة أمامي ؟
إن لم تعلمي فهناك فنادق رخيصة وجدت خصيصا لهذا الغرض ..
أو ربما عليكم الزواج عل مشاعركما الحبيسة تتحرر أخيرا.. حدقت فيها ريما بدهشة وهي تقول غير مصدقة :- أهذا ما يضايقك ؟


قالت جودي بعصبية :- طبعا هذا يضايقني عندما يجلس خطيبي كاللوح الى جانبي عاجز عن توجيه كلمة رقيقة واحدة نحوي .. يا إلهي أحيانا لا أحس بأنني مخطوبة .. كيف سيكون الحال بعد عشر سنوات من الزواج ؟ بالكاد سيوجه لي الكلام
ساد الصمت لبضع ثوان قبل أن تنفجر ريما ضاحكة وهي تقول :-
أنت مجنونة بالتأكيد .. طارق يحبك جدا .. إنه متحفظ بطبعه ليس إلا .. أنا متأكدة بأنه سيجد أكثر من طريقة ليعبر لك عن حبه دون أن يتكلم بعد عشر سنوات من الزواج .. توقفي عن التصرفات الطفولية ..
ولنعد الى طاولتنا قبل أن يقلق الشباب .
قالت جودي بعناد :- لست جاهزة بعد .. سأصلح زينتي
استدارت نحو المرآة غطت الجدار خلفها .. ونظرت الى وجهها الشاحب وعينيها الزيتونيتين المنحرفتي الزوايا والشبيهتين بعيني القطة وقالت :-
أبدو مرعبة تماما .. لا عجب أن طارق لا يعيرني أي اهتمام
لم تشعر بأن صديقتها قد تركتها وعادت الى الطاولة بينما اقتربت هي ممن المرآة وتحسست ذقنها قائلة برعب :- هل ترين هذا ؟
لقد ظهرت بثرة مخيفة في دقني .. إن لم أجد حلا للفراغ العاطفي الذي أشعر به .. فسيمتلئ وجهي بالبثور
دوى صوت رجولي ذو بحة مثيرة :- هل يمكنني المساعدة ؟
استدارت بسرعة مجفلة .. لتنتفض برعب لرؤية الشخص الواقف أمامها .. كان ينظر إليها بعينين داكنتين واسعتين .. يتفحص ملامحها المتشنجة دون حرج .. إنه ذلك الرجل الجذاب الذي دفعها للهرب من صالة المطعم .. إلا أنه هذه المرة على بعد أقدام عنها .. تلاحقت أنفاسها وهي تقول باضطراب :- ريما .. أين ؟ ...
توقفت عن التفوه بالكلمات المتقطعة والغير مفهومة .. وأخذت تنظر من فوق كتفه بحثا عن ريما
ألقى نظرة عابرة إلى الخلف قائلا:- هل تقصدين الفتاة التي تجاوزتني منذ لحظات ؟
لا .. هي لم تخطئ .. فلصوته العميق رنين غير عادي يشبه الموسيقى .. موسيقى غامضة ومثيرة .. مثله تماما .. تنحنحت قائلة :- سألحق بها إذن .. عن إذنك
ما إن تحركت .. حتى اعترض طريقها بذراعه مسندا إياها إلى الجدار .. فأطلقت شهقة مكتومة وهي تتراجع ذعرا .. وقد قربته تلك الحركة منها بشكل جعل جسدا ينتفض بألم غيرمفهوم عندما لفحته جاذبية الجسد النحيل الصلب
أحنى رأسه ليجتذب بصرها قائلا بنعومة :- بهذه السرعة .. ظننتك استدرجتني إلى هنا للتعرف إلي
عندما نظرت إلى عينيه مذهولة فكرت بأنه لي من العدل أن يمتلك رجلا مثله عينين كهاتين .. لقد بدا لها من بعيد خطيرا بجاذبية خيالية لم تقابل مثلها من قبل .. أما الآن .. وقد رأت عينيه اللوزيتين العميقتين .. بلونهما البندقي الدافئ .. ونظراته القادرة على إذابة جبل من الجليد .. أدركت جودي بأن هذا الرجل شيطان يمشي على قدمين .. والدليل كلماته المستفزة التي بثت شيئا من الغضب داخلها ومنحتها القوة لتقول بشجاعة :-
:- أنا لا أعرف عما تتحدث
شعرت به يقترب منها فتراجعت حتى التصقت بالجدار .. وضغطت عليه بجسدها وهي ترفع عينيها نحوه بعجز وقد انتابها إحساس بالأسر .. تمتم بخفوت ودون أن يحرك شفتيه تقريبا :- بل تعرفين بالضبط ما أتحدث عنه .. لقد ضبطتك تنظرين إلي قبل دقائق .. ولا تحسبي أنني لم أفهم مغزى نظراتك .. أستطيع تمييزها عن بعد أميال.
حبست أنفاسها عندما اخترق عطره الرجولي رئتيها .. وأثر بشكل سحري على حواسها المرتعدة .. رطبت شفتيها باضطراب وهي تقول :- اسمع أيها السيد .
قاطعها بنعومة :- (تمام محفوظ)
فكرت مبهورة .. (تمام ) أي اسم غريب لشخص غير عادي مثله .. هزت رأسها لتستعيد تركيزها قائلة :- سيد .. تمام .. لقد أسأت فهمي .. لم أقصد شيئا من بالنظر إليك .. كما أنني لست وحدي هنا .. أنا برفقة خطيبي
نطقت بالكلمة الأخيرة بحدة .. كالغريق الذي تعلق بقشة .. وأخفت ذهولها من نسيانها التام لخطيبها الجالس على بعد أمتار في انتظارها .. أو عدم لجوئها حتى الآن الى الصراخ اجتذابا لمن ينقذها من هذا الجحيم الذي وجدت نفسها فيه ..
ذكرها لخطيبها جعل بريقا قويا يشع في العينين الداكنتين .. والشفتين الجذابتين تتوتران للحظة .. ثم سرعان ما انفرجتا عن شبه ابتسامة مدمرة وهو يقول بتهكم :- هل من المفترض بذكرك لخطيبك أن يصرفني ؟ أو يبعدني عنك ؟ لو أنك تهتمين لأمره حقا لما بادلتني تلك النظرات التي طالبتني فيها باللحاق بك .. لما كنت هنا الآن .. معي .. ولا شيء يرغمك على البقاء
فقدت أعصابها عندما مست كلماته وترا حساسا .. وصاحت بحدة :- هلا ابتعدت عن طريقي
وعندما لم يتزحزح من مكانه رفعت يديها بلا وعي إلى صدره لتدفعه عنها .. ولكن ما أن شعرت أصابعها بعضلات صدره القاسية تحت القميص القطني الرقيق .. حتى أحست بتيار عنيف يسري في جسدها على شكل انتفاضة قوية .. أنزلت يديها بسرعة بعيدا عنه .. وعادت تلتصق بالجدار وقد أحالها الرعب الى قطعة منه .. شعر الشيطان بذلك البركان الذي أيقظه داخلها .. بالتأكيد .. فهو كما يبدو خبير بتأثير في النساء .. بعكسها هي التي لم تعرف يوما شعورا مشابها
ولكن عندما نظرت إلى وجهه .. وجدت لهيبا يتراقص في العينين العابثتين .. وقد انفرجت شفتاه باضطراب أذهلها هي نفسها .. لقد أحس بدوره بذلك التيار الغامض الذي سرى في الاتصال الجسدي الوحيد الذي جمع بينهما
همس :- أترين ؟ هناك شيء ما يجمعنا .. لقد قدر لنا أن نلتقي وقد عرفت هذا منذ وقعت عيناي عليك عناك بينما كنت أعزف
فتحت فمها في محاولة يائسة منها للإعتراض ..ولكنه سبقها قائلا :-
:- لا تحاولي أن تفهمي .. ولا تقاومي الحقيقة التي اكتشفها كلانا منذ لحظات .. أنت لي .. ولن تكوني لغيري أبدا .
عقد لسانها .. واتسعت عيناها الخائفتان .. إلا أن أنفاسها أخذت تتلاحق بإثارة .. جذبت عينيه إلى حركة صدرها السريعة .. رفع نظره الى وجهها ليتأمل تقاطيعه الناعمة والجميلة .. عينيها البريئتين .. أنفها الدقيق وفمها الوردي المثير .. ثم وقف نظره عند تلك البثرة الحمراء الصغيرة التي أشارت إليها قبل دقائق .. رفع يده ليلمسها بأنامله .. فأغمضت عينيها كابحة رجفة الإثارة التي لحقت بلمسته الخفيفة .. وقال بصوت مثير :-أن كان سببها الفراغ العاطفي .. فأنا أعدك بأنها ستختفي قريبا
فتحت عينيها .. وترقرقت فيها دموع لم تفهم سببها .. وبدون أن يقول شيئا .. تناول هاتفها المحمول من بين أصابعها المرتعشة وعبث به للحظات .. فصدر أزيز خافت من هاتفه المعلق بحزامه الجلدي .. ثم أعاد هاتفها إلى يدها .. وأبقاها بين يديه طويلا وهو ينظر إلى عينيها قائلا بثقة :- سنتحدث لاحقا
وإذ بصوت ريما يدوي من خلفه بتوتر :- جودي
أعادها صوت ريما إلى الواقع فسحبت يدها من بين يديه بسرعة .. ونظرت إلى صديقتها باضطراب .. أما هو فلم يبدو مستعجلا وهو يعتدل في وقفته ببطء دون أن يلتفت إلى ريما أو يعيرها أي أهمية .. أطلت من شفتيه ابتسامة جانبية حملت الكثير من السخرية والعبث وهو يردد :- جودي
وبهدوء تجوز ريما واختفى عن ناظريهما .. هنا سمحت جودي لساقيها أن تخذلاها .. فتشبثت بالجدار لاهثة .. محاولة اكتشاف إن كان ما حدث لتوه مجرد حلم أم لا
اقتربت ريما قائلة بحدة :-من يكون هذا الرجل يا جودي ؟.. ولماذا كان قريبا منك إلى هذا الحد ؟ لقد كاد طارق يبحث عنك بنفسه عندما تأخرت .. ماذا كنت ستفعلين لو ضبطك في هذا الوضع المشبوه مع ... مع عازف الجيتار الجديد ؟ ما الذي أصابك يا جودي ؟
لم يبدو على جودي أنها قد فهمت كلمة مما قالته ريما .. إذ كانت نظراتها مذهولة وشاخصة على بعد أميال .. ثم همست أخيرا بصوت مرتجف :-
:-أريد العودة إلى البيت .. أرجوك
لسبب ما ابتلعت ريما غضبها .. وأجلت استجوابها إلى وقت لاحق .. فقد أدركت بأن صديقتها الشاحبة الوجه على وشك فقدان الوعي في أي لحظة فتمتمت :-
لا بأس .. لنخبر بشار وطارق ثم لنخرج من هنا
عندما عادتا الى صالة المطعم الرئيسية .. لم تجد أثرا لذلك الشيطان الآدمي الساحر الذي خطف منها أنفاسها وعقلها قبل لحظات .. تفهم طارق بلا عناء الإرهاق المفاجئ الذي ادعته ولم يمانع عندما تناولت حقيبتها وطالبته بالمغادرة .. خاصة أنه قد سدد الفاتورة منذ دقائق ..
في طريقها الى سيارة طارق حمدت الله على أنها لم تحضر بسيارتها .. فهي من جهة لن تتمكن من القيادة مترا واحدا بأعصابها المهزوزة .. ومن جهة أخرى لم تكن مستعدة للإنفراد بريما والخضوع لاستجوابها المؤجل
وخلال الطريق الى البيت .. لم تفوه بحرف واحد بينما اخرط الباقون في حديث لم تفهم مضمونه .. تاهت بعينيها عبر النافذة تراقب الطرقات التي أنارتها مصابيح الليل العمودية الشاحبة .. محاولة أن تنسى تفاصيل الحديث الذي دار بينها وبين ذلك الرجل ..
(تمام محفوظ) .. فكرت بأنها لا تريد أن تقابله مجددا مهما كانت الظروف .. ولكن جزءا دفينا منها كان يصر بيأس على أنها لاكاذبة ..كاذبة تماما




الى اللقاء قريبا

الغبية المغرورة
2014-06-05, 21:00
ماقريتهاش طويلة بزاااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا اااااااف بصح شكرااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا اااااااااااااااا

حميد.ص
2014-06-05, 21:01
شكرا جزيلا

ithran sara
2014-06-05, 21:20
hhhhhhhhhhhhhhhhhhhhhhhhhhhhhhhhhhhhhhhhhh

المشكلة انا لوكان ما نشوفهااااااششش طوووووييلللة مانقراهاش

ولكن شكراااااااااا لك زهرة من كل روض

زياني *****
2014-06-05, 22:52
جميلة جدا قرأتها مرات
ذوقك جميل
لكن لا تطرح هنا القصص
ضعيها هنا http://www.djelfa.info/vb/forumdisplay.php?f=228

خجل الجوري
2014-06-06, 11:02
أنا من محبي الروايات كثيرا
وتبدين ممن يختارها بعناية تامة
شكراااااااااااااا جزيييييييييييييييلا لك
فقط ليس هذا القسم المخصص لها غاليتي
تقديري واحترامي

ithran sara
2014-06-06, 13:02
شكرا لك كنت نجرب برك

hhhhhhhhhhhhhhhhh

شكرااااا :)

MAHA ISLAM AHMAD
2014-06-10, 16:20
الفصل الثاني
ابنة عاقة

أصدر محرك سيارة أماني القديمة ضجيجا كبيرا قبل أن يتوقف تماما أمام فيللا والدها الكبيرة .. أعادت ظهرها إلى الخلف مسندة إياه إلى المقعد البعيد تماما عن الراحة .. وزفرت بقوة حامدة الله على وصولها سالمة الى البيت
هذه الخردة القديمة التي اشترتها مستعملة وتقودها منذ أكثر من عامين بحاجة الى تغيير .. ولكنها مضطرة لإحتمال ضجيجها ومشاكلها حتى تدخر ثمن سيارة جديدة .. وهي مستعدة لقتل نفسها شنقا قبل أن تطلبه من والدها ..
فتحت الباب الكبير للسيارة بحذر وبطء خوفا من أن يسقط إلى جانبها على قارعة الطريق ولكن عندما ترجلت من السيارة .. اضطرت لصفقه بعنف كي تتأكد من إغلاقه جيدا
كان الجو دافئا بالنسبة لإحدى ليالي منتصف شهر أكتوبر .. وضوء القمر الشاحب الذي اتخذ شكل هلال لم ينجح في تخفيف الجو الكئيب للمبنى المكون من طابقين . والمحاط بحديقة صغيرة
من الغريب أن تشعر كل مساء بأنها مرغمة على العودة الى المكان الذي ولدت فيه وعاشت قرابة الخمسة وعشرين عاما .. نظرت الى ساعة معصمها .. التاسعة ليلا .. هذا يعني المشاكل .. فقد تأخرت 3 ساعات عن موعد عودتها المعتاد الى البيت .. لابأس .. لقد اعتادت على الجدال مع والدها العجوز كل ليلة تقريبا .. وربما ستفسد ما تبقى من ليلتها برؤية وجه ابن عمها الوسيم في حال كان موجودا ليناقش والدها في أمور العمل كالعادة .. ثم ترى وجهه الجميل مجددا في أبشع كوابيسها
لمحت سيارته الأنيقة تقف خلف سيارة والدها .. فزفرت بقوة وقد أحست بالامتعاض .. إنه موجود .. ثم لمحت سيارة جودي البيضاء الصغيرة . هذا لا يعني أنها موجودة
فغالبا ما تخرج برفقة خطيبها المتأنق الشبيه بالدمى المحشوة .. دون أن يحاسبها أحد على الوقت الطويل الذي تقضيه خارجا معه .. ما دامت الإبنة العاقلة والمطيعة في البيت
زفرت بضيق متمنية لو أنها كانت تنتمي إلى عائلة أخرى تقل ثراء وتعقيدا عن عائلتها .. كانت أنوار حديقة المنزل مضاءة جزئيا .. بفوانيس صفراء منحت المكان طابعا خياليا وقد انعكست أضوائها على النباتات الخضراء التي اصطفت بتناسق حول ممر حجري مؤدي الى الباب
دست مفاتيحها في قفل الباب الزجاجي الضخم وفتحته ثم دخلت
لجزء من الثانية تنفست بارتياح لعدم وجود لجنة الاستقبال التقليدية في انتظارها .. ولكن أملها خاب عندما هدر صوت والدها الجهوري يقول بصرامة :-
:- أين كنت حتى الآن ؟
رفعت عينيها نحو الرجل الستيني النازل عبر الدرج الرخامي الفخم الرابط بين الطابقين مستعينا بعصاه الثقيلة التي قلما فارقته .. وروبه المنزلي يحيط بجسده الرياضي الممتلئ .
تصلب جسد أماني بتوتر لرؤية والدها وانتظرت حتى أصبح يقف على بعد أمتار منها وكرر سؤاله الصارم :- ينتهي دوامك في تمام السادسة .. فأين كنت حتى الآن .؟
بذلت جهدا خرافيا لتسيطر على التأثير الأزلي لمهابة والدها عليها .. ثم قالت بهدوء يميل الى البرود :-
:- لم لا تسأل صلاح ؟ فجواسيسه يخبرونه بالتفصيل أين أقضي كل دقيقة منذ خروجي في الصباح وحتى عودتي في المساء
التمعت عينا والدها الخضراوان والشبيهتان بعينيها .. صاح بغضب :-
:- تكلمي عن ابن عمك باحترام وإلا أجبرتك على هذا
التقت عيناهما لدقيقة كاملة .. خيم خلالها صمت مشحون بالتوتر قبل أن تقول ببرود :- أنا متأكدة بأنك قادر على هذا .. فأنت تحقق كل ما تريده بإحدى الطريقتين .. إما بنثر أموالك هنا وهناك وإما ......
نظرت إلى عصاه السوداء الثقيلة ذات الرأس المدببة .. وإلى أصابعه التي أحاطت بها بتوتر .. وسرت في جسدها رجفة خوف جاهدت لإخفائها .. ثم قالت باقتضاب :- لقد مررت على الميكانيكي ليلقي نظرة على سيارتي .. مؤخرا تصدر أصواتا مزعجة عندما أقودها
لم يظهر على وجهه أي تعبير يذكر .. ثم قال بجفاف :- تعرفين تماما سبيلك الى التخلص منها
قفز الازدراء الى ملامحها بلمح البصر وقالت بإباء :- تعجبني كما هي .. ولا أحتاج الى غيرها أو أي شيء آخر منك .. أو منه
وبدون أن تتيح له فرصة للتعليق .. تركته هاربة الى المطبخ فاللجوء الى غرفتها يعني المرور الى جانبه .. ومازالت تذكر نتائج اخر مرة اقتربت فيها منه الى هذا الحد أزعجتها إنارة المطبخ الخافتة .. ولكنها لم تهتم بإنارة المكان .. فتحت الثلاجة وتناولت زجاجة مياه معدنية وحاولت أن تتذكر آخر مرة تبادلت فيها حديثا وديا مع والدها فلم تنجح... ولكنها مدركة بأن أكثر من خمس سنوات مرت منذ أعلنت الحرب بينهما ..وانتهى خلال لحظة واحدة كل ما يشير الى روابط الدم بينهما
صفقت باب الثلاجة بعنف عندما أحست بالشبح الذي تسلل دون أن تشعر .. استدارت لتجده عاقدا ساعديه أما صدره .. مستندا الى خزائن المطبخ وينظر اليها بهدوء واثق مستفز
تغلبت على قشعريرة الخوف التي أصابتها بتأثير نظرته المظلمة كظلام المكان وقالت ساخرة متصنعة القوة:- لماذا لا تدهشني رؤيتك وأنت تتسلل كالأشباح في الظلام داخل منزل لا يرغب سكانه في وجودك فيه ؟
قال الشبح بهدوء :- أذكرك يا ابنة عمي العزيزة بأنك الفرد الوحيد في المنزل الذي يرفض وجودي فيه .. فعلى حد علمي .. عمي يعتبني كالإبن له وجودي تهتم لأمري كأخ أكبر لها
قالت باشمئزاز :- أفضل الموت ألف مرة على أن أحظى بأخ مثلك
لوى فمه ساخرا وهو يقول :- أبادلك الشعور تماما يا عزيزتي .. فآخر ما أريده هو أن أكون أخا لك
تراجعت بضع خطوات مبتعدة عنه وهي تصيح بشراسة :- لن تكون أي شيء إطلاقا بالنسبة لي يا صلاح
مط شفتيه متأسفا على عنادها وقال :- سنرى
.. واجهته بنظراتها المتحدية بينما اكتفى هو بتأمله المستفز لها .. تأملت بدورها قامته المتوسطة الطول التي لم تخفي تناسق جسده القوي .. كان ابن عمها وسيما كأي فرد آخر في العائلة ولكن وسامته كانت دائما من ذلك النوع المزعج .. الذي يعطي شعورا غريبا بالحذر وعدم الراحة .. قال أخيرا بهدوء :-
:- سمعتك تتحدثين الى عمي قبل دقائق .. متى ستتوقفين عن محاربته وإزعاجه يا أماني .. إنه والدك إن كنت قد نسيت
نظرت إليه قائلة بمقت :- بسببك أنت انتهى كل ما يربطني به كإبنة .. فإياك أن تقدم لي المواعظ .
اقترب منها خطوة وهو يدس يديه في جيبي سرواله الأسود الأنيق وهو يقول بحزم :- بل بسبب عقوقك وشذوذك أنت يا أماني .. تصرفاتك المتهورة والوقحة هي ما كادت تودي يحياته يوما .. وبحياتك أنت أيضا
أجبرت نفسها على التسلح بالهدوء .. فصلاح بارع للغاية في إفقادها رصانتها .. وإشعال كل كراهيتها بكلمة واحدة . قالت بتهكم :- وكأنك تهتم حقا لصحته .. أعلم تماما بأنك تنتظر موته بفارغ الصبر كي تضع يدك على أمواله شاكرا حظك لعدم وجود وريث ذكر له بين أبنائه .. الشيء الوحيد الذي يخيفك من حدوث هذا هو فقدانك الامل مني .. فأنت مازلت متأكدا بأنه قادر على إرغامي على منحك ما تريد .. ولكن هذا لن يحصل يا صلاح .. لا الآن ولا لاحقا
استحالت ملامحه الوسيمة الى جليد فعرفت بأنها قد نجحت في إثارة غضبه .. فصلاح كوالدها تماما .. رجل اعتاد على الحصول على مراده مهما كان الثمن .. وهي كانت الشوكة الوحيدة التي تمكنت من وخز كبرياءه وكرامته .. اقترب منها فتراجعت بتوتر حتى التصقت بالثلاجة .. وأحست ببرودة المعدن خلف ظهرها .. تبينت في الظلام ملامحه الشيطانية .. وانتابها رعب كبير لاستعادتها تلك الذكرى التي لم تنجح السنوات في محوها .. قال ببرود جمد الدماء في عروقها ..:- ستكونين زوجتي يا أماني .. شئت أم أبيت .. بحياة أبيك أم بعد مماته .. سأجبرك على هذا ولو كان أخر ما سأفعله في حياتي
قربه الكبير منها حرك الغثيان داخلها .. ولكنها سيطرت على ملامحها وبرودة أعصابها حتى تراجع فجأة دون أن يلمسها قائلا باستفزاز :-يمكنك الذهاب الى غرفتك الآن لتتقلبي طوال الليل بين أحقادك .. فمهما طال الزمن .. ومهما ظننت بأنك قد حققت كيانك واستقلالك .. ستكتشفين في النهاية بأن مكانك تالطبيعي هو هنا .. تحت قدمي
جاهدت لتمنع نفسها من الجري الى غرفتها .. بل صمدت أمامه رافعة رأسها بتحدي للحظات ثم قالت بشجاعة :- في اليوم الذي سيحدث فيه هذا سأكون ميتة يا صلاح .. أؤكد لك هذا
ثم تركت المطبخ مندفعة الى الطابق العلوي .. لم تتجه الى غرفتها .. بل الى الحمام حيث أقفلت الباب ورائها .. ثم أفرغت معدتها في الحوض قبل أن تنهار على الأرض بإعياء مكافحة دموع الضعف المهددة بخذلانها .. لاأحد يعرف كم يكلفها الصمود أما والدها رحل الأعمال القاسي (محمود النجار ) وابن عمها المشابه له في لؤمه وتسلطه .. لا أحد يعرف كم تبذل المستحيل لتكافح الذكريات .. وكيف تحاول جاهدة قبل الآخرين أن تنتقم من نفسها قبل الآخرين على أخطائها السابقة .. وكيف تصر بقسوة على عدم الوقوع فيها مجددا
لم تحسب الوقت الذي قضته هناك قابعة في زاوية الحمام تلملم شظايا روحها قبل أن تستعيد شجاعتها وقوتها .. وتقف مكافحة ضعفها .. مقررة بأن الوقت ليس مناسبا بالمرة للإنهيار

ithran sara
2014-06-10, 18:01
الفصل الثالث
شكوك ومخاوف

( تمام محفوظ) (تمام محفوظ )
ظلت جودي تخط الاسم لدقائق معدودة فوق أوراقها وهي تتظاهر بالدراسة .. منذ عودتها من عشائها الكارثي برفقة طارق وأصدقائها
لحسن حظها أن ريما لم تجد الفرصة لسؤالها عما حدث .. ولكنها ستراها غدا في الجامعة .. ولحظة الاستجواب قادمة لا محالة
(تمام محفوظ) .. (تمام ) اسم غريب .. تذكرت ملامح عازف الجيتار الوسيمة والخيالية .. وفكرت بأن أي اسم عادي لن يليق به .. فهو رجل غير عادي .. بحاجة الى اسم غير عادي ..
يا الهي .. إنها تفكر به منذ ساعات .. وهاهي تبدأ برسم خطوط وجهه التي حفظتها عن ظهر قلب فوق أوراقها البيضاء .. لماذا لا تفكر بطارق .. طارق .. طارق .. رددت الاسم مرارا بصوت عالي ولكنها لم تنجح إلا في العودة الى ذلك الوجه الساحر لتمام .. ما الذي أصابها ؟. أهو توتر طبيعي تواجهه كل فتاة مخطوبة قبل أشهر من موعد زفافها ؟ فتظل في شك بصحة اختيارها للشريك .. وتظل ترى في كل وجه ذكوري بديل عنه ؟
يا للهول من الأفضل أن تبدأ بتأليف كتاب عن حماقتها
أجفلت للطريقة العنيفة التي فتحت فيها أماني باب غرفتها ودخلت قائلة بلهجتها الساخرة والجافة :- أنت هنا إذن .. لم أتوقع عودتك باكرا .. لا تقولي لي بأنك قد تشاجرت مع عريس الهنا .. فلست في مزاج جيد لمواساتك ..
اعتدلت جودي بقلق .. لم يكن من عادتها السكوت عن سخرية أماني .. ولكنها لاحظت بأن عدائية أختها لم تكن طبيعية هذه المرة .. أو أنها طبيعية أكثر من اللازم ؟ سألتها :- مع من تشاجرت هذه المرة ؟ مع أبي أم مع صلاح ؟
قالت أماني وهي تدعك شعرها الرطب من تأثير الاستحمام بمنشفة صغيرة ناعمة :- الاثنين معا .. هل تصدقين هذا ؟ الواحد تلو الآخر كان في انتظاري ليحيل ليلتي الساحرة الى جحيم
تأملتها جودي للحظات ثم قالت بهدوء :- لقد سمعتك تتقيئين بالحمام
وقفت أماني أمام المرآة التي توسطت خزانة الملابس الضخمة بينما تساءلت جودي بخفوت :- هل حاول أن يلمسك ؟
هتفت أماني بخشونة أظهرت كل البغض الذي يملأ قلبها :- كنت قتلته قبل أن يفعل
صمتت للحظات طويلة وهي تنظر الى نفسها في المرآة .. ومن خلفها كانت جودي تتأمل بدورها أختها الكبرى .. ذات القامة الطويلة والنحيلة .. لقد فقدت الكثير من الوزن خلال السنوات السابقة .. ولكن نحولها لم يؤثر أبدا على جمال تكوين جسدها الأنثوي .. أو جمال وجهها المميز .. بل زاد من اخضرار لون عينيها الواسعتين .. ما منحها مظهرا جذابا وغامضا متناسقا مع شعرها النحاسي الأشقر القصير
كانت هذه هي إحدى المرات القليلة التي تبعد فيها أماني شعرها الكثيف عن صدغيها .. فظهرت لجودي وبكل وضوح آثار ذلك الجرح الذي امتد من منابت شعرها حتى أذنها اليسرى .. السنوات أحالتها الى مجرد ندبة بالكاد كانت ظاهرة للناظر عن قرب .. ولكن بالنسبة لأماني ما زال الجرح طازجا وينزف بغزارة
تمتمت أماني قبل أن تمنع نفسها :- أكرههما
قالت جودي بإشفاق :- لماذا تصرين على محاربتهما يا أماني ؟ لن تستطيعي التغلب على قوتهما ونفوذهما وتعرفين هذا جيدا
استدارت اليها أماني قائلة باستنكار :- أفضل الموت ألف مرة على منحهما ما يريدان
قالت جودي بتوتر :- إن فكرت في الأمر جيدا لما وجدته بذلك السوء .. صلاح شاب وسيم جدا وثري .. وأي فتاة تتمنى الارتباط به
قالت أماني بحدة :- أي فتاة غيري أنا .. وما دمت متحمسة إلى هذا الحد فلماذا لم تتزوجي أنت به ؟
هزت جودي كتفيها قائلة :- لقد كنت دائما بمثابة الأخت الصغرى لصلاح
:- لماذا لم يعتبرني أنا الأخرى أختا له ؟
تنهدت جودي قائلة :- لأنك ومنذ الطفولة كنت تكرهين صلاح .. تنفرين منه وتبعدينه عنك .. ربما هذا ما جعلك بالنسبة إليه تحدي يريد الفوز به
وجرت عيناها على الفيللا لأخذ القمامة .. فقدمني هدية لابن أخيه المفضل
قالت جودي بانزعاج :- أنت تفسرين الأمور بطريقة بشعة
قالت أماني بقسوة :- وأنت تحبين أبي بحيث لا ترين الوحش المختبئ داخله
أشاحت بوجهها بفتور قائلة :- لم لا ؟ لطالما كنت لبنته المدللة .. القطة الصغيرة الشبيهة بأمها .. أظن أحد أسباب كرهه لي هو شبهي الكبير به .. فأنا متأكدة بأنه لا يحتمل حتى نفسه
هزت جودي رأسها يائسة من التفاهم مع أختها حول هذا الموضوع .. ولكنها أقرت داخلها بأن أماني تشبه والدها تماما .. في قوته وعناده وكبريائه .. وهذا ما يسبب التصادم المستمر بينهما ..قالت لتغير من موضوع الحديث الكئيب :- كيف كان العمل لهذا اليوم ؟
تغيرت ملامح أماني بسرعة مذهلة .. وارتسم التفكه على وجهها وهي تقول :- كان مميزا
التقطت منها جودي روح الفكاهة وهي تسألها باسمة :-ما الذي فعلته لمديرك هذه المرة ؟
أطلقت أماني ضحكتها الجميلة النادرة وهي تقول :- لقد كان الأمر مذهلا .. لن تصدقي ما حدث
قطعت الطريق عبر الغرفة الفسيحة والأنثوية الديكور وجلست إلى جانب جودي على حافة السرير قائلة :-
:- أتذكرين تلك الصورة التي ظهر فيها مديري برفقة وزير الاقتصاد في جريدة صباح الأمس ؟ .. لقد علقت الصورة على جدار المكتب .. ودعوت باقي الموظفين لمشاركتي في رميها بالطائرات الورقية
اتسعت عينا جودي وهي تقول غير مصدقة :- لا تقولي بأنه قد ضبطك تسخرين منه علانية بين الموظفين ؟
كانت إجابة أماني ضحكة عالية .. فشاركتها جودي الضحك . أكملت أماني عندما هدأت :- لقد دخل السيد هشام الى المكتب فجأة بع أن وصلت إلى أسماعه الضجة التي عمت الطابق بأكمله .. لك أن تتخيلي الصدمة على وجوه الموظفين لرؤية رئيسهم أمامهم وجها لوجه يراقب ما يفعلونه بهدوء شديد متوعد
قالت جودي بقلق :- هل وبخك ؟
لوحت أماني بيدها قائلة بعدم اهتمام :- كالعادة .. استدعاني الى مكتبه دون أن ينسى توبيخي أمام الآخرين .. وأن يتبرع ساخرا بتوفير سهام حقيقية بدلا من الطائرات الورقية لأشفي بها غليلي .. ولم ينسى أن يذكرني بأنه لم يوظفني إلا إرضاء لخالته .. وأنه لن يتورع عن طردي إن اتضح له أي تقصير مني في عملي
فكرت جودي قائلة :- كوني صادقة مع نفسك .. أنت تستحقين هذا
هزت أماني كتفيها قائلة ببساطة :- أعرف هذا .. ولكنه لن يجرؤ على طردي .. فأنا كفؤة تماما في عملي .. مازلت غير فاهمة كيف يمكن أن يكون لامرأة بلطف سمر ابن أخت بسماجته وجفافه .. إنه أشبه بقطعة جليد تمشي على قدمين .. آه .. ومن يكون (تمام محفوظ) هذا ؟
تناولت إحدى الأوراق المتناثرة فوق السرير .. فانتزعتها جودي منها قائلة بارتباك :- لا شيء يذكر .. زميل في الكلية
راقبتها أماني بتسلية وهي تلملم أوراقها وتضعها جانبا ثم قالت :- يبدو من احمرار وجهك أنه أكثر من هذا بكثير
صاحت جودي بعصبية مفاجئة :- هلا غيرت الموضوع ؟
تفحصتها أماني بصمت للحظات ثم رفعت حاجبيها مستسلمة وسألتها :- كيف كان عشاءك مع طارق هذا المساء ؟
:- جيد .. استمتعنا كثيرا بصحبة بشار وريما كالعادة .. والمطعم كان مميزا
قالت أماني بتهكم :- بالتأكيد لن يختار طارق مطعما يقل فخامة عنه .. لن يهدر تأنقه المعتاد على الأماكن الرخيصة
نهضت جودي من السرير وسارت نحو النافذة لتتأمل الليل الهادئ الذي خيم على الحي الراقي الذي ولدت فيه .. وسمعت أماني تقول من خلفها :- حسنا .. ما الذي يشغل بالك حقا يا جودي ؟
استدارت جودي قائلة باضطراب :- كنت أرغب بطرح سؤال ما عليك .. أعرف بأنك لا تحبين طارق .. ولكنني أطلب إجابة محايدة عن سؤالي
فكرت أماني للحظات ثم هزت كتفيها قائلة :- أعدك أن أحاول
بدا على جودي التردد ما أقلق أماني حول ما يشغل بال شقيقتها الصغرى .. حسمت جودي أمرها وقالت:- هل من الطبيعي لفتاة مرتبطة أن تعجب برجل آخر .. أو تفكر به ؟
بالرغم من سرور أماني لشكوك جودي حول علاقتها بطارق .. إلا أنها لم تفصح عن أفكارها .. وقالت ببساطة :- حبيبتي .. هناك نساء متزوجات وأمهات مازلن يصرخن كلما ظهر نجمهن المفضل على شاشة التلفاز
قالت جودي بضيق :- لم أقصد هذا النوع من الاعجاب
عادت تجلس مقابلة لاماني كي تجذب انتباهها وقالت :- أقصد أن تقابلي رجلا جذابا يخطف بصرك وعقلك دون أن تكلميه .. إذا نظر الى عينيك تنسين الدنيا من حولك تماما .. حتى خطيبك الجالس الى جوارك يفقد وجوده معناه
أرجعت رأسها إلى الخلف وقد برقت عيناها وهي تكمل :- وإن حصل وكلمك .. فإنك تقضين الليل بطوله تستعيدين كلماته .. ونبرة صوته الجذابة .. فيقشعر بدنك من مجرد الذكرى
حدقت أماني في وجه شقيقتها المتأثر بذهول .. ثم تمتمت :- هل أنت متأكدة بأن لا علاقة للمدعو همام بحديثنا ؟
صاحت جودي بانزعاج قبل أن تفكر :- اسمه (تمام)
احمر وجهها عندما لاحظت جمود أماني .. قفزت مبتعدة وهي تخفي وجهها بين يديها فقالت أماني بهدوء :- من الواضح أن المشكلة أكبر بكثير مما ظننت
أنزلت جودي يديها توهي تقول بيأس :-المصيبة أنها أتفه بكثير مما تبدو عليه .. ولكنني لا أعرف لماذا لا أتوقف عن التفكير في ذلك الرجل ولا أستطيع نزع صورته عن عقلي
حكت لأماني باختصار عما حدث في المطعم وهي تتجول في أنحاء الغرفة بعصبية .. بينما أماني تستمع إليها وتراقبها بصمت .. قالت جودي في النهاية بغضب :- لا أعرف ما الذي أصابني ؟ أنا مخطوبة إلى شاب وسيم جدا .. ثري جدا .. ويحبني بجنون .. وخلال لحظة واحدة أرمي فيها كل هذا ورائي وأفكر كالبلهاء بشاب متسكع بالكاد يكسب قوت يومه من عزفه على الجيتار
قالت أماني بهدوء :- عازف الجيتار بشر مثلنا كما تعلمين يا جودي
زفرت جودي قائلة :- أعرف هذا بالتأكيد ..ولكن إعجابي وهوسي الغريب به لمجرد امتلاكه أجمل عينين رأيتهما في حياتي ولطريقة كلامه الجذابة المكتسبة من خبرة طويلة مع النساء كما يبدو .. ليس منطقيا .. صحيح ؟
تأملت أماني أختها التي تصغرها بأربع سنوات بتعاطف .. مهما كان ما تمر به جودي الآن فسببه تلك الطريقة الجافة التي قرر والدها تزويجها فيها .. طارق شاب جيد بشكل عام .. وعريس لقطة .. ولكن مهما ادعت جودي .. فهي ليست متأكدة تماما من مشاعرها نحوه .. أما رأي أماني .. فهو أن جودي تحتاج الى رجل أكثر عاطفية ورقة من طارق العملي البارد .. شخص قادر على تفهم الجانب الحساس والعاطفي من شخصيتها
نهضت أماني قائلة :- أنت تحملين الأمر أكثر من حجمه يا جودي .. أي فتاة طبيعية قد تضطرب للقاء شاب وسيم يعرف كيف يسمعها ما تحتاج إليه من كلمات الغزل .. قد تفكرين به ليوم أو اثنين .. ولكن الأمر سينتهي عند هذا الحد .. خاصة وأنك على الأغلب لن تقابليه مجددا
.. تذكرت جودي الطريقة التي حصل فيها على رقم هاتفها .. ولكنه على الأرجح فقده الآن مع الكم الهائل من أرقام هواتف الفتيات الذي يحتفظ به .. ما قالته أماني صحيح .. هي لن ترى ذلك الرجل مجددا .. خاصة إن امتنعت تماما عن زيارة ذلك المكان الذي يعمل فيه .. ولسبب ما شعرت بالحسرة لهذه الفكرة .. فجزء منها مهما حاولت الإنكار .. متشوق لرؤيته مجددا ..أو حتى لسماع صوته المثير
ربتت أماني على وجنتها برقة قائلة :- لا تشغلي عقلك الصغير بأوهام العروس التقليدية .. سأتركك لتنامي الآن وفي الصباح .. ستنسين تماما ما حصل .. وتعودين خطيبة مملة ومغرورة .. لخطيب أشد مللا وغرورا
.. وعندما غادرت الغرفة .. كانت جودي قد ارتاحت جزئيا لكلمات أماني البسيطة والمنطقية .. ولكنها عرفت تمامما بأنها لن تتمكن تلك الليلة من النوم .. ولا حتى ساعة واحدة


ظلام .. ظلام حالك يحيط بها في كل مكان . . والضباب الكثيف يسبح من حولها .. هذا غير ممكن .. فأماني متأكدة بأنها قد تركت المصباح الصغير مضاء قبل أن تنام .. حاولت أن تنهض من سريرها لتضيئه .. ولكنها لم تستطع حتى تحريك رأسها .. ما سبب ثقل جسدها الغريب ؟ أهو شيء أكلته خلال العشاء ؟
ربما إن نادت جودي بصوت مرتفع قد تستيقظ وتأتي لمساعدتها .. ولكن صوتا لم يصدر عنها .. فلسانها كان ثقيلا بدوره وكأنه قطعة من الحجر
أحست بأنها بالفعل ليست وحيدة في الغرفة .. هناك من يتنفس في مكان قريب منها .. حاولت اختراق الظلام بعينيها تراه .. فلمحت خياله الأسود يقترب منها ببطء .. جودي .. أهي أنت ؟ إلا أن السؤال القلق لم يتجاوز شفتيها .. تسلل شعور غريب بالخوف الى داخلها عندما بدأت ملامحه تتضح لها .. التقاسيم الوسيمة المألوفة ذات التعبير الساخر المخيف .. اتسعت عيناها .. وازدادت محاولاتها للحركة والهرب دون فائدة
هنا .. قال الصوت الساخر ليجفف الدماء في عروقها :- لا تحاولي المقاومة يا أماني . فأينما هربت .. ستجدين نفسك هنا مجددا .. في مكانك الطبيعي .. عند قدمي
تدفقت دموعها وهي تراقبه يقترب منها .. وملامحه تستحيل تدريجيا إلى أخرى شيطانية .. والمخالب تبدأ بالظهور من أطراف أصابعه الطويلة المدببة
أطلقت أماني صرختها المختنقة وهي تهب جالسة فوق السرير وقد تبلل جسدها تماما بالعرق .. نظرت حولها لاهثة برعب عبر الغرفة التي خفف من ظلمتها نور المصباح الأحمر الصغير المتدلي من زاوية السقف .. ثم قفزت نحو مفتاح النور الرئيسي لتضيئ الغرفة تماما ثم تنهار جالسة على الأرض وهي ترتجف يقوة .. وتجاهد لتتنفس ..ثم بدأت تبكي بصمت .. إنه ذلك الكابوس مجددا .. والذي يطاردها كل ليلة دون رحمة منذ سنوات .. مهما حاولت التظاهر بالشجاعة والقوة .. فإن الحقيقة تظهر دائما في النهاية .. وهي أنها ربما ليست بالقوة الكافية لمحاربة والدها .. وابن عمها صلاح
عند هذا الحد من الـأفكار مسحت دموعها واتجهت نحو المنضدة المجاورة لسريرها .. وأخرجت من الدرج ذلك الدفتر الصغير الذي تقرأ بعض صفحاته كل ليلة تقريبا كيس تتمكن من النوم .. وقد نسيته هذه الليلة بسبب توترها الناتج عن صدامها مع صلاح .. تمددت فوق السرير وفتحت الدفتر .. وجرت عيناها فوق خط أمها الناعم وبعد نصف ساعة من القراءة .. أقفلت الدفتر وقد هدأت روحها .. وضمته الى صدرها
منذ وجدت الدفتر الذي اعتادت أمها كتابة أفكارها ويومياتها فيه .. بعد وفاتها بأيام قليلة .. وهو سلاحها الذي يندها بالقوة التي تحتاجها لتتابع كفاحها .. مازالت تذكر ذلك اليوم الذي وجدت فيه أمها تكتب فيه باهتمام عندما كانت طفلة لم تتجاوز الثانية عشرة .. سألتها بفضول طفولي عما تكتبه .. فابتسم وجه أمها الجميل وهي تقول :- أماني
دهشت الطفلة وسألتها بسذاجة :- أتكتبينني ؟
ضحكت أمها .. ومازال صدى ضحكتها الرقيقة يدوي في أذني أماني حتى الآن ..توقفت عن الكتابة ودعت أماني للاقتراب منها .. أحاطتها بذراعيها قائلة :- بل هي نوع آخر من الأماني
نظرت طويلا الى عيني أماني الخضراوين ثم قالت بهدوء :- هل تعرفين لماذا أطلقت عليك هذا الاسم يا أماني ؟
هزت أماني رأسها بحيرة .. فأطل حزن عميق من عيني والدتها وهي تقول :- كي لا تخيب آمالك وأمنياتك أبدا
سألتها أماني وقد أحست بحزنها :- وهل خابت آمالك يا أمي ؟
لم تمنحها أمها جوابا .. ابتسمت فقط وقالت ملوحة بالدفتر :- هل ترغبين بقراءته ؟
:- نعم
:- عندما تكبرين بما يكفي سأعطيه لك
ولكن والدتها لم تعش لتمنحها الدفتر ينفسها.. كانت أماني في الخامسة عشرة عندما ماتت أمها بسبب مرض خبيث .. لم تكن قد صحت من صدمتها بعد عندما وجدته بين أغراض أمها وقد ساهم بشكل كبير في التخفيف من حزنها
أعادته بحذر إلى مكانه داخل الدرج .. لا.. لم يحن الوقت بعد لإطلاع جودي عليه فما كتبته والدتها خلال لحظات كآبتها وحزنها من شأنه أن يسبب لجودي صدمة كتلك التي أصابتها عندما قرأته أول مرة منذ عشر سنوات ..فما يحتويه هو مزيج من الحزن والخيبة .. والأمل .. والأماني ..كما أخبرتها والدتها بالضبط
تقوقعت حول نفسها فوق السرير . وغرقت في رحلة طويلة مع أفكارها قبل أن تنام أخيرا .. وبدون أحلام هذه المرة ...

MAHA ISLAM AHMAD
2014-06-10, 19:09
الفصل الرابع
مجرد اتصال


أبعدت جودي نظرها عن أوراقها مجبرة وهي تستجيب لثرثرة ريما التي لم تتوقف منذ الصباح وسألتها :-عم تتحدثين بالضبط؟
عبس وجه ريما الأسمر الدقيق القسمات وقالت بحدة :- عن معرض الفنون الذي تقيمه الجامعة بالتأكيد .. ألا تستمعين إلى ما أقوله منذ ساعة ؟
زفرت جودي قائلة بسأم :- لقد سبق وأخبرتك من قبل بأنني سأشارك في ذلك المعرض .. لماذا لا تسأمين من تكرار الموضوع ؟
أنقدهما من الشجار المراقب المسؤول عن قاعة المطالعة الملحقة بالكلية وهو يشير إليها بالصمت أو بمغادرة المكان .. ففضلتا مغادرة المكان عندما أيقنتا بأنهما لن تدرسا حرفا واحدا .. استقرتا أخيرا في كافيتريا الكلية الواسعة والمزدحمة على الدوام . . وقفتا لبضع دقائق حتى خلت لهما طاولة في الزاوية الى جانب النافذة
تابعتا حديثهما بأن قالت جودي :- أنا أجهز بعض الأعمال منذ أيام .. وقد بدأت بلوحة ليلة الأمس ..وأظنني سأنهيها اليوم
قالت ريما بصبر :- هنيئا لك .. ولكنني مهتمة بمعرفة إن كنت قد قمت بالإجراءات اللازمة للاشتراك في المعرض لقد تحدثت إلى دينا صباح الأمس وهي قريبة لأحد منظمي المعرض .. وأخبرتني بأن الأمر يحتاج إلى بعض الإجراءات .. آه .. هاهي قادمة .. سأناديها لتخبرك بنفسها
لوحت بيدها لدينا التي لفتت الأنظار فور دخولها الى الكافيتربا برفقة صديقتين .. بملابسها الأنيقة والمميزة .. وشعرها القصير الأجعد .. وشرارة الشقاوة المطلة من عينيها
كانت جودي تحب صحبة دينا للشبه الذي تجده في شخصيتها المرحة بالفتاة التي كانتها أماني قبل أن تتحول إلى المرأة المشبعة بالمرارة والسخرية التي هي الآن
ما أن رأتهما دينا حتى لوحت لهما وتركت صديقتيها لتنضم إليهما .. تحدثن طويلا حول التحضيرات للمعرض .. ليتجه الحديث بعد ذلك إلى الفتيان كالعادة كلما كانت دنيا موجودة .. كانت تتحدث عن حادث مضحك تعرضت له عندما حاول شاب غريب مضايقتها .. فقالت ريما معلقة :- ما الذي أصاب الرجال هذه الأيام ؟لماذا لا يتركوننا وشأننا ؟ فنحن لدينا ما يكفي من المشاكل
قال دينا ضاحكة :- من النموذجي أن تقول فتاة مخطوبة هذا الكلام .. فأنت لديك بالفعل رجل رائع كما هو الحال مع جودي .. في الواقع .. أظن مجرد وضعكما لخاتم الخطوبة يمنحكما الحماية من المضايقات
قالت ريما ساخرة :- لا تكوني متأكدة .. لو عرفت ما حدث مع جودي الأسبوع الماضي لسحبت كلماتك فورا
هتفت جودي بحذر :- لا أظن دينا مهتمة لسماع التفاصيل
ولكن اللهفة والفضول المطلين من عيني دينا جعلا ريما تتجاهل تحذيرات جودي وتبدأ بسرد ما حكته لها جودي عن لقائها بتمام وهو مالم يكن كثيرا
قالت دينا غير مصدقة :- أتقولين بأن عازف الجيتار قد ترك مقعده فوق المنصة وحاول الإيقاع بجودي بوجود خطيبها ؟ إنه أحمق بالتأكيد .. كان عليه اختيار فتاة أخرى ليست مخطوبة إلى طارق منصور .. لاأعتقد بأن فتاة عاقلة قد تترك أكثر شباب المدينة وسامة وثراء لأجل عازف جيتار
رفعت ريما حاجبيها بشكل معبر وهي تقول :- لا تستخفي بعازف الجيتار هذا .. فأقل ما يمكنني وصفه به هو أنه رجل مدمر .. لا أذكر أنني قابلت يوما رجلا بجماله وجاذبيته
نهضت جودي قائلة بانزعاج :- ستبدأ محاضرتنا التالية بعد دقائق يا ريما .. هلا ذهبنا ؟
تناولت كتبها وحقيبتها وغادرت دون أن تنظر إلى ريما التي لحقت بها قائلة :- ما الذي أزعجك الآن؟
هتفت جودي بحدة :- هلا توقفت عن التحدث عني أمام الآخرين وكأنني غير موجودة ..
قالت ريما بحيرة :- لا أظنني أخطأت .. دينا تحكي لنا دائما قصصا مشابهة
صاحت بها جودي :- تكلمي عن نفسك إذن .. ماذا إن وصلت القصة في النهاية إلى طارق ؟
:- لماذا قد يزعجه الأمر ؟ لم تكن المرة الأولى التي تتعرضين فيها للمضايقة .. أنت لم تبادلي ذلك الشاب الإعجاب أو ما شابه .. صحيح ؟
من حسن حظ جودي أن دوى رنين هاتفها المحمول من داخل حقيبتها فقالت لريما :-اسبقيني إلى القاعة وسألحق بك
أبطأت سيرها بينما تابعت ريما طريقها .. وأجابت على المكالمة التي لم تتعرف إلى مصدرها :- نعم
لم تدرك بأن صوتها قد عكس توترها حتى سمعت صوتا عميقا يقول :- هل قاطعتك عن شيء ما ؟
توقفت فجأة عن السير .. وتسارعت نبضات قلبها بشكل غريب وهي تقول باضطراب :- من .. من المتكلم؟
:- لا تقولي أنك قد نسيت صوتي
إنه هو .. هو دون غيره موضوع شجارها مع ريما .. همست دون أن تفكر :- تمام
ساد الصمت للحظات قبل أن يقول برقة :- يسرني أنك مازلت تذكرين اسمي
أغمضت عينيها وهي تشتم نفسها بصمت .. سارت عبر أحد الأروقة الجانبية بعيدا عن ازدحام الطلاب وقالت باضطراب :- ما الذي تريده ؟ لماذا تتصل بي ؟
:- ظننت بأن اتصالي بك كان متوقعا بعد حصولي على رقم هاتفك سابقا
وعندما مرت عدة لحظات من الصمت قال بلهجة غريبة :- لقد كنت في انتظاري .. أليس كذلك ؟
أسندت نفسها إلى الجدار بإعياء كان نتيجة ليالي من الأرق والخوف من اتصاله .. تمتمت :- ما الذي تريده مني ؟
:- أن أراك طبعا .. ظننت هذا واضحا
أذعرتها فكرة لقائه مجددا .. فاعتدلت وهي تقول بحدة :- هذا لن يحدث أبدا .. أرجو ألا تتصل بي مجددا .. لقد سبق وأخبرتك بأنني مخطوبة .. ولست مهتمة بمعرفة أي شيء عنك
قال بصرامة :- كاذبة
أجفلت من لهجته القاسية وصحة تخمينه .. أكمل بحزم :- لو أنك غير مهتمة حقا .. لما كنت تستمعين إلي الآن عوضا عن إقفال الخط في وجهي فور تعرفك إلى صوتي
فكرت بيأس .. لم أفعل لأنني غبية .. وحمقاء .. ولأنني كنت أتحرق شوقا لسماع صوتك
تمكن من أن تقول اخيرا بجفاف :- هذا ما سيحدث إن حاولت الإتصال بي مجددا
قال بهدوء وثقة :- في المرة القادمة التي سأتحدث فيها إليك .. أعدك بأن الهاتف لن يكون الوسيط بيننا
.. كانت قادرة على الإحساس بابتسامته الواثقة وكأنها تراها .. أكمل :- لن أؤخرك كي لا تبدأ المحاضرة بدونك .. أراك لاحقا يا جودي النجار
انتهت المكالمة فجأة .. فحدقت في الهاتف مذهولة .. كيف عرف اسمها الكامل ؟
كيف جمع كل هذه المعلومات عنها ؟
انتبهت فجأة إلى أنها قد استقطبت بعض الأنظار الفضولية .. فابتلعت ذهولها وأكملت طريقها نحو القاعة حيث تنتظرها ريما .. ولكنها لم تستطع ابتلاع الخوف الذي كان يتعاظم داخلها أكثر فأكثر

MAHA ISLAM AHMAD
2014-06-10, 19:18
رواية رائعة تسلم ايدك ithran sara على الانتقاء وودت ان اكملها لي وللاعضاء معك شكرا لك

MAHA ISLAM AHMAD
2014-06-11, 13:03
الفصل الخامس
بلا قلب

كانت أماني مستغرقة تماما في عملها عندما ارتفع رنين الهاتف الداخلي .. رفعت السماعة لتسمع صوت (سحر) .. سكرتيرة المدير يقول :- ماذا دهاك ؟ أنا أحاول الاتصال بك منذ دقائق
اشتمت أماني رائحة المشاكل .. فزفرت قائلة :- لقد عدت منذ دقائق من استراحة الغداء ثم انهمكت في العمل ولم أسمع صوت الهاتف .. مالأمر ؟ هل يطلبني الكونت في مكتبه ؟
كانت قد أطلقت عليه منذ عام لقب الكونت كدلالة على تعجرفه واستبداده .. وقد أعجب اللقب باقي الموظفين ودفعهم لاستعماله بحرص فيما بينهم كي لا يصل الأمر الى المدير
قالت سحر بتوتر :- الكونت غاضب لتأخرك .. لذا أنصحك بترك ما في يدك والقدوم الى هنا فورا بكامل أسلحتك .. في حال قرر أن يلتهمك كتحلية بعد الغداء
أنهت أماني المكالمة .. وتنهدت بسأم .. لا مزاج لديها اليوم للشجار معه .. ولكن إن كان مصرا فهي مستعدة له دائما
تناولت بعض الأوراق التي طلبت منها سحر إحضارها معها .. وتأكدت من حسن مظهرها وأناقتها قبل أن تغادر مكتبها
وقبل أن تدخل إلى مكتب المدير .. أخذت سحر تلقي عليها عشرات التعليمات ( أرجوك .. كوني مهذبة – لا تغضبيه هذه المرة – فقط استمعي إلى ما يقوله و ........)
كان خوف سحر منه طبيعيا كأي موظف آخر في الشركة من المدير الصارم الذي أسس ثروته من لا شيء .. وفقا للقليل الذي أخبرتها به خالته سمر عنه .. فإنه لم يترك عملا شاقا أو مهينا إلا ومارسه منذ كان في العاشرة من عمره .. وهذا يفسر بالتأكيد صلابته .. وافتفاره التام إلى العاطفة في التعامل مع الغير
أخذت نفسا عميقا وطرقت الباب .. ثم دخلت عندما سمعت الصوت الصارم يدعوها إلى الدخول .. خطت إلى داخل المكتب الفسيح .. وركزت اهتمامها نحو مركز الغرفة حيث استقر (هشام عطار)
وقد ملأ مقعده الجلدي بكتفيه العريضتين .. منهمكا في إحدى مكالماته الهاتفية المهمة .. رفع بصره إليها .. وأشار لها بيده أن تقترب .. ثم تجاهلها تماما وهو يستمع إلى محدثه
أقفلت الباب ورائها بهدوء .. وظلت واقفة على بعد مترين على الأقل عن مكتبه بمنأى عن الخطر .. تململت بضيق عندما استغرق وقتا أطول مما توقعت في مكالمته .. وإن كان الحديث كما فهمت يتعلق بصفقة مهمة .. ظهرت على ملامحه السمراء الخشنة علامات الاهتمام وهو يتحدث بصوته الأجش المتسلط .. أشفقت على محدثه الذي يجفف عرقه الآن في الغالب محاولا مجاراة خصمه الذكي والحازم .. الذي اعتاد على الحصول على ما يريده بأي ثمن كان
أزاحت عينيها عنه نحو محتويات المكتب الخشبي الضخم الذي تراصت فوقه الأجهزة الحديثة بأنواعها .. ثم دارت ببصرها حول المكان تتأمل الأثات الفخم الذي ملأه .. وغيرها من مظاهر الثراء التي لا يتردد أمثاله في إظهارها للآخرين .. لم تدرك بأن نظرة الازدراء كانت مرتسمة بوضوح في عينيها حتى سمعت صوته البارد يقول :- هل انتهيت من تقييمك للمكان ؟
رفعت عينيها إليه بسرعة . وغضبت من نفسها عندما احمر وجهها بحرج .. متى أنهى مكالمته وبدأ بمراقبة تفحصها الدقيق لمحتويات مكتبه ؟ لم ترغب بزيادة الأمر سوءا فتنحنحت قائلة بتهذيب :- أخبرتني سمر أنك طلبت رؤيتي
تراجع فوق مقعده ورمقها بإحدى نظراته السوداء وهو يقول ببرود :- أنا لا أطلب في هذا المكان يا آنسة أماني .. ونعم لقد أمرت سحر باستدعائك منذ نصف ساعة على الأقل .. وأرغب بشدة في أن أعرف سبب هذا التأخير
تمالكت أعصابها وقد عرفت بأن مزاجه اليوم يتوق إلى توبيخ أحدهم وقد وقع اختياره كالعادة عليها .. قالت بصبر محافظة على تهذيبها :- لم تنته استراحة الغداء إلا منذ ربع ساعة ..
:- كنت في صالة الطعام إذن
:- نعم .. برفقة باقي الزملاء
كست الصرامة ملامحه وهو يقول :- إذن .. فلتبلغي زملاءك بأن استراحة الغداء تعتبر ملغاة منذ هذه اللحظة و حتى شهر من الآن .. وأي تقاعس عن العمل خلالها أو مغادرة للشركة من أي موظف .. ستؤدي إلى تمديد العقوبة إلى أجل غير مسمى
صرت على أسنانها بغيظ .. سيقتلها زملاؤها في حال عرفو بالكارثة الجديدة التي جلبتها عليهم بسبب تأثيرها غير المسبوق على هذا الرجل .. لم تتمالك نفسها .. ورمت بتهذيبها عرض الحائط .. قائلة بحدة :-
:- مفهوم .. سأخبر الجميع بالحمية الإجبارية الجديدة .. وأنصحهم بتسريب سندويتشات منزلية داخل معاطفهم منذ الغد لاستراق اللقيمات من وراء ظهرك ريثما تصدر أوامرك التالية بمنعنا عن التنفس
.. رمى قلمه من يده فأجفلت لحركته المفاجئة .. لاحظت عينيه السوداوين تلمعان بغضب شديد .. ولكنه تأملها طويلا حتى أحست بنظراته ستقتلعها من مكانها .. ثم ارتفع صوته الجهوري فجأة :- أنت تستمتعين بهذا .. أليس كذلك ؟
قالت بحذر :- ماذا تقصد ؟
:- أنت تستمتعين باعتماد اللامبالاة في تصرفاتك .. وإحالة جو العمل إلى نوع من السخرية والفوضى
قالت بتوتر :- لقد سبق واعتذرت عما حدث الأسبوع الماضي .. ووعدتك بألا يتكرر
قال بجفاف :- وماذا عما حدث اليوم ؟
ارتفع حاجباها بدهشة وهي تقول :- ماذا ؟؟
لوى فمه القاسي بابتسامة بالكاد ظهرت .. بدا واضحا مدى استمتاعه بحيرتها .. نهض واقفا ودار حول المكتب فتراجعت تلقائيا عندما دنا منها بطوله الفارع وجسده الضخم المكسو بالبذلة الأنيقة .. توترت وهو يزيد من اقترابه ببطء قائلا :- دعيني أخمن .. هل تبادلت حديثا شيقا مع زملاءك أثناء تناولكم الغداء في كافيتيريا الشركة ؟
شحب وجهها وقد فهمت قصده .. لقد انخرطت في حديث ساخر مع مجموعة من زملائها .. وقد كانت أصواتهم مرتفعة بحيث سمع الحديث جميع الجالسين حول طاولتهم .. أخذت تقلد المدير الصارم بأسلوب
فكاهي أضحك الجميع .. ثم استرسلت في الحديث عن الجليد الذي يجري في عروقه بدلا من الدماء .. وافتقاره التام للإحساس .. وعن قناعتها بأن السبب في عزوفه عن الزواج رغم تجاوزه الثلاثين بسنوات هو هروب النساء من وجهه العابس الذي لا يبتسم إلا لكسب صفقة أو مال وفير كغيره من محدثي النعمة ..
لقد قالت الكثير من الكلام المسيء والمهين له .. ولكن من يلومها إذا كان صورة لا تختلف كثيرا عن والدها أو صلاح ؟
لقد كان هشام عطار نموذجا للرجل المستعد لفعل أي شيء لأجل زيادة ثروته .. قد تتفهم دوافعه نظرا إلى نشأته الصعبة .. ولكنها لن تتفهم أبدا تصرفاته المتسلطة والمتكبرة وقسوته الغير مبررة نحو موظفيه .. تمالكت أعصابها وقالت ببرود :- كيف عرفت هذا ؟
نظر إليها ببرود أخافها .. لطالما أخافتها نظراته الغير مفهومة والغامضة المطلة من عينيه الحادتين كعيني الصقر .. فال :- لدي مصادري
قال بحدة :- تقصد جواسيسك
رفع حاجبيه القاتمين فلاحظت بوضوح ذلك الأثر القديم لجرح طولي قاطع أحدهما .. مما ذكرها بندبتها المخفية تحت خصلات الشعر المسدلة بعناية حول وجهها وقال :- ربما
تراجعت خطوتين كي تجد الشجاعة لأن تقول بعصبية :- إن كنت تطالبني باعتذار فلن تحصل عليه .. عملي لديك لا يمنحك السلطة للتحكم بأفكاري ورأيي بك ..
هدر بصوت جمد الدماء في عروقها :- موقف آخر من هذا النوع وستجدين نفسك خارج جدران هذا المبنى دون رجعة
هتفت باستنكار :- هل تهدد بطردي ؟
:- ولم العجب ؟ أنا رجل عديم الإحساس والعاطفة .. ومحدث نعمة لا أخلاق له .. ما الذي يمنعني من إلقائك خارجا بدون أي تردد ؟
احمر وجهها وهي تستمع إلى صدى كلماتها المهينة من خلال صوته الغاضب .. إنه محق بغضبه بالتأكيد .. ولكن طردها لهذا السبب لن يكون عادلا
تراجع عنها وعاد إلى عرشه الواقع خلف المكتب وهو يقول بهدوء :- من حسن حظك أن علاقتك بسمر تشفع لك .. وإلا لكنت تبحثين عن عمل آخر منذ فترة طويلة
قالت بحدة :- أنت لا تبقيني هنا إكراما لسمر فأنا موظفة كفؤة وأنت تعرف هذا تماما
عاد يرسم على شفتيه تلك الابتسامة الساخرة .. ورفض منحها تأكيدا شافيا .. بل قال وهو يسترخي فوق مقعده :- في الواقع ..أستغرب أن يكون لامرأة مثلك أي علاقة صداقة بسمر .. فهي امرأة دافئة ورقيقة .. لا تكف أبدا عن العطاء .. أما أنت ...
ارتجفت عندما جرت عيناه السوداوان الحادتان فوق ملابسها الأنيقة بتقييم مشمئز وهو يقول :-
:- طفلة مدللة وثرية .. اعتادت الحصول على ماتريده بأي ثمن .. تكاد تدمرك عقدة التفوق التي ولدت معها .. وهذا واضح من طبيعتك العدوانية والمتهكمة .. التي لاتعرف أبدا كيف تحب أو تعطي
تمنت لو أنه لا يلاحظ شحوب وجهها .. فهو قد أصابها بالصميم دون أن يدري 00 بذلت جهدا خرافيا كي تحافظ على ثبات ملامحها وتحاشت النظر إليه كي لا يقرأ الألم في عينيها .. ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد .. بل تأملها طويلا قبل أن يقول بهدوء :- لقد كنت محقا .. أليس كذلك ؟ كلماتك التي قصدت وصمي بها لم تكن إلا انعكاس لك ولقلبك الميت .. كأمثالك ممن ولدوا وفي أفواههم ملعقة من ذهب ..يمتلكون كل شيء .. ولكن هذا يخلق داخلهم فراغا هائلا وافتقار إلى الإحساس والآدمية .. في المرة القادمة التي تتبجحين فيها وتبدأين بتعداد نواقص الغير .. تذكري نواقصك فهي أكثر مما تظهرين على ما يبدو
رفعت رأسها بصلابة لتواجهه .. كان قادرا على ملاحظة الحقد الوحشي يلمع في عينيها الواسعتين .. قالت ببرود :- هل أستطيع العودة إلى مكتبي الآن ؟
أشار بيده قائلا بتهكم :- لم أستدعيك لنتبادل حديثا اجتماعيا .. سنتحدث في العمل ثم تنصرفين إلى مكتبك
ثم اعتدل على كرسيه وهو يقول بجدية :- اجلسي من فضلك .. وأخبريني عن ......
اختفى تماما أي أثر لتهكمه وقسوته .. وعاد من جديد رجل الأعمال المحترف .. من يراهما الآن وهما يتناقشان بهدوء ماكان ليصدق مدى كراهية كل منهما للآخر
كان يتحدث .. ويلقي عليها بملاحظاته وتعليماته .. بينما تمنحه هي الإجابات المقتضبة وعقلها بعيد تماما عن العمل .. لقد كان غارقا بمدى إصابة هشام عطار للواقع في كلماته التي قصد بها إهانتها
ترى هل يعرف بأن قلب أماني قد مات حقا قبل سنوات قليلة ؟
وأنها لا تعرف إن كان سيعود يوما إلى الحياة .. أو أنها ستكمل ما تبقى من حياتها بلا قلب ..

ithran sara
2014-06-11, 16:58
العفو لك و اخيرا وجدت من يهتم حقا للروايات مثلي .


لك زهرة من كل روض .... :)

ithran sara
2014-06-11, 21:23
الفصل السادس
الخيار الأخير


كان طارق في انتظار جودي كما وعدها عند بوابة الحرم الجامعي في تمام الساعة الثالثة من بعد الظهر .. أوقف سيارته بعيدا ثم تمشيا معا على الرصيف المحاذي لسور الجامعة العالي حيث تعالى ضجيج السيارات في هذا الوقت من اليوم
بعد بضع كلمات تحية وسلام .. ساد الصمت بينهما لبعض الوقت وهما يسيران جنبا إلى جنب قبل أن يقطعه طارق قائلا بهدوء :- ماهو الموضوع الضروري الذي طلبت رؤيتي لأجله ؟
قالت بحيرة :- أنا لم أقل أبدا بأنني أرغب بمناقشة أي موضوع معك
:- لماذا طلبت مني الحضور إلى هنا إذن ؟
قالت بارتباك :- وهل من الغريب أن تطلب فتاة لقاء خطيبها ؟
قال بلهجة حملت بعض العتاب :- بل من الغريب أن تطلبي مني ترك عملي وموافاتك في الجامعة في منتصف النهار كي نسير جنبا إلى جنب بصمت
قالت بعصبية :- لنقل بأنني قد اشتقت إليك .. وشعرت بحاجة إلى رؤيتك .. إن كان هذا يزعجك فأنا لن أتصل بك مجددا
زفر بقوة معلنا رفضه لتصرفها الطفولي .. ثم توقف عن السير واستدار إلى جودي التي توقفت بدورها وقال :- حبيبتي .. أنت تعرفين بأنني أشتاق إليك دائما .. وأتمنى أن يتم زفافنا بسرعة كي لا نضطر إلى الانفصال أبدا .. آسف لأنني كنت فظا .. اتصلي في أي وقت تشائين .. وسأرمي كل الدنيا ورائي لأراك
ابتسمت وقد خففت كلماته الرقيقة توترها واضطرابها الذين لم يفارقاها منذ اتصل بها تمام قبل ساعات .. لقد كانت بحاجة إلى أن تشعر بقرب طارق منها .. وأنها آمنة من أي إغراء قد يقدمه لها رجل ساحر متحالف مع الشيطان .. أمسكت بيد طارق قائلة بعينين لامعتين :- لنذهب من هنا
أجفل قائلا :- إلى أين ؟
:- وهل هذا مهم ؟ سنكون معا .. قد نتناول الغداء في مكان ما .. أو نقود السيارة لساعات خارج المدينة .. أو
قاطعها ضاحكا :- على مهلك .. متى وضعت كل هذه الخطط ؟ يجب أن تخبريني بمشاريعك مسبقا كي أرتب أموري على الأقل
اختفى حماسها بنفس السرعة التي اشتعل فيها .. قالت بقلق :- هل ستعود إلى المكتب؟
:- لقد سبق وأخبرتك بأنني مشغول
وعندما رأى الإحباط في عينيها ربت على وجنتها قائلا برقة :- سأعوض عليك في يوم آخر .. أعدك
منحته ابتسامة باهتة .. ثم سارت معه حتى سيارته وراقبته يختفي .. ثم عادت إلى حيث تركت سيارتها داخل أسوار الجامعة .. وكل ما ترغب بفعله هو العودة إلى البيت وعدم رؤية أي مخلوق حتى يختفي إحباطها
.. عندما وصلت إلى البيت .. ترجلت من السيارة وقد عصف بها القلق لرؤية صلاح خارجا من الفيللا برفقة طبيب العائلة .. وصديق والدها القديم .. ما الذي حدث ؟. هل والدها مريض ؟ انتظرت حتى ابتعد الطبيب بسيارته ثم اقتربت من صلاح تسأله بتوتر :- ما الذي كان الدكتور سليمان يفعله هنا ؟
عبس وكأن وجودها المفاجئ قد أزعجه .. ولكنه استسلم وسمح للتوتر والتعب في الظهور من خلال خطوط وجهه وهو يقول :- لقد أحس عمي ببعض الإرهاق .. فأوصلته إلى البيت واستدعيت الطبيب لنطمئن عليه .. وهو بخير الآن
ولكنه كان يكذب .. عرفت جودي هذا عندما رفض النظر إلى عينيها أثناء حديثه .. قالت بحدة :-
لم لا تخبرني الحقيقة ؟ هل أبي مريض ؟
أمسك بمرفقها وسحبها قائلا باقتضاب :- سنتحدث في الداخل
كان البيت مظلما على غير عادته هذا اليوم ... أصر صلاح على أن تجلس قبل أن يقول بجمود :- لقد أصيب عمي بنكسة هذا الصباح .. وفقد وعيه داخل المكتب
شهقت وهي تخفي فمها بيدها قائلة :- أهو قلبه مجددا ؟
أومأ برأسه إيجابا فتدفقت الدموع من عينيها وهي تقول :- ما الذي يفعله هنا إذن ؟ يجب أن يكون في المستشفى الآن
:- لقد كان هناك .. ولكنه أصر على العودة إلى البيت .. سمح له الأطباء بذلك لأن الأزمة لم تكن حادة ولكنهم لم يخفوا خطورة الأمر في عمره هذا
لم تستطع تخيل والدها القوي مريضا أو ضعيفا .. همست بصوت مرتجف :- هل هو في غرفته الآن ؟ أريد أن أراه
:- إنه نائم .. من الأفضل أن نتركه ليرتاح قليلا
ثم انتقل ليجلس إلى جوارها .. وأمسك يدها قائلا بلطف :- لا تشغلي بالك كثيرا .. والدك سيكون بخير .. أنا متأكد من هذا
حاولت أن تبتسم فلم تستطع .. ولكن وجود صلاح منحها الكثير من الطمأنينة .. فحبه لوالدها لا يقل عن حبها له .. وقد ترعرع منذ الطفولة تحت ظله
إنها أزمة عابرة وسيتمكن والدها من تجاوزها كما فعل مع غيرها .. وبالرغم من تأكيدها لهذه الحقيقة لنفسها إلا أنها كانت حقا خائفة هذه المرة


دخلت أماني إلى البيت بهدوء شديد .. لم يكن لديها ما يكفي من الطاقة كي تتشاجر مع صلاح أو والدها هذه المرة .. فقد كانت مرهقة تماما .. ومصابة بحالة ثقيلة من الاكتئاب .. كل هذا بسبب مديرها المتغطرس .. لقد حطم شيئا مهما داخلها بكلماته الجارحة .. وذكرها بما تحاول جاهدة كل يوم ألا تتذكره
لحسن حظها لم تصادف أحدا في طريقها إلى غرفتها .. ولكن ما إن فتحت الباب حتى سمعت صوت جودي يقول :- أنا سعيدة لأنك قد وصلت أخيرا .. حاولت الاتصال بك مرارا ولكن هاتفك كان مقفلا
لاحظت أماني وجه جودي الحزين وهي تغادر غرفتها وتقترب منها .. قالت أماني بقلق :- ما الأمر؟هل تشاجرت مع طارق ؟
:- لا .. إنه أبي .. لقد سقط مريضا صباح اليوم
نزلتا إلى المطبخ وجلستا حول الطاولة الصغيرة الخشبية .. لم تعرف أماني كيف تفسر مشاعرها بعد سماع ماحدث من جودي .. شعرت بألم حاد في صدرها لتخيل ذلك الرجل القوي طريح الفراش
قالت جودي :- ألن تذهبي لرؤيته ؟
أخافتها الفكرة فتمتمت :- لماذا أفعل ؟ لقد أخبرتني بنفسك بأنه قد تحسن الآن
:- لأنه طلب رؤيتك فور وصولك
اضطربت أماني .. فأمسكت جودي بيدها تتوسلها :- إذهبي إليه يا أماني .. إنه مجرد رجل عجوز مريض الآن .. أظنه يرغب بإصلاح الأمور بينكما قبل فوات الأوان ..
لم تستطع أماني تقبل الفكرة .. والدها ليس من ذلك النوع المستسلم .. إنه يجلس على عرشه منذ سنوات في انتظار استسلامها وزحفها نحوه متوسلة إليه أن يسامحها ويعيدها تحت جناحه .. ولكن جزءا منها تاق فعلا إلى إصلاح الأمور.. أهذا ممكن ؟ أن تعود الأمور بينهما كما كانت قبل وفاة والدتها ؟
لمحت جودي الضعف في عيني أماني فكبر الأمل داخلها .. ربما حان الوقت لتنتهي تلك الحرب الطاحنة التي استمرت لسنوات بين والدها وأماني
سحبت أماني يدها قائلة بجفاف :- سأرى ما الذي يريده مني هذه المرة
صعدت الى الطابق العلوي .. ووقفت أمام الباب العريض الذي تصدر الرواق .. استجمعت كل ما لديها من شجاعة .. وطرقت الباب .. أتاها صوت والدها الصارم يقول :- ادخل
فتحت باب الغرفة الفسيحة التي لم تدخلها منذ فترة طويلة .. ونظرت إلى السرير العريض حيث تمدد والدها مسندا ظهره إلى مجموعة من الوسائد .. وعلى مقعد قريب كان يجلس صلاح إلى جانبه .. وعندما رآها برقت عيناه وهما تجريان فوقها بتلك الطريقة التي اعتاد إهانتها بها
احمر وجهها وأشاحت بنظرها عنه قائلة لوالدها بصلابة :- أخبرتني جودي بأنك ترغب في رؤيتي
.. رغم شحوبه وآثار المرض عليه قال بغطرسة :- نعم وقد تأخرت في الحضور .. أين كنت حتى الآن ؟
تذكرت شجارها مع مديرها ظهر هذا اليوم والذي بدأ بنفس الطريقة ولم ترغب أن ينتهي هذا اللقاء أيضا بخسارتها .. فقالت بفتور :- لقد حضرت في النهاية .. فما اللذي تريده مني ؟
التقت عيناهما للحظة عرفت خلالها مدى غضبه .. وأدركت من نظرة صلاح التحذيرية بأن تعريضه للإنفعالات قد يكون خطرا عليه
قال والدها بصوته الخشن :- اتركنا وحدنا يا صلاح
بكل هدوء أطاعه صلاح .. ولكنه لم ينسى أن يحذرها مجددا بعينيه أثناء مروره إلى جانبها في طريقه إلى الخروج .. وعندما أقفل الباب وراءه .. عادت تركز اهتمامها نحو الرجل العجوز.. ولأول مرة تلاحظ مدى شحوب وجهه وضعفه .. فتحرك العطف داخلها للحظات حتى أدركت بان عينيه تحملان كل شيء إلا الضعف
قال بهدوء :- أظن الوقت قد حان لنتكلم بجدية .. اجلسي
قالت بتوتر :- أنا مرتاحة كما أنا
هدر صوته بعنف :- قلت اجلسي
تحركت بانزعاج لتطيع أمره فتجاهلت المقعد القريب الذي كان صلاح يحتله .. وجلست بعيدا عن السرير .. قال بعد أن جلست :- كيف حال عملك ؟
قالت بحذر إذ لم يكن من عادته سؤالها عن عملها :- بخير
:- لقد سبق وأخبرتك بأنك لست مضطرة للكدح بين الوظائف
قالت بفتور :- سبق وأخبرتك بأنني أحب عملي ولا أشتكي منه
ضيق عينيه قائلا :- أنت تعرفين قصدي جيدا
التزمت الصمت رافضة التعليق خشية أن تفقد أعصابها .. فقال :- سأوجه عرضي هذا إليك للمرة الأخيرة .. أنا مستعد لمسامحتك على أخطائك .. وتحمل مصاريفك مجددا .. سأمنحك كل ما ترغبين به .. مقابل زواجك من ابن عمك صلاح
شعرت برغبة عارمة في مغادرة الغرفة فورا .. وسجن نفسها في غرفتها لساعات طويلة وهي تبكي .. لقد كانت جودي مخطئة .. فآخر ما يريده والدها هو إصلاح الأمور بينهما
قالت بحدة :- لماذا تصر على هذه الفكرة؟ أنا لن أتزوج بصلاح ولو كان آخر رجل على وجه الأرض
قال بصرامة :- وأين ستجدين خيرا منه ؟ هل كنت تفضلين متبطلا حقيرا .. لا يمانع في بيعك مقابل قروش قليلة كذلك الفتى الذي تعلقت به منذ سنوات ؟
هبت واقفة بحركة عنيفة أدت إلى سقوط الكرسي على الأرض .. وصاحت بثورة :- كن مطمئنا .. أنا لن أتزوج صلاح أو غيره أبدا .. أما أموالك .. فاحتفظ بها لأنني لا أحتاج إليها
وأثناء اتجاهها نحو الباب هتف خلفها بعنف :- إنني أحذرك يا أماني .. إن لم تعودي إلى رشدك وتفكري بالأمر جديا هذه المرة .. سأستخدم كل وسيلة أمتلكها لإجبارك
نظرت إليه بازدراء قائلة :- افعل ما شئت
وغادرت الغرفة مغلقة الباب ورائها بهدوء شديد . إلا أن جسدها كان يرتعش من شدة الغضب .. ككل مرة تواجه فيها والدها .. وهذه المرة ذكرها بخزي حياتها .. بالمرة الأولى التي تشاجرت فيها مع والدها عندما ظنت بأنها قد حققت الأحلام التي عجزت والدتها عن تحقيقها .. وأنها قد جدت أخيرا الحب الحقيقي .. لقد أقسمت بعدها بألا تمنح قلبها لرجل أبدا .. وفي الوقت ذاته .. لن تقع في خطأ أمها وتتزوج برجل لا تحبه
يمكنها أن تحل هذه المعادلة الصعبة بطريقة واحدة .. وهي أن تمتنع عن الزواج نهائيا .. لم يكن هذا الخيار صعبا مادام صلاح يحوم حولها دون توقف .. وطالما أفقدها فراس سابقا الثقة في جميع الرجال
في شرفة الطابق الثاني من الفيللا .. والمطلة على الحديقة الجميلة .. وقفت أماني تستنشق بعمق هواء أكتوبر المنعش .. لقد كان أملها الوحيد هو أن تجد جودي يوما تلك السعادة التي لن تعرفها أبدا .. الحمقاء .. ستتزوج من طارق مع تخرجها في نهاية العام الدراسي .. مهما كان طارق شابا جيدا فإن جودي لا تحبه .. مهما حاولت فهي لن تنجح في إقناع أماني بالعكس
أتاها صوت صلاح من الخلف ليجفلها :- هل تفكرين بكلمات والدك ؟
استدارت إليه قائلة ببرود :- كلامه لم يستحق أي جزء من تفكيري
تنهد بأسف واقترب ليقف إلى جانبها ويتأمل السماء المرصعة بالنجوم وقال :- دائما تضطرينه لاتباع الطريق الأصعب
ثم التفت إليها فجأة ليقول بخشونة :- لماذا تفعلين هذا ؟ كلانا يعرف بأنك في النهاية ستكونين لي
قالت ببرود :- سأكون لك جثة هامدة فقط يا صلاح
شهقت عندما اقترب منها وحاصرها بينه وبين سياج الشرفة .. لأول مرة تجده أماني فاقدا لأعصابه مما أخافها :- أهناك رجل آخر ؟
صاحت بعنف محاولة التخلص من حصاره دون جدوى :- ابتعد عني ياصلاح وإلا صرخت
ولكنه أمسك كتفيها وهزها بقسوة :- أهناك رجل آخر في حياتك ؟
جن جنونها لملمس يديه على كتفيها فصرخت به :- إن لم تتركني رميت نفسي من هذه الشرفة .. أقسم على هذا
الهستيريا في صوتها جعلته يصدقها .. فرفع يديه عنها ونظر إليها مطولا قبل أن يقول بهدوء :- لا .. كنت لأعرف إن دخل إلى حياتك أي رجل
قالت من بين أنفاسها المضطربة :- ما الذي ستفعله إن حدث هذا ؟
ابتسم بثقة قائلا:- لن يحدث .. لأنك ذكية بما يكفي لتبعدي أي رجل عنك قبل زواجنا
لمس وجنتها برقة .. فابتعدت عنه مشمئزة .. ضحك باستهزاء وهو يقول :- تصبحين على خير يا حبيبتي
تركها وحدها في الشرفة .. فأخذت تشتمه سرا بكل ما تعرفه من كلمات بذيئة .. لا .. لن تبكي .. إن صلاح لا يعرف بأن محاصرته لها كانت تزيدها إصرارا وعنادا .. عادت قناعتها بأن مرض والدها قد يكون مجرد محاولة رخيصة تهدف إلى إقناعها بالزواج من صلاح .. وقد كانت محاولة فاشلة كالعادة .. ثم تذكرت جودي التي تنتظرها في غرفتها على أمل سماع أخبار جيدة .. فتنهدت محاولة إيجاد ما تبرر لها به ما حدث .. ثم عادت أدراجها إلى الداخل .


طرق صلاح باب غرفة عمه ودخل عندما سمع صوته يدعوه للدخول .. نظر إليه عمه بهدوء قائلا :- هل تحدثت معها ؟
جلس صلاح قائلا باقتضاب :- لا فائدة .. إنها لا تزداد إلا عنادا
لم يكن صلاح يتوهم عندما لمح شبح ابتسامة إعجاب تفتر عن شفتي عمه الذي قال بعد لحظات بحزم :- أظنني استنفذت كل وسائلي السلمية في الإقناع .. ألا ترى هذا يا صلاح ؟
أومأ صلاح برأسه موافقا .. شاعرا بالقلق على عمه الذي رفض نصائح الأطباء في تجنيب نفسه التوتر والغضب .. وكل ما يؤدي إليهما
بدا التفكير العميق على الوجه المسن قبل أن يقول :- أظن الوقت قد حان لتنفيذ ما تحدثنا عنه يا صلاح
أسرع صلاح يقول بانزعاج :- الأمر سابق لأوانه .. لقد أكد الطبيب بأنك .....
قاطعه عمه بصرامة :- هل تناقشني يا فتى ؟
أسرع صلاح يقول :- بالتأكيد لا
:- إذن ابدأ بتجهيز الأوراق
أومأ صلاح برأسه مذعنا .. وبالرغم من اعتراضه على المعنى المتشاءم لقرار عمه .. إلا أن شعورا عارما بالانتصار اجتاحه .. فأماني ستكون له في النهاية .. ومهما طال يه الانتظار



:)

ithran sara
2014-06-15, 19:40
الفصل السابع
قطة حمراء

كانت جودي منزعجة حقا في صباح ذلك اليوم الذي افتتح فيه معرض الفنون في الكلية .. فلا احد ممن يهمها أمرهم قد تمكن من الحضور .. فكل من طارق وأماني مشغول بعمله .. ووالدها لم يغادر سريره منذ أسابيع .. حتى ريما لم تكن موجودة اليوم
ولكن ماخفف عنها ..هو الإقبال الشديد من الزوار على المعرض والاعجاب الذي قوبلت به أعمالها التي عرضت في زاوية صغيرة من المعرض
بالرغم من استمتاعها بالإجابة عن أسئلة المشاهدين حول لوحاتها ..إلا أنها لم تلبث أن بدأت تشعر بالضيق والاختناق من شدة الازدحام .. فما كان منها إلا ان كلفت أحد زملائها المشاركين بالمعرض بأخذ مكانها لدقائق .. وغادرت القاعة والمبنى كله وأخذت نفسا عميقا من هواء الصباح البارد .. لماذا عليها أن تغضب من تخلف عائلتها عن الحضور ؟ فهم قد شاهدو بالفعل لوحاتها قبل أن تقدمها للمعرض .. ولكنها رغبت بأن يشهدو النجاح الذي حققته ..
عادت بعد دقائق إلى الداخل .. حيث وجدت زميلها يقف بعيدا ويتحدث مع أحدهم .. فغضبت وهي تنظر إلى زاويتها حيث اجتمع بعض المشاهدين دون وجود من يمثلها .. فاتجهت إليه لتقطع حديثه مع مرافقه قائلة :- ألا أستطيع الاعتماد عليك لدقائق ؟
نظر إليها ثم إلى رفيقه قائلا :- أنا أيضا لدي ما أفعله يا جودي .. كما أنني قد أبليت حسنا .. بعت
إحدى لوحاتك قبل دقائق قليلة .. تلك التي تمثل القطة الحمراء
اتسعت عيناها واستدارت تلقي نظرة سريعة على أحب لوحاتها إليها ..ثم عادت تقول له بسخط :- كيف فعلت هذا ؟ لوحاتي ليست للبيع .. وخاصة تلك اللوحة
:- لم تخبريني بهذا .. على كل حال لم يفت الأوان بعد .. فالمشتري ما يزال واقفا أمامها .. تستطيعين الإعتذار إليه وسحب البيع
تمتمت ببعض الكلمات الغاضبة .. ثم اتجهت نحو الرجل الذي منحها ظهره وانهمك تماما في تأمل لوحاتها .. خففت سرعتها تدريجيا .. ولم تعرف سبب القلق الذي بدأ يتصاعد داخلها مع اقترابها المستمر من الجسد الطويل والنحيل
بدت الجاذبية الخطرة التي فاحت من الكتفين العريضتين المغطاتين بسترة داكنة أنيقة مألوفة .. أدركت بعد فوات الأوان بأنها يجب أن تهرب .. فعندما تعرفت إليه .. كانت قد أصبحت خلفه تماما .. ارتعاشة جسدها الخفيفة أثارت انتباهه بطريقة ما فاستدار ليواجهها وليؤكد لها مخاوفها
ظلت تنظر إليه للحظات طويلة وقد أسرت عيناه عينيها .. تلاشت الجموع من حولها واختفت الأصوات .. جمدتها نظراته مكانها وهي تتفحص كل جزء من وجهها الشاحب .. ثم ملابسها البسيطة والأنيقة .. أحست بقلبها يخفق بعنف حتى خشيت أن يصل صوته إلى مسامع الرجل الواقف أمامها فيشعر بذعرها واضطرابها
حررها أخيرا من قيود نظراته .. وابتسم بهدوئه الواثق قائلا :- كيف حالك يا جودي ؟
سماع صوته ذي النبرة المنخفضة الجذابة أثملها .. لقد ظنت بأنها قد نسيت كيف يستطيع بنظرة أو همسة من أسرها والاستحواذ عليها .. أين شجاعتها وقوتها ؟ أين القرارات العديدة التي اتخذتها بشأنه ؟ والخطط التي وضعتها في حال قابلته مجددا ؟
استيقظت من سباتها وتراجعت خطوة وهي تنظر حولها بتوتر .. ثم سألته بحدة :- ما الذي تفعله هنا ؟
قال ببساطة :- أفي بوعدي .. ألم أخبرك سابقا بأننا سنلتقي قريبا ؟
نعم .. منذ أسبوعين بالضبط .. لقد ظلت تنظر حولها كل يوم منذ خروجها في الصباح وحتى عودتها إلى البيت مساءا خوفا من أن يظهر فجأة .. وهاهي عندما فقدت حذرها وجدته أمامها كما تذكره تماما .. وسيم .. جذاب .. وساحر .. أشار إلى اللوحة ليقطع أفكارها قائلا :- ولكنني لم أخطط لشراء لوحة .. لم أتوقعك بهذه البراعة
قالت بعصبية :- لقد ارتكب زميلي خطئا .. لوحاتي ليست للبيع .. أنا أعرضها فقط
لم تظهر عليه الدهشة .. وهو يعاود النظر إلى اللوحة .. تأملت جانب وجهه الوسيم بقلب خافق .. وفورا اشتعل داخلها حس الفنان .. وأدركت بأن هذه الوجه المثالي قد خلق ليرسم ويوثق .... ويعشق
عند هذه الفكرة الجريئة .. أخفضت رأسها فورا وقد تورد وجهها خشية أن يقرأ أفكارها .. سمعته يقول :- لقد عرفت بأنك ما كنت لتبيعي صورتك الشخصية لأي كان
أحست كمن صفع على وجهه عندما نطق بكلماته .. لقد رأى اللوحة الكثير من الأشخاص ولم يدرك أحدهم بأنها كانت ترمز إلى نفسها بالقطة الممدة بتكاسل فوق مقعد وثير مذهب .. وترفع رأسها لتنظر بعينين حائرتين إلى كل من يتأمل اللوحة
استمر في تأمل اللوحة قائلا :- نفس لون الشعر البني المائل إلى الحمرة .. والعينين الزيتونيتين بنظرتهما القلقة
حتى طارق لم يفهمها إلى هذا الحد .. لقد ابتسم عندما رأى اللوحة معبرا عن جمال القطة وغنجها .. ثم لم يتعب نفسه بإلقاء نظرة ثانية نحوها
تمتمت :- لماذا رغبت في شرائها ؟
اختفت ابتسامته وقال :- أحببت فكرة اقتناء صورة لك... وإن كانت على شكل قطة
تورد وجهها فأشاحت به بعيدا .. ظلا واقفين دون أن يقول أحدهما كلمة .. ارتفع الضجيج مع تزايد الوافدين إلى داخل المعرض .. لم تعرف جودي سبب تجمد ساقيها وعدم قدرتها على التحرك بعيدا عنه فمجرد الوقوف معه خطأ كبير
وإذ بأحدهم يصطدم بها . . فشهقت بقوة عندما وجدت جسدها يندفع تلقائيا نحو غريمها الذي أمسك بكتفيها قبل أن تصطدم بصدره .. تقلصت المسافة بينهما بشدة حتى تمكنت من سماع صوت أنفاسه العنيفة .. فارتعشت بقوة وقد أحست بدفء يديه يتسرب عبر قماش قميصها الرقيق ليصل إلى أعماقها .. مما دفعها لإبعاد نفسها عنه بسرعة قبل أن تفقد أعصابها .. سمعته يقول بخشونة :- لنذهب من هنا
نظرت إليه بذعر قائلة :- لماذا ؟
:- يجب أن نتحدث .. ولا أظن هذا هو المكان المناسب لنقوم بهذا .. لنذهب إلى كافيتريا الكلية
صاحت بحدة :- لا .. ليس إلى هناك
فنصف طلاب الكلية يعرفونها .. ورؤيتها مع شاب غريب وعلامات الارتباك ظاهرة عليها في وسط الكلية كفيلة بإثارة الأقاويل حولها .. وسرعان ما تصل إلى طارق
ولكن هذه المواجهة ستتم عاجلا أم آجلا .. ومن الأفضل أن تتم في مكان تختاره هي
قالت باقتضاب :- سأقابلك بعد نصف ساعة في مقهى أناناس .. هل تعف كيف تصل إليه
تأملها مليا فأحست بـأنه قادر على قراءة أفكارها ومخاوفها .. ثم قال بهدوء :- سأكون في انتظارك هناك
وعندما غادر .. أحست برئتيها تستعيدان القدرة على التنفس مجددا .. استندت إلى الجدار تقاوم الإعياء .. مجرد وجودها معه يسبب لها الإجهاد والتوتر .. هذه علامة واضحة .. أليست كذلك ؟ هذا الرجل خطر عليها .. كل شيء حوله يشير إلى هذا .. كيف ستذهب للقائه في مكان عام وهي لا تعرف عنه أي شيء سوى اسمه ؟ هذا إ‘ذا كان (تمام محفوظ) هو اسمه الحقيقي
أوقفت سيارتها في أحد الشوارع الجانبية القريبة من المقهى المنشود .. وترجلت منها بعد أن تأكدت بأن شعرها الطويل مرتب بعناية .. وأن زينتها المتقنة غير متكلفة .. رتبت قميصها الحريري الأنيق .. ثم سألت نفسها بإحباط عما تفعله .. أما كان من الأسهل عليها أن تتجاهله وترفض لقاءه ؟ سيمل في النهاية ويتوقف عن مطاردتها .. ولكن الفضول الذي قتل القط هو ما جاء بها إلى هنا .. تحتاج إلى أن تعرف المزيد عنه .. من يكون ؟ ماسر كل هذه الثقة بالنفس ؟ ما الذي يريده منها بالضبط ؟.. كانت تعرف بأنها إن استسلمت لهذه النزوة المجنونة فسرعان ما ستقع في النهاية .. فما تفعله الآن يعتبر بجميع المفاهيم خيانة لطارق .. ولكنها وصلت إلى هنا ولا تستطيع التراجع عند هذا الحد
ما إن دخلت إلى المقهى حتى التقت عيناها بعينيه .. كانت تأمل بأن يجلسا في مكان قصي لا يلفت الأنظار .. ولكنه اختار مائدة وقعت في منتصف المكان .. حيث يكونا على مرمى بصر الداخل والخارج .. وحتى المارق من أمام الباب الزجاجي المطل على الشارع
نهض واقفا بأناقة عندما لمحها واقفة عند الباب .. ولكنها أخذت وقتها في تأمله .. لاحظت فجأة كم يبدو مختلفا هذه المرة .. كان مايزال نفس الرجل الذي قابلته قبل أسبوعين .. الرجل الجذاب بلا مبالاته و وثقته بنفسه .. إلا أن ملابسه كانت أكثر أناقة هذه المرة .. اختفى عازف الجيتار البسيط .. وظهر الشاب الساحر اللعوب الذي يعرف تماما تأثيره على النساء
حسمت أمرها وخطت نحوه وقد عزمت على إنهاء الأمر بينهما قبل أن يبدأ .. وعندما لاحظ عبوس وجهها ابتسم .. وكأن توترها يسليه .. وكان لابتسامته تأثيرا خياليا إذ كادت تتعثر في مشيتها وتسقط أمامه
قال برقة :- لم لا تجلسين قليلا قبل أن تبدأي القتال ؟
رفعت حاجبيها بدهشة .. ثم أدركت بأن ملامحها كالعادة لا تستطيع إخفاء مشاعرها .. قال عندما جلست :- هل تشربين شيئا ؟
قالت بفظاظة :- لا .. أريد فقط أن أنهي هذا الأمر
قال ساخرا :- تريدين إنهاء الأمر قبل أن تصل أعين خطيبك إلى هنا .. أليس كذلك ؟
شعرت بانزعاج لقراءته أفكارها .. فسألته مباشرة :- ما الذي تريده مني ؟
نظر إلى عينيها المتمردتين بتمعن وقال بهدوء :- ما الذي تظنين أنني أريده يا جودي ؟
قالت بحدة :- لا أعرف.. ولا أريد أن أعرف . أريدك أن تبتعد عني وتكف عن ملاحقتي أو الاتصال بي
رسم ابتسامة جانبية صغيرة على شفتيه وهو يعلق :- كاذبة
توترت عندما اعتدل ليواجه هجومها قائلا بهدوء :- عندما التقينا ذلك المساء في المطعم .. حصل شيء بيننا .. لا أعرف ما هو .. ولكنني واثق بأنك قد شعرت به مثلي تماما .. أحسست تلك اللحظة بأنني أعرفك منذ سنوات طويلة .. لقد قدر لنا أن نكون معا يا جودي .. وهذا ما سيحصل
أثارت كلماته اضطرابها .. نعم .. لقد أحست بدورها بذلك الرابط الذي جمع بينهما في تلك اللحظات .. ولكن ما يقوله حول القدر .. ومصيرهما بأن يكونا معا مجرد هراء
يخيفها ألا يكون كذلك
قالت بتوتر :- هذا غير صحيح .. أنا حتى لا أعرف عنك شيئا
قال ببساطة :- أما أنا فأعرف عنك ما يكفي .. أنت جودي النجار .. ابنة رجل الأعمال المعروف .. تدرسين اللغة الانجليزية في كلية الآداب .. ورسامة موهوبة
ثم مال رأسه نحوها لينظر في عينيها قائلا :- وبمجرد النظر إلى عينيك يستطيع أي انسان أن يقرأ روحك .. أنت رقيقة .. شفافة .. رومانسية للغاية .. لديك أحلام كبيرة وجامحة تخفينها عن المجتمع المغلق الذي تعيشين فيه
حبست أنفاسها عندما رقت نظرته وهو يقول :- أستطيع تحقيق كل أحلامك يا جودي
أخفضت عينيها لاهثة وهي تشعر بيديها المضمومتين بشدة تعرقان .. سمعت صوته يقول برقة :-
اسأليني فقط .. وسأخبرك بكل ما ترغبين بمعرفته عني
ساد صمت طويل بينهما .. لم يتخلله سوى ضجيج بعض الرواد الشباب المندفعين إلى المقهى طلبا لعض الاسترخاء .. كانت مضطربة .. وكل خلية في جسدها تتجاوب مع كلماته .. وكل ذرة من كيانها تتوق لمعرفة المزيد عنه .. ولكن ما تبقى من رشدها ظل يذكرها بإصرار بأن ما تفعله خطأ .. خطأ كبير .. إنها لاتخون طارق فحسب بأفعالها وأفكارها .. بل تخون والدها الذي منحها ثقته العمياء .. فهي ابنته المفضلة التي ستحقق له جميع أحلامه وستشرفه أمام الناس .. وهاهي تعرض جميع خططه للخطر بالتسكع برفقة عازم جيتار لا يمتلك سوى وسامته وشخصيته المدمرة .. لا .. لن تقع في خطأ أماني الذي دمر جميع أحلامها .. وحطم علاقتها بوالدها إلى الأبد .. ولكنها لم تستطع سوى أن تهمس :- سأتزوج قريبا ب .....
قاطعها بضجر :- بطارق منصور .. أعرف .. ولكن ما أتوق لمعرفته هو إن كنت تحبينه أم لا ..
قالت متوترة :- بالطبع أحبه
:- كاذبة .. أنت لا تحبينه .. بل لا تحملين نحوه أي شيء من العاطفة .. ذلك الرجل لن يسعدك أبدا
قالت بحدة مدافعة عن نفسها :- طارق هو الإنسان المناسب لي
قال ساخرا :- بالتأكيد .. بمفهوم البيع والشراء .. إنه ثري وابن عائلة عريقة .. أخبريني كم دفع لك مهرا مقابل ما سيحصل عليه من متعة بعد الزواج
شهقت بعنف لوقاحة كلماته .. اختطفت حقيبة يدها و هبت واقفة .. فأسرع يمسك بمعصمها قبل أن تتحرك وهو يقول :- لا تتسرعي يا جودي .. قد تقضين حياتك كلها تتساءلين عما خسره كل منا لمجرد أنك تجاهلت قلبك واستمعت لصوت عقلك
اضطربت وهي تنظر إليه من علو .. إلى أصابعه التي التفت حول معصمها بإحكام .. إلى عينيه القاتمتين وملامحه المتوترة .. سرت في جسدها موجة غريبة من العاطفة .. وعرفت بأنها لن تصمد طويلا إذا ظل ينظر إليها بهذه الطريقة .. قالت بصوت أجش :- اترك يدي لو سمحت
التفتت الأنظار نحوهما باهتمام وفضول مما نبه تمام إلى مظهرهما الدرامي .. فنهض واقفا دون أن يتركها .. فانتفض جسدها لإحساسه بجاذبية الجسد الطويل على بعد بوصات عنها .. سحبها إلى خارج المقهى .. حيث خلا الشارع من أعين الفضوليين .. اقترب منها كثيرا هذه المرة فاستنشقت رائحة عطره الغامضة والمثيرة .. ففقدت كل صلابتها وهي تنظر إلى عينيه قال لها بخفوت :- عديني بأنك ستمنحيننا تلك الفرصة يا جودي .. سنلتقي مجددا ونتحدث كأي شاب وفتاة يلتقيان في الظروف الصحيحة ... وسيعرف كل منا الكثير عن الآخر .. عندها ستوقنين بنفسك بأننا قد خلقنا لنكون معا
همست لاهثة:- لا أستطيع أن أعدك
لمس ذقنها الصغيرة وابتسم برقة قائلا :- أما أنا فأعدك بأنك لن تكوني أبدا لرجل آخر
ابتعد عنها قليلا وهو يقول :- أما بالنسبة للوحة فأنا لم أعد أريدها بعد الآن .. لا أظنني سأرضى أبدا بأقل من النموذج الأصلي
بابتسامة واعدة ومغرية .. تركها ومشى مبتعدا
أما هي فقد لاحظت جيدا كيف ارتجف جسدها كرد فعل على كلماته وتلميحاته المتملكة .. هذا الرجل يريدها بأي طريقة كانت .. والمصيبة أن مجرد التفكير بهذا يجعل قلبها يرتعش باستسلام وترقب
احمر وجهها .. وتدفقت دموع الخوف الشديد من اكتشافها مدى ضعفها
وعندما بدأت بجذب المزيد من الأنظار .. قدرت بأن الوقت قد حان كي تهرب إلى ملجأ أمين يحميها من وساوسها .. إلى طارق .


:)

البحث هن العلم
2014-08-20, 22:15
روعة روعة اين بقية القصة

ithran sara
2014-08-22, 18:43
روعة روعة اين بقية القصة



في الطريق اسفة جداااااااا :)

ithran sara
2014-08-22, 18:45
افصل الثامن
غريب أعرفه


قالت سمر مخاطبة أماني :- كيف حال والدك الآن ؟ أما يزال مريضا ؟
تمتمت أماني وهي تسترخي فوق الأريكة الوثيرة التي تصدرت غرفة الجلوس في شقة سمر :- إنه مريض منذ أسابيع .. وحالته تتدهور .. هذا ما تقوله لي جودي فأنا لم أره منذ أمره الطبيب بالتزام فراشه
تأملت سمر وجه أماني الجامد .. وفي كلماتها المقتضبة ككل مرة يتجه فيها الحديث نحو والدها .. وقالت برقة :- ألم يحن الأوان لتتصالحا يا أماني .؟ إنه والدك رغم كل شيء .. أنا متأكدة بأنه راغب باستعادة ابنته البكر بعد كل هذه السنوات من الخصام
ومض الضعف للحظات في عيني أماني ولكنها حافظت على جمود ملامحها وهي تقول :- يريد استعادتي بشروطه .. لذلك يمكن القول بأن أي أمل في المصالحة بيننا ضعيف جدا
تنهدت سمر قائلة :- أنا لا أعرف السبب الحقيقي لشجارك مع والدك .. ولكن خلافكما حول الزواج من ابن عمك يعتبر سببا سخيفا لقطع أواصر الثقة بين والد وابنته .. هل أنت واثقة من عدم قدرتك التامة على تقبل ذلك الرجل كزوج ؟
قالت أماني من بين أسنانها:- باختصار.. أكرهه
:- ألا يمكن أن تكون هذه الكراهية مجرد ستار لمشاعر أخرى مدفونة داخلك ؟ الفاصل بين الحب والكراهية خيط رفيع كما تعلمين
هتفت أماني بعنف:- إن أخبرتك بأن لمسته أو حتى قربه مني يثير الغثيان في نفسي .. هل ستنسبن هذه النظرية السخيفة ؟
تنهدت سمر مجددا بأسف هذه المرة .. كانت رومانسية ميئوس منها .. تثق بأن الحب دائما هو الوسيلة الأنجع لحل كل مشاكل العالم ..بالرغم من بلوغها الثامنة والثلاثين إلا أن الواقع لم يغير من نظرتها تلك شيئا .. ربما كان السبب هو احتفاظ زواجها الذي دام حتى الآن أكثر من خمسة عشر عاما بشعلة الحب الذي جمع يوما بينها عندما كانت مجرد طالبة في الجامعة وبين زوجها الذي كان حينها أستاذا لها
قالت أماني لتغير الموضوع :- كيف حال الدكتور زهير ؟ هل سيعود في وقت قريب ؟
:- ربما في إجازة نصف السنة .. ولكنه يحاول الحصول على إجازة قصيرة يزورنا فيها قريبا
.. قبل سنتين وقع الدكتور زهير عقدا مهما للتدريس في إحدى أرقى جامعات دولة مجاورة .. سافر بينما بقيت زوجته هنا تتابع عملها كمعلمة للغة الإنجليزية .. في الواقع .. لقد تعرفت أماني على سمر قبل سنوات طويلة عندما احتاجت إلى أخذ دروس تقوية في اللغة خلال الثانوية العامة .. ثم خلال دراستها الجامعية .. وبالرغم من فرق السن بينهما إلا أن صداقة قوية تشكلت بينهما أثبتت متانتها مع مرور السنوات .. وفي كل مرة كانت أماني تلجأ فيها إلى سمر بعد شجار مع والدها ... لم تستطع أن تحكي لها كافة مشاكلها ..خاصة تلك المتعلقة بفراس .. أو تفاصيل شجارها مع والدها .. ولكنها استمدت منها الدعم المعنوي والعاطفي الغير محدود .. ربما كان سر علاقتهما المتينة هو تعويض كل منهما للأخرى عما تفتقده .. فسمر عوضت أماني جزئيا عن حنان وصداقة الأم المفقودة .. وأماني منحت سمر شخصا توجه نحوه رعايتها وحبها لتعوض عن فقدانها لنعمة الأمومة
خمسة عسر عاما مرت لم يقدر خلالها للزوجين إنجاب طفل يكمل حياتهما .. فكانا يستمتعان بالاهتمام بكل محتاج أو حزين
أخذتا تتحدثان عن كل شيء باستثناء والد أماني .. أو رئيسها بالعمل .. فقد اعتادت أماني منذ زمن على إخفاء مشاعرها السلبية اتجاهه عن سمر
فمنذ سنوات لم تتردد سمر عندما عرفت بحاجة أماني إلى العمل في التحدث مع ابن أختها لأجلها .. وهكذا حصلت أماني على وظيفتها عند هشام عطار .. وهي ممتنة للغاية لسمر لمنحها هذه الفرصة .. ولن تسبب لها الحزن بالحديث عن بغضها له .. فسمر – ويا للدهشة - متيمة بابن أختها الذي لا يصغرها بأكثر من 3 سنوات .. وكلما فكرت أماني بغرابة أن يحب أي أحد شخصا ببرودة وفظاظة مديرها.. تذكرت المثل الشعبي القديم القائل (القرد في عين أمه غزال )
قطع حديثهما صوت جرس الباب .. فنظرت سمر إلى الساعة المعلقة على الجدار قائلة باستغراب :- موعدي مع طالباتي لن يبدأ قبل ساعة من الآن .. هل جئن مبكرات هذه المرة ؟
اعتذرت من أماني وغابت في ذالك الممر الضيق خارج غرفة الجلوس والمؤدي إلى الباب الخارجي
سمعت صيحة البهجة من سمر وهي تقول :- أهو أنت أيها الشقي ؟ لم أتوقع زيارتك اليوم
أتاها صوت رجولي لم تدرك إلا متأخرة بأنها تعرفه :- لقد أوصاني زوجك بالإكثار من الحملات المفاجئة كي أكشف أي ألاعيب تقومين بها في غيابه .. أنا أنفذ وصيته ليس إلا
:- يوما ما سأقتلك خنقا
:- لا تستطيعين ... فمن غيري قادر على القيام بكل التصليحات والأعمال الشاقة التي تكلفينني بها في غياب زوجك
قالت متظاهرة بالهزيمة :- لقد غلبتني .. سأبقي على حياتك لبعض الوقت حتى أجد لك بديلا
ارتجف قلب أماني ووقفت باضطراب مدركة بأن مديرها الجاف والمتغطرس هو نفسه صاحب الصوت المرح والدافئ الذي يداعب سمر برقة.. ما الذي يفعله هنا ؟ لم تكن مستعدة للقائه خارج نطاق العمل.. شعرت وكأنها قد تعرضت للخيانة بوضعها في هذا الموقف البغيض
سمعت سمر تقول :- لدي ضيوف في الواقع .. لا .. لست مضطرا للرحيل .. فأنت تعرفها جيدا
توترت أماني وتحفزت كل حواسها عندما دخل مديرها متجاوزا مدخل الغرفة بقامته الطويلة المهيبة .. بدت سمر إلى جانبه قصيرة جدا عندما أحاطها بذراعه وقال مداعبا:- هل نقص وزنك أم أنني أتوهم ؟
قالت ضاحكة :- بل تتملقني كي أطعمك شيئا .. أنا أعرف ألاعيبك
اختفت ابتسامته عندما وقع بصره على أماني التي وقفت متوترة في الجانب الآخر من الغرفة .. لمحت اهتزازا طفيفا في عينيه وكأن رؤيتها المفاجأة قد مست شيئا من دفاعاته.. عرفت بأنه يشعر بالانزعاج مثلها تماما .. وأن هذا اللقاء غير المتوقع خارج جدران المكتب لم يكن مرغوبا به على الإطلاق
لاحظت سمر التوتر الذي ملأ جو الغرفة .. فنقلت بصرها بينهما بحيرة قائلة :- ما الأمر يا هشام ؟ أنت تعرف هذه المرأة .. أليس كذلك ؟ إنها تعمل لديك منذ.......
قاطع بهدوء تعريفها الساخر الذي حاولت به إزالة التوتر وقال :- أنا أعرف تماما من تكون
تأملها بهدوء من رأسها إلى أخمص قدميها مما أشعرها بالانزعاج .. هاهو يتبع طريقته المعتادة في بث التوتر والقلق في نفس من يقف أمامه .. بالتقليل المبطن من شأنه
سألها أخيرا :- كيف حالك يا أماني ؟.
هنا تعرفت أماني على الشخصية الجديدة لمديرها الغامض .. الرجل الدبلوماسي الهادئ .. المختلف عن المدير الصارم وابن الأخت الحنون .. تمتمت بفتور :- بخير
قالت سمر ببشاشة :- هيا اجلسا وتحدثا قليلا حتى أعد بعض القهوة .. ولكن إياكما والحديث عن العمل
تركتهما بسرعة قبل أن يعترض أحدهما . جلست أماني متصلبة بينما جلس هو أمامها مباشرة
هذه المرة لم يكن يرتدي بذلة أنيقة .. وربطة عنق ملائمة كالعادة .. بل قميص أسود بسيط وسروال أسود أظهرت تفصيلته الأنيقة طول ساقيه .. وفوقهما ارتدى معطفه الطويل المصنوع من الصوف الثقيل فلم يفقد هيبته المعتادة .. فكرت أماني بأنها لا يمكن أن تتخيله فاقدا لوقاره في أي وضع كان .. حتى عندما كان يداعب سمر بكلماته الرقيقة كان كأخ أكبر يمازح أخته الصغرى بتسامح
لم تستطع تقبل هذه الصورة التي لم تتفق أبدا مع رأيها المسبق به .. شعرت بالانزعاج لاضطرابها المفاجئ .. فلأول مرة منذ عملت لديه .. تنظر إليه لتكتشف بأنه يمتلك وجها وسيما .. عند هذه النقطة .. أحست بأنه يتأملها بنفس الاهتمام .. فأبعدت عينيها بضيق تتأمل محتويات الشقة التي تعرفها جيدا .. الأثاث البسيط المريح .. والديكور الحميم .. لم تكن هذه المرة الأولى التي تنفرد فيها مع مديرها في مكان واحد .. فهي تواجه هذا الموقف دائما في العمل .. ولكنها تكون مستعدة له باستمرار تأتي من البيت مشحونة بطاقة عدائية تساعدها في تحدي طباعه الصعبة .. ومتسلحة بأناقتها الشديدة التي تكلفها جزءا كبيرا من راتبها كل شهر .. ولكنه أخذها هذه المرة على حين غرة..فشعرت وكأنها عارية من القوة والعزيمة بملابسها البسيطة والعادية .. سروال من الجينز .. قميص فضفاض مقفل بياقة مثلثة .. لم تعرف أبدا بأنه كان مأخوذا بدوره بمظهرها الجديد البسيط .. البعيد عن مظهر الموظفة الباردة المتأنقة بتكلف التي يراها كل يوم في العمل
عندما تجرأت على النظر إليه مجددا .. لاحظت مذعورة بأن عينيه استقرتا فوق آثار الجرح الواضحة إلى جانب وجهها.. تذكرت بأنها خلافا لعادتها في حضور الغرباء كانت ترفع شعرها هذه المرة على شكل ذيل حصان
قفزت واقفة غريزيا .. وابتعدت وهي تحرر شعرها بيد مرتجفة ليسقط بموجات شقراء وكثيفة حول وجهها ..
قال أخيرا ليقطع الصمت الذي طال بينهما:- كيف حال والدك ؟ سمعت بأنه مريض
لم تستغرب هذا .. فوالدها اسم كبير وقديم في عالم المال .. وأخباره تصل بسرعة غير معقولة إلى جميع أفراد الوسط .. في الواقع .. لقد سبق وقابل والدها مديرها الشاب عدة مرات في مناسبات عمل بحتة .. لم يستطع إنكار ذكائه وعبقريته الفذة كرجل أعمال شاب بدأ من الصفر .. ولكنه أبدى امتعاضه من أمثاله ذوي الأصل المتواضع الذين تطفلوا على الطبقة الرفيعة .. وشكك كثيرا في شرعية معاملاته مستندا بشكوكه إلى الشائعات التي لطالما طالت هشام عطار حول والده
لقد سمعت أماني بعض الموظفين يتحدثون عن هرب والده قبل سنوات طويلة إلى خارج البلاد حاملا معه أموال شركاءه التي قدرت بالملايين .. ولم يسمع أحدهم عنه شيئا منذ ذلك الحين .. حتى عائلته نفسها .
وتحدث بعضهم عن أن كل هذه الشركات الناجحة التي أسسها هشام من العدم هي ثمرة تلك الأموال المنهوبة
ولكن أماني لم تستطع تصديق الشائعات .. على الأقل مزاعم والها بأن هشام هو سر أبيه .. فخلال عملها معه ..
أحست بانه رغم جميع صفاته السلبية .. رجل شريف
كذبت مجيبة عن سؤاله :- إنه بخير ويتحسن باستمرار
ضيق عينيه .. وهو ينظر إليها حيث وقفت على بعد أمتار عنه وقال :- ليس هذا ما سمعته من مصادري
زفرت بضيق من إصراره على إزعاجها :- أنت محق .. إنه مريض جدا وحالته تزداد سوءا
قال بجفاف :- تبدين منزعجة لمرضه الطويل .. وغير حزينة على الإطلاق .. ما الأمر ؟ هل تستعجلين الحصول على ميراثك ؟
شهقت بذهول لاتهامه المنافي للذوق .. واتسعت عيناها فظهر لونهما الأخضر المشتعل غضبا .. وقالت بصوت مرتجف من فرط الانفعال :- كيف تجرؤ على توجيه اتهام كهذا لي ؟
أرجع ظهره إلى الخلف مسترخيا فوق الأريكة .. ومد ساقيه الطويلتين ليقاطعهما أمامه .. وقال غير مبال بغضبها :- هذا ما علمني إياه التعامل مع أمثالك ممن ولدوا أثرياء ..إذ بدلا من الاكتفاء بما لديهم يزداد جوعهم وطمعهم بالمزيد .. لا أقصد الإهانة .. ولكنك تبدين لي من هذا النوع
ساد صوت لم يتخلله سوى صوت أنفاسها العنيفة المثقلة بالغضب .. وهو كان يراقبها ملاحظا أقل رد فعل منها وكأنه يختبرها قالت ببرود :- ربما عليك أن تعرفني جيدا قبل أن تصدر أحكامك
قال باستهتار :- لا أظنني مهتم بمعرفة أي شيء عنك
لا مبالاته القاسية ورأيه السيئ بها جعلاها تحس بالألم يوخز قلبها ولم تعرف السبب .. لماذا تهتم برأيه ؟ إنه يكرهها ويحتقرها كما تكرهه بالضبط .. رفعت رأسها بكبرياء قائلة :- في الواقع ليس من شأنك أن تعرف أي شيء عني خارج العمل .. إن كنت تظنني متلهفة إلى هذا الحد للحصول على ميراثي فأنت تعرف بالتأكيد بأن السبب سيكون رغبتي الشديدة بترك العمل لديك
هز كتفيه العريضتين قائلا ببساطة :- لم لا تتركينه مادمت تكرهينه إلى هذا الحد ؟
لاحظ توترها فقال :- لا .. لا أظنك تتركينه . ليس الآن على الأقل .. أنت لست بحاجة إلى العمل ولكنك كأي طفلة مدللة تحاولين إثبات نفعك في أي شيء آخر غير إنفاق المال.. أو ربما تحاولين قتل الفراغ الذي يملأ حياتك وقلبك قبل أن يؤدي بك إلى الانتحار
هتفت بانفعال وقد فقدت أعصابها:- ستكون مسرورا بالتأكيد إن أنا قتلت نفسي.. ستتخلص مني حينها دون مشاكل ولن تضطر لرؤيتي بعدها أبدا
مط شفتيه قائلا:- وجودك لا يمثل أي مشكلة بالنسبة إلي يا أماني.. وإلا لطردتك منذ سنوات.. وأنت تعرفين هذا
قالت بشراسة وقد غمرتها رغبة عارمة في محو الابتسامة المزهوة عن شفتيه:- أنا أعرف تماما ما هي مشكلتك..أنت كغيرك من محدثي النعمة تكاد تأكلك عقدة النقص والحقد اتجاه غيرك ممن لم يفتقروا يوما إلى المال أو الاسم النظيف.. لذلك تسعى أكثر فأكثر إلى جمع المزيد من المال كي تعوض ما تفتقر إليه من قيمة وأصل.. ولتذل غيرك ممن امتلكه دون جهد
لقد تمادت .. لقد تمادت حقا هذه المرة في إهانته..وخاصة عندما لمحت إلى اسم والده الملوث .. إذ هب واقفا فتقلصت الغرفة فجأة عندما ملأها بجسده الضخم .. وارتسم تعبير بشع على وجهه واشتعل الغضب كنيران سوداء في عينيه القاتمتين .. مما جعلها تنكمش وتتراجع إلى الخلف بتوتر.. قطع المسافة بينهما بخطوتين واسعتين .. وأمسك بذراعيها قبل حتى أن تفكر بالفرار.. فأحست بالألم عندما انغرست أصابعه القاسية في بشرتها وانتابها ذعر شديد عندما أدركت خطورة موقفها .. وقع بصرها على فمه القاسي وهو يقول:- أنت فتاة وقحة ولعينة .. وستندمين يوما على ما قلته
أمسك وجهها بإحدى يديه الكبيرتين وأجبرها على النظر إلى عينيه فاختفت كل شجاعتها.. وشعرت كالعصفور الصغير الذي علق في المصيدة .. قال بصوت جمد الدماء في عروقها :- ولسانك هذا .. أعدك بأنني سأعقده يوما .. ولن يتفوه بعدها إلا بما أريد
شحب وجهها وانهالت الذكريات فوق رأسها بقسوة .. فارتسم الذعر في عينيها .. وانتفض جسدها بين يديه بعنف جعل وجهه يرتد إلى الخلف مذهولا بالخوف الهستيري الذي ظهر على ملامحها وفي عينيها المتسعتين .. فاختفت قسوته خلال لحظة واحدة .. وأطل القلق من عينيه وهو يقول :- ما الذي حدث لك ؟ هل أنت بخير ؟
فتحت فمها .. وبدت الكلمات وكأنها عاجزة عن تجاوز شفتيها المرتعشتين .. ولكنها تمكنت أخيرا من أن تهمس بصوت مرتجف :- اتركني ... أرجوك لا تؤذني
شحب وجهه .. وتركها مبتعدا وكأنها تحمل وباءا خطيرا .. فاستندت إلى الجدار تحاول التقاط أنفاسها .. وتقاوم الدموع التي جاهدت لتتجاوز مقلتيها
دخلت سمر في تلك اللحظة إلى الغرفة حاملة الصينية التي فاحت منها رائحة القهوة الزكية .. وتجمدت عندما لاحظت الوضع الغير عادي بين ضيفيها
نقلت بصرها بينهما قائلة بقلق:- ما الذي حدث ؟ هل أنت بخير يا أماني ؟
استعادت أماني شيئا من هدوئها وعزيمتها وتمتمت :- نعم .. أنا بخير ولكن يجب أن أذهب ..
تناولت حقيبتها ومعطفها .. بينما وقف هشام حيث هو.. يراقبها بجمود .. قالت سمر :- لا يمكنك الرحيل الآن .. ماذا عن القهوة ؟
:- سأشربها في يوم آخر .. إلى اللقاء
ودعتها بسرعة ثم اختفت خارجة من الشقة.. نظر الاثنان في إثرها لعدة لحظات قبل أن تستدير سمر نحو هشام قائلة بحدة :- هل لي أن أعرف بما حدث لتوه بينكما ؟
صمت للحظات طويلة ثم قال بجفاف :- فلتحل علي اللعنة إن كنت أعرف

ithran sara
2014-08-22, 18:46
الفصل التاسع
أسد مريض

عندما دخلت جودي على والدها في غرفة نومه وجدته ممددا فوق سريره يحمل بين يديه مجموعة كبيرة من الأوراق .. منهمك في قراءتها .. قال مؤنبة :- ألم ينهك الطبيب عن العمل ؟
رفع رأسه وأشرق وجهه الشاحب لرؤيتها .. ابتسم وهو يزيح الأوراق جانبا .. وينزع نظاراته السميكة قائلا :- أنا لا أعمل بل أقرأ بعض التقارير فحسب
وضعت صينية العشاء التي تحملها فوق منضدة صغيرة تجاور السرير قائلة :- ظننت بأن وجود صلاح في العمل كاف كي تريح عقلك قليلا من مشاكله
:- هذا صحيح .. ولكن حتى صلاح يحتاج أحيانا إلى الإرشاد
جلست إلى جانبه على طرف السرير قائلة :- أخبرتني الخادمة بأنك لم تتناول شيئا يذكر على الغداء .. لذلك قررت أن أطعمك بنفسي هذه المرة لأتأكد بأنك قد أكلت ما يكفي
ضحك.. ثم أتبع ضحكه بسعال متعب .. ثم قال بشحوب :- تجعلينني أنسى أحيانا من هو الوالد بيننا
نظرت إلى وجهه الشاحب بحزن وإشفاق .. من الصعب عليها أن تتخيل والدها القوي والصارم مريضا .. لاحظت نظراته إليها والمشبعة بالمحبة .. فتحرك قلبها على الفور بالعاطفة .. قال بحنان :- أنت تشبهينها كثيرا .. بجمالها ورقتها وحنانها
ابتسمت بسرور سعيدة لشبهها الكبير بأمها والذي أكسبها حب والدها المضاعف .. أحيانا كانت تشعر بالذنب لرضاها عن كونها طفلته المدللة .. في الوقت الذي ساءت فيه علاقته بأماني إلى أبعد حد .. قالت لتخفف من شعورها بالذنب :- أماني تشبهها أيضا
قال بهدوء :- لا.. أماني تشبهني أنا .. تشبهني تماما
عرفت بأنه لم يقصد الشكل الخارجي .. لم تتبين شعوره الحقيقي وهو يتكلم عن أماني إذ كان وجهه مغلقا لا تعبير فيه فقالت محاولة تليين قلبه :- إنها تعاني حقا لشجاركما يا أبي .. ألم يحن الوقت لتتصالحا ؟ لا تحاول الإنكار فأنت تريد هذا أيضا
صمت لدقائق طويلة ثم قال:- أصدقيني القول يا جودي .. هل تعتقدين بأن صلاح ليس جيد بما يكفي لها ؟
ترددت في الإجابة .. أرادت أن تدعم أماني والرد بالإيجاب.. ولكنها لم تستطع الكذب على والدها فقالت مستسلمة :- لا
لطالما أحبت صلاح كأخ أكبر لها .. لطالما أحبها هو واهتم بها ودللها في صغرها .. وهو الآن في نظرها رجل وسيم وصالح .. وليس هناك ما يعيبه سوى المشكلة التي حصلت بينه وبين أماني قبل سنوات
هي أيضا لم تتقبل ما حدث .. ولم تسامحه حينها .. ولكن مشاعره نحو أماني ورفض الأخيرة القاطع له .. يمنحه بعض العذر لأي تصرف متهور من جانبه
قال والدها :- إذن ستساعدينني في إقناعها به
قالت بحذر :- لقد حاولت مرارا من قبل دون فائدة .. هل هناك ما يدور في رأسك ؟ هل تفكر بإرغامها على الزواج بالقوة ؟
دخل صلاح في تلك اللحظة بعد أن طرق الباب .. كان ممسكا بمجموعة أوراق نوى كما يبدو إطلاع عمه عليها .. ولكنه تردد عندما رأى جودي .. حياها بلطف ثم جلس على كرسي قريب بينما أجاب والدها على سؤالها :- أماني فتاة بالغة وراشدة .. ولا أحد يستطيع إرغامها على فعل ما تريده .. هل جهزت الأوراق كما طلبت منك يا صلاح ؟
أومأ صلاح برأسه .. بينما تابع والدها حديثه معها :- ولكن إن كانت قد أخذت مني ذكائي كما أرجو .فكل شيء سيكون على ما يرام. بعد محاولتي القادمة والأخيرة لإقناعها بصالحها
أشار إلى صلاح ليعطيه الأوراق ثم قال بجدية :- سيأخذك ابن عمك صباح الغد إلى السجل العقاري .. هناك بعض الأوراق لتي سيطلب منك توقيعها
قالت بقلق :- ماذا تنوي أن تفعل ؟
:- أنت تثقين بي أليس كذلك ؟ لا تشغلي إذن عقلك الصغير .. كل ما أطلبه منك هو ألا تذكري حرفا واحدا عما يحدث لشقيقتك
ارتجفت مع أنها لم تفهم ما يحدث فعلا . وقالت بخفوت :- أبي .. إنها ابنتك أيضا .. لا تؤذها
لمحت للحظة وميض عاطفة مر عابرا خلال عينيه .. فأخفضهما فورا وهو يقول :- لا تقلقي .. أنا أريد مصلحتها فقط .. اتركيني مع صلاح قليلا هناك ما سأناقشه معه
تركت الغرفة بصمت مغلقة الباب خلفها بهدوء . لم تعرف سبب كل هذا القلق الذي شعرت به .. فتمنت لو أن غريزتها كانت مخطئة وأن ينتهي كل شيء على خير



حدقت أماني في السقف طويلا وهي ممددة على سريرها بكامل ملابسها منذ عودتها من بيت سمر .. كانت غاضبة من نفسها لتصرفها الأحمق أمام هشام عطار .. لم تكن تلك المرة الأولى التي يتشاجر فيها معها أو حتى يهددها .. لقد اعتادت على مواجهته بثبات وبرود دون أن تتأثر .. أما هذه المرة فقد تصرفت كالبلهاء .. كيف ستواجهه صباح الغد في الشركة
تكومت على جانبها وهي تضم ركبتيها إلى صدرها شاعرة بالخزي .. إنها تعرف تماما سبب تصرفها .. لقد زرع صلاح داخلها خوفا أبديا من الرجال .. وعندما اقترب منها السيد هشام وأمسكها لأول مرة .. أحست برعب كاد يفقدها الوعي.. وقد تذكرت كل المرات التي اقترب فيها صلاح منها إلى هذا الحد ... وأكثر
أغمضت عينيها وهي تشعر بالغضب والإحباط والقلق .. لقد دمر صلاح علاقتها بجنس الرجال إلى الأبد .. عرفت بأنها لن تسمح لرجل أن يلمسها ما حييت وهذا يعني أن أملها بإيجاد الحب الحقيقي والزواج قد اختفى تماما
تجددت كراهيتها لصلاح بقوة .. لن تكون له أبدا .. ولا لغيره
ثم تذكرت ردة فعل مديرها على نوبة الذعر التي اجتاحتها أمامه .. لقد بدا مصدوما وقلقا .. وسألها باهتمام عما أصابها وكأن رجلا آخر زرع الرعب داخلها .. لقد أبدى قلقا ناقض بشدة تصرفاته الفظة معها وتهديده لها .. هشام عطار رجل غريب وغامض .. ولا تظن بأن أحدا قادر على فهمه في يوم من الأيام .. تذكرت معاملته الحنون لسمر . لقد اكتشفت لحظتها بأنه رجل رقيق عندما يرغب وهو ما ظنته مستحيل تماما .. ولكنها أيضا تجلب لنفسها معاملته السيئة بعنادها وتصرفاتها الوقحة .. وهذا اليوم أهانته متعمدة بعد أن فقدت صبرها وأعصابها .. لطالما كانت هذه مشكلتها .. عندما تغضب فإن لسانها المتهور ينطق بالكلام دون تفكير أو رادع غير مهتم بالعواقب
ارتفعت طرقات على باب غرفتها فاعتدلت جالسة وهي تصيح :- تفضل
دخلت جودي وأقفلت الباب ورائها قائلة :- ظننتك نائمة عندما لم تنزلي لتناول العشاء معنا
قالت أماني بامتعاض:-هل تمزحين ؟ لن أتناول الطعام مع صلاح على مائدة واحدة ولو مت جوعا
جلست جودي إلى جانبها فوق السرير قائلة برجاء:- أماني .. أتوسل إليك أن تتحاشي الشر .. فكري بتعقل .. صلاح ليس سيئا .. إنه يحبك ويريدك وأنا متأكدة بأنه سوف يسعدك
نظرت إليها أماني بحدة ثم نهضت مبتعدة عنها وهي تقول:- هذه نغمة جديدة .. هل تحدثت إلى والدك حولي مؤخرا ؟
قالت جودي محاولة إقناعها :- كل ما يريده هو حمايتك .. إنه يحبك فأنت ابنته البكر .. ولن يفكر بإيذائك ..لو ظن للحظة بأن صلاح رجل سيء لما أصر على زواجك منه
تأملتها أماني بنظرات ثاقبة وهي تقول :- ألن تخبريني بما يقلقك ؟
زفرت جودي وهي تشيح بوجهها بعيدا .. لقد وعدت أباها بألا تخبر أماني بشيء .. ماذا عليها أن تفعل لإقناعها ؟
قالت أخيرا :- لقد رأيته اليوم .. إنه شاحب جدا ومريض .. وحالته تزداد سوءا لا أحتمل رؤيته هكذا .. مجرد التفكير بحدوث أي مكروه له .....
لم تستطع إتمام كلماتها .. فقد خنقتها الدموع ووجدت نفسها تشهق باكية بصمت
ترقرقت دموع أماني وأحست بألمها يكبر ويكبر .. وبالثقل الذي تحمله فوق ظهرها يزداد وزنا
قال بصوت أجش :- أنا مستعدة للموت من أجله .. ولكن ليس للزواج من صلاح .. لا أستطيع ياجودي .. لا أستطيع
نظرت جودي إلى أختها من بين دموعها وقد لاحظت صوتها المتهدج .. عرفت بأنها قد قامت بأقصى ما تستطيع فعله لإقناع أماني .. ولكنها وعدت نفسها بألا تتخلى أبدا عنها
في النهاية .. لن يبقى لإحداهما إلا الأخرى



الفصل العاشر
بلا أب

توفي محمود النجار في منتصف شهر ديسمبر .. في ليلة مظلمة غزيرة الأمطار .. حدث الأمر فجأة بدون مقدمات .. دخلت جودي إليه بالعشاء كالعادة لتجده قد فارق الحياة.. بهدوء وصمت .. فوق سريره العريض
حدث كل شيء بسرعة لم يستوعبها أحد من أفراد العائلة .. وسرعان ما امتلأ البيت الكبير بالمعزيين .. كان لدى الفقيد الكثير من المعارف وشركاء العمل .. لذلك لم تتوقف الحشود طوال 3 أيام كاملة
اجتمع الرجال في الطابق الأرضي حيث دوى صوت الشيخ يصدح بآيات قرآنية خاشعة .
وصعدت النساء إلى الطابق الأعلى لدعم الفتاتين التين باتتا يتيمتين .. ولم يعد لهما فعلا سوى صلاح الذي تولى الأمور كلها برباطة جأش .. ونظم كل شؤون الجنازة بما يليق بأحد كبار الشخصيات في المدينة
جودي كانت منهارة تماما .. بدت وكأنها لاتشعر أبدا بالنساء المجتمعات حولها .. واللاتي أخذن يحاولن التخفيف عنها دون جدوى .. أحيانا كانت تنشج باكية بصخب .. ثم تركن إلى الصمت مكتفية بذرف الدموع .. كان عثورها على والدها ميتا فوق سريره كثير عليها .. أما أماني فقد كانت أكثر تماسكا .. قامت بدورها كمضيفة على أكمل وجه . بالرغم من أن المقربات من الضيوف بالإضافة إلى الخادمتين اللتين تعملان في المنزل قمن بالمساعدة .. لم تبك .. ولم يظهر وجهها الشاحب والجامد أي شيء من مشاعرها .. تمكنت من تلقي العزاء برزانة والإجابة على استفسارات الضيوف .. حضرت بعض زميلاتها في العمل .. وسمر أيضا كانت هناك برفقة امرأة أكبر سنا لم تتعرف أماني على هويتها
كل شيء كان يسير بهدوء ونظام حتى توقفت أماني عند باب المطبخ وقد سمعت اسمها ضمن حديث جانبي بين سيدتين من الضيوف :- هل رأيت تصرفاتها ؟ لم تذرف دمعة واحدة على وفاة والدها
:- لقد سمعت بأنهما بالكاد كانا يتكلمان معا في السنوات الأخيرة .. وأثناء مرضه لم تكلف نفسها عناء الاطمئنان عليه .. هذا ما سمعت الخادمة تقوله قبل قليل
:- هل تصدقين وجود شخص بمثل تحجر قلبها .. تلك الابنة العاقة .. لا أتمنى لأي أب أن يحظى بإبنة مثلها
:- إنها لا تشبه أختها أبدا .. جودي أشبه بالملاك .. من المؤسف أن يموت والدها قبل أن يحضر زفافها
لم تنتظر أماني لتسمع المزيد .. إذ تحركت مبتعدة فوجدت نفسها أمام ضيفة أخرى قالت لها بحيرة :- لقد وجدت هذه ملقاة جانبا في إحدى الغرف يا أماني .. أين تريدين مني وضعها ؟
شحب وجه أماني لرؤية تلك العصا السوداء الثقيلة ذات الرأس الذهبية .. تراجعت وهي تقول بصوت متقطع :- لا أعرف ..ارمها .. أو احتفظي بها إن شئت
وقبل ان تسمع المزيد أو يعترض طريقها شخص آخر .. تسللت إلى خارج البيت بهدوء شديد دون أن تثير انتباه أحد .. استقلت سيارتها .. وقادتها لفترة طويلة لم تحسبها عبر طرقات المدينة
.. ثم عادت أخيرا لتوقفها في زاوية بعيدة عن المنزل .. ولكنها قريبة بما يكفي كي تعرف بأنه قد خلا من الضيوف .. عندها لم تستطع تمالك نفسها .. وانهمرت دموعها غزيرة .. كتمت نشيجها بيدها وتركت ألمها وحزنها يخرجان أخيرا .. لقد توفي والدها .. الرجل الذي كرهته وأحبته في آن واحد .. لقد مات غاضبا منها دون أن تتحدث إليه لآخر مرة أو تودعه .. وهي الملومة على هذا .. لقد حسرته مقابل ألا تخسر حياتها وكرامتها .. فهل كان الأمر يستحق منها هذه التضحية ؟
مسحت دموعها بعد مرور دقائق طويلة .. واستعادت هدوءها .. ثم قررت العودة إلى المنزل ومتابعة القيام بواجباتها .. وتواجه مستقبلها الذي دفعت ثمنه غاليا جدا ...






:- جودي
رفعت جودي عينيها نحو خطيبها الذي جلس إلى جوارها على الأريكة في غرفة الجلوس محاولا جذب انتباهها .. قال برقة :- إلى متى ستظلين غارقة في الحزن يا عزيزتي ؟ لقد مر أسبوعان على وفاة والدك .. وستبدأ امتحانات نصف السنة بعد يومين ولم تبدي أي استعداد لها
هزت رأسها فتأرجح شعرها الكثيف حول وجهها الحزين وقالت :- لا أستطيع أن أدرس .. مازلت غير قادرة على استيعاب وفاته .. وأن كل شيء سيعود كما كان باستثناء وجوده معنا
تنهد قائلا :- أنا أفهمك جيدا يا حبيبتي .. ولكن الحياة يجب أن تستمر .. فكري بالأمر من جانب آخر .. إن لم تبذلي جهدا في دراستك .. سيتأخر تخرجك .. وبالتالي زفافنا
وقفت قائلة بغضب مفاجئ :- كيف تستطيع التفكير في الزفاف ولم تمض على وفاة أبي أسابيع ؟
قال بانزعاج :- كنت أحاول إلهائك فحسب
:- طريقتك هذه فاشلة تماما .. فآخر ما أفكر به الآن هو الزفاف .. وقد لا أفكر به قبل فترة طويلة
نهض قائلا بحدة :- ما الذي يعنيه هذا ؟
هتفت به بعناد :- ما فهمته تماما
أخد نفسا عميقا ليضبط به أعصابه وقال:- جودي .. أنا أعرف بأنك لا تعنين حقا ما تقولينه .. أنت حزينة ومجروحة .. وأنا أفهم مشاعرك تماما
صاحت بعنف :- لا تدعي بانك تفهمني لأنك لا تفعل .. ولا أظنك ستفعل يوما
نظر إليها ببرود شديد وقال كاتما غضبه :- من حسن حظك أنني أتمتع بالحلم والصبر .. من الأفضل أن أتركك كي تهدئي وتفكري بتصرفاتك .. وإلا نفذ مني هذا الصبر.. ودفعتني لقول ما أندم عليه
وأثناء توجهه نحو الباب فوجئ بأماني تقف أمامه وعلى وجهها ذلك البرود المعتاد الذي تقابله به في كل مرة .. حياها باختصار جاف .. وردت عليه بهزة من رأسها .. وعندما رحل .. نظرت أماني مطولا نحو أختها ثم قالت بهدوء :- أكره أن أقول هذا ولكنني أتفق مع خطيبك هذه المرة يا جودي
قالت جودي بعصبية :- ماذا تقصدين ؟
اقتربت منها أماني قائلة :- أقصد أنك على بعد خطوة من التخرج .. ومن المؤسف أن تتخاذلي في دراستك وقد وصلت إلى هذا الحد
هزت جوي رأسها بيأس .. وجلست من جديد قائلة :- لقد حاولت يا أماني ولكنني لم أستطع .. عقلي عاجز عن استيعاب الكلمات .. أرى صورة أبي وهو ميت في كل صفحة من صفحات كتبي
تنهدت أماني قائلة :- هذا طبيعي .. ولكن ليس من الصحي أن يستمر يا جودي .. أنت ......
قاطعتها جودي بشراسة :- لا تدعي فهمي أنت الأخرى .. حتى أنك لم تحزني لموته .. لقد عدت إلى عملك فورا وبكل بساطة وكأن شيئا لم يحدث .. لسنا كلنا متحجري القلب مثلك
عرفت جودي بأنها قد جرحت أختها بكلماتها القاسية .من خلال الشحوب الذي كسا وجهها والألم الذي ارتسم في عينيها .. ولكنها لم تستطع سحبها .. فقفزت تاركة إياها في الصالة وخرجت إلى حديقة المنزل
نظرت أماني في إثرها بجمود .. لماذا عليها أن تلوما على حزنها ؟.. لطالما كانت ابنة والدها المدللة وعندما مات .. مات راضيا عنها على الأقل .. وليس نابذا لها كما الحال مع أماني
جودي لا تعرف بان هذا يضاعف من إحساسها بالحزن والخسارة.. ولكنها محقة .. لم تظهر أماني أي دليل على مشاعرها .. ربما يجب أن تكون أكثر تفهما مع أختها وإلا وضعتها في خانة واحدة مع ذلك المتأنق المتكلف الذي ترتدي خاتمه
لحقت بجودي إلى الحديقة فلسعتها برودة الجو .. وقبل أن تصل على أختها .. تراجعت و أخفت نفسها خلف إحدى الشجيرات عندما لمحت صلاح يجلس برفقة جودي فوق احد المقاعد الخشبية المزدوجة .. أرادت أن تنسحب ولكنها تسمرت مكانها عندما سمعت كلمات صلاح الرقيقة لجودي : - لقد توفي بالفعل .. ولم يعد موجودا بيننا .. ولكنني مازلت أشعر به .. أكاد أسمع صوته يناديني كالعادة ليستجوبني في أمور العمل ويوبخني على تقصيري
تمتمت جودي بمرارة :- أتمنى لو أنني أشعر بالمثل .. البيت فارغ تماما وخالي من دونه .. أحيانا أدخل إلى غرفته على أمل أن يكون الأسبوعان السابقان مجرد كابوس مرعب سأستيقظ منه فور أن أراه ممدد فوق سريره يقرأ أوراقه
تنهد صلاح وظل صامتا للحظات طويلة قبل أن يقول :- لو أنك دخلت إلى تلك الغرفة ووجدته هناك .. كيف تظنين رأيه سيكون بإهمالك لدراستك
قالت باكتئاب :- كان ليغضب بالتأكيد
:- لنعقد اتفاقا إذن .. لن ندخل إلى تلك الغرفة مجددا .. وسنتخيل والدك هناك ممددا فوق سريره يرتاح وقد أمرنا بعدم إزعاجه مهما كان السبب .. أنا سأستمر في العمل جاهدا خشية توبيخه لي على التقصير .. وأنت ستدرسين وتؤدين امتحانك كي لا تخيبي أمله .. ما رأيك ؟
فكرت للحظات ثم تمتمت :- يبدو لي هذا الترتيب جيدا
قال لها بحزم رقيق :- ما الذي تنتظرينه إذن .. اذهبي إلى غرفتك وابدئي الدراسة على الفور
ترقرقت الدموع في عيني أماني بحزن .. لقد نجح صلاح فيما فشلت به هي أو طارق مع جودي
إنه قاتدر على أن يكون شخصا رقيقا وحساسا عندما يرغب .. ولكن ليس معها .. ثم انقلب حزنها إلى غضب شديد .. هاهو يسلب جودي منها كما سلب منها والدها من قبل
بطريقة ما .. بدأ إحساس ثقيل بالوحدة يسيطر على روح أماني
الوحدة الشديدة

ithran sara
2014-08-22, 18:46
الفصل الحادي عشر
غريب في الوطن

خرجت ريما من قاعة الامتحان بعد خروج جودي بدقائق قليلة .. بحثت عنها مطولا لتجدها في النهاية تجلس وحيدة على حافة أحد أحواض النباتات الحجرية المحيطة بالكلية .. تنشد بعض الدفء من حرارة شمس بعد الظهر .. جلست إلى جانبها قائلة بحماس :- هل تصدقين مدى سهولة الأسئلة ؟ لم أشعر بالوقت وأنا أكتب وأكتب دون توقف .. كيف أبليت ؟
هزت جودي رأسها دون أن تنظر إلى صديقتها .. ثم أخذت نفسا عميقا وهي تقول :- لا تسأليني عن الامتحان فأنا لا أذكر حرفا واحدا مما كتبت
أطلت الشفقة من عيني ريما التي تفهمت عدم خروج جودي من أزمتها بعد .. وقد ظهر حزنها واضحا في ملابسها السوداء البسيطة .. ووجهها الخالي من الزينة .. أدركت بأنها لن تتحدث عن الامتحان أو حتى تسألها عن حالها حتى لا تذكرها بوفاة والدها .. فسألتها محاولة إثارة بعض البهجة في نفسها :- ما هي أخبار طارق هذه الأيام ؟
قالت جودي بتعاسة :- وما أدراني ؟ لقد تشاجرنا قبل يومين ولم يكلمني منذ ذلك الحين
قالت ريما بقلق :- ما الذي حدث ؟
حكت لها جودي باختصار موضوع شجارها مع طارق .. فعبست ريما قائلة :- هو المخطئ بالتأكيد .. ليس من حقه الضغط عليك بهذا الإلحاح مع ظروفك الحالية
:- ماذا علي أن أفعل إذن ؟
:- تجاهليه .. لو أن بشار تصرف معي بقلة الإحساس هذه لامتنعت عن مخاطبته لأسابيع حتى يعود إلي راكعا على ركبتيه طالبا السماح
رفعت كلماتها من معنويات جودي وقللت من إحساسها بالذنب اتجاه طارق .. أتاهما صوت بشار يقول بسخط مصطنع :- يا لثقتك الشديدة بنفسك .. وما أدراك بأنني ما كنت لأتجاهلك بدوري حتى تتوسلي إلي أن أصفح عنك
التفتت الفتاتان نحوه بذعر من وصوله المفاجئ .. ولكن ريما بذكائها الأنثوي المعهود .. وقفت تتأبط ذراعه قائلة بدلال :- كنت لألحق بك إلى آخر الدنيا وأتوسل إليك صبح مساء حتى تسامحني .. أنت تعرف بأنني لا أحتمل مرور يوم واحد دون أن أراك
قطب بشكل بدا مضحكا وهو يقول متظاهرا بالخشونة :- هه .. جيد أنك تعلمين من هو السيد هنا
:- أنت بالتأكيد يا حبيبي
ثم غمزت لجودي مما جعلها تضحك .. فقال ساخطا :- لقد رأيت تلك الغمزة .. أنت بحاجة إلى درس قاسي أيتها الآنسة المشاكسة
تأملتهما جودي مبتسمة وهما يتجادلان بطفولية حتى استسلما ضاحكين .. ثم استأذنا من جودي وتركاها بعد أن أكدت لهما أنها بخير .. وستعود فورا إلى البيت
وما إن غابا عن بصرها حتى عادت غمامة الحزن تظلل عينيها .. لا شيء يسير كما ترغب .. لقد توفي والدها .. وتشاجرت مع طارق .. وبالكاد تتبادل الحديث مع أماني .. وهاهي تخرج من امتحانها الأول دون أن تعرف كيف أبلت حقا
أخفت وجهها بين يديها .. وأسندت مرفقيها إلى ركبتيها .. فانسدل شعرها الطويل حول وجهها كستار أحمر داكن .. لم تدرك بأن مظهرها كان يدل على تعاسة كبيرة حتى سمعت صوتا هادئا يقول :- هل تحتاجين إلى كتف تبكين عليها ؟
شعرت بكل خلية في جسدها تخفق فجأة .. وبالاضطراب يصعد فجأة إلى فم معدتها .. لم تستطع تحديد حقيقة شعورها إن كان شوقا أو خوفا لوجود آخر شخص توقعت رؤيته في هذا الوقت
أسرعت تمسح آثار دموعها وهي تتمتم :- لم أكن أبك
لم يناقشها كما توقعت أن يفعل .. بل جلس إلى جانبها فتنفست رائحة عطره الرجولية الخفيفة ... قال لها :- أخبريني على الأقل بما ترينه بين قدميك
رفعت رأسها وهي تتنفس بقوة :- ما الذي تفعله هنا ؟
تجرأت على استراق النظر إليه فأصابتها صفعة اضطراب عنيفة لرؤيته مجددا .. كان يرتدي كنزة صوفية داكنة بلون الزيتون .. فوق سروال أسود من الجينز جذب الأنظار نحو ساقيه الطويلتين القويتين .. كان يبدو جذابا ومنتعشا بشكل لا يصدق مما ذكرها بأنها لم تفكر بمظهرها منذ وفاة والدها .. أدركت فجأة بأنها تبدو مريعة في تلك اللحظة .. ولكن نظرة الاهتمام الخالصة التي أطلت من عينيه أنستها ذعرها
رسم على شفتيه ابتسامة باهتة وهو يقول :- جئت لأراك . . لم أتوقع أن أجدك في الواقع ولكنني كنت متفائلا.. كيف كان امتحانك؟
توسلت إليه باكتئاب :- لا تسأل .. أرجوك
:- كيف تتخطين إذن وفاة والدك ؟
نظرت إليه بحدة قائلة :- هل علي أن أسألك كيف عرفت ؟
قال ببساطة :- ليس هناك من يجهل الأمر في المدينة
ثم نظر إلى وجهها الشاحب قائلا :- من الواضح أنك مازلت تتألمين
قالت بانفعال مفاجئ :- لماذا يستنكر الجميع حزني على وفاة أبي التي لم يمض عليها أكثر من أسابيع ؟
قتال بهدوء :- أنا لا أستنكر حزنك .. لو أنني مكانك لما تجاوزت وفاة أبي قبل أشهر طويلة
أخفضت بصرها وهي تتساءل عن سر شعورها بالراحة لوجوده معها بدلا من الانزعاج ؟ لماذا لا تطلب منه الرحيل ؟.. لماذا تشعر بالحاجة إليه رغم أنها لا تعرف عنه شيئا ؟
قال بلطف :- لم لا نسير قليلا ؟ يمكنك أن تفرغي غضبك كله علي ولن أمانع .. يمكنك شتمي إن رغبت أو ضربي .. أنا مستعد للاستماع إليك حتى تتعبي من الكلام
فوجئت بنفسها تستجيب له .. وخلال لحظات كانت تسير معه على الرصيف المحيط بالجامعة وهي تتحدث عن وفاة والدها كما لم تفعل مع غيره .. كان يطرح عليها الأسئلة بهدوء فتجيبه عنها بإسهاب .. وبين لحظة وأخرى كانت تصمت وقد خنقتها الدموع .. فلم يقاطعها مرة .. وعندما انتهت من الكلام تمتم:- لا أستطيع الادعاء بأنني أفهم مشاعرك .. فأنا لم أفقد بعد شخصا عزيزا ومقربا مني .. والداي لا يعيشان معي .. بل يقيمان على بعد آلاف الأميال وتفصل بيننا محيطات وقارات .. وأشعر بالفراغ والوحدة لغيابهما .. ولا أحتمل فكرة إصابة أحدهما بمكروه
كانت كلماته أشبه بالبلسم على روحها .. لماذا عليه أن يكون المتفهم الوحيد لمشاعرها ؟ أدركت بأنها لأول مرة تعرف عنه شيئا غير اسمه .. فسألته بارتباك:- أين.. أين يقيمان
ابتسم ملاحظا ارتباكها وفال :- في الولايات المتحدة .. لقد ولدت هناك وعشت فيها معظم سنوات حياتي
:- ما الذي تفعله هنا إذن ؟
اتسعت ابتسامته وهو يقول :- هل من الغريب أن يستقر الإنسان في وطنه عندما يكون مستعدا لذلك؟.. كنت أحضر إلى هنا في طفولتي برفقة والدي لقضاء إجازة الصيف مرة كل بضعة سنوات .. كنت صغيرا .. وأشعر بالملل من هذه المدينة الصغيرة الهادئة والمفتقرة إلى الإثارة .. وأعد الأيام شوقا للعودة إلى الوطن كما كنت أحب أن أسميه .. وعندما كبرت تغير الأمر .. ما رأيك بأن نجلس قليلا ؟
أشار إلى مقعد خشبي ظللته شجرة كبيرة .. فلاحظت بأنهما قد ابتعدا كثيرا عن الجامعة .. وتوغلا داخل أحد الحارات الجانبية الهادئة .. قبلت دعوته وقد سيطر فضولها على تفكيرها الراجح .. وجلست إلى جانبه في المكان الهادئ حيث بدت أصوات السيارات بعيدة وكأنها قادمة من عالم آخر
أكمل كلامه قائلا:- بدأت الأمور تتغير هناك عندما كبرت قليلا .. العنصرية ضد العرب في ذلك المكان لم تعد محتملة .. في الجامعة .. كانت أصابع الاتهام تتجه فور حدوث أي مشكلة نحو الأقلية العربية والمسلمة مما استنفذ مني كل طاقة على الاحتمال
تمتمت :- لم أعرف بأن الحياة هناك صعبة إلى هذا الحد ..
قال ساخرا :- إنها كذلك حتى على الأمريكيين أنفسهم
:- أهذا ما عاد بك إلى هنا ؟
نظر إليها متأملا للحظة ثم قال :- كنت قد تخرجت من الجامعة لتوي عندما عدت إلى هنا في إجازة أخرى .. وفجأة .. المدينة المملة والقديمة لم تعد كذلك .. وجدتها هادئة .. نظيفة .. نقية .. سكانها دافئون ومتشابهون .. وجدت نفسي فيها فقررت البقاء .. عارض والداي في البداية ولكنهما تقبلا الأمر بعد إصراري .. فسعادتي هي كل ما يهمهما على أي حال .. كما أنهما فكرا بأنني بعد قضاء سنوات طويلة في الخارج أصبحت غربيا إلى حد مخيف .. وأنني بحاجة إلى قضاء بعض الوقت في مسقط رأسي وحيدا كي أعود رجلا من جديد
ابتسمت للهجته المتهكمة .. وفكرت بأن شابا بهذا الجسد الرجولي الكامل والجاذبية الشديدة .. والثقة بالنفس .. لا يفتقر إلى الرجولة أبدا
احمر وجهها لجرأة أفكارها .. وأبعدت بصرها عنه حتى لا يقرأها .. ثم سألته :- وكم مضى عليك من الوقت هنا ؟
:- سبع سنوات بالضبط
قالت بدهشة :- أقضيت كل هذه السنوات وحيدا ؟
:- ليس تماما .. يزورني والداي بين فترة وأخرى .. ولدي العديد من الأقارب هنا ممن يتسابقون للعناية بي .. وأصدقاء أوفياء .. لا ينقصني أي شيء في هذا المكان
أشار إلى الشارع الهادئ من حولهما وقال :- انظري إلى الأشجار .. والشوارع القديمة .. المباني المميزة بحجرها الأبيض .. استمعي إلى أصوات العصافير وثرثرة النساء من فوق الشرفات .. وضحك الأطفال وصيحاتهم وهم يلعبون الكرة على الرصيف أمام منازلهم .. استنشقي هواءه النظيف والعطر .. للشتاء هنا رائحة مميزة لا تتواجد في أي مكان آخر
تأملته بتأثر وهو مستغرق في أحاسيسه .. من النادر أن تقابل شخصا يعشق وطنه بهذا الشكل المعدي ..
ابتسمت ونظرت إلى السماء وقالت :- أنت محق .. حتى لون السماء هنا يكون مميزا في الشتاء
:- هذا صحيح
أحست بنبرة صوته الغريبة .. فنظرت إليه لتجد عينيه البنيتين تتأملانها بشغف .. قال برقة :- حياتي هنا كاملة تماما .. لا يتقصها إلا شيء واحد
احمر وجهها وأشاحت به باضطراب .. فقال بدفء :- تبدين جميلة جدا اليوم
قالت بارتباك :- توقف عن الكذب .. أعرف تماما بأنني أبدو بشعة
ضحك قائلا :- هل هذه إحدى الطرق الأنثوية للحصول على مزيد من الإطراء ؟.
قالت بانزعاج :- بالتأكيد لا
:- على أي حال .. أفهم مخاوفك .. ولكنك من النوع النادر الذي يبدو أجمل بكثير بدون زينة
تمتمت :- تدهشني قوة ملاحظتك .. فمعظم الرجال لا يميزون المرأة المتبرجة عن غيرها .. هي فقط أقل شحوبا وأكثر تألقا
هز كتفيه قائلا :- عملت لفترة خلال مراهقتي في بيع أدوات الزينة .. مما منحني بعض الخبرة
فكرت بغيرة بأن خبرته قد تكون نابعة من كثرة النساء اللاتي عرفهن في حياته.. من المؤكد بأن شابا وسيما بهذا الشكل .. ترعرع في بيئة غربية متحررة .. يقيم وحده دون قيود عائلية .. قد عاش حياته بالطول والعرض
وعندما طال صمتها لا حظ كيف كانت تعض على شفتيها وهي تفكر عابسة.. فقال مداعبا :-
:- أقرأ في عينيك أفكارا شريرة .. ألا تنوين مشاركتي بها
منحته ابتسامة باهتة وهي تقول :- ليست شريرة تماما .. كنت أفكر بأن حياتك حافلة بالكثير مما لا ترغب في قوله
تحاشى النظر إليها فعرفت بأنها قد أصابت كبد الحقيقة .. ولكنه لم يخفها بل قال:- لست مجنونا لألقي بكل ما لدي في لقاء واحد .. فأنا أعتمد على فضولك لأراك مجددا
رمقها بنظرة جانبية لاحظ خلالها ارتباكها فقال:- هل ظننت بأن لقائنا هذا سيكون الأخير ؟
نهضت واقفة وهي تقول متلعثمة :- أنا لا أعرف حتى ما دفعني للبقاء معك اليوم .. لابد أنني متعبة ولا أحسن التفكير جيدا
قال بهدوء :- معظم قراراتنا العفوية النابعة عن القلب تصدر في لحظات التعب والحزن .. لقد رافقتني لأنك رغبت بذلك . أنا لم أرغمك
تنهدت قائلة :- لا .. أنت لم ترغمني
في الواقع .. لقد أحبت رفقته .. كان مهذبا ولطيفا .. ومسليا بحديثه عن نفسه مما أنساها حزنها لبعض الوقت .. ولكنها ليست حمقاء .. تسليتها ليست كل ما أراده منها .. كما أنها تستطيع بسهولة أن تعرف بأنها تكن له مشاعر غير عادية رغم معرفتها القصيرة به
يجب أن يكون هذا لقائهما الأخير .. ولكن كيف ستقنعه بهذا إن كانت هي نفسها لا تتقبل الفكرة ؟
تمتمت أخيرا :- يجب أن أعود إلى البيت .. فلدي امتحان بعد 3 أيام وعلي التحضير له
وقف قائلا :- سأسير معك حتى سيارتك
أسرعت تقول 0:- هذا ليس ضروريا
ولكنه قال بلهجة متسلطة أخمدت كل اعتراضها:- سأرافقك وهذا ليس عرضا قابلا للنقاش
سارا معا بصمت هذه المرة .. كل منهما غارق بأفكاره .. تساءلت جودي عن ردة فعل طارق إذا عرف بتسكعها برفقة شاب غريب .. ولكنه غير مهتم بها .. لقد خرج من منزلها قبل أيام ولم تسمع بعدها عنه شيئا
لا يمكن لأحد أن يلومها لالتماسها المواساة والاهتمام من شخص آخر
ثم سخرت من الحجج الواهية التي بررت بها خيانتها لطارق ..أشارت إلى سيارتها لتدله عليها .. ثم فتحت الباب قائلة :-أشكرك على احتمال مزاجي السوداوي هذا اليوم .. كل من أعرفهم يهربون مني وكأنني الطاعون منذ أعلنت الحداد على أبي
لوى فمه بابتسامة جذابة وهو يقول بحنان :- كلما احتجت إلى أذن صاغية ..ستجدينني في انتظارك
ثم تذكرت شيئا وسألته :- على فكرة .. كيف عرفت بأنني امتلك سيارة ؟
ابتسم فقالت بسأم :- لا .. لا تقل شيئا .. لقد عرفت هذا من فريق الاستخبارات الذي أرسلته خلفي .. صحيح ؟
قال بهدوء :- الأمر أسهل مما تظنين .. ليس هناك طالب في الكلية لايعرف عنك ولو شيئا صغيرا يا جودي . وفي كلية ضخمة كهذه .. توقعي أن يكون لي صديق واحد على الأقل في كل قسم .. وهكذا لم يكن من الصعب جمع المعلومات عنك .. كما أنني عندما أرغب بشيء حقا فإنني أبذل المستحيل لأحصل عليه
اضطربت عندما التقت عيناهما . وأخبرتها نظراته بأنه قد عنا كل كلمة متملكة نطق بها .
قالت بخفوت :- أنت تخيفني يا تمام
قال بخفوت مماثل وهو يقترب منها :- لست أنا ما أخيفك يا جودي .. بل هي مشاعرك
ارتعشت عندما داعب صوته المثير حواسها . فهربت من قربه إلى داخل السيارة .. ثم أشار لها أن تفتح النافذة ففعلت .. مال نحوها ليقول :- سأكلمك لاحقا لنرتب لقائنا القادم
قالت بشموخ :- لا تكن متأكدا بأنني سأرد على تلك المكالمة
ضحك وكأنه يتسلى بمقاومتها وقال:- خلتك قد تعلمت درسك وأدركت جيدا يا عزيزتي بأنني عندما أعد بشيء فإنني أنفذ
لوح لها بيده .. ووقف بعيدا فوق الرصيف يراقبها تتصارع مع نفسها .. ومع محرك السيارة ثم تنطلق بسيارتها الصغيرة هربا منه .. ولكنه كان يعرف بأنها لن تجد منه مهربا
جودي قد خلقت له .. هذا ما عرفه منذ رآها أول مرة .. وهذا ما سيحدث

دروب الياسمين
2014-12-03, 18:12
من أروع ما قرأت
جزاك الله خيرا و بارك فيك على الطرح المتميز

دمعة الامل
2015-03-30, 16:59
قصة رائعة

على حسب ما قرات اظن ان القصة لم تنتهي

ننتظر النهاية

والمزيد من التالق

lida laz
2015-04-04, 18:38
أنا من محبي الروايات كثيرا
شكراااااااااااااا جزيييييييييييييييلا لك

ithran sara
2015-06-11, 20:15
من أروع ما قرأت
جزاك الله خيرا و بارك فيك على الطرح المتميز

و فيك بركة :)

ithran sara
2015-06-11, 20:19
الفصل الثاني عشر
المنبوذة


ما إن أوقفت جودي سيارتها أمام المنزل حتى ارتفع رنين هاتفها بإلحاح .. شاهدت رقم هاتف طارق فأحست وكأنها قد ضبطت متلبسة بعد وداعها لتمام .. رفعت الهاتف بتردد إلى أذنها ثم أجابت :- نعم
:- كيف حالك يا حبيبتي ؟ أنا آسف لأنني تأخرت في الاتصال حتى الآن .. لقد كنت غاضب من نفسي لتلبد أحاسيسي معك وقررت منحك الفرصة لتهدأي ويخف غضبك مني
استمعت بألم إلى اعتذاراته الحارة .. طارق لم ينسها كما ظنت .. أو كما أوهمت نفسها كي تبرر تواجدها مع تمام .. أجابته بهدوء لتطمئنه بزوال غضبها السابق .. ثم تحدثت معه عن امتحانها وتواعدا على اللقاء ثم أنهت الاتصال
أمضت لحظات طويلة تفكر وتأنيب الضمير يكاد يأكلها .. طارق لا يستحق أن تعامله بهذه الطريقة .. إنه إنسان مثالي .. وسيم ورقيق .. متفهم ومناسب لها تماما .. لن يكون والدها مسرورا إذا عرف بأنها تتسكع مع شخص معدم وتكرارها لخطأ أماني
عندما تذكرت أماني .. لاحظت سيارتها القديمة مركونة أمام المنزل .. وسيارة صلاح المناقضة لها تماما تقف خلفها .. عرفت بان شيئا سيئا يحصل .. فوجود أماني وصلاح معا في مكان واحد دون رفيق يعني المشاكل .. أسرعت تدخل إلى البيت وقد أعماها القلق ... فوجدت صلاح يجلس وحيدا في الصالة يخفي وجهه بيديه وقد بدا عليه الارهاق ..فسألته :- ما الأمر ؟ هل تشاجرت مع أماني مجددا ؟.
أزاح يديه فلاحظت تجهم وجهه فازداد قلقها أضعافا فصاحت :- صلاح .. قل شيئا .. ما الذي حدث ؟
قال باقتضاب :- لقد كان المحامي هنا منذ نصف ساعة
شحب وجهها .. وسقطت الكتب من يدها .. ألقت نفسها على نقعد قريب وهي تقول باضطراب :- هل .. هل عرفت ؟
أومأ برأسه إيجابا فأحست بالغرفة تدور من حولها .. لم تتوقع أن يحدث هذا بهذه السرعة .. ليست مستعدة بعد لمواجهة أماني بالحقيقة
تمتمت :- كيف تقبلت الأمر ؟
وقف قائلا بخشونة :- ماذا تتخيلين ؟ لن تركع تحت قدمي متوسلة بالتأكيد .. إنها في غرفتها تجمع أغراضها
قفزت واقفة وهي تقول مصدومة :- تجمع أغراضها ؟ لماذا ؟ إلى أين ستذهب ؟ هل ستتركها تذهب يا صلاح ؟
نظر إليها ببرود لعدة ثواني ثم قال :- لن تستمع إلى ما أقول .. أنت تعرفينها جيدا
قالت بحدة :- ستستمع إلى إذن
قفزت فوق الدرج بسرعة إلى الطابق العلوي ..ودخلت عبر باب غرفة أماني المفتوح حيث وجدتها منهمكة برمي أغراضها الخاصة داخل حقيبة كبيرة بحركات عنيفة وغاضبة .. وكأنها تفرغ غضبها بعملها هذا .. هتفت بها جودي :- ما الذي تفعلينه ؟
اعتدلت أماني لتواجهها .. فأجفل جودي لرؤية الغضب والألم في عينيها .. عرفت بأن أماني مجروحة في الصميم وتشعر بالخيانة .. وأنها تقاوم دموعها بتصرفاتها الجافة :- قالت بغضب :- وما رأيك ؟ إنني أجمع أغراضي لأترك المنزل لكما يا عزيزتي هنيئا لكما به
قالت جودي بحدة :- ليس هناك منا من يريد رحيلك
اقتربت منها أماني ولهيب عنيف يتراقص في عينيها وقالت :- بالتأكيد ترغبان ببقائي .. كما رغب أبي مشترطا زواجي بذلك المتعجرف .. وعيشي ذليلة تحت ظله وهذا لن يحدث حتى لو بت في الشارع
أحست جودي بالعجز وهي تقول بلوعة :- أنا لا أريدك أن ترحلي يا أماني .. ماذا سأفعل وحدي في هذا المكان بدونك
قالت أماني بشراسة وهي تتابع توضيب أغراضها داخل الحقيبة :- كان عليك التفكير بالأمر جيدا قبل أن تتحالفي مع الشيطان
أقفلت الحقيبة بعنف وأنزلتها من السرير .. ثم نظرت إلى جودي لتظهر الدموع الحبيسة في عينيها :- كيف استطعت فعل هذا بي يا جودي .. من بين كل الناس ظننتك الوحيدة التي تهتم لأمري وتفهمني حقا .. كيف أقنعك أبي بفعل هذا ؟
سالت دموع جودي وهي تقول :- لا أعرف .. لم أفكر لقد بدا لي هذا صوابا عندما تحدث إلي .. كل ما أردته هو الجمع بينك وبين صلاح في النهاية .. ظننت ....
قاطعتها أماني بحدة :- لقد خاب ظنك إذن .. لانني لن اتزوج صلاح .. ولن أبقى في هذا البيت اللعين لحظة واحدة
أمسكت بمقبض الحقيبة الثقيلة .. وجرتها خلفها خارجة من الغرفة ..
لحقت بها جودي قائلة بانهيار :- استمعي إلي على الأقل قبل أن ترحلي
ولكن أماني الثائرة تابعت طريقها .. ودوى صوت سقوط الحقيبة من درجة إلى أخرى حتى وصلت إلى الطابق الأرضي حيث كان صلاح في انتظارها
كان يقف في منتصف الصالة .. مباعدا بين ساقيه .. وقد دس يديه داخل جيبي سرواله الأنيق يراقبها بهدوء .. وقفت أمامه وهي تلهث بانفعال .. ثم قالت ببغض :- لقد نجحت في مسعاك يا صلاح .. فرقت بيني وبين أبي .. وزرعت الكراهية داخله نحوي حتى مات على هذا .. وفي النهاية فعل ما رغبت به دائما .. وترك لك كل شيء
هز رأسه قائلا بهدوء :- الثروة لم تكن هدفي أبدا يا أماني .. تعلمين جيدا بأنني لست بحاجة إليها .. فلدي ما يكفي من أموالي الخاصة .. كما أنني أرث الجزء الأكبر من تركة عمي بحكم القانون .. أما الباقي .. بمعزل عما تركه لجودي .. ويتضمن نصف هذا المنزل فهو تحت عهدتي حتى تعودي إلى رشدك
نظرت إليه بجمود دون أن تقول شيئا فأكمل :- لقد سبق وتحدثنا في الأمر يا أماني .. في اليوم الذي سيعقد فيه قراننا سأعيد إليك حقوقك كاملة بالإضافة إلى المهر الذي تطلبينه
مطت شفتيها بازدراء قائلة :- أنت تقرفني
عادت تجر الحقيبة نحو الباب .. فصاح من خلفها بحدة وقد فقد هدوءه أخيرا :- ستعودين يا أماني عندما تكتشفين بأن الحياة في الخارج ليست مبهجة أو سهلة إلى الحد الذي تظنينه .. وأن امرأة وحيدة بدون رجل يحميها ويعيلها لن تستمر طويلا
وقفت للحظات دون أن تنظر إليه أو تعلق على كلماته .. ثم تابعت طريقها نحو الباب وغادرت بصمت .. عندها .. انفجرت جودي باكية .. أما صلاح فقد بدا غاضبا وهو يمسح وجهه بيده ثم يستدير نحو جودي قائلا بعصبية :- ستعود في النهاية .. لابد أن تعود
ثم غادر بدوره دون انتظار جواب جودي .. التي انهارت وقد اجتاحها إحساس كئيب للغاية بالوحدة
الوحدة الحقيقية هذه المرة





الفصل الثالث عشر
يتيمة مجددا


راقبت سمر يدي أماني المرتعشتين وهما تحملان فنجان الشاي الذي تصاعد منه البخار .. ثم قالت عابسة :- أنت لن توقعي الفنجان على الأرض .. صحيح ؟ إنها فناجيني المفضلة
انتبهت أماني لما تفعله .. ووضعت الفنجان فوق المنضدة قائلة :- أنا آسفة .. من الصعب علي السيطرة على
أعصابي
قالت سمر بتعاطف :- أفهمك .. لابد أن صدمتك كانت عنيفة عندما علمت بما فعله أبيك
ترقرقت دمعتين ساخنتين في عيني أماني .. سرعان ما مسحتهما بظهر يدها وهي تقول :- لم تهمني أمواله قط .. أنت تعرفين بأنني لم آخذ منه قرشا منذ سنوات .. لو كان الأمر بيدي لتركت منزله منذ سنوات .. ولكنني مازلت لا أصدق نبذه ورميه لي في الشارع لأجل صلاح مجددا .. لقد أثبت حتى بعد وفاته أن صلاح قد كان المفضل لديه على الدوام
قالت سمر باهتمام :- أهذا هو سبب كرهك له ؟ أنه أخذ مكانك في حياة أبيك ؟
زفرت أماني بقوة .. ونهضت إلى النافذة المطلة على الشارع الذي لم يتوقف صخبه رغم تأخر الوقت .. وتمتمت :- إنه أحد الأسباب .. لم يخف والدي يوما خيبة أمله عندما أنجبتني أمي .. كان يريد صبيا يعتمد عليه ويورثه أعماله واسم عائلته ... وعندما أنجبت أمي جودي .. وأكد الطبيب عدم قدرتها على الإنجاب مجددا فقد أمله في الحصول على وريث ... خاصة أنه لم يفكر قط في الزواج مرة أخرى .. عندها بدأ يكيف نفسه مع الفكرة
التفتت نحو سمر التي كانت تستمع إليها باهتمام وأكملت :- ولكن الأوان كان قد فات لعلاج الكسر الذي خدش علاقتي به بعد سنوات من إبعاده لي عنه .. كنت كبيرة بما يكفي لأفهم بأنه لم يحببني كما يجب .. ولم يمنحني ما يكفي من الاهتمام .. في ذلك الوقت .. ظهر صلاح في حياتنا ..
.. مازلت تذكر ذلك اليوم الذي توفي فيه عمها تاركا زوجته وابنه الوحيد تحت عهدة شقيقه .. كان صلاح في العاشرة من عمره فقط
قالت بجفاف :- بكل سهولة اعتبره أبي الابن الذي لم ينجبه .. ومنحه كل الاهتمام والرعاية .. وفي الوقت نفسه كانت جودي الصغيرة تحظى بالدلال والحب وكأنه أراد أن يعوض معها ما فاته معي .. فكبرت بعيدة عنه دون أن أدرك .. لم أعرف بأنني لم أعن له الكثير إلا في السنوات الأخيرة .. والآن بعد وفاته .. تأكدت من هذا
قالت سمر :- ولكن صلاح وعدك بإعادة كل شيء إليك إذا تزوجت به .. هل ستتخلين عن حقك لمجرد أن غيرة طفولية حمقاء تمنعك من الزواج من ابن عمك
صاحت أماني بغضب :- لم تكن مجرد غيرة
يا إلهي .. لن تفهم سمر كم تكره أماني صلاح لأنها لن تستطيع إخبارها عن سنوات المراهقة التي قضتها خائفة من نظراته الوقحة والمهينة .. وتحرشاته بها دون أن يردعه أحد .. لقد أعلن والدها منذ طفولتها بأنها ستكون لصلاح ذات يوم .. ولم تدرك مدى جديته حتى صارحته قبل خمس سنوات عن علاقتها بفراس
قالت بصرامة :- إنها مسألة مبدأ أيضا .. الرضوخ لصلاح يعني قضاء ما تبقى من حياتي تحت رحمته وإذلاله .. كوني واثقة بأنه لن يتردد في الثأر لكرامته من رفض ي الطويل له وذلك بمعاملتي السيئة
عادت تجلس أمام سمر قائلة بإرهاق :- أكثر ما صدمني هو موقف جودي .. لم أتخيل أن تقف مع أبي ضدي وأن تشاركه في خطته
غمغمت سمر :- من الأفضل أن تتفهمي موقفها يا أماني .. فهي عائلتك الوحيدة الآن .. أعتقد بأنها قد تعرضت لضغوط كبيرة من والدك خلال مرضه فلم تستطع خذلانه .. .ربما ظنت بانها تفعل هذا لصالحك ..ألم تخبريني بأنها على اتفاق مع صلاح ؟
أومأت أماني برأسها مستسلمة .. فهي لم تستبعد حسن نية أختها .. ولكنها لن تتمكن من مخاطبتها حتى يهدأ غضبها .. وتبدأ بترتيب أمورها على الأقل
قالت سمر بجدية :- ما الذي تخططين لفعله الآن ؟
:- سأبدأ البحث عن مكان أقيم فيه بالتأكيد .. علي أن أثبت لصلاح بأنني لا أحتاج إليه أو لأموال أبي لأعيش .. أعرف بأن الطريق سيكون صعبا .. فلم يسبق لي أن عشت وحدي .. أو تحملت مصاريف كبيرة كإيجار بيت .. وفواتير كهرباء وماء .. أو حتى الإنفاق على طعام وشراب .. ولكنني امرأة ناضجة وعاملة ومستقلة .. أظنني سأنجح في النهاية
بد واضحا من طريقتها في الكلام بأنها تحاول إقناع نفسها قبل أن تقنع سمر .. أدركت سمر مخاوفها وقالت بلطف :- وأنا سأساعدك يا أماني .. شجاعتك هذه تلهمني كثيرا .. أنت تذكرينني بأختي .. والدة هشام .. لقد كانت محاربة مثلك تماما . تحملت الكثير وقامت بالكثير حتى كبر ابنها واستلم المسؤولية .. يمكنك البقاء معي كبداية حتى ترتبي أمورك
قالت أماني بحرج :- لا .. لن أثقل عليك بمشا.......
قاطعتها سمر بحزم :- أنت لا تثقلين علي .. بل تخدمينني بالبقاء معي في هذا البيت الخالي خلال غياب زهير .. سنتسلى كثيرا ونقضي وقتا ممتعا
عرفت أماني بأن هذا هو السبيل الوحيد أمامها .. على الأقل حتى تجد مكانا مناسبا يأويها .. وهذا سيستغرق منها وقتا
قالت لسمر بامتنان :- لا أعرف كيف سأرد لك جميلك هذا يا سمر
نهضت سمر قائلة :- سأجد طريقة بالتأكيد .. بداية .. يمكنك مساعدتي في إعداد العشاء .. ألست جائعة مثلي؟
ثم سبقتها إلى المطبخ .. فكرت أماني بأنها محظوظة على الرغم من جميع مشاكلها لوجود أشخاص بحنان وطيبة سمر في حياتها
أحست بمعنوياتها ترتفع من جديد .. ثم لحقت بسمر إلى المطبخ







تململت أماني بانزعاج فوق الأريكة التي تحتلها في منزل سمر منذ أسبوع .. وحاولت أن تصم أذنيها عن صوت الجرس الذي أخذ يدوي في أنحاء الشقة بإصرار .. قفزت في النهاية مستيقظة وهي تصيح بسخط :- أي لعين هذا ؟
كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا .. .فكرت بأنها قد تكون سمر التي أخبرتها ليلة الأمس بأنها ستضطر للخروج في وقت باكر للغاية لتلحق بموعد ما
زحفت من فوق الأريكة وهي تفرك عينيها الناعستين .. ليس من العدل أن توقظ بهذا الشكل المزعج صباح يوم الجمعة المقدس لديها .. لقد اعتادت كل أسبوع على أن تكرس هذا اليوم للنوم والراحة .. فلا تستيقظ قبل الظهر
فتحت وهي تتساءل عن سبب عدم استعمال سمر لمفتاحها .. ثم تجمدت مكانها وهي تجد آخر شخص توقعت أو أرادت رؤيته في هذا الوقت
كان هشام عطار واقفا وقد أسند ظهره إلى حافة سياج الدرج المعدني .. وقد بدا ضجرا بعض الشيء وهو يحمل بضعة أكياس بلاستيكية .. اعتدل في وقفته وقد ارتسمت الصدمة في عينيه هو الآخر عندما رآها .. جمد كل منهما وهو ينظر إلى الآخر بارتياب وتردد .. سرعان ما أبعد هشام عينيه وهو يقول بغلظة :- أين سمر ؟
توترت وقد اشتدت أصابعها حول مقبض الباب وهي تقول :- لقد خرجت قبل ساعات
قطب وقد بدا عليه الانزعاج .. أما هي .. فقد حرك ارتباكها داخلها رغبة شريرة في صفق الباب في وجهه .. ولكنها لم تجرؤ .. فهو رئيسها من جهة .. وابن اخت سمر من جهة أخرى .. هدأتها نوعا ما فكرة عدم دخوله إلى الشقة بينما هي وحيدة فيها .. ولكنه نظر إلى وجهها مطولا يتأمل الكائن المشوش الذي كانت في تلك اللحظات .. فسرت عبوسه على أنه غضب واستنكار لوجودها في بيت خالته .. قال بفظاظة :- هل أستطيع إدخال حمولتي إلى المطبخ على الأقل ؟
السلطة ونفاذ الصبر في صوته ذكراها بأنه رئيسها في العمل .. وعندما نظرت إلى الأكياس الثقيلة .. وجدت نفسها تتراجع مرغمة .. مفسحة له الطريق
انكمشت عندما مر إلى جوارها .. وكاد جسده الضخم يحتك بجسدها .. أحست بما يشبه عاصفة دافئة تلفحها .. عاصفة مشبعة برائحة عطر رجولي خفيف .. حبست أنفاسها .. وكبتت نوبة سعال قوية لم تطلق لها العنان حتى غاب في المطبخ
أحست بدوار خفيف جعلها تستند إلى الجدار للحظات .. لطالما كانت رائحة العطور تسبب لها الحساسية .. ولكن ليس الدوار والضعف .. وبالارتعاش في ركبتيها حتى تعجزان عن حملها
استعادت توازنها بسرعة .. ولحقت به إلى المطبخ .. وضع الأغراض فوق الطاولة الخشبية التي توسطت المكان .. واستدار إليها فلاحظ توترها الشديد فزفر قائلا بضيق :- لا تقفي هكذا وكأنني جئت لافتراسك .. لقد اعتدت المرور على سمر صباح كل جمعة قبل الصلاة .. لو عرفت بأنك هنا لما جئت على الإطلاق
لم تستغرب جهله .. فهي من طلب من سمر ألا تخبر أحدا .. وبالذات هو عن إقامتها المؤقتة في شقتها .. لم تجد ما تعلق به على كلامه سوى فرك يديها بعصبية .. لاحظت بأنه ينظر إليها متأملا إياها من رأسها حتى أخمص قدميها .. وقد ضيق عينيه السوداويين اللتين ومضتا بتعبير غريب لم تفهمه .. تورد وجه أماني عندما أدركت بأنها ترتدي منامة وردية اللون برسومات طفولية تزين صدرها .. واسعة للغاية بحيث غطت الأكمام الواسعة يديها .. أما شعرها فقد تناثر حول وجهها بفوضوية .. أما وجهها فهو منتفخ بالتأكيد كأي شخص قد استيقظ لتوه من النوم .. يا إلهي .. إنها تبدو مريعة .. أمام هذا الاكتشاف قالت بارتباك :- بالإذن
انسحبت بسرعة إلى غرفة سمر حيث مازالت حقيبة أغراضها الممتلئة قابعة في الزاوية .. أخذت نفسا عميقا كي تسيطر على أعصابها .. ثم أخرجت من الحقيبة أول ما وجدته يداها وكان سروالا من الجينز وكنزة زرقاء .. مشطت شعرها بسرعة .. ومنعت نفسها بصعوبة من وضع شيء من الزينة على وجهها كي لا يظن فعلها هذا متعمدا لتلفت نظره
وعندما عادت إلى المطبخ .. وجدته يفرغ الأكياس الممتلئة بالفواكه والخضروات وبعض المستلزمات المنزلية .. استغلت فرصة انشغاله لتنظر إلى ظهره العريض الذي كساه معطف جلدي أسود فوق سروال من الجينز الغالي الثمن التصق بساقيه الطويلتين مما أظهر بنيته القوية والرياضية
شعرت بالتوتر والعصبية .. فمظهره البسيط والبعيد عن رسميته المعتادة أشعلت لديها إحساسا غامضا بالخطر .. لم تتخيل أبدا أن رجلا كهشام عطار قد يقوم بعمل إنساني للغاية كترتيب البقالة .
شعر بوجودها اخيرا .. فالتفت إليها ليضبطها تراقبه .. تورد وجهها وهي تشيح به بعصبية .. فنظر إليها مليا . يتأمل هيئتها الجديدة التي لم تكن أفض بكثير من تلك التي فتحت له الباب
شعرت بالسخط لإحساسها بالنقص .. لطالما كانت أناقتها هي مفتاح ثقتها وقدرتها على مواجهة الغير .. أما الآن .. فهي تشعر بالعجز أمام عينيه القاسيتين .. عاد يتابع عمله وهو يقول بهدوء :- حسنا .. ألن تخبرينني بما تفعلينه هنا ؟
كانت تتمنى ألا يسأل .. ولكنه ليس مهذبا إلى هذا الحد ..قالت بتوتر :- كنت في زيارة لسمر .. فدعتني لقضاء الليلة معها
ترك ما بيده واستدار يواجهها قائلا :- أنا لا أصدقك .. فتلك المنامة المزينة بالفئران ليست لسمر بالتأكيد رغم غرابة أطوارها .. ولا أظنك تتنقلين عادة مع ملابس نوم احتياطية للطوارئ
غضبت لسخريته الباردة وقالت بحدة :- حسنا .. أنا أقيم مع سمر لبعض الوقت .. هل يزعجك هذا؟
قال بصرامة :- لا يزعجني إن لم يسبب المشاكل لسمر
هتفت باستنكار:- لماذا تظن بأنني قد أسبب المشاكل لسمر ؟ إنها صديقتي
قال بامتعاض :- وكأن أمثالك يعرفون معنى الصداقة أو حتى العاطفة .. إن لم تهتمي لوفاة والدك فلماذا تهتمين بامرأة لا تربطك بها قرابة ؟
ذكره لوالدها بهذه الطريقة جعل دمها يفور .. صاحت بغضب :- أنت لا تعرف عما تتحدث
:- بل أعرف تماما ما أتحدث عنه .. الكل يتحدث عن برودك ولا مبالاتك بعد وفاة والدك .. لم يظهر عليك أي أثر للحزن .. وكأنك كنت تنتظرين وفاته .. لقد رأيتك بأم عيني تتسللين من الجنازة وقد أهقك الادعاء والتمثيل
قالت مصدومة :- هل كنت هناك ؟
قال ساخرا :- هل تصدقين بأنني أهتم لحضور جنازة رجل لم أقابله سوى مرة أو مرتين أكثر من ابنته البكر ؟ ما الذي خرجت تفعلينه في ذلك الوقت المتأخر ؟ لن أصدق بأنك خرجت تبتاعين المناديل بعد أن أفرغت ما لديك بالدموع
كلماته جرحتها كأي شخص يتحدث إليها عن والدها مؤخرا .. ولكنها قالت ببرود :- لا شأن لك بي
عقد ساعديه أمام صدره وقال بقسوة متجاهلا تصريحها :- بالتأكيد ليس لهذا الغرض .. فأنا لا أظنك تعرفين ماهي الدموع .. ولكن موقفك ذاك يجيب عن تساؤلات الجميع حول سبب حرمان والدك لك من الميراث
تجمدت وأحست كمن صفع على وجهه وقد صدمها أن يعلم هو بالذات عن هذا .. قال ساخرا:- ليس هناك من يجهل القصة في المدينة .. ولكن أظنني الوحيد الذي لم يستغربها .. فالأسباب التي تدفع أبا لمثل هذا التصرف مع ابنته محدودة ومعروفة .. وأخجل حتى من ذكرها .. ولكن حسب معرفتي بك .. لا أستبعد أحدها
قالت وقد خنقتها غصة مؤلمة :- أنت لا تعرفني
قال بصرامة :- سمر لا تعرفك أيضا .. ولا تعرف بأنك تستغلينها بعد أن فقدت معيلك وما كنت تعتمدين عليه لتتابعي أي كان ما كنت تقومين به .. وسبب تبرؤ والدك منك .. وأنا لن أسمح لك بهذا .. إنها أطيب من أن تدرك ألاعيبك وخبثك
صاحت انفعال :- سمر امرأة ناضجة .. تستطيع الحكم على الأشخاص بنفسها دون مساعدة منك
هز رأسه مؤكدا :- كثير من الأشخاص قد يغرهم جمال وجهك .. وبراءة ملامحك .. ولسوء حظك .. أنا لست منهم
ترقرقت الدموع في عينيها قبل أن تستطيع التحكم بمشاعرها . أدهشها ارتباكه لرؤية دموعها الحبيسة .. فقد صرح لتوه عن بأنها لا تعرف كيف تبكي .. ولكنها حافظت على برودها وهي تقول ببرود :- سأبلغ سمر بمرورك
وعندما رغبت بترك المطبخ قال من خلفها بخشونة :- أنا لم أمزح عندما حذرتك من إزعاج سمر
لم تستطع النظر إليه خشية أن يلاحظ ألمها .. وعندما تكلمت .. خرج صوتها مرتجفا بالرغم منها وهي تقول :- لا تقلق .. لن أبقى هنا طويلا
هرعت إلى غرفة النوم وأغلقت الباب خلفها .. ذرفت الكثير من الدموع وهي تسمع صوت انصفاق الباب الخارجي .. يجب أن تضاعف جهدها في البحث عن مكان تقيم فيه .. فبعد مواجهتها المهينة مع هشام عطار لن تستطيع البقاء أكثر في منزل خالته .. على قلبها فجأة بكل الحقد والكراهية اتجاه هشام عطار الذي جعل هدف حياته الجديد سلبها أعز صديقاتها .. في الواقع سمر كانت صديقتها الوحيدة .. مما جعلها تشعر وهي على وشك فقدانها وكأنها قد باتت يتيمة مجددا


استيقظت جودي من شرودها عندما قال لها طارق :
:- إلى متى ستستمرين بالعبث بطبقك دون أن تأكلي لقمة ؟
اعتدلت وقد لاحظت بأنها تقلب الطعام فوق طبقها بشوكتها منذ دقائق ثم قالت بحرج :- أنا آسفة .. لقد كنت غارقة في أفكاري
اقترب النادل ليرفع بقايا الطعام من فوق الطاولة وعندما ابتعد قال طارق :- وماهي هذه الأفكار التي استحقت أن تنسي ما حولك لأجلها ؟
تورد وجهها .. وتخيلت ردة فعله إن علم بأن الجزء الأكبر من أفكارها كانت موجهة نحو رجل آخر .. رجل لم تسمع عنه شيئا منذ أيام .. ومع هذا لا تمر لحظة دون أن تستعيد صورة وجهه في ذاكرتها ونبرة صوته وهو يحدثها عن طفولته وأحلامه .. ثم قررت أن تطلعه على الجزء الآمن من أفكارها وفالت :-
:- أفكر بأماني
تنهد قائلا :- إلى متى ستظلين تلومين نفسك على ما حدث ؟ انسي الأمر .. وفكري بأنه ماكان يجب أن يحدث منذ زمن طويل
توترت وقالت بحدة :- ماذا تقصد ؟
اتكأ على الطاولة بمرفقيه وقال :- لقد حان الوقت لتتحمل أماني عواقب أفعالها .. لقد كانت خياراتها على مدى سنوات متهورة وخاطئة .. عليها أن تتعلم بأن الحياة لا تسير دائما حسب أهوائها
شعرت بالانزعاج كما في كل مرة يهاجم فيها أماني .. لقد سبق وأوضح لها بأنه يعتبر أختها الكبرى غبية وحمقاء .. وإنسانة صعبة المراس .. وأن صلاح يستحق من هي أفضل منها .. بدأت تندم على قبولها دعوته إلى الغداء احتفالا بإنهائها لامتحاناتها .. لقد ظنت بأنها ستقضي أخيرا وقتا ممتعا .. وتحظى ببعض السلام .. قالت بجفاف :- لا يمكنك الحكم على الأمور من مجرد كرهك لموقفها من صلاح
قال بهدوء :- ليس هذا فقط .. بل تلك القصة الصغيرة لها مع ذلك المدعو فراس
حدقت به مصدومة وهي تقول :- لم يعلم أحد بتلك القصة
هز كتفيه قائلا :- لم أكن يوما أي أحد .. أم تراك نسيت بأنني كنت زميلا لأماني في نفس الكلية .. كنت أسبقها بعامين .. وهذا يعني أن فراس كان زميلي في السنة الدراسية نفسها
ثم مط شفتيه قائلا بازدراء :- الكل كان يعرف أي شاب أناني وجشع كانه فراس .. لقد دهشت كما دهش غيري عندما خدعت به فتاة بذكاء أماني
قالت بانفعال :- لقد كانت صغيرة في ذلك الوقت
:- كانت في مثل سنك الآن تقريبا .. ولكنك أعقل من أن تخدعي من قبل شاب معدم طامع بك كفراس .. صحيح ؟
شحب وجهها واضطربت وهي تبحث في وجه طارق عن أي علامة تدل على علمه بما يحدث لها مع تمام .. ولكنه انشغل تماما عندما أحضر له النادل الحساب
ولكنه لم يكن يعرف .. وكلماته هذه لم تعن شيئا .. انه شعورها بالذنب ولد لديها كل هذه الشكوك والمخاوف
ما إن ابتعد النادل حتى ابتسم لها طارق قائلا :- لم نأتي إلى هنا كي نتحدث عن أختك أو نتشاجر .. بل لنحتفل .. ولنستمتع بوقتنا .. إلى أين تحبين أن نذهب الآن .. لقد سبق وألغيت كل ارتباطاتي كي أقضي بقية المساء معك
لو أن عرضه هذا جاء قبل أسابيع قليلة لسعدت به وصفقت فرحا .. ولكنها لم تستطع أن تبتهج هذه المرة .. لن تتمكن من التظاهر بإخلاصها الفكري نحوه .. لأنها ومعه بالذات تجد أفكارها متجهة نحو رجل آخر مختلف تماما .. رجل معدم قد يكون طامعا بها كما قال طارق بالضبط
تمتمت :- لا أشعر بأنني بخير .. أرغب في العودة إلى البيت








الفصل الرابع عشر
وحيدة ومرتبكة


لم تعرف جودي كم قضت من الوقت وهي تذرف الدموع فوق وسادتها .. ولكن صوت الخادمة نبهها إلى تأخر الوقت بقولها من خلف الباب :- جودي .. ألن تتناولي العشاء إنه جاهز منذ ساعة
رفعت رأسها لتصيح :- لست جائعة
استمعت إلى صوت خطوات الخادمة تبتعد ثم تنهدت مدركة أنها يجب أن تكون ممتنة لوجود من يهتم بها في هذا البيت الكبير الخالي .. حتى لو كان هذا الإهتمام مشروطا بأجر
رفعت هاتفها المحمول وقاومت رغبتها في معاودة الاتصال بأماني مدركة بانها سوف تتجاهلها كما تفعل منذ أسابيع .. مازالت غاضبة منها وهي محقة في غضبها .. فما فعلته جودي بالتواطؤ ضدها لا يغتفر .. اليوم بالذات بعد غدائها الفاشل مع طارق ازداد اكتئابها بعد أن تأكدت من مشاعره السلبية اتجاه أماني .. مالذي سيحدث بعد أن يتزوجا ؟ قد لا يسمح لها برؤية أماني بحدة قلقه من تأثيرها السيء عليها .. مجرد التفكير بأن طارق هو المسيطر تماما في علاقتهما تزعجها كثيرا .. خاصة إن أدت هذه السيطرة إلى التغيير من طباعها والتحكم حتى بمشاعرها .. وعلاقتها بأختها .. ولكنها لا تجرؤ على مصارحته بمخاوفها
ارتفع رنين هاتفها فاختطفته دون تفكير وأجابت بانفعال :- أماني ؟؟؟
ولكن الصوت الذي أجابها جعل جسدها يرتعش بردة فعل تلقائية عندما سمعته يقول :- آسف لتخييب أملك
أحست بمزيج من السعادة والإثارة والتوتر لسماع صوته فقالت بخفوت :- تمام
شعر باكتئابها وكأن سماع صوتها كافي ليقرأ سريرتها .. فقال :- هل أتصل في وقت غير مناسب .. ألديك رفقة ؟
اعتدلت جالسة فوق السرير وأسندت ظهرها إلى الوسائد الوثيرة وهي تجيب :- لا .. لقد كنت على وشك الخلود إلى النوم
ولكنها لم تخدعه .. إذ بدا قادرا على قياس مشاعرها عبر أسلاك الهاتف وكأنه يراها .. قال بهدوء :-
:- ما الذي حدث ؟ أهي ذكريات والدك مجددا ؟
تنهدت قائلة :- ليست هي هذه المرة
:- هل يتعلق الامر بالمكالمة التي كنت في انتظارها ؟ من تكون أماني ؟
أدركت بأن الأفكار المختلفة سوف تغزو رأسه فور أن قالت له :- أختي الكبرى
قال بدهشة :- ألا تقيم معك ؟ أهي متزوجة ؟
:- إنها قصة طويلة
:- ألا تستطيعين إخباري بها ؟ ليس لدي ما يشغلني سوى الاستماع إليك
صمتت للحظات تفكر بأن الوقت ما زال مبكرا على الثقة به .. فقالت وقد ظهر الإحباط والحزن في صوتها أكثر وضوحا هذه المرة :- لا .. لا أظن هذا
صمت بدوره قليلا.. فتسائلت إن كان قد غضب .. ولكنه قال فجأة بصوت يفيض بالعاطفة :- لقد اشتقت إليك
ردت ببرود :- حقا ؟
ارتفعت ضحكته الرجولية الرقيقة فدغدغت حواسها .. وجعلت قشعريرة باردة تجتاح جسدها
قال :- حسنا .. لا ألومك على غضبك مني .. ولكنني تعمدت التأخر في الاتصال بك حتى تنهي امتحاناتك .. لم أرغب بإلهائك عنها
لم ترغب في إظهار غضبها من تجاهله لها .. ولكن كلماته أرضتها .. كما أنه كان محقا .. فما كانت لتدرس حرفا إذا استمرت بسماع صوته ورؤيته
:- على ذكر الامتحان .. كيف أبليت ؟
:- ماذا تتصور ؟ سأكون محظوظة إن نجحت بمادة أو اثنتين
قال برفق:- لن يلومك أحد على هذا .. فظروفك هذا الفصل لم تكن جيدة
قالت ساخرة :- أنت الوحيد الذي يمنحني الأعذار .. فكل من حولي يتصيد لي الأخطاء ويتوقع مني متابعة حياتي كما كانت وأفضل بكل بساطة
:- أظنهم يتألمون لرؤيتك حزينة
تمتمت :- وعصبية أيضا هذه الأيام
:- بسبب القصة الحزينة التي ترفضين إخباري بها
قالت بضيق :- إنه حقا موضوع مزعج .. لقد خرجت لتوي من نقاش حوله لم يزدني إلا غما .. لست مزاج مناسب لأناقشه مجددا
غمغم مفكرا :- هممممم . إذن .. علي أن أعدل مزاجك كي تفتحي قلبك لي
قالت بحذر :- ماذا تعني ؟
قال فجأة :- إخرجي معي غدا .. وأعدك بأنك ستنسين كل همومك مع نهاية اليوم
ارتبكت لعرضه المفاجئ وقالت :- لا أظنني أستطيع الخروج معك
:- لماذا ؟ .. حسب ما أعلم .. ليس لديك ما يشغلك خلال الأسابيع المقبلة
بحثت داخل عقلها عن أي عذر ترفض به .. ولكن عقلها لم يستجب .. فقد كانت كل أفكارها وأحاسيسها مشوشة ومرتبكة شوقا لفكرة لقاءه
شعرت بابتسامة الانتصار على شفتيه الجميلتين دون أن تراه وهو يقول :-
:- من الواضح أنك لا تستطيعين إيجاد مانع .. سأراك غدا في تمام الساعة العاشرة صباحا .. سأمر لأخذك بسيارتي
قالت باضطراب :- أنت لا تعرف عنوان منزلي
:- أنت ستعطينني إياه
هتفت بعناد :- لن أفعل
قال وقد سره عنادها :- إذن سأجوب المدينة بسيارتي وأنا أحمل مكبر الصوت وأناديك صارخا في كل مكان أمر به حتى تظهري
هتفت بحدة :- أنت لن تفعل هذا
قال باستمتاع :- هل تراهنين ؟
زفرت بقوة ثم قالت بغيظ :- لا تزعج نفسك .. سأنتظرك أمام بوابة الجامعة
صمت للحظات وكأن عدم ثقتها به قد جرحته .. ولكنه قال بهدوء :- لا بأس .. سأراك هناك .. تصبحين على خير
وضعت جودي الهاتف مكانه .. وبالرغم من صوت العقل الذي أخذ يوبخها على استسلامها لعرضه
.. إلا أ، كل خلية في جسدها كانت تصرخ شوقا للقاءه .. انتصرت غريزتها على صوت العقل.. واستسلمت لسرورها الذي لم تشعر به منذ أسابيع طويلة .. وعندما نامت أخيرا كانت تبتسم هذه المرة

ithran sara
2015-06-11, 20:22
الفصل الخامس عشر
على باب القدر

قرعت أماني باب شقة سمر وانتظرت شاردة الذهن للحظات حتى فتحت لها سمر الباب .. صحت من أفكارها فورا عندما لاحظت وجه سمر المتورد .. والسعادة الواضحة في عينيها المشرقتين .. وقبل أن تعتذر عن تأخرها سحبتها سمر إلى الداخل قائلة بحماس :- لن تصدقي ما حدث .. لقد عاد زهير . أخذ إجازة قصيرة من الجامعة وقرر مفاجأتي .. الماكر العزيز .. لا أستطيع وصف سعادتي لك .
دخلت أماني إلى غرفة الجلوس بحرج .. فوقف الدكتور زهير.. الرجل الأربعيني مليح الوجه .. ذو الشعر الخفيف الذي يغطي رأسه .. وحياها بتحفظ ..
وبعد قليل كانت تساعد سمر في المطبخ أثناء إعداد العشاء تستمع إلى ثرثرتها وهي تقطع الخضار :- ذلك الماكر هشام .. هل تصدقين بأنه من أقنع زهير بالعودة بعد أن أخبره بأنني أحتاج إلى مفاجآت سارة بين الحين والآخر
لم تستطع أماني الاستماع إلى المزيد .. إنه ذلك المسخ الذي تعمل تحت إمرته .. هو من خطط لهذا كي يجبرها على مغادرة شقة خالته .. هتفت فجأة لتقطع حديث سمر :-
:- لقد وجدت هذا النهار شقة تناسبني .. سأنتقل إليها في الحال يا سمر
ارتبكت سمر وتوقفت عن عملها وهي تقول :- لماذا ؟ هل لعودة زهير أي علاقة برحيلك ؟ يجب أن تعرفي بأن بقاءك هنا لا يسبب أي مشكلة لنا .. أنا وزهير نرحب بك دائما
قالت أماني بهدوء :- لا علاقة لدكتور زهير برحيلي .. لقد صدف أن وجدت الشقة المناسبة خلال استراحة الغداء لهذا اليوم .. لقد وقعت عقد الايجار وصاحبها ينتظرني بعد ساعة ليسلمني المفتاح
بدا على سمر الاستعداد لمناقشتها في الأمر .. فأسرعت أماني نقول بانزعاج :- لا تبدأي بالإلحاح ..كنت سأنتقل للإقامة في مكان آخر في جميع الأحوال .. كما أنني أرغب في الاحتفاظ بعملي قبل أن ....
بترت عبارتها قبل أن تفصح عن أكثر مما أرادت .. قالت سمر باستنكار :- عملك ؟ لماذا ؟ أنا لا أ فهم علاقة ...
صمتت وقد اتسعت عيناها بفهم .. وقالت مصدومة :- هل لهشام أي علاقة بقرارك هذا؟
ابتعدت أماني بضيق من زلة لسانها .. صاحت سمر بحدة :- أماني .. أجيبيني حالا .. هل أرسل هشام بطلب زهير كي يحملك على الرحيل ؟.. ولكن لماذا يفعل هذا ؟
تنهدت أماني .. وجلست فوق مقعد خشبي قريب .. ووجدت نفسها تحكي لسمر عن حوارها الأخير مع هشام .. ثم أعقبت بقولها :-تصرفه كان طبيعيا بعد موقف أبي مني .. إنه قلق عليك فقط .. هو لا يعرفني جيدا كي لا يتأثر بما بدأ الناس بتداوله عني
صمتت سمر للحظات ثم تلفتت حولها بحثا عن مقعد آخر .. وعندما جلست مقابل أماني قالت متنهدة :-
:-لطالما كانت غريزة الحماية لدى هشام عنيفة .. خاصة فيما يتعلق بأحبائه وهم ليسوا كثر .. طفولته الصعبة قلصت بشدة ثقته بالآخرين .. وجعلته يكشر عن أنيابه لأن تعرض أحد أفراد عائلته للأذى
تمتمت أماني :- لقد لاحظت هذا جيدا
:- ولكنك لم تفهميه .. عندما رحل والده كان مجرد طفل صغير في العاشرة من عمره .. وجد نفسه مسؤولا عن والدة وشقيقتين صغيرتين .. لقد عانت تلك العائلة الكثير من الناس ..والمجتمع الذي لم يتركها في حالها أو يسامحها على فعلة الأب الهارب .. لقد حاصرها الدائنون .. والطامعون من الأقارب .. وكانت صدمة أكبر عندما وجد أمه تعاني من اضطهاد عائلتها .. أرادو منها مغادرة منزلها وبيعه لتسديد ديون زوجها .. وحاولو إجبارها على رمي أطفالها والحصول على الطلاق كي تتزوج بآخر يتحمل عنهم مسؤوليتها .. ولكنها رفضت بشجاعة ووقفت في وجه أساليبهم العنيفة أحيانا .. دون أن يحميها أحد سوى ذلك الابن الصغير
كانت أماني قد سمعت بالقصة مرارا .. وفي كل مرة كانت تتجاهل اكتشافها وجود إنسان خلف ذلك الوجه القاسي تالذي يحمله رئيسها .. رافضة التعاطف معه .. ولكنها لم تستطع هذه المرة ألا تتخيل الطفل الصغير الأسمر الذي لم يتجاوز العاشرة .. وقد وجد نفسه عاجزا عن حماية أمه أمام تعرضها للأذى
ابتسمت سمر بحنان قائلة :- كنت صديقته المفضلة لسنوات بسبب تقارب أعمارنا .. جعل العناية بي مهمة له بالرغم من صغر سنه .. فوقف في وجه أبي عندما أراد تزويجي لأحد معارفه الأثرياء وأنا لم أغادر مقاعد الدراسة بعد .. لم يقبل هشام أن يتكرر معي ما حدث لأمه. فقد تزوجت صغيرة جدا .. وعندما وجدت نفسها وحيدة بلا معيل .. لم تمتلك أي مؤهل يساعدها على إيجاد وظيفة .. لولاه ما وجدت القوة لمواجهة أبي ورفض الزواج .. والإصرار على متابعة الدراسة ثم الزواج بزهير .. هكذا ترين سبب اهتمامه بي وسعيه الدائم لحمايتي
لم ترغب أماني بسماع هذه القصة المؤثرة .. فآخر ما تريده هو أن تتوقف عن كره ذلك الرجل .. وهي واثقة بأنه لن يكون مسرورا بدوره إن عرف بأنها قد سمعت الجانب التعس والمرير من حياته .قالت بضيق :- ولكنني لم أمنحه سببا واحدا ليخاف مني
هزت سمر رأسها متفهمة وهي تقول :- إنه أصلك الثري .. لقد نجح هشام بعد كفاح طويل وحقق من الصفر ثروة طائلة .. ولكن حقدا دفينا ظل داخله اتجاه كل فرع منحدر من أصل ثري .. لأن والده كان من ذلك النوع الذي ولد وفي فمه ملعقة من الذهب .. حصل دائما على كل ما أراد .. وعندما وجد نفسه عاجزا وفاقدا لموارده بسبب تهوره وطيشه لجأ إلى الهرب بأموال غيره .. لم يسامحه هشام أبدا على فعلته .. وعلى العار الذي ألحقه بعائلته بسبب طمعه الشديد .. بطريقة ما .. يرى هشام فيك ارتباطا بوالده .. ولكنه مخطئ ويجب أن يعرف هذا .. أنا متأكدة بأنه سيغير رأيه عندما أخبره بحقيقة ما يحدث معك .
هتفت أماني بحدة :- إياك أن تخبريه بشيء .. لا أريد شفقته .. خروجي من شقتك كان سيحدث عاجلا أم آجلا .. أنا لا أمتلك الآن سوى كرامتي وكبريائي .. ولن أفرط بهما مهما كانت ظنون ابن أختك بي سيئة .
نظرت إليها سمر للحظات متأملة .. ثم هزت كتفيها قائلة :- تناولي العشاء معنا على الأقل .. ثم سيوصلك زهير بنفسه
لم تعترض أماني على عرض سمر .. فلا مانع لديها من بعض الصحبة قبل أن تبدأ مشوارها الحقيقي .. وحدها تماما هذه المرة .

ithran sara
2015-06-16, 19:31
أنا من محبي الروايات كثيرا
شكراااااااااااااا جزيييييييييييييييلا لك




العفووو :)

دمعة الامل
2015-06-20, 19:06
في انتظار التكملة
موافقة حبيبتي

ithran sara
2015-06-21, 12:37
في انتظار التكملة
موافقة حبيبتي



ان شاء الله

في الطريق :)

:1:

ithran sara
2015-06-21, 12:39
الفصل السادس عشر
فوق السحاب

اعتدلت جودي في وقفتها حيث كانت مستندة إلى سيارتها بترقب وقلق .. راقبت الشاحنة الصغيرة المتسخة تقترب .. لتتوقف أمام سيارتها تماما .. عرفت بأنه هو من التحفز الغريب الذي أصاب حواسها .. قفز من السيارة برشاقة .. فانعكست أشعة الشمس على شعره القاتم المصفف بعناية وعلى النظارات السوداء الأنيقة التي أخفت عينيه .. حبست أنفاسها للحظات وهي تتأمل مبهورة هيئته الجذابة .. سروال من الجينز وسترة جلدية سوداء فوق قميص ناصع البياض .. كان ارتباكها يزيد مع اقترابه المستمر منها .. حمدت الله على أنها ارتدت بدورها نظارة سوداء كبيرة أخفت تعابير القلق التي علت وجهها .. وصل إليها وهو يقول مبتسما :- أرجو ألا تكوني قد انتظرت طويلا
تمتمت بوجوم :- لا . ليس كثيرا
اتكأ على سيارتها بتكاسل .. وأحست بنظراته من خلف الزجاج المعتم تجري فوقها بتقييم سريع تتأمل تنورتها الصوفية وقميصها الأخضر الأنيق .. وحذائها العالي الرقبة .. ثم ابتسم برضا .. فشعرت بالسخط لاهتمامها الشديد بمظهرها .. لقد بدلت ملابسها عدة مرات حتى استقر رأيها على ملابس تتسم بالأناقة والبساطة .. وهاهو يعرف الآن بأنها قد تأنقت لأجله .. قال بلطف :- تسرني رؤيتك مجددا يا جودي
قالت بوجوم :- لم أكن متأكدة من قدومي
قال باسما :- أنا واثق من هذا .. تبدين جميلة للغاية
نظرت إلى سيارته لتخفي شعورها بالخجل وقالت :- أهذه سيارتك ؟
قال بفخر واضح :- بالتأكيد .. أعرفك إلى أول سيارة اشتريتها منذ عدت إلى الوطن
قالت ساخرة :- كان رأسك لينفجر من الغرور لو أنها كانت أنظف قليلا
سار معها بطء نحو الشاحنة الصغيرة التي غطى الغبار لونها الأزرق وهو يقول :-
:- كنت لأنظفها قليلا قبل لقائي بك .. لكنني لم أرغب بوجود أي ادعاء أو تظاهر بينا .. أحببت أن تتعرفي إلى تمام الحقيقي
قالت مداعبة :- تمام محفوظ الوسخ
قال ساخرا :- إن غسلت السيارة بنفسي كل مرة .. تركت المطر بدون عمل
فتح باب المقعد الأمامي منحنيا باحترام متهكم :- هلا تفضلت يا آنستي العزيزة
قالت مترددة :- هل من الضروري أن أفعل ؟
:- ليس ضروريا إن استعملنا سيارتك .. فمشوارنا ليس قريبا
أسرعت تقول :- سنستعمل سيارتك .. لم أركب شاحنة صغيرة من قبل
آخر ما تريده هو أن يتعرف أحدهم إلى سيارتها ويشاهدها برفقة رجل غريب .. أقفل الباب إلى جانبها بهدوء .. سألته عندما استقر في مقعده :- إلى أين سنذهب ؟
الفضول الطفولي في صوتها أضحكه .. قال :- سآخذك إلى مكان لطيف نتناول فيه الغداء
عندما انطلقت السيارة ركز اهتمامه في الدقائق الأولى على قيادته .. فتمكنت من تأمله بحرية وشغف .. لقد افتقدت رؤيته حقا خلال الأسابيع الماضية ولم تستطع تفسير شوقها إلى رجل بالكاد تعرفه .. رائحة عطره كانت زكية ورجولية .. تغلغلت داخل حواسها لتنشر الدفء في أوصالها .. نظر إليها بغتة فضبطها تراقبه .. تورد وجهها وأشاحت بنظرها بعيدا .. فابتسم دون أن يقول شيئا .. بل مد يده نحو جهاز التسجيل الحديث لتنساب ألحان جميلة لموسيقى غربية .. تمتمت لتحارب ارتباكها :- أما زال المكان بعيدا ؟
:- هل مللت صحبتي بهذه السرعة ؟
لا .. ولكنها لاحظت بأنهما قد غادرا المدينة منذ دقائق .. شعرت بالقلق والتوتر .. ولكنها لم ترغب بإظهارهما .. فقالت :- سأفعل إن ظللت صامتا لمدة أطول
منحها ابتسامة اعتذار وهو يقول :- أنا آسف .. أردتك أن تسترخي قليلا .. كنت تبدين وكأنك خائفة من أن ألتهمك
ألقى نحوها نظرة عابرة ثم تابع :- ليس هناك ما يستوجب قلقك مني يا جودي .. لا أنوي إيذائك .. أرغب قط بمنحك وقتا ممتعا
قالت بهدوء :- لست قلقة .. بل متوترة .. لم يسبق لي أن قمت بعمل متهور مماثل دون تخطيط وصحبة رجل غريب
قال برقة :- ولكنني لم أعد غريبا .. أليس كذلك ؟
تردت للحظات ثم تمتمت :- أظن هذا
ثم قالت بعد فترة صمت :- ماذا عن عملك ؟ أليس لديك ما تقوم به غير الترويح عن الفتيات المكتئبات ؟
ضحك قائلا :- لدي ما أقوم به بالتأكيد .. ولكن عملي ليس مقيدا .. كما أنني لا أروح عادة عن أي فتاة مكتئبة
نظر إليها فلمحت لمعان الإعجاب في عينيه وهو يقول :- بهذا الإشراق والتألق الذي تبدين فيه اليوم لا تشبهين أبدا الفتاة الحزينة التي كلمتها مساء الأمس
رفعت قائلة بغرور:- لقد كانت نوبة عابرة .. أنا دائما متألقة
ضحك مجددا فدغدغت ضحكته حواسها وجعلت قلبها يخفق بقوة .. مد يده ليداعب وجنتها بحركة فاجأتها .. أعاد يده فوق المقود وهو يقول :- ألم تعلن نتائج الامتحانات بعد ؟
اندمجت في حديث ممتع معه حول الجامعة وسياسة التعليم فيها .. بينما حكى لها عن دراسته والسنوات التي قضاها في الجامعة .. عرفت بأنه حائز على إجازة في إدارة الأعمال ..ففكرت باستغراب بأن انتهاء الطريق به إلى عازف غيتار بسيط خسارة لشخص بمؤهلاته .. رغبت في الاستفسار عن الأمر .. ولكنها لم تستطع .. فعلاقتهما الوليدة لا تسمح لها بمناقشته في أهداف حياته .. عندما عادت تتأمل المشاهد الطبيعية من خلف زجاج النافذة .. سألته بدهشة :-
:- هل نحن متجهان إلى الجبل ؟
:- ألا تحبين المكان ؟
بالتأكيد تحب المدينة الصغيرة الواقعة فوق الجبل .. معظم سكان المدينة يقضون أشهر الصيف فيها .. ولكن في هذا الوقت من السنة تكون الجبال مغطاة بالثلوج .. والبرد غير محتمل .. صارحته بأفكارها فقال :- يكون المكان مكتظ في الصيف .. أما في هذا الوقت .. فالمدينة ستكون ملكا لنا
غمز بعينه وهو يقول :- لا تدعي البرد يقلقك .. سأدفئك بنفسي لو دعت الحاجة
تورد وجهها وفضلت التزام الصمت بقية الطريق .. لم تكن ممن يصيبهم الدوار في الطرق الجبلية .. لذلك استمتعت تماما بالطبيعة الساحرة والمنحدرات الصعبة التي كساهما اللونين الأخضر والأبيض .. والأشجار العارية
أوقف السيارة أخيرا إلى جانب الطريق وهو يقول :- لحسن الحظ الجو صحو هذا النهار .. كان الضباب ليصنع مشكلة لنا
فتح الباب وقفز خارجا فتبعته .. ولدهشتها لم تشعر بالضيق لبرودة الجو كما ظنت .. بل أحست بالانتعاش عندما تنفست الهواء البارد .. تبعته نحو حافة المنحدر ووقفت إلى جانبه وهي تضم معطفها إليها .. تأملا معا المشهد الساحر بصمت قطعته هي قائلة :- لطالما أحببت زيارة هذه المدينة بين الحين والآخر ..ولكنني لم أفكر بزيارتها في الشتاء
قال بانتشاء :- سمني غريب الأطوار ولكن مشهد الجبال العارية المغطاة بالثلوج يستهويني .. في العام الماضي قضيت إجازة رأس السنة في شقة صغيرة هنا بدون أي وسيلة تدفئة فقط كي أحظى بالجمال والسكون
أطلقت ضحكة قصيرة وهي تحدق فيه مستغربة وقالت :- أنت مجنون
منحها ابتسامة عريضة ومتألقة وهو يقول :- ألا يجعلني هذا مميزا
عاد أدراجه إلى السيارة قائلا :- لقد وعدتك بغداء .. هل تذكرين ؟
راقبته يتناول من القسم الخلفي للسيارة حقيبة من النوع الحافظ للحرارة .. وحصيرة رحلات .. فقالت مذهولة :- هل سنأكل هنا ؟
:- متى كانت آخر مرة قمت فيها بنزهة في الهواء الطلق؟
ثم نظر إلى عينيها قائلا :- كما أنك أفهمتني وبوضوح ليلة الأمس قلقك من ظهورنا معا أمام الناس
شعرت بالحرج وتمتمت :- لن يكون هذا مناسبا بما أنني مخطوبة لرجل آخر
عبس وقال بانزعاج :- لست مضطرة لتذكيري بهذا
ندمت فورا لذكرها طارق .. فقد عاد إليها الشعور بالذنب لوجودها مع رجل غيره في مكان نائي وساحر .. واستمتاعها بوقتها .. أطرقت فاقترب منها وكأنه قد قرأ افكارها وقال برقة :- لن أسمح لأي شيء بإفساد هذا النهار علينا
رفعت وجهها ونظرت إليه .. فالتقت أعينهما للحظات جعلت قلبها يرتعش بشعور دافئ لذيذ
ابتسم عندما قرأ مشاعرها المضطربة .. ومد يده إليها بالحصيرة قائلا :- فلتقومي بنصيبك من العمل
ابتسمت وتناولت الحصيرة لتبسطها على الأرض قريبا من الحافة .. جلسا بارتياح .. وانهمك تمام بإخراج أطباق ورقية مغطاة .. وزعها أمامها بترتيب .. تأملت بدهشة السلطة والشطائر الساخنة .. وشرائح الدجاج والمقبلات . حتى أنه لم يغفل عن الحلوى والعصير .. ضحكت قائلة :- هذا الطعام معد ليكفي خمسة أشخاص على الأقل
عبس متظاهرا بالضيق وقال :- بما أنني أتمتع اليوم بشهية أربعة أشخاص .. فبالكاد سيكفينا الطعام
تناولا الطعام وهما يتحدثان بمرح حول كل شيء .. دفعها للضحك عدة مرات .. ونجح في نزع كل قلق أو توتر كانت تشعر به .. تحدثت بإسهاب عن نفسها .. عائلتها وأصدقائها .. وعندما ذكت اسم أماني صمتت .. وقد أطل الحزن مكن عينيها .. شجعها بلطف على الحديث عن الأمر فاستجابت له .. لقد كان حتى الآن مستمعا متفهما ومتحدثا بارعا .. استمع إليها حتى النهاية دون أن يقاطعها .. وعندما صمتت تمتم :- لها الحق في أن تغضب يا جودي .. الموقف كله محرج ومهين .. وجارح للغاية
قالت متألمة :- أعرف هذا جيدا .. وأنا السبب
:- لا تلومي نفسك .. لقد فعلت ما ظنته صوابا .. لم يكن بمقدورك خذلان والدك المريض .. لابد أنك قد اقتنعت في النهاية بأنها لن تتزوج بابن عمك مهما كانت النتيجة
لاحت على شفتيه ابتسامة باهتة وهو يقول :- تعجبني ثقتها بنفسها وإصرارها على فعل ما تريد .. بغض النظر عن رأي المجتمع أو ضغوط والدها وعائلتها .. إنها شخصية فريدة ومميزة .. أظنني متشوق لتعرف إليها
اشتعلت غيرة خفية داخلها من فكرة لقاء تمام بشقيقتها الكبرى .. لابد أنهما سيتفاهمان جيدا .. فكلاهما رومانسي متمرد .. مميز بطريقته الخاصة
تمتمت بتعاسة :- إنني أفوقك شوقا للقائها هذه الأيام .. فهي ترفض حتى التحدث إلي ..أنا لا أعرف حتى كيف تتدبر أمورها أو أين تقيم
كان تمام ممددا إلى جوارها فوق الحصيرة متكئا على مرفقه وهو ينظر إليها بإمعان .. ثم تجاوز المسافة بينهما بيده ليربت على يدها مما أجفلها .. شعرت بأحاسيس مختلفة لملمس يدها الناعمة والباردة على بشرتها .. ولكنها لم تسحبها .. قال بهدوء :- إياك أن تستسلمي يا جودي .. إنها بحاجة إليك .. وإلى دعمك مهما حاولت الإنكار .. فأنت عائلتها الوحيدة . تابعي المحاولة مرة بعد مرة وستسامحك في النهاية
كانت بحاجة إلى كلماته المشجعة بعد الإحباط الذي بثه فيها طارق نهار الأمس .. فهمست :- أشكرك
اعتدل جالسا وهو يقول :- على ماذا ؟ لا أريدك أن تفسدي علا قتك بأختك .. أتمنى لو كان لدي أخ أو أخت لكانت الحياة أجمل بالتأكيد
سألته بفضول :-
ألا تشعر بالوحدة هنا بعيدا عن عائلتك ؟
لاحظت سحابة الكآبة التي ظللت عينيه وهو يقول :- بالتأكيد .. يحاول أقربائي الموجودون هنا التعويض علي بطرق مختلفة .. دعوات .. زيارات .. اقتراحات زواج .. ولكن ما أريده حقا هو أن يعود والدي إلى هنا بشكل نهائي .. في كل مرة أتحدث فيها إليهما يتعهدان بالعودة مع نهاية العام .. ولكن السنوات مرت .. وهما عالقان هناك
نظر إليها وعلى شفتيه ابتسامة جانبية خفيفة وقال :- هذا الضعف ليس بالضبط ما توقعته من رجل واثق من نفسه مثلي .. صحيح ؟
قالت بلطف :- أعتقد بـأن مشاعرك اتجاه عائلتك نبيلة للغاية .. لابد أنهما يفوقانك شوقا إليك بما أنك ابنهما الوحيد
التقت نظراتهما مجددا .. في تلك اللحظات .. حدث شيء بينهما .. نوع من التواصل الصامت العميق
أحست جودي بأنه قادر بعينيه المظللتين بأن يخترق كيانها .. ويلمس أعمق أحاسيسها .. حررت عينيها بصعوبة .. فتنحنح معتدلا وهو يقول :- ما رأيك بجمع هذه الأشياء والسير قليلا ؟
أومأت برأسها موافقة .. وساعدته بإعادة الأغراض إلى السيارة .. ثم بدآ بالسير البطيء بمحاذاة الطريق المعبد .. لفهما صمت مقدس لم يقطعه إلا أصوات الطبيعة الهادئة .. ونفير بعيد لسيارة أو اثنتين .. كل منهما كان يحتل أفكار الآخر بشكل تام .. تساءلت جودي عن حقيقة مشاعرها اتجاه تمام .. هاهي تقضي معه نهارا كاملا في مكان ساحر بعيد .. يفضي كل منهما بأسراره إلى الآخر .. وألفة غريبة تبدأ بالتشكل بينهما .. تسرب شوقا خبيثا في نفسيهما .. شوق مثي .. خطر .. ومحرم
كان كل منهما غارقا في أفكاره .. لم يسمعا هدير الشاحنة الضخمة التي بدأت تقترب منهما حتى دوى صوت البوق يزعق بهما بصخب .. انتفضت جودي واستدارت نحو الوحش الآلي الضخم الذي استمر في سرعته الجنونية نحوهما متوقعة منهما الابتعاد السريع ..هذا الاستيقاظ المفاجئ من أفكارها ومخاوفها سمرها مكانها .. فلم تشعر إلا بتمام يدفعها بعنف بعيدا عن طريق الشاحنة
صرخت مذعورة عندما سقطا معا وتدحرجا فوق الأرض الرطبة لجانب الطريق .. مرت الشاحنة حتى دون أن تخفف من سرعتها .. قفز تمام معتدلا بسرعة وهو يمسك بها قائلا بقلق :- هل أنت بخير ؟ عل أصابك مكروه ؟
أحست بكل جزء من جسدها يصرخ بألم .. ولكنها عرفت بأن آلامها سطحية وناتجة عن رضوض بسيطة لا أكثر.. نظرت إلى وجهه القريب للغاية منها .. بينما كانت ماتزال ممددة على الأرض دون أن تصحو بعد من الصدمة .. كرر سؤاله بحدة هذه المرة .. عجزت للحظات عن الإجابة وقد أخرسها إحساسها المركز نحو جسده المطل فوقها .. ثم همست أخيرا باضطراب :- أظنني .. بخير
أمسك بيدها وساعدها على الجلوس فلاحظت وجهه الشاحب .. وأدركت الخوف الرهيب الذي عرضته له عندما كادت تخسر حياتها تحت العجلات الضخمة للشاحنة .. وجدت ضرورة لتهدئته .. فشدت بيدها على يده قائلة :- أنا بخير .. حقا
ولكنه لم يهدأ .. إذ ظهرت في عينيه مشاعر عنيفة وهو يمسك بوجهها بين يديه ويقول :-
:- لقد كدت أخسرك .. هل تفهمين ما يعنيه هذا ؟
همست :- ولكنك لم تخسرني .. ولن تفعل
نظر إلى كل جزء من وجهها الجميل والناعم ... وقال بخفوت :- هل تعدينني بهذا ؟
اضطربت .. وعجزت عن التفوه بكلمة .. دفء اللحظة والمشاعر الجمة التي تشاطراها خلال الغداء .. خلال الخوف الذي عصف بهما قبل لحظات .. جعلاها تنسى الواقع .. الواقع الذي يقف بينهما ويجعل وجودهما معا خطأ كبيرا
بينما كان قريبا منها .. يحيطها بذراعيه ليحميها من أي أذى .. ويتأكد بأنها بخير .. أرادت أن يتوقف الزمنت .. وتستمر في النظر إلى وجهه الوسيم .. إلى عينيه الدافئتين .. وشفتيه الجميلتين .. ياإلهي ما الذي يحدث ؟
أحست بأنفاسها تتلاحق بإثارة وترقب بينما كان يقترب منها أكثر وأكثر .. سيقبلها .. يجب أن تمنعه بأي طريقة .. مدت يدبها إليه تريد دفعه عنها .. ولكنهما استقرتا فوق صدره . . لتشعر بنبضات قلبه تدوي بصخب .. تخللت أصابعه شعرها الناعم بمداعبة رقيقة أذابت كل مقاومتها .. فأغمضت عينيها مستسلمة لملمس شفتيه على شفتيها
بالنسبة لفتة تنال قبلتها الأولى .. لم يكن رد فعلها طبيعيا .. لم تشعر بالخوف او بالرفض .. بل كانت كمن انتظر شيئا لسنوات طويلة دون ان يعرف ما يكون .. ثم وجده أخيرا
جرت الدماء ساخنة في عروقها لتنسيها البرد القارص المحيط بهما .. انتابها في البداية دوار خفيف وضياع تاهت فيه عما حولها .. ثم اتضحت لها مشاعرها لأخيرا .. إنها تريده بكل قسوة وألم .. اقتربت منه فازدادت قبلته حرارة وشغفا .. شدها إليه لتلتصق به وتشعر الصلب يرتعش من الرغبة .. خرج اسمه من بين شفتيها أشبه بآهة استغاثة ضعيفة .. ولكنها كانت كافية لتعيده إلى الواقع .. رفع رأسه ونظر لاهثا إلى وجهها المتورد .. أهدابها المنسدلة بإثارة .. كانت عيناها اللامعتان تطلبان المزيد .. وتغريه بالتمادي .. ولكنه ابتعد فجأة وهو يقول بصوت مرتعش :- هل أنت مدركة لما تفعلينه بي ؟
أفاقت في تلك اللحظة .. وهبطت أخيرا إلى أرض الواقع .. رمشت بعينيها للحظات كي تتأكد بأن ما حصل لم يكن حلما .. يا إلهي .. لم تكن تحلم
نهض واقفا أما نظراتها المصدومة ومد يده إليها قائلا :- من الأفضل أن نعود قبل أن يحل الظلام
لم تعرف كيف وجدت القوة كي تتجاهل يده الممدودة .. وتقف وهي تمرر يدها خلال شعرها ترتبه محاولة التتغلب على اضطرابها .. لاحظ ارتعاشها فتلوى خارجا من معطفه .. ووضعه على كتفيها رغم تأكده بأن البرد لم يكن سبب ارتعاشها .. فلم تعترض .. ولكنها سبقته إلى السيارة دون أن تقول كلمة
بذلت جهدا كبيرا كي لا تبكي خلال طريق العودة حيث ساد صمت ثقيل بينهما .. تذكرت ما حدث غير مصدقة .. لقد قبلها .. قبلها حقا .. وقد بادلته القبلة بكل أحاسيسها وكيانها .. بينما هو مجرد رجل غريب لم يمر على لقائها به أكثر من أسابيع قليلة ..لابد أنها يظنها بعد ما حدث فتاة سهلة المنال .. مستهترة .. مستعدة للتورط مع أي شاب وسيم يتحرش بها .. أما الحقيقة فهي أنها مجرد فتاة ساذجة لا تجارب لها .. تعيش للمرة الأولى أحاسيس بدائية وقوية كهذه .. أثارها فيها رجل بدت خبرته في المجال العاطفي واضحة ..بالتأكيد لم تكن اول امرأة يقبلها بذلك الشغف والإحساس .. ويلقنها مبادئ الحب والجاذبية في الوقت الذي توشك فيه على الزواج من رجل آخر .. يا إلهي .. لقد نسيت أمر طارق تماما .
أدارت وجهها نحو النافذة ومسحت دموع المرارة من عينيها قبل أن يراها تمام
لماذا لا يثير طارق فيها أي شيء من تلك المشاعر الجياشة التي عرفتها مع تمام ؟ لماذا لا يدفعها وجوده للتصرف بتهور واندفاع .. وكيف لها أن تعرف إذا كان طارق يعاملها باستمرار بحرص وتهذيب وكأنها قطعة ثمينة من الكريستال يخشى أن تنكسر .. لم يقترب منها يوما أو يقلل من احترامها .. لم يظهر إلا الإعجاب المتعقل .. ولماذا يفعل إن كانت ستصبح له في نهاية المطاف ؟ ربما لو أظهر لها بعض الحب والشغف لما بحثت عنهما في مكان آخر .. يا سلام .. ها هي تحمل طارق مجددا مسؤولية تهورها وخيانتها ..
وصلا إلى المدينة مع حلول الظلام . .نظرت عبر النافذة بشرود .. كل ما تريده الآن هو أن تعود إلى البيت .. وتخفي نفسها عن بقية البشر حتى تموت مع عارها
كانت شاردة الذهن .. حتى أنها لم تفطن إلى تجاوز تمام للمنعطف المؤدي إلى الجامعة حيث أوقفت سيارتها .. لم تشعر إلا بالسيارة تتوقف .. ولكن في مكان بعيد تماما .. نظرت حولهما بتوتر .. ولاحظت الشارع المزدحم الذي تراصت على جانبيه المتاجر المختلفة .. وتكدست أرصفته بالبشر من جميع الأعمار والأصناف .. ما الذي يفعلانه في وسط المدينة ؟ نظرت إليه لتسأله .. فارتجف قلبها عندما وجدته ينظر إليها صامتا .. فعقد لسانها .. ولم تستطع التفوه بحرف . أسبلت عينيها لتتحاشى نظراته.. فسمعته يقول :- أعرف سبب غضبك وانزعاجك .. ما حدث بيننا فوق الجبل لم يكن مخططا له من قبلي يا جودي .. أقسم لك على هذا
أجفلت عندما أمسك بيدها بحزم قائلا :- انظري إلي يا جودي
نظرت إليه مترددة فوجدت عينيه تشعان بالندم الصادق وهو يقول :- أكن لك الكثير من الإعجاب والاحترام يا جودي .. ولا أفكر بإهانتك والتقليل من شأنك بأي طريقة .. لم أخطط للمسك .. ليس في هذه المرحلة من تعارفنا على الأقل بينما أنا أسعى لكسب ثقتك
ثم داعبت شفتيه ابتسامة باهتة وهو يقول :- ولكنني لم أستطع التحكم بمشاعري .. في تلك اللحظة استحوذت على فكرة أنني كدت أفقدك تحت عجلات تلك الشاحنة .. وعندما نظرت إليك ....
زفر بقوة وهو يترك يدها ليشد بأصابعه فوق المقود قائلا بتوتر :- لم يخالجني هذا أبدا مع أي امرأة .. هناك ما يربطني بك ويشدني إليك ولا أستطيع تفسيره ..ولكنني أحسست به منذ لقائنا الأول ..
نظر إليها وكأنه ينتظر تعليقها .. ولكنها كانت تركز بصرها على الشارع المزدحم أمامها .. سمعته يقول :- لن أسمح لما حدث بأن يفسد يومنا ..أريد أن أسمعك تقولين بأنك قد سامحتني
ارتبكت وأحست بتشوش في أفكارها .. منذ دقائق كانت غاضبة ومحرجة .. وتقسم بأغلظ الأيمان على ألا تراه مجددا .. أما الآن فهي تفهمه ..لأنها بدورها تتصرف بغرابة وتفقد سيطرتها على أفعالها في وجوده .. هناك ما يجمع بينهما يخفها ويجذبها في آن واحد .. ترغب في الهرب منه ولكنها لا تحتمل فكرة عدم رؤيته مجددا .. تمتمت أخيرا :-
:- ما الذي نفعله هنا ؟
قال ببساطة :- أنا أقيم هنا
التفتت إليه بحدة فقهقه عاليا مستمتعا بنظرتها العدائية وهو يقول :- هذه النظرة في عينيك لا تقدر بثمن .. هل ظننت بأنني أحضرتك إلى هنا كي أكمل ما بدأته ؟ ما الذي كنا أقوله منذ الصباح ؟.
اقترب منها وتناول كفها الباردة .. دلكها بلطف وهو ينظر إلى خطوطها الناعمة .. فبثت دفئا غريبا داخل جودي .. وذكرها بالأحاسيس العاصفة التي بثها داخلها عندما احتضنها بين ذراعيه .. ارتعشت لحرارة الذكرى .. ولكنها لم تستطع حمل نفسها على سحب يدها بعيدا عنه .. رفع عينيه إليها فحبست أنفاسها .. لقد بدا لها وسيما للغاية .. وقد ظلل الظلام وجهه وانعكست أضواء المتاجر في عينيه العميقتين .. قال بصوت منخفض مثير :- لقد كنت واضحا معك يا جودي .. أنا أريدك .. ولكن يجب أنت تأتي أت إلي .. برغبتك الحرة يا عزيزتي
ابتلعت ريقها باضطراب .. يا إلهي .. لماذا لا تستطيع مقاومته ؟ أو الابتعاد عنه ؟ هل وقعت في حبه ؟
صدمتها الفكرة .. ولكن تمام لم يترك لها الفرصة لتتمادى في أفكارها .. إذ اعتدل وهو يشير إلى نقطة ما في الخارج :- هل ترين ذلك المبنى حيث يقع متجر الأحذية النسائية ؟ أنا أقيم هناك .. في الطابق الرابع .. إن رغيت في زيارتي يوما فأنت تعرفين الآن أين أقيم
ثم ابتسم ساخرا وهو يقول :- قبل أن تتساءلي .. ليس ليس السبب في إحضاري لك إلى هنا هو إرشادك إلى بيتي .. انظري إلى ذلك المتجر في الزاوية
كان متجرا صغيرا لبيع التحف .. :- أريد مساعدتك في اختيار لوحة تناسب مكتبا أنيقا .. لقد كلفت بهذه المهمة وأحتاج إلى رأي خبيرة مثلك
سألته بفضول :- هل كلفك مديرك بهذه المهمة ؟
كرر حائرا :- مديري ؟
:- نعم .. صاحب المطعم الذي تعمل فيه كعازف جيتار
اختفت حيرته وابتسم بغموض قائلا :- هذا صحيح .. بالنسبة إليه .. كوني فنانا يجعل مني خبيرا في جميع أنواع الفنون
ابتسمت قائلة :- أحب أن أساعدك
منحها ابتسامة ساحرة وهو يتأمل وجهها الجميل بدفء .. ثم حثها على الترجل من السيارة
وبينما هما يقطعان الشارع .. لم تتردد في منحه يدها .. وقد تلاشى للحظة كل ما كان يتصارع داخلها من شك وريبة وخوف

ithran sara
2015-06-21, 12:40
الفصل السابع عشر
الخدعة

ما إن أصبحا وحيدين داخل الشقة .. حتى انتزعت أماني نفسها انتزاعا من بين ذراعي هشام .. وابتعدت عنه وكأنه يحمل فيروسا معديا .. قالت بجفاف :- ما الذي تفعله هنا ؟
لوى فمه بابتسامة ساخرة وهو يقول :- ليس هذا هو الشكر الذي توقعت أن أناله بعد إنقاذي لك من الموقف المحرج الذي وجدتك فيه
قالت بعصبية :- لم أكن بحاجة لمساعدتك
:- ولكنك لم تترددي في مجاراتي لخداع ابن عمك .. متلهفة للخلاص منه
آخر ما تريده أماني هو مناقشة مشاكلها مع هذا الرجل .. فزفرت قائلة وهي تغير الموضوع :-
:- أظنني قد قمت بما طلبته مني وغادرت منزل خالك وبسرعة .. صحيح ؟
رد بهدوء :- هذا صحيح
:- إذن ما الذي تريده بعد يا سيد هشام ؟ كيف عرفت عنواني على أي حال ؟
:- سمر هي من أطلعني على العنوان بعد أن طلبته منها
حدقت فيه بتوتر :- ولماذا طلبته ؟ ما الذي تريده مني ؟
اشتم رائحة الخوف في صوتها فعبس قائلا :- ما أريده هو الاعتذار إليك
ارتسمت الريبة على وجهها وهي تردد :- تعتذر .. عن ماذا ؟
قال بحزم :- لأنني أسأت الحكم عليك .. وعاملتك بطريقة غير متحضرة خلال لقائنا الأخير في شقة سمر
بدا عليها الارتباك من اعتذاره المفاجئ .. بطريقة ما لم يبد لها من النوع الذي يتراجع عن موقفه ويعترف بخطأة بسهولة .. ما الذي غير رأيه ؟
سألته بحذر :- ما الذي أخبرتك به سمر بالضبط ؟
راقب كيف بدأت ملامحها بالتغير أثناء حديثه :- كل شيء .. عن السبب الحقيقي الذي دفع والدك لحرمانك من الميراث .. والمشاكل التي تعانينها معه منذ سنوات
شعرت بالدماء تغلي في جسدها وهي تصيح بغضب :- لم يكن من حقها إخبارك .. لقد طلبت منها أن تبقي الأمر سرا
قطب فجأة قائلا :- هناك شيء يحترق
تسللت رائحة احتراق المعدن إلى أنفها فصاحت بجزع :- إبريق الشاي
كما توقعت .. وجدت فور دخولها إلى المطبخ أن محتوى الإبريق قد تبخر تماما.. وبدأ المعدن بالالتواء والمقبض البلاستيكي بالذوبان بفعل الحرارة .. أطفأت النار ورفعت الإبريق بقطعة قماش سميكة .. وألقته في الحوض .. وقد عرفت بأن نهاية الإبريق الحتمية هي سلة المهملات
تأملت الفوضى التي تسببت بها بسهوها بحسرة .. لا شراب ساخن هذا المساء .. سمعت هشام يقول من خلفها :- هل تحتاجين لأي مساعدة ؟
استدارت لتكتشف لحاقه بها إلى المطبخ .. بدا أكثر ضخامة وهو واقف عند الباب الضيق .. أحست أماني بأن مساحة المطبخ الصغيرة أصلا قد تقلصت .. حتى أنها لم تعد قادرة على التنفس .. كان ينظر إليها بعينين ضيقتين يتفحص اضطرابها .. والطريقة التي أخذت تنظر بها حولها وكأنها فأر علق في مصيدة .. تذكر فجأة رد فعلها الخائف عندما حاصرها منذ أسابيع في شقة خالته وكادت تفقد صوابها .. فتراجع خارجا من المطبخ وهو يقول بانزعاج :- لم لا نعود إلى الصالة لنتابع حديثنا .. أعدك بأنني لن أتهجم عليك إن كان هذا ما يخيفك
تمتمت بحرج :- لم .. أفكر بهذا
ولكنها فكرت به .. كما تفعل عادة كلما جمعها مكان واحد برجل غريب .. أجبرت نفسها على التزام الهدوء والتصرف بصرامة على الأقل حتى تعرف هدف زيارته
لحقت به إلى الصالة فوجدته جالسا بارتياح في انتظارها على الأريكة القديمة
قالت بتكلف :- اعذرني لعدم استطاعتي تقديم شيء لك كضيافة .. فكما رأيت بنفسك .. أفسدت الإبريق الوحيد الذي أمتلكه
رفع رأسه قائلا بحزم :- لم آت إلى هنا لأختبر ضيافتك يا أماني .. بل لأتحدث .. وسأبدأ بموضوع سمر.. أرجو ألا تغضبي منها لإفشائها أسرارك .. ولكنها كالعادة لم تحتمل رؤيتي أخطئ دون أن تصحح لي خطأي
جلست أماني متردة فوق مقعد بعيد وهي تنظر إليه بحذر فأكمل :- لقد أخبرتني عن معركتك الطويلة مع والدك التي استمرت لسنوات .. وصمودك الشجاع في وجه معاملته السيئة لك كي تقبلي الزواج برجل لا تريدينه .. أخبرتني عن قطعه المال عنك و .....
قاطعته بكبرياء :- أنا من رفض أخذ المال منه
ارتسمت شبه ابتسامة على شفتيه وهو يقول :- وهل يشكل هذا فارقا ؟ في الحالتين أنا أخطأت في حقك مرارا .. وأهنتك متهما إياك بالفساد والدلال والجري خلف المال .. بينما كنت تكافحين لكسب لقمة عيشك بجهدك الخاص .. من النادر أن تمتلك فتاة ولدت ثرية القوة والشجاعة لفعل هذا
أحرجها ثناءه وبدا غريبا لصدوره منه بالذات .. عرفت فجأة بأنها كانت تكره بشدة رأيه السيء بها .. تمتمت بخفوت :-
:- أي فتاة كانت لتفعل المثل في ظروف كتلك التي واجهتني
:- أي فتاة كانت لتستسلم بالزواج من رجل يمتلك فعليا كل ما تحتاج إليه من مال ومكانة بدلا من مغادرة المنزل الذي ولدت فيه .. والاضطرار لمواجهة العالم القاسي وحدها والإقامة في مكان كهذا
نظر إلى تفاصيل الشقة الفقيرة .. فشعرت بالحرج والحاجة لأن تقول :- لم أستطع إيجاد مكان أفضل خلال وقت قصير
أطل الندم من عينيه القاتمتين وهو يقول بخفوت :- أعتذر لأنني أخرجتك من شقة سمر بتلك الطريقة الفظة
هزت رأسها وقد استيقظ كبريائها من جديد :- كل ما فعلته هو تعجيل المحتوم .. الوضع ليس سيئا كما يبدو .. ليست الشقة بالمستوى الذي اعتدت عليه ولكنها مريحة
لم يظهر عليه أنه صدقها .. بل شمل المكان بنظراته مجددا ثم قال مغيرا الموضوع :- ما الذي أراده ابن عمك منك بعد موقفك الصريح الرافض منه ؟
تمتمت بفتور :- جاء ليطمئن علي
أعاد ظهره إلى الخلف قائلا بسخرية :- كنت لأصدقك لو لم أر نظرة الاستغاثة الصامتة في عينيك لحظة فتحت الباب لي .. من حقي أن أعرف سبب استجابتك لكذبتي على ابن عمك
أسبلت عينيها وتساءلت عن ردة فعله لو أخبرته الحقيقة .. بأن وجودها مع صلاح في مكان واحد يعني تهديدا لإحساسها .. وكبريائها وحريتها .... وحتى شرفها
شيء ما أكد لها بأنها تستطيع منح هشام بعض الثقة رغم أنه كان منذ ساعات فقط ثاني أكره شخص لديها .. ولكن مساعدته ثم اعتذاره الصادق غيرا شيئا في نظرتها إليه .. ولم تعرف إن كان هذا جيدا أم سيئا
تمتمت أخيرا :- جاء آملا أن يجدني أعاني في الطريق الوعر الذي اخترته لنفسي .. وليؤكد لي بانني أضيع وقتي وجهدي هباء
سألها بهدوء :- وهل هذا صحيح ؟
لأول مرة .. تركت إرهاقها يظهر بوضوح عبر زفرة قوية انطلقت من أعماقها ثم قالت باكتئاب :- لا أعرف .. إنني أبذل جهدا كبيرا الآن لأستقل في مدينة لا تعترف باستقلال المرأة .. وما عليه إلا أن يقف متفرجا حتى يتمكن المجتمع مني .. وعندها لن أجد غيره ليتلقفني . . هذه كانت خطة والدي الذي وضعها قبل وفاته .. لقد عرف بأنني لن أتقبل شروطه ببساطة ... وهكذا سيكون علي أن أعاني من ويلات الواقع وصفعاته قبل أن أستسلم .. لطالما كان مقتنعا بأنني لن أعتدل إلا بضربة على الرأس
أدركت بأنه يراقبها بهدوء .. وعينيه الثاقبتين تلاحظان بدقة رعشة جسدها وهي تتكلم .. هزت كتفيها قائلة باكتئاب :-
:-إنني واقعية فقط .. لا فائدة من خداعي لنفسي
:- لماذا ترهقين نفسك إذن ؟ لم لا تتزوجين به ؟ .. إنه ابن عمك أولا وأخيرا .. سيحميك ويمنحك ما تحتاجين إليه من رفاهية وأمان
قالت بحدة مفاجئة :- آخر ما أتوقع الحصول عليه من صلاح هو الحماية والأمان
أحست بتوتر جسده وهو يقول :- ماذا تقصدين ؟
هذا ما كان ينقصها .. أن تحكي لهذا الرجل عن تاريخها الأسود مع صلاح.. قالت بعنف وهي تقف :- لماذا يجد الناس صعوبة في تقبل فكرة رفضي للزواج من رجل لا أحبه ؟ إنه ابن عمي .. ولكنني لا أرغب في الزواج منه
قال بصرامة :- هل لمشاعرك هذه علاقة برجل آخر ؟.
نظرت إليه باستنكار :- هذا ليس من شأنك.. ولكن حتى أرضي فضولك سأخبرك بأنني أرفض الزواج بصلاح .. وغير صلاح
هز رأسه متفهما :- أنت كارهة للزواج إذن
قالت ساخرة :- ليس من الغريب أن تتفهم هذا .. فقد سمعت بأنك مضرب عن الزواج بدورك .. أم أنك كغيرك تجد هذا متاحا للرجال وليس للنساء
قال بحزم :- أعرف الكثير من النساء اللاتي رفضن الزواج .. ولكن أسبابهن كانت مقنعة
قالت بخشونة :- تأكد بأن أسبابي مقنعة تماما
ساد صمت ثقيل للحظات التقت خلالها أعينهما .. كان ينظر إليها من مكانه وقد علا وجهه تعبير غير مفهوم .. فأحست برجفة توتر مفاجئة .. وتمنت أن يرحل سريعا ويتركها وحدها
نهض واقفا وكأنه قد قرأ أفكارها :- أظن بأن ابن عمك لن يزعجك بعد الفصل المسرحي الذي قدمناه له معا ... أليس كذلك ؟
أطلقت ضحكة قصيرة جافة وهي تقول بتهكم يائس :- لا تكن متأكدا .. أنا أعرف صلاح .. سرعان ما سيعود عندما يعرف بأن قصة خطوبتنا ملفقة وغير صحيحة .. ولكنه سيعود أكثر غضبا وتصميما ولن يردعه شيء هذه المرة
ارتعشت وقد تذكرت تحذيره السابق من تورطها مع رجل آخر .. أحست بخوف كبير ظهر في عينيها دون أ، تدري .. وبعد دقائق من الصمت قال هشام بهدوء :-- ليس من الضروري أ، يعرف الحقيقة
أجفلت غير متأكدة مما سمعته ثم قالت بحذر :- ماذا تقصد ؟
:- أقصد أنه لن يعود إذا وجد بأن خطوبتنا حقيقية .. ومعلنة أمام الجميع
تراجعت إلى الخلف مصدومة وهي تقول :- لا يمكن أن تكون جادا .. أنا لا أريد أن أتزوج بك
استحال هدوءه إلى جفاف وهو يقول :- أنا أفوقك رفضا لهذه الفكرة .. ولكنني لم أتحدث عن زواج
قالت بعصبية وهي تلوح بيديها نافذة الصبر :- هلا تحدثت مباشرة عما تعنيه ؟
:- أعني خطوبة مؤقتة .. نعلنها أمام الناس ونتصرف على أساسها حتى يقتنع ابن عمك بأنه قد خسر ويتركك بحالك
نظرت إليه بريبة وقد فاجأتها الفكرة .. نظريا .. كانت فكرته لامعة وكفيلة بإبعاد صلاح عنها .. ولكن مجرد التفكير بأي ارتباط بهذا الرجل بعث في جسدها قشعريرة فسرتها فورا على أنها رفض وازدراء
كان يقف أمامها طويلا شامخا .. ما يزال يرتدي ملابس العمل الأنيقة التي لم تخفي تكوين جسده الضخم القوي .. وقد عقد ساعديه أمام صدره العريض في انتظار ردها .. ولسبب ما شعرت بالخوف منه .. هذا الرجل بحد ذاته يشكل عليها خطرا غامضا لا تستطيع فهمه .. تمتمت أخيرا :- لماذا قد تفعل هذا لأجلي ؟
هز كتفيه بلا مبالاة قائلا :- ليس بالشيء الكثير .. فكما سبق واستنتجت .. أنا لا أفكر بالزواج قريبا .. ولن يشكل الأمر مشكلة بالنسبة لي .. ولا تنسي بأنني الشخص الذي ورطك بالفكرة منذ البداية
ثم نظر إلى عينيها وقال:- كما أنني أدين لك بالمساعدة بعد الطريقة التي عاملتك بها
إذن .. فهو شعور بالواجب والشفقة .. شمخت بأنفها قائلة :- لا أحتاج إلى أي مساعدة منك
زفر بقوة وقد نفذ صبره .. ثم قال بحدة :- سأتركك إذن لتواجهي ابن عمك وحدك .. ولنرى كيف ستساعدك كبريائك
تجاوزها تجها نحو الباب.. فشعرت بالذعر .. فرغم امتعاضها وحذرها منه .. إلا أنه منحها بمساندته إحساسا بالأمان .. وهي لا تريد فقدان هذا الإحساس .. صاحت من خلفه :- لا تذهب .. أرجوك
التفت ينظر إليها من فوق كتفه إلى كيانها المرتبك .. فجلست على الأريكة لتهرب من نظراته قائلة بيأس :- لا أستطيع مواجهة صلاح وحدي .... أنا ....
أغمضت عينيها للحظات كي تستجمع شجاعتها ثم أكملت :- أنا أحتاج إلى مساعدتك
ظل جامدا مكانه دون حراك .. فظنت بأنه سيتجاهلها ويتابع طريقه نحو الباب .. ولكنه استدار نحوها قائلا بجفاف :- في هذه الحالة .. توقعي زيارة قريبة من والدتي
رفع ترأسها مصدومة وقالت :- ماذا ؟ .. ولماذا تزورني ؟ .. ظننت بأن هذه الخطوبة ستكون زائفة
:- هذا ما سيعرفه كلانا .. أما أمي .. فهي لن تعرف هذا أبدا .. يجب أن نتبع جميع الخطوات التقليدية وبشكل طبيعي كي لا نثير الشكوك .. وأمي يجب أن تصدق بأن هذه الخطوبة حقيقيو .. لأنها لن تتقبل بعد كل هذا الإضراب عن الزواج أن أتورط في تمثيلية لا نفع لي منها
قالت بصراحة :- سترفض في كل الأحوال .. لن تقبل ارتباطك بي في الوقت الذي تستطيع فيه الزواج من أفضل فتيات المدينة
عقد حاجبيه واقترب خطوتين وهو يقول بحدة :- وما الذي يعيبك أنت ؟
نظرت إليه بمزيج من المرارة والحزن .. ثم قالت بانفعال :- أنت تعرف بالضبط ما يعيبني .. لقد كنت أول من حكم علي من خلال موقف أبي مني .. و الآن بعد أن عرفت المدينة كلها .. فإن الجميع يتحدثون عني ويتساءلون عن الأسباب التي دفعت أبي لحرماني من الميراث .. وأمك لن تكون مختلفة .. لن ترضى بارتباط اسم ابنها الوحيد بفتاة مثيرة للشكوك .. لن تكون أما طبيعية إن فعلت
رفعت رأسها إليه ورسمت على شفتيها ابتسامة مرارة وهي تقول متهكمة :-
:- كما ترى .. لست مخيرة في رفضي التام للزواج .. لن يقبل رجل محترم الزواج بفتاة سيئة السمعة وتعيش وحيدة في هذا المجتمع المتحفظ .. ربما علي اختصار الجهد والوقت .. والقبول بما يعرضه علي صلاح مهما كان كرهي له شديدا
رغم محاولتها الاحتفاظ بالهدوء والواقعية أثناء حديثها إلا أن صوتها قد تهدج في النهاية عندما سرت رعشة اشمئزاز في جسدها .. مما أظهر مقدار التعاسة التي تبذل جهدا خرافيا لإخفائها عن الآخرين .. ولكنه تمكن من ملاحظة الدموع الحبيسة في عينيها .. فقطع المسافة بينهما ببطء.. وجلس إلى جوارها .. فانكمشت على نفسها .. وقد أربكها قربه .. ولكنه لم يكن ينظر إليها .. بل كان شارد الذهن وقد استغرق بالتفكير .. رائحة عطره المميزة كانت واضحة هذه المرة .. وبالرغم من الضيق الذي تثيره فيها روائح العطور .. إلا أن انجذابا مفاجئا أثار ذعرها نحو رئيسها الذي كرهته دائما .. فكرت بالقفز مبتعدة عنه .. ولكنها ستظهر نفسها أمامه مجددا كالحمقاء المذعورة .. فسيطرت على ارتعاش جسدها وأقنعت نفسها بأن حالتها النفسية السيئة وأزمتها الحالية تصوران لها أشياء لا وجود لها ..
قال هشام فجأة قاطعا استغراقها في تحليل مشاعرها :- بالرغم من كل ش**** السابقة بك يا أماني .. فلطالما ظننت بأنك فتاة شجاعة وقوية .. تعرف جيدا ما تريده وتسعى إلى تحقيقه بعزم .. رغم ظروفك السيئة .. لم تفقدي ثقتك بنفسك وكنت دائما الفتاة الذكية والأنيقة والمتألقة .. مما أثار داخلي احتراما وتقديرا كبيرين لك .. ليس من العدل أن تفقدي كل ما لديك إرضاء لكلام الناس
نظرت إليه بحيرة .. أهكذا يراها حقا ؟ لم تتخيل أنها قد تسمع منه كلمات الإطراء يوما .. ولكنه يعيد إليها ثقتها بنفسها وشجاعتها بكلماته .. أكمل بهدوء :- بالنسبة لأمي قد تكونين محقة .. ولكنني واثق بأنها ستتفهم ظروفك وتقدرك كما أفعل أنا .. فهي أكثر من يعرف ما تعانيه المرأة الوحيدة في مواجهة المجتمع
تذكرت أماني ما أخبرتها به سمر عن والدته .. لطالما تمنت أن تقابل تلك المرأة المناضلة ولكن لقائها في هذه الظروف يخيفها كثيرا
قال هشام :- لقد رفضت بدورها الزواج مجددا بعد رحيل زوجها .. ولم يفهمها المجتمع .. ولكنها فضلت العناية بأبنائها والاعتماد على نفسها بدلا من الخضوع مجددا لسيطرة إنسان آخر يستغل مشاعرها وحاجتها إليه
لاحظت كيف تكلم عن والدته بصفته زوج والدته .. وأحست خلف كلماته بمرارة الذكرى .. فقالت بتردد:-
:- أهذا سبب رفضك للزواج ؟ كي لا تمنح امرأة امتياز السيطرة عليك من خلال مشاعرك ؟
أحست بجسده الضخم يتصلب .. وعلا وجهه انزعاج غاضب وهو يقول:- نحن نناقش حياتك أنت لا حياتي
نظر إليها فوقع بصره على أثر الجرح في جانب وجهها الأيسر .. تأمله صامتا وقد تراقص تساؤل في عينيه .. ارتبكت وأسرعت تتخلل شعرها بأصابعها وتسقطه فوق الجرح لإخفائه .. قال متأملا :-
:- ما أعنيه من هذا الحديث هو أنك لست مضطرة للقلق بشأن أمي .. قد تحتج في البداية كأي أم .. ولكنها ستفهم في النهاية .. ستتغلب عليها رغبتها في رؤيتي متزوجا
قالت بقلق :- ماذا عن ردة فعلها عندما ننهي الخطوبة ؟ ألن يزعجها هذا ؟
لوى فمه قائلا:- سيزعجها قليلا .. ولكن هذه الأمور تحدث .. سنختلق شجارا أو اثنين .. ثم ندعي بأننا لم نتفاهم
تمتمت :- أنت تسهل الأمر كثيرا
سقطت يده فوق يدها فجأة .. لتجفلها بملمسها الخشن والدافئ .. نظرت إليه باضطراب فقال مؤكدا :- ستنتهي الأمور بخير .. ولن يزعجك ابن عمك مجددا .. أنا أعدك بهذا
حزمه وهو يعدها بدعمه جعلها تشعر بالأمان والسكينة .. ولكنها لم تستطع تحمل لمسته أكثر ..فسحبت يدها بهدوء قائلة :- أشكرك .. أشكرك حقا على مساعدتك لي
منحها ابتسامة جانبية باهتة وهو يمسح وجهها بنظرات مبهمة .. ثم وقف قائلا :-
:- وفري شكرك حتى النهاية .. فنظرة ابن عمك أثناء خروجه من هنا أوحت إلي بأن الطريق أمامنا لن يكون سهلا
وقفت بدورها وهي تقول بتشكك :- سيد هشام .. أكرر بأنك لست مضطرا للتورط في هذه المشكلة .. لا أريد أن .....
قاطعها بحركة من يده وهو يقول بسلطته المعهودة :- لا أريد سماع المزيد من النقاش حول الموضوع .. غدا صباحا سأراك في مكتبي لأعلمك بموعد زيارة والدتي
ثم غادر شقتها تاركا إياها وحيدة .. تسترجع كل كلمة تبادلاها .. وتساءلت إن كانت محقة في منحه ثقتها .. فلطالما كان لئيما معها .. وموقفه المساند لها يبدو غريبا وغير مفهوما .. فما الذي يدفعه لمساعدتها ؟
أهي غريزة الحماية التي حدثتها عنها سمر ؟
أم شعور بالذنب لمعاملته السيئة لها ؟.. أم الشفقة بعد أن قرأ الخوف في عينيها من المستقبل؟
في جميع الحالات هي مسرورة لأنها لم تعد وحيدة في مواجهة صلاح .. ولأنها قد عقدت هدنة ولو مؤقتة مع رئيسها في العمل .. ولكنها بطريقة ما .. تشعر بأنها تتورط مع رجل قد يشكل عليها خطورة أكثر مما يفعل صلاح
خطورة من نوع آخر

ithran sara
2015-06-21, 12:41
الفصل الثامن عشر
ضــائعة

لم تكن جودي تستمع حقا إلى ما يقوله طارق أثناء عودتهما بسيارته إلى بيتها بعد الأمسية الكارثية التي قضتها مع عائلته .. حاولت ألا تتذكر تفاصيل الوقت المزعج الذي مر بها هناك ولكنها لم تستطع .. لقد كانت أماني محقة عندما قررت بأن حماتها ستنتهز أقل فرصة لتظهر جانبها الأرستقراطي اللئيم .. فهي لم تتوقف عن التحدث عن أماني بلهجتها المهذبة المبطنة بالازدراء والاستنكار .. ملمحه بخبث عن السبب الغامض الذي دفع أماني لرفض الزواج من صلاح
عندها لم تستطع جودي منع نفسها من فعل ما قررت ألا تفعله .. وهو التصريح بخطوبة أماني لهشام عطار
ظهر الذهول على حماتها .. وبدا طارق مصدوما .. لا تستطيع لومهما إن كانت هي ماتزال غير قادرة على تصديق الخبر الذي أبلغتها إياه أماني صباح هذا اليوم
صاحت بها لحظتها مذهولة :- هل جننت ؟ أنت لا تطيقين هشام عطار
قالت أماني بفتور :- لقد سبق وأخبرتك بأنني أفضل الموت على الزواج من صلاح .. والزواج من هشام عطار لن يكون أسوأ من الموت
تعرف جودي تماما مدى يأس أماني وقلقها من مطاردة صلاح لها .. ولكنها تمنت لو أن أختها لا تكون جادة بقرارها هذا
قاطع طارق أفكارها وهو يخترق ظلام شوارع المدينة الهادئة بسيارته متسائلا :- هل قصة خطوبة أماني تلك حقيقية أم أنك اختلقتها لإسكات أمي يا جودي ؟
قالت جودي بضيق من شكوكه :- ما كنت لأذكرها لو لم تكن حقيقية
:- لماذا لم تخبريني بها من قبل؟
:- أنا نفسي لم أعرف بها إلا صباح اليوم من أماني
رمقها بنظرة جانبية سريعة وهو يقول :- وهل تصدقينها ؟
سألته بتوتر :- ماذا تقصد ؟
:- أقصد بأن القصة برمتها ليست منطقية .. ما الذي يدفع هشام عطار بعد كل هذا الإضراب عن الزواج إلى اختيار أماني ؟
قالت بحدة :- وما عيب أماني ؟
قال بواقعية :- لا عيب فيها .. ولكن الناس في المدينة بدأوا يتكلمون عنها .. وأختك ليست ملاك يا عزيزتي .. إنها سيئة الطباع وشرسة .. ما الذي يجبر رجلا كهشام عطار .. رجل الأعمال المعروف .. والذي يعتبر من أثرى أثرياء البلاد .. على الزواج بها ؟
كانا قد وصلا تقريبا إلى منزلها في اللحظة التي فارت فيها الدماء في عروق جودي .. ووجدت نفسها تصيح به بعنف :- :- إن تحدثت عن أماني بهذه الطريقة مجددا .. أقسم بأنك لن تراني بعد الآن .. إياك أن تنسى بأنها أختي وستبقى كذلك مهما حدث .. وإن كان لديك أي اعتراض على هذا .. فمن الأفضل أن تستعيد خاتمك
فتحت الباب عندما أوقف السيارة .. واندفعت نحو البيت .. تغلب على ذهوله بسرعة وقفز من السيارة لاحقا بها .. أوقفها عندما فتحت البوابة .. وأدارها إليه لاهثا وهو يقول :- جودي .. أنا آسف يا عزيزتي .. لم أقصد إغضابك .. إن كان انتقادي لأماني يزعجك فهذا لن يحدث مجددا .. أنت لم تكوني جادة في حديثك عن الخاتم .. صحيح ؟
أغمضت عينيها للحظات محاولة استعادة هدوئها .. طارق لا يستحق منها هذا الانفجار الغاضب في وجهه .. فهي تعرف بان حديثه عن أماني لم يكن السبب الوحيد لتوترها ..فهي قليلة الصبر .. متوترة ..تثور على طارق لأتفه الأسباب منذ دخل تمام إلى حياتها
تمتمت :- بل أنا من يعتذر .. فأعصابي مرهقة منذ أيام .. وقد جعلت منك كبش فداء .. وأنت لا تستحق هذا
نظر إلى عينيها المتعبتين وقال :- ما الذي يرهقك يا جودي ؟تستطيعين الثقة بي وإخباري
نظرت إلى عينيه الصادقتين .. وبحثت عن أي شيء يحرك مشاعرها وينسيها تمام..
ولكن مشاعرها كانت خامدة وجامدة تماما ..لماذا لا يبعث فيعا أي شوق أو عاطفة كما يفعل تمام ؟إنه الرجل الذي ستتزوج به بعد أشهر و تقضي معه ما تبقى من حياتها .. فلماذا لا تستطيع أن تحبه كما تحب تمام ؟
اتسعت عيناها بذهول عندما خطرت لها هذه الفكرة .. لا .. إنها لا تحب تمام .. بل تحب طارق .. يجب أن تحب طارق .. وقبل أن تفكر قالت :- قبلني
ارتد وجهه إلى الخلف .. وظن بأنه لم يسمع ما قالته .. فقال بحذر :- ماذا ؟
هتفت بحدة :- لقد طلبت منك أن تقبلني .. ما الأمر ؟ أنا خطيبتك .. والمرأة التي تحب .. ألم تفكر يوما أو ترغب بأن تقبلني
قال بارتباك :- بلى ولكن ....
قاطعته :- ما الذي تنتظره إذن ؟
تردد للحظات .. ثم أحاط وجهها بيديه .. وعندما التقت نظراتهما .. شعرت بالذعر للخطوة التي قامت بها .. ولكن الأوان كان قد فات على التراجع
أغمضت عينيها في اللحظة التي دنا منها .. ولمس شفتيها .. كانت قبلته رقيقة .. حنون
ولكنها أبعدت رأسها بعد لحظات قليلة .. ونظرت إليه من خلال الدموع التي غشت عينيها لتجده مضطربا .. محتارا من تصرفاتها المتناقضة وغير المتوازنة .. هزت رأسها بضعف وهي تقول :- تصبح على خير
ودون أن تتيح له الفرصة ليقول أي شيء تجاوزت البوابة المعدنية للفيلا وأقفلتها ورائها .. ثم اندفعت تجري إلى داخل البيت حيث ألقت نفسها فوق أول مقعد وجدته أمامها وأجهشت في البكاء الحار .. لقد اتضحت الحقيقة أمامها .. فهي لا تحب طارق .. لم تستطع احتمال قبلته بينما مع تمام ......
أغمضت عينيها بقوة كي لا تتذكر الإحساس الذي انتابها بين ذراعيه .. لقد فقدت عقلها . . ونسيت من تكون .. والمبادئ التي غرسها فيها والدها ..فقدت عقلها وإحساسها وواقعها .. أهذا ما يسمونه بالانجذاب الجسدي ؟
كيف ستتزوج طارق إذا كان هذا النوع من الانجذاب مفقودا بينهما ؟
رباه .. لكم تتمنى أن ينتشلها أحدهم من هذا الضياع .. وينقذها من هذه الحيرة القاسية
كان رنين هاتفها المحمول أشبه باستجابة لدعواتها .. وعندما سمعت صوت ريما .. هتفت بلهفة :-
:- ريما .. يسعدني اتصالك .. أحتاج إلى لقاءك بشدة
وفي الصباح .. وفي أحد المقاهي القريبة من الكلية حدقت ريما في جودي غير مصدقة وهي تقول :- هل قبلك طارق حقا أم أنك تمزحين ؟
قالت جودي بانزعاج :- وأين الغريب في هذا ؟ هل ستدعين بأنك وبشار بعد عام من الخطوبة لم تتجاوزا على الإطلاق مرحلة إمساك الأيدي ؟
هزت ريما كتفيها قائلة :- الأمر مختلف ..فطارق شاب مهذب ورصين .. لا يمتلك وقاحة وجرأة بشار .. كما أنني لا أستطيع تصورك من النوع الذي يسمح لشاب أن يقبله .. حتى لوكان خطيبك
احمر وجه جودي وتساءلت عن ردة فعل صديقتها لو عرفت بقصتها مع تمام .. قالت بعصبية :-
ولكنه حصل .. لقد قبلني طارق ولم أحتمل قربه مني أكثر من لحظات .. مجرد التفكير بحدوث هذا مجددا يثير النفور في نفسي
تمتمت ريما متفهمة :- وهذا يخيفك بشأن علاقتك به في المستقبل .. صحيح ؟ ما يحدث معك طبيعي يا عزيزتي .. أنت فقط لم تتقبلي بعد ذلك الجانب من العلاقة بين الرجل والمرأة.. ومترددة حول مشاعرك اتجاه طارق وهذا يحدث كثيرا في الزواج التقليدي .. ولكن بعد الزواج سيتغير كل شيء .. ستحبينه وتثقين به .. وترغبين بمنحه كل شيء .. كوني واثقة من هذا .. أنت تحبين طارق وتوترك هذا سيزول مع الوقت
كلماتها فعلت العجب بجودي .. هدأت وهي تفكر بأن صديقتها محقة .. ما الذي أصابها بحق الله .. إنه طارق الذي اختارته بنفسها ووافقت عليه بكامل قواها العقلية .. إنها تحبه .. وتثق به ..
وما حدث مع تمام ليس إلا خطأ شنيع يجب ألا يتكرر .. يجب أن تظل بعيدة عنه وعن تأثيره كي تتمكن من إصلاح ما أفسدته مع طارق .. وما هي إلا مسألة وقت قبل أن تخرجه من حياتها نهائيا
رغم الراحة التي أحست بها حول الفكرة .. إلا أن جزءا كبيرا منها عرف بأنها تخدع نفسها وحسب .. وأن ما تأمل به لن يحدث أبدا

ithran sara
2015-06-21, 12:53
الفصل التاسع عشر
خطبة تقليدية

نظرت أماني حوها قائلة :- ما رأيك الآن ؟
تأملت جودي التغيير الذي حل بالشقة الصغيرة وقالت برضا :- أفضل بكثير.. وتشبه مكانا يقيم فيه البشر
منذ الصباح وهما تعملان معا في التنظيف والترتيب .. وتنسيق قطع الأثاث التي اشترتها أماني بثمن زهيد من متجر للأثاث المستعمل بدلا من القديمة القذرة .. أحضرت جودي معها بضع لوحات وتحف للزينة من المنزل .. قبلت بها أماني على سبيل الإعارة .. على الأقل حتى تمر زيارة والدة هشام بسلام
تابعت جودي :- إذا كانت حماتك المستقبلية مدركة لظروفك الصعبة فهي لن تنتقدك
تمتمت أماني :- أتعشم هذا
فهي كانت قلقة حقا من ألا تكسب إعجاب والدة هشام .. بالرغم من يقينها بأن هذه الخطوبة ماهي إلا مسرحية .. ولكنها تحترم تلك المرأة وتقدرها من خلال ما سمعته عنها .. حتى لو أ، لقاءا لم يجمع بينهما بعد
إخفاء أماني حقيقة زيف هذه الخطوبة عن جودي يزعجها .. ولكنها لن تخاطر بمصارحتها كي لا يزل لسانها أمام صلاح دون أن تدري فتفسد على أماني كل شيء
نظرت جودي إلى أختها وقالت بقلق :- أماني .. هل أنت متأكدة من الخطوة التي تقومين بها ؟
ترددت أماني في الإجابة .. فهي أكثر قلقا من جودي .. تورطها مع هشام قد لا يقل خطورة عن الزواج بصلاح . ولكنها قالت أخيرا بحزم :- بالطبع متأكدة
هنا انفجرت جودي قائلة :- ولكنك تكرهينه .. على الأقل صلاح ابن عمك .. وتعرفينه حق المعرفة ... ستعرفين تماما ما ينتظرك معه .. أما هشام عطار ....
صمتت أماني للحظات قبل أن تقول باقتضاب :- أنا لا أكره هشام عطار
اتسعت عينا جودي بدهشة .. ونظرت إلى وجه اماني الجامد .. ثم همست :- يا إلهي .. هل وقعت في حبه ؟
صدمت الفكرة أماني فصاحت باستنكار :- بالطبع لا
ألقت نفسها على مقعد قريب وهي تقول موضحة لأختها :- لقد تغيرت نظرتي إليه منذ فترة .. اكتشفت مؤخرا بأنه ليس بالسوء الذي ظننته
تذكرت لحظتها ما شهدته من رقة وحنان في تعامله مع سمر .. وغريزة الحماية العالية لديه .. لا .. لم تكذب على جودي عندما صرحت بعدم كرهها له .. ولكن مشاعرها نحوه انقلبت إلى خوف كبير .. وجودي محقة في جهل أماني كل شيء عنه .. إنه أشبه بالبئر العميق الممتلئ بالأسرار.. تذكرت كيف ربت على يدها محاولا بث الاطمئنان في نفسها .. فاقشعر بدنها لذكرى ملمس يده .. وأخفضت عينيها كي لا تلاحظ جودي ارتباكها وقالت :- أنه شخص جيد .. حياته الخشنة والقاسية هي ما جعله ضعيف الثقة في الآخرين وقاسي في معاملتهم
لم تنجح في بث الثقة في نفس جودي التي استعدت لمتابعة النقاش .. إلا أن جرس الباب منعها بصوته العالي الذي دوى في أنحاء الشقة الصغيرة
أحست أماني بقلبها يكاد يقفز من مكانه .. واضطربت وهي تنظر إلى جودي بحيرة
فابتسمت جودي متذكرة التوتر الذي كان يصيبها عند كل زيارة من عائلة طارق فقالت :- ما الذي تنتظرينه ؟ افتحي الباب
قالت اماني بتوتر :- كيف أبدو ؟
تأملت جودي تنورة اماني الطويلة البالغة الأناقة والانوثة والمتناسقة من القميص الحريري الذي عانق صدرها وذراعيها مظهرا تناسق قوامها .. وقالت مشجعة :- رائعة الجمال كالعادة
تأكدت أماني من اختفاء ندبتها تحت خصلات الشعر المنسدلة وهي تقول بفظاظة لتخفي ارتباكها :-
:- كوني مهذبة .. وإياك وذكر اسم صلاح
ثم اتجهت نحو الباب وأخذت نفسا عميقا قبل ان تفتحه
رحبت بتهذيب وخجل بسمر .. والسيدة الأكبر سنا التي بدت وقورة للغاية بحجاب رأسها وملابسها الأنيقة والمحتشمة .. وأطلت من عينيها السوداوين الناضجتين نظرات الفضول والاستكشاف وهي تتأمل اماني بإمعان
دعتهما للدخول والحرج يكاد يأكلها عندما تذكرت رؤيتها السابقة للمرأة خلال جنازة والدها .. وتساءلت بقلق إن كانت قد أساءت الظن بها ذلك المساء كما فعل ابنها تماما
سمر كانت أكثر بشاشة وهي تضم أماني وتقبلها بسرور دون أن تخفي حماسها للخطوبة بعكس أختها التي جلست بوقار تنقل بصرها بين جودي واماني .. ثم تركزه على أماني التي احمر وجهها بتأثير من تعليقات سمر اللاذعة
اعتذرت أماني .. وهربت إلى المطبخ .. وهناك وقفت مستندة إلى الحوض لعدة لحظات محاولة تمالك أعصابها .. ما الذي أصابها ؟لماذا تتصرف كمراهقة يزورها خاطبون للمرة الأولى ؟ لطالما كانت هادئة فب تعاملها مع الآخرين .. فلماذا تشعر بكل هذا القلق والتوتر ... والإحباط ؟
نعم .. لقد توقعت ان يرافق هشام والدته في زيارتها الأولى .. وعندما لم تجده خلف الباب كما توقعت أحست بخيبة امل .. فوجوده كان سيخفف من صعوبة الأمر بالنسبة عليها ... وعلى والدته التي يبدو رفضها للخطوبة واضحا .
ولكن ما الذي كانت تتوقعه ؟ أن يتجاهل أعماله ومشاغله الكثيرة لأجل خطوبة مزيفة ؟
شعرت بالخزي عندما تذكرت بأنها مجرد فتاة أشفق عليها ورغب بمساعدتها في حل مشكلتها .. استيقظ كبريائها فجأة .. ذلك الرجل لا يعني لها شيئا .. إنها تستغله فقط حتى ييأس صلاح من مطاردتها .. ثم ستنساه تماما
لحقت بها سمر إلى المطبخ في اللحظة التي وضعت فيها دلة القهوة فوق الموقد ..سألتها بقلق :- هل أنت بخير ؟
ردت أماني بفتور :- ألا أبدو كذلك ؟
:- لا .. بل يبدو عليك وكأنك فأر علق في المصيدة
نظرت إليها أماني بدهشة فقالت سمر :- أنا أعرفك .. وأعرف بأنك لا تميلين إلى ابن اختي .. ولا تفكرين حتى في الزواج .. وأعرف هشام أيضا .. لو كان يرغب في الزواج بك لفعل منذ 5 سنوات
لم تحتمل أماني ذكاء سمر فقالت بانزعاج :- ما الذي ترمين إليه ؟
نظرت سمر إلى عيني اماني قائلة :- لقد أخبرني هشام بأنك تعجبينه وأنا أصدقه .. فأنت جميلة جدا ويجب ان تنالي إعجاب اي رجل يملك إحساسا .. ولكن ماذا عنك .. هل يعجبك هشام ؟
ارتبكت أماني واحمر وجهها الشاحب .. ثم أشاحت ببصرها هربا من نظرات سمر الثاقبة ثم غمغمت
:- بطريقة ما .. نعم .. يعجبني كثيرا
ثم اجتاحها ذهول كبير عندما اكتشفت بانها لم تكن تكذب .. هشام عطار يعجبها .. متى حدث هذا ؟ وكيف ؟
تأملت سمر نظرات أماني المرتبكة فصدقتها .. واسترخت حواسها وابتسمت قائلة :- الحمد لله .. لقد ظننت هشام يمر بإحدى نوباته الحمائية بعد أن عرف بمشاكلك .. وأنك تستغلينه بدورك لتتخلصي من ابن عمك .. ولكن أي أحد يستطيع أن يعرف الحقيقة من مجرد النظر إليك
ضمتها بقوة وهي تقول بتأثر :- لو تعلمين مقدار سعادتي لأن هشام قرر الاستقرار أخيرا .. وأنك ستجدين السعادة بعد كل التعاسة التي عرفتها في حياتك .. مبارك لك يا حبيبتي
تقبلت أماني عناق سمر دون أن تصحو من ارتباكها .. وعندما تركتها سمر وحيدة في المطبخ حاولت أن تفكر بهدوء .. وتراجع التغير الكبير الذي طرأ على نظرتها نحو هشام
لم الدهشة ؟.. ألم يقف إلى جانبها ويساعدها .. ويضحي بوقته من أجل حمايتها من صلاح
من الطبيعي أن يختفي ازدرائها السابق له وتبدأ بالنظر إليه من زاوية مختلفة ..
ليس هناك مبرر لذعرها .. هشام عطار يعجبها .. كرجل أعمال ناجح وإنسان قوي صلب شاهد الكثير في حياته دون أن يتأثر .. وكصديق كما أظهر لها ذلك المساء الذي عقدا فيه اتفاقهما .. ولكنه لا يعجبها كرجل .. فهي لا تميل إلى الرجل الخشن المجرد من العاطفة
تذكرت فراس فجأة .. الشاب الوسيم المرح .. والعاطفة التي كانت تقطر من كل نظراته وكلماته .. ثم فكرت بمرارة .. بماذا نفعتها حساسيته وعاطفيته سوى بتحطيم قلبها وحياتها ؟
صبت القهوة في فناجين أنيقة أعارتها إياها جودي .. ثم حملت الصينية إلى غرفة الجلوس .. حيث كان حديثا مهذبا يدور بين الموجودين .. توقف الكلام .. و قطبت أم هشام وهي تراقب أماني بعينين حادتين قاسيتين شبيهتين بعيني ابنها
جلست اماني إلى جانب جودي بعد تقديمها القهوة .. ولأول مرة في حياتها تصاب بالخرس فلا تجد ما تقوله لحماتها المستقبلية الزائفة
ولكن السيدة الأكبر سنا لم تنتظر مبادرتها .. بل قالت بصوت هادئ ووقور :- أنت تعملين لدى ولدي إذن
تنحنحت اماني لتسلك حنجرتها وهي تقول :- نعم .. أعمل في شركته منذ خمس سنوات
:- وهل خطبت من قبل ؟
أدهش السؤال اماني التي أجابت حائرة :- لا
فقالت المرأة بحزم :- ما الذي منعه من خطبتك سابقا إذن ؟
هتفت سمر محذرة :- لميس ..
ولكن والدة هشام لم تعرها أي اهتمام .. بل تابعت استجواب كنتها العتيدة :-
:- لن أخفي عنك استيائي الشديد من خطوة هشام .. مع أنني انتظر زواجه منذ سنوات بفارغ الصبر .. ولكنني تمنيت له زوجة من اختياري .. أنا أثق برأي هشام .. ورغم جميع المزايا التي عددها حولك .. وجمالك الواضح الذي يرضي أي حماة .. إلا أنني ما زلت قلقة حول اختياره لك .. لا تسيئي فهمي .. ولكن الناس في المدينة يتحدثون .. وانا كنت موجودة في جنازة والدك
فهمت أماني ما قصدته المرأة بكلماتها المختصرة .. وجمدت للحظات تحدق فيها ببرود حتى ظنت جودي بانها ستنفجر صارخة في أي لحظة
ولكنها قالت أخيرا بهدوء :- أتفهم قلقك يا سيدتي .. ولا ألومك على ظنونك .. ولكن بالنسبة إلى سيدة قديرة مثلك رأت الكثير في حياتها وعانت من ويلات المجتمع .. ألا تجدين بأنك تتسرعين بالحكم علي دون منحي أي فرصة لأثبت لك وللآخرين من أنا حقا ؟
أخذت نفسا عميقا وهي تتابع :- أنا لست كاملة .. لا احد منا كذلك .. وعلاقتي بوالدي كانت مضطربة كما أخبرك هشام بالتأكيد .. قد أكون مسؤولة جزئيا عن شجاري معه .. وربما كان علي بذل مزيد من الجهد في إصلاح الأمور بيننا قبل فوات الأوان .. لا أعرف .. ولا أظنني سأعرف .. ولكنني أؤكد لك على الأقل بانني لست بالسوء الذي يحسبه الآخرون بي
كانت تتحدث بهدوء .. إلا ان صوتها اخذ يرتعش عند ذكرها لوالدها .. ثم اكملت بخفوت :- بالنسبة لهشام .. فانا محظوظة لأنه اختارني أنا .. ولأنه كان نبيلا بما يكفي كي يتجاهل لمزات الآخرين حولي .. وأعرف بأنني لن أستحقه مهما فعلت .. وسأتفهم تماما رفضك لارتباطه بي .. ولكن في حال حدث هذا الارتباط .. فتأكدي بأنني لن أسبب له الأذى ما حييت
مدت جودي يدها لتعانق أصابع أختها وقد أحست بالجهد الكبير الذي بذلته لتنطق بهذه الكلمات .. بدا على سمر التأثر .. بينما ظل وجه السيدة لميس جامدا حتى لانت ملامحها فجأة وهي تقول :- أتمنى ألا أندم على هذا .. ولكنني سأمنحك الفرصة .. فلسبب ما تبدين جديرة بالثقة يا اماني
أشرق وجه سمر وهي تقدم التهاني لشقيقتها وتبدأ التحدث عن الاستعدادات للزفاف وكيف سيتم نشر الخبر بين المعرف .. بينما انتاب أماني ارتياح شديد وإحساس مفاجئ بالرغبة في البكاء
ارتفع رنين الجرس في هذه اللحظة .. فاعتذرت اماني لتفتح الباب دون أن تصحو بعد من اضطرابها .. وبالرغم من توقعها لحضوره إلا ان رؤيتها لهشام واقفا أمام بابها .. بأناقته وصلابته المعهودة .. جعلت قلبها يرتجف .. قال بلطف :- أرجو ألا أكون قد تأخرت كثيرا
وقبل أن تحل عقدة لسانها .. كانت سمر قد وصلت إلى الباب وعانقته مهنئة وهي تطلق الزغاريد الطويلة لتسمع الجيران .. نظر هشام إلى أماني بعينين لامعتين جعلتها تشيح بوجهها بعيدا عنه لتخفي ارتباكها .. ثم تفسح له الطريق ليدخل إلى الشقة
صافحته جودي .. وتبادلت معه كلمات المجاملة .. وكل منهما يدرس الآخر بروية .. فكرت جودي بأنه يبدو كما وصفته أماني تماما .. رجل ضخم .. أنيق وقاسي المظهر .. ذو وسامة خشنة وداكنة .. عززتها الندبة الصغيرة التي قاطعت حاجبه الأيمن .. بالرغم من امتعاضها الشديد من فكرة ارتباط أماني بهذا الرجل إلا ان رؤيتها لندبته ذكرتها بندبة أماني المخفية تحت طبقات الشعر الأشقر الكثيف المنسدلة حول وجهها .. فتذكرت الحياة المرة التي عاشها هذا الرجل .. الشبيهة بحياة أماني المعقدة فاسترخت حواسها وزالت معظم مخاوفها .. فقد أيقن جزء منها بأن كل من شقيقتها وهذا الرجل قد قدر للآخر بطريقة ما .. وجدت نفسها تبتسم له قائلة :- سررت للقائك أخيرا .. لقد حدثتني أماني عنك كثيرا
قال متهكما :- أظنني قادرا على تخمين ما قالته عني
احمر وجه أماني عندما وجه نحوها نظرة ساخرة قبل أن يتوجه نحو أمه ويجلس إلى جانبها متناولا كفها بين يديه طابعا عليها قبلة تقدير وهو يقول :- آسف لتأخري .. لقد حدث طارئ في العمل
منحته أمه ابتسامة حنون وهي تقول :- لا تهتم .. لم يحدث إلا ما أردت تماما
نظر إلى أماني قائلا :- أتعنين بأن عروسي قد نالت إعجابك ؟
ضحكت أمه عندما احتقن وجه أماني وقالت :- عروس جميلة وذكية .. وامرأة مناضلة .. لم لا تنال إعجابي
اعتذرت أماني باقتضاب كي تعد له فنجان قهوة متأخر .. فلحقت بها جودي إلى المطبخ قائلة :- لم أتخيل أن يتغير شعوري نحوه بهذه الطريقة فور رؤيتي له
سألتها اماني بفضول :- هل أعجبك ؟
هزت جودي كتفيها قائلة :- لا أعرف .. ولكنني رأيت روحك في عينيه .. وهذا كاف بالنسبة إلي كي أتوقف عن القلق
نظرت أماني إليها بذهول وقد هزتها العبارة .. قالت باضطراب :- ما الذي تقصدينه برؤيتك لروحي في عينيه ؟
تمتمت جودي بحيرة :- لا اعرف .. لقد كان مجرد إحساس غريب أدهشني أنا الأخرى
أسرعت تطفئ النار أسفل القهوة قبل أن تفور قائلة :- أسرعي بتقديم القهوة إلى خطيبك قبل أن يمل الانتظار
عندما عادتا إلى الغرفة فتحت السيدة لميس موضوع الزفاف فأقفله هشام بحزم موضحا بأن الوقت ما يزال مبكرا للتفكير في الأمر .. عندها نهضت مع سمر راغبتين في المغادرة ..
وعندما نهض معهما منعته سمر وهي تقول غامزة :- سأوصل أمك بسيارتي .. لقد وصلت لتوك ولابد أنك تملك الكثير لتقوله لأماني
فور مغادرتهما وقفت جودي بدورها قائلة :- علي الرحيل أنا الأخرى
أسرعت أماني تقف وتقول بعنف لا شعوري :- ابقي
عقد هشام حاجبيه وهو يراقب الأختين .. بينما ردت جودي :- أود لو أبقى .. ولكن دوام الفصل الثاني يبدأ غدا .. ويجب أن انام مبكرة
رافقتها اماني إلى الباب وهناك همست بحدة :- أيتها الخبيثة .. تستطيعين البقاء لبعض الوقت
قالت جودي بعبث :- آخر ما تحتاجانه هو وجود متطفلة مثلي بينكما
ثم همست وهي تمسك بيد أماني :- لا تقلقي .. ستكونين بخير
منحتها ابتسامة تشجيع ثم غادرت .. وقفت أماني للحظات طويلة أمام الباب المغلق دون أن تجرؤ على العودة إلى حيث يجلس هشام .. ولكنه لم ينتظر عودتها إذ قال بكسل من مكانه فوق الأريكة :- أيخيفك البقاء معي إلى هذا الحد؟
توترت لسماع صوته الساخر الذي أعادها إلى الواقع .. فاستدارت تواجهه قائلة بعصبية :- هذا غير صحيح
اعتدل في جلسته وهو يقول بجدية :- لا تظني بأنني لم ألاحظ الهستيريا التي تصيبك كلما اقتربت منك وكأنك تخافين أن أفترسك في أي لحظة
قالت بانزعاج :- أنا لست خائفة منك
:- أثبتي هذا واقتربي
قاومت إغراءا كبيرا بان تفتح الباب المجاور لها وتهرب .. وأخذت نفسا عميقا .. ثم اقتربت منه بهدوء .. وجلست في الطرف البعيد من الأريكة
تأملها للحظات ثم قال :- يدهشني أن تعاني امرأة بقوتك وثقتك بنفسك من نقطة ضعف كهذه .. ماذا لديك ضد الرجال يا اماني ؟
ابتلعت ريقها وامتنعت عن النظر إليه .. ولكنها كانت تشعر بوجوده قويا وطاغيا يكاد يكتسح الغرفة .. قالت باقتضاب :-
:- لا أستطيع القول بأنني رأيت منهم الكثير من الخير
بدا وكأن اسئلة لا نهاية لها تتراقص في عينيه السوداوين .. ولكنه غير الموضوع قائلا :- ما رأيك بوالدتي ؟
خف توترها وهي تقول :- سيدة رائعة .. وترغب برؤيتك سعيدا
ابتسم قائلا :- أخمن من حديثك بأنها قد أخضعتك لاستجواب عنيف
نظرت إليه أخيرا وهي تقول :- كنت لأفعل المثل لو قرر ابني الوحيد الزواج بفتاة سيئة السمعة
التقت عيناهما طويلا قبل أن يقول بهدوء :- سمعتك ليست سيئة يا أماني .. الناس هنا يترددون حول كل ما هو خارج عن تقاليدهم وعاداتهم .. إنها زوبعة سرعان ما ستنتهي
ثم ابتسم بلطف قائلا :- كما أنك نجحت في الامتحان في النهاية .. أليس كذلك ؟
ابتسمت بتردد وقد فاجأها التغيير الذي طرأ على ملامحه بسبب ابتسامته .. وقالت :- لست متأكدة .. مازال علي مقابلة شقيقتيك
:- لبنة تقيم مع زوجها في السعودية .. وقد تنتهي القصة بأكملها قبل موعد إجازتهما .. أما نورا فأظنها ستحبك .. إنها فتاة مدللة وطائشة .. ولكن خطوبتها لرجل هادئ وناضج قد هذبت طباعها قليلا كما أرجو
تذكرت ما أخبرتها إياه سمر من قبل بأنه قد تعهد بألا يفكر بالزواج حتى يزوج شقيقتيه فسألته :-متى سيتم زفافها ؟
:- خلال أشهر قليلة .. ربما في نهاية شهر آب
عندها .. يصبح حرا ليتزوج المرأة المناسبة له .. في ذلك الوقت لن تكون موجودة لتعيق طريقه .. فقصتهما ستنتهي قبل ذلك بكثير
تمتمت فجأة :- أنا ممتنة لما تفعله لأجلي يا سيد ....
قاطعها بحزم قائلا :- هلا توقفت عن الشعور بالامتنان .. ما أفعله معك لا يخلو من الأنانية .. صدقيني
سألته بحيرة :- ماذا تقصد ؟
بدلا من أن يجيبها .. أخرج من جيبه علبة مخملية صغيرة وهو يقول :- كان من المفترض بي أن ألبسك إياه في حضور عائلتي وشقيقتك .. ولكنني خفت أن أحرجك وأضطرك لاحتمال لمستي .. ففضلت إعطاءك إياه على انفراد
تناولت العلبة منه بتردد.. ثم فتحتها لتتأمل المحبس الذهبي البسيط المرفق بخاتم ثمين زينه صف عريض من الأحجار الكريمة المبهرة للأبصار
قالت بارتباك :- لم تكن مضطرا للتكلف بهذا .. الأمر لا يستحق
قال ساخرا :- هل نسيت بأننا نعيش في مدينة صغيرة ؟ الكل سوف يتفحص يديك بحثا عن خاتم لائق في إصبعك .. وأمي لن تقبل بأن يتهمني أحدهم بالبخل على خطيبتي .. لقد اختارته لك بنفسها
شعرت بالتأثر وهي تتأمل بريق الماس .. وترقرقت الدموع في عينيها دون أن تتجاوزهما .. لوهلة .. شعرت بالخيبة لأن هذه الخطوبة ليست حقيقية .. وأن هذا الشعور بالأمان هو زائف ومؤقت
تمتمت :- ما كنت لتحرجني لو ألبستني إياه امام الآخرين
بدا عليه كأنه قد بوغت .. إذ تلاشى تماسكه للحظة وهو يقول غير مصدق :- حقا ؟
نظرت إلى عينيه القاتمتين والغامضتين التعبير .. وأدركت بأنه يستحق منها هذا على الأقل مقابل صنيعه معها .. أن تشعره بثقتها به فقالت :- بالتأكيد
نظر مطولا إلى عينيها الخضراوين اللتين بدتا لأول مرة خاليتين من البرود والتوتر .. فائضتين بالتأثر والامتنان
وبدون أن يتكلم .. اقترب منها وأخذ العلبة الصغيرة من بين يديها .. ثم تناول كفها المرتعشة .. رفع عينيه إليها ليراقب ردة فعلها وهو يخرج الخاتمين .. ثم يحيط بهما وبيد ثابتة بنصرها الأيمن
لم تعرف أماني كم من الزمن استمرت في حبس أنفاسها وهي تشعر بيديه الكبيرتين تحاصران كفها بتملك واضح .. منعت نفسها بصعوبة من الاستسلام لنوبة ذعر جديدة .. ولكن ذعرها كان مختلفا هذه المرة .. أليس كذلك ؟
قال بهدوء :- أنت الآن خطيبتي رسميا يا أماني
ارتعشت وسحبت يدها فورا لتقف قائلة بغلظة :- أمام الناس فقط يا سيد هشام .. ولفترة مؤقتة
وقف بدوره وظللت فمه ابتسامة باردة وهو يقول :- لم أنس هذا لحظة واحدة يا أماني .. ولكن إياك أنت أن تنسي
نظرت إليه وقد اشتعل غضبها .. واختفى بلمح البصر كل اضطرابها وإحساسها بالذنب لغلظتها المفاجئة .. هل يظن المغرور بأنها ستستغل الوضع لصالحها وتحاول إيقاعه في شباكها ؟
رغبت بأن تعبر له عن كرهها العميق .. ولكنه لم يترك لها الفرصة لتقوم بذلك .. إذ اتجه نحو الباب .. ونظر إليها بلا مبالاة قبل أن يخرج قائلا :- تعرفين رقم هاتفي المحمول في حال احتجت إلي في أي لحظة
دوى صوت انصفاق الباب تاركا إياها في حالة جنون وحيرة من أمرها .. فهذا الرجل مزيج غريب من المتناقضات ..
ما الذي يريده منها بالضبط
ألقت نفسها فوق الأريكة وقد بدأت تحس بتعب النهار وضغط وضعها الحالي .. هشام عطار رجل جدير بالثقة .. حدسها يؤكد لها هذا .. ولكنها ليست واثقة من أن نتيجة احتكاكها به ستكون لصالحها أبدا

ithran sara
2015-06-21, 12:54
الفصل العشرون
تقتلينني

قالت ريما :- لنذهب إلى أحد المطاعم السريعة ونأكل شيئا
ردت جودي وهي تخرج برفقتها من الكلية :- لست جائعة
:- إذن لنذهب ونرى بشار .. لا محاضرات لديه الآن
:- هو خطيبك أنت .. اذهبي وحدك
توقفت ريما عن السير .. واستدارت تواجه صديقتها بغضب :- ما الأمر ؟ أي مزاج نكدي لك اليوم ؟ هل تشاجرت مع طارق مجددا وأنت تصبين غضبك علي كالعادة ؟
صمتت جودي للحظات أطل خلالها الحزن والاكتئاب نت عينيها وهي تتمتم :- لا .. لم نفعل
وكيف تفعل إذا كانت تتجاهل اتصالاته المستمرة منذ أيام .. في الوقت الذي تتجاهل فيه اتصالات تمام هو الآخر .. في كل مرة كانت ترة فيها رقمه على شاشة هاتفها يخفق قلبها بعنف وتقاوم حاجة قاسية للرد عليه .. ولكنها تحجم نفسها في آخر لحظة وتجبرها على تجاهله .. وفي المقابل هاهي تقضي الليالي في أرق مستمر يشغلها التفكير بحقيقة مشاعرها اتجاهه .. ويرهقها تأنيب الضمير كلما تذكرت لقائهما الأخير .. وكلما وقع بصرها على بريق الماس في خاتم خطوبتها إذ ترى فيها خيانتها لطارق أمام عينيها وكأنها قد حصلت للتو
أكملت كي تمنع ريما من استجوابها :- لا أريد التحدث في الأمر
تنهدت ريما قائلة :- حسنا .. أنت حرة .. وإن كنت متأكدة بأن ما يشغل بالك هو تلك القبلة اليتيمة التي صدمتك
أجفلت جودي إذ ظنت للحظة بأن صديقتها تشير إلى قبلة تمام .. ثم تذكرت طارق عندما قالت ريما مداعبة :- ما زلت طفلة بريئة بحاجة إلى اختبار الكثير لتفهمي الحياة
لم تستجب جودي لسخرية ريما كالعادة .. فقد دوى صوت الأزيز المميز لوصول رسالة من هاتفها المحمول .. فرفعته لتقرأ الكلمتين المختصرتين ( انظري خلفك )
خفق قلبها وهي تستدير على الفور ليقع بصرها على سبب أرقها واكتئابها يقف على مسافة أمتار عن سور الجامعة المعدني من الخارج .. يستند إلى سيارته عاقدا ساعديه أمام صدره .. وقد أخفت نظارته السوداء معالم وجهه
لم تدرك بأنها قد جمدت كقطعة ثلج حتى سمعت ريما تقول :- ما الذي حدث ؟ تبدين كمن شاهد شبحا
نظرت جودي إليها بذعر .. ثم إلى تمام وقد خشيت أن تكتشف صديقتها شيئا .. فقالت بسرعة :-
:- لا ... لقد تذكرت موعدا لي مع أماني يجب أن ألحق به .. إذهبي أنت لرؤية بشار وأبلغيه تحياتي .. وسأراك غدا
رفعت ريما بيديها لتحثها على الرحيل .. فرمقتها ريما بنظرات الدهشة والاستنكار ثم القلق وقد أحست باضطراب صديقتها .. ولكنها قالت في النهاية باستسلام :- حاضر .. أراك صباح الغد
انتظرتها جودي حتى ابتعدت ثم أخذت نفسا عميقا واستدارت لتواجه خصمها .. كان تمام قد بدأ يتململ في وقفته فحسمت أمرها أخيرا .. وسارت نحوه بساقين مرتعشتين وذكرى قبلته الملتهبة تبعث الحرارة في عروقها .. لقد ظنت بأنها قد نسيت .. ولكن مجرد رؤيته من جديد حركت في قلبها كل ما حاولت كبته منذ أيام من شوق إليه
اعتدل عندما اقتربت منه ووقفت امامه .. لفحتها جاذبيته فور أن أحست بدفء جسده الطويل على بعد سنتيمترات منها .. فأحاطت نفسها بذراعيها وهي تتحاشى النظر إليه وقد عقد الاضطراب لسانها .. قال بعد لحظات منت الصمت ببرود :- ألن تقولي شيئا ؟
فالت بارتباك :- ما الذي تريدني ان اقوله ؟
:- ان سببا طارئا منعك من الاتصال بي أو الإجابة عن مكالماتي
ردت بعصبية :- لقد كنت مشغولة
علق ساخرا :- على حد علمي لم يبدأ الفصل الدراسي الثاني إلا هذا الصباح .. بأي شيء كنت مشغولة ؟
أحست بغضبه في نبرات صوته .. ففاجأها ألم غريب ورغبة في محو غضبه دفعتها لذكر نصف الحقائق :-
:- لقد عقدت خطوبة أختي مساء الأمس
عقد حاجبيه وقد اختفى كل أثر لغضبه .. وحل محله اهتمام جاد وهو يقول :- حقا ؟ أهذا يعني بأن ابن عمك قد نال مراده؟
:- لا .. ستتزوج برجل آخر
ظهر الارتياح على ملامحه قبل ان يقول برضا :- لم تخيب شقيقتك ظني إذن .. لقد اصرت على رفض ما لا تريده .. ولا يوافق قناعاتها .. أختك امرأة جديرة بالتقدير والاحترام
تحركت الغيرة داخلها مما دفعها لأن تقول بحدة :- وما شأنك انت ؟
نظر إلى عينيها للحظات دون تعبير .. قبل ان يقول بهدوء :- شأني هو رغبتي الكبيرة بان تمتثلي بها يا جودي
ساد التوتر بينهما بشكل واضح .. .. نظر حوله قائلا :- لنجد مكانا آخر نتحدث فيه
قالت بقلق :- لا أظن هذا مناسبا .. أنا ...
قاطعها بجفاف :- ما الأمر ؟.. أمازلت خائفة من اكتشاف خطيبك للقائك السري بي ؟
احمر وجهها بارتباك وغضب .. ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد .. بل امسك ذقنها ليجبرها على النظر إلى عينيه التين حررهما من النظارات السوداء .. ورؤية الغضب والقسوة فيهما وهو يقول :-
:- إن كنت تقدرينه حق قدره .. فستنهين خطوبتك السخيفة حالا يا جودي .. فأنا لن أتوقف عن رؤيتك والمطالبة بك .. وأنت لن تجرؤي على مقاومتي .. فما الفائدة من تعذيبه وربطه بك بدون فائدة
ارتعشت لإحساسها بأصابعه فوق بشرتها .. فتذكرت المرة الوحيدة التي احتضنها بها .. أحس فورا بمشاعرها .. فظللت عينيه سحابة حملت معها كل الذكرى .. وساد بينهما صمت مشحون استمر لثواني ولكنه بدا لها كالدهر .. تحركت يده لتداعب وجنتها فأغمضت عينيها متجاهلة وقوفهما في مكان عام يعرفها فيه العشرات .. مستسلمة للإحساس بحنانه .. همس فجأة :- أنت تقتلينني .. لو تعلمين كم اشتقت إليك .. لما تجرأت على الانقطاع عني كل هذه المدة
فتحت عينيها لتجد غضبه قد اختفى .. وقد حل مكانه حنان فياض جعل قلبها يغرد سعادة .. ابتسم برقة قائلا :-
:- هل جربت يوما تناول المثلجات في قلب فبراير ؟
نظرت إليه بذهول .. فاتسعت ابتسامته وهو يوضح :- سأدعوك اتناول البوظة في مكان يبيع أشهى بوظة في المدينة .. سنجلس هناك .. ونتحدث .. حتى ينسى كل منا مرور الوقت
لم تعرف كيف تركته يقودها إلى سيارته .. ولكنها كانت متأكدة بأنها لم تكن يوما أكثر سعادة






الفصل الحادي والعشرون
متسلط

بعد مرور أيام على انتشار خبر خطوبتهما اعتادت أماني على نظرات زملائها الفضولية وهمساتهم ذات المضمون الواضح .. فلا احد تقبل بسهولة خبر ارتباط مديرهم بموظفة كانت مضايقته هدف رئيسي لها .. وعندما كانت زميلاتها
تطرحن عليها الأسئلة الخبيثة حول المشاعر التي كانت مختبئة خلف العلاقة المتوترة .. كانت تكتفي بالصمت والابتسام بهدوء ..بينما هي تتآكل في داخلها من الإحباط والكآبة .. كانت قادرة على قراءة التساؤلات المستترة في الأعين المحدقة بها .. الكل في المدينة يعرف بقصتها .. بحرمان والدها لها من الميراث .. وصراعها مع صلاح .. وخطوبتها لهشام جعلت حياتها تبدو أمام الآخرين وكأنها مسلسل مكسيكي تقليدي ولكنه مسل
ليس ممتعا على الإطلاق أن يكون الإنسان موضوع حديث الألسن في جميع أنحاء المدينة
قاطع أفكارها اتصال من لندا سكرتيرة هشام .. تدعوها إلى مكتبه بطلب منه .. زفرت متسائلة عما يريده منها الآن .. ولكنها فكرت بأن ثلاثة أيام مرت منذ ارتدائها لخاتمه في شقتها .. وأن عدم زيارتها له في مكتبه مرة على الأقل في اليوم قد تثير الشكوك بين الموظفين
تأكدت من أناقة مظهرها .. وغادرت مكتبها .. استقبلتها لندا بعبارات التهنئة وقد بدا وجهها البشوش أشبه بقناع أخفى تساؤلات عدة وحيرة كبيرة .. فمنذ أسابيع فقط كانت أصوات شجار أماني ومديرها تصل إليها بوضوح من خلف الباب .. ولكنها كانت أذكى من أن تطرح أي سؤال على أماني التي أصبحت بين ليلة وضحاها خطيبة الرئيس
حاولت أماني تجاهل توترها الذي بدأ يتزايد عندما قرعت باب مكتبه وسمعت صوته يدعوها للدخول .. ذكرت نفسها بأنه لم يعد مجرد مدير صارم ومخيف .. بل خطيب لها .. وربما الشخص الوحيد القادر على حمايتها .. دخلت وأغلقت الباب ورائها بهدوء .. فلاحظت بانه لم يكن جالسا خلف مكتبه .. بل واقفا عند النافذة يتحدث بانزعاج إلى شخص ما عبر هاتفه المحمول
قارنت بحيرة بين هذا الرجل العملي الجاف .. والرجل الدافئ المتفهم الذي ألبسها خاتمه منذ أيام .. راقبت حركات يديه الكبيرتين وهو يتحدث فلاحظة رشاقة أصابعه الطويلة وتذكرت ملمسهما الخشن .. الدافئ والمتملك
أخذت نفسا عميقا لتعيد التوازن إلى أفكارها في اللحظة التي أنهى فيها المكالمة واستدار إليها قائلا :- تفضلي بالجلوس .. آسف لجعلك تنتظرين
ابتسمت وهي تجلس على مقعد مواجه لمكتبه وهي تتمعن في اعتذاره غير المألوف .. لم يكن هشام عطار يوما من النوع الذي يعتذر لموظف لديه عن فظاظته وتسلطه
نظر إليها باهتمام قائلا :- يبدو مزاجك حسنا وفقا لابتسامتك هذه
اختفت ابتسامتها وهي ترد بسرعة :- هذا يتوقف على سبب استدعائك لي
لوى فمه بابتسامة جانبية متهكمة قائلا :- كالعادة تشحن اماني النجار نفسها بكل طاقتها القتالية قبل حضورها إلى مكتبي
هزت كتفيها :- لم تستدعني يوما لأسباب سلمية .. فلماذا أفترض بان هذه المرة مختلفة ؟
خفت حدة صوته وهو يقول بهدوء :- هذه المرة انت خطيبتي يا اماني
قالت ساخرة :- هذا ما عرفه كل كائن حي يعمل في هذا المبنى
قال بحزم :- هذا ما يجب أن يعرفه كل مخلوق في المدينة .. أم تراك نسيت السبب الرئيسي للعبتنا هذه يا أماني ؟
شعرت بالضيق بسبب تذكيره لها باتفاقهما .. وردت باقتضاب :- لا .. لم أنس
:- على كل حال .. لقد طلبتك لأتحدث إليك في أمر الرحلة إلى العاصمة .. أظنك ستنضمين إليها
:- هذا ما أفعله كل سنة
في كل عام ينظم هشام رحلة لجميع موظفيه إلى العاصمة لحضور المعارض والمناسبات الثقافية التي تقام هناك .. وأماني كانت تحب هذه الفكرة .. وتنتظر كل سنة حضور معرض الكتاب الدولي السنوي ..
قال بهدوء :- هذا جيد .. سأمر عليك صباح الغد لننطلق معا
تصلبت وهي تحدق به مبغوتة .. ثم قالت بجمود :- لم أقل قط بأنني سأذهب معك
:- لا .. لم تفعلي .. ولكن كل موظف هنا سيجد صعودك في الباص المخصص للموظفين أمرا شاذا بدلا من مرافقتي في سيارتي
قالت بحرارة :- أستطيع الذهاب بسيارتي ولقاءك هناك .. ولن يعرف أحد بأننا سافرنا منفصلين
قال بصرامة :- لن أسمح لك بالسفر في تلك الخردة .. فهو أشبه بالانتحار
قالت بحدة :- لا عيب في سيارتي .. أستطيع السفر بها إلى أي مكان
قال ساخرا :- هذا صحيح .. رحلة بها إلى الجحيم لن تكون صعبة .. ولكنك مضطرة إلى تأجيل هذه الرحلة .. غدا صباحا سأنتظرك امام مبناك في تمام الثامنة
كانت لهجته قاطعة لا تحتمل النقاش .. فكرت على أسنانها بغيظ .. ونهضت قائلة :- هل من أوامر أخرى ... سيدي ؟
أضافت الكلمة الأخيرة لتعبر عن رفضها لتسلطه الغير مقبول .. ولكنه ابتسم وكأن غضبها قد أسعده .. وقال
:-:- لا شيء في الوقت الحاضر .. عودي إلى مكتبك
وأثناء خروجها من مكتبه .. أقفلت الباب بهدوء شديد أظهر بوضوح بأنها رغبت في صفقه بكل قوتها









الفصل الثاني والعشرون
سيدة الشتاء

استغرقت الرحلة إلى العاصمة ساعات قليلة .. بالكاد تبادلت خلالها أماني بضع كلمات مع هشام الذي تقبل صمتها ببساطة وكأنه قد أحس بخطتها في إزعاجه .. مما سبب لها هي الازعاج
ولكنها لم تستطع منع نفسها من الاسترخاء داخل سيارته الفارهة .. والاستمتاع بقيادته المتزنة .. تذكرت سيارتها القديمة وتخيلت بوضوح المشاكل التي كانت ستتعرض لها لو أنها أصرت على موقفها وسافرت بها
لم تندم على خضوعها لقراره المتسلط .. ولكنها قررت بإصرار على ألا تظهر له سرورها
بين لحظة وأخرى كانت تحيد بنظرها عن الطريق لتسترق النظر إليه .. كان مختلفا هذا الصباح بملابسه البسيطة .. ولكنه لم يتخلى عن أناقته و وقاره وكأن هذا قد أصبح جزءا من مظهره لا يستطيع التخلي عنه حتى لو حاول .. مهما تناقض هذا مع نظرة الرجل المكافح الذي شاهد الكثير في حياته والمطلة من عينيه .
راقبته وهو يتحكم بالسيارة بسهولة وسلاسة .. وهو يقطب مراقبا الطريق .. ثم تساءلت عما يفكر به في هذه اللحظة .. خلال استغراقها في تأمله .. ألقى نحوها نظرة عابرة .. سرعان ما عاد على إثرها يقابل نظراتها التي فاجأته .. فارتد وجهها إلى الخلف وقد أحست بعينيه اللامعتين تصفعانها في الصميم .. أشاحت بوجهها الشاحب نحو النافذة محاولة تهدئة خفقات قلبها .. ما الذي أصابها ؟
وماذا إن ضبطها تسترق النظر إليه ؟هذا ليس مبررا كي تفقد اتزانها وتتوتر بهذا الشكل .. خشيت أن يقول شيئا فيزيد من إحراجها ولكنه مد يده بكل بساطة ليدير جهاز التسجيل لتنساب منه موسيقى هادئة .. ثم عاد يوجه تركيزه نحو الطريق مما أراح أماني وأعاد إليها استرخائها
في طريق العودة مع حلول الظلام ..لم تكن أماني قد صحت بعد من ذهولها للطريقة التي مرت بها أحداث اليوم.. فقد استمتعت للغاية بوقتها برفقة هشام وأعجبت بذوقيهما المتشابهين بالنسبة للكتب .. وبشخصيته الآسرة التي ظهرت بوضوح خلال الغداء الذي دعا إليه جميع الموظفين في أحد أفضل المطاعم .. لم يمنحها معاملة خاصة .. ولكنه كان يحدثها بعفوية وبساطة وكأنهما حقا خطيبين .. وما أدهشها هو تجاوبها الفوري معه ونسيانها فجأة لكل ما قررته حول عدم التعاطي معه وكرهه
وأثناء قيادته للسيارة في طريق العودة .. دخلا في نقاش ممتع حول الأدب وميولهما الروائية .. فلم تملك إلا أن تبتسم مما لفت نظره فقال:- ما الأمر ؟ تبدين مصدومة لاكتشافك بانني أجيد القراءة
قالت بسرعة :- لا تعتبر الأمر شخصيا .. ولكنني ظننت رجال الأعمال وكل من يهتم بالتجارة منغلق الفكر وجاف الأحاسيس .. ولم أتخيل أن أجدك مختلفا
رمقها بنظرة عابرة وهو يقول :- هل تتكلمين عن خبرة ؟
هزت كتفيها قائلة :- لقد خالطت عددا منهم .. أبي .. صلاح .. وصدقني .. مفهومهما عن القراءة لا يتجاوز الصفحات المالية والاقتصادية في الجرائد اليومية
قال بشيء من الحدة :- حسنا .. كما ترين ليس كل الرجال متشابهون
تأملته لوهلة ثم رددت :- لا .. ليس جميع الرجال متشابهون
عندما نظر إليها كانت قد عادت ترمق الطريق المظلم .. وبدت ساهمة وكأنها تتخيل الأرواح التي سبق ومرت من هنا .. فقال محاولا قطع اكتئابها :- من جهة أخرى انا ايضا لم اتوقع أن اجدك مدمنة كتب إلى هذا الحد .. لقد صرفت نصف راتبك تقريبا هذا النهار في شراء الكتب
ابتسمت بشحوب وقالت :- اعتدت الهروب من الواقع إلى خيال الكتب في سنوات المراهقة .. ولازمتني هذه العادة حتى الآن
تفكر بكلماتها قليلا .. ثم قال بهدوء :- القراءة وسيلة فعالة أحيانا كي ينسى الانسان قسوة الزمن
فهمت أيضا سبب اختلافه عن الآخرين .. وسبب التشابه الذي أحسته بينهما .. هو أيضا كان يهرب من حياته المريرة والقاسية بالخيال .. لامس هذا التشابه قلبها وأحست وهي تنظر إلى جانب وجهه الجامد بأنها في هذه اللحظة أقرب إليه من أي وقت مضى
صدر صوت مزعج من السيارة .. قطب هشام وظهر عليه القلق في اللحظة التي توقف فيها محرك السيارة عن العمل .. قال بجفاف :- عن إذنك
غادر السيارة فراقبته وهو يفتح الغطاء الأمامي لها .. ويلقي نظرة على المحرك .. وعندما تأخر ارتدت معطفها ولحقت به .. قالت وهي تنظر إلى الأبخرة التي تصاعدت من المحرك :-هل المشكلة كبيرة ؟
بدا لها منزعجا وهو يعبث بيده هنا وهناك ويقول :- للأسف .. المشكلة كبيرة بالفعل .. لقد احترق المحرك بالكامل
قالت بقلق :- وماذا سنفعل ؟
دون أن يجيبها .. استل هاتفه وسرعان ما كان يطلب سيارة لتقلهما من حيث يقفان .. أنهى المكالمة وهو يقول باقتضاب :- :- ستستغرق السيارة بعض الوقت لتصل
لم تستطع إخفاء ارتجاف شفتيها بابتسامة خبيثة أثارت غيظه فقال :- هل تجدين الموقف مسليا؟
سيطرت على نفسها عندما لاحظت غضبه ثم قالت برزانة :- لقد تذكرت فقط موقفك المزدري من سيارتي عندما رفضت أن أسافر بها وأصريت على اصطحابي معك .. بماذا وصفتها ؟ .. نعم .. قطعة خردة قديمة .. قيادتها في طريق سفر هي أسهل طريقة للانتحار
أشارت بيدها نحو سيارته الفارهة وقالت بتهكم :- انظر إلى ما فعلته بنا سيارتك الخارقة .. أعرف بأن الوقت ليس مناسبا .. ولكنني أستمتع بالمرة الأولى التي يخطئ فيها السيد هشام كبقية البشر
نظر إليها ببرود حتى ظنته سيصرخ في وجهها غاضبا .. إلا أن شفتيه انفرجتا عن ابتسامة وهو يقول بهدوء :- استمتعي بلحظتك إذن لأن خطأ كهذا لن يتكرر
قالت باسمة :- تأكد بأنني سأفعل
فركت كفيها لتبث بهما بعض الدفء وهي تقول :- هل أنت متأكد بأن النجدة لن تتأخر ؟
أقفل الغطاء .. واستند إلى مقدمة السيارة قائلا بسخرية :-
:- هل يقلقك الانتظار في مكان موحش كهذا معي ؟
ردت عليه فورا :- وهل يجب أن أشعر بالقلق ؟
قال بجفاف :- أنت من يجب أن يخبرني .. ففي كل مناسبة نكون فيها وحدنا ترتجفين خوفا وكأنني أخطط لافتراسك
أدهشها اكتشافها بأنها لم تعد تشعر بالخوف منه كالسابق .. فتمتمت :- الأمر مختلف الآن .. أنت لم تعد غريبا
نظر إليها متمعنا قبل أن يقول :- إذا كان خوفك مقتصر على الغرباء فما سبب نوبة الذعر التي وجدتك تعانين منها أثناء وجود ابن عمك في شقتك ؟
ارتبكت وتجدد خوفها منه .. هذه المرة من محاولاته المتكررة للتوغل في أعماقها .. فقالت بتوتر :- هذا ليس من شأنك
ولكنه تجاهل تصريحها وقال بلطف :- أتكرهينه إلى هذا الحد؟
قالت بحدة :- الكراهية وصف باهت للغاية لما أحسه نحوه
صمت للحظات مرت خلالها سيارتين إلى جانبهما بسرعة كبيرة .. أضاء نورهما العابر وجهه الغامض .. قال بعدها :- هل كان والدك يعرف بمدى كراهيتك لابن عمك عندما أصر على زواجكما ؟
قالت ببرود :- كان أبي أكثر من يعرف بمشاعري اتجاه صلاح
اعتدل سائلا بحدة مفاجئة :- لماذا إذن أرغمك على قبوله؟
حمل صوته الغضب والحيرة .. وكادت هي تتجاهل سؤاله أو تمنحه ردا فظا .. ولكنها غيرت رأيها فجأة وضحكت بتهكم مرير وهي تقول :- لم يكن يثق باختياري لشريك حياتي بنفسي .. كان يخشى أن ينتهي أمري برفقة زوج حقير من أصل متواضع لا يرضي طموحاته
سألها بهدوء :- وهل لشكوكه هذه أسباب؟
التفتت إليه قائلة بحدة :- ما الذي تريدني أن أقوله ؟.. أن تجربة فاشلة لي كانت السبب ؟.. حسنا لقد قلتها .. هل أنت راض ؟
سألها بعد لحظة صمت :- ما الذي حدث ؟
ابتعدت عنه قائلة بعصبية :- لا أريد التحدث في الموضوع
:- قد يريحك أن تفعلي .. تعرفين بأنك قادرة تماما على الثقة بي
نظرت إليه بتردد وارتياب .. هل عليها اطلاعه على ما حدث ؟ شيء ما يحدثها بأنه جدير بالثقة .. ألم يكن الوحيد الذي وقف إلى جانبها في محنتها ؟
استندت إلى مقدمة السيارة إلى جانبه وهي تتمتم :- أشعر بالحرج لمجرد تذكر القصة .. ولكن ما يعزيني هو أنني كنت صغيرة .. مراهقة حمقاء تؤمن بالأحلام الوردية والأماني المستحيلة
لم يعلق خشية تغيير رأيها بالبوح له بسرها .. بل ظل ينظر إليها عبر الظلام الذي لم يبدده سوى مصابيح السيارة المضاءة
:- كان اسمه فراس .. التقينا خلال الدراسة في الجامعة .. وكما تتوقع كان شابا وسيما ورقيقا .. يكبرني بعامين .. ظننته الشخص الذي تمنيت دائما الارتباط به على أمل تحقيق حلمي الأكبر .. وهو الزواج برجل أحبه
فكرت بأسى .. حلمها وحلم أمها الضائع .. ضحكت بمرارة قائلة :- كما سبق وأخبرتك .. كنت رومانسية حمقاء .. لم يوفر أبي أي طريقة ليثبت لي هذا عندما اكتشف الأمر .. لم يعجبه اختياري لطالب فقير لا يملك والده إلا وظيفته البسيطة .. وعندما وجد مني إصرارا على موقفي ...
صمتت للحظات تحاول خلالها البحث عن طريقة تشرح فيها ما حدث .. فتنهدت قائلة :- عدت ذات مساء إلى البيت لأجد أبي مجتمعا بفراس داخل مكتبه .. لم يشعر أحدهما بوصولي فسمعت أبي يعرض عليه مبلغا من المال ليبتعد عني .. مبلغا ليس بالكبير .. ولكنه كاف ليقرر فراس اولوياته .. لقد قبل بالمبلغ وانصرف .. ولم أره بعد ذلك أبدا
هبت نسمة باردة تخللت معطفها فارتعشت .. وأحاطت جسدها بذراعيها لتبث فيه بعض الدفء .. سمعت صوت هشام فتذكرت وجوده فجأة :- من الواضح بأن الذكرى ما زالت تؤلمك
قالت بمرارة :- تؤلم كرامتي وكبريائي .. لقد ظننته أحبني حقا .. ولكنه كما يبدو وجد بي صيدا ثمينا .. ابنة ثرية لرجل ثري .. وعندما فهم من أبي أنه لن ينال شيئا باستمراره في خداعي .. قبل بالمبلغ و تخلى عني ببساطة .. كانت مواجهتي لأبي أشبه بالكارثة .. لم يراعي مشاعري وكبريائي المجروحة .. لقد أعادني إلى الواقع بأقسى الطرق محطما كل قناعاتي السابقة .. آمالي وأحلامي .. ثم بدأ ضغطه علي لأتزوج من صلاح
قال هشام ببرود :- ولكن حبك لزميلك هذا منعك من الارتباط بغيره حتى بعد تخليه عنك
قالت ساخرة :- لم يكن حبا منذ البداية.. بل كان سعيا يائسا خلف حلم أحمق .. لقد كنت رومانسية بما يكفي لأخدع بكلمات طامع أحب أموالي قبلي .. ولكنني كبرت وصحوت من هذه الغفلة .. وأقسمت على ألا أقع في الفخ مجددا
:- فخ الزواج ؟
:- بل الوقوع في فخ مشاعر زائفة لن تؤدي إلا إلى إهانتي وتحطيم كبريائي مجددا .. أما بالنسبة للزواج .. فقد كنت مشغولة برفض صلاح لدرجة أنني لم أفكر به مطلقا
نظرت إليه فوجدته قريبا منها حتى أنها تمكنت من تمييز ملامحه الغامضة رغم الظلام
تمتمت :- لابد أنك تظنني حمقاء وتافهة بعد سماعك هذه القصة
قال بهدوء :- بل ناضجة كفاية كي تنسي ما حدث ولا تسمحي له بالتأثير على ما تبقى من حياتك .. كل منا مر بتجربة فاشلة ذات يوم .. هذا لا يعني أن نتخلى عن براءة أحلامنا بسببها
سألته بفضول :- وهل مررت أنمت بواحدة ؟
ضحك قائلا :- بل أكثر من واحدة .. المرحلة الجامعية لم تكن مسلية جدا بالنسبة إلي
تأملته مليا غير قادرة على تخيل هشام عطار مرفوضا .. قرأ أفكارها بسهولة وقال :- لم أكن يوما مثاليا يا أماني .. في تلك المرحلة كنت طالبا فقيرا يسخر زملاءه من ارتداءه لنفس القميص طوال أيام السنة .. وأنا لا اخجل من ماضيي أبدا لأن الفقر لم يكن عيبا في يوم من الأيام .. وهذه لم تكن فكرة الفتيات في تلك السن .. هل كنت لتقبلين بتودد شاب لا يملك قوت يومه .. ومسؤول عن عائلة كاملة عليه أن يطعمها وينفق عليها ؟
تمتمت :- لقد كنت مستعدة للزواج من فراس رغم فقر حاله وغموض مستقبله .. في ذلك الوقت .. كانت الثقة والعاطفة في نظري هما أساس أي ارتباط
صمت للحظات طويلة وهو ينظر إليها .. ثم قال باقتضاب :- أظنك كنت مختلفة عن باقي الفتيات وما زلت
التقت نظراتهما .. فأسرعت تشيح بوجهها عنه وقد سرى بينهما ذلك التوتر المألوف .. قالت مازحة لتخفي اضطرابها :- هل تفسر قصتك هذه سر الندبة التي تحملها فوق عينك ؟
قال على الفور :- قد أحكي لك سرها إن حكيت لي عن ندبتك أنت يا أماني
ارتبكت وقد أحست بأنه يعني ندبتها الداخلية .. التي تفضل الموت على البوح بها لأحد.. أنقذها من الرد استنشاقها لرائحة عطره الثمينة والتي أصابتها بنوبة سعال حادة منحتها العذر لتبتعد عنه .. سألها باهتمام :- هل أنت بخير ؟
أخذت نفسا عميقا من الهواء البارد النظيف ثم قالت بصوت مختنق :- إنها رائحتك
قال بدهشة :- ماذا ؟
التفتت إليه قائلة بحرج :- رائحة عطرك .. تسبب لي العطور حساسية شديدة فلا أستطيع احتمالها
قال بارتياب :- لا أصدقك .. فأنت لا تتأثرين برائحة عطرك
قالت ببساطة :- أنا لا أستعمل العطور أبدا ومنذ سنوات
ضاقت عينيه وهو يقف على بعد أمتار منها يراقبها .. فأدهشها أن تلاحظ اضطرابه .. نظر بعيدا وهو يمرر أصابعه بين خصلات شعره القاتم .. ويقول بتوتر :- أظن رائحتك الخاصة قد أربكتني
لأول مرة منذ سنوات تشعر أماني بأنوثتها تعود إلى الحياة من جديد أمام رجل يلاحظها ويغازلها بارتباك يتناقض تماما مع رجولته الطاغية وثقته الشديدة بنفسه .. أحست بالضعف واللذة لهذا الإحساس مما فاجأها .. راقبته يقاوم توتر اللحظة برفع هاتفه .. والاتصال بشخص ما .. سمعته يتحدث بعصبية .. ثم ينهي مكالمته قائلا بانزعاج :- لقد تأخر السائق
تمتمت :- لم تمض أكثر من ساعة
شعرت في تلك اللحظة بأول قطرة مطر تهطل فوق انفها .. فرفع رأسه وهو يقول بسخرية :- لنرى إلى متى ستجدين الساعة قصيرة
اتجه نحو السيارة وهو يشير لها قائلا : من الأفضل أن ننتظر في السيارة
فتح لها الباب الأمامي فقالت باستفزاز :- أتخشى البلل؟
ازداد المطر حدة فالتفت إليها قائلا بجفاف :- بل أخشى عليك من المرض .. كما أنني لن أحتمل نوبة ذعر نسائية منك بسبب إفساد المطر لشعرك وزينتك
ارتسمت على شفتيها ابتسامة باهتة .. ثم رفعت رأسها إلى السماء لتستقبل قطرات الماء الباردة .. وقالت بنشوة :-
:- لا تقلق .. لن أعرضك لموقف كهذا
نظر إليها مليا يتأمل شعرها الأشقر الرطب الذي التصقت أطرافه بجبينها ووجنتيها .. واسترخائها الكامل وكأنها قضت حياتها كاملة تحت المطر .. قال بهدوء :- سيدة الشتاء
أقفل باب السيارة .. فنظرت إليه بحيرة ورددت :- سيدة الشتاء !!!
ابتسم بغموض قائلا:- تذكرينني بقصة قديمة عن فتاة أحبت الشتاء بجنون جعل أصدقائها يطلقون عليها اسم سيدة الشتاء لأنها ما كانت تمانع بالاغتسال تحت قطرات المطر مهما كان الجو باردا أو قارسا
أثار فضولها فسألته :- وما حكايتها ؟
:- كان لها حبيب يحمل في قلبه قسوة لم تناسبها .. تشاجرا ذات ليلة ممطرة وهو يقود سيارته بها في طريق مقفر .. فطلبت منه في لحظة غضب إنزالها من السيارة فلم يتردد في الإجابة على طلبها .. وسرعان ما تركها وحيدة في العراء ومضى في طريقه
تمتمت دون أن تفكر :- النذل
ابتسم ولم يعلق .. بل تابع :- بعد قيادته لبضع كيلو مترات وخزه ضميره وتذكر حبه العميق لفتاته .. ولم يستطع المضي أكثر .. فعاد أدراجه إلى حيث تركها ليفاجئ برؤية ملابسها وحذائها وجميع متعلقاتها .. ولكن بدون أي أثر لها
بالرغم منها .. أحست أماني بجسدها يقشعر من غرابة القصة .. سألت مترددة :- ما الذي حدث لها
:- اختلف الناس في تفسير ما حدث .. البعض قال بأنها قد سئمت من حبيبها وقررت الاختفاء من حياته ولكن ليس بدون تلقينه درسا وإثارة الذعر في نفسه .. وبما أن عائلتها لم تسمع عنها شيئا .. واستحالة تحركها بدون ملابسها .. عزا البعض ما حدث إلى ظاهرة الاحتراق الذاتي الشهيرة التي لم ينجح أحد في تفسيرها .. والبعض الآخر علل الحادث بهوسها القديم اتجاه المطر .. فدموع القهر والغضب التي ذرفتها بعد رحيل حبيبها امتزجت بقطرات المطر .. فحصل اتحاد مزج بين روحها وجوهر هذا الماء السماوي فذابت خلاياها معه .. وشربت الأرض العطشى بقاياها إلى آخر قطرة
صمت بعدها مراقبا وجهها المتصلب الذي فقد شيئا من لونه .. أحست أماني بأن الأمان الذي أحست به قبل دقائق قد اختفى .. وبدا لها المكان المقفر والمظلم الذي تخلل صمته صوت ضربات المطر الرتيبة على سطح الأرض الخشنة .... مخيفا
تحاشت النظر إليه وهي تقول بصوت مختنق :- لقد بدأت أشعر بالبرد .. أظنني سأعود إلى السيارة
فتح لها الباب من جديد فأسرعت تحتمي بحميمية ودفء السيارة
لم يلحق بها فورا .. بل بقي لدقيقة كاملة في الخارج .. يتأمل الطريق اللانهائي بعبوس قبل أن ينضم إليها دون أن يتكلم .. بعد دقائق طويلة من الصمت .. قال أخيرا بصوته العميق :- آسف لما سببته لك من الخوف
قالت بكبرياء :- لم أخف
ولكنها سألته بعد لحظات بتردد:- هل .. هل القصة حقيقية ؟
نظر إليها ففاجأها الحنان المطل من عينيه وهو يقول بحزم لطيف :- سواء كانت القصة حقيقية أم لا يا أماني .. فثمة حقيقة مؤكدة هي أنك لن تصابي بأي أذى ما دمت معي .. فهل تصدقين هذه الحقيقة؟
حاولت أن ترد عليه بالإيجاب ولكنها لم تستطع ... أبعدت نظرها عنه فزفر بقوة وامتنع عن قول أي كلمة إضافية حتى دوى رنين هاتفه المحمول .. وسرعان ما لمحا ضوء السيارة القادم من بعيد فقال باقتضاب :- لقد وصلت السيارة
أحست أماني بالراحة العميقة لانتهاء هذه الليلة الغريبة .. فقضاء الوقت مع هشام لم يزد مشاعرها نحوه إلا غموضا
وإحساسها بالخوف نحو المستقبل إلا قلقا وخوفا

ithran sara
2015-06-21, 12:55
الفصل الثالث والعشرون
الحقيقة المرة

أوقف تمام شاحنته الصغيرة والتفت إلى جودي ملقيا نحوها نظرة طويلة لاحظ خلالها مدى ضيقها وتوترها وهي تنظر عبر النافذة إلى مدخل المطعم .. قال بهدوء :- لقد وصلنا
أدركت هذا .. ولكنها لم تتوقع عندما وعدها بأن يأخذها إلى مكان مميز أن يعيدها إلى حيث التقيا أول مرة .. إلى مكان يرتاده طارق ومعارفه بانتظام .. سمعته يقول بحزم لطيف :- جودي .. انظري إلي
التفتت إليه على مضض .. فآخر ما أرادت إظهاره له هو خوفها وجبنها من مرافقته علانية .. ولكنها وجدت التفهم في عينيه وه يقول :- ما من مبرر لقلقك .. أعدك بهذا
صدمتها ثقتها الكبيرة به .. فقد أومأت برأسها مصدقة إياه بكل بساطة .. وترجلت معه من السيارة .. لاحظت بأنه لم يدخل من البوابة الرئيسية .. بل دار بها حول المبنى وأدخلها من باب جانبي صغير .. توقفت عندما صعد إلى درج ضيق وقالت بتوتر :- إلى أين تأخذني ؟
استدار إليها قائلا بنفاذ صبر :- هلا توقفت عن الشك بكل ما أقوم به .. فقط جارني قليلا ولن تندمي .. وأعدك بأنني سأوصلك إلى منزلك فور أن تطلبي مني هذا
ترددت للحظات ثم حسمت رأيها .. منذ أيام وهي تخرج مع تمام بانتظام وفي كل مرة كان يفاجئها بأخذها إلى مكان مميز أو القيام بعمل مجنون لم يخطر لها أبدا .. باختصار كانت تستمتع بوقتها دون أن يفرض عليها شيئا .. لا لمسات .. لا تلميحات مثيرة .. ولا حتى قبلات
لم يقترب منها بشكل حميم ولو مرة منذ قبلها ذلك اليوم فوق الجبل .. وذلك لكسب ثقتها وعدم ترك حجة لها تمنعها من رؤيته.. ولكن السؤال الذي كانت تطرحه على نفسها باستمرار هو كيف ستكون ردة فعلها إن حاول تقبيلها مجددا ؟
صعدت معه حتى وصلا إلى السطح .. وقفت في وسط المكان الفسيح والهواء البارد يلفحها بقوة فضمت معطفها إليها وجالت ببصرها حولها .. فلم تجد شيئا سوى غرفة صغيرة في نهاية السطح .. تسرب الضوء من أسفل الباب الخشبي المغلق فعرفت بأنها مقصدهما
شعرت بيده على ظهرها تحثها على السير .. فأخفت جاهدة الخوف والريبة اللذين تسللا إلى نفسها .. وسارت معه نحو باب الغرفة .. فتحه وأفسح لها الطريق لتدخل أمامه ..
تسمرت مكانها بعد خطوة واحدة من دخولها .. وأطلقت شهقة قصيرة .. فما رأته داخل الغرفة لم يكن متوقعا على الإطلاق .. همست بدون وعي :- يا إلهي
لم تكن الغرفة صغيرة كما ظنت .. بل فسيحة ورحبة .. بهرت نظرها بديكورها البديع الذي تجلى بالنوافذ المقنطرة الكبيرة المطلة على مشهد رائع للمدينة .. الجدران ذات اللون القوي التي توزعت عليها لوحات فنية بديعة .. ميزت من بينها اللوحة التي اشترياها معا منذ أسابيع .. وبعض الرفوف الخشبية التي تراصت عليها الكتب .. أما أثاث الغرفة فقد كان عبارة عن طنافس وثيرة على الأرض .. وسجادة شرقية متعددة الألوان مما جعل المكان يبدو كمشهد خارج من كتاب ألف ليلة وليلة .. أما إضاءة المكان .. فقد كانت معتمدة على مصابيح تقليدية قديمة الطراز .. منح نورها الأصفر الشاحب بالإضافة إلى النيران المشتعلة داخل موقد قرميدي جميل الشكل المكان طابعا خياليا
همست مجددا :- تمام .. ما هذا المكان بالضبط ؟
ارتسمت على شفتيه ابتسامة رضا للتأثر الواضح عليها وقال :- مكان صمم ليثير ردة فعلك هذه بالضبط
التفتت إليه قائلة بتأنيب :- تمام محفوظ .. هذا مكان صمم خصيصا للتأثير على النساء وإفقادهن عقولهن .. ومن الأفضل أن تكون نواياك سليمة
أطلق ضحكته الرجولية الجذابة وهو يداعب شعرها الناعم الذي جمعته على شكل ذيلي حصان وقال :- ما أنويه حاليا هو منحك وجبة عشاء شهية ووقتا ممتعا لن تنسيه أبدا
نظرت إلى المائدة المنخفضة التي توسطت الغرفة والتي امتلأت بما لذ وطاب من الأطعمة الساخنة .. وزينتها باقة أزهار ناعمة في المنتصف .. فابتسمت قائلة :-من الواضح بان زملائك في المطعم مشتركون معك في إعداد هذه المؤامرة .. منذ متى وأنت تحضر لهذه الأمسية ؟..أم أنك معتاد على القيام بهذه الترتيبات مع كل صديقاتك ؟
أدارها إليه ونظر إلى عينيها قائلا بحزم :- ليس هناك صديقات يا جودي .. أنت أول امرأة أدعوها إلى هنا
ارتبكت جودي وضاعت بين الصدق في عينيه وقناعتها بأن شابا بوسامته وجاذبيته لا يمكن ان تخلو حياته من النساء .. فأسلوبه العفوي في إفقادها عقلها ينم عن خبرة واسعة في معاملة الجنس الآخر
قادها إلى المائدة وساعدها على الجلوس فوق الوسائد الوثيرة فيما قالت :- قد تكون صادقا .. ولكنني لن أصدق بأن نوايا صاحب المطعم كانت سليمة عندما صمم المكان .. بالمناسبة .. هل يعلم بأنك تستعمل عش الغرام الخاص به لأغراضك الشخصية ؟
جلس إلى جانبها والتسلية تطل من عينيه وكانه يستمتع بسماع رأيها السلبي في مديره . ومع هذا قال :-أنت تظلمين الرجل يا جودي .. قهو ليس سيئا إلى هذا الحد .. لماذا لا تصدقين بان رجلا قد يصمم مكانا جميلا كهذا لأجل الهروب إليه من مشاكل الواقع والانفراد بنفسه قليلا .. أو الاجتماع بأصدقائه المقربين بعيدا عن ضجيج المطعم وازدحامه ؟
هزت رأسها بعدم اقتناع قائلة :- حبيبي تمام .. إما انك بريء للغاية أ, انك تكن ولاءا غير عادي لرئيسك
وعندما لم يمنحها ردا نظرت إليه لتجد انفعالا في عينيه فسألته بقلق :- ما الامر ؟ هل قلت ما أغضبك ؟
ابتسم بدفء قائلا :- لا .. ولكنك ناديتني بحبيبي دون أن تشعري
احمر وجهها عندما أدركت ما قالته .. فأشاحت بوجهها منشغلة بتناول ما امامها من طعام متجاهلة التوتر الذي أخذ يتصاعد بينهما .. ثم قالت مغيرة الموضوع :- من الواضح ان رئيسك يكن لك مودة خاصة إذ سمح لك باستخدام مكان خاص كهذا
هز كتفيه قائلا :- إنه معجب بمواهبي .. وبما انني من قام بتصميم المكان .. منحت امتيازا عن باقي زملائي
عادت تتأمل المكان بطريقة مختلفة وهي تقول باستغراب :- أنت موهوب بشكل ملحوظ .. أما فكرت يوما بامتهان هذا العمل ؟
:- تقصدين كمصمم للديكور ؟
:- نعم
هز رأسه ماطا شفتيه بلا اقتناع :- ما قمت به هنا كان للمتعة فقط .. ولكنني لا اجد نفسي أقوم بهذا العمل لكسب الرزق
كان الطعام شهيا بالفعل .. ولكن عقلها كان مشغولا بكلامه .. لم تعرف إن كان سيتقبل منها ما ستقوله أم لا .. ولكن على احد ان يفتح عينيه ليرى الواقع .. قالت :- ألا ترى بانك تهدر طاقاتك بما تقوم به حاليا ؟
عقد حاجبيه قائلا :- ماذا تقصدين ؟
:- أقصد كعازف غيتار
ضاقت عيناه الداكنتان وهما تنظران إليها بتعبير غير مفهوم وقال :- أهذا رأيك ؟
:- انت تملك الكثير من المواهب والطاقات .. والشهادات العليا .. بالإضافة إلى شخصية مثيرة للاهتمام .. تستطيع كسب ثروة إن استثمرت ما لديك جيدا
برقت عيناه بغضب واضح .. ولكن صوته حافظ على بروده وهو يقول :- أعرف بانني لا أقارن بخطيبك الثري يا جودي .. ولكنني لم أخجل يوما من عمل قمت به ما دام شريفا .. أم انك تجدين عملي حقيرا إلى هذا الحد؟
أسرعت تقول بذعر :- لا .. أنا لم أقصد هذا
لم ينتظر منها تفسيرا .. بل قفز واقفا وابتعد عنها .. فعرفت بانها قد لمست وترا حساسا بإشارتها غير المتعمدة غلى الفروقات بينهما
لحقت به إلى حيث وقف ينظر عبر النافذة بنظرات واجمة .. وقالت :- لو لم أكن لك ما يكفي من الاحترام لما كنت هنا معك يا تمام
وضعت يدها فوق ذراعه وقالت بتوسل طفولي :- لا تغضب مني ... أرجوك
وعندما لم يتحرك أكملت بتردد :- أنت تعرف بانني أهتم لأمرك مهما كانت طبيعة عملك
استدار إليها ورمقها بنظرات غامضة وهو يقول :- أثبتي هذا إذن
اتسعت عيناها بريبة .. وقبل ان تفهم قصده أحاط خصرها بذراعيه وشدها إليه بقوة ... كتم شهقتها المذعورة بفم جائع ومتلهف .. فحاولت ان تبعده عنها مقاومة قبلته الشرسة فلم تستطع .. ولكن ما ان مرت ثوان قليلة حتى تبخرت مقاومتها ووجدت نفسها تقترب منه أكثر لتبادله قبلاته بنفس الحرارة واللهفة .. دارت الغرفة من حولها واختفت معالمها .. وسرى في جسدها إحساس لذيذ ومخيف من الإثارة .. شعرت بكل جزء منها يتوق إليه بجنون .. أحاطت عنقه بذراعيها واستسلمت تماما لشفتيه اللتين امتلكتا شفتيها ولم تبتعدا حتى قدرتا حاجتها إلى التقاط أنفاسها .. نظر إلى عينيها التائهتين وشفتيها المرتعشتين .. واهتز جسده بعاطفة جياشة وهو يهمس من بين أنفاسه اللاهثة :- لو تعلمين كم أحبك .. لو تعلمين كم أريدك
كلماته جعلتها تهبط إلى أرض الواقع شيئا فشيئا .. حتى تمكنت من انتزاع نفسها من قلب الغيبوبة التي سيطرت عليها بدفعه بعيدا عنها وهي تصيح بعنف :- توقف
نظر كل منهما إلى الآخر لاهثا .. هو برغبة وحشية كادت تضعفها مجددا .. وهي بذهول مما حصل
تمكن أخيرا من أن تهمس :- كيف تجرؤ على إهانتي بهذا الشكل ؟
رمشت عيناه وكأن ردة فعلها قد فاجأته .. قال بتوتر :- آخر ما قصدت فعله هو إهانتك أو إيذائك يا جودي
ولكنها لم تستمع إليه .. بدت وكأنها تتحدث إلى نفسها وهي تقول باضطراب :- أهذا هو ردك على إشارتي السابقة حول عملك .. أم أنه ما خططت له منذ البداية بإحضاري إلى هذا المكان الشاعري والمنعزل ؟
صاح بحدة ليوقف سيل الأفكار والوساوس من التدفق إلى رأسها :- جودي
نظرت إليه بذهول وهي تردد :- هذا صحيح أليس كذلك ؟ لقد أحضرتني إلى هنا لتنهي ما بدأته قبل أسابيع .. إنه الفصل الأخير من المسرحية الشاعرية الحمقاء التي ضممتني إليها بإلحاحك المستمر .. فكرت بأنني ما دمت سأرفض الارتباط بك .. فلم لا تستغل افتتاني الأحمق بك لتقضي وقتا ممتعا معي
تصلب جسده الطويل .. وارتسم غضب شديد في عينيه .. لم يسمح لها انفعالها بأن تدرك مدى قسوة كلماتها .. ولكنها لاحظت تغير ملامحه فتراجعت بقلق بينما قال هو بجفاف :- أتنعتينني بالانتهازي يا جودي ؟ وماذا عنك أنت ؟ .. من منا يستغل الآخر برأيك .. أنا أم أنت ؟ أنت هي الفتاة الثرية المدللة المخطوبة لرجل آخر ومع هذا لا تجد ضررا في قضاء الوقت مع عازف حقير مثلي
اقترب منها وقد قست ملامحه بشكل لم تعهده جودي منه أبدا .. مما زرع الخوف في أعماقها ودفعها للتلفت حولها بحثا عن مهرب .. قال بقسوة :- تحتقرين كوني فقيرا .. ولن تفكري أبدا بالارتباط بي ... ولكنك لم تترددي في مرافقتي عدة مرات .. ومبادلتي القبلات
صاحت بيأس :- هذا غير صحيح
لوى فمه بابتسامة ساخرة وقال :- حقا ؟ إن لم تخني ذاكرتي فقد كنت منذ لحظات قليلة بين ذراعي .. تبادلينني القبلات بحرارة ورغبة .. إن لم يكن هذا استغلال لي .. وخيانة لخطيبك .. فأنا لا أعرف له تسمية أخرى
تجمعت الدموع في عينيها وقد جرحتها الحقيقة المرة في كلماته .. هزت رأسها محاولة الدفاع عن نفسها وهي تصيح بألم :- لا تجعل من نفسك الضحية هنا .. فأنا ما كنت بالنسبة إليك أكثر من تحدي كدت تنجح في تحقيقه .. لم تكن تفكر بالزواج مني حتى لو اختلفت الظروف
صاح بعنف :- أنت محقة .. لن أتزوج أبدا بفتاة لا تستطيع معرفة ما تريده حقا .. ولا تجد الشجاعة الكافية حتى لتفسخ خطوبتها برجل لا تحبه
انكمشت وقد أخافها عنفه فخفت الحدة في لهجته وهو يقول :- لا تتوقعي مني أن أطلب منك تركه إن لم تفعلي من تلقاء نفسك .. ولا تلوميني على استغلالي لك في الوقت الذي لا تقلين فيه سوءا عني
اغرورقت عيناها بالدموع .. وبدون أي كلمة .. اندفعت عبر باب الغرفة مسرعة .. فلحق بها قبل أن تصل إلى الدرج وأمسك بذراعها .. وأدارها إليه لتنظر إلى عينيه .. وقال ضاغطا على حروفه :- لن تستفيدي شيئا من هروبك هذا يا جودي .. إنما أنت تهربين من نفسك .ومشاعرك .. ومن الحقيقة التي تحاولين إنكارها .. ستدركين في النهاية أننا قد خلقنا من طينة واحدة .. وأنك لن تجدي أنسب لك مني
انتزعت نفسها من بين يديه وقد علت وجهها نظرة اشمئزاز ... ثم تابعت طريقها خارجة من المكان دون أن يعترض طريقها هذه المرة .. وبينما هي تقطع طريقها شبه راكضة فوق الرصيف .. انهمرت دموعها بغزارة مترافقة مع نشيج مكتوم لم تستطع السيطرة عليه .. لم تكن تبكي بسبب إهانة تمام لها .. ولا بسبب الحقيقة التي ألقاها في وجهها .. بل كانت تبكي بسبب اكتشافها بأنها رغم اتضاح سوء نية تمام ونذالته .. فهي تحبه بجنون
تحبه بلا أمل




الفصل الرابع والعشرون
ندبة في روحها

ارتفع رنين هاتف اماني المحمول .. فأقفلت الكتاب الذي كانت تقرأه ونهضت الأريكة لتلتقط الهاتف من حيث ألقته فوق طاولة الطعام متسائلة عمن يتصل في هذا الوقت المتأخر .. سمعت صوت سمر عندما اجابت يقول بمرح :-
:-هل أيقظتك من النوم أيتها العروس؟
قالت أماني ساخرة :- لم أتحول إلى دجاجة بعد.. مازال الوقت مبكرا على النوم .. فالساعة لم تتجاوز العاشرة
:- ممم..... ما الذي تفعلينه إذن ؟ بالتأكيد تنتظرين اتصالا من هشام .. أخبريني كيف هو كخطيب ؟ هل تستمر مكالماتكما حتى الصباح كباقي العشاق؟
احمر وجه أماني لسماعها هذا الوصف البعيد جدا عن وضعها مع هشام ..وكادت تنفي لولا تذكرها بأن سمر كغيرها تظن بأن هذه الخطوبة حقيقية فقالت :- ليس بهذا الشكل أنت تعرفين بأن ابن اختك لا يحب الثرثرة
نجحت في أداء دور الخطيبة الشاكية فقد ردت سمر :- أنت محقة .. ولكنك لا تقلين عنه سوءا .. يجب على أحدكما أن يتنازل قليلا....
استمرت سمر في حديثها مع أماني حتى دوى صوت جرس الباب منقذا أماني من سؤال سمر عن فستان الزفاف .. قالت بسرعة :- إنه صوت جرس الباب ..سأفتحه وأعود إليك
ما إن ادارت قبضة الباب حتى خطر لها بانها لا تنتظر أحدا .. وان الوقت متأخر على زيارة مفاجئة .. ولكن الاوان كان قد فات عندما دفع الباب بقوة حتى كادت اماني تفقد توازنها .. ثم انتابها ذعر شديد لرؤية صلاح يدخل الشقة ويقفل الباب ورائه بإحكام .. ثم يستدير إليها .. أطلقت شهقة مكتومة وهي ترى نار الغضب المشتعلة في عينيه .. فتراجعت إلى الخلف وهي تفكر بأنها لم تر صلاح من قبل بهذه الحالة من الانفعال .. وبدون هدوءه المعتاد ..فقالت بتوتر:-
:- ما الذي تريده يا صلاح؟ لقد سبق وأخبرتك بأنك غير مرحب بك هنا
لمح الهاتف الذي تحمله فسار نحوها بسرعة وانتزعه من بين أصابعها ليقفله ويرميه جانبا كي لا تفكر بطلب النجدة .. أدركت بغريزتها بأن هذه المرة مختلفة فحاولت التزام الهدوء والتعقل وعدم استفزازه وهي تخاطبه :- ماذا تريد ؟
قال بصوت خرج منه أشبه بالفحيح :- ما الذي تظنيني أريده ؟
كانت على وشك فقد اعصابها .. فملامح صلاح الوسيمة فقدت وقارها وغرورها لأول مرة .. وبدا من انفعاله وغضبه أنه في حالة لا تسمح له بحديث مهذب .. قالت محاولة إظهار القوة :- ما من فائدة ترجى من محاولاتك يا صلاح ..أنا امرأة مخطوبة الآن ..وإن عرف .....
صرح مقاطعا إياها :- كاذبة
انتفضت وتراجعت تحتمي خلف أريكة صغيرة وقد اخذ جسدها يرتعش بخوف لم تعرفه سوى مرة واحدة .. راقبته وهو يحل ربطة عنقه بإرهاق وهو يقول :- كاذبة لعينة .. هل ظننتني أحمقا إلى هذا الحد ؟ وأنني لن أكتشف لعبتك بطريقة ما
سألته بحذر :- أي لعبة ؟
:- لعبة الخطوبة المزيفة التي كدت تقنعينني بها .. أنت لست مخطوبة إلى هشام عطار ..إنها تمثيلية الهدف منها إبعادي
أحست أماني وكأن صفعة قوية قد اصابت وجهها .. حدقت به بذهول فضحك بمرارة :- تتساءلين عن الطريقة التي عرفت بها الحقيقة ..أنسيت بأن لدي مصادري داخل مقر عملك ؟ ليس هناك أسهل من معرفة ما يدور بينك وبين مديرك عندما تنفردان داخل مكتبه
أول اسم خطر في ذهن أماني هو لندا .. سكرتيرة هشام الرقيقة الطبع والملامح .. وتذكرت شجارها الدائم مع هشام كلما انفردت معه داخل مكتبه .. وبالذات شجارهما صباح اليوم .. هل كانت لندا تستمع إلى أحاديثهما بطريقة ما لحساب صلاح ؟
تابع حديثه ببغض :- كان علي أن أعرف بأن هشام عطار لن يتزوج بك بعدما أصبحت حديث المدينة بأكملها .. وبالتأكيد لن يورط نفسه معك دون أن يحصل على شيء في المقابل
اقترب منها قائلا بصوت جمد الدماء في عروقها :- ما الذي منحته لهشام عطار مقابل مساعدته لك يا أماني؟
تصاعد الخوف في أعماقها حتى وصل إلى حدود الهستيريا .. وجدت أطرافها ترتعش تكاد تصاب بالشلل ..ركزت بصرها على الباب القريب منها وفكرت بانها إذا فاجأته فإنها تستطيع الهرب قبل ان يمنعها .. ولكنه قرأ أفكارها فأمسك بها قبل أن تصل إلى الباب
قاومته بشراسة وهي تصيح :- اتركني وإلا صرخت وجمعت الجيران في لحظة
ولكنه بدا وكأنه لم يسمعها عندما هزها بعنف وهو يكرر:- ما الذي أعطيته لذلك الرجل ؟
صاحت به وقد طفح بها الكيل :- هذا ليس من شأنك .. وإن كنت مصرا فلتعلم بانني أعطيته شيئا لم ولن تحصل عليه أبدا
لم تكن تنوي استفزازه .. ولكن غضبها منه وخوفها شلا تفكيرها .. وعندما تجد اماني نفسها في موقف ضعف تتفوه عادة بما تندم عليه لاحقا .. وهذا ما حدث عندما فسر صلاح عبارتها بالأسوأ... فاحمرت عيناه .. واحتقن وجهه وهو يقول من بين أسنانه :- أيتها الفاسقة .. كان يجب ان أحصل عليك قبل سنوات خلت .. لما استطعت أن تتحديني بهذا الشكل .. على أي حال لم لا نكتشف معا ما حصل عليه هشام عطار
أحنى رأسه محاولا الوصول إلى شفتيها ... فأشاحت بوجهها وتلوت بين ذراعيه محاولة الافلات وهي تصيح بيأس :- اتركني يا صلاح .. أرجوك
ولكنها لم تزد بمقاومتها إلا من جنون غضبه إذ قال بحدة :- تختارين دائما الطريق الأصعب ..أليس كذلك ؟لا بأس .. لك ما تريدين
صرخت برعب عندما حملها ودخل بها إلى غرفة النوم .. ألقاها فوق السرير وثبتها فوقه مثبتا تفوقه الجسدي عليها .. تحول رعبها إلى جنون هستيري وهي تحاول إبعاده بيديها وقدميها دون فائدة .. تفجرت ا لدموع من عينيها وهي تبكي متوسلة إليه أن يتركها ..
هذا ما عاشت حياتها كلها خائفة من حدوثه .. أنه أبشع كوابيسها يتحقق على أرض الواقع وبأقسى طريقة .. وللحظات اختفت معالم الغرفة من حولها .. وبدأ الظلام يخيم حول وعيها المصدوم .. ولم تعد إلى الواقع إلا عندما تحررت من مهاجمها فجأة.. فتحت عينيها لتدرك بأن صلاح إنما قد انتزع من فوقها انتزاعا ..رات غير مصدقة هشام يمسك بتلابيب قميص صلاح وقد حوله الغضب إلى وحش مخيف لم تره منه من قبل .. قال بصوت أشبه بالرعد :-
:- أيها الجبان الحقير .. لقد حذرتك من الاقتراب منها
حاول صلاح التخلص منه وهو يصرخ :- أنت هو الغريب هنا .. أنا أعرف بانك لا تنوي الزواج بها .. إنها ابنة عمي وأنا اولى حتى بالفتات الذي تركته
إذ بصلاح يطير عبر الغرفة ليصطدم بمنضدة الزينة ويسقط ما عليها بدوي قوي .. بعد ان لكمه هشام بقبضته غير قادر على السيطرة على غضبه .. تفجرت الدماء من أنف صلاح بينما هدر صوت هشام :- إياك أن تهين المرأة التي ستصبح زوجتي
مسح صلاح الدماء بكم قميصه وهو ينهض ويقول لاهثا :- انت تكذب .. ما بينكما مجرد خطبة زائفة .. انت لن تتزوج بها أبدا
ولكن غضب هشام الكبير من مرأى تهجمه على اماني لم يبرد بعد .. عاد يمسك بقميص صلاح وقد بدا عليه الإجرام .. عرفت اماني وهي تجر نفسها فوق السرير لتحيط نفسها بالبطانية مخفية ما طهر من جسدها عبر ملابسها الممزقة .. بان هشام يبذل جهدا كبيرا كي لا يفتك بصلاح في تلك اللحظة .. لم يكن صلاح غبيا .. فالفرق في القوة الجسدية بينه وبين خصمه كان كبيرا .. فلم يحاول استفزازه اكثر بينما قال هشام بصرامة :- أنا واماني سنتزوج خلال أسبوعين .. وإن جرؤت على الاقتراب منها مجددا أقسم بأن أتجاهل القرابة التي تجمعك بها .. وأقتلك بدون تردد
ثم سحبه إلى خارج الغرفة تاركا أماني الذاهلة .. العاجزة عن التفكير بحقيقة ما حدث .. أو بما جاء بهشام إلى هنا وكيفية دخوله إلى الشقة .. كانت في حالة من الصدمة وبالكاد أحست بان الهدوء التام قد ساد المكان
ظهر هشام على باب غرفتها لاهثا .. نظر إليها حيث كانت تجلس منكمشة على نفسها فوق السرير .. وأجبر نفسه على استعادة الهدوء .. ونسيان المشهد الذي كاد يبخر كل ذرة عقل لديه .. والتفكير بانه وصل في الوقت المناسب على الأقل ..
وبالفتاة التي لم تصحو من صدمتها بعد .. قال بهدوء:- لقد رحل يا أماني
لم تمنحه ردا .. بل لم تستطع النظر إليه بينما تابع :- لقد تحطم قفل الباب أثناء دخولي إلى الشقة .. ولكنني سأصلحه لك صباح الغد .. ذلك الرجل لن يعود مجددا
همست :- بل سيعود .. إنه يعود في كل مرة .. وفي المرة القادمة .. في المرة القادمة ..
كانت قد توقفت عن البكاء .. ولكنها كانت ترتعش وبدت على وشك الانهيار .. انقبضت عضلات جسده الطويل عندما أدرك معنى كلماتها .. فقال بغضب :- هل سبق لذلك الحيوان أن تهجم عليك ؟
أشاحت بوجهها وقد عادت دموعها تتدفق بغزارة فوق وجنتيها .. اقترب منها فانكمشت مبتعدة بشكل غريزي .. جلس إلى جانبها على طرف السرير وقال بهدوء :- أنا لست صلاح يا اماني .. تعرفين جيدا بانني لن أؤذيك .. انظري إلي ..
كانت تتحاشى النظر إليه منذ البداية .. خوفا واضطرابا .. وحرجا أيضا مما حدث .. ولكن عندما امرها .. رفعت بصرها إليه فقال :- انت بخير الآن
هذا صحيح .. ما دام موجودا .. بطريقة ما أحست اماني بان هذا الرجل هو ما يمثل الأمان في حياتها .. عندما أحس بتشنجها يخف .. مد يده نحوها فترددت للحظات قليلة .. قبل ان تجد نفسها بين ذراعيه .. ووجهها مدفون في صدره العريض .. تبخر الخوف فجأة من أعماقها ليحل محله الضعف .. الضعف التام .. عادت تبكي من جديد مستسلمة لحاجتها الشديدة منذ سنوات غلى صدر تبكي عليه .. فربت على شعرها الناعم برفق .. وهمس في أذنها بكلمات مهدئة .. غير قادر على استيعاب التغيير الذي وجده فيها .. لقد سقط أخير قناع القوة الذي ارتدته لسنوات .. وظهرت الطفلة الضعيفة الخائفة التي حرصت على إخفائها عن الآخرين
عندما هدأت قليلا . ابتعدت عنه لتمسح دموعها بظهر يدها قائلة :- آسفة .. لقد بللت قميصك
قال واجما :- لا مشكلة
لم تستطع النظر إليه وهي تقول :- اعرف بانني سأبدو ناكرة للجميل .. ولكنني أتساءل عما جاء بك في هذا الوقت بالذات
قال :- اتصلت بي سمر واخبرتني بانك ربما تواجهين مشكلة .. ولحسن الحظ كنت انا قريبا من هنا
رفع ذقنها بسبابته ليجبرها على النظر إليه وردد سؤاله بإصرار:- منذ متى وصلاح يشكل لك هذا النوع من التهديد يا أماني ؟
صمتت للحظات فبدت وكأنها سترفض الإجابة .. ولكنها تمتمت أخيرا:- طوال حياتي .. ولكن الأمر لم يبدأ حقا إلا منذ خمس سنوات
أي منذ بدأت تعمل لديه تقريبا .. أكملت :- كان أبي قد فقد صبره عندما أصريت على رفضي لصلاح .. حتى الآن لا اعرف إن كان هو من شجع صلاح .. أو ان صلاح هو من بادر بتلك الخطوة من تلقاء نفسه
أحست وهي تتكلم وكأنها تعيش ما حصل مجددا .. فارتعش صوتها وهي تتابع :- كنت نائمة عندما أحسست بأحد داخل غرفتي .. لم اعرف من كان في البداية بسبب الظلام .. ولكن عندما أمسك بي عرفته .. كانت صدمتي شديدة في البداية إلى حد أنني لم أفهم ما كان يحصل .. ثم بدأ ذهولي يتحول إلى ذعر .. قاومته .. صرخت طلبا للعون ..فلم يسمعني أحد .. وعندما تحررت منه أخيرا ركضت إلى خارج الغرفة لأجد أبي هناك
لا يمكنها أن تنسى كيف كان والدها ينظر إليها .. ببرود كالثلج وكأنه يعرف ما كان يحصل
:- صرخت به يائسة .. افعل شيئا .. قل شيئا على الأقل .. ابنتك كادت تتعرض للاغتصاب على يد الرجل الذي تثق به أكثر من نفسك .. ولكنه رد بكل هدوء بأن صلاح سيصبح زوجي في النهاية .. وأن حصوله على ما هو له ليس اغتصابا
كبت هشام غضبه من ذلك الأب الذي لم يراع شعور ابنته .. ولكنه كتم أفكاره مدركا بأنها لن تحتمل أي تعاطف منه .. بل استمع إليها وهي تكمل :-
:- كانت صدمتي شديدة وغضبي أشد .. فوجدت نفسي أواجه أبي بكلمات لم أتخيل أبدا أن أوجهها إليه
لقد واجهته برأيها الصريح به .. بأنه قاسي القلب بلا رحمة .. لا يعرف كيف يحب أحدا .. واجهته بما عرفته من خلال قراءتها ليوميات والدتها .. بأنها لا تستغرب وفاة والدتها تعيسة بعد أن فشلت في أن تحب طاغية مثله
لم يحتمل والدها الحقيقة التي ألقتها في وجهه.. الحقيقة التي كان أذكى من ألا يعرفها منذ سنوات .. تمتمت :-
:- فقد سيطرته على نفسه .. ورفع عصاه في لحظة أعماه فيها الغضب وضربني بها
توتر وقد بدأت الصورة تتضح له .. وسألها :- أين ؟
مدت يدها لتلمس رأسها حيث استقرت الندبة التي لن تزول أبدا .. أزاح بيده شعرها الأشقر .. ونظر إلى الندبة البيضاء .. كانت هذه المرة الأولى التي يراها فيها عن قرب
لم تشعر أماني هذه المرة بالحرج من ندبتها أو بالارتباك .. بل شعرت بشيء آخر لم تعرفه بينما كانت يده تلمس الأثر الباقي من الجرح .. نظرت إلى عينيه لتجده مقطبا يفكر .. كان أذكى من أن يظن بأن الضربة لم تخلف إلا جرحا سطحيا .. سألها :- ما الذي حدث ؟
تنهدت وقالت :- لم أعرف ساعتها ما حدث .. ولكنني أفقت لاحقا لأجد نفسي في المستشفى .. وعرفت بأنني نتيجة للضربة دخلت في غيبوبة لمدة 3 أسابيع دون أن يعرف أحد إن كنت سأفيق مجددا أم لا .. وطبعا .. لم يزرني أبي خلال إقامتي في المستشفى ولو لمرة واحدة .. وعندما عدت إلى البيت .. كان كل شيء قد انتهى بيننا كأب وابنته
دخلت يومها إلى البيت فوجدته واقفا في وسط الصالة في انتظارها .. نظر كل منهما إلى الآخر في انتظار الحصول على اعتذار ما .. ولكن ما حدث هو أن تركها واقفة حيث هي .. ودخل إلى مكتبه .. وأقسمت هي يومها على ألا تأخذ منه شيئا بعد ذلك على الإطلاق
أمسك هشام بيدها لتشعر بتفهمه وقال :- لابد أن الأمر كان صعبا عليك
قالت بمرارة :- لم أستطع أبدا تجاوز عدم حبه لي .. لطالما فهمت حبه الشديد لجودي .. فهي صغيرته .. وشبيهة أمي التي أحبها كثيرا .. ولكنني لم افهم لماذا فضل صلاح علي إلى حد أن رخصني بذلك الشكل .. لقد كنت ابنته .. ابنته
كانت على وشك فقد أعصابها مجددا .. فأسرع هشام يشد على يدها قائلا :- أظنه أحبك بطريقته الخاصة يا أماني ... وأنا لا ادافع عنه .. والدك كان رجلا قاسي القلب وعديم الضمير .. ولكنني متأكد بأن عدم اهتمامه بك بعد الحادث كان بسبب شعوره بالذنب .. فوالدك كان رجلا مغرورا إلى حد عدم اعترافه بأخطائه .. أما ما حدث مع صلاح فأظن بـأن كل ما طلبه منه والدك هو إخافتك فقط .. فما من رجل قادر على التفريط بكرامة وشرف ابنته حتى لأجل ابن أخيه
تمتمت :- وماذا عما حدث هذه الليلة ؟
:- هنا يتضح الخطأ الذي ارتكبه والدك .. لقد منح صلاح صلاحيات كثيرة حتى اختلطت على ابن عمك الأمور وظن بأنه قد امتلكك حقا
لمس وجنتها .. فسرى داخلها شعور مريح بالهدوء .. قال :-
:- لا وجود للأب المثالي يا أماني .. فالآباء بشر مثلنا يخطئون أيضا .. فوالدك مثلا قد اتبع الطريقة الخاطئة لفعل ما ظنه صوابا .. فأنا متأكد بأن نية والدك من كل قسوته معك هو تأمين حياتك ومستقبلك .. ربما كان مؤمنا بأنك ستجدين السعادة مع ابن عمك .. هناك آباء يديرون ظهورهم لعائلات بأكملها دون الاهتمام بمصير أي فرد منها أو مستقبله
تذكرت ما عاناه في حياته وبسبب والده أيضا .. قالت بخفوت :-
:- لابد أنني أبدو سخيفة في هذه اللحظة مقارنة بما عانيته أنت وعائلتك من مشاكل
قال بحزم :- ليس هناك مشاكل سخيفة .. أنت امرأة وقد اضطررت وحدك لمواجهة ظروف كانت لتسبب الانهيار لأي امرأة طبيعية
تنهدت قائلة :- هذا ما يجعلني أتمنى لو أنني ولدت رجلا
لوى فمه بابتسامة صغيرة حركت شيئا لم تعرف ماهو داخل أعماقها .. وقال :- ماكنت امتلكت وقتها الشخصية الفريدة التي تتمتعين بها .. وربما ما كنا التقينا على الإطلاق
بدت لها نظراته حميمة للغاية وهو يتأمل وجهها المتورد .. لأول مرة منذ زمن طويل تحمر أماني خجلا .. فأخفضت عينيها بحرج مستغربة من اضطراب مشاعرها ..فهذه الجلسة بينهما قد غيرت الكثير من نظرة كل منهما إلى الآخر .. وبالنسبة إليها أحست بأنه أقرب إليها من أي وقت مضى .. خاصة وقد نجح في تهدئة نفسها .. وتخفيف الضغينة التي لطالما حملتها اتجاه والدها .. فهي الآن – لدهشتها – تعذر والدها على بعض تصرفاته .. فلطالما كانت مسببة للمشاكل .. وبعد تورطها السابق مع شخص طماع وغير جدير بها كفراس كان قلق والدها مبررا ..
لم يكن الصمت الذي ساد بينها وبين هشام مريحا .. فقد تشبع جو الغرفة بالتوتر .. وغزت الحرارة اماني وهي تشعر بقرب جسد هشام منها .. كانت هذه المرة الأولى التي يجتاحها هذا النوع من المشاعر .. من الحرارة والتوق إلى شيء مجهول لم تستطع اكتشافه .. وبحركة لا إرادية .. مدت يدها لتسدل شعرها فوق ندبتها فسارع ليمسك بمعصمها يمنعها وهو يقول بلطف :- لست مضطرة إلى إخفائها يا اماني .. على أي حال .. هي ليست بالبشاعة التي تظنين
التقت عيناهما .. فتسارعت أنفاس اماني .. كما احس هو بنبضها المضطرب من حيث يمسك بها .. أطلت من عينيه الداكنتين شعلة من اللهب أخافتها واثارتها في الوقت نفسه .. ولسبب ما أدركت بان مشاعره أوضح بالنسبة إليه من مشاعرها المجهولة إليها
سحبت يدها وقد قررت ألا تسمح له باكتشاف ما يسببه لها من اضطراب .. وقالت بابتسامة مرتجفة :-
:- أشكرك .. ماكنت أظنها بشعة على الإطلاق قبل الآن
ابتسم .. وكالعادة غيرت ابتسامته من ملامح وجهه .. فبدا أصغر سنا .. وازدادت جاذبيته خطورة
لاحظ النعاس الذي بدأ يداعب جفنيها فقال بهدوء :- من الأفضل ان تنامي الآن .. فانت متعبة وقد مررت بيوم عصيب .. يمكنك اخذ يوم الغد إجازة
ما إن تحرك حتى قالت قبل ان تمنع نفسها :- هل سترحل ؟
نظر إليها مطولا قبل ان يسألها :- هل تريدينني ان أرحل ؟
ازدردت ريقها وقد عجزت عن الرد عليه بالإيجاب .. بل وجدت نفسها تهمس :- ابقى قليلا .. قليلا فقط
عرف سبب خوفها .. فما زال احتمال عودة صلاح قائما .. فقال مطمئنا :- لن أذهب حتى اتأكد من انك نائمة بأمان
حثها على التمدد فوق سريرها .. وغطاها جيدا .. نظرت إليه من بين رموشها وهو جالس على طرف السرير .. وقد اخفت إضاءة الغرفة الخافتة نصف ملامح وجهه .. فقالت بصوت ناعس :- قد أندم على ما سأقوله فيما بعد .. ولكنني حتى الآن .. أظنك أفضل ما حدث في حياتي يا هشام عطار
ثم أغمضت عينيها .. وخلال ثوان كانت قد استغرقت في النوم
ظل هشام لدقائق يتأمل وجهها المستسلم والمسترخي .. بوجه عابس لا تعبير فيه .. قبل أن يحمل نفسه على الخروج من غرفتها وإغلاق الباب خلفه جيدا

ithran sara
2015-06-21, 12:59
الفصل الخامس والعشرون
بين نارين

عندما فتحت اماني عينيها في صباح اليوم التالي .. كان اول ما أحست به هو الارهاق الشديد والرغبة في العودة إلى عالم النوم المريح والخالي من الهم .. حتى نبهتها حركة قادمة من خلف باب غرفتها المغلق .. في تلك اللحظة .. تذكرت كل ما حدث في الليلة السابقة فهبت من السرير بذعر وفكرة عودة صلاح تكاد تفتك بها .. ولكن باب الغرفة ظل مغلقا .. والحركة المكتومة والمتقطعة لم تتوقف .. تسللت نحو الباب وفتحت جزءا منه بحذر دون أن تصدر أي صوت .. وعندما ألقت نظرة عبره حبست أنفاسها وعجزت عن الاتيان بأي حركة
لقد كان هشام هناك .. جاثيا على إحدى ركبتيه امام باب الشقة الخارجي يحاول إصلاح قفله المكسور.. لم يكن وجود هشام في هذا الوقت المبكر من الصباح هو ما أثار اضطراب اماني .. بل مظهره المدمر بعد أن تخلى عن سترته .. وحل أزرار قميصه العليا حتى الصدر .. ورفع أكمامه حتى مرفقيه مبرزا عضلات ساعديه القوية
أحست بخفقات قلبها تتسارع امام جاذبيته الجسدية الطاغية رغم المسافة التي تفصل بينهما .. لطالما أدركت قوة بنيته حتى من خلال ملابسه الانيقة .. ولكنها أدركت الآن وخاصة عندما اعتدل واقفا ليدير المقبض مختبرا جودته .. مدى بدائية ووحشية تكوين جسده الرجولي الضخم .. كان طويلا للغاية .. ولم يكن الطول الفارع بالصفة النادرة بين رجال مدينتها .. ولكن أن يترافق طول قامته مع كمال وضخامة عضلات جسده المفتولة جعله يبدو بعيدا عن رجل الأعمال الانيق الطبع والملبس الذي عرفته دائما .. لقد بدا في هذه اللحظة أقرب إلى ذلك الشاب الذي لم يترك عملا شاقا ومهينا إلا وقام به كي يطعم نفسه وعائلته
انسحبت بهدوء مغلقة الباب خلفها . واستندت إليه بظهرها محاولة تهدئة خفقات قلبها المجنونة .. ما الذي أصابها ؟ .. لم تعتد أبدا على النظر إلى الرجال بهذه الطريقة المتفحصة والمقيمة .. حتى أثناء معرفتها لفراس .. لم تحتل جاذبيته الجسدية جزءا كبيرا من تفكيرها .. فهي بالكاد الآن تستطيع تذكر ملامح وجهه
تذكرت ما حدث ليلة الأمس والدعم الذي قدمه هشام لها .. لا يمكنها أن تتخيل ما كاد يحصل لو لم يصل في تلك اللحظة .. تكره الاعتراف بهذا .. ولكن ديونه عليها قد زادت كثيرا .. وما تخشاه هو ان يأتي ذلك اليوم الذي تصل فيه حاجتها إليه إلى حد المرض ..
تذكرت تعاطفه معها وتفهمه .. لقد تحدثت للمرة الاولى عما حدث بينها وبين والدها مع شخص غريب ببساطة وراحة .. وبدون تفكير .. والمصيبة أن رده عليها كان ما تحتاج إليه بالضبط
كلما زادت معرفتها به .. كلما أدركت مدى كمال صفاته ومثاليته .. إنه الرجل الذي ربط نفسه بها أمام الناس لينقذها من صلاح .. وينقذ سمعتها التي تلطخت في المدينة دون ان يطلب مقابلا لنفسه
وحتى الآن لم تر منه أي تصرف سيء ومعيب يثلج صدرها ويزيد من قناعتها بعدم وجود رجل يستحق احترامها
أخذت نفسا عميقا لتستعيد هدوئها .. ثم بدلت ملابسها استعدادا لمواجهته .. وعندما خرجت من غرفته أخيرا.. كانت تبدو أفضل وقد ارتدت سروالا من الجينز وكنزة رقيقة
رفع رأسه من خلف الجريدة التي كان يقرأها من حيث يجلس فوق الأريكة .. والتقت نظراتهما للحظات طويلة أشعرتها بالارتباك والرغبة بالعودة إلى غرفتها هربا من مشاعرها
قطع الصمت بصوته القوي :- صباح الخير
حاولت ان ترد فلم تستطع .. ولكنه تابع بنبرة هادئة :- كيف تشعرين الآن ؟
أجبرت نفسها على النطق فخرج صوتها متحشرجا :- أفضل بكثير
تنحنحت لتسلك حنجرتها ثم سألت :- منذ متى وانت هنا ؟
لم يمنحها ردا .. بل انتقلت عيناه من وجهها إلى جسدها الرقيق .. لم تكن نظراته تشبه بأي طريقة نظرات صلاح الوقحة والمهينة .. ولكنها أحست بالانزعاج .. فتململت في وقفتها قائلة بعصبية :- ألن تجيب عن سؤالي ؟
قال اخيرا:- ما الذي تظنينه أنت ؟
توترت وحاولت ان تستوضح تلك المعلومة التي عرفتها منذ البداية ورفضت الاعتراف بها .. ثم ارتدت متفاجئة وهي تهتف :- لقد بقيت هنا طوال الليل
انتبهت في تلك اللحظة إلى الوسادة والبطانية الإضافية المكومتين بترتيب فوق أحد المقاعد .. قال بهدوء :-
:- ما كنت لأتركك وحدك بتلك الحالة .. ومع باب بقفل مكسور
مررت يدها بتلقائية عبر شعرها لسدله فوق ندبتها وهي تحاول السيطرة على ارتباكها .. لقد قضى الليلة هنا .. في شقتها .. لا يفصل بينهما سوى باب وجدار ..
لم تستطع احتمال فكرة مراقبته لها أثناء نومها عند دخوله لأخذ الوسادة والبطانية .. ثم تذكرت طلبها الطفولي منه بان يبقى .. فاحمر وجهها خجلا .. لا تستطيع لومه ما دامت هي من طلب منه البقاء .. صح ؟
لكم تتمنى أن تختفي ليلة الأمس من ذاكرتها إلى الأبد عل إحراجها يخف قليلا ..
تمتمت متلعثمة :- لم تكن .. ليس هذا .. كيف ..؟
قال بحزم لطيف :- أماني .. اهدئي .. لم يحدث شيء ليلة الامس
أحاطت جسدها بذراعيها وأخذت نفسا عميقا حاولت به تمالك أعصابها وهي تقول :- لم أقصد هذا .. كيف بررت غيابك لعائلتك .. لوالدتك .. هل ...
عضت شفتها السفلى حرجا مما حدث في الليلة الماضية .. فقال :- اختلقت حجة ما .. وقصة مناسبة عن سفر مفاجئ إلى العاصمة .. لن اتجول في المدينة ناشرا قصتك
قالت بتوتر :- أنا متأكدة بأنك لن تفعل .. أشكرك على اهتمامك .. فانت لم تكن مضطرا للتورط بكل هذا .. كما انني واثقة بان الأريكة لم تكن مريحة
طبعا .. مع ضخامته وطول ساقيه .. لابد ان ليلته كانت قاسية .. قال ساخرا :- لقد عرفت ليال أسوأ
نهض واقفا فتراجعت غريزيا إلى الخلف .. عبس للحظات مخطئا تفسير خوفها .. فقلقها كان من تأثير جاذبيته عليها والذي اكتشفته حديثا
قال بجفاف:- أنت آمنة معي تماما يا اماني
أطلقت ضحكة عصبية وهي تقول :- أعرف هذا .. ولكن التخلص من عادة قديمة ليس سهلا
نظر إليها بعطف فخشيت بأن يعلق .. ولكنه أخذ الأمر ببساطة وقال :-
:- قد ينعشك تناول بعض الطعام .. لقد سمحت لنفسي بإحضار ما يؤكل خاصة بعد اكتشافي خلو ثلاجتك من أي شيء صالح للأكل
نظرت إلى طاولة الطعام الصغيرة التي امتلأت بأصناف متعددة من الطعام .. وعندما دغدغت الرائحة الشهية أنفها أصدرت معدتها ذلك الأزيز المميز فعرفت بأنها جائعة حقا
تمتمت :- أشكرك .. لم تكن ...
قاطعها :- لم أكن مضطرا لفعل هذا .. ولكنني فعلته .. من الأفضل أن نبدأ بتناول الطعام قبل أن يبرد .. لست بحاجة إلى إخبارك بأن شقتك هذه أشبه بالثلاجة
جلست فجلس مقابلا لها .. ووضع في طبقها الذي سبق أن وضعه بنفسه مع باقي أدوات المائدة .. قطعة من الكروسان الساخن وبعض الفطائر .. شكرته ثم قالت ردا على كلامه :-
:- إنها باردة وخالية من وسائل التدفئة .. ولكنني اعتدت عليها
بدأت بتناول الطعام سعيدة بمذاقه الشهي .. لاحظت بانه لا يشاركها الأكل .. بل يراقبها بدقة وهو يقول :-
:- لا تنسي بأنني قضيت الليلة هنا .. وأعرف تماما كيف يصبح البرد لا يطاق بالليل
احمر وجهها وقد أحست بالحرج من اطلاعه على سوء وضعها .. قالت بلا مبالاة :-
:- لا استطيع تحمل تكلفة مكان أفضل في الوقت الراهن .. ولكنني سرعان ما سأبدأ بالبحث قريبا
قل ببطء وهو يراقب كل انفعال منها :- لن يكون هذا ضروريا ما دمت ستنتقلين للإقامة في منزلي .. بعد زواجنا
كادت تختنق بطعامها عندما استوعبت كلماته .. رفعت رأسها إليه محدقة في وجهه الخالي من التعبير وقالت بحذر :-
:- كلانا يعرف بان خطوبتنا مؤقتة .. وان لا زواج سيتم في النهاية
اعتدل قائلا بحزم :- ليس بعد ما حدث ليلة الامس .. لقد سمعت ما قلته لابن عمك .. زفافنا سيتم بعد أسبوعين
حدقت به مصدومة للحظات قبل ان تهب واقفة بعنف أدى إلى سقوط كرسيها على الأرض وارتطامه به بدوي قوي .. صاحت بحدة :- لابد انك قد جننت
نهض ببطء من كرسيه وقد لمعت نظرة تحذير في عينيه نبعتها إلى وقاحتها في مخاطبته .. ولكنها لم تبالي .. بل تابعت :- أنا لن اتزوج منك
قال بحزم :- بل ستفعلين يا اماني .. أعرف مدى كرهك للفكرة .. ولكنها الطريقة الوحيدة الكفيلة بإبعاد صلاح إلى الأبد .. لقد اكتشف زيف خطوبتنا .. و إن ادرك بانني لم اكن جادا بما قلته ليلة الامس جول زفافنا فسيعود أكثر جنونا .. خاصا مع احتمال علمه ببقائي هنا طوال الليل .. وفي المرة القادمة .. قد لا اكون موجودا لإيقافه
ارتعد جسدها للفكرة .. ولكن ذعرا من نوع آخر تصاعد داخلها لاحتمال ارتباطها بهذا الرجل بزواج شرعي .. ابتعدت عنه وهي تقول بانفعال :- انا لن اتزوج بك أو بأي رجل آخر .. أنا حتى لا أحبك .. أو أحتمل البقاء معك في مكان واحد .. لا تستطيع إجباري على القبول بك
كانت الهستيريا تتصاعد خلا كلماتها تدريجيا حتى علا صوتها عن الحد .. وأدى إلى قطع هشام المسافة بينهما ليمسك بذراعيها ليهزها قائلا بحدة :- هلا هدأت قليلا
انتزعت نفسها من بين يديه صارخة :- لا تلمسني
تراجعت حتى التصقت بالجدار .. تلاحقت أنفاسها بشكل ظهر واضحا مع اهتزاز صدرها صعودا وهبوطا
استعادت خلال لحظة تفاصيل معركتها الطويلة التي خاضتها لسنوات في سبيل استقلالها ومقاومتها لكل من حاول فرض نفسه على حياتها وتسييرها كما يشاء .. لم ينجح والدها بهذا .. ولم ينجح صلاح .. ولن تسمح لهشام أيضا بان يمتلكها .. قالت بصوت حمل كل ما تحمله داخلها من حقد اتجاه الرجال :- لن تستطيع إرغامي على الزواج بك
ارتعدت عندما لمحت غضبه يتصاعد .. ويفوح من كل عضلة منتفخة في جسده .. كان غاضبا من تمردها .. من رفضها وخوفها غير المبرر منه.. والاهم .. من الكراهية التي كانت تقطر من عينيها ..اقترب منها وهو يقول ببرود :-
:- انت لست مخيرة يا اماني .. أمامك طريقان لا غير كما تعرفين .. إما ان تمضي حياتك كلها هاربة من صلاح وخائفة من نواياه نحوك ومن ان ينال مأربه منك في احد الأيام .. وإما الزواج بي والتمتع بحمايتي ورعايتي لك .. حتى ييأس صلاح من مطاردتك .. فأي منهما تختارين ؟
هزت رأسها عاجزة عن الاختيار بين طريقين احلاهما مر .. ثم وجدت نفسها تصيح في وجهه يائسة :- أنا أكرهك
تشنج جسده وكسا وجهه برود شديد .. اقترب فأطلقت شهقة مكتومة عندما ارتعش جسدها بعنف متأثرا بقربه .. إذ لفحتها قوة لا مرئية صدرت عن كل قطعة ثائرة في جسده .. أغمضت عينيها بقوة عندما تقلصت المسافة بينهما حتى أحست بأنفاسه تلفح وجهها .. قال بعد لحظات :- انظري إلي يا أماني
وعندما لم تستجب له كرر آمرا :- انظري إلي
فتحت عينيها ورفعتهما لتقابلا عينيه .. كان غضبه قد اختفى ليحل محله شيء آخر .. ذلك الشيء الذي رأته دائما في عينيه دون ان تفهمه او تحبه ..
قال بخفوت :- أنت لا تكرهينني
ارتعد جسدها عندما تسلل همسه عبر أذنها ليهز مشاعرها ويشل أطرافها .. أزاحت عينيها عن وجهه لتصطدما بصدره الأسمر القوي الذي برز من بين أزرار قميصه المفتوحة .. وعندما شعرت بأحاسيسها تتكدس وتثقل على اعصابها .. صرخت بانهيار:- بل أكرهك .. وأكره كل مل يتعلق بك .. انت مبتز وانتهازي .. كان يجب ان اعرف بانك لا تختلف عنه البتة .. أنت نسخة مكررة منه
شهقت بعنف عندما أمسك وجهها بين سبابته وإبهامه بقسوة ليجبرها على النظر إليه .. ارتعدت عندما رأت عينيه الداكنتين مظلمتين بغضب شديد اخافها .. تشنجت عضلات وجهه واستحال فمه إلى خط رفيع أبيض اللون
تكلم أخيرا فكان صوته منخفضا .. ولكنه مختلف بفعل الغضب .. مما جعل جسدها يقشعر خوفا :-
:- لم تمنعك هوية أبي سابقا من قبول مساعدتي
منعتها الصدمة من أن تتفوه بأي كلمة توضيحا لكلامها .. فتح فمه وكاد يثول شيئا ولكنه ابتعد عنها فجأة .. تناول سترته ثم غادر المكان بصمت تام
أحست اماني ببرودة المكان تزداد بعد رحيله .. وفجأة .. الشقة الصغيرة والضيقة أصبحت واسعة وفارغة بشكل كئيب .. أحاطت نفسها بذراعيها لتوقف رعشة جسدها وهي تتذكر نظرة عينيه قبل ان يتركها ويرحل .. لقد سببت الألم دون ان تقصد للإنسان الوحيد الذي وقف إلى جانبها منذ وفاة والدها .. لم يترك لها حتى فرصة التراجع عما قالته أو توضيحه
لا .. هشام لا يستحق منها ابدا ردة الفعل العنيفة التي واجهت بها عرض الزواج .. فهو لم يدع الوقوع في حبها .. لم يسع لامتلاكها والتحكم بها .. أو حتى يحاول ان يلمسها .. كل ما اراده هو مساعدتها في الخلاص من صلاح إلى الأبد
صلاح الذي ما زال يشكل تهديدا خاصة بعد ان يعرف ببقاء هشام في شقتها طوال الليل .. وهي متأكدة بانه سيعرف هذا بطريقة ما .. ولكن .. هل يستحق الأمر ان تقبل بعرض هشام وتتزوج منه ؟
نظرت إلى المائدة العامرة بالطعام .. وابتعدت عنها وقد اختفت شهيتها للأكل .. تكومت فوق الأريكة التي قضى ليلته عليها .. فأحست برائحته ما تزال عالقة بها ... لا .. ليست رائحة عطره الثمين .. بل رائحة الصابون الممزوجة بماء ما بعد الحلاقة .. ورائحته الرجولية الخاصة التي تنفستها جيدا عندما كان قريبا منها للغاية منذ دقائق
ستفعل هذا الصباح كما امرها بالضبط وتبقى في البيت .. ولكن صباح الغد ستراه مجددا .. وتصلح الأمور بينهما مهما كلفها هذا غاليا





الفصل السادس والعشرون
وداع

تسلل صوت طارق إلى عقل جودي ليوقظها من شرودها بقوله :-
:- جودي .. أنت تعبثين بطبقك منذ دقائق
نظرت إلى طبقها الذي بالكاد لمسته ثم قالت بأسف :- لست حقا جائعة
التقت نظراتهما عبر المائدة المختارة بعناية في زاوية أحد أفضل مطاعم المدينة .. ثم سرعان ما أشاح كل منهما بعينيه بعيدا .. بالرغم من أن جودي تحاول جاهدة إصلاح الأمور مع طارق .. إلا أن الوضع بينهما قد تغير منذ قبلها أمام باب منزلها قبل أسابيع بناءا على طلبها .. شيء ما قد فقد أو كسر .. وتعرف جودي بأنها هي الملامة في هذا بعد تجاهلها القاسي وعديم الذوق لطارق لفترة طويلة ..
قال طارق محاولا كسر الارتباك الذي ساد بينهما :- يبدو أن ثمة ما يشغل بالك
ردت باقتضاب :- لا شيء.. مجرد مشاكل بسيطة مع أماني
همهم دون معنى وعاد يركز اهتمامه على طبقه .. لقد أدرك جيدا بأن اماني هي أحد المواضيع المحظر عليه مناقشتها مع جودي ..ولم يرغب بزيادة علاقتهما توترا وسوءا ..تنهدت جودي وهي تتابع العبث بطبقها دون ان تأكل منه شيئا ..على الأقل هي لم تكذب على طارق هذه المرة ..فما زال عقلها مشغولا باتصال أماني بها هذا الصباح ..
لقد كان صوتها متوترا وهي تتحدث بشكل غير مترابط .. فلم تفهم منها جودي إلا بان صلاح كان في شقتها ليلة الامس ..وعن زواجها بهشام
ما الذي قصدته بزواج سريع خلال أسبوعين ؟ بالكاد خطبت للرجل وها هي تتحدث عن زواج .. شعرت جودي بأن أماني لم تطلعها على كل شيء .. فمن الواضح أنها قد تشاجرت مع صلاح مجددا ..وهي لن تطلعها على التفاصيل كالعادة .. فمنذ وفاة والدهما .. وبالرغم من سوء معاملة صلاح لأماني فإن مشاعره الأخوية نحو جودي لا شك في صدقها .. وعمليا هو الشخص الوحيد المتبقي لها من العائلة ..وأماني لا تريد إفساد علاقتهما .. وهذا ما يدفع جودي للتفكير في الأسوأ .. ما الذي حدث بين صلاح وأماني ؟
ارتفع صوت ضحك جماعي صاخب من طاولة قريبة .. قطعت أفكارها وذكرتها بالرجل الجالس أمامها .. والذي بدا عليه التفكير العميق قبل أن يقول :- لقد قابلت صلاح قبل أيام .. وتحدثنا مطولا حول الزفاف
رمشت جودي بعينيها ورددت ببلاهة :- زفاف ! .. أي زفاف ؟
رد طارق بعصبية :- زفافنا انا وأنت بالتأكيد .. أم أنك نسيت بأنها النهاية الطبيعية لأي خطوبة
تنحنحت بحرج قائلة :- لا .. لم أنس .. ولكنك فاجأتني فقط .. لم أفكر بالأمر مؤخرا
قال ساخرا :- أعرف بأنني لا أخطر كثيرا على بالك في الآونة الأخيرة
احمر وجهها لسخرية طارق غير المعهودة .. وامتنعت عن التعليق .. فأكمل :- نرى أنا وصلاح بأن أفضل وقت لإقامة الزفاف هو الاسبوع الذي يلي انتهاء الامتحانات .. أي في شهر ...
قاطعته بتوتر :- أرى أنكما قد اتخذتما كل القرارات بدوت استشارتي .. ألا يحق لي إبداء رأيي في الموضوع ؟
قال ببرود :- وهل لديك أي مشكلة اتجاه الموضوع ؟.. أظن بأن خطوبتنا قد طالت بما يكفي .. أليس كذلك ؟
تململت بانزعاج وقاومت رغبة جامحة في الصراخ به عن عدم استعدادها لأي حديث عن الزفاف .. ولكنه محق .. فهما خطيبان .. أليس كذلك ؟ .. هي لا تخطط للبقاء مخطوبة إليه إلى الأبد .. عاد صوت الضحك الصاخب ليقطع تسلسل أفكارها .. فتناولت حقيبة يدها وقالت بعصبية :- سأغيب للحظات قليلة
وأمام نظراته الثاقبة .. اختفت داخل ممر جانبي مؤدي إلى استراحة السيدات .. اتكأت فوق المغسلة وهي تزفر بقوة .. لقد كان تصرفها جبانا بالهرب من مواجهة طارق .. فهي ستحصل عاجلا أم آجلا .. ولكن ليس قبل أن تواجه نفسها أولا ..
نظرت إلى صورة وجهها المنعكسة على المرآة حيث لاحظت الشحوب الذي علا وجهها الجميل .. وأطل الذبول من عينيها .. لقد فقدت بعض الوزن خلال الأسابيع السابقة بسبب قلة النوم والطعام .. والتفكير المضنى ليل نهار .. والشوق اليائس إلى حب مستحيل لا أمل منه
ترقرقت الدموع في عينيها .. وهي تهمس :- تمام
لو أنها فقط لا تشتاق إليه بهذا الشكل .. ولا تستعيد في كل لحظة صورة وجهه ونبرة صوته .. لمسة يديه .. رقة شفتيه
أغمضت عينيها المرهقتين بقوة .. عندما واجهتها أماني قبل أشهر بشكوكها حول حبها لطارق لم تبالي بكلامها .. والآن أدركت كم كانت أماني صادقة ..
فجودي لم تحب طارق قط .. ليس كما يجب أن تحب المرأة الرجل .. بل هي تحب رجلا آخر .. رجل لا ينتظرها منه إلا السعادة المؤقتة والندم الأبدي
رجل أهانها وقلل احترامها وأوضح لها بصراحة عدم رغبته في الزواج منها .. يجب أن تنساه .. أن تلغيه من عقلها وقلبها وكيانها .. أن تتجاهل مشاعرها نحوه كما تجاهلت لأيام اتصالاته الملحة ومحاولاته اليائسة لمخاطبتها
مسحت دمعتها الفارة .. وقررت العودة إلى طارق وإعلامه بموافقتها على الزواج منه في الموعد الذي اختاره
جددت زينتها لتخفي آثار اكتئابها .. ورسمت ابتسامة مشرقة على شفتيها .. ثم حملت حقيبتها وغادرت المكان .. وقبل أن تصل إلى صالة الطعام ..أطبقت أصابع قاسية على ذراعها مما جعلها تطلق شهقة ذعر قوية وتستدير نحو مهاجمها الذي سحبها بدون لطف عبر باب جانبي إلى خارج المطعم حيث وجدت نفسها وقد لفحها الهواء البارد في شارع خلفي مظلم خلا من أي أثر لوجود آخر
حررت نفسها وابتعدت لتواجه غريمها .. وتلهث مراقبة ملامح وجهه .. والغضب الأعمى الذي ارتسم في عينيه الداكنتين .. لا .. لم يكن الخوف هو ما شعرت به جودي وهي ترى تمام بعد أيام من فراقهما العنيف .. وقد انتفضت كل عضلة في جسده النحيل والطويل ثورة وغضبا .. بل كان الشوق .. الشوق التام والمؤلم إلى حد المرض ..
أحاطت جسدها بذراعيها لتقي نفسها من البرد .. ورمقته بنظرة هزت كيانه بما تحمله من حزن عميق وألم .. قالت بصوت أجش :- ما الذي تريده مني ؟
حاول السيطرة على صوته وهو يقول :- بل ما الذي تفعلينه انت معه ؟
هزت رأسها غير مصدقة وهي تهتف :- طارق هو خطيبي
صرخ بها بعنف :- إياك أن تقوليها
ترقرقت الدموع المريرة في عينيها .. وبدأ قناعها الهش بالتلاشي وهي تقول :- ولكنه كذلك .. انا ألبس خاتمه منذ أشهر .. وسنتزوج بعد انتهاء الامتحانات
قطع المسافة بينهما بخطوات واسعة .. وأمسك كتفيها ليهزها بقوة قائلا :- وماذا عني أنا ؟
اقترابه منها إلى هذا الحد والشعور بأصابعه من فوق قماش قميصها الرقيق كاد يذهب بعقلها .. التقت نظراتهما .. واستعاد كل منهما خلال لحظة ما جمع بينهما خلال الأسابيع التي مضت .. كل يوم قضياه معا .. كل كلمة تبادلاها .. كل نظرة .. كل لمسة
انسدلت رموشه الكثيفة لتضفي المزيد من الحرارة على نظراته التي تأملت بشغف كل تفاصيل وجهها
ولكن هذه المرة .. كان تمام أي شيء إلا ذلك الشاب الواثق من نفسه .. المعتاد على سرقة قلوب الفتيات بابتسامة واحدة .. لقد كان يماثلها توترا وقلقا وعذابا ..
وهو يتنفس بسرعة محاولا السيطرة على انفعالاته .. كرر سؤاله همسا هذه المرة :- وماذا عني أنا يا جودي ؟
يا إلهي .. كم تحتاج إلى أن تضمه إليها .. أن تنهل من حبه وحنانه .. أن تضيع بين ذراعيه إلى الأبد .. هل يدرك تمام كم كان يبدو بهيئته المرتبكة واليائسة رائعا ومثيرا ؟.. هل يعرف بأنه قادر على سحق قلبها بنظرة واحدة فقط ؟
أطلقت شهقة مرتعشة وهي تبعد عينيها عنه وتهمس :- أت لا شيء بالنسبة إلي يا تمام
هز رأسه غير مصدق وهو يقول باضطراب :- تكذبين
كررت بصوت هزه البكاء :- أنت لا شيء بالنسبة إلي يا تمام
دفعته عنها وركضت إلى داخل المطعم تكاد لا ترى طريقها .. قفز طارق واقفا عندما لاحظ حالتها .. وقال بقلق :-
ما الأمر ؟ ما الذي حدث ؟
بذلت جهدا كبيرا كي لا تجهش أمامه بالبكاء وقالت :- أريد العودة إلى البيت
بدون تعليق .. دفع الحساب .. وتناول سترته .. ثم قادها من مرفقها إلى خارج المطعم .. وداخل السيارة وقبل أن يشغل المحرك .. ساد الصمت طويلا بينهما قبل أن يقطعه قائلا بجمود :- ألن تطلعيني على ما يحدث معك ؟
تمتمت وهي تنظر بعيدا :- ليس الآن
أصر بجفاف :- يجب أن أعرف ما غيرك يا جودي .. إن كنت ستصبحين زوجتي بعد أشهر فعليك اطلاعي على مشاكلك قبل أن نبدأ حياتنا معا
استغرقت فترة طويلة قبل أن تتمتم دون أن تنظر إليه :- امنحني بعض الوقت
هتف بسخط :- جودي
قاطعته وقد بدأت تفقد أعصابها :- هلا أعدتني إلى البيت
أدار المحرك بعنف وانطلق بالسيارة بتهور غير معهود منه .. وعندما أوقف السيارة أمام منزلها قال لها :- سأتصل بك لاحقا
قالت وهي تترجل من السيارة :- لا .. أنا من سيتصل بك
سارت نحو البيت بسرعة ودموعها تنهمر من عينيها .. لكم تتوق إلى الاختلاء بنفسها والبكاء فوق وسادتها حتى الصباح
فتحت الباب وأقفلته خلفها .. فأثار منظر البيت الخالي والموحش مشاعرها .. وأحست في تلك اللحظة كم هي وحيدة
وكم هي بحاجة إلى الرجل الذي أخرجته من حياتها بلا تردد هذه الليلة إلى تمام
الفصل السابع والعشرون
بلا شروط

جرت اماني قدميها جرا نحو مكتب هشام بعد مرور يومين على خروجه العاصف من شقتها.. لصباحين متتاليتين لم تجرؤ على الحضور إلى العمل خوفا من مواجهته ..كانت تتصل في الصباح وتعتذر عن الحضور لسبب طارئ ثم تبقى في البيت وحدها تفكر حتى أرهقها التفكير .. جزء منها انتظر أن يتصل بها هشام .. أو أن يسأل عنها بعد غيابها عن العمل .. ولكنها لم تسمع عنه شيئا .. فقررت بأن تفعل كما خططت من قبل وتحضر إلى مكتبه لتعتذر منه .. من حقه عليها ان توضح له رأيها الحقيقي به
طلبت من سكرتيرته الجديدة مقابلته .. وهي موظفة لطيفة كانت تعمل تحت إمرة أحد الإداريين .. فمنحتها ابتسامة لطيفة قائلة :- لا أظنه يمانع إن دخلت إليه مباشرة .. فانت لست كأي شخص في الشركة
تذكرت أماني الغضب الذي رأته في عينيه قبل أيام ..وتساءلت إن كان يكرهها الآن أكثر من أي شخص آخر في الشركة ..طرقت الباب الخشبي الكبير وانتظرت حتى سمعت صوته الصارم يدعوها إلى الدخول .. فتحت الباب لتجده منهمكا في العمل على حاسوبه الشخصي .. خفق قلبها بشدة لرؤيته مجددا .. تأملت التقطيبة التي علت جبينه .. والتركيز الشديد الذي بدا عليه ..وتساءلت إن كان سيغفر لها وإن كانت علاقتهما ستعود إلى ما كانت عليه
رفع رأسه عن شاشة الحاسوب وهو يقول :- ما الذي ...؟
قطع كلامه .. وقطب متأملا إياها بصمت .. أزعجها بروده الظاهر وكانه رؤيته لها مجددا قد ضايقته .. ولكنها هنا الآن في مهمة محددة ..وستقوم بها مهما كانت النتيجة .. قالت بتوتر وهي تغلق الباب خلفها :- هل أستطيع أخذ دقائق من وقتك ؟
تراجع مستندا إلى ظهر مقعده العريض دون أن يقول شيئا .. بل استمر في النظر إليها بطريقته الصارمة المخيفة منتظرا ما ستقوله ..
تقدمت خطوتين إلى الامام قائلة :- أردت الاعتذار عما حدث ذلك الصباح داخل شقتي .. أعرف جيدا بانك غاضب مني ..
قاطعها بهدوء :- لست غاضبا
وترها هدوءه كما يفعل كل ما يتعلق به .. فقالت بارتباك :- ما قلته ذلك الصباح .. لم أعنه حقا .. ليس ما فهمته على الأقل .. لم أقصد أبدا إهانتك أو جرحك بأي طريقة
أومأ برأسه مؤكدا :- بل قصدت هذا
قالت بعصبية وهي تمرر يدها عبر شعرها :- هذا صحيح .. أردت أن أؤلمك .. لا اعرف السبب .. ربما لأنك كنت محقا ..أو لأنك حشرتني في الزاوية فوجدت نفسي أتعرض للضغط مجددا بعد أن ظننت نفسي قد تحررت من تسلط أبي وصلاح .. ولكنني عندما قلت ما قلته لم أقصد أبدا الإشارة إلى والدك
لمع الاهتمام في عينيه بينما أخذت نفسا عميقا وهي تكمل :- التجربة علمتني ألا أثق برجل أبدا .. وبعدما حصل مع صلاح .. أعني مهاجمته لي بتلك الطريقة .. شكل عرضك ما يشبه الصدمة لي .. خيل إلي بأن التاريخ يعيد نفسه .. وأصر عقلي الباطن بانك لا تختلف عن النموذج الذي عرفته طوال حياتي .. فاندفعت الكلمات تلقائيا من فمي تقارنك بصلاح
نهض من مقعده .. فتقلص المكان على الفور مما جعل ركبتيها ترتعشان .. دار حول مكتبه ببطء بينما تابعت بحذر :- ما كان علي فعل هذا .. فأنت لا تشبه صلاح بأي طريقة .. أنت ..
عجز لسانها عن المتابعة عندما وقف أمامها مستندا إلى مقدمة مكتبه .. قال بهدوء :- ماذا عني انا ؟
ابتلعت ريقها وقد أحست بقربه بكل جزء من جوارحها .. أجبرت نفسها على الصمود وقالت بارتباك :- أنت .. أنت مختلف .. لقد ساعدتني ووقفت إلى جانبي دون انتظار لمقابل .. وقد أنقذتني تلك الليلة من مصير بشع كنت أخشاه منذ سنوات ..أنا أدين لك ....
قاطعها بحزم :- ليس لي ديون عليك يا أماني
قالت بانفعال :- كيف تقول هذا ؟ لقد فعلت لأجلي ما لم يفعله أقرب الناس إلي .. وبالمقابل كنت انا ناكرة للجميل حيث أغضبتك و ...
قاطعها مجددا :- أخبرتك بأنني لم أعد غاضبا
نظرت إليه بارتباك فقال :- أنا أيضا فقدت أعصابي .. ما كان لي ان أستبق الامور بتلك الطريقة .. بعد ان خرجت من شقتك فكرت جيدا وعرفت بأنني ضغطت عليك في الوقت الذي لم تصحي فيه بعد من صدمة تهجم ابن عمك عليك .. أنا من عليه أن يعتذر لك
تحرك شيء داخلها أمام اعتذاره المفاجئ .. التقت نظراتهما فاقشعر بدنها خوفا وقلقا من غرابة مشاعرها
رسم على شفتيه ابتسامة باهتة وهو يقول :- لذلك قررت منحك المزيد من الوقت لتفكري في الموضوع .. فلم أتصل بك أو أزرك تاركا لك حرية اتخاذ القرار .. وإبلاغي به في أي وقت
ساد الصمت للحظات قبل أن تتمتم :- لا داعي لإهدار المزيد من الوقت
قال باهتمام :- أهذا يعني أنك اتخذت قرارك ؟
تحاشت النظر إليه وهي تتمتم :- لقد فكرت جيدا خلال الأيام السابقة بما قلته لي .. ووجدت بأنك محق تماما .. صلاح لن يهدأ حتى يراني متزوجة بغيره
قال بشيء من الحدة :- أهذه موافقة ؟
نظرت إليه قائلة بثبات :- هذا إن بقيت راغبا في خوض هذه المغامرة
بالكاد ابتسم وهو يقول :- أظنها مغامرة تستحق التجربة
أخذت نفسا عميقا وهي تتراجع قائلة بصوت عملي :- هلا تكلمنا عن التفاصيل إذن ؟..إلى متى تتوقع ان يستمر هذا الزواج ؟
أحست بجسده الضخم يتصلب .. إلا ان تعابير وجهه بقيت جامدة وهو يقول :- يمكنك طلب الطلاق في أي وقت تريدينه
مررت أصابعها عبر شعرها مجددا بعصبية وهي تقول :- وماذا عن .. عن حياتنا معا ؟...أقصد
لوى فمه بابتسامة خفيفة ملاحظا ارتباكها فأكمل بهدوء :- تقصدين العلاقة الزوجية
احمر وجهها واتجه نظرها نحو الباب فظهرت نيتها للهرب .. صاح بها بحزم :- انظري إلي يا اماني
نظرت إليه فصدمت من قربه الشديد منها .. سمرتها نظراته مكانها فلم تقوى على الابتعاد .. أحست بوجوده وقوته يكتسحانها بعنف جعل الذعر يطل واضحا من عينيها
قال ببرود :- لن نتجه إلى أي مكان ما دمت ترمقينني بهذه النظرة الشبيهة بنظرة أرنب مذعور وقع بين أنياب الذئب
تمالكت أعصابها بسرعة وهمست :- أنا آسفة
تجاهل اعتذارها وأكمل :- يجب أن تكون الامور واضحة فيما بيننا يا أماني .. ما أريده انا هو ان تكتمل جميع الشروط في زواجنا
ابتلعت ريقها ومعاني كلماته تستقر تدريجيا داخل عقلها .. كان وجهه غير مقروء .. ولكن عندما التقت عيناهما .. رات بريقا شديدا جعل الرجفة تسري في أوصالها
قال بصوت منخفض النبرات :- نعم يا اماني .. أريدك .. وهذا يجب الا يدهشك .. فانت امرأة وانا رجل ..وما أسعى إليه هو إزالة الخوف الذي يسري في عروقك بدلا من الدماء .. والحصول على ثقتك بي في النهاية
تلاحقت أنفاسها وهي تهمس : - أنا أثق بك
هز رأسه ببطء وهو يقول :- أبحث عن نوع آخر من الثقة
تراجعت حتى كادت تلتصق بالجدار .. وقد ارتعش جسدها لمجرد التفكير به يلمسها .. لم يبتعد عنها كما في كل مرة تنتابها فيها نوبة ذعر كهذه .. بل اقترب منها حتى تقلصت المسافة بينهما إلى سنتيمترات قليلة
مد أنامله ليرفع ذقنها ويجبرها على النظر إليه وقال بكلمات واضحة :- لن أجبرك على فعل ما لا تريدينه يا أماني .. سأمنحك كل الوقت الذي تحتاجين إليه .. لن ألمسك مالم أجد القبول في عينيك
حدثت نفسها بأن هذا لن يحدث أبدا .. حركت رأسها لتبعد أصابعه عنها قائلة بعصبية :- سأعود إلى مكتبي إذا أذنت لي
تراجع فورا وهو يقول بعملية :- اذهبي .. وانتظري مكالمة من والدتي لتتفاهما حول تفاصيل الزفاف
بدون أي تعليق .. غادرت المكتب مسرعة .. لم تعرف كيف وصلت إلى استراحة السيدات .. وهناك فتحت صنبور الماء .. ورمت وجهها بالماء البارد قبل أن تنظر إلى نفسها في المرآة لاهثة وهي تردد :- ما الذي أصابك أيتها الحمقاء ؟
لقد خافت مجددا من الرجل الوحيد القادر على حمايتها .. إنها بحاجة إلى هذا الزواج كي تأمن نفسها من صلاح .. وهشام لن يلمسها ما لم تطلب منه ذلك .. لقد وعدها .. وهشام لن يخلف وعدا
لماذا تستمر إذن نوبات الذعر باجتياحها في كل مرة يقترب فيها منها هشام .. إنه مختلف تماما عن صلاح ..نعم .. هذا ما يخيفها بالضبط ..
الشعور الذي يجتاحها كلما كلمها او لمسها .. لم يكن الاشمئزاز و الخوف كما مع صلاح .. بل كان شيئا آخر .. شيئا لم تعرفه من قبل
جففت وجهها بمنديل ورقي .. وتنهدت متأملة وجهها الشاحب في المرآة .. مهما كانت حقيقة مشاعرها اتجاه هشام .. فعليها ان تتجاهلها .. فهشام هو ورقتها الرابحة .. وسيلتها لبلوغ الحرية ..
وكي تؤكد لنفسها ما ظنته أكيدا .. رددت بحزم :- كل ما علي فعله هو ان أقول لا

ithran sara
2015-06-21, 13:00
الفصل الثامن والعشرون
نعم .. أحبه
قضت اماني نهار جمعة طويل في السوق تنتقل من متجر إلى آخر برفقة سمر ونورا شقيقة هشام الصغرى التي تماثلها في السن .. تشترين لها جهازا مناسبا بناء على طلب هشام الغير قابل للمناقشة .. وهكذا وجدت اماني نفسها تجرب الثوب بعد الآخر وقد علا الملل وجهها الجميل .. وفي كل مرة كانت تقول فيها متذمرة :- هل هذا ضروري
سمر كانت تقول :- الزفاف بعد أسبوع .. لا يمكنك مواجهة الناس كزوجة لهشام بدون جهاز فاخر يليق بك
أما نورا ذات الطابع الضاحك والمرح والمختلفة تماما عن شقيقها الأكبر فقد كانت تضحك بخبث قائلة :- أو قمصان نوم مناسبة لشهر عسل ساخن
مع احمرار وجهها .. وتجاهلها للمزات نورا الخبيثة .. لم تكن قادرة على خداع سمر التي انتهزت فرصة ابتعاد نورا لتهمس في أذن أماني :- في الخميس القادم ستكونين زوجته .. هذا يجعل شراءه ما يلزمك طبيعيا
زفرت أماني وقالت بجفاف :- اعرف هذا

دخلت أماني إلى شقتها .. ورمت الأكياس الكثيرة جانبا
( في الخميس القادم .. ستكونين زوجته )
خلعت معطفها فواجهت كالعادة برودة الشقة الشديدة
( في الخميس القادم )
فركت يديها وهي ترفس حذائها .. لم تر هشام خارج مبنى الشركة منذ أعلنت موافقتها على الزواج منه .. فقد كان يكتفي باتصال هاتفي كل مساء ليسألها عن حالها .. ويستفسر عن احتياجاتها .. أما باقي الترتيبات فقد تكفلت بها أمه التي كانت تحدثها يوميا .. بالإضافة إلى سمر ونورا .. وحتى جودي رغم تعاستها الظاهرة وإرهاقها .. لم تتأخر عن مساعدتها
إنها بحاجة إلى الاستحمام بعد تعب نهار طويل .. وكالعادة كانت هذه أصعب مهمة تقوم بها في هذا الجو البارد وفي حمام لا يحوي سخانا للماء
كان عليها في كل مرة أن تسخن الماء في قدر كبير وتحمله إلى الحمام الذي يتحول إلى ثلاجة بسبب تسرب الهواء من نافذته ذات الزجاج المشروخ.. خلعت ملابسها وهي ترتجف .. ورمتها في سلة الغسيل .. ثم خطت إلى داخل الحوض المتصدع .. حتى مع سكبها المستمر للماء الساخن فوق رأسها لم تتوقف عن الارتعاش
بصعوبة أخرجت نفسها من الحوض .. وارتدت روب الحمام وأسنانها تصطك بقوة وكل خلية في جسدها تتوق إلى التمدد تحت أطنان البطانيات فوق السرير والتماس بعض الدفء .. ولكن الكارثة التي لم تتوقع حدوثها هي ان تحاول فتح باب الحمام لتجده مقفلا بإحكام
أدارت المقبض عدة مرات غير مصدقة للمأزق الذي وضعت نفسها فيه بغباء لا يمكن أن تكون قد أقفلت الباب ورائها وهي تعرف جيدا بأنه لا يفتح إلا من الخارج .. كادت تفقد اعصابها بعد نصف ساعة من المحاولات اليائسة لفتح الباب باستعمال أي أداة ممكنة وجدتها في الحمام ..في النهية أخذت تضرب الباب بقبضتيها وتصيح على أمل أن يسمعها احد
أبعدت شعرها الرطب والمشعث عن وجهها .. والتفتت تتأمل الحمام بعجز ودموعها تكاد تغلبها .. لماذا تحصل لها الامور السيئة باستمرار ؟ لماذا هي بالذات ؟
جلست على حافة الحوض وهي تدلك ذراعيها علها تحصل على بعض الدفء دون فائدة .. حاولت تهدئة نفسها هامسة :-
:- لا بأس .. ستتصل بك جودي او تمر لزيارتك كالعادة وتخرجك من هنا
ولكن جودي لا تملك مفتاحا للشقة ..
مع تزايد إحساسها بالبرد كومت نفسها داخل الحوض وهي تردد بأنفاس مرتعشة .. اهدئي .. ستكونين بخير .. لا حاجة للشعور بالذعر
مع مرور الوقت .. بدأت تفقد الاحساس بأطرافها كبداية .. ثم بدأ الخدر يتسرب إلى عقلها .. لم تعرف كم مر عليها من الزمن عالقة هناك .. فاقدة للإحساس بما حولها ..حتى وصل إلى مسامعها صوت ضجة مكتومة .. رفعت رأسها واثقة تماما بانها تتوهم .. ثم سمعت بوضوح صوتا مألوفا يهدر باسمها :- أماني
إنه هشام ..كالعادة ينتشلها من مآزقها كالفارس المغوار .. تدفقت دموعها عندما حاولت ان تتحرك فلم تستجب لها عضلاتها
حاولت ان تصيح فخرج صوتها همسا مرتجفا :- أنا هنا
سمعت صوته يصيح من خلف الباب بقلق :- هل انت هنا ؟
بسهولة شديدة تحرك الباب فور ان أدار المقبض .. وخطا إلى داخل الحمام الضيق .. صاح باستنكار :- ما الذي ...؟
ولكن نظرة واحدة منه كانت كافية كي يفهم الموقف جيدا .. سقط قلبه امام مظهرها المثير للشفقة .. ملتفة بروب الحمام وقد التصق شعرها الرطب برأسها وجبينها .. وازرقت شفتاها المرتعشان .. وأطل العجز التام من عينيها الواسعتين
شتم بغضب وهو يهتف بها :- منذ متى وانت عالقة هنا ؟
حركت شفتيها دون أن يخرج منها صوتا .. فقال بغلظة وهو يتجه نحوها :- أنت كارثة تمشي على قدمين .. تحتاجين إلى من يراقبك على مدى الساعة كي يمنعك من أذية نفسك
انحنى نحوها .. وبحركة قوية أوقفها فخذلتها ساقاها .. وسقطت مستندة إليه بعجز .. أخذ نفسا غاضبا وهو يحملها بين ذراعيه بسهولة شديدة .. ويسير بها إلى خارج الحمام .. بدأ عقلها يعمل مجددا .. وتذكرت فجأة وضعها .. عاجزة بين ذراعيه لا يسترها إلا روب الحمام الطويل 00 ولكنها لم تخف منه هذه المرة .. بل شعرت بالراحة والدفء بعد ساعات من الخوف والاحساس بالبرد في ذلك السجن الجليدي .. أسندت نفسها إليه وتركته ينزلها فوق السرير بعد ان أزاح البطانيات جانبا ودثرها جيدا .. فأتيحت لها الفرصة للنظر إلى وجهه عن قرب ورؤية التوتر الواضح في ملامحه .. والتغير في لون وجهه .. لقد كان قلقا عليها
اعتدل ونظر إليها وهو يصيح بها غاضبا :- هل تعلمين كيف كان شعوري بعد ساعات من الاتصال بك على هاتفك المحمول دون أي رد منك ؟ هل تتخيلين الظنون التي كادت تفتك بي وأنا أقود السيارة كالأعمى إلى هنا للاطمئنان عليك ؟
أخفضت عينيها وقد أثقلها الاحساس بالذنب .. لابد أن الأفكار السيئة قد أطاحت بعقله .. ابتداءا بعودة صلاح وانتهاء بحدوث مكروه لها
خرج صوتها أخيرا كهمس مختنق :- لم أستطع فتح الباب .. فعلقت في الداخل
كان عليه ان يكبح أعصابه ويكتم غضبه الشديد عندما تذكر المشهد الذي وجده في الحمام .. ولكن صوته كان قاسيا عندما قال :- لطالما كنت ضد العنف في معاملة النساء .. ولكن ما أغب به الآن هو تجاهل هذه القاعدة .. وضربك بقسوة حتى يعود إليك عقلك وتعترفي بأن هذا الجحر غير مناسب أبدا للاستعمال الآدمي
ثم خطرت على باله فكرة مفاجئة جعلته يدور حول نفسه ويفتح خزانتها بدون استئذان فقالت بتوتر :- ماذا تفعل ؟
أخرج حقيبة سفر كبيرة .. وهو يقول بغلظة :- لن اتركك في هذا المكان لحظة واحدة .. ستقيمين مع سمر حتى موعد الزفاف
عاد إليها طبعها المتمرد فصاحت بحدة :- لا تستطيع إرغامي .. لن أذهب إلى .....
قاطعها بصرامة :- لا يحق لك الاعتراض بعد المأزق الذي وضعت نفسك فيه اليوم .. إن كنت لا تجيدين العناية بنفسك سأفعل أنا .. من حسن الحظ أنني احتفظت بنسخة عن المفتاح عندما أصلحت القفل وإلا لبقيت سجينة تلك الثلاجة حتى الصباح
استسلمت بضعف وهي تراقبه يفتح الحقيبة فوق الطرف الآخر من السرير ويبدأ برمي أغراضها عشوائيا داخلها .. فتمتمت :- امنحني بعض الوقت
استدار نحوها وهو يقول عابسا :- ماذا ؟
همست بضعف :- امنحني بعض لأستعيد حرارة جسدي الطبيعية وسأوضب أغراضي بنفسي
طار غضبه بعيدا في لحظة واحدة .. وأطل القلق من عينيه وهو يلاحظ من جديد شحوب وجهها وارتعاش جسدها .. لم تعرف أبدا كم بدت ضعيفة في تلك اللحظة
أشبه بطفلة صغيرة تائهة تسعى لشيء من الدفء والحنان
قال بندم :- أنا آسف .. لم أفكر جيدا
فاجأها اعتذاره .. ولكن ما صدمها هو اقترابه المفاجئ وجلوسه إلى جانبها فوق السرير إذ شدها إليه بدون إنذار .. وضمها بقوة إلى صدره .. تشنجت في البداية .. ولكنها سرعان ما بدأت تسترخي عندما أخذ يدلك ذراعيها
سرى الدفء سريعا في أوصالها .. لا .. بل كانت حرارة شديدة انبثقت من جسده .. وانتقلت حارقة ومثيرة إلى جسدها
تعالى صوت نبضات قلبها المجنونة وهي تشعر بقوة جسده الذي احتواها بين أحضانه .. أغمضت عينيها تكافح المشاعر الغريبة التي اكتسحت جسدها .. أحست بالخوف والاضطراب .. وفي الوقت نفسه بالإثارة والبهجة لقربه منها .. لإحساسها بالانتماء إليه .. وكأنها أمضت 25 عاما تتخبط في حياتها حتى وجدت بيتها أخيرا
لأول مرة تبدا مشاعرها بالاتضاح أمامها .. شيئا فشيئا كان الغموض يتلاشى .. وما كانت خائفة منه ومن جهلها له .. يتراءى أمامها بوضوح
غمغم سائلا :- كيف تشعرين الآن ؟
صوته الخشن بدا حميما للغاية في قربه الشديد منها .. رفعت رأسها إليه .. والتقت نظراتهما .. فأحست بجسده الضخم يتصلب .. ورأت القلق والاهتمام يختفيان من عينيه .. وحل مكانهما الذهول والصدمة لما رآه مرتسما في عينيها
اكتسحت كيانها حمى غريبة فتعالى لهاثها .. في الوقت الذي شعرت فيه بخفقات قلبه تتسارع تحت كفيها التين انبسطتا على صدره
قال بصوت خشن :- أماني
أسبلت عينيها بخوف .. من نفسها هذه المرة .. مما بدات تكتشفه وتخاف من التصريح به .. فأمسك بذقنها يجبرها على النظر إليه .. فلم تستطع إزاحة عينيها عن اللهب المشتعل في عينيه الداكنتين :- أنت ترتجفين
دغدغت نبرة صوته الخشنة كيانها .. وشوشت تفكيرها ... بالكاد سمعته عندما قال :- أظنني لم أدفئك بالطريقة المناسبة
وقبل ان تفهم قصده .. قطع المسافة القصيرة بينهما .. ولمس شفتيها بشفتيه بقبلة خاطفة .. شهقت على إثرها مصدومة من ردة فعل جسدها العنيفة .. فلم يترك لها فرصة للتراجع .. إذ غرس أصابعه بين خصلات شعرها الرطبة .. وتناول شفتيها بقبلة عاصفة .. جائعة .. ومتطلبة بقسوة .. انتفض جسدها بعنف .. وارتفعت يداها غريزيا نحو كتفيه تحاولان إبعاده .. ولكنهما عجزتا بضعف شديد كان سببه المشاعر العاصفة التي اجتاحتها
بذل شديد تخلص جسدها من سيطرة عقلها .. والتصق به بتهور .. فشدتها ذراعاه إليه اكثر .. ومرت لحظة نسي فيها كل منهما ما حوله حتى تركها فجأة
نظر كل منهما إلى الآخر بذهول .. بأنفاس مضطربة .. كان عليه ان يبتعد عنها ويقاوم اللهب المتراقص في عينيها الذاهلتين .. اعتدل واقفا وهو يقول بفظاظة :- سأعد لك شيئا ساخنا تشربينه
راقبته يختفي خارج الغرفة .. فأحاطت جسدها بذراعيها محاولة السيطرة على ارتجافها .. يا إلهي .. ما الذي حصل لتوه ؟
لقد قبلها هشام .. قبلها حقا ..الرجل الذي ظنته لفترة لا يعرف كيف يكون إنسانا .. غمرها بعاطفة لم تعرف مثلها من قبل .. وقبلها
وما صدمها اكثر هو انها لم تمنعه .. لم تقاومه .. لم تخف كما في كل مرة يقترب فيها منها رجل .. بل رغبت بأن يقبلها ومنذ لفظ اسمها بتلك الحرارة التي أذابتها .. ومازالت تسري في كل عرق من عروقها ..
هل حررها هشام من عقدها اخيرا ؟
أم أن الأمر أكبر من هذا بكثير ؟
في المطبخ الصغير .. كان هشام يحاول جاهدا السيطرة على ثورة جسده
أن يكتشف فجأة وبدون إنذار ان اماني .. الموظفة المتحفظة والمتكبرة .. ملكة الثلج التي عرفها منذ أكثر من خمس سنوات تخفي بعيدا عن العيون كتلة ملتهبة من الأحاسيس والمشاعر .. كثير عليه
أخيرا .. نظر إلى عينيها دون أن يرى الخوف والتوتر فيهما .. ولكن ما رآه عوضا عن هذا أطاح بصوابه .. لقد اشتعل الون الاخضر في عينيها وانقلب نارا اعمت بصيرته .. وأغشت تفكيره ..
وعندما تركها اخيرا .. كل ما فيها كان يدعوه للبقاء معا .. وألا يتركها أبدا
هل اكتشف صدفة أماني القديمة .. الشابة الصغيرة المفعمة بأحلام البنات والرومانسية .. والتي ماتت قبل سنوات بفعل قسوة أبيها وهمجية ابن عمها ؟
بعد ان حطم قلبها وآمالها .. وثقتها بالناس الرجل الذي أحبته ؟
عند هذه الفكرة انقبض صدره بما يشبه الغيرة والحقد على ذلك الرجل الذي عرف تلك المراة ولم يستحق مشاعرها النبيلة
خرج من المطبخ ليجد اماني واقفة عند باب غرفة النوم وقد ارتدت سروالا من الجينز .. وكنزة دافئة بلون كرزي قاتم أظهرت شحوب وجهها .. والهالات المحيطة بعينيها
بدت عيناها أشبه ببركتين خضراوين واسعتين امتلأتا بالحيرة والاضطراب .. فكبح رغبة عنيفة بقطع الطريق نحوها .. واحتوائها بين ذراعيه .. وطمأنتها بانه لن يؤذيها أبدا
وضع الصينية التي كان يحملها فوق المائدة قائلا بهدوء :- كيف تشعرين الآن ؟
كيف تشعر ؟ كيف يستطيع هو التحدث إليها بهذا الهدوء وكأن شيئا لم يحدث بينهما .. ؟ تأملت مليا وجهه الأسمر الجذاب .. وملامحه الغامضة .. وكأن الرجل الذي قبلها قبل دقائق لم يتواجد أبدا ..
ارتفع رنين جرس الباب لينقذهما من التوتر الذي تشبع في الجو فجـأة .. فقال باقتضاب :- إنها جودي .. لقد اتصلت بها قبل دقائق
فتح الباب بنفسه لجودي التي اندفعت نحو أماني بقلق قائلة :- أصحيح ما أخبرني به هشام يا أماني ؟ هل أنت بخير ؟
وقبل أن يتسنى لأماني أن ترد .. قال هشام من مكانه عند الباب بصوت جاف :-
:- سأذهب الآن .. وسأمر صباح الغد لأخذ أغراضك قبل ذهابك إلى العمل
ودع جودي بكلمات قصيرة .. ثم غادر مغلقا الباب خلفه بهدوء



الفصل التاسع والعشرون
دفتري الصغير

نظرت جودي إلى اماني متسائلة :- ما الذي قصده يا اماني ؟ إلى أين سيأخذ أغراضك ؟
ثم لاحظت شحوب وجه أختها فقالت بقلق :- أماني .. ما الذي حدث ؟ الأمر أكبر من مجرد حبسك لنفسك في الحمام ..صحيح؟
فهي لم تغفل عن النظرة الهائمة في عيني أماني التي نظرت إلى جودي بجمود للحظات بدت خلالها كمن أصيب بصدمة أخرسته .. ثم همست أخيرا :- لقد قبلني
رددت جودي بارتباك :- ماذا ؟ من ؟ .. هشام ؟
جلستا في غرفة النوم فوق السري الواسع .. وحكت أماني لجودي ما حصل بالتفصيل .. فقالت جودي بحذر :-
:- وهل هذه مشكلة بالنسبة إليك ؟ أعني أنه خطيبك .. وستتزوجان
تمتمت أماني بخفوت :- المشكلة هي أنني اكتشفت اليوم بأنني أحب هشام عطار
ساد صمت طويل بين الأختين ولسان جودي يكاد يهتف باستنكار .. ما الأمر ؟ لماذا لا يسعدك هذا يا اماني ؟ ستتزوجين اخيرا بالرجل الذي تحبين .. أليس هذا ما رغبت به وحلمت به طويلا ؟
ولكنها لم تجرؤ على البوح بأفكارها .. فهي تعلم بان أماني مختلفة عن غيرها من الفتيات .. بل هي مختلفة عن أماني التي وضعت لنفسها هذا الحلم قبل سنوات .. وإن كانت أماني قد وقعت في حب هشام .. فهذا يعني انها قد التقت أخيرا بند لها .. الرجل الذي يستحق حبها حقا .. ويعني أيضا بان اماني تعاني من ارتباك كبير .. وخوف عميق سببته لها صدمتها القديمة فيمن تحب
تمتمت جودي مترددة :- أماني .. هل أنت بخير ؟
رفعت أماني عينين مريرتين إلى أختها .. كيف ستقول لها انها ليست بخير لانها عندما احبت اخيرا من جديد .. أحبت رجلا لا يبادلها المشاعر .. بل يشفق عليها ويشعر بالمسؤولية اتجاهها ؟
لا .. لا تحتاج جودي إلى ان تزيد من همومها الأن .. لذا قالت بابتسامة شاحبة :- طبعا بخير بعكسك انت التي تبدين كمن لم تنم منذ أسبوع
ارتبكت جودي قائلة :- أجهد نفسي هذه الأيام في الدراسة على امل أن أتخرج هذه السنة
عرفت بأن أماني لم تصدقها .. فتنهدت بعمق وهي تنظر بعيدا إلى أنحاء الغرفة الصغيرة .. لماذا لا تنام في الليل ؟ لأنها تبقى مستيقظة تفكر بزفافها القادم الذي تجري الاعدادات له على قدم وساق منذ أيام .. تفكر بعلاقتها بطارق التي تسوء باستمرار في كل مرة يلتقيان فيها او يتحدثان
تفكر بتمام الذي تحبه اكثر من حياتها .. ومع ذلك أخرجته منها بكل قسوة ..دون أن تتوقف عن الاشتياق إليه في كل لحظة
أو محاربة رغبتها العميقة في اللجوء إليه .. والبكاء على صدره طالبة السماح
وفي الوقت نفسه تفكر بمصيبة ريما الجديدة التي لم تكن لتخطر على بال احد
تمتمت :- لقد هربت ريما مع بشار وتزوجا سرا
ظهر الاهتمام على اماني التي قالت :- ولماذا فعلا هذا ؟ ألم يكونا خطيبين ؟
هزت جودي كتفيها قائلة بحزن :- لقد قرر والدها فجأة بان بشار ليس الصهر الذي أراده لابنته .. فهو ما يزال طالبا ويحتاج إلى وقت كثير كي يكون مستعدا لتوفير حياة كريمة لريما .. خاصة وأن هناك الكثير من معارفه الأثرياء المتلهفين لمصاهرته .. وعندما يئست ريما من إقناع والدها .. لم تجد حلا أمامها إلا الهرب مع بشار
صمتت اماني للحظات مفكرة .. لم تكن يوما مقربة من ريما .. ولكن لطالما احترمت شجاعتها وقوة إرادتها .. وما فعلته قد لا ينال التقدير من المجتمع المعقد الذي يعيشون فيه .. ولكنها سعت اولا واخيرا خلف سعادتها هي .. لا سعادة الآخرين
وبما انها تعرف أختها جيدا .. وتخمن الصراعات التي تدور منذ فترة داخل رأسها .. أدركت بانها تعاني في هذا الوقت من اضطراب كبير سألتها بهدوء :- وما رأيك انت بما فعلته ؟
عرفت جودي بان سؤال اماني هو اعمق بكثير مما يبدو .. نظرت إليها بتردد وحيرة قبل ان تقول :-
:- أنا أكثر من يعرف مدى حب كل من بشار وريما لبعضهما البعض .. لم يكن من حق والدها ان يفصل بينهما بهذه القسوة بعد قبوله السابق لخطبتهما .. وبشار شاب جيد .. مازال في بداية الطريق .. ولكن النجاح سيكون حليفه فور تخرجه وحصوله على عمل مناسب .. ولكن ..
شعرت جودي بصعوبة كبيرة في البوح بأفكارها .. فشجعتها أماني قائلة :- ولكن ....
هتفت جودي :- انا لا أفهم .. كيف استطاعت تحدي الجميع بفعل ما يمليه عليها قلبها رغم استنكار عائلتها والناس ؟ هل ستكون سعيدة الآن وهي معرضة لنبذ المجتمع لها ؟ للحياة الصعبة مع بشار في غرفة صغيرة مع والديه بعيدا عن دعم والدها وأصدقائها ؟ هل يستحق بشار ان تقدم على كل هذه التضحيات من أجله ؟
سألتها أماني بهدوء :- هل تظنينها ستكون أكثر سعادة بزواج مرتب من عريس لا تعرف عنه شيئا أو حتى تميل إليه .. هل ستتمكن من إدارة ظهرها للرجل الذي تحب وتتظاهر بانها لم تعرفه يوما أو تعشقه بكل جوارحها لأجل حياة مرفهة خالية من المعنى قد تزول في اي لحظة بقدرة قادر ؟
نظرت إليها جودي بعجز غير قادرة على التعليق .. هنا نظرت اماني إلى عينيها وقالت :- الزواج المرتب ليس خاطئا يا جودي .. أحيانا يجمع بين قلبين غريبين بحب يستمر إلى الأبد .. وقد ينجح حتى بدون الحب الكبير والعاصف إذا كان مبنيا على الاحترام والتقدير .. ولكن المصيبة الكبرى إذا كان أحد الطرفين واقعا رأسا على عقب في حب شخص آخر
انتفضت جودي بعنف على إثر صفعة اماني المباشرة .. نهضت وهي ترتجف .. وابتعدت عن اختها قائلة باضطراب :- أنت لا تتحدثين عن ريما .. أليس كذلك ؟
قالت اماني بدون ان تحاول المراوغة :- أنا أتحدث عنك انت يا جودي .. لا تحسبي أنني في خضم انشغالي بمشاكلي غافلة عما يحدث معك .. إلى متى ستمضين قدما في مهزلة زفافك القادم ؟ متى ستعترفين بأنك لا تحبين طارق .. وأنك لن تجدي السعادة معه
الأيام التي قضتها جودي تتعذب في التفكير في الموضوع والليالي التي جافاها فيها النوم وهي تقلب الأمر داخل عقلها .. ومحاولاتها اليائسة لنسيان تمام .. ثم اكتشافها بان أماني كالعادة على اضطلاع بكل صراعاتها جعلها تنفجر بمقاومة غاضبة :- طارق هو الرجل المناسب لي .. لماذا لا تملين من تكرار الموضوع كلما التقينا .. ما كان والدي ليبارك زواجنا لو لم يكن واثقا من هذا
وقفت أماني قائلة بازدراء :- ما الذي عرفه والدك بالضبط عن السعادة ؟ لا شيء على الإطلاق .. حياته كانت كئيبة ومظلمة مثل قلبه .. لا يحق له أن يدير لك حياتك وقد عجز عن التحكم بحياته كما يريد
هزت جودي رأسها باستنكار :- كيف تقولين هذا ؟ أبي كان سعيدا مع امي .. حياتهما كانت كاملة ومثالية .. وقد أراد لي ما حصل عليه بالضبط
ساد الصمت طويلا عندما لم تعلق اماني .. النظرة التي ارتسمت في عينيها جعلت قلب جودي يرتجف من الخوف ..
همست بتردد :- أليس ما أقوله صحيحا ؟
هزت اماني رأسها قائلة :- كنت أنتظر الوقت لاطلاعك على الحقيقة يا جودي .. وأظنك بالشكوك التي تراودك والصراع الذي تعانين منه بحاجة إلى معرفتها
كادت جودي تفقد أعصابها وهي تقول :- أي حقيقة يا اماني .. ما الذي تخفينه عني ؟
اتجهت اماني إلى خزانتها وأخرجت منها ذلك الدفتر القديم الذي كاد يهترئ من كثر ما قرأته .. ومدت يدها به إلى جودي التي أخذته منها مترددة .. فتحته بحذر لترتسم الدهشة على وجهها وهي تقول :- هذا خط أمي .. هل كتبت أمي هذه الأشياء ؟
هزت اماني رأسها قائلة :- بدأت تكتب فيه بعد زواجها بسنوات قليلة .. بعد ولادتك بالضبط .. شعورها بالكبت والضغط
.. والفراغ الهائل الذي عانت منه دفعها لإفراغ مشاعرها في هذا الدفتر خفية عن والدنا .. عثرت عليه بعد وفاتها بأيام
تصفحته جودي سريعا وهي تقول باضطراب :- لماذا اخفيته عني طوال هذه السنوات ؟
:- خشيت ان تصدمك كلمات امي يا جودي .. لقد كنت صغيرة .. ومؤمنة تماما بمثالية والدنا .. كانت علاقتكما وطيدة فلم أرغب بأن تفقدي هذه الميزة كما حدث معي .. لم أرغب بتحطيم أحلامك و ثوابتك في تلك السن المبكرة .. انتظرت حتى يحين الوقت المناسب .. وأظنه قد حان
نظرت جودي إلى شقيقتها الهادئة وأحست بان كل عالمها سيتغير ابتداءا من هذه اللحظة .. سالت بخوف :- ما الذي كتبته امي بالضبط ؟
اقتربت منها أماني وأحاطت كتفيها بذراعها وقالت برفق :- اذهبي إلى البيت الآن واقرأيه على مهل .. وأنا سأكون هنا في انتظار أي استفسار منك .. اتصلي بي في أي وقت
وبينما أماني تقود جودي إلى الباب .. تذكرت جودي بدون تركيز:- وماذا عن توضيب أغراضك ؟ يجب ان اساعدك إن أردت الانتقال إلى شقة سمر في صباح الغد
قالت أماني ساخرة :- لن يأخذ توضيب أغراضي وقتا طويلا .. فقد سبق وأرسلت جميع المشتريات التي أصر خطيبي المستبد على شرائها لي كجهاز إلى شقة الزوجية
تذكرت جودي فجأة ما كانت اختها تعانيه من اضطراب فأحست فورا بمدى أنانيتها .. سالتها بقلق :- هل ستكونين بخير ؟
قالت أماني بحزم :- لا تقلقي .. لطالما تمكنت من الاعتناء بنفسي
عندما انفردت أماني بنفسها .. وجدت المجال أخيرا لتفكر بمشكلتها .. تكومت حول نفسها فوق السرير .. وسمحت لذاكرتها بالعودة إلى اللحظة التي قبلها فيها هشام .. لقد قبلها حقا .. وهي سمحت له باختراق دفاعاتها وقد سبق وأقسمت يوما بألا تسمح لرجل بتجاوزها .
. لقد قبلها .. بكل الحرارة واللهفة التي قد يشعر بهما رجل اتجاه امرأة .. وتأثير قبلته عليها كان ساحقا .. مدمرا .. خدر عقلها وأيقظ داخلها وحشا ضاريا لم تعرف بوجوده من قبل
متى وقعت بالضبط في حب مديرها ؟ هل حصل هذا ببطء مع تطور معرفتها به عن قرب كرجل حقيقي رائع كامل لا مثيل له .. بحزمه وصرامته .. وإحساسه الكبير بالمسؤولية اتجاه أحباءه بشكل خاص .. ومن هم أضعف منه بشكل عام .. لطفه وتفهمه الكبيرين .. أم أن انجذابها نحوه كان موجودا منذ البداية وقد أعماها عنه موقفها العدائي والغاضب اتجاه كل ما هو مذكر ؟
إنها تحب هشام .. تحبه بكل مشاعرها التي ظنت بأنها قد ماتت قبل سنوات .. بينما يتزوج هو بها ليحميها من صلاح
لم يخف عنها إعجابه بها .. وقد أظهر لها بوضوح رغبته فيها .. إنه يريدها بنفس القوة التي تريده بها
سيتزوجان لأشهر قليلو ومن السهل عليها أن تستسلم لمشاعرها وتعيش معه حلما جميلا لفترة .. سرعان ما ينتهي عندما يحين الوقت وتنتفي حاجتها إلى حماية هشام .. سيتركها ويبحث عن فتاة يحبها ويفخر بها كزوجة ورفيقة .. وأم لأبناءه
أما هي .. فستنهار وحيدة بعيدة عن العيان .. بعد أن تجذر حبه عميقا داخلها .. وحفر جرحا عميقا لا شفاء له داخل روحها
لقد كان واضحا معها .. لن يلمسها حتى تلمح له برضاها .. إن حافظت فقط على برودها وتظاهرت بعدم الاهتمام سيتركها في حالها .. وفي النهاية ستحتفظ بكرامتها وكبريائها على الأقل عندما يحين وقت الفراق
قامت بتثاقل لتبدأ بتوضيب أغراضها داخل الحقيبة الكبيرة والمفتوحة
تنتظرها معركة طاحنة بين إرادتها ومشاعرها .. ورغما عنها .. لم تعرف لماذا أحست بأن إرادتها ستكون الطرف الخاسر حتما

ithran sara
2015-06-21, 13:01
الفصل الثلاثون
لعنة العائلة

لم يتأخر اتصال جودي كثيرا ..استيقظت اماني بعد منتصف الليل بقليل لتسكت صراخ هاتفها المحمول .. وعندما قرات اسم جودي على الشاشة رفعته إلى أذنها قائلة بقلق :- جودي
كما توقعت كان صوت جودي منهارا وقد تخللته الشهقات المتتالية وهي تقول :- أخبريني بأن ما قرأته غير صحيح .. لا يمكن ان يكون صحيحا
ردت أماني :- جودي .. اهدئي قليلا .. هل تريدين مني القدوم إليك ؟
نعم .. كانت مستعدة لدخول ذلك البيت من جديد حتى لو خاطرت بلقاء صلاح كي تكون مع جودي في هذه اللحظات
تمالكت جودي أعصابها وهي تقول :- لا .. لا داعي لهذا .. أنا بخير .. اكتشفت فقط بأن القواعد التي كنت أستند إليها في حياتي لم تكن سوى مجسمات ورقية مزيفة .. عرفت لتوي بان أمي لم تحب أبي قط .. وأنها تزوجته لأجل امواله ومركزه الاجتماعي مضحية بمشاعرها اتجاه ابن عمها الفقير ..وأنها لم تكن سعيدة على الاطلاق .. بل كرهت كل لحظة عاشتها داخل هذا البيت
أحست اماني بالهستيريا تتخلل صوت جودي فقالت برفق :- أعرف بأن صدمتك كانت كبيرة .. ولكنك تغفلين عن شيء في قمة الأهمية .. نحن لم نعرف امنا حقا يا جودي .. وهذه فرصتك للتعرف إليها جيدا .. ان تعرفي المرأة التي كانتها تحت ذلك القناع الذي اضطرت لارتدائه أمام زوجها وأمام الناس .. تمعني في احلامها وأفكارها .. لا تغفلي عن الحب العميق الذي كانت تكنه لنا والأمنيات التي كانت تراودها حول حياتنا ومستقبلنا
أخذت نفسا عميقا ثم أكملت :- نعم هي لم تكن سعيدة .. ولكن هذا لم يكن ذنبها .. فهي لم تستطع أن تجبر قلبها على نسيان حبها الأول وتقبل شخص آخر حتى بعد ان أنجبت منه أطفالا .. حاولت لأجلنا على الأقل وفشلت .. فلم تعد ترغب بأي شيء من الدني إلا تجنيبنا التعاسة التي عانت منها .... أبي أيضا لم يكن مذنبا .. فقد أحب امنا بجنون .. حاول إرضائها بكل الطرق الممكنة ولكنه صدم عندما اكتشف بان أمواله بكثرتها لت تستطيع ان تشتري له السعادة .. كنوز الدنيا كلها لا تستطيع منحنا حبا لم يكن مقدرا لنا
عندما لم تسمع صوت جودي قالت بقلق :- جودي .. هل تسمعينني ؟
بعد لحظات من الصمت همست جودي :- وأنت كنت تعرفين منذ البداية .. لهذا كان ابي ينفر منك .. كنت تذكرينه بخيبته الوحيدة .. ولم يسامحك على هذا قط
تنهدت أماني وقالت :- مشكلتي مع أبي تعود إلى أسباب أكثر تعقيدا .. ولكنك محقة .. معرفتي للحقيقة التي حاول انكارها طويلا لم تساعده على تقبلي
:- لهذا كنت مصرة على رفض صلاح .. لم ترغبي بتكرار مأساة أمي
قالت اماني بحدة :- كراهيتي لصلاح لا شك في عمقها .. ولا علاقة لها أبدا بأحلام امي .. كنت لأرفضه حتى لو خرجت من القبر وتوسلت إلي بأن أقبل به
ثم أخذت نفسا عميقا كي تخفف من غضبها وقالت :- قصتي مع فراس كانت ردة فعلي الحقيقية على ما عرفته عن أمي .. أردت بيأس أن أتزوج برجل أحبه .. وكنت قد ضقت ذرعا بمحاولات أبي لتزويجي من صلاح
قالت جودي متفهمة وقد هدأت :- ثم خيب فراس أملك وفقدت أملك بعد ذلك بتحقيق حلم أمنا .. ولكنك الآن مقبلة على الزواج بالرجل الذي تحبينه حقا .. صحيح ؟
تمتمت أماني :- نعم .. هذا صحيح
ساد الصمت للحظات قبل ان تقطعه اماني :- ما الذي ستفعلينه الآن ؟
عرفت جودي ما قصدته اماني فقالت باضطراب :- لا أعرف بعد .. أظنني بحاجة إلى التفكير لبعض الوقت .. انا آسفة لإيقاظك بينما ينتظرك يوم حافل في الصباح
:- لا مشكلة .. ستطلعينني على أخبارك أولا بأول ... أليس كذلك ؟
:- بالتأكيد
أنهت جودي المكالمة .. وأحاطت نفسها بذراعيها محاولة إيقاف الأفكار التي تتصارع داخل عقلها بلا رحمة .. لقد طرحت اماني السؤال الأهم ... ما الذي ستفعله الآن ؟ هل ستتابع التحضيرات لزفافها وتتزوج بطارق ؟
هي لا تستطيع نفي ما تحسه نحوه من مودة .. فهو شخص رائع ولم يكن معها إلا مثال الخطيب الكامل .. وكان من الممكن أن تكون سعيدة معه لو لم تقع في حب تمام
تمام .. رددت اسمه بألم كبير .. وتذكرت ملامحه المجروحة في آخر لقاء لهما عندما قطعت علاقتها به نهائيا .. لن تنسى ما عاشت نظرة عينيه وهي تخرجه من حياتها بقسوة لم تدرك بانها امتلكتها .. لم يكن يومها غضبها منه قد خمد .. كلماته القاسية التي وجهها نحوها خلال عشائهما الأخير مازالت محفورة داخلها .. مع انها بعد أن هدأت .. بالأدق بعد ان أضناها الشوق .. بدأت تعطيه الأعذار .. فهي من بدأ بإهانته والتقليل من شأنه بالإشارة إلى وضعه المادي والاجتماعي المتدني .. وبعدها جرحته بكلماتها بعد أن انتابها الذعر من ضعفها الشديد أمامه
دفاعها المستميت داخل عقلها لا ينفي الواقع .. وهو انه شاب عابث لا يفكر بالزواج منها حتى لو كان يحبها بجنون كما يدعي .. وهي لن تسمح لنفسها أبدا بأن تستسلم له بشروطه مهما كان حبها له كبيرا .. ومهما عذبها فراقه
ضجيج خافت قادم من الطابق السفلي قطع تسلسل أفكارها .. على الفور سيطر عليها الخوف الطبيعي للفتاة تقيم وحيدة في منزل كبير .. فحتى وجود الخادمة النائمة على بعد رواق من غرفتها لن يمنع عنها أذى لص أو مغتصب
نهضت دون ان تصدر صوتا .. وتناولت عصا والدها الضخمة .. وغادرت غرفتها متجهة إلى الطابق السفلي بحذر شديد
على الضوء الخافت لإحدى القناديل الناعمة الموزعة بذوق في أرجاء الصالة .. لمحت ذلك الرجل الجالس فوق الأريكة وقد أحنى رأسه مخفيا وجهه بين يديه وقد بدت عليه التعاسة
أخفضت العصا وهي تهمس :- صلاح
رفع رأسه نحوها فصدمها مظهره المزري .. لم ترى صلاح في حياتها فاقدا السيطرة على نفسه بهذا الشكل حتى عند وفاة والدها
وجهه الوسيم كان شاحبا نحيلا .. وقد أحاطت الهالات السوداء بعينيه الغائرتين .. ونمت ذقنه حتى بدا شخصا آخر مختلف تماما عن ابن عمها الواثق الأنيق الذي عرفته طوال حياتها
ابن عمها القوي يتعذب بشدة في هذه اللحظة
تحركت نحوه ببطء بينما خرج صوته الأجش يقول :- لقد انتهى كل شيء .. سوف تتزوج به بعد أيام ... بينما أنا أقف عاجزا عن فعل أي شيء لإيقافها
جلست إلى جواره قائلة برقة :- لن تستطيع إيقافها يا صلاح .. أماني سوف تتزوج من هشام عطار .. لقد حان الوقت كي تمنحها حريتها لتجد سعادتها التي حرمت منها طويلا
نظر إليها بتعاسة قائلا :- وماذا عني انا ؟ ما الذي سأفعله الآن بدونها
قالت بحزن :- أعرف بأنك قد ظننت لفترة طويلة بأنها تنتمي إليك .. ولكنني آسفة يا صلاح .. أماني كانت دائما ملك لنفسها .. يجب أن تنسى الآن نزعتك التملكية نحوها و تبدأ بالبحث عن امرأة أخرى تحبها حقا هذه المرة
تقلصت ملامح وجهه باستنكار وهو يقول :-
:- ألا تظنين ما أحسسته نحو اماني حبا حقيقيا ؟ ربما عاملتها بقسوة وتجاوزت الحد .. إلا انني أحببتها بجنون منذ دخلت بيتكم طفلا يتيما جائعا إلى الحب والاهتمام .. وقد وجدته لدى عمي .. لديك انت .. حتى لدى زوجة عمي المرحومة ..
أماني كانت الوحيدة التي اعتبرتني دخيلا منذ اللحظة الأولى .. بينما بهرت أنمنا بجمالها وكبريائها وغموضها .. وجعلت هدفي أن أقلب يوما نظرة الكراهية في عينيها إلى الحب العميق الذي كنت أنشده .. كلما كانت تقاوم .. كنت أزداد غضبا وتمسكا بها .. استبحت كل الطرق للوصول إليها .. ولكنها كانت أبعد من نجوم السماء عني
وهاهي الآن تتزوج برجل آخر فقط كي تتحرر وتنتقم مني .. كيف أعيش بعد الآن وأنا أعرف بأنها كرهتني إلى حد وهب نفسها لرجل لا تحبه فقط كي تتخلص مني
ساد الصمت للحظات قبل أن تقول بهدوء :- أنت مخطئ يا صلاح .. أماني تحب هشام .. إنه الرجل الذي فهمها وقدرها واحترمها في الوقت الذي نبذها فيه المجتمع .. إنه إنسان رائع تمكن من منح أماني الأمان الذي افتقدته طوال حياتها .. هشام هو الرجل الذي استحق أماني فعلا .. هو الشخص القادر على حمايتها كما يجب
تذكر صلاح بخزي شديد ردة فعل هشام عندما ضبطه يهاجم أماني في لحظة غضب جنوني لم يعرفها من قبل .. فتمتم معترفا :- إنه كذلك بالفعل
ابتسمت برقة قائلة :- إن كنت تحب أماني فعلا فستتمنى لها السعادة .. وتحاول أن ترمم ما دمرته سنوات من العداء والاضطهاد بينكما
عرف صلاح بأن أماني لن تقبل النظر إلى وجهه بعد الآن ولكنه تمتم :- بالتأكيد
ثم قال :- آسف لأنني أيقظتك في هذا الوقت المتأخر .. كنت يائسا وبحاجة إلى محادثة شخص ما أثق به .. وكنت أنت من خطر على بالي
ابتسمت وأمسكت يده بقوة قائلة :- أنت هو عائلتي الوحيدة يا صلاح
نهض مصلحا ثيابه .. ومرر يده عبر شعره الأشعث وقال :- سأتركك تعودين إلى النوم .. أنت لست بحاجة إلى مشاكلي إضافة إلى همومك .. دراستك .. زفاف أماني .. زفافك المرتقب .. ما يطمئنني هو أنني سأطمئن عليك على الأقل تحت رعاية طارق .. إنه شاب جيد وسيهتم بك كما يجب
هزت رأسها موافقة بصمت .. فقبل جبينها بحنان أخوي قائلا :- تصبحين على خير
راقبته يغادر ثم تكومت هي مكانه على الأريكة وهي تفكر ساخرة بأن النجاح في الحب ليس من سمات عائلة النجار .. ابتداء بوالديها .. وانتهاءا بها وبصلاح
على الأقل تمتلك أماني الفرصة لتحقق ما فشلو جميعا في تحقيقه
السعادة الكاملة



الفصل الحادي والثلاثون
تاريخ أسود

ساد صمت ثقيل بين كل من أماني وهشام داخل سيارته الفارهة .. وهو يقطع بها الطرقات الداخلية للمدينة .. من ينظر إليهما وكل منهما منشغل بفكره عن الآخر لا يمكن ان يخمن على الإطلاق بأنهما سيعقدان قرانهما صباح اليوم التالي
تمنت أماني لو تعرف ما يدور في عقل هشام .. إذ بدا لها جافا وبعيدا منذ تبادلا تلك القبلة اليتيمة في شقتها قبل أيام
بالكاد رأته منذ انتقلت إلى شقة سمر .. لم يزرها أو حتى يتصل بها .. أمه وشقيقته فقط استمرتا في الاتصال بها وزيارتها لإنهاء ترتيبات الزفاف من شراء للفستان وإرسال للدعوات وغيرها من المهام الضرورية
معنويات اماني كانت تنحدر ببطء مع مرور الأيام .. وهي تتساءل عما اقترفته كي يجافيها بهذا الشكل .. هل ندم على تلك القبلة .؟ ألم تعجبه بما فيه الكفاية ؟ هل أحس فجأة بأنه قد علق في الفخ وتورط في الزواج من امرأة لا يريدها ؟
ألمها الشديد كان أكبر دليل على مدى عمق مشاعرها نحوه
إنها تحبه .. يا الله كم تحبه .. وعندما تصل بها قبل ساعات طالبا منها بجفاف أن تلاقيه بعد انتهاء ساعات العمل في مكتبه .. كادت تبكي لمجرد سماع صوته .. أذهلها التغيير الذي أحدثه حبها لهشام في نفسها
منذ متى كانت هي تلك الفتاة الهشة الضعيفة اليائسة إلى كلمة واحدة من حبيبها ؟ أين كانت حساسيتها هذه مختبئة منذ سنوات عندما ظنت نفسها باردة المشاعر والأحاسيس ؟
لم يطلعها على مقصدهما .. ولم تسأله عندما انضمت إليه في السيارة
ثقتها الضعيفة في نفسها وخوفها من الرفض جعلاها تلتزم الصمت مثله تماما .. وإن كانت تسترق النظر نحوه بين لحظة وأخرى .. تتأمل جانب وجهه الوسيم بشغف .. وتلاحظ وجوم ملامحه
عندما أوقف السيارة أدركت بأنهما قد وصلا إلى حارة شعبية فقيرة .. بدا الإهمال واضحا على المباني الآيلة للسقوط .. وفي شوارعها البعيدة عن النظافة .. تجمع الأطفال حول السيارة بفضول .. بينما ظهر عدم الاهتمام جليا على هشام بلفته الواضح للأنظار ..
ترجل من السيارة ودار حولها ليفتح لها الباب ويساعدها على النزول .. رفعت نظرها إليه بتساؤل فتحاشى عينيها قائلا :- طريقنا من هنا
أمسك بمرفقها وقادها فوق الرصيف المهترئ نحو مبنى متهالك أحست بقلبها ينقبض من مجرد النظر إليه .. مدخله كان مظلما وعفن الرائحة .. وسلالمه مهترئة بفعل الزمن .. اضطر للإمساك بذراعها كي لا تتعثر بإحدى الحفر أثناء صعودها .. ورغم قلقها وخوفها المتزايد .. أصرت على التمسك بموقفها ولم تطرح عليه أي سؤال
في الطابق الخامس .. أخرج أخيرا مفتاحا صغيرا .. ودسه في قفل باب كبير تقشر طلاءه .. احتاج إلى دفعة قوية من هشام كي يتحرك امامه .. ويفسح له الطريق للدخول .. فقال باقتضاب :- اتبعيني
تلمست طريقها وسط الظلام .. ثم زفرت بارتياح عندما وصل هشام إلى مفتاح الضوء وأداره .. .وسرعان ما بدد الظلام ضوء ضعيف أصفر صدر عن مصباح سقف بسيط .. تمكنت أخيرا من تأمل المكان من حولها بفضول .. فتبينت شقة صغيرة المساحة .. مزدحمة بأثاث بالي وقديم .. بعض القطع غطيت بالشراشف التي اصفر لونها .. بينما علت طبقات الغبار السميكة الأسطح في كل مكان .
هذه الشقة مهجورة منذ سنوات طويلة .. طويلة جدا
نظرت إلى هشام فصدمتها النظرة المطلة من عينيه وهو يحدق عابسا في زوايا المكان .. لقد كان غاضبا .. ظهر هذا بوضوح من توتر جسده الضخم وانقباض يديه السمراوين وكأنه يقاوم رغبته في تحطيم شيء
ثم رأت تلك العاطفة المستترة في نظراته السوداء .. كمن يستعيد ذكريات قديمة غير سعيدة على الإطلاق
عندها .. فهمت اماني كل شيء .. وهمست اخيرا :- لقد كنت تقيم هنا
تناول إطارا لصورة قديمة .. ومسح الغبار عن زجاجها بأصابعه .. ثم اعادها إلى مكانها قائلا ببرود :- لقد أقمت هنا مع عائلتي لفترة طويلة حتى عشر سنوات خلت
لم تعرف اماني السبب الذي دفعه إلى إحضارها إلى هنا .. وإطلاعها على ماضيه القاسي الذي تجهل عنه الكثير .. ولكنها أدركت بانها تريد أن تعرف .. بل تحتاج إلى ان تعرف ما الذي جعل منه الرجل الذي هو عليه الآن ؟
أكمل كلامه بجفاف :- لقد انتقلنا إلى هنا عندما كنت في العاشرة من عمري .. عندما اضطررنا لبيع شقتنا القديمة الواسعة لسداد جزء من ديون ابي بثمنها
استدار إليها قائلا بسخرية :- لا تتظاهري بالجهل يا اماني .. تعرفين جيدا سمعة أبي السيئة كغيرك من الموظفين لدي .. وقد لمحت لي بها اكثر من مرة أثناء مشاجراتنا المتعددة
احمر وجهها حرجا وهي تقول :- أنا آسفة .. لم أقصد حقا ...
قاطعها بحزم :- أعرف ما كنت تقصدينه بالضبط .. وهو ليس موضوعنا الآن .. غدا سوف تصبحين زوجتي .. لذا فكرت بأنه من الأفضل ان تعرفي كل شيء عني مني انا .. وألا تكتفي بالشائعات التي لاحقتني منذ سنوات .. قد تطلعك سمر على القليل .. وقد تحكي لك أمي القليل .. ولكنهما لن تجدا الجراة على إخبارك بالحقيقة كاملة
فجاو لم تعد اماني راغبة بمعرفة المزيد .. أحست بالخوف مما ستسمعه .. ولكنها عرفت حاجته هو للبوح لها بما لم يبح به لشخص آخر
حاجته لوضع الحمل الثقيل الذي حمله لسنوات على ظهره
تمتمت :- أود حقا ان اعرف الحقيقة
اتجه نحو النافذة .. وفتحها كي يبدد شيئا من رائحة المكان الخانقة .. وسرعان ما تدفق الضجيج من الخارج حتى تلاشى ما احست به اماني بانهما منعزلين عن العالم .. نظر من علو إلى الشارع المزدحم .. إلى الأطفال المتراكضين هنا وهناك ..إلى بائع متجول يصيح معلنا عن بضاعته ثم قال :-
:- كان ابي وحيد رجل ثري .. عانى من طفولة متقشفة فأراد تعويض ابنه بتدليله ومنحه كل شيء .. فكبر فاسدا .. مدللا لا يعرف معنى المسؤولية .. وعندما أدرك والده خطاه فكر بأن تزويجه من فتاة صالحة سيعقله .. ويعيده إلى الطريق القويم .. ووقع اختياره على والدتي .. وكانت ما أراده بالضبط .. امراة صغيرة صالحة ومتدينة .. ولكنها لم تنجح حتى بعد انجابها ل 3 أطفال في إبعاده عن استهتاره وتهوره
التفت إليها .. فبدا وجهه مظلما بسبب ضعف الإنارة .. ولم تستطع معرفة ما يفكر به .. ولكنه أكمل :- كما هو متوقع .. مات والده خائب الأمل .. وأضاع هو ميراثه على اللهو .. وعندما وجد نفسه مفتقرا إلى المال .. لجأ إلى الحل الوحيد الذي فكر به .. وهو النصب على الآخرين .. أقنع بعض معارفه بالاستثمار في مشروع كبير .. ثم أخذ اموالهم واختقى بلا أثر .. سافر فجاة بلا مقدمات أو توضيحات حتى لعائلته .. وسرعان ما وجدت زوجته نفسها وحيدة مع 3 أطفال .. وصفوف من الدائنين يقفون على عتبة بابها
كان لديها فكرة بسيطة عما عانته السيدة لميس من معاناة واضطهاد .. ولكنها فكرت الآن بالطفل ذي السنوات العشر الذي وجد أمه تعاني دون أن يقدر على مساعدتها
:- الأسوأ بالنسبة إليها كان موقف عائلتها .. رفضوا مساعدتها بكل بساطة .. بل اشترطوا عليها أن تتخلى عن أطفالها .. وتحصل على الطلاق كي يتسنى لهم تزويجها مجددا والخلاص من مسؤوليتها فرفضت بشكل قاطع .. ما كانت لتترك أطفالها يتنقلون بين الملاجئ تحت حماية الغرباء .. وما كانت لتطلب الطلاق من رجل رغم جميع مساوئه فقد كان زوجها وحبيبها ووالد أطفالها .. لم يتزعزع إخلاصها أو ثقتها بعودته .. حتى عندما اضطرت للتخلي عن مسكنها والإقامة في جحر حقير كهذا .. والكدح بحثا عن الرزق وهي التي لم تعمل يوما .. ولم تحمل مؤهلا يساعدها على أن تعمل .. لقد ذاقت الأمرين .. عرفت الذل والهوان .. لا يمكنك أبدا أن تتخيلي كيف كانت حياتها خلال السنوات الأولى .. ما زلت أذكر يوم اقتحم أحد الدائنين الشقة وتهجم عليها مصرا على أنها متواطئة مع زوجها .. ذلك اليوم بالذات أظنني قد كبرت .. وودعت طفولتي إلى الأبد .. عندما عرفت إلى أي حد يمكن لأي إنسان أن يكون قاسيا
صوته بدأ يزداد خشونة .. وكسا وجهه الوسيم توحش بدائي وهو يشير إلى الندبة الصغيرة التي قاطعت حاجبه وهو يقول :- هذه الندبة التي سألتني عنها مرارا .. أصبت بها على إثر رمي ذلك الرجل لي قوق طاولة زجاجية عندما حاولت حماية أمي منه ..أقسمت يومها بألا أكون ضعيفا بعدها أبدا .. وألا أسمح لمخلوق بأذية شخص أهتم لأمره حتى لو دفعت حياتي ثمنا لذلك
قالت بتوتر وهي تكبت ارتعاش جسدها :- لماذا تخبرني بهذا ؟ لماذا تعذب نفسك بهذا الشكل ؟
عاد ينظر عبر النافذة إلى الفراغ بعيدا عنها وقال :- سبق واخبرتك بالسبب .. سنعقد قراننا صباح الغد .. وأنت ستصبحين زوجتي .. أردتك أن تعرفي كل شيء عني قبل ان تتورطي معي كي أتيح لك فرصة التراجع قبل فوات الأوان
ساد الصمت لدقيقة كاملة قبل ان تقول بهدوء :- لماذا تظنني سأتراجع بعد معرفتي للحقيقة ؟
لم يجبها .. بل لم تصدر عنه أي حركة .. فاقتربت منه قائلة بحزم :- لقد أخذت فكرة عن ماضي والدك منذ فترة طويلة .. ولم افكر للحظة واحدة بانك تشبهه باي طريقة كانت
تابعت عندما لم يعلق :- قد لا يكون زواجنا حقيقيا .. ولكنني فخورة للغاية بأنك أنت من سيكون زوجي أمام الناس في الغد .. خلال الأشهر التي تلت وفاة أبي .. وقفت إلى جانبي وفهمتني وحميتني أيضا كما لم يفعل أقرب الناس إلي .. لا يهمني على الإطلاق من يكون والدك يا هشام .. ما يهمني هو أي رجل رائع وجدت فيك أنت
استدار إليها فرأت جمود وجهه .. فأسرعت تقول بانفعال :- أنا لا أقول هذا بسبب الامتنان .. مع أنني حقا ممتنة لكل ما فعلته معي
اقتربت منه أكثر حتى لم تعد تفصل بينهما سوى سنتيمترات قليلة
رفعت رأسها إليه .. فارتعش قلبها عندما التقت عيناها بعينيه السوداوين .. بالرغم من قربه منها إلا أنه بدا وكأنه على بعد أميال
دون أن تفكر .. رفعت يدها لتلمس أناملها صدره الصلب .. وقالت :- أتعرف ما الذي أراه عندما أنظر إليك ؟
أحست بتوتر عضلاته تحت أناملها .. ولمحت توتر شفتيه فهمست :-
:- رجل بنى نفسه بنفسه من الصفر .. بقوة وإصرار وشرف .. ليمنح أمه وشقيقتيه الحياة التي حرمن منها .. رجل أعمال فذ ذو عقل عبقري وطباع صعبة .. ولكنه رئيس عادل وكريم .. لم يقلل يوما من شأن أحد موظفيه .. كان لهم دائما كالأب والمرشد .. حسنا .. ليس جميع موظفيك .. نستطيع استثناء الموظفات الوقحات طويلات اللسان
ابتسمت باضطراب .. فكان الصدى الوحيد الذي لقيته منه هو اهتزاز طفيف في عينيه القاتمتين .. أكملت :-
:- رجل لم يتردد قبل ربط نفسه بفتاة أصبحت حديث المدينة بأكملها فقط كي يحميها من ظلم والدها وابن عمها .. أنا لا أعرف حقا لماذا تضحي بنفسك لأجل فتاة لا تعني لك الكثير .. ولكنني أتمنى ألا تندم في النهاية على تضحيتك هذه
أحست بخفقات قلبه تحت أصابعها .. وفجأة .. ساد ذلك التوتر الذي لطالما حل بينهما كلما انفردا .. غطا يدها بيده الكبيرة .. وقال بصوت خشن :- لا يهمني السبب الحقيقي لزواجك مني يا أماني .. ولكنك غدا صباحا ستصبحين زوجتي .. ولن أسمح لك بالتراجع
هزت رأسها هامسة :- لن أتراجع
داعب وجنتها بأنامله بينما يتأمل وجهها بعينين لامعتين ثم غمغم :- من الأفضل أن أعيدك إلى شقة سمر قبل أن تقلق
تركها فجأة فانكسر السحر ... وانتهت لحظات التقارب والمصارحة التي جمعت بينهما .. وعاد هشام إلى تحفظه وتباعده وهو يطفئ الأنوار ويقفل الباب .. وعندما ودعته تحت المبنى الذي تقيم فيه سمر .. رفض مرافقتها إلى الداخل .. بل اكتفى بأن قال لها وهي تغادر السيارة :- سأراك صباح الغد
لم ينطلق حتى تأكد بأنها قد غابت خلف البوابة .. وعندما أغلقت أماني الباب خلفها .. سمحت لدمعتين يتيمتين بتجاوز مقلتيها .. ثم مسحتهما وهي تهمس :- لا تلومي إلا نفسك يا أماني .. لقد كنت تعرفين ومنذ البداية بأن هشام مهما كان قريبا منك .. فإنه أبدا لن يكون لك

ithran sara
2015-06-21, 13:02
اتمنى ان تنال الاعجاب و اتأسف على التأخير :)

ithran sara
2015-06-23, 12:30
الفصل الثاني والثلاثين
زفاف الموسم
راقبت جودي باكتئاب اماني وهي تغادر حفل الزفاف برفقة هشام .. من المفترض بها أن تكون سعيدة .. بل هي حقا سعيدة لأن أماني قد تزوجت أخيرا بالرجل الذي تحب ..
حفل الزفاف كان رائعا ومثاليا كما أرادت السيدة لميس أن يكون عليه زفاف ابنها الوحيد .. وأماني بدت رائعة الجمال مما بهر جميع المدعوين وأنساهم الشائعات التي لم تتوقف حولها منذ وفاة والدها .. بدت مرتبكة قليلا .. قلقة وهي تواجه نظرات الآخرين التي تركزت عليها .. بالعكس من هشام الذي بدا شديد الوسامة بحلته السوداء الغالية الثمن والتي لاءمت بشكل مدهش جسده الرياضي الضخم .. كان شديد الثقة بنفسه .. وأظهر للآخرين وبكل وضوح أهمية أماني لديه .. إذ أحاطها بذراعه معظم الوقت .. وكان يبتسم لها دائما حريصا على راحتها .. وبدت عليه السعادة وهو يطعمها بيده من كعكة الزفاف الضخمة المكونة من 7 أدوار
الشيء الوحيد الذي يعكر على جودي سعادتها لأجل أختها هو ذكرى مواجهتها لطارق مساء الأمس .. لقد أخبرته أخيرا برغبتها في إنهاء خطوبتهما .. ومع الجهد الكبير الذي كلفها به إخباره بهذا .. إلا ان ردة فعله كانت بعيدة تماما عن الصدمة التي توقعتها .. إذ بدا عليه البرود الشديد وهو يسألها عن السبب .. أجابته بارتباك بأنها أدركت لتوها بأنها لا تحبه كما يجب .. وأنه يستحق أخرى أفضل منها تقدر كل ما هو قادر على تقديمه لها
قال لها فجأة بصرامة :- اعفني لو سمحت من سماع كلماتك المنمقة والمدروسة جيدا كي تخفف من غضبي .. وسأكون ممتنا لو كنت صريحة معي بما يكفي لتخبريني عن الرجل الآخر الذي قلب كيانك وغيرك منذ أشهر
أطلقت شهقة ذهول وهي تحدق به مصدومة .. بينما قال هو ساخرا :- هل ظننتني بهذه الحماقة يا جودي .. لقد راقبت وبدقة كل تغير ولو كان طفيفا في تصرفاتك .. في البداية عزوت الامر إلى صدمتك بوفاة أبيك .. ثم قلقك بشأن اماني .. ولكن فيما بعد .. كان من السهل علي أن اعرف بانك قد توقفت فجأة عن حبي .. وبما انني لم اتغير على الإطلاق ولم أقم بأي تصرف من شأنه تغيير مشاعرك .. فقد استنتجت الحقيقة بنفسي .. وهي ان رجلا آخر قد دخل في المعادلة .. وكل ما كان علي فعله هو الانتظار لأعرف إن كنت ستخبرينني بالحقيقة .. أم أنك ستتابعين استغفالي وتمضين قدما في مهزلة الزواج المنتظر
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقول :- طارق .. أنا آسفة ..
هب واقفا عن الأريكة حيث كان جالسا في صالة الاستقبال في منزلها وقال بجفاف :- احتفظي باعتذارك .. فانا لست بحاجة إليه .. ونعم .. لقد كنت محقة في شيء واحد .. انا أستحق أخرى أفضل منك بالتأكيد
عادت جودي إلى الواقع مع ارتفاع ضجيج المدعوين الذين أحاطوا بالعروسين أثناء ركوبهما سيارة هشام المزينة بإتقان
معظم المدعوين كانوا قد غادروا ولم يتبق إلا القليل من المقربين إلى عائلة هشام .. راقبت هشام وهو يساعد أماني على حشر نفسها مع فستانها المنتفخ داخل السيارة .. وعندما اغلق الباب برفق ودار حول السيارة ليجلس مكانه خلف المقود .. أنزلت اماني زجاج النافذة ومدت رأسها تبحث بعينيها عن شخص ما .. وعندما رأت جودي .. أسرعت تلك تلوح لها بيدها وهي تبتسم ببشاشة .. لقد أخطأت عندما أخبرت أختها الكبرى صباح اليوم بما حدث معها .. وتمنت لو يتمكن هشام من ان ينسيها القلق لهذه الليلة على الأقل .. ارتاحت عندما بدت الطمأنينة على وجه اماني التي لوحت لها بدورها .. وقبل ان تنطلق السيارة .. لاحظت جودي التغير المفاجئ الذي طرأ على ملامح أماني .. فقد انقلبت الراحة ليحل محلها الذعر الخالص وهي تحدق بنقطة محددة
استدارت جودي غلى حيث تعلقت انظار أماني .. لترى مصدر جميع كوابيس اختها يقف بعيدا وقد غطى الظلام معالمه .. بحيث لم يفطن لوجود أحد .. وقد بدت عليه الوحدة الشديدة .. والحسرة البالغة
لقد كان صلاح


الفصل الثالث والثلاثون
خلف الباب المغلق

ألقى هشام نظرة عابرة نحو أماني بينما يقود سيارته عبر الشوارع الخالية في ذلك الوقت المتأخر من الليل .. وقد أسبغ ضوء المصابيح العمودية الشاحب جوا كئيبا على المدينة .. لاحظ شحوب وجهها فسألها :- هل انت بخير ؟
تمتمت محاولة السيطرة على اضطرابها :- أنا بخير .. ولكنني متعبة قليلا
مد يده الكبيرة واحاط بها أصابعها المرتعشة المكومة فوق حجرها قائلا :- لقد تجاوزنا الليلة المرحلة الصعبة .. كل شيء سيكون على ما يرام من الآن فصاعدا
منحته ابتسامة شاحبة .. وجاهدت كي لا تنزع يدها من بين أصابعه إذ كانت متوترة بما يكفي لرؤية صلاح التي لم تكن متوقعة .. وليست بحاجة لتحمل المشاعر التي تنتابها كلما لمسها .. ولكنه سحب يده وحده ليعود إلى التركيز على القيادة
فقالت كي تبعد تفكيرها عن نوايا ابن عمها الخفية :- لقد كان الحفل جميلا .. أشكرك على ما تكبدته من عناء كي تقنع الناس بجدية زواجنا
قطب بانزعاج وقال بجفاف :- عليك ان تشكري أمي .. فهي من خطط لجميع التفاصيل
بحثت حائرة عن الخطأ الذي ارتكبته وسبب له كل هذا الانزعاج .. ثم قالت مغيرة الموضوع :- لا أفهم السبب الذي منعنا من إيصالها مع نورا معنا في السيارة .. فوجهتنا واحدة
:- ستبيت أمي ونورا في شقة سمر الليلة .. لقد فضلتا منحنا الخصوصية التامة بترك المبنى كاملا لنا
توقفت السيارة أمام الفيلا الضخمة المكونة من 3 أدوار . . والتي بناها هشام منذ سنوات لامه .. كانت قد زارت المكان مرة واحدة منذ يومين عندما دعتها حماتها إلى العشاء لتعرفها على المكان الذي ستقيم فيه .. وعرفت عندها بأن حماتها هي من اصر على هشام عندما بنى الفيلا أن يجعل من الطابق الثالث شقة منفصلة .. لتكون يوما شقة الزوجية في حال قرر أن يتزوج .. وقد بقي الطابق الثالث مهجورا لفترة طويلة حتى اعلن هشام عن نيته في الزواج من اماني .. فبدأت والدته بحماس حملة مكثفة لتنظيف الشقة وتأثيثها وجعلها مناسبة لإقامة العروسين خلال فترة وجيزة .. لم تسمح لها ذلك اليوم بأن تراها معللة بانها يجب ان تكون مفاجأة للعروس
أسرع الحارس ليشرع بوابة الفيلا امام صاحبها وهو يقدم التهنئة له ولعروسه
سارت السيارة عبر طريق محاط بالشجيرات الصغيرة المقلمة بعناية .. وسط حديقة لم تستطع تبين تفاصيلها بسبب ظلمة الليل .. ثم توقفت امام الفيلا اخيرا .. ساعد هشام اماني على النزول من السيارة .. فرفعت رأسها تتأمل المبنى ذي الهندسة الأنيقة والخالية من البهرجة .. وتذكرت منزل والدها الذي صمم خصيصا ليبهر الناظر .. ويخبره بمدى ثراء صاحبه
تمتمت وهي تصارع بين طيات فستانها :- أظنني سأضطر لخلع حذائي إن كنت سأتسلق كل هذا الارتفاع
ابتسم قائلا :- لن تضطري إلى هذا .. هناك باب خلفي يؤدي إلى مصعد كهربائي يؤدي مباشرة إلى شقتنا
حاولت التغطية على اضطرابها بقولها الساخر :- أليس من الرائع ان يكون المرء غنيا ؟
قال بهدوء :- وجد المال لصرفه .. أليس كذلك ؟
دارا حول المنزل .. وسرعان ما كان هشام يساعها مجددا في حشر فستانها داخل حجرة المصعد الصغيرة .. خلال الثواني التي استغرقتهما للوصول إلى مقصدهما .. اضطرت اماني لحبس أنفاسها عندما وجدت نفسها تكاد تلتصق بهشام وقد أحست بدفء جسده وجاذبيته الفياضة
تجرأت وألقت نظرة سريعة نحو وجهه ففوجئت به ينظر إليها .. وقد علت عينيه نظرة غريبة .. جعلتها تلقائيا تشيح بنظرها بعيدا وقد احمر وجهها .. وترفع يدها نحو عنقها وكتفيها بحماية تلقائية ضد نظراته
أخيرا انتهى عذابها عندما توقف المصعد وانفتح بابه .. قادها هشان إلى شقة فسيحة .. ذهلت اماني وهي تتأمل المساحة الواسعة والديكور الأنيق .. والأثاث المرفه .. لقد تكبدت حماتها العناء حقا لجعل الشقة مكانا جميلا لعيش عروسين جديدين
قال هشام من خلفها :- أرجو ان يكون المكان قد أعجبك
تمتمت :- أنت تعرف بانه قد اعجبني
أجفلت عندما أحست بأنامله تلمس ظهرها بخفة وهو يقول بلطف :- لقد ذكرت امي شيئا عن وجبة جاهزة للأكل تنتظرنا في غرفة الطعام .. لابد انك جائعة بعد هذا اليوم الطويل .. إلا إن أردت التخلص من فستانك هذا اولا .. فهو يبدو لي مزعجا
تورد وجهها وهي تتحاشى النظر إليه قائلة :- إنه مزعج بالفعل .. لست جائعة .. وأظنني سأخلد إلى النوم فورا .. فكما قلت انت .. كان يوما طويلا ومتعبا
نظر إليها للحظات بدون تعبير ثم قال بهدوء :- كما تحبين .. دعيني أقودك إلى غرفة النوم
غرفة النوم كانت حلما لأي عروس حالمة .. المفروشات الخشبية الثقيلة و المحفورة بإتقان .. الستائر المخملية ذات الألوان الناعمة .. السجادة الوثيرة التي كست الأرض الرخامية .. وفي الوسط .. انتصب سرير ضخم رائع الجمال .. مكسو بالوسائد الوثيرة و الأغطية الحريرة المخرمة
تصاعد ارتباكها .. واحتارت بالطريقة التي وجب عليها ان تطرح به سؤالها عن ترتيبات نومهما ..
قال فجأة ساخرا وكانه قد قرا أفكارها :- تبدين كهرة على صفيح ساخن .. اهدئي يا عروسي الغالية .. فانا لن أشاركك الغرفة .. سأنام في الغرفة الإضافية
رددت بارتباك :- غرفة إضافية !
:- طلبت من والدتي إعداد غرفة نوم للضيوف مستعملا جودي كحجة .. فنحن عائلتها الوحيدة الأن .. وقد نطلب منها غالبا البقاء معنا
لم تستطع منع نفسها من التساؤل عما سيفعلانه إذا قررت جودي فعلا ذات يوم البقاء
نظر إلى فستانها قائلا :- هل تحتاجين إلى اي مساعدة في التخلص من هذا الشيء ؟
قالت بحدة مبالغ بها :- سأتدبر امري
لوى فمه بابتسامة جعلت قلبها يخفق بقوة .. وقال بهدوء :- في هذه الحالة ... تصبحين على خير
غادر الغرفة مغلقا الباب خلفه بهدوء .. زفرت اماني بقوة .. لقد أصبحت أخيرا وحدها .. عادت تنظر إلى الغرفة الكبيرة بتوتر .. ثم تفحصت الخزائن الممتلئة بالملابس الجديدة التي اشترتها لها حماتها .. واختارت أكثر قمصان النوم احتشاما .. ثم فتحت بابا جانبيا عرفت فورا بانه يؤدي إلى الحمام ... وبعد نصف ساعة كانت قد خلعت فستانها .. وحلت شعرها من تسريحته المعقدة .. وازالت مكياج وجهها المتقن .. وارتدت قميص النوم .. ثم دست نفسها في السرير الكبير
على ضوء الأباجورة الصغيرة المجاورة للسرير .. تساءلت اماني عما يفعله هشام في الخارج .. هل هو قلق ومتوتر مثلها تماما ؟ أم انه غارق في النوم وقد ارتاح ضميره بعد أن أدى واجبه نحوها على اكمل وجه
انتابتها رغبة شيطانية في الخروج إليه .. في التظاهر بالعطش والحاجة إلى الشرب .. وهي ترتدي احد القمصان المثيرة الكثيرة المكومة داخل الخزانة .. فقط كي ترى بريق الرغبة في عينيه .. لترى هشام الرجل القوي يصارع ضد مشاعره كما حدث عندما قبلها داخل شقتها
نظرت إلى قميصها المحتشم .. وبدون تردد ... قفزت من السرير واختارت قميصا آخر وردي اللون ... بقماش رقيق شفاف وناعم .. نظرت إلى نفسها في المرآة .. فبدت كالحلم .. لا .. هي لن تخرج إلى هشام ... كرامتها لن تسمح لها بذلك .. ولكنها على الأقل ستشعر بأنوثتها .. وبجمالها .. بانها جديرة بالرجل الرائع الذي تحبه
عادت إلى سريرها مجددا .. ضمت ذراعيها إلى صدرها وهي تتكوم إلى جانبها كالجنين .. ولم يمضي وقتا طويلا بعدها قبل ان تغط في النوم



الفصل الرابع والثلاثون
نقطة ضعفه الوحيدة

لم يكن هناك زفاف ..لا مدعوين ولا حتى زينة ..لم تكن في الواقع داخل اي مكان محدد .. فقط فستان زفافها الطويل الذي مازالت ترتديه ذكرها بأنها تتزوج بهشام أخيرا .. وبدلا من ان تشعر بالأمان شعرت بالخوف وهي تبحث عن أي شيء مألوف في المكان المظلم الذي كانت تائهة فيه
ظلام .. ظلام .. أحست بالخوف والضياع .. كما شعرت بالضبط عندما صحت من غيبوبتها في المستشفى ..و نظرت حولها حائرة غير قادرة على تذكر ما حدث ..
هبت ريح قوية رفعت حاشية ثوبها الطويل .. وعبثت بشعرها مفسدة تسريحته الانيقة .. صاحت بقلق .. هشام .. هشام
رأته أخيرا يقف والضباب يلفه من كل جانب .. كان يدير لها ظهره وكأنه لم يسمع صراخها .. أسرعت نحوه وهي تقول بارتياح :- أين كنت ؟ انا أبحث عنك منذ مدة .. يجب أن نعود إلى الحفل .. الضيوف في انتظارنا
وعندما لم يمنحها ردا .. مدت يدها وامسكت وأمسكت ذراعه .. عندها ادركت متأخرة بأن هذا الرجل لا يمكنان يكون هشام .. إنه أقصر قامة منه ..
تراجعت مذعورة .. وحاولت الهرب .. إلا أن اليدين القاسيتين امسكتا بها .. والعينين الحمراوين رمقتاها بتلك النظرات الشامتة .. ودوى صوت صلاح يقول لها :- لا مفر لك مني يا أماني .. لا مفر
شقت صرخة اماني الصمت وهي تنتفض قوق السرير الضخم .. صفعها الظلام المحيط بها فظنت لوهلة بأنها ما زالت تعيش الكابوس نفسه .. فعادت تصرخ وهي تلوح بيديها يمنة ويسارا .. حتى سقطت من فوق السرير في نفس اللحظة التي فتح فيها الباب .. وأنير المكان كله بلمح البصر .. ودوى صوت هشام القوي يهتف بقلق :- ما الأمر ؟ ما الذي حدث ؟
أسرع نحوها ليحملها بدون تردد ويضعها فوق السرير .. سماعها لصوته .. وإحساسها بقوة ذراعيه حولها جعلها تنهار باكية بارتياح وهي تضم نفسها إلى صدره بقوة كطفل يطالب بحماية امه
ضمها غليه بقوة وأخذ يربت على شعرها بحنان ويتمتم بخفوت :- أنت بخير .. لن أسمح لأحد بأن يؤذيك .. أي أحد
هتفت بصوت مختنق :- لقد كان هناك في انتظاري .. في قلب الظلام .. وانا لا أحب الظلام .. لقد تركت المصباح مضاءا .. انا متأكدة من هذا
قال بقلق :- لقد أطفأته أنا عندما مررت بك قبل نصف ساعة لأطمئن عليك .. أنا آسف .. لم أعرف بخوفك من الظلام
بدأت تهدأ .. وتحس في الوقت نفسه بسخافتها .. فابتعدت عنه ببطء وهي تمسح دموعها قائلة :- أنا دائما أترك ضوءا صغيرا قبل ان أنام .. أعرف بانك تجدني سخيفة وطفولية .. لابد أنني قد أيقظتك من النوم
أمسك وجهها بين يديه وأجبرها على النظر إليه .. وقال بهدوء :- أماني .. اهدئي الآن .. أنا لم اكن نائما .. وما حدث معك قد يحدث لأي شخص آخر
انتبهت في تلك اللحظة إلى أنه مازال يرتدي نفس الملابس .. ولكن بدون سترته او ربطة عنقه .. ومن خلال فتحة قميصه حيث فتح الأزرار العلوية ظهر عنقه القوي وصدره الأسمر المكسو بالشعر القاتم .. فنسيت فورا كابوسها .. وطار النوم من عينيها لتعود إليها مجددا تلك الأحاسيس المربكة .. تمتمت باضطراب :- آسفة لأنني أزعجتك
ثم تذكرت شيئا .. فنظرت إلى عينيه الداكنتين قائلة :- هل دخلت علي أثناء نومي ؟
هز رأسه قائلا :- لقد كنت غارقة في النوم .. فأطفأت النور ظنا مني بأنك قد نسيته مفتوحا
تساءلت عن السبب الذي دفعه لدخول غرفتها .. وتذكرت الأفكار التي راودتها قبل ان تنام .. ترى .. هل راودته الأفكار نفسها ؟ هل دخا غرفتها محاولا القيام بالخطوة الأولى في التقرب منها فوجدها نائمة ؟ احمر وجهها .. وأبعدت يديها عنه بسرعة فأخطأ فهم سبب توترها .. ابتسم قائلا :- ليس عليك أن تخشي شيئا .. لقد كنت نائمة كالملاك .. والملاءة تغطيك حتى ذقنك .. لم أر شيئا لم ترغبي بأن أراه
انحدرت عيناه إلى الأسفل فجأة لتتفحصا لأول مرة ما ترتديه .. فاختفت ابتسامته .. واحتلت عيناه نيران سوداء جعلتها ترتجف .. وترفع يديها تلقائيا نحو عنقها وصدرها لتحمي نفسها من نظراته
سمعت صوت انفاسه الثقيلة .. وأحست بالجو بينهما يتشبع بالتوتر .. وضع سبابته أسفل ذقنها .. وأجبرها على النظر إليه وهو يقول بصوت أجش :- أنت جميلة جدا يا اماني .. أظنك تعرفين هذا جيدا .. وتعرفين أيضا ما الذي يفعله بي جمالك
كانت المسافة بينهما تتقلص شيئا فشيئا .. وكان خيطا لا مرئيا يجذب كل منهما نحو الآخر ..
همست :- ما الذي يفعله بك ؟
نظر إلى وجهها متمعنا في كل قطعة من ملامحها الناعمة الجميلة .. مد يده نحو شعرها ليتحسس خصلاته الذهبية الحريرية .. ثم لمس بظهر سبابته وجنتها .. ومررها عبر خدها وصولا نحو فمها المرتعش ..
تسارعت خفقات قلبها .. واحست به يكاد ينفجر من ثقل الأحاسيس التي ملاته .. لم تشعر يوما بكل هذا الضعف نحو أي إنسان .. أبدا لم تعرف كيف تفقد الانثى كل إرادة وتعقل أمام لمسة رجل حتى هذه اللحظة
أبدا لم تظن نفسها قادرة على أن ترغب رجلا بهذه القوة قبل الآن
قال بصوت عميق :- يثير جنوني .. يربكني ويضعفني .. وقد أقسمت يوما على ألا أسمح لأي شيء أو أي شخص بأن يفعل هذا بي
أحست بأنه يكره مشاعره نحوها .. ورغبته القوية بها .. أحست بالشفقة والحزن عليه .. هو الرجل القوي القاسي .. الذي يخفي داخله حنان الابن والأخ وحتى ابن الأخت .. هو الذي عانى من طفولة مريرة فأقسم على ألا يكون ضعيفا مجددا .. وجد أخيرا نقطة ضعفه الوحيدة .. هي
رفعت يدها نحو صدره لتلمس عبر قميصه المفتوح عضلاته القاسية .. وتغوص بين الشعيرات الناعمة الكثيفة .. أحست بأنفاسه تضطرب .. ونبضات قلبه تتسارع تحت أناملها
همست :- أنا آسفة .. ما الذي أستطيع فعله لمساعدتك ؟
تمتم :- تستطيعين فعل الكثير
شهقت بإثارة عندما عرفت ما ينوي فعله .. دنا منها ببطء حتى لامست شفتيه شفتيها... وقبلها
انتفض جسدها وكأن تيارا كهربائيا عبر من خلاله .. أظلمت الدنيا من حولها واختفت معالمها .. وأصبح عالمها كله محصورا في الأحاسيس القوية التي انتابتها عندما ضمها بين ذراعيه وقربها من صدره حتى التصقت به ..
ازدادت حرارة قبلاته حتى كاد قلبها يتوقف من فرط الانفعال .. انتابها خوف شديد مفاجئ .. فتراجعت مبتعدة عنه وهي تشهق بعنف .. ولكنه ما كان ليسمح لها بالانسحاب .. ليس وقد اقترب إلى هذا الحد من نيل مأربه
همس لها برقة :- لا تخافي .. سأعتني بك جيدا
الحنان والشغف المطلين من عينيه جعلا عبارة أحبك تكاد تقفز من بين شفتيها .. فعضت عليهما بقوة كي تكبح اعترافها المذل .. فمرر أنامله عليهما مانعا إيها من أذيتهما .. ثم أحنى رأسه ليتناولهما بين شفتيه .. فيسحقهما بقبلاته
في تلك اللحظة .. وعندما أزاحت أنامله حمالات قميص نومها الرقيقة .. فقدت أماني كل خيار أمامها .. وانهارت مقاومتها .. وانهار معها كل أمل لها في الحفاظ على ما تبقى من سيطرتها على حياتها



الفصل الخامس والثلاثون
لا .. بعد فوات الأوان

تسلل ضوء الفجر الخافت بخجل من خلال الستائر الحريرية المنسدلة مبددا شيئا من ظلام الغرفة .. مما أتاح لهشام الفرصة لتأمل وجه أماني النائم بسلام
لا .. لم يكن السلام هو المرتسم على الملامح الناعمة للوجه الجميل .. مازال يذكر تجاوبها الفطري مع لمساته خلال الليلة الماضية .. اللون الداكن الذي كسا عينيها التين فاضتا بالعاطفة والشوق .. قبل ان تسيل دموعها مترافقة مع نشيج مكبوت لم يعرف إن كان ناتجا عن العاطفة أو الندم
أماني التي أصبحت زوجته منذ ساعات قليلة .. كانت كما توقع تماما .. تحت الواجهة الباردة و المتماسكة .. كانت امرأة حساسة جائعة إلى الحب والحنان .. إلا ان أشباحها الخاصة ما زالت تطاردها .. تساءل إن كان سيتمكن يوما من تحريرها أخيرا من عقدها ومخاوفها
تململت بين ذراعيه .. فقربها منه أكثر وكأنه أراد الشعور بقربها .. وبدفء جسدها ونعومته قبل أن تستيقظ .. وتستعيد قوقعتها الصلبة التي تحجب جوهرها الحقيقي عن الناس .. جوهرها الذي اكتشفه بنفسه بعد أشهر من معرفتها عن قرب .. وبعد ليلة الأمس
أفاقت اماني من نومها بقلق مع إحساس بثقل يجثم فوق خصرها .. فتحت عينيها بخوف لتجد نفسها بين احضان هشام المستغرق في النوم إلى جانبها .. قريبا منها إلى حد شعورها بدفء أنفاسه .. نظرت إليه بعينين واسعتين وقد حبست انفاسها خشية إيقاظه .. بدا وسيما للغاية وقد استرخت ملامحه القاسية لأول مرة .. لاحظت عن قرب طول وكثافة رموشه الداكنة .. فمه القاسي كان مسترخيا .. فتذكرت ليلة الأمس .. تذكرت قبلاته ولمساته الحارة .. تذكرت إحساسها بانها محبوبة ومرغوبة .. وكيف غلبها إحساسها بالحب نحوه حتى فاضت دموعها
والآن وهي تنظر إليه .. وتشعر بنبضات قلبه قريبة من قلبها .. أحست بحبها نحوه يخنقها .. وكادت دموعها تفيض مجددا لو لم تتماسك حتى لا توقظه .. فهي ليست جاهزة لمواجهته .. ولن تكون حتى تتمالك نفسها كي لا يكتشف حبها العميق له .. إن لم يكن قد اكتشفه بعد
تصلب جسد اماني واتسعت عيناها ذعرا .. يا إلهي كم هي حمقاء .. ألن يكتشف مقدار حبها له بعد ما حدث ليلة الأمس ؟
عندما لمسها وقبلها .. لم تقاومه على الاطلاق .. لم تقل حتى كلمة لا التي تعهدت بترديدها كلما نظر إليها
لقد استسلمت له وكأنها كانت في انتظار لمساته
لقد عرف بحبها له .. فما الذي سيفعله بعد ذلك ؟
هل ستسمح له بأن يستغل حبها ويستمتع بجسدها كما فعل ليلة الأمس حتى يقرر بأن الوقت قد حان ليتحرر منها .. ويتزوج بأخرى يكن لها مشاعر حقيقية هذه المرة ؟
كيف سيحتمل قلبها فراقه بعد أشهر من الحياة في الجنة معه ؟ أي امرأة ستكون في نظره إن تركته يستخدمها كما يشاء قبل أن يصرفها في النهاية ؟.. هل ستتمكن من خسارة احترامه لها فوق خسارتها له هو ؟
عند هذه الفكرة .. تحركت لا إراديا منتزعة نفسها من بين أحضانه .. مما أجفله وأيقظه .. فتح عينيه الناعستين ونظر إليها وهي تعقد الروب حول جسدها إلى جانب السرير .. وقد بدا عليها الاضطراب .. سألها بقلق :- ما الأمر ؟ ما الذي حدث ؟
نظرت إليه قائلة انفعال :- ما الذي حدث ؟ هذا ما حدث بالضبط
تقلص وجهها باشمئزاز وهي تشير نحو السرير .. فاعتدل جالسا وهو يقول بتوتر :- اهدئي يا أماني .. أهو كابوس جديد
مرأى النصف العلوي من جسده عاريا جعل الذكريات الساخنة تنساب داخل عقلها بغزارة .. جف فمها .. وسرت الحرارة داخل جسدها وهي تبعد عينيها عن كتفيه العريضين وعضلاته المفتولة .. وصاحت يثورة :- وهل هناك كابوس أبشع مما حدث بيننا .. أنت تعرف بأنني لم أرغب بهذا .. لم يكن هذا أبدا ضمن اتفاقنا
اختفى قلقه بلمح البصر .. وحل محله البرود الشديد .. عيناه الداكنتين قستا وخلتا من العاطفة التي أحرقتها ليلة الأمس .. قال ببرود :- لم ترغبي به .. ولكنني لا أذكر أنني سمعت منك كلمة لا في أي مرحلة خلال الليلة الماضية .. أما عن اتفاقنا ..
أزاح البطانية لينهض .. فأشاحت بوجهها بعيدا وقلبها يخفق بدوي أشبه بقرع الطبول .. سمعت حفيف ثيابه فعرفت بأنه يرتديها على عجل .. بينما يقول بلهجته القاسية :- لقد كنت واضحا معك يا أماني .. أنا لم أعدك بزواج عذري .. لقد شرطت أي تطور قد يحدث في علاقتنا بقبولك .. وأنت كنت أكثر من راضية عندما لمستك
احمر وجهها .. واشتعل غضبها من نفسها ومن ضعفها .. ومن سقوطها في هذا المأزق .. نظرت إليه فوجدته قد أنهى ارتداء سرواله الأسود .. ووضع قميصه على كتفيه دون أن يغلق أزراره .. هيئته الفوضوية .. والغير مألوفة .. منحته جاذبية بدائية صارخة .. عززتها ذكرياتها عن علاقتهما الملتهبة ليلة الأمس .. تفجر التوق إليه داخلها عنيفا بحيث دفعها للصراخ بدفاعية :- فلتعلم إذن بأن ما حدث ليلة الأمس .. لن يتكرر مجددا على الإطلاق
رمقها طويلا بنظراته الباردة .. التي شملتها من رأسها حتى أخمص قدميها مستخدما ما لديه من تأثير وسلطة في تقليص ثقتها بنفسها .. وتعزيز إحساسها بالدونية
تكلم أخيرا بهدوء شديد ..:- لقد حصلت في النهاية على ما أريد .. صحيح ؟ .. فلماذا قد أرغب بتكراره ثانية
تحركت أصابعه لتغلق أزرار قميصه ببطء .. بينما علت فمه ابتسامة قاسية وهو يقول بازدراء :- عودي إلى شرنقتك يا أماني .. أنا لن ألمسك مجددا حتى لو توسلت إلي أن أفعل
غادر الغرفة تاركا إياها وحدها ... تتخبط شبه باكية بين مشاعر الصدمة .. والألم .. والغضب .. والندم العميق

ithran sara
2015-06-23, 12:33
الفصل السادس والثلاثين
تمـــام

وقفت جودي على الرصيف تنظر نحو المبنى القديم الذي توسط الحي المعروف .. والذي يمثل قلب المدينة .. بالكاد كانت واعية لأجساد المارة التي أخذت تصطدم بجسدها الجامد في إحدى ساعات الذروة حيث احتشد الناس فوق الأرصفة يتصارعون بين المتاجر الصغيرة .. كل يمضي في حاله يسعى لكسب رزق أو قضاء حاجة
بينما كان عقلها مركز تماما نحو المبنى القديم الذي علا متجر الأحذية البسيط .. ونحو الطابق الرابع بالذات
ما الذي جاء بها إلى هنا ؟ هل حقا قادت سيارتها من منزلها إلى هنا بهدف لقاء تمام ؟
منذ انفصالها عن طارق وهي عاجزة عن نزعه من عقلها وتفكيرها .. شوقها إليه يكاد يخنقها إلى حد عدم قدرتها على التماسك أكثر
كانت قد قررت إخراجه من حياتها كما فعلت مع طارق بالضبط .. ولكنها بعد مرور أسابيع .. تتساءل عما سيفعله لو عرف بانها قد تركت طارق أخيرا
هل سيفرح لخلو الطريق امامه لبناء مستقبل معها ؟ .. ام انه سيستغل الامر هذه المرة حتى النهاية منتهزا فرصة خلو حياتها من القيود ؟
أيهما تمام الحقيقي ؟ الرجل الرومانسي الرقيق الفائض بالعاطفة .. المتفهم و المستمع الجيد ؟ أم الشاب المستهتر الذي لم يحاول حتى إخفاء عبثه عنها ؟
مهما كان قرار عقلها فإن قلبها لم ينصع إليه .. لقد وجدت نفسها مرارا تذهب إلى المطعم حيث يعمل ..تارة وحيدة وتارة برفقة اصدقائها .. دون ان تراه او تعرف عنه شيئا .. وعندما كانت تسال أحد العاملين في المطعم عنه .. كان يقول ببساطة :- إنه لا يأتي إلى هنا هذه الأيام .. قد تجدينه في أحد الفروع الاخرى للمطعم ..
لم تعرف بانه يوزع عمله بين الفروع الكثيرة للمطعم و المتناثرة في انحاء البلاد .. ولكنها عوضا عن ملاحقته بين المطاعم .. وجدت نفسها تختصر الطريق .. وتقف هنا على بعد أربع أدوار عنه
جزء منها احتاج إلى رؤيته .. إلى النظر في عينيه لمرة أخيرة .. لتعرف بشكل مؤكد هذه المرة حقيقة مشاعره نحوها .. وإن كان لايزال يهتم لأمرها .. ام أنه قد نزعها من قلبه إلى الأبد
خطت إلى مدخل المبنى الباهت الإنارة .. واعتلت الدرج القديم متحاشية الأطفال المتراكضين صعودا ونزولا غير عابئين بخطورة لعبهم .. الجارات التقليديات توقفن عن تبادل الأحاديث السريعة عبر الأبواب المتقابلة .. وهن ترمقنها بفضول وريبة .. لم يكن مظهرها شبيها بمظهر ساكنات هذه المنطقة .. لقد بدت في غير مكانها بملابسها العصرية ورأسها العاري ..ولكنها لم تبالي .. تابعت الصعود وقلبها يخفق بعنف ترقبا للقاء تمام .. وقفت عند باب شقة بني اللون .. قرات على بطاقة صغيرة كتب عليه اسم ( ماجد محفوظ ) ..أهو اسم والده ..؟ ما أقل ما تعرفه عن الرجل الذي تحب .. أجفلها صوت صراخ رجل قادم من الطابق العلوي .. وبكاء طفل قريب .. فترددت للحظات قبل أن تستجمع شجاعتها وتقرع الجرس أخيرا ..
خمس عشرة ثانية مرت بالضبط قبل أن يفتح الباب ويطل تمام من خلفه .. أهذا تمام حقا ؟ الرجل الذي سكن خيالها لأشهر عديدة كان يبدو مختلفا بهيئته المشعثة .. شعره الناعم كان يتدلى بلا ترتيب فوق جبهته ..ذقنه داكنة اللون بسبب لحية لم تحلق منذ يومين على الأقل .. هالات سوداء أحاطت بعينيه البندقيتين الجميلتين .. ثم لاحظت نحول بنيته القوية الظاهرة من قميصه الأبض المجعد والمفتوح الأزرار .. وسرواله الجينز القديم الحائل اللون
والغريب أنه لم يكن يوما اكثر جاذبية لعينيها
بدت الصدمة جلية على وجهه وهو يراها واقفة أمام باب شقته .. التهمها بعينيه للحظات سريعة .. قبل أن يرمش عدة مرات ليتخلص من صدمته قائلا بغلظة :- ما الذي تفعلينه هنا ؟
قالت بشجاعة :- جئت لأراك بما انك ترفض الإجابة عن اتصالاتي .. كما انك لم تذهب إلى المطعم منذ فترة .. قدومي إلى هنا كان الحل الوحيد
شحب وجهه وهو يترك الباب .. ويلوح بإصبعه في وجهها وقد أطلت من ملامحه علامات الغضب الشديد :-
:- كيف تجرؤين .. يا إلهي بل كيف تستطيعين أن ......
بتر ما كان سيقوله عندما ألقى احد جيرانه عليه السلام وهو يمر إلى جانبهما نزولا على الدرج .. ما إن اختفى الرجل حتى أمسك تمام بمعصمها وبغتة وسحبها إلى داخل شقته مغلقا الباب خلفه .. استدار نحوها صارخا بغضب :-
:- هل جننت كي تأتي إلى هنا غير عابئة بما سيقوله سكان المبنى ؟
نظرت حولها في أرجاء الشقة البسيطة
كانت قليلة الأثاث .. إلا أنها تمتاز بالأناقة والعملية .. تناثرت بعض أغراض تمام هنا وهناك .. سترة جلدية .. كتب مبعثرة فوق طاولة القهوة .. صور عائلية مؤطرة موزعة بين الجدران بذوق ..عادت تركز انتباهها عليه قائلة بوقاحة :- ومنذ متى تهتم بما يقوله الآخرون
قال من بين أسنانه :- عليك اللعنة .. سمعتك هي ما كنت افكر به .. ما الذي سيقوله الجيران عند رؤيتهم لك تزورين شقة رجل غريب في وقت .
.....قطع كلامه وقد غلبه الانفعال .. ثم هتف بها :- تبا لك .. ما الذي جاء بك إلى هنا ؟
قالت بتوتر :- جئت لأراك .. أنت لم تترك لي خيارا آخر .. فانا أتصل بك منذ أيام أملا في أن تجيب ولو لمرة عن اتصالاتي .. كان علي ان أراك .. أن أتحدث إليك
شد على قبضتيه وكانه يمنع نفسه من ضربها بصعوبة .. ولكنها و يا للعجب .. لم تكن خائفة .. هناك جزء داخلها كان على استعداد لتحمل أي رد فعل منه مهما كان عنيفا أو متطرفا .. مقابل فقط ان تحس ببعض التواصل معه
قال بغضب شديد :- ولماذا بالله عليك قد أجيب عن اتصالاتك .. لماذا قد أرغب بسماع أي شيء عنك بعد ما فعلته بي ... أنا لا أستمتع بتعذيب نفسي يا جودي وقد أوضحت بنفسك قبل الآن رفضك التام لي
هتفت بعجز :- تمام .. أنا أعرف بأنني قد جرحتك ولكن ...
هتف باستنكار :- جرحتني .. جرحتني يا جودي .. لقد انتزعت قلبي من صدري ورميته للكلاب .. لقد لحقت بك مرة بعد مرة .. وبذلت الجهد الكبير في محاولتي اليائسة لإقناعك بحبي لك .. ولكنك أثبتت لي مرارا بأنك الفتاة السطحية والمدللة التي لم أصدق بأنك هي .. لقد ظننت حقا بأنك أحببتني ولو قليلا ولكنني كنت مخطئا
كل ذلك الوقت الذي قضيناه معا كان مجرد وقت مستقطع في حياة الأميرة الصغيرة المدللة .. ليس من حقي صب اللوم عليك لأنني أنا من كان أحمقا ومغفلا وأعمى في حبه لك
طعنتها كلماته في الصميم .. أحست بأنها تتمزق من الداخل لما سببته له من ألم بأنانيتها وترددها .. اعترافه العاصف بحبها .. وبخذلانها له جعلا الدموع تتدفق من عينيها وهي تهز رأسها قائلة :- أنت تعرف جيدا بأنني احببتك يا تمام .. أحببت كل لحظة قضيناها معا .. ومازلت أحبك رغم كل شيء
أخذ يتحرك في أنحاء الشقة الصغيرة كالنمر الحبيس وهو يقول :- وما الذي تريدينه الآن .. هه .. أن نستمر في اللقاء من خلف ظهر خطيبك المحترم .. أن أقوم بدور العاشق الولهان لأعوضك عما يحرمك منه ببروده وجفافه
نظر إليها فجأة بشراسة .. وعيناه تلمعان وهو يقول :- أهذا ما جاء بك إلى هنا .. الإحباط بسبب تجاهل زوج المستقبل لك .؟ هل تحتاجين خدماتي العاطفية لأعيد إليك ثقتك بنفسك وأشعرك بأنك محبوبة ومرغوبة ؟ إن كان هذا ما جاء بك فلا تعتمدي على نبل اخلاقي .. لأنني لست شريفا بما يكفي لأرفض عرضا مغريا كهذا .. الآنسة تريد الحب .. وستحصل عليه
لم تستوعب معنى كلماته حتى امسك بها فجأة وجذبها إليه .... ارتعشت في البداية شوقا لإحساسها بقوة ذراعيه ودفء صدره .. وعندما غمرتها رائحته الرجولية .. ولكنها صحت من غفوتها فور أن جذبت اصابعه شعرها الناعم بقسوة .. وأحنى رأسه نحوها ليقبلها بوحشية .. قاومته بعنف ويأس وهي تصرخ بذعر :- لا يا تمام .. لا تفعل هذا ارجوك
وفي خضم صراعها المستميت معه .. ومقاومتها الضارية .. تركها فجأة فاندفع جسدها إلى الوراء بقوة مما أسقطها على الأرض
نظر كل منهما إلى الآخر .. هي مذعورة منه كالفأر حين يحاصر في الزاوية .. وهو مذهول من بشاعة تصرفه .. نظرت إلى عينيه الناريتين .. وصدره الذي تسارعت انفاسه .. لا .. هذا ليس حبيبها تمام .. فهو ليس بهذه القسوة والوحشية .. حبيبها الذي تذكر كان ساحرا ورقيقا .. ورومانسيا .. هل دمرت هي بجبنها وترددها كل ما تبقى داخله من حب لها ؟
دون إنذار تفجرت الدموع في عينيها .. تبعها نشيج باكي .. اضطرب تمام .. واهتز كيانه لمرأى دموعها .. وعندما ارتفعت وتيرة بكائها .. انتفض واقترب منها قائلا باضطراب :- أنا آسف .. أنا آسف يا حبيبتي
جثا إلى جانبها .. فابتعدت عنه بخوف غريزي .. ولكنه امسكها هذه المرة بحزم لطيف وسحبها نحو صدره .. بحنان هذه المرة .. فلم تملك إلا ان تدفن وجهها بين طيات قميصه وتتشبث به باكية .. وهي تسمع صوته الأجش يقول بانفعال :-
:- سامحيني أرجوك .. يا إلهي .. لم أرغب قط بان أؤذيك .. ولا أستطيع احتمال رؤيتك تبكين
نعم .. هذا هو حبيبها القديم يعود مجددا .. ضمت نفسها إليه كالطفلة المشتاقة إلى حضن والدها .. بينما اخذ هو يمسد شعرها وظهرها برفق ليشعرها بحنانه ودفئه .. أبعدها عنه أخيرا .. ونظر إلى وجهها الناعم المغطى بالدموع .. فرات بدورها الدموع الحبيسة في عينيه وهو يهمس :- لو تعلمين كم اشتقت إليك .. لم اتوقف عن التفكير بك لحظة واحدة .. بل انا لم أنم ليلة كاملة منذ تركتني
هزت رأسها هاتفة بصوت طفولي :- لن أفعل مجددا .. أعدك
قبل وجنتيها وعينيها .. بشكل مختلف هذه المرة .. بحب وحنان وكأنها فعلا المرأة الوحيدة التي يحب ويرغب
وكانه يهتم لها فعلا ولا يستغلها كما ظنت دائما .. نظرت إلى عينيه هامسة :- تمام
كان عليها ان تستجمع كل قواها كي تتذكر ما جاءت لأجله .. كررت عندما لاحظت بانه لم يسمعها :- تمام .. انظر إلي
نظر إلى وجهها القلق قائلا :- ما الأمر يا حبيبتي ؟
ترددت لثواني قليلة قبل ان تقول :- إن فسخت خطوبتي من طارق .. فهل تتقدم لخطبتي ؟
تصلب جسده بين يديها .. وخلال لحظة كان قد انسحب بعيدا عنها .. وقف إلى جوار النافذة مديرا لها ظهره .. بينما اعتدلت هي واقفة وقلبها يخفق بقوة قلقا واضطرابا ..
أتاها صوته بعيدا وجافا وهو يقول :- لقد سبق وأخبرتك يا جودي بانني لن اكون أبدا بديلا لرجل آخر .. وقطعا لن أكون بديلا لخطيبك
أحست بالألم هذه المرة شديدا بحيث كادت تفقد القدرة على التنفس .. ما الذي توقعته ؟.. منذ عرفته وهو يتبجح بحبه لها دون أن يشير ولو لمرة إلى المستقبل .. ألم تكن محقة في إخفاء خبر فسخ خطوبتها عنه ؟ لقد كان ليأخذها بين ذراعيه ويغمرها بعاطفته وهي ما كانت لتتمكن من مقاومته .. وماذا بعد ؟ كيف كان سينتهي حبهما ؟
كان لايزال واقفا مكانه .. رافضا النظر إليها .. فبذلت جهدا عظيما لتكبت ما تشعر به من انهيار وهي تقول بجمود :- ليس هناك ما يقال بيننا أكثر يا تمام .. آسفة على إزعاجك بزيارتي .. وأعدك بأنك لن تراني مجددا
لم تعرف كيف تحركت نحو الباب .. فتحته وخرجت .. وأغلقته خلفها بهدوء شديد .. لم تبالي بما يظنه الناس وهو يرونها تغادر شقة رجل عازب والشحوب يعلو وجهها والدموع تغشي عينيها .. لم ترهم حقا وهي تنزل الدرج دون أن تتعثر أو تسقط بمعجزة
وعندما وصلت إلى سيارتها .. واحتمت داخلها من عيون الآخرين .. أجهشت بالبكاء


الفصل السابع والثلاثون
جذب وشد

طرقت أمانيي باب مكتب هشام ودخلت بهدوء عندما دعاها صوته للدخول .. كان يملي شيئا على سكرتيرته الصغيرة والانيقة ويوجه لها بعض التعليمات .. قبل ان ينظر إليها قائلا :- اقتربي يا اماني
ابتسمت لها السكرتيرة وحيتها بتهذيب أثناء خروجها من المكتب وإغلاقها الباب وراءه تاركة إياهما في خلوة عن العالم الخارجي
لم تستطع منع نفسها من القول بتهكم :- أظنها تتوقع لقاءا عاطفيا حارا بين عروسين جديدين في منتصف النهار
لم يبتسم .. بل قال ببرود :- و أنت لا تدخرين جهدا في إقناع الآخرين بالعكس
توترت وقابلت نظراته القاسية بصلابة ..لقد مضى على زواجهما 3 أسابيع كاملة .. بالكاد كانت تراه خلال النهار .. وفي المساء كانا يجبران على تناول العشاء برفقة والدته .. فكان يظهر لها كل الاهتمام أمام أنظار والدته الثاقبة .. يطعمها بيده ويناديها بأسماء التحبب مجبرا إياها بنظراته التحذيرية على الابتسام له والتظاهر بالسعادة .. وفور صعودهما إلى شقتهما كان يستأذن بأدب ويغادر عائدا إلى مكتبه .. بينما تبقى هي وحيدة تنتظر في غرفتها حتى عودته بعد منتصف الليل .. فتستمع إلى خطواته .. والضجيج الخافت الذي يصدره بتحركاته .. فتحبس أنفاسها متسائلة إن كان سيطرق باب غرفتها مطمئنا عليها كما حدث في ليلتهما الأولى كزوجين .. فيخيب أملها بالصمت التام الذي يخلفه في الشقة بع خلوده إلى النوم
لم يلمسها مجددا منذ ثورتها صباح زفافهما .. لم يقترب منها أو حتى ينظر إليها بتلك العاطفة العميقة التي ألهبتها تلك الليلة.. في الواقع .. بالكاد ابتسم لها إلا في حضور الآخرين .. هل خمدت رغبته بها ؟ هل أحس بالندم أخيرا على اقترانه بها ؟ هل يفكر بتعجيل انفصالهما وقد اختفى صلاح تماما من حياتها ولم يعد يشكل أي خطر عليها ؟
كل ليلة كانت تسهر فوق سريرها العريض .. تتذكر تفاصيل ليلتهما الوحيدة معا .. وتتساءل بمرارة إن كانت ستنسى يوما ما أحسته بين ذراعيه .. أو أنها ستتوقف عن الشوق إليه بعد انفصالهما ؟
كرامتها وكبريائها القديمين أجبراها على إخفاء مشاعرها عنه .. ولم تدرك مدى نجاحها حتى هذه اللحظة عندما نهض من خلف مكتبه متجها نحوها بينما قالت بتوتر :- لا أفهم ما تقصده
قال ببرود :- بل تفهمين ما أقوله جيدا يا أماني ..كلما اقتربت منك أو حتى تواجدت معك في مكان واحد تتشنجين وتتوترين وكأنك خائفة من أن أقفز عليك وأغتصبك في أي لحظة
احمر وجهها وهي تقول بانزعاج :- لم أفكر بهذا
قال بصرامة :- لم تفكري بهذا ولكنك تظهرينه لكل ناظر إليك .. أتعلمين ما قالته لي والدتي ليلة الأمس ؟ لقد أعربت عن قلقها نحوك بسبب توترك وعدم ارتياحك وكأنك تخفين شيئا .. لقد ظنت بأن شجارا عنيفا قد دار بيننا وأننا نحاول إخفاءه عنها بتعاملنا المهذب أمامها
قالت بعصبية :- لا حيلة لي إن كنت ممثلة فاشلة .. لا أستطيع إظهار مشاعر لا أحس بها حقا .. سأبدو متصنعة ومبتذلة
قال بغلظة :- ستبدأين بالتدريب من الآن فصاعدا .. لقد كنت واضحا معك يا اماني .. أمي يجب ألا تعرف شيئا عن حقيقة زواجنا .. لقد انتظرت طويلا أن تراني مستقرا ومتزوجا ولن أسمح لك بأن تسببي لها القلق بأي شكل كان
قالت بتوتر :- أنا آسفة حقا .. آخر ما أريده هو إثارة قلق والدتك .. أنت تعرف بأنني أجبها وأهتم لأمرها كما لو كانت والدتي .. فقط أخبرني بما علي فعله وسأقوم به
قال بحزم :- اقتربي
أجفلت قائلة :- ماذا ؟
:- لقد طلبت منك أن تقتربي .. يجب أن تتعلمي أن تتوقفي عن التشنج كلما لمستك وكأنني مرض معدي .. لم تنفرك لمساتي ليلة زفافنا .. ولن تفعل الآن
نظرت إليه بارتباك فلاحظت وجوم ملامحه الوسيمة .. عيناه السوداوان كانتا تشعان بالعنف وكأنه قد فقد صبره ..وجسده الضخم كان واضح التوتر وكأنه قد بدا يتعب من علاقتهما وكل ما يتضمنها .. أحست بالخوف وأرادت الهرب .. ولكنها عرفت بأنه غاضب منها بما يكفي .. وأن أي تمرد منها لن يكون لصالحها .. اقتربت منه بتوتر حتى أصبحت على بعد خطوة .. فمد يديه يجذبها إليه لتلتصق بجسده القوي .. خفق قلبها وتسارعت انفاسها وهي تحس بدفئه ورائحة جسده العطرة .. مد يده ليدلك ظهرها برفق كي تسترخي قائلا :- أرأيت ؟ لم يكن الأمر صعبا
رفعت رأسها إليه فرات عيناه تظلمان بالعاطفة .. ووجهه يقسو وكانه يقاوم مشاعره .. ارتجف قلبها وهي تتأمل ملامحه الخشنة بشوق .. مدت يدها لا شعوريا لتتحسس ذقنه التي بدأت تنمو وهمست :- لا .. لم يكن صعبا
أحست بارتجاف جسده الضخم على إثر لمستها .. وعرفت عندما تعلقت عيناه بشفتيها بأنه سيقبلها .. يجب أن يقبلها قبل أن تتوسل إليه أت يفعل
ارتفعت طرقات الباب في هذه اللحظة لتنتزعهما من الحالة التي سيطرت عليهما فزمجر غاضبا :- ما الأمر ؟
ابتعدت أماني عنه وهي تحس بأطرافها ترتعش .. فتحت السكرتيرة الباب ولاحظت بارتباك التوتر السائد بين رئيسها وزوجته .. فقالت معتذرة :- آسفة للمقاطعة .. ولكن السيد نجيب ينتظر في الخارج .. لقد عاد لتوه من رحلته إلى موسكو .. ويقول بأن الأمر طارئ .. ويتعلق بالمعلومات التي طلبتها منه
لاحظت أماني بأن أي أثر للعاطفة قد اختفى من وجهه الذي شحب فجأة .. رغم حفاظه على صرامة ملامحه وهو يقول متمالكا نفسه :- دعيه يدخل
ثم نظر إلى اماني بدون تعبير قائلا :- عودي إلى عملك وسأراك مساءا
أومأت برأسها وهي تتجه نحو الباب لترى رجلا في منتصف الأربعينات يدخل إلى المكتب .. حاملا حقيبة أوراق جلدية وقد بدا التوتر على وجهه
غادرت مغلقة الباب خلفها بهدوء .. بالكاد تمكنت من الابتسام للسكرتيرة المحرجة وهي تسير عائدة نحو مكتبها .. وعقلها لا يتوقف عن التفكير بالرجل الذي تزوجته
الرجل الذي تحب




ابتسمت اماني وهي تراقب جودي ونورا شقيقة هشام وهما تتبادلان النكات أثناء إعدادهما المائدة في صالة الطعام الواسعة لمنزل حماتها
منذ فترة طويلة لم تر شقيقتها تبتسم وتضحك بهذا الشكل .. حتى أثناء زياراتها المنتظمة لها .. كانت تبدو حزينة ومكتئبة وكان هموم الدنيا كلها تجثم فوق كتفيها .. ورغم محاولات أماني الحثيثة لانتزاع الحقيقة منها .. فقد كانت مصرة على انها بخير .. وأنها متوعكة قليلا بسبب حساسيتها المزمنة اتجاه الربيع
قالت لها حماتها وهي تنظر بدورها إلى الثنائي الضاحك :- تبدو جودي بخير هذه الأيام
حماتها كغيرها من الناس تظن بان سبب ذبول جودي هو انفصالها المفاجئ عن خطيبها .. وحدها اماني تعرف بان الأمر يتجاوز بكثير انفصالها عن طارق .. وكأن هناك عنصر آخر له كامل التأثير في حالة جودي النفسية
عنصر ترفض جودي بإصرار التحدث عنه لأحد .. وكأن مجرد التفكير به يسبب لها الالم والمرارة
تمتمت أماني ترد على حماتها :- هذا صحيح
:- يبدو أن لنورا تأثيرا كبيرا عليها .. هل تظنينها ستقبل قضاء هذه الليلة هنا ؟؟
اعتادت السيدة لميس على دعوة جودي لقضاء الليل في منزلها لتنام في غرفة لبنة القديمة .. وكانت جودي تقبل بسرور .. وكأن عودتها إلى منزلها الكبير الفارغ تخيفها وتسبب لها الاكتئاب
قالت اماني :- لا أظنها كانت لتمانع لولا ارتباطها هذا المساء .. عرفت بأنها مدعوة إلى حفل خطوبة إحدى صديقاتها في الكلية
هزت السيدة لميس رأسها قائلة :- سيكون هذا مبهجا لها .. وفرصة أيضا ليراها العرسان .. جودي فتاة جميلة ومؤدبة وتستحق زواجا يليق بها
ابتسمت أماني ولم تعلق على وجهة نظر حماتها التقليدية .. ثم انهمكت في مساعدتها على وضع العشاء على المائدة في انتظار وصول هشام الذي دخل المنزل في تمام السادسة
حساسيتها الزائدة نحوه جعلتها تدرك بانه لم يكن بخير .. لقد كان تلقيه الترحيب من امه وأخته .. وتحيته المهذبة لجودي مجرد قناع يخفي خلفه عاصفة هوجاء .. نظر إليها قائلا بهدوء :- كيف حالك يا اماني .؟ عرفت بانك قد غادرت مبكرة
قالت حماتها بفخر :- لقد جاءت مبكرة لتساعدني في إعداد الطعام .. إنها موهوبة وسريعة التعلم وسرعان ما ستبدأ بالطهي لك بنفسها
قال متهكما :- أكاد اموت شوقا لذلك اليوم
لم تبالي بتهكمه .. بل اقتربت منه قائلة بعتاب :- وهل لديك شك في قدومه ؟ ما عليك إلا ان تتذوق ما صنعته يداي لتصدق موهبتي الفطرية
وضعت يدها على صدره بعفوية زوجة حنون .. وكأنها معتادة على لمسه باستمرار .. عرف بأنها تنفذ تعليماته الصباحية .. فاستغل الفرصة مقربا إياها منه و هو يقول باستفزاز :- سأفعل إن أطعمتني بيدك
رمشت بعينيها قائلة بدلال :- سيكون هذا من دواعي سروري
راقبتهما السيدة لميس بجذل .. بينما تبادلت نورا وجودي الغمزات الخبيثة .. فابتعدت عنه أماني وقد عرفت بأن ما أراده قد تحقق .. وأن الجميع يفكر الآن بمدى روعة علاقتهما ..
وجبة الطعام كانت ممتعة وقد تخللتها حكايات جودي عن محاولات أماني القديمة في الطبخ .. بينما عارضتها تلك ضاحكة محاولة إسكاتها بلا فائدة .. لاحظت أماني بأن هشام كان ينظر إلى امه بين الحين والآخر وقد ارتسمت في عينيه نظرة غامضة .. لم تستطع أماني تفسيرها
اعتذرت جودي للرحيل متعللة بحاجتها لتجهيز نفسها لحفل الخطوبة قائلة وهي تغمز لكل من نورا والسيدة لميس :- يجب أن أبدو جميلة كي أصطاد عريسا جيدا .. صح ؟
فور رحيلها صعد كل من هشام وأماني إلى شقتهما بصمت .. راقبته وهو يخلع سترته وربطة عنقه وهي تقول بهدوء :- تبدو مشغول البال
التفت نحوها قائلا بتهكم :- نحن وحدنا الآن يا أماني .. فتوقفي عن أداء دور الزوجة الحانية ... لقد أقنعت الجميع بمدى حبك لي .. حتى أنا كدت أشك وأصدق أداءك البارع
احمر وجهها غيظا وخجلا .. ولكنها رفضت السماح له بإحجامها .. فقد عرفت بغريزتها بأنه بتهكمه وهجومه إنما ينفس عن غضبه الدفين وهي مصرة على اكتشاف سببه .. قالت بنفاذ صبر :- بعكسك أنت الذي بدوت راغبا بتحطيم كل ركن في المنزل فوق رأسي .. ألن تخبرني بما أزعجك ؟ بما قاله لك ذلك الرجل الذي زار مكتبك على الأقل ؟
تصلب فكه وهو ينظر إليها ببرود .. فقالت :- من الواضح أن الأخبار التي جاءك بها تتعلق بوالدك .. الجميع يعرف بأنه عندما رحل اتجه إلى روسيا .. وملامح وجهك عندما استقبلت الرجل حكت القصة كاملة
قال بخشونة وهو يحل أزرار قميصه :- وبماذا يهمك الأمر؟ ما أنا إلا محطة عابرة في حياتك فلا تتظاهري بالقلق نحوي ونحو مشاعر عائلتي .. إن كنت أكره شيئا فهو النفاق يا أماني .. فتوقفي عما تحاولين فعله
وقفت في طريقه عندما أراد مغادرة الصالة قائلة بعناد :- لا أسمح لك بالتشكيك بمشاعري اتجاه عائلتك يا هشام .. أنت تعرف جيدا مدى حبي لهم واهتمامي بهم .. أنت رغم عدم تصديقك تمثل شيئا مهما في حياتي .. أنا لم أرك يوما على هذه الحالة .. ولن أتركك حتى تخبرني بما أزعجك
أمسك بكتفيها فظنت بأنه سيدفعها بعيدا عن طريقه .. ولكنه قال بعنف :- هل تريدين حقا أن تعرفي ؟ فليكن إذن ..لقد كنت محقة .. لقد أرسلت السيد نجيب ليجمع لي أخبارا عن ذلك الرجل .. لم أحتمل رؤية أمي تخلص له وتنتظر عودته يوما بعد يوم وتفكر باستمرار بقلق عن أخباره .. أرسلت أعرف عنه ما يطمئن قلبها عليه .. فأنا عن نفسي لا أهتم إن كان حيا أو ميتا .. ولكنني أيضا كنت فضوليا اتجاه حياة الرجل الذي دمر حباتنا ورحل بعيدا تاركا إيانا نتخبط بين نتائج أعماله .. أتعلمين ما عرفته ؟
اتسعت عيناها عندما احمرت عيناه غضبا .. وازدادت ملامحه قسوة .. تركها وتراجع عنها قائلا بمرارة :-
:- لقد بنى لنفسه حياة جديدة هناك بأموال الناس التي سرقها .. أسس عملا محترما وتزوج بامرأة أخرى وأنجب منها أطفالا .. أتصدقين هذا ؟ أنا لدي أخوة لا أعرفهم في سن الدراسة .. والمفاجأة هي أنه كان لهم طوال السنوات السابقة مثالا للأب الفاضل والحنون .. ناسيا أي شيء عن عائلته الأخرى التي نبذها ورماها وراءه
نظر إليها بإرهاق قائلا :- لقد كنت آمل أن أعرف شيئا عن تعاسته .. ندمه العميق .. حياته الفارغة هناك في الغربة نتيجة ما فعله .. ماذا سأخبر أمي الآن ؟ كيف سأخبرها بأن زوجها الذي انتظرته لسنوات قد نسي أمرها تماما وتجاهل حاجتها وحاجة أبنائها إليه .. وأنه قد تزوج بأخرى وأنجب منها .. بل ومنحها الحياة التي عجز عن تقديمها لها هي
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تراقب تعاسته فهمست :- أنا آسفة يا هشام .. أنا حقا آسفة
قال بجفاف :- بما أنك قد أرضيت فضولك الآن .. هلا ابتعدت عن طريقي .. أرغب بأخذ حمام سريع قبل عودتي إلى العمل
وقبل أن يختفي خلف باب غرفته .. التفت نحوها قائلا بسخرية :- وبما أنك تمرين بحالة خاصة من التفهم الزوجي .. فلتقومي بعمل مفيد وتحضري لي لوح صابون جديد
أغلق الباب خلفه .. فتمنت بألم لو تجد طريقة تخفف فيها عنه آلامه .. ليتها تستطيع الإفصاح له عن مشاعرها .. عله يسمح لها باحتضانه على الأقل وبثه دعمها وتعاطفها
ذهبت إلى المطبخ شاردة الذهن لتحضر من الخزانة صابونا من النوع الذي يستعمله عادة .. والمصنوع من زيت الغار الممزوج بزيت الزيتون .. تنشقت الرائحة العطرية للصابون فتذكرت رائحة جسده التي غمرتها عندما ضمها إلى صدره صباحا داخل مكتبه .. فتساءلت إن كان شوقها إليه سيخف في يوم من الأيام
دخلت إلى غرفته .. وعبرتها متجهة متجاهلة ملابسه المرمية بلا اهتمام فوق السرير العريض .. لقد اعتادت على دخول غرفته في غيابه وتأملها كما لو أنها تتخيله فيها .. تتلمس ملابسه .. وتشتاق إليه
كبتت أحاسيسها وهي تتجه نحو باب الحمام الموارب .. اضطربت لسماعها صوت الماء الجاري .. وتخيلته واقفا تحت سيل المياه الدافئة فجف فمها .. وتوتر جسدها بأحاسيس الشوق .. صاحت بصوت مختنق :- هشام .. لقد أحضرت لك الصابون
لم تسمع ردا .. فدفعت الباب ببطء .. وارتعشت لمرأى خيال جسده الطويل خلف زجاج حجرة الاستحمام المموه .. فأشاحت ببصرها وقد تسارعت نبضات قلبها .. عادت تقول :- هشام
سمعت صوت باب حجرة الاستحمام يتحرك .. فلفحتها الأبخرة الساخنة .. وأصابها رذاذ الماء الدافئ .. فمدت يدها المرتعشة بالصابون نحوه وهي تتمنى أن تخرج بسرعة كي ينتهي عذابها
وبدلا من أن يأخذ منها اللوح .. أمسك بمعصمها .. وجذبها إلى داخل الحجرة الصغيرة فانتفضت صارخة عندما غمرتها المياه من رأسها حتى أخمص قدميها مبللة شعرها وثيابها .. صرخت مذعورة :- ما الذي تظن نف......
لم تستطع إكمال عبارة الاستهجان إذ كتمت شفتاه فمها بقبلة ضارية .. جعلت جسدها ينتفض بين ذراعيه المتملكتين .. ارتفعت يداها تلقائيا نحو كتفيه العريضتين المبتلتين لتحس بعضلاته .. وقوة جسده ...
قبلاته الوحشية والمتملكة لم تسمح لها حتى بالتفكير إذ سرت الحرارة كاللهب في كل خلية في جسدها ... وغلبها الشوق الخالص وهي تبادله قبلاته بنفس اللهفة .. تركها للحظات ناظرا إلى وجهها اللاهث ... سامحا لها هي الأخرى برؤية الرغبة الوحشية والتصميم في عينيه السوداوين .. ارتعشت هامسة :- هشام
أحس برائحة الاعتراض تكاد تفوح منها .. فزمجر هاتفا بخشونة :- تجرأي وقولي لا
بيدين قاسيتين أمسك بطرفي قميصها ومزقه بحركة واحدة .. وضمها إلى جسده بعنف دون أن يسمح لها بالتفكير بالهرب منه .. دون أن يدرك بأنها ما كانت أبدا لتقول لا

ithran sara
2015-06-23, 12:35
الفصل الثامن والثلاثون
الكاذب
أقيم حفل خطوبة دنيا في أحد المطاعم الراقية المعروفة في المدينة ... نعم .. لقد كان أحد فروع ذلك المطعم الذي قابلت فيه جودي تمام أول مرة
رغم اختلاف المكان .. وجدت هي في تشابه الديكور الأنيق والمميز للمطعم تحفيزا قاسيا لذاكرتها .. حاولت جاهدة تجاهل ذكرياتها وآلامها الخاصة .. وتذكير نفسها بأن المطعم محجوز بأكمله هذه الليلة لإقامة حفل الخطوبة .. وأنها لن ترى تمام فجأة جالسا على المنصة .. يحتضن غيتاره بحزن مؤديا أروع الألحان .. لا ..لن تراه الليلة وإلا ما جرؤت على حضور حفل خطوبة إحدى أقرب صديقاتها
ركزت انتباهها على نجمة الحفلة التي رأتها فور دخولها فتركت خطيبها الوسيم وأسرعت نحوها وهي تجر ورائها فستانها البنفسجي الطويل لترحب بها قائلة بحرارة :- أهلا بك يا جودي .. لقد خشيت أن تتخلفي عن الحضور . تبدين رائعة الجمال هذه الليلة
لم يفت جودي وميض الشفقة الظاهر في عيني دنيا .. لقد شاع خبر خطوبتها المفسوخة في كل مكان .. والجميع ينظر إليها بعين الشفقة وكأن طارق هو من أنهى الخطوبة لا هي
الحقيقة أنها كانت تبدو جميلة بالفعل .. بفستانها الأبيض المطرز بنعومة .. والذي لائم جسدها الرشيق وكأنه قد فصل خصيصا له .. وشعرها الكستنائي المرفوع فوق رأسها بتسريحة بسيطة إنما أنيقة .. أظهرت تقاسيم وجهها الجميلة
دنيا أيضا بدت مدهشة وقد سبغ الحب والسعادة عليها جمالا إضافيا .. قالت جودي باسمة :- ما كنت لأفوت على نفسي مناسبة كهذه .. أنت أيضا تبدين رائعة
أمسكت دينا بيدها قائلة :- تعالي لأعرفك بوالدي وبرامز .. وأحذرك بأنني أنتظر سماع رأيك الصريح بكل شيء في الحفلة
قالت جودي بخبث وهي تسير خلفها :- تريدين رأيي بالحفلة أم في زوج المستقبل ؟
ضحكت دنيا دون أن تعلق .. وسرعان ما وجدت جودي نفسها تندمج مع باقي المدعوين .. وتستمتع بوقتها برفقة مجموعة من زملاءها في الكلية .. من ضمنهم كانت ريما موجودة برفقة بشار .. وقد بديا في غاية السعادة معا .. وكأن تبرؤ والدها وامتعاض المجتمع من هروبهما وزواجهما لا يؤثر بحياتهما الزوجية الجديدة على الإطلاق
لم تنقطع الاتصالات بين جودي وريما بعد زواجها .. ولكن حديثها الدائم عن مدى سعادتها مع بشار كان يسبب الغيرة القاسية لجودي .. ورغم محاولات ريما الدائمة لمراعاة شعورها بعد تركها لطارق .. كانت تنزلق أحيانا بالكلام فتندفع في حديث متحمس عن حياتها الجديدة الرائعة ..لدقائق طويلة نسيت جودي كل همومها .. وتركت نفسها تنقاد خلف عبث أصدقائها البريء وتضحك من قلبها على نكاتهم المرحة .. حتى عادت دنيا لتجذبها من مرفقها وتسحبها من مجموعتها قائلة :- لا تضيعي الوقت مع هؤلاء البلهاء .. تعالي أعرفك بعزاب عائلتي .. أعدك بأنك لن تخرجي من هذه الحفلة إلا وقد نسيت أمر طارق تماما .. مع ثقتي بأن كل من سيراك سيقع فورا في هواك .. هه .. ابن عمي أحمد يقف هناك مع بعض أفراد العائلة .. تعالي وتعرفي إليه .. إنه طبيب أسنان ناجح .. ووسامته غير عادية
قاومتها جودي قائلة بانزعاج :- دنيا .. أنا لست مهتمة باصطياد عريس .. فتوقفي عن معاملتي كعانس ترغب بالزواج قبل أن يفوتها القطار
تجاهلت دنيا اعتراضها ودفعتها دون إنذار نجو المجموعة التي وقفت في منتصف الصالة
سمعت دنيا تقول ببشاشة :- مساء الخير .. هل تقضون وقتا ممتعا يا جماعة ؟.. آه .. أحمد .. أقدم لك صديقتي جودي .. لقد كانت تسألني لتوها عن طبيب أسنان جيد تستطيع أن ...
تابعت دنيا محاولتها المكشوفة للتوفيق بين جودي و الطبيب المرتبك .. بينما أشاحت جودي بوجهها المتورد بعيدا لتصطدم عيناها بعينين بنيتين بلون الشوكولا .. تعرفهما جيدا .. بل هما لم تفارقا أفكارها منذ فترة طويلة
كانتا تنظران نحوها بقسوة على بعد خطوات منها ضمن نفس المجموعة التي دفعتها دنيا إليها .. ارتجفت وتخبطت أحشاءها وهي تحاول التراجع تلقائيا .. ما الذي يفعله تمام هنا ؟
كان يبدو مختلفا بحلة سوداء في غاية الأناقة .. لاءمت جسده الطويل والنحيل .. شعره الأسود كان مصففا بعناية على غير العادة .. ووجهه الحليق كان شاحبا ونحيلا كآخر مرة رأته فيها
جاذبيته اكتسحتها على الفور .. وجعلت ركبتيها ترتعشان حتى أحست وكأنها ستسقط .. ذكرى لقائهما الأخير جعلها تتمنى أن تختفي من أمامه بمعجزة
هو أيضا كان مصدوما لرؤيتها .. ينظر إليها وكأنه يراها للمرة الأولى بمظهرها الرسمي الجميل .. وفي عينيه الجميلتين شيء من السخرية و البغض
لم يدرك أحدهما بأن جميع الموجودين حولهما قد لاحظوا ردة فعل كل منهما اتجاه الآخر .. نقلت دنيا بصرها بين جودي وتمام .. ثم قالت باهتمام :- جودي .. هل سبق وقابلت ابن خالتي تمام ؟
أجاب تمام ببرود :- أنا وجودي نعرف بعضنا جيدا
احمر وجه جودي بغضب من بروده .. ومن المعنى الذي تضمنه كلامه ..أما دنيا فقد عادت تنظر إليها حائرة وهي تقول :- حقا .. هذا غريب .. وكيف تعرفتما إلى بعضكما ؟
أحست جودي بالدماء تكاد تنفجر من وجهها .. وتمنت لو تتمكن من الركض هاربة من هذا الموقف .. لولا خوفها من ثرثرة الناس التي ستلتهم القصة التهاما وتنسج حولها الفضائح
لقد ظنت نفسها حقا في وسط الطريق نحو نسيانه .. لقد عادت تأكل أخيرا وتضحك .. بل وتنام في الليل دون أن تغزو عيناه أحلامها
ظهرت بوادر الفهم على وجه دنيا وهي تقول بفرح :- آه .. لابد أنكما التقيتما في أحد مطاعم تمام .. أذكر أن طارق كان يحب تناول طعامه هناك
رمشت عينا جودي وهي تحاول استيعاب كلمات دنيا .. متجاهلة جمود نظراته ورددت بارتباك :- مطاعمه ؟
نظرت دنيا بعتاب نحو ابن خالتها قائلة :- هل مارست مع جودي إحدى ألاعيبك القديمة يا تمام ؟ هل تظاهرت مجددا بأنك موظف بسيط .. أو نادل معدم في أحد مطاعمك الخاصة ؟
التفتت نحو جودي موضحة غير مدركة للصدمة التي اكتسحتها :- تمام يا عزيزتي يمتلك سلسلة المطاعم هذه .. ومن ضمنها هذا المكان الذي يقف فيه .. لقد أسس نفسه من الصفر وبنى أول مطاعمه حين عاد من الولايات المتحدة قبل سنوات متبعا خطوات أبيه الذي حقق نجاحا باهرا هناك بمطاعمه المعروفة والمتخصصة بالطعام الشرقي .. شيئا فشئا ومع نجاحه الباهر توسعت اعماله لتشمل عدة فروع في البلاد بالإضافة إلى استثماراته في مجالات اخرى متعددة .. إنه متواضع إلى حد رفضه إظهار نجاحه كما يفعل الآخرون ... فهو يكره أن يتزلف الناس إليه بسبب ما يملك .. ويفضل ان يتعرفوا إلى الإنسان داخله أولا
نظرات الجميع تركزت عليها بينما بدت هي تائهة كالطفل الضائع .. تنظر إلى دنيا تارة .. وإلى تمام تارة أخرى وكأنها قد أصيبت بالخرس
تمام ليس ذلك الشاب المعدم الذي ظنته في البداية .. لقد كذب عليها وسخر منها وعذبها لأشهر طويلة كي يسلي نفسه فقط .. يا إلهي كم كانت غبية ..
كان عليها التماسك .. وإخفاء صدمتها حتى لا تجعل من نفسها أضحوكة امام أقرباءه .. ولكنه لم يرحمها إذ سمعته يقول ببرود :- ماذا عن خطيبك المحترم ؟ لماذا ليس موجودا معك في مناسبة كهذه ؟ أم أنه ينتظر زواجكما حتى يرافقك في المناسبات الرسمية خوفا على سمعته
امتقع وجه جودي .. فالتفتت دنيا نحو تمام وقد أغضبته كلماته الجارحة .. قالت بحدة :- تمام .. لماذا تحدث جودي بهذه الطريقة ؟.. لقد فسخت خطوبتها منذ أسابيع وسأكون ممتنة لو احترمت مشاعرها
همست جودي وقد فقدت قدرتها على الاحتمال :- بالإذن
اندفعت تشق الزحام نحو المخرج غير عابئة بنظرات الآخرين لها .. سمعت صوت تمام يناديها :- جودي
أسرعت في سيرا حتى كادت تجري .. نزلت الدرج المؤدي إلى الشارع .. فلم تشعر حتى بقطرات المطر الكبيرة التي تساقطت فوق رأسها وبللت فستانها .. ما إن وصلت إلى الموقف الخاص بالمطعم .. حتى أمسك تمام بذراعها وأوقفها مديرا إياها نحوه فقاومته بشراسة ونظرات البغض تطل من عينيها قائلة :-
:- اتركني أذهب أيها المنافق المخادع .. لقد تسليت كثيرا على حسابي .. وآن لتسليك أن تنتهي
حاول إيقاف مقاومتها صائحا بحدة :- اهدئي قليلا
ركلته بكل قوتها على قصبة ساقه فتركها متأوها .. اندفعت راكضة نحو سيارتها .. وجاهدت لتتمكن من التقاط المفتاح من حقيبة يدها الصغيرة .. ما إن فتحت الباب حتى أغلقته يد تمام بقوة .. ثم أجبرها على النظر إليه ..أمسك بذراعيها وأسندها إلى السيارة قائلا بحدة :- هل ستسمعينني الآن ؟
قالت بشراسة :- لا أريد أن أسمع منك شيئا .. أي شيء .. لا أريد أن أراك مجددا على الإطلاق
حاولت ركله مجددا ولكنه منعها بتكبيله التام لحركتها وهو يقول بغضب :- لن تتحركي من هنا حتى تجيبين عن سؤالي يا جودي .. متى فسخت خطبتك بالضبط ؟
هتفت بثورة :- هذا ليس من شأنك
تجاهل ثورتها وهو يكرر سؤاله بتوتر :- عندما جئت إلى شقتي ذلك المساء .. هل كان هذا قبل أم بعد فسخك لخطوبتك .. أجيبي يا جودي
هزت رأسها مانعة محاولة منع دموعها من الانهمار :- لم يعد هذا مهما بعد الآن
هزها بقوة قائلا بغضب :- أجيبيني عليك اللعنة .. هل كنت مخطوبة عندما طرقت بابي ذلك المساء
صرخت به وقد فقدت اعصابها :- لا .. لم أكن مخطوبة .. هل ارتحت الآن .. كنت قد فسخت خطوبتي منذ فترة طويلة عندما جئت إلى شقتك كالبلهاء وأهنت نفسي مجددا كما كنت أفعل منذ عرفتك .. أيها الكاذب المخادع
قال بتوتر :- لماذا لم تخبريني بذلك إذن ؟ لماذا تركتني أسيء إليك بالقول والفعل ؟ لماذا لم تخبريني بسبب زيارتك لي ؟
قالت بمرارة :- ما الذي توقعته مني يا تمام ؟ لقد طرحت عليك سؤالا واضحا وقد أجبتني عنه بكل صراحة .. كنت تنتظر أن آتي إليك معلنة فسخي للخطوبة مع اعتراف بحب لا يموت وأرمي نفسي بين ذراعيك بدون ضمانات ..هل كنت تتوقع مني أن أركض وأمنح نفسي لرجل لم يتحدث ولو لمرة عن رغبنه بالزواج بي ؟ .. لرجل كذب علي وأوهمني بأنه بالكاد قادر على إعالة نفسه في حين أنه قادر على إعالة عائلات بأكملها
قال بتوتر :- ما الذي كنت تريدين مني فعله يا جودي ؟ عندما عرفتك كنت مخطوبة إلى رجل ثري وذي مركز مرموق .. إن عرفتك بنفسي على أنني تمام محفوظ صاحب سلسلة المطاعم الشهيرة .. والذي لا يقل عن خطيبك ثراءا .. لما وجدت بي أكثر من بديل له .. كنت ستتخلين عن رجل ثري لأجل رجل ثري آخر قادر على منحك نفس الحياة المخملية التي تنشدينها .. وأنا أردتك أن تري بي أكثر من محفظة وضمانة لحياة مريحة .. أردتك أن تحبيني أنا .. تمام الشاب الذي يحب المتع البسيطة في الحياة .. أن تحبي الشخص الذي أكونه قبل أن تعجبي بما أمتلكه .. وأنت لم تتمكني من اتخاذ قرار نهائي حتى بعد أن أحببتني واكتشفت عقم مشاعرك اتجاه خطيبك .. للقد فضلت حياة باردة خالية من المشاعر مع رجل لا تحبينه لأجل المادة فقط
هتفت من بين أسنانها بغل :- عليك اللعنة يا تمام .. أنا لم أفتقر يوما إلى المال ... بل أنا أكثر ثراءا منكما معا .. ما كنت أطلبه بالإضافة إلى الحب هو الاحساس بالأمان .. وهو ما كان طارق قادرا على منحي إياه .. أما أنت .. فمنذ عرفتك .. لم تتحدث إطلاقا عن الزواج أو المستقبل .. كنت لأرمي طارق وراء ظهري خلال لحظة وأركض نحوك بلا أي تردد لو أنك منحتني ولو لمحة عن جديتك نحوي .. أما عن إخفاءك لثراءك ومركزك عني .. فقد كنت محقا .. أنا ماكنت لأحبك بنفس الطريقة لو أنك أظهرت لي ما لديك من مال في لقاءنا الأول .. ما جذبني إليك هو الطريقة التي سحبتني فيها من العالم المزيف والفارغ الذي كنت أعيش فيه .. العالم البارد القائم على المظاهر الخادعة والقيم البالية ..علمتني كيف يمكن للإنسان أن يكون سعيدا فقط بكونه الشخص الذي هو عليه .. وليس ما يريده المجتمع .. سمعتني وفهمتني .. ومنحتني ما لم أجده لدى أقرب الناس إلي .. ولكنك لم تستطع منحي الشيء الوحيد الذي احتجته أكثر من أي شيء آخر .. وهو الأمان و الثقة .. بعكس طارق الذي تزدريه فقد كان رجلا صادقا جديرا بالثقة كما لن تكون أبدا
اشتعلت عيناه غضبا بينما ازدادت الامطار غزارة فور رأسيهما .. هتف بها غاضبا :- لماذا فسخت خطوبتك إذن مادام يمثل كل ما تحلمين به في الرجل
ابعدت خصلات شعرها المبتلة عن وجهها وهي تقول بمرارة :- لأنني أحببتك أنت يا تمام .. لا أستطيع الزواج منه وقلبي معلق بغيره .. حتى لو لم أحصل عليك .. فعلاقتي بطارق ما كانت لتستمر
أمسك بكتفيها ونظر إلى عينيها قائلا :- مازلت قادرة على الحصول علي يا جودي .. أنا ما زلت متاحا لك ولن أكون لغيرك أبدا
مطت شفتيها قائلة بازدراء وهي تقول :- للأسف .. أنا لم أعد أريدك يا تمام.. فلتهدي نفسك لأي مغفلة أخرى ترضى باستغفالك لها وسخريتك منها
هزها بقوة قائلا بإصرار :- ما تقولينه غير صحيح .. لقد قلت بنفسك بأنك قد أحببتني .. لا يمكن أن تتحول مشاعرك بهذه السهولة
هتفت بانهيار :- لا .. أنا لم أحببك أنت .. أنا أحببت تمام الآخر .. الشاب الجريء والفقير والبسيط.. الصادق الحنون .. أحببت الرجل الذي علمني ما هو الحب الحقيقي .. أما أنت فأنا لا أعرفك .. أنت رجل ثري عابث يلهو في فترات فراغه بالسخرية من النساء ولعب دور المستخدم المعدم فقط لتثبت لنفسك قدرتك على جذب الجنس الآخر بدون مالك وجاهك
صرخ بها وقد نفذ صبره :- أنا لم أكن أتسلى بك يا جودي .. لقد أحببتك منذ رأيتك أول مرة .. لقد عرفت لحظتها بأنك الانسانة التي أرغب بقضاء ما تبقى من حياتي معها
قالت بحدة :- ليس هذا ما قلته لي في شقتك يا تمام .. لقد أوضحت لي بكل صراحة بأنك لم ترغب أبدا بالزواج بي
هز رأسه محاولا إيقاف سيل كلماتها وهو يقول :- لا يا جودي .. لا .. أنا لم أقل هذا .. لقد أخبرتك بصراحة بأنني لن أكون بديلا لطارق .. أردتك أن تتركي طارق بنفسك بعد أن تدركي بأنك لا تحبينه .. أردتك أن تأتي إلي لأنك تحبينني أنا .. وليس لأنك تبحثين عن زوج بدلا عن آخر .. لهذا فقط أخفيت عنك حقيقتي .. لأنني أحبك .. أقسم على أنني أحبك .. وأنني أرغب في الزواج بك في أقرب فرصة
تلونت كلماته الأخيرة باليأس وهو يصرخ بها أمام دموع جودي التي تفجرت في عينيها بغزارة كي تندمج مع قطرات المطر الباردة وتكسو وجهها الطفولي المنهار
نتيجة يأس الأسابيع السابقة .. الحزن والألم والحيرة .. والشوق والسهر لليال متواصلة .. تفجرت الآن في لحظة واحدة .. لم تستطع الاستماع إليه أكثر .. لم ترغب حتى أن تشعر بقربه يعذبها .. أرادت أن تختبئ في جحر مظلم بعيد عن الأنظار تبكي مرارتها
كيف ستثق به بعد الآن ؟.. كيف ستصدق حبه ووعوده ؟ .. هتفت باكية :- لقد فات الأوان الآن .. فات الأوان
دفعته عنها في حركة مفاجئة .. جعلته يندفع إلى الخلف متعثرا حتى كاد يسقط على الأرض المبتلة ... فاستغلت الفرصة لتفتح سيارتها وتدخلها .. ثم تدير المحرك وتندفع بها كالمجنونة
صرخ من خلفها :- جودي انتظري
قادت دون أن ترى بين الطرقات المظلمة وهي تبكي بانهيار ..أحكمت وضع حزام الأمان تلقائيا بيدها المرتجفة .. مشاعرها الثائرة كانت مزيج من المرارة والحزن والغضب .. ما الذي ظنه تبا له ؟.. أنها ستجثو على ركبتيها شكرا له على عرضه الكريم ؟ على تنازله وقراره الزواج منها أخيرا ؟
لقد سخر منها وعذبها وأوهما بفقره كي لا تراه عريسا ملائما .. هل يظنها بهذه السطحية والتفاهة ؟ هل يظن التافه بأنها افتقرت إلى صفوف العرسان لتبحث عن واحد ؟ .. وهاهو بعد انكشاف الحقيقة يخبرها بكل وقاحة بأنه لطالما رغب بالزواج بها
لا والله لن تتزوج به لو كان آخر رجل على وجه الأرض ..
نفير عالي ومزعج صدر من سيارة رياضية حمراء اللون كانت تسير في أعقابها .. وعندما تحركت جانبا لتسمح لها بالعبور ... لمحت وجه السائق .. لقد كان تمام
وأين ذهبت الشاحنة القديمة المتسخة ؟ أم أنه ترك مستلزمات الخداع في البيت ظنا منه بأنه لن يحتاج إليها ؟
عاد يطلق النفير تلو الآخر وهو يشير لها بالتوقف جانبا .. فما كان منها إلا أن زادت السرعة يدفعها الغضب بدون أي تفكير في العواقب .. لقد أرادت فقط أن تبتعد عنه .. أن تفصل بينهما أكبر مسافة ممكنة نظرت إلى المرآة لتجده قد خفف سرعته وكأنه قد فقد الرغبة في مطاردتها .. وعندما عادت تنظر إلى الطريق شهقت لمرأى رجل يحاول قطع الشارع حاسبا أنها تراه .. أدارت عجلة القيادة بسرعة محاولة تفاديه .. فانزلقت إطارات السيارة مع الحركة المفاجئة فوق الإسفلت الرطب .. وفقدت سيطرتها فجأة على السيارة التي اندفعت بسرعة مخيفة نحو عمود الإنارة الضخم .. واصطدمت به بعنف .. وكان هذا آخر ما رأته جودي قبل أن يلفها الظلام بشكل كامل



الفصل التاسع والثلاثون
بين الحياة والموت

نظر هشام إلى وجه أماني المتورد قائلا :- اعتذر عن خشونتي معك .. وإن كنت قد سببت لك أي ألم
وضعت أناملها على شفتيه وهي تهمس :- لا تعتذر .. أنت لم تؤذني على الإطلاق
فوق السرير العريض .. وبين طيات الأغطية الحريرية .. احتضن هشام جسد أماني النحيل وكأنه يرغب بحمايته من أي نسمة عابرة .. لم تشعر أماني يوما بالأمان كما تشعر الآن .. تمنت لو يتوقف الزمن .. وتبقى سجينة ذراعيه إلى الأبد
تأمل ملامحها الفاتنة .. شعرها الرطب الذي تناثر فوق الوسادة .. عينيها الجميلتين .. فمها الذي بدت عليه بوضوح آثار قبلاته .. علت وجهه علامات الندم وهو يقول :- لقد سبق ووعدتك بأنني لن أفرض نفسي عليك .. وها قد فعلتها للمرة الثانية .. أي رجل يحترم كلمته أنا
أسرعت تقول :- أنت لم تفرض نفسك علي الأن يا هشام .. وقطعا لم تفعل ليلة زفافنا ..
هز رأسه وهو يداعب وجنتها الناعمة :- بل فعلت .. لقد استغليت حالة الضعف التي اعترتك على إثر كابوس مزعج .. أترين أي نذل أنا ؟ .. لقد كنت متلهفا لاحتضانك بين ذراعي إلى حد تجاهلي لكل وعودي .. في الصباح .. عندما قفزت من السرير مذعورة فقدت أعصابي .. وآذيتك بكلمات لم يكن علي قولها .. بل كان علي مراعاة تصارع مشاعرك .. حرجك وخجلك .. أنا آسف
كلماته الرقيقة .. جعلت الدموع تترقرق في عينيها وهي تتأمل وجهه الأسمر الحبيب .. وتتتبع بعينيها خطوط عضلات جسده القوية .. تذكرت هجومه الضاري تحت سيل المياه الدافئة .. تجاوبها المحموم واللا متحفظ معه .. الطريقة التي حملها فيها إلى سريره
أسبلت عينيها عندما غمرتها الذكريات حتى لا يكتشف شوقها المتجدد له .. ثم فكرت .. ماذا لو اكتشفه ؟ .. ماذا لو صرحت له بحبها ؟ .. لو لمحت له به على الأقل ؟
أو ربما اكتفت بأن تمسح عنه إحساسه بالندم والعار من الذنب الذي يظن نفسه قد ارتكبه ..
نظرت إليه فالتقت عيناهما .. أذهلته المشاعر العاصفة التي ارتسمت في عينيها .. تسارعت أنفاسه وتوتر جسده .. عندما قالت بصوتها الناعم :- أنا من عليه أن يعتذر على ما حصل ذلك الصباح يا هشام .. لقد كنت مذهولة ومصدومة من الطريقة التي سلمت فيها نفسي إليك .. لم أتخيل يوما أن أكون ضعيفة وسهلة إلى هذا الحد .. خفت أن تنظر إلي بازدراء لعدم قدرتي على الاعتراض بكلمة .. ولكن الحقيقة هي أنك عندما لمستني .. لم أستطع أن أفكر على الإطلاق
ترقرقت الدموع في عينيها وهي تكمل بصوتها الأجش :- أنت أهم إنسان في حياتي في هذا الوقت يا هشام .. أنت الإنسان الوحيد الذي فهمني واهتم بي وحماني .. أنت الشخص الذي ساعدني على انتزاع الخوف من قلبي .. علمتني بأن الإحساس بكوني امرأة ضعيفة ليس سيئا دائما .. بل هو أمر رائع عندما تكون المرأة محبوبة ومحمية .. وفي حياتها صخرة تقف في وجه الرياح العاتية فتقيها منها ..
الأسابيع التي قضيناها متباعدين وانت بالكاد تكلمني كانت عذابا لا يطاق .. لم أحتمل جفاءك وبعادك وكأنك تكرهني .. افتقدت هشام .. الصديق والحامي الذي عرفته دوما .. أما ما حدث بيننا قبل قليل ....
ارتجفت وهي تحاول منع دموعها من الانهمار بغزارة وهمست :- لقد كنت في انتظار تلك اللحظة فقط كي أشعر بك قريبا مني مرة أخرى .. أنت صخرتي يا هشام .. و بدونك سأتوه لا محالة
ارتجفت شفتا هشام وهو يراقب انفجار أماني العاطفي وغير المتوقع .. سحبها إليه أكثر ليحكم احتضانها فوق صدره وهو يقول بخشونة :- هل تدركين ما تقولينه يا أماني ؟
هزت رأسها قائلة :- أعرف بأن حياتنا معا لن تكون طويلة .. وأننا سنفترق خلال أشهر قليلة حسب اتفاقنا .. ألا يمكننا خلال الفترة القادمة على الأقل أن نعيش معا كزوجين سعيدين .. يمنح كل منا للآخر بلا قيود حتى نفترق في النهاية كصديقين ..؟ أرغب حقا أن أحمل ذكرى لطيفة لنا معا عند رحيلي .. نستطيع فعل هذا يا هشام .. أستطيع كبح لساني في لحظات الغضب .. وأنت قد تخفف من تسلطك قليلا فينجح الأمر
محاولتها الأخيرة للمزاح كانت فاشلة إذ عجزت شفتاها المرتعشتان عن الابتسام .. وهشام أيضا لم يبتسم .. إذ ارتسم على وجهه تصميم قوي وشيء من القسوة .. وهو يقول بحزم لطيف :- استمعي إلي جيدا يا أماني .. نحن لن .....
بتر عبارته عندما دوى رنين الهاتف المجاور للسرير .. نظر الاثنان إلى الجهاز الرابض فوق المنضدة .. ثم عادت هي تنظر إليه قائلة :- هل سترد ؟
توتر وهو ينظر إليها قائلا :- قد يكون طارئا ما .. قد تكون جودي
جودي !!... راقبته وهو يمد يده ليلتقط سماعة الهاتف .. أذهلتها مدى سيطرته عليها بحيث كان هو من فكر بجودي أولا
سمعته يقول :- نعم .. أنا هشام عطار .. ماذا ؟ كيف حدث هذا ومتى ؟
اعتدل جالسا وقد ظهرت عليه الجدية .. حسنا ..لقد طارت الرومانسية بعيدا .. وأخذ العمل هشام منها ..جلست وهي تلف الملاءة حول جسدها وأسندت ظهرها إلى ظهر السرير وهي تبتسم .. لقد تحولت إلى زوجة تقليدية متذمرة من انشغال زوجها بالعمل ... أي تغيرات أخرى ستجد في نفسها
راقبت وجه هشام الواجم وعينيه القلقتين وهو يستمع إلى محدثه .. فأحست بأن المشكلة ليست سهلة على الإطلاق .. سمعته يقول :- سنكون هناك على الفور
أنهى المكالمة ونهض مغادرا السرير .. فقالت بقلق :- هشام .. ما الأمر ؟
التفت إليها فانقبض قلبها لمرأى النظرة التي ألقاها عليها .. ولسماع نبرة صوته وهو يقول بهدوء :- من الأفضل أن ترتدي ملابسك يا أماني .. يجب أن نغادر حالا
لم تكن بحاجة لمزيد من التوضيح لتعرف بما حصل .. لقد أصاب مكروه الفرد الوحيد المتبقي من عائلتها .. إنها جودي


نظر هشام إلى وجه أماني الشاحب وهي جالسة فوق أحد مقاعد غرفة الانتظار في المستشفى .. أمام باب جناح العمليات المغلق .. لم يدهشه صمتها وجفاف مآقيها .. فهو يعرفها الآن أكثر من أي شخص آخر .. إنها أماني .. حبيبته ذات العاطفة السخية .. والقوة الداخلية الجبارة حتى في أحلك الأوقات
ما كانت لتفقد تماسكها في حالة كهذه .. حيث تحتاج شقيقتها إلى صمودها وقوتها .. بل إنها أوصدت الباب في وجهه رافضة أن يمدها بالمواساة .. ولكنه اتخذ قراره منذ فترة .. لن يسمح لها بحجب نفسها عنه بعد الآن .. وهي في حاجة إليه في هذه اللحظة مهما حاولت الانكار
كان يقف مستندا إلى الجدار عاقدا ساعديه أمام صدره على بعد أمتار منها .. يراقبها بينما يعصف قلبه قلقا على شقيقة زوجته الصغرى
جودي الطفلة الجميلة المرحة .. التي تخفي داخلها حزنا يضاهي حزن شقيقتها .. كان تخيلها على منضدة الجراحة بين أيدي الأطباء أشبه بالصدمة له .. وتنبأ بأن أماني تفكر بالتأكيد بنفس الطريقة
قال بهدوء :- ستكون بخير يا أماني
قالت وهي تركز نظرها نحو يديها المعقودتين فوق حجرها :- أعرف
اقترب منها .. وجثى أمامها ممسكا بيديها الباردتين .. وأجبرها على النظر إليه قائلا بحزم :- لا تجلسي هكذا يا أماني .. من حقك إظهار قلقك وخوفك .. اصرخي أو ابكي أو حطمي أي شيء فلن يلومك أحد إن أظهرت ضعفك هذه المرة
نظرت إليه مصدومة من هجومه المباشر .. فقالت باضطراب :- أنا فقط لا أستطيع أن أصدق ما حدث .. أعني أن جودي سائقة ماهرة وحذرة بطبعها .. ما الذي أفقدها السيطرة على السيارة بهذا الشكل ؟ لقد سمعت ما قالوه .. لقد كانت تقود بسرعة جنونية
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقول بمرارة :- لقد كنت أعرف بأنها تعاني من مشكلة ما .. ابتسامتها الزائفة ومرحها المصطنع لم يخدعاني .. ولكنها رفضت تماما اطلاعي على مشكلتها وأنا لم أصر .. لقد كانت لدي فكرة مسبقة عن الموضوع وأردتها هي أن تأتي إلي بإرادتها وتفصح لي عن مخاوفها عندما تجد الوقت المناسب لذلك ..كما كانت تفعل فيما مضى .... لو أنني ألحيت عليها وأجبرتها على مصارحتي لتمكنت من مساعدتها بطريقة ما .. لما كانت الآن .....
أسرع يضع يده فوق فمها ليوقف كلماتها الهستيرية وهو يقول بحزم :- ما حدث ليس خطأك يا أماني .. فلا تلومي نفسك .. وجودي ستكون بخير .. أعدك
نظرت إلى عينيه المتفهمتين .. وتمنت لو تسمح له بضمها إليه لتشعر بدعمه وحنانه .. سالت دمعة حارة من عينيها وهي تقول بصوت متهدج :- هشام .. أنا حقا ....
توقفت عما كانت ستقوله عندما قاطعتها ضجة قادمة من آخر الرواق .. حيث رأت شابا طويلا يصرخ بغضب في الممرضة الصغيرة الحجم ذات الملابس الناصعة البياض ..بينما هي تحاول تهدئته بصبر دون فائدة ..
وقفت أماني فجأة مما فاجأ هشام الذي قال بقلق :- أماني .. ما الأمر ؟
سارت ببطء نحو الرجل والممرضة .. لتتضح الكلمات أكثر لمسامعها .. كان يصيح ثائرا :- ما الذي تقصدينه بأنك لا تمتلكين أي معلومات ؟ يجب أن تخبريني بحالها والآن على الفور .. إنها في الداخل منذ فترة طويلة وأنا أقف هنا منذ ساعات كالأحمق أكاد أموت جهلا بمصيرها
قالت الممرضة بتوتر :- إهدأ قليلا أيها السيد .. سيخرج الطبيب في النهاية وسنعرف جميعا التطورات منه
لوح بيديه وقد فقد أعصابه :- لن أنتظر أكثر .. ادخلي إلى هناك حالا .. أو اتصلي بغرفة العمليات أو افعلي أي شيء .. لا تقفي هكذا وكأنك دمية غبية تأخذ أجرا على عدم قيامها بأي شيء على الإطلاق
كلماته الأخيرة جعلت صبر الممرضة ينفذ .. والقسوة ترتسم على وجهها وهي تقول بحدة :- حتى إن كنت قادرة على فعل ما تقوله .. فمعلومات كهذه تكون متاحة فقط لأفراد العائلة .. وأنت لست واحدا منهم على حد علمي
استدارت تاركة إياه فما كان منه إلا أن لكم الجدار بقبضته بقوة أدمتها وهو يشتم بالإنجليزية دون ان يوجه الكلام إلى أحد
راقبته أماني بصمت وهو ينهار على أحد المقاعد البلاستيكية الزرقاء .. ويخفي رأسه بين يديه .. قيمته أماني خلال لحظات مواجهته للممرضة .. لقد كان شابا وسيما .. بالغ الجاذبية رغم اضطراب مظهره .. حلته الرسمية الأنيقة بدت غير مهندمة .. شعره الداكن تشعث بفوضوية فوق رأسه
لم تكن قد رأته من قبل .. ولكن قلبها عرفه .. وكأنها قابلته منذ فترة طويلة .. سمعت صوت هشام يقول من خلفها :- أماني
دون أن ترد عليه .. سارت ببطء نحو الشاب المنهار .. ووقفت أمامه بينما رفع هو رأسه نحوها ونظر إليها بعينيه الحمراوين
التقت نظراتهما فرمشت عيناه .. وكأنه قد عرفها بدوره .. وقف ببطء أمامها بقامته الطويلة .. فكانت هي من قطع الصمت وهي تقول بهدوء :- أنت تمام
اهتزت نظراته وهو يهمس :- أماني
أومأت برأسها .. فقال باضطراب :- هل حدثتك عني ؟
:- لا .. ولكن عيناها أخبرتني الكثير عنك .. كما تفعل عيناك الآن .. أنت تحبها .. صح ؟
اغرورقت عيناه الجميلتان بالدموع وهو يقول بمرارة :- أحبها .. وكدت أقتلها بحبي .. لو أنني لم أطارد سيارتها بسيارتي وأحاول إقناعها بمحادثتي .. لقد كانت تقود كالمجنونة حتى أنني تراجعت وأوقفت سيارتي تماما كي تتوقف عن الهرب وتعريض نفسها للخطر .. وعندما رأيت الحادث ...
ارتجفت شفتاه .. فقال بخشونة :- أخبريني بأنها ستكون بخير
هزت رأسها بسرعة ودموعها تغطي وجهها :- ستكون بخير .. أنا متأكدة من هذا
أحست بثقل يد هشام على كتفها .. فمسحت دموعها وهي تلتفت إليه قائلة :- هشام .. أعرفك إلى تمام .. أنه صديق مميز لجودي
قالتها بطريقة فهم منها بأن هذا الرجل كان هو سبب حزن جودي الحقيقي
غريزته الأولى كانت لتدفعه إلى ضربه حتى يدمي وجهه لما سببه من ألم لأحد أفراد عائلته .. ولكن نظرة واحدة نحو الشاب المنهار .. إلى العاطفة الصادقة في عينيه .. أخبرته بأن جودي لم تكن وحدها من يعاني
صافحه هشام بحزم :- سعيد للقائك .. ومتأكد بأن جودي ستنجو .. وتكون بخير
شد تمام على يده ممتنا له .. فاعتراف كل من أماني وهشام بوجوده جعله بطريقة ما جزءا من حياة جودي التي بقي محجوبا عنها لفترة طويلة
نظرة الامتنان في عيني أماني لتفهمه .. جعلت هشام يحيطها بذراعه ويضمها إلى صدره وكأنه يؤكد لها دعمه الدائم
في تلك اللحظة بالذات
فتح باب غرفة العمليات .. وخرج الطبيب



الفصل الأربعون
جودي

استيقظي يا حبيبتي
تسللت الكلمات الناعمة إلى أذني جودي لتنتزعها تدريجيا من العالم المظلم الذي كانت تسبح فيه
:- جودي
فتحت جودي عينيها ببطء .. ونظرت إلى وجه أماني الشاحب .. إلى عينيها القلقتين فهمست :- ما الذي حدث ؟ أين أنا ؟
سألتها أماني برقة :- ألا تذكرين ؟
حاولت جودي هز رأسها ولكنها فشلت .. إذ أحست برأسها ثقيلا .. ولكنها تذكرت فجأة فهمست :- لقد كنت أقود سيارتي
أومأت أماني قائلة :- هذا صحيح .. وقد فقدت سيطرتك عليها فاندفعت نحو عمود النور
أغمضت جودي عينيها قائلة :- يا إلهي كم أنا غبية .. هل تضررت السيارة كثيرا ؟
ظهرت الدموع الحبيسة في عيني أماني وهي تقول بانفعال :- هل يقلقك وضع السيارة يا جودي ؟ أنت من بقي في غرفة العمليات لساعات .. يا إلهي جودي .. هل تعرفين كيف كان شعوري وأنا أنتظرك خارجا دون أن أعرف إن كنت ستنجين أم لا
سالت دموع جودي فورا وهي تقول :- أنا آسفة يا أماني .. أنا حقا آسفة .. لم أكن أفكر .. لقد كنت مشوشة وغاضبة وكل ما أردته هو أن أبتعد عن ....

صمتت جودي وقد ارتسم الألم على ملامحها .. فمدت أماني يدها لتمسح الدموع عن وجه جودي المكدوم قائلة بهدوء :-
سأستدعي الطبيب ليراك
عندما أتم الطبيب فحص جودي قال لأماني وقد لاحظ دموع مريضته :- لا انفعالات يا آنسة .. لقد كنت واضحا بأن المريضة بحاجة إلى الراحة التامة
تمتمت أماني :- لن أزعجها مجددا
غادر الطبيب برفقة الممرضة ..فجلست أماني إلى جانب جودي قائلة بحنان :- أنا آسفة يا حبيبتي .. ما كان علي الانفعال في وجهك بهذه الطريقة
همست جودي :- لقد كنت قلقة علي فحسب .. أنا من عليه الاعتذار بسبب غبائي .. ما الذي سيقوله زوجك عني الآن ؟
أتاها صوت هشام من الباب المفتوح وهو يقول :- سيقول بأنه سعيد جدا لأن شقيقته الجديدة بخير
نظرت إليه من فوق كتف أماني .. وقد اعتراها إحساس عميق بالأمان .. إنها في وسط عائلتها .. ابتسمت بإرهاق قائلة :- لم ترى شيئا بعد من عائلة النجار يا هشام .. عدني بأنك لن تندم لاحقا على ارتباطك بأحد أفراد العائلة
التقت عينا أماني وهشام للحظة خاطفة .. سرعان ما انتهت عندما عادت أماني تنظر إلى جودي قائلة :- أظنه يفكر بأن عبء واحدة من هذه العائلة المجنونة أكثر من كافي .. وأعتقد بأنه أكثر من متحمس لتزويجك والخلاص منك
قال هشام محتجا :- هذا غير صحيح
ابتسمت جودي وهي تقول مداعبة :- للأسف يا صهري العزيز .. عليك إيجاد عريس مناسب أولا قبل تزويجي
قالت أماني بهدوء :- أظن هناك من يتمنى بشغف أن ينال هذا الشرف
لهجة أماني وطريقة كلامها كانت أكثر من واضحة .. شحب وجه جودي .. مما جعل أماني تقول بقلق :- هل تتألمين ؟
تمتمت جودي :- ليس كثيرا .. مما يدهشني وفقا لكل هذه الضمادات في كل مكان
:- مازلت تحت تأثير المسكنات .. لا تستعجلي الاحساس بالألم لأنه لن يتأخر كثيرا
مرت لحظات صمت طويلة قبل أن تقول أماني :- هل يسبب الحديث عنه كل هذا الألم يا جودي ؟
أشاحت جودي بوجهها بعيدا فقالت أماني :- على كل حال .. لست مضطرة لإخباري عنه بعد الآن .. تمام ينتظر في الخارج منذ ساعات ويأمل بأن يتمكن من رؤيتك
هتفت جودي برعب :- لا أريد أن أراه
قالت أماني بحزم :- جودي .. الرجل يقف في صالة الانتظار منذ وصولك إلى المستشفى .. بل هو من اتصل بسيارة الاسعاف فور وقوع الحادث .. أنت تدينين له بسماع ما يريد قوله
عضت جودي شفتيها .. فقالت أماني برفق :- جودي .. لقد قابلت تمام لأول مرة منذ ساعات .. ولكنني أستطيع أن أقول لك بأنني لم أر يوما رجلا منهارا كما كان قبل أن يخرج الطبيب ويخبرنا عن وضعك
تمام يحبك يا جودي .. وأنت لا تستطيعين إنكار تلهفك لرؤيته .. قابليه فقط .. واستمعي إليه .. وأنا سأكون خلف الباب مع هشام .. نداء واحد منك .. وسيخرجه هشام من الغرفة على حمالة .. أنت أحد أفراد عائلته الآن .. وهو ينتظر بلهفة الفرصة ليرد لتمام ما سببه لك من حزن
قال هشام مؤكدا :- ليس لديك أي فكرة

عندما غادرت أماني وهشام الغرفة بعد فترة .. كان تمام في الانتظار خارجا .. اعتدل على الفور سائلا بلهفة .:- كيف هي الآن ؟
:- لقد استيقظت ..ولكنها مازالت ضعيفة ..
نظرت إليه قائلة :- هل ستكون رقيقا معها ؟
قال غير مصدق :- هل قبلت بأن تراني ؟
هزت رأسها قائلة :- مارست عليها بعض الضغط .. وما كنت لأفعل لولا يقيني بحاجتها لسماع ما ستقول
نظر إليها وتقدير كبير يطل من عينيه وهو يقول :- أعدك بأنني لن أزعجها
أما هشام .. فقد اكتفى بأن يقول لتمام بحزم :- اهتم بها جيدا
اومأ تمام برأسه وهو يقترب من الباب .. يطرقه برفق .. ثم يدخل
نظر هشام في إثره قائلا :- اتظنينها فكرة صائبة ؟ لربما احتاجت إلى مزيد من الوقت لتتحسن على الأقل
تمتمت :- لن يشفى جسدها من جراحه ما لم تعالج قلبها أولا
نظر إليها معجبا برجاحة عقلها .. وطريقة استيعابها لحاجات شقيقتها ... ولكن ماذا عن حاجاتها هي ؟
تحت هذا التماسك .. لم تكن أماني قد صحت من صدمتها بعد .. عرف هذا وهو يقترب منها .. ويحيط وجنتها بكف يده سائلا بحنان :- وماذا عن أماني ؟
هل ستكون بخير ؟
أرادت من كل قلبها أن تجيبه بانزعاج .. بالتأكيد .. ما الذي تظنه بي ؟
ولكنها تحت تأثير عينيه الحانيتين .. وصوته الدافئ .. وإغراء صدره على بعد بوصات عنها .. لم تستطع التظاهر بالقوة لفترة أطول .. تدفقت الدموع من عينيها بدون إنذار وهي تقول :- لقد كدت أفقدها يا هشام .. هل تعرف ما الذي يعنيه هذا ؟ لقد كدت أفقدها بحق الله
سحبها |إلى صدره وضمها بقوة سامحا لها بالنشيج بين طيات قميصه ربت على ظهرها مستمتعا باستسلامها أخيرا .. والسماح له بالغوص بين مخاوفها الكثيرة ..همس لها برقة |:-
:- ولكنك لم تفقديها .. أليس كذلك ؟ إنها بخير .. تتحدث في الداخل إلى حب حياتها .. وسرعان ما ستجد سعادتها المفقودة ولن تقلقي عليها أبدا بعد ذلك
فكرت أماني وهي تتمسك به .. وماذا عن سعادتي أنا .. هل سأجدها معك يا هشام .. أم أنها ستهرب مني ما أن بدأت أعرف مذاقها ؟

فتح تمام الباب وخطا إلى الداخل بتردد .. هبط قلبه بين قدميه بين قدميه عندما رأى حبيبته الصغيرة والرقيقة ممددة فوق السرير الضيق .. والضمادات تحيط بها في كل مكان .. وجهها كان شاحبا .. وقد ساهم مع الرباط المحيط برأسها لمنحها مظهرا هشا وضعيفا .. لم تكن تنظر إليه .. بل كانت تركز بصرها نحو نقطة بعيدة في زاوية الغرفة .. .. تطبق شفتيها بقوة وكأنها تمنعهما من الارتعاش .. وقد توردت وجنتيها وكأنها لم تستطع منع حواسها من الاحساس بقربه
ناداها بصوت خافت :- جودي
ازداد فمها قسوة .. وظهرت الدموع في العينين الزيتونيتين .. عاد يقول متوسلا :- جودي .. انظري إلي .. هلا استمعت فقط إلى ما سأقوله
نطقت أخيرا قائلة ببرود :- لقد سبق وقلت ما لديك يا تمام
اقترب وجلس على المقعد المجاور للسرير قائلا بحدة :- لا .. لم أقل كل ما لدي يا جودي .. أنا أحبك .. ولا أستطيع الحياة من دونك .. لو لم أكن قد قابلتك في الحفلة .. لكنت سعيت إليك بنفسي وبكل طريقة ممكنة فور أن أعرف بفسخك لخطوبتك
هزت رأسها قائلة :- لا أريد أن أسمع أعذارك الواهية يا تمام .. لم تقنعني في المرة السابقة ولن تفعل الآن
ظهر عليها الإرهاق وهي تقول :- فقط اذهب واتركني وحدي .. أرجوك
صمت تمام لفترة طويلة وهو يحدق إلى حذائه اللامع .. ولكنه لم يخرج .. وهي كانت تشعر به قريبا منها إلى حد الألم .. تسمع صوت أنفاسه وتستنشق رائحته .. وتمنع نفسها بصعوبة من النظر إليه ..
إذا نظرت إليه ستراه .. وتؤخذ بجاذبيته وسحره كالعادة .. وتضعف مجددا .. وهي قد سئمت بكل بساطة من الارهاق العاطفي الذ يسببه لها .. كل ما أرادته هو ان تشعر بالهدوء والاستقرار كما كانت قبل وفاة والدها .. عندما كانت حياتها هادئة وروتينية .. وعندما كان التفكير في المستقبل لا يسبب لها أي مشكلة على الإطلاق
قال أخيرا بهدوء :- عندما كنت طالبا في الجامعة .. ظننت بأنني قد وقعت في الحب
توترت .. لم تكن تتوقع منه أن يخبرها بهذا .. :- كان اسمها كريستينا .. وكانت فتاة رائعة الجمال .. شعر بلون الذهب .. وعينان بلون الزمرد .. مجرد سماع ضحكتها كان يذهب بعقلي ويشوش تفكيري .. كنت غارقا في حبها حتى أذني .. وكنت أعرف يقينا بأنني سأطلب يدها للزواج فور تخرجنا من الجامعة .. ومتأكد أيضا من قبولها لطلبي
قبضت أصابع جودي على الملاءة القطنية التي تغطي ساقيها .. وقلبها يحترق غيرة من تلك المرأة التي أحبها تمام وأراد الزواج منها ....ولكن ما الذي حدث ؟ لماذا لم يتزوجها ؟ أم تراه فعل
قال ببرود :- سمعتها صدفة تتحدث مع إحدى صديقاتها دون أن تفطنا إلى وجودي .. سألتها صديقتها مستنكرة إن كانت حقا ستستمر في علاقتها مع العربي الحقير الذي ترافقه .. فأجابتها بأن والد هذا العربي الحقير ثري جدا وأن الزواج منه والبقاء معه لسنوات قليلة .. ثمن رخيص للفائدة التي ستجنيها عندما تقرر إنهاء الزواج
شهقت جودي وهي تنظر إليه هاتفة بعنف :- السافلة الحقيرة
ما فاجأها أكثر .. هو ما رأته عندما نظرت إليه أخيرا .. فهذا الشاب البائس لا يمكن ان يكون تمام .. كان مايزال يرتدي ملابس السهرة بدون ربطة عنق .. وقد تجعدت حتى بدت كالأسمال .. بينما تشعث شعره .. ونمت لحيته لتساهم مع الهالات السوداء المحيطة بعينيه المرهقتين في منحها فكرة عن الوقت الذي قضاه خارجا في انتظارها .. وعن قلقه عليها
منحها ابتسامة باهتة وهو يقول :- لقد أثرت انتباهك أخيرا يا عزيزتي .. اطمئني .. لم أتزوج بها .. بل أنا لم أواجهها بما سمعت .. لقد سافرت فور تخرجي وعدت إلى الوطن .. وقد اعتراني القرف من المادية والأنانية والعنصرية التي وجدتها هناك .. حتى من ظننتهم يكنون لي المشاعر .. لم أظن أبدا بأنني سأسلم قلبي مرة أخرى لامرأة تحطمه بقدميها .. عشت السنوات السابقة أبني نفسي وأعيش حياتي ببساطة وخلو بال ... مستمتعا بقربي من عائلتي وأصدقاء يفكرون كما أفكر .. ويحلمون كما أحلم .. حتى وقعت عيناي ذات مساء على أجمل عينين رأيتهما في حياتي .. عينان عذبتان وبريئتان .. نظرتا إلي بذعر وكأنهما خافتا أن أقرأ ما فيهما من إعجاب
احمرت وجنتاها وقد تذكرت لقائهما الأول .. وضمت يديها إلى بعضهما تفركهما بارتباك .. فأكمل :- عندما أخبرتني شبه صارخة بأنك مخطوبة .. أحسست كمن تلقى صفعة قاسية على وجهه .. أردتك .. ولم أنكر مشاعري حتى لنفسي .. فكرت.. ما الذي سأخسره إن قابلتك لمرة أو مرتين ؟ فقط لأعرف إن كنت بالبراءة والأنوثة الظاهرتين عليك .. لم أرغب بأن أحبك .. ولكنني وجدت نفسي أقع في هواك بقسوة دون أن أدري .. عندما قبلتك أول مرة .. بعد أن شعرت بخطر فقدانك .. عرفت بأنني أحببتك كما لم أفعل من قبل .. وأن ما أحسسته يوما اتجاه كريستي لم يكن أكثر من انجذاب جسدي .. وانه كان ليزول فور أن أعرف أي إنسانة مادية وأنانية هي
تجرأ أخيرا .. وتناول كفها الرقيقة .. فأحس ببرودتها ورقتها .. وتمنى لو يقبلها ويحتضنها إلى قلبه كي يؤثر بصاحبتها ويستعيد حبها مجددا
قال :- تمسكك بخطيبك لم يزدني إلا إصرارا .. عرفت بأنني إن لعبت أوراقي بشكل صحيح .. إن أخبرتك بثرائي وجديتي .. لن يكون الأمر صعبا عليك .. ستتركينه بكل بساطة وتأتين إلي .. لو تعلمين كم كان الأغراء كبيرا .. ولكنني في النهاية لم أستطع أن أفعل .. أردتك أن تأتي إلي لسبب واحد فقط .. لأنك تحبينني أنا .. الشخص البسيط الذي عرفته أول مرة يعزف الجيتار أمام الناس غير عابئ إن كانت ألحانه قد نالت رضاهم .. أعرف بأن طريقتي كانت خاطئة .. وأنني لم أثق بحكمك على الأمور .. وبحبك لي .. ولكنني كنت خائفا ... جزء مني خشي أن يرى فيك شيئا من كريستي وأنت لم تساعديني في التخلص من مخاوفي .. لقد بقيت على تمسكك بخطيبك حتى بعد علمك بعدم حبك له
حرك أنامله فوق بشرتها الناعمة .. مثيرا داخلها إحساسا لذيذا بالإثارة .. قال بصوت أجش :- عندما رأيت سيارتك تصطدم بعمود النور .. ياإلهي جودي .. لقد حسبت بأنني قد فقتك إلى الأبد .. بالكاد تمكنت من إخراجك من السيارة قبل أن تشتعل .. رؤيتي لجسدك المخضب بالدماء كادت تقتلني .. رؤيتهم وهم يحملونك إلى سيارة الإسعاف .. انتظاري لوقت بدا لا نهائيا في انتظار سماع خبر عن حالك .. جودي .. هل لديك فكرة عما كان من الممكن أن يحصل لي لو أن مكروها أصابك ؟ كنت فقدت رشدي .. وكرهت حياتي بل وأنهيتها يأسا .. أنا لا شيء بدونك يا جودي .. أحبك ولن أقوى على فراقك لحظة واحدة .. فقط أخبريني بأنك قد سامحتني .. وأنك ستكونين من الآن فصاعدا جزءا ثابتا من حياتي .. بل كل حياتي
تدفقت دموعها لمرأى اليأس الكامل الذي فاضت به عيناه وهو يجثو على الأرض إلى جانب السرير .. ويدفن وجهه في راحة يدها كي تحس بدموعه
يا إلهي .. كيف تستطيع أن تبعد عن حياتها الهواء الذي تتنفسه .. الشمس التي تستمد منها الدفء .. الماء والغذاء
هل ظنت حقا بأنها ستتمكن من الحياة بدون تمام ..الرجل الذي تعشقه إلى حد الألم
بيدها الأخرى .. ربتت على رأسه .. و داعبت شعره الفوضوي وهي تقول بين دموعها .. :- أظنك ستنتظر حتى أشفى تماما قبل إعلان الخطوبة
رفع رأسه بحدة .. وقفز يجلس إلى جانبها على طرف السرير برفق حريصا على ألا يسبب لها الألم وهو يقول بلهفة :- لا حفلة خطوبة حتى الشفاء .. ولكن العالم بأسره سيعرف بحبي لك .. وأنك ستكونين زوجتي
نظرت إليه بحب وهو ينحني ليقبل جبينها .. إنها لا تصدق
أتراها تحلم .. أم أنها قد عثرت على سعادتها أخيرا مع الرجل الذي تحب ؟

ithran sara
2015-06-23, 12:37
الفصل الحادي والأربعون
كابوس لا ينتهي

فتحت اماني عينيها ببطء متكاسل ليقع بصرها فورا على هشام .. جالسا إلى جانب سريرها .. ينظر إليها باسما وهو يقول :- صباح الخير
كان يبدو بالغ الجاذبية بسرواله الرمادي الداكن وقميصه الناصع البياض ..وبذقنه الحليقة وكأنه يستعد للذهاب إلى العمل .. ردت عليه بابتسامة ناعمة وهي تقول :- صباح الخير
ثم عبست فجأة قائلة :- أهو الصباح ؟ لا .. يا إلهي .. كم ساعة نمت بالضبط ؟
سحبت نفسها لتجلس وهي تشعر بالثقل في جسدها وكأنه لم يستيقظ بدوره بعد .. قالت محتجة :- لماذا تركتني نائمة .. كان من المفترض بي أن أعود فورا إلى المستشفى بعد أن أستحم وأحزم بعض الأغراض .. أنا لا أذكر حتى متى غرقت في النوم بالضبط
قال بهدوء :- في السيارة .. في طريقنا إلى البيت .. اضطررت لحملك إلى الشقة .. حتى أنك لم تصدري حركة عندما وضعتك على السرير وبدلت ثيابك
انتبهت تلك اللحظة لقميص النوم الحريري الذي ترتديه .. فاحمر وجهها وهي ترفع الملاءة لتغطي نفسها حتى العنق وهي تهمس :- لا أصدق بأنك قد فعلت هذا
ارتسمت على شفتيه ابتسامة جانبية مغرية وهو يقول :- ولم لا تصدقين .. أنت زوجتي .. وقد سبق ورأيت كل شيء في مناسبات مختلفة
ازداد احمرار وجهها حتى أحست بالدماء تكاد تنفر من وجنتيها وهي تقول :- لا تقل هذا .. أرجوك
أطلق ضحكة سرور عالية وهو ينهض ... وينضم إليها فوق السرير .. ويحيط كتفيها بذراعه قائلا :- تبدين مذهلة والاحمرار يلون وجنتيك .. أمازلت تشعرين بالخجل مني ؟
تمتمت بصعوبة وقربه منها يعذبها :- ما زال الوضع غريبا علي
نظر إلى ملامح وجهها الناعمة وهو يقول بصوت عميق :- ستألفينه مع الوقت
أحست وبوضوح بذلك التوتر المألوف يتصاعد بينهما .. جزء منها تمنى لو يأخذها بين ذراعيه ويقبلها .. وينسيها الدنيا وما فيها .. وجزء منها فكر بجودي .. الوحيدة في المستشفى فتمتمت :- لا أصدق بأنني تركت جودي وحدها طوال الليل
:- لم تكن وحيدة .. تطوعت سمر للحلول مكانك إذ قدرت حاجتك للنوم والراحة بعد قضاءك ما يزيد عن 48 ساعة هناك
أطل الدفء من عينيها وهي نقول :- أنا لا أستحق صديقة كسمر .. لا أرغب باستغلال كرمها أكثر .. من الأفضل ان اعود فورا إلى المستشفى
قال بحزم :- لن تذهبي إلى اي مكان حتى تتناولين وجبة إفطار كاملة .. حتى لو اضطررت لإطعامك بيدي
قالت بقلق :- ولكنني سأؤخرك عن عملك
نظر إليها بهدوء قائلا :- أتظنين حقا بانني سأفضل عملي عليك في فترة حرجة كهذه ؟
قالت بدون تردد :- على الاطلاق
ابتسم لردها السريع .. وقبل رأسها قائلا :- سأتركك قليلا لتستعدي ريثما أجهز لنا الإفطار
قالت مداعبة :- هشام عطار .. لقد أصبتني بصدمة العمر .. لم أتخيلك طاهيا بأي شكل كان
قال ساخرا :- أنا أفضل من يعد المائدة عندما ترسل أمي الافطار جاهزا من مطبخها
هزت رأسها وهي تبتسم بمرح :- لقد خيبت املي .. ظننتك زوجا متعدد المواهب
انحنى فجاة مطلا عليها وقال بصوت أثار الرجفة في جسدها :- هل تطالبينني بعرض لمواهبي يا عزيزتي ؟
التقت عيناهما .. فتسارعت انفاسها تحت تأثير تلميحه المثير .. ابتسم فجأة بغموض قائلا :- نصف ساعة فقط يا أماني .. ثم سأعود لأرى ما أخرك .. وعندها .. قد لا تتمكنين من العودة إلى المستشفى في وقت قريب
غادر الغرفة تاركا إياها تلهث .. متوردة الوجنتين .. هل يعرف كم يحمل عرضه من إغراء لها ؟
ألن تكون صدمة كبيرة له لو عاد ليجدها في انتظاره كما تركها ؟.. تحركت أخيرا منتشلة نفسها من حالة التخدير التي اجتاحتها .. وفكرت يائسة بان جودي تحتاج إليها .. وأن الوقت مازال أمامها طويلا لتركز فيه على علاقتها بهشام

أوقف هشام سيارته أمام بوابة المستشفى قائلا :- اسبقيني إلى الداخل .. وسألحق بك بعد وضع السيارة في الموقف
ترجلت من السيارة .. وسارت وهي تكاد تقفز شوقا للاطمئنان على جودي .. غير قادرة على منع البسمة من مداعبة شفتيها وهي تتذكر وجبة الافطار الممتعة التي شاركت بها هشام .. تبادلهما العفوي للحديث .. مداعباته ومزاحه معها ..هل يمكن ان تكون يوما اكثر سعادة ؟
لم تطق صبرا حتى وصول المصعد الكهربائي .. فاعتلت الدرج بسرعة حتى وصلت إلى الطابق الذي تقع فيه غرفة جودي ... وجدت سمر تقف خارجا وقد بدا عليها التوتر .. وعلا وجهها الممتلئ الشحوب فور رؤيتها لأماني التي قالت باسمة :- صباح الخير يا سمر .. آسفة لاضطرارك لقضاء الليلة بعيدا عن سريرك .. لا أعرف كيف أشكرك على ما تفعلينه معي
ألقت سمر نظرة قلقة نحو باب غرفة جودي المغلق وهي تقول :- لا مشكلة على الإطلاق .. تعرفين أهمية جودي لدي
التقطت أماني القلق في عيني سمر فقالت بحدة :- ما الأمر ؟ هل حصل مكروه لجودي ؟
أسرعت سمر تقول :- جودي بأحسن حال
استرخت حواس أماني وهي تقول :- لقد أخفتني للحظة .. ما الأمر ؟ هل تخشين أن أضبط أختي الصغرى في مشهد غرامي ساخن مع حبيب القلب ؟ لن تستطيعي منعي من إمساك زلة عليها
قبل أن تستطيع سمر منعها .. اتجهت أماني نحو الباب .. إلا أنه فتح قبل حتى أن تمسك بالمقبض لتجد أمامها آخر شخص توقعت بأن تراه مجددا
إنه صلاح
جمد وجهه الوسيم وهو يراها أمامه .. عيناه جرتا عليها وكأنه غير مصدق لوجودها على بعد بوصات منه .. أما هي .. فقد امتقع وجهها وتراجعت إلى الخلف مصدومة .. و قد أحست بثقل ضخم يجثم فوق صدرها حتى عجزت عن التقاط أنفاسها
قال بصوته الذي لم يفارق كوابيسها يوما :- صباح الخير يا أماني
ذلك الصوت .. يا إلهي .. لقد كان يردد في تلك اللحظة العبارات المهينة الواحدة تلو الأخرى داخل رأسها .. أغمضت عينيها وهي تراه في خيالها يمسك بها وهو يضحك
همست بصوت مختنق :- لا
تراجعت إلى الخلف فقال متوترا :- علينا أن نتحدث يا أماني
خرج صوتها أخيرا وهي تصرخ :- لا
استدارت تجري هاربة .. فاصطدمت بجدار بشري بدا وكأنه منحوت من الصخر .. سرعان ما احتواها بدفئه وحمايته .. انكمشت بين الذراعين القويتين وهي ترتعش .. بالكاد قادرة على الوقوف .. سمعت صوت هشام يقول بصرامة :- ما الذي تفعله هنا يا سيد صلاح ؟ غير مرحب بك في أي مكان قريب من أماني
قال صلاح ببرود :- لقد كنت أزور جودي .. وهي كما تعلم ابنة عمي والمسؤولة مني
قال هشام :- لجودي عائلة جديدة الآن تقوم بواجبها نحوها كما يجب .. وهي ليست بحاجة إليك مثلها مثل أماني
كانت يداه تضغطان على ظهرها في محاولة منه لبث الطمأنينة داخلها .. لم تعرف أماني أبدا إلى أي درجة كان مظهرهما مدمرا لصلاح .. أن يرى ابنة عمه القوية والمكافحة .. تنكمش وتحتمي برجل آخر منه .. رجل هو زوجها أمام الله وأمام المجتمع .. رغم ما عاناه خلال الأسابيع الماضية .. تمكن من أن يقول بهدوء :- أماني هي ابنة عمي أيضا .. وصلة الدم بيننا ستبقى موجودة مهما فعلت
ثم نظر إلى اماني قائلا بتوتر :- ما الأمر يا اماني .. لم أعهدك جبانة إلى هذا الحد .. ما كنت تترددين سابقا في مواجهتي بشجاعة .. ما الذي حصل الآن كي تجبني وتعجزي حتى عن الاستماع إلي ؟ ما الذي فعله بك هذا الرجل ؟
تحركت بين ذراعي هشام .. والتفتت إلى صلاح قائلة دون أن تنظر إليه :- فعل ما لم تستطع فعله أبدا يا صلاح .. لقد منحني الأمان .. وأنت لم تعد قادرا على أذيتي بعد الآن .. فإن كان لديك ما تقوله فلتقله الآن
ساد الصمت لدقائق تلاقت خلالها عيون هشام وصلاح بتحدي .. بينما نقلت سمر عيناها بين الجميع قبل أن تنسحب إلى غرفة جودي .. أماني كانت متوترة .. وترتجف من الداخل كورقة في مهب الريح .. وتريد أن تنتهي هذه المواجهة قبل أن تفقد أعصابها
قال صلاح أخيرا بتوتر :- كل ما أريده هو الاعتذار منك .. عما سببته لك خلال السنوات السابقة .. بالأخص عن تهجمي اللا إنساني في شقتك .. أعرف بانك تكرهينني .. وتتمنين ألا تقع عيناك علي مجددا .. ولكنني أحببت أن أطمئنك إلى أنني لن أزعجك بعد الآن يا أماني
نظرت إليه أخيرا قائلة باستنكار :- وهل تظنني أصدق وعودك وأعذارك يا صلاح ؟ هل تمسح كلمات واهية ما فعلته بي لسنوات أنت وأبي ؟ هل تنسيني بأنه قد فضلك علي وحرمني من حبه وعطفه حتى عندما أذاني هو نفسه ؟
شحب وجهه وهو يتذكر تلك الليلة .. عندما سقطت أماني شبه ميتة على إثر ضربة والدها .. الليالي التي قضاها أمام باب غرفتها في المستشفى دون أن يجرؤ على الدخول .. خوفا من رؤية البغض على وجهها عندما تصحو من غيبوبتها
قال بصوت باهت :- لا ألومك على كراهيتك لي يا أماني .. ولا ألتمس منك الصفح لأنني لا أستحقه .. كل ما أريده هو أن تعرفي بأنني نادم على كل ما فعلته .. وأنني لن أتعرض لك مجددا .. لن تري وجهي بعد الآن يا أماني.. قد تتقاطع طرقنا بسبب ارتباط كلينا بجودي .. ولكنني أقسم بأنني لن أؤذيك مجددا
ظهر عدم التصديق جليا في عينيها .. فنظر إلى هشام قائلا بحزم :- أعرف بأنك لن تثق بأي تعامل يتم بيني وبين أماني .. لهذا كلفت المحامي بالاتصال بك لترتيب أمر إعادتي لجميع حقوق أماني التي حرمها منها والدها .. نصيبها من الشركات .. والأموال السائلة .. نصف المنزل فهو من حقها ومن حق جودي .. أعرف بأن الوقت متأخر على قيامي بهذا .. ولكن كل ما أطلبه هو أن أبرئ ذمتى نحوك يا اماني .. وأكفر عن ذنوبي .. وفي النهاية قد تتمكنين من النظر إلي كابن عم لك مستعد للوقوف إلى جانبك عند أقل حاجة منك إليه
الصدمة أخرست أماني .. بينما استحال وجه هشام إلى قطعة من الرخام .. قال صلاح أخيرا بعد أن طال صمتهما :- وإن أذنتما لي .. سأزور جودي من حين إلى آخر .. واتصل بها لأطمئن عليها وأتأكد بأنها بخير .. قد لا تحتاج إلي بعد الآن وقد حصلت على عائلة جديدة .. ولكنني أنا من سيكون بحاجة إليها .. ففي النهاية .. هي آخر من تبقى لي من عائلتي
عندما غادر صلاح أخيرا .. ابتعدت أماني عن هشام ببطء .. وقد خيم الصمت ثقيلا بينهما ... بالكاد شعر أحدهما بالمارة من حولهما .. أو سمع النداء الذي صدح به مكبر الصوت مستدعيا احد الأطباء لسبب ما
نظر كل منهما إلى الآخر .. هي مصدومة .. عاجزة .. وهو جامد الوجه .. غامض النظرات .. نطقت أخيرا بصوت خافت :- لقد انتهى كل شيء
أومأ مؤكدا بهدوء :- هذا صحيح يا أماني .. ما عدت مضطرة للعيش في الخوف بعد الآن
نظرت إلى عينيه قائلة :- وأنت ما عدت مضطرا للإبقاء على زواجنا .. لم أعد بحاجة إلى حمايتك يا هشام .. الغرض من هذا الزواج لم يعد موجودا
ما الذي تفعله ؟ هل تطلب منه حقا أن يتركها ويرحل ؟ .. أن يطلقها ويتحرر منها ؟
تمنت لو يعترض .. أن يصيح بحدة عن سخافة ما تقول .. وأنه لن يطلقها أبدا لأنه يحبها .. ويرغب بها في حياته إلى الأبد
ولكن ما رأته هو البرود يكسو عينيه وهو يقول :- هذا صحيح
حبست أنفاسها وهي تقول :- وما الذي سنفعله الآن ؟
:- لا شيء على الإطلاق
رفرفت بعينيها وقد انتعش الأمل في قلبها .. حافظت بصعوبة على رزانة ملامحها وهي تنتظر بلهفة ما سيقوله .. ولكنه هتف بخشونة :- بالكاد مرت أسابيع على زواجنا يا أماني .. هل ترغبين في التسبب بفضيحة أخرى ؟.. زواج نورا سيتم قريبا ولن أسمح بأن يهدده أو يعكره أي شيء
شحب وجهها .. وقد صفعتها كلماته .. عجزت عن التفوه بأي حرف حتى عندما قال بصرامة :- لا أحد على الإطلاق سيعرف بموضوع الطلاق حتى يتم زفاف نورا بسلام .. وأتأكد بنفسي من نوايا ابن عمك .. وفي هذه الأثناء .. جودي ستكون بحاجة إليك .. ولن يشك أحدهم بالأمر إن اخترت البقاء معها في منزل عائلتك خلال الأسابيع القادمة
أسندت نفسها إلى الجدار كي لا تسمح لجسدها بالتخاذل فوق ساقيها المرتعشتين .. بصعوبة شديدة تمكنت من الاحتفاظ بجمود ملامحها وإخفاء الألم المميت الذي يفتك بقلبها وكيانها .. قالت بجمود :- بالتأكيد
نظر إلى ساعة يده بنفاذ صبر وهو يقول :- سأطلب من والدتي أن توضب لك بعض الأغراض التي قد تحتاجينها .. وتستطيعين العودة لاحقا لأخذ ما يلزمك بنفسك
قالت ببرود :- لا داعي لهذا .. ملابسي القديمة ما زالت موجودة هناك .. سأستخدمها إن دعت الحاجة
نظر إليها .. والتقت عيناهما طويلا .. بذلت جهدا خرافيا لتحتفظ بثباتها قبل أن يقول بلا تعبير :- بلغي جودي تحياتي
ثم استدار مغادرا .. راقبته وهو يبتعد حتى اختفى في نهاية الرواق .. في تلك اللحظة فقط .. شهقت بقوة غير قادرة على
التقاط أنفاسها .. جثت على ركبتيها وهي تشعر بالضعف في جميع أنحاء جسدها .. وألم لا يطاق في صدرها حتى أحست بالاختناق
لن تبكي .. لن تبكي .. رمشت بعينيها عدة مرات كي تجفف دموعها التي أخذت تتجمع بعناد مصرة على التمرد والعصيان
هزت رأسها بقوة وهي تهمس بإصرار :- لن أبكي .. لن أبكي .. لقد كنت أعرف بانني سأخسره يوما .. وهو لم يخدعني .. لم يوهمني بحبه ..لم يظهر أي تمسك بي
صوت جودي القادم من الغرفة منحها القوة لتنهض .. وتهرب إلى حمام السيدات الموجود في نفس الطابق .. وفور أن انفردت بنفسها بعيدا عن مسامع جودي ونظر سمر .. انهارت كل مقاومتها .. وانهارت على الأرض وهي تجهش بالبكاء كما لم تفعل من قبل .. وكأن كل تمسك لها بالقوة لم يعد ذا معنى بعد الآن
لقد خسرت هشام .. خسرت قلبها وحياتها .. ما الذي بقي لها لتحارب لأجله بعد الآن



الفصل الثاني والأربعون
لا للانتظار

أجاب تمام عن سؤال اماني بدون تركيز حقيقي :- سيصلان في صباح يوم الثلاثاء القادم
لاحظت بأن عيناه تعودان باستمرار للتركيز على السلم العريض المؤدي إلى الطابق الثاني فابتسمت قائلة :- وما رأيهما في الموضوع ؟
أجبر نفسه على النظر إلى أماني قائلا :- متحمسان للغاية للقاء جودي .. لا يصدقان بأنني قررت الاستقرار أخيرا
في تلك اللحظة .. برقت عيناه وهما تتأملان الجسد الضئيل الذي ظهر أعلى الدرج .. وأخذ ينزل ببطء شديد .. بقدم ما تزال تعرج حتى بعد مرور أسابيع على الحادث .. وذراع ملفوفة بحامل قماشي لم يخف جمال وبساطة ملابسها الأنثوية .. لاصق طبي على جانب جبينها لم يؤثر إطلاقا في جمال وجهها الجميل و المشرق من شدة السعادة .. بينما انسدل شعرها الداكن حول وجهها وفوق كتفيها بدلال
وقف ببطء وعيناه تلتهمان كل جزء منها .. قبل أن تركزا على العينين الصافيتين والمتلهفتين إليه بشوق مماثل .. قال لأماني دون أن تفارق عيناه جودي :- بالإذن منك يا شقيقة المستقبل
خلال لحظات كان قد اعتلى الدرج بقفزات قليلة حتى وصل إلى حيث تقف جودي .. وانحنى يحملها بين ذراعيه بسهولة شديدة .. أطلقت على إثرها صرخة رعب استحالت على الفور إلى ضحكة عالية وهي تقول :- تمام .. أستطيع السير وحدي
قال مداعبا :- حتى تشفى قدمك تماما .. سأحل محل ساقيك .. لن أسمح لك بالشعور بالألم مجددا
راقبتهما أماني وعلى شفتيها ابتسامة باهتة .. في حين أنزل تمام جودي فوق الأريكة وجلس إلى جوارها وهو ينظر إليها بشوق قائلا :- كيف حالك اليوم يا أميرتي ؟
توردت وجنتا جودي وهي تجيبه هامسة .. بينما وقفت أماني التي أحست بأنها متطفلة بين العاشقين وقالت :- سأعد القهوة لنا جميعا
انسحبت إلى المطبخ لتجد الخادمة قد بدأت بإعداد القهوة بالفعل .. نظرت المرأة المسنة إليها قائلة :- لم أر جودي سعيدة هكذا منذ فترة طويلة
هزت أماني رأسها قائلة :- وأنا أيضا
صبت الخادمة القهوة في الفناجين الصغيرة قائلة :- أخيرا ستجد كل منكما السعادة .. ليت والديك على قيد الحياة ليشهدا على هذا
جمدت الابتسامة على وجه أماني وهي تقول :- اتركي فنجاني هنا لو سمحت .. سأشربه في المطبخ
لم تعترض الخادمة إذ عرفت بأن أماني تحاول توفير الخلوة للخطيبين .. هذا صحيح .. تمام وجودي خطيبان رسميا الآن .. لقد فاجأها ذات نهار في المستشفى بخاتم الخطوبة الذي اشتراه خصيصا لها .. وألبسها إياه أمام عينيها الذاهلتين .. وأصر على أن يعقد القران فور وصول والديه من الولايات المتحدة
جلست أماني على المقعد الخشبي .. وأسندت مرفقيها إلى الطاولة الصغيرة وهي تخفي وجهها بين يديها .. أخيرا ستجد جودي السعادة .. ستتزوج من الرجل الذي تحب .. الرجل المناسب القادر على العناية بها ومنحها ما تستحقه من الحب والحنان .. سيتزوجان قريبا .. وسيعيشان في هذا المنزل الكبير بعد أن يشتري تمام حصة أماني فيه ليجعل منه عش الزوجية .. ومكانا مناسبا للأطفال الكثر الذين يخطط لإنجابهم .. فشقته الحالية لا تناسب مخططاته بأي شكل كان .. وهو كان يقيم فيها مؤقتا كشاب عازب .. مستمتع بالذكريات التي تملأ جدرانها إذ كانت المكان الذي تزوج فيه والداه وعاشا قبل سفرهما إلى الولايات المتحدة .. وأماني لم تتردد في الموافقة على طلبه .. خاصة وقد أوفى صلاح بعهده .. وأعاد إليها جميع حقوقها .. بالإضافة إلى التزامه بعدم التعرض لها .. اتصاله بجودي لم ينقطع .. وقد حضر لزيارتها عدة مرات .. وفي كل مرة كان يقابل فيها أماني كان يحدثها فيها بتهذيب .. متحاشيا النظر إليها .. وكأن عينيه ستكشفان خبايا قلبه إن فعل
كان يتطرق إلى مواضيع غير شخصية عن صحة جودي .. عن شؤون العمل .. حتى أنه عرض عليها بشكل عابر أن تشارك في إدارة أملاك والدها .. ولكنه أبدا لم يتطرق إلى الماضي .. كما لم يسألها يوما عن هشام .. بعكس جودي التي كانت حائرة من انقطاع زياراته .. وكانت دائما تطالب أماني بالعودة إلى بيتها .. فتجيب هي بحزم بأنها لن تغادر المنزل حتى تشفى تماما .. وأن هشام يتصل بها باستمرار .. وهو ما لم يكن كذبا
كان يتصل بها كل بضعة أيام يطمئن على وضع جودي .. ويستفسر عن احتياجاتها هي .. بهدوء وكأنه رجل غريب .. وكأنهما لم يعيشا معا لحظات حلوة وغالية لا تنسى .. هي أيضا كانت ترد بنفس الهدوء نافية حاجتها إلى أي شيء منه
السيدة لميس كانت تزورها باستمرار .. برفقة سمر .. وأحيانا برفقة نورا .. العروس السعيدة التي بدأ العد التنازلي لموعد زفافها .. كن يسألنها عن موعد عودتها إلى بيتها وزوجها .. فتمنحهن الإجابة التي لقنها إياها هشام .. جودي بحاجة إليها .. وستبقى حتى تشفى تماما
أما عندما كانت تنفرد في غرفتها ليلا .. بعيدا عن نظرات جودي الثاقبة .. فقد كانت تترك العنان لمخاوفها .. ماذا ستفعل بعد أن تشفى جودي ؟.. كيف ستطلع أختها على حقيقة علاقتها بهشام ؟ إن عرفت فستصر على بقائها في المنزل معها .. واماني لن تستطيع البقاء بعد زواج جودي .. لن تكون دخيلة في حياة أختها الجديدة ..
إذن .. تنتظرها مهمتان ضروريتان ..إيجاد مكان تقيم فيه .. وهو ما لن يكون صعبا الآن وقد استعادت حقوقها وميراثها .. تستطيع شراء شقة جميلة وصغيرة .. ستؤثثها وتجعل منها مكانا رائعا للعيش ..
أما المهمة الثانية .. فهي إيحاد عمل جديد .. لا تضطر فيه لمواجهة هشام باستمرار .. واحتمال لمزات الآخرين وتخميناتهم .. قد تؤسس عملا خاصا يريحها من تسلط المدراء وإزعاجهم
نعم .. لقد اتخذت قرارا نهائيا .. ستبدأ في تأسيس حياتها .. لن تنتظر هشام حتى يقرر الوقت المناسب لتحريرها من زواجهما .. لن تترك الألم يكويها مجددا .. لقد عاشت بدون هشام خمسة وعشرين عاما .. تستطيع بقليل من الجهد نسيان الأشهر التي عرفته فيها عن قرب .. والأسابيع التي عاشتها معه
نعم .. ليس هناك أسهل من التخطيط والكلام .. وقد عرفت أماني بأن التنفيذ أكثر صعوبة منذ يومين فقط .. إنها حامل
بالإضافة إلى العلامات المعروفة .. أكد جهاز كشف الحمل المنزلي شكوكها .. إنها تنتظر طفلا .. طفل هشام .. وهذا يغير كل شيء .. صحيح ؟
بالنسبة إليها .. كان الخبر مخيفا .. ومثيرا في الوقت ذاته .. أن تمنح الحياة لطفل من لحمها ودمها .. تحبه وتمنحه ما افتقدته في حياتها من حنان وأمان .. لهدية عظيمة
المشكلة هي أنه سيكون طفل هشام أيضا .. وهو ما لن تستطيع إخفاءه عنه او عن الناس .. سيعرف هشام عن الطفل عاجلا أم آجلا .. وسيرغب بتربيته بنفسه تحت حمايته ورعايته ..سيحرص على ألا يحرم من والده كما حصل معه هو .. حتى لو اضطره هذا لإعادتها إلى بيته .. كزوجة له وأم لطفله .. وهي لا تريده بهذه الطريقة .. تريده أن يعيدها بسبب حبه ورغبته بها .. نعم .. لقد فكرت طويلا .. وأدركت بأن هشام لابد أن يكن لها شيئا من العاطفة .. لا يمكن أن يفعل ما فعله لأجلها لو لم يكن يحبها ولو قليلا .. لقد ساعدها .. حماها وتزوج بها .. والرجل لا يتزوج بامرأة لا تعني له شيئا
وخلال زواجهما .. جمعت بينهما لحظات مميزة لا تنسى .. كل ما فيها دل على عمق مشاعره نحوها .. لمساته .. نظراته .. كلماته الدافئة .. وقوفه إلى جانبها في المستشفى
لا .. لن تترك نفسها في حيرتها .. يجب أن تعرف الحقيقة .. وإن كان هشام غير قادر على اتخاذ قرار حاسم بشأنها .. فهي سترغمه على هذا
صباح اليوم التالي .. ذهبت إلى مكتبه قرابة الساعة العاشرة .. كان قد منحها إجازة غير محدودة كي تبقى إلى جوار جودي وتهتم بها .. أما هي .. فقد شكت بأنها مجرد وسيلة ليتحاشى فيها إحراج تواجدهما في مكان واحد .. ولكنها ملت الانتظار .. وقررت بأن الوقت قد حان لتضع النقاط على الحروف
لم تكن سكرتيرته موجودة في المكتب الخارجي .. فطرقت باب مكتبه .. وانتظرت سماع صوته قبل أن تدخل وقلبها يخفق بقوة توترا لرؤيته
كان هناك .. يتحدث إلى اثنين من مدراء الأقسام لديه .. وقد ظهر عليه الانشغال التام .. قطب عندما رآها قائلا :- ما الذي تفعلينه هنا يا أماني ؟
قالت بتوتر :- آسفة للمقاطعة .. أرى بأنك مشغول .. سأنتظر في الخارج حتى تنتهي
قال بحزم عندما كادت تغادر :- انتظري
بنظرة واحدة منه .. اعتذر الرجلان وغادرا المكتب وهما يحييانها بتهذيب .. فور خروجهما .. وإغلاقهما الباب خلفهما .. نهض هشام من كرسيه الجلدي .. بينما قالت هي :- لن تكن مضطرا لانهاء اجتماعك
قال وهو يدور حول مكتبه متجها نحوها :- ما دمت قد تكبدت عناء الحضور بدلا من الاتصال .. فأقل ما استطيع فعله لك هو منحك بعض الوقت .. هل من مشكلة ؟ هل جودي بخير
:- جودي بخير .. لقد تماثلت تقريبا إلى الشفاء
أومأ برأسه وهو يتأمل وجهها الشاحب الذي حاولت إخفاء إرهاقه بالزينة دون فائدة .. ونحول جسدها الواضح رغم أناقة ملابسها المختارة بعناية .. ثم قال :- وماذا عنك ؟ تبدين مريضة .. هل تهملين نفسك مجددا يا أماني
قالت بانزعاج وقد نفذ صبرها :- هلا توقفت عن أداء دور الفارس المغوار ولو لمرة يا هشام ؟
جمد مكانه وهو ينظر إليها ببرود .. دارسا مزاجها المتوتر .. مدركا بأن عاصفة هوجاء تختبئ أسفل هذا المظهر المتماسك .. قال بهدوء :- ما الذي جاء بك يا أماني؟
أخذت نفسا عميقا ثم قالت :- لقد جئت لأقدم لك هذا ؟
مدت يدها إليه بظرف مغلق .. نظر إليه دون أن يحاول أخذه .. قال بهدوء :- ما هذا بالضبط يا أماني
قالت بعصبية :- ستعرف فور أن تفتحه
قال بصرامة :- ولماذا أفعل مادمت واقفة أمامي وتستطيعين إخباري بمحتوياته
اشتدت أصابعها فوق الظرف .. والتقت أعينهما بتحدي قوي .. لن تسمح لسلطته عليها بإضعافها .. قالت بحزم :- إنها استقالتي يا هشام
ساد الصمت في المكان ثقيلا حتى بدا لها صوت أنفاسها صاخبا ومزعجا .. لم يطرأ أي تغيير على الملامح القاسية لوجه هشام الذي قال ببرود :- فسري كلامك
قالت بحدة :- ليس هناك ما أفسره .. إنها استقالتي .. بوضوح أكثر أنا لا أرغب في العمل لديك بعد الآن
:- والسبب
كادت تفقد اعصابها لبروده الشديد .. أحست بأنه يمارس عليها إحدى حيله التي يرهب بها موظفيه عادة .. وقد كانت دائما تنجح وببراعة معها
قالت متمسكة بهدوئها :- وجدت بأن عملي لديك بعد طلاقنا لن يكون منطقيا .. سيكون مزعجا لي .. ولك .. ومثارا للأقاويل في المبنى .. ونحن لسنا بحاجة إلى المزيد من الفضائح كما سبق وأشرت لي
قال بصرامة :- أنا لم أطلقك بعد
قالت بوقاحة :- سرعان ما ستفعل .. لم يعد هناك ما يمنعك كم هذا .. خدماتك الحمائية لم تعد مطلوبة بعد الآن
لاحظت بدقة كيف تشنجت أصابعه وهو يضمها على شكل قبضتين إلى جانبيه .. تعرف بأن هشام لم يكن يوما سريع الغضب .. كان دائما صبورا ومتأنيا .. إلا أنه حين يغضب أخيرا . فهو يفقد سيطرته الأسطورية على نفسه .. وهي تشهد الآن معركة طاحنة بين غضبه الشديد منها .. وإرادته الفولاذية
قال بشيء من التوتر :- لقد سبق وأخبرتك بـأن الطلاق غير وارد قبل زواج نورا
قالت بضجر :- زواج نورا سيتم الأسبوع المقبل .. وقد سبق ووعدتك بأنني سأحضره كأي كنة صالحة .. وأكون مصدر فخر لوالدتك أمام الناس .. وبعدها سينتهي كل ما بيننا أخيرا يا هشام .. أنت ستطلقني وتبحث عن زوجة أخرى تناسبك أكثر .. وأنا سأتابع حياتي وأبنيها من الصفر
شتم بغضب وهو يقول :- هل تظنين الأمر بهذه السهولة ؟ لن أطلقك بكل بساطة وأتركك تتخبطين وحيدة في حياتك مجددا
قالت بغيظ :- أستطيع تدبر أمري
:- حقا .. وهل فكرت إلى أين ستذهبين بعد زواج جودي وشراء خطيبها لحصتك من المنزل ؟
أجفلت قائلة :- كيف عرفت بهذا ؟
قال ساخرا :- ما زلت زوجتي يا أماني .. وكل ما يخصك يخصني .. وإن أردت أن أعرف كل شيء عنك فلن يقف شيء في طريقي
اشتعلت عيناها الخضراوان غضبا وهي تقول :- هذا يجب أن يتوقف الآن يا هشام .. لن أحتاج إلى رعايتك بعد الآن ..أنا أملك ما يكفي الآن لشراء شقة لائقة .. كما أن مكاني في شركات والدي محفوظ وفي انتظاري كي أساهم في إدارتها
لم تكن تفكر حتى بالأمر قبل أن تنطق به .. ولكنها أرادته أن يتوقف عن اعتبار نفسه مسؤولا عنها .. هي لا تريد أبا جديدا .. ولا تحتاج إلى ولي أمر يرعى شؤونها .. بل تريد زوجا وشريكا .. تريد رجلا يريدها بالمقابل ليس ليحميها فقط .. بل ليحبها أيضا
لم تدرك فداحة ما قالته حتى ارتسم تعبير وحشي على وجهه وهو يهدر :- لن تعملي لدى ذلك السافل إلا على جثتي
عرفت بأنه قد قصد صلاح .. قالت بغيظ :- ذلك السافل هو ابن عمي .. وأنا لن أعمل لديه بل معه وهناك فرق .. صلاح لا يستطيع أذيتي بعد الآن يا هشام فتوقف عن القلق
شهقت عندما تجاوز المسافة بينهما فجأة .. وأمسك بذراعها بقسوة وهو يقول :- منذ متى أصبح ذلك الرجل ابن عم بالنسبة لك ؟ لطالما كان الرجل الذي تكرهين .. الأن هو ابن عمك .. وغدا تعملين معه وترينه باستمرار .. ألم تفكري بأنها إحدى خططه الوسخة للحصول على ما لم يحصل عليه بالقوة ؟
حاولت أن تجذب ذراعها من بين أصابعه القاسية دون فائدة وهي تقول :- أنا لست غبية إلى حد الوقوع في إحدى خططه الفاشلة .. لن أثق بصلاح ولو بعد مليون سنة .. ولكنني أيضا لن أكون بحاجة إلى حمايتك أنت
قال من بين أسنانه :- لن أسمح له بالانفراد بك .. هل تسمعين ؟ لن تتمكني من مواجهته إن حاصرك مجددا .. وهذه المرة لن أكون موجودا لحمايتك منه
حررت ذراعها أخيرا من قبضته .. وزمت قمها الجميل وهي تقول متهكمة :- ما الذي تقوله الآن يا هشام ؟ هل أنت مستعد للبقاء متزوجا بي إلى الأبد فقط لتحميني من صلاح .. إن كان هذا ما تقصده .. فأنا آسفة .. لن أسجن نفسي في زواج فاشل كهذا فقط كي ترضي غريزتك الأبوية
دلكت ذراعها حيث كانت أصابعه وهي تقول متجاهلة علامات الغضب المرتسمة عليه :- سأكون موجودة ليلة زفاف نورا .. سيوصلنا تمام أنا وجودي فلا تزعج نفسك بعرض خدماتك .. وبعدها .. سيكون لنا حديث جدي آخر
خرجت بهدوء مغلقة الباب خلفها .. لتسمح لدموعها بأن تطل أخيرا من عينيها متجاوزة قناع القسوة الذي قابلت به هشام
همست لنفسها بضعف :- أنا آسفة يا هشام .. إن لم تكن لي بالطريقة التي أحتاج إليها .. فأنا لا أريدك على الإطلاق




الفصل الثالث والأربعون
سيدتي أنا

زفاف نورا كان مختلفا عن زفاف اماني .. فعائلة العريس الشديدة التحفظ أصرت على إقامة حفلين منفصلين .. أحدهما للنساء والآخر للرجال .. وقد ناسب هذا أماني إذ شجعها على ارتداء فستان سهرة رائع الجمال لا يتجاوز طوله الركبتين .. أبرز لونه الأسود جمال بشرتها البيضاء الناعمة .. ومنح جمالها ذلك الغموض الذي لطالما ميزه
اما جودي وبفستانها المشرق والمتعدد الالوان .. عكست مزاجها السعيد والمتفائل .. وبدت مدهشة خاصة في عيني تمام الذي ذهل لرؤيتها أثناء انتظاره لهما في الصالة
ارتدت أماني معطفا طويلا يخفي فستانها القصير .. ونظرت إلى نفسها في المرآة وهي تتمتم :- إنه آخر ظهور لك في المجتمع كزوجة هشام يا أماني .. تألقي ما استطعت .. كوني في نظر الناس المرأة المثالية لرجل كهشام .. إن لم أستطع رؤية هذا في عينيه فلأره في أعين الآخرين
انضمت إلى جودي وتمام في السيارة .. ثم اتجهوا جميعا إلى الفندق حيث يقام الزفاف
نورا .. السمراء الرائعة .. كانت تتألق بفستانها الأبيض الثمين .. السعادة كانت واضحة في العينين الشبيهتين بعيني هشام ..بينما قامت أماني بدور المضيفة إلى جوار حماتها .. ولفتت جميع الأنظار بجمالها .. ورقيها الفطري الموروث
..لاحظت بدقة إشارات النساء نحوها أينما تحركت .. هي ليست بحاجة لمن يخبرها بما يثرثرون به عنها .. فحكايتها القديمة مع والدها ما زالت شيقة رغم مرور وقت طويل عليها ..
انتهى الحفل بدخول العريس إلى صالة النساء في وقت متأخر .. وأخذه لعروسه بين الزغاريد وتحت بتلات الورود المنثورة فوق رأسيهما .. ثم بدأ المدعوون في العودة إلى منازلهم هانئين مطمئنين .. باستثناء أماني التي مازالت حائرة وقلقة نحو المستقبل
حماتها الباكية لوداع صغيرتها بدت منهارة .. فاصطحبتها سمر للمبيت في شقتها كي لا تعود إلى المنزل الخالي وتتذكر غياب أصغر أولادها
غادرت أماني صالة الاحتفال برفقة جودي التي لم تتوقف عن الثرثرة حتى رأت تمام في انتظارهما أمام سيارته الفارهة .. لوحت له وهي تنبه أماني لوجوده .. دون أن تدرك بان عيني شقيقتها كانتا معلقتين بالجسد الطويل لزوجها .. الذي انهمك في وداع ضيوفه أمام بوابة الفندق .. تتأملان رجولته الكاملة بملابس السهرة
بدا مرهقا رغم الابتسامة الدبلوماسية التي ارتسمت على شفتيه .. والتي اختفت فور التقاء نظراتهما ليحل محلها البرود الشديد وهو يعتذر من الرجال المحيطين به .. ويشق طريقه نحوها
شحب وجهها وهي تجر شقيقتها جرا نحو سيارة تمام قائلة بتوتر :- من الأفضل أن نعود إلى البيت .. فأنا متعبة
وقبل أن تعبر جودي عن حيرتها .. أمسكت يد قاسية بذراع أماني وانتزعتها من حماية أختها .. وأبعدتها عن سيارة تمام بينما دوى صوت هشام يقول بنعومة :- لم لا أوصلك أنا يا حبيبتي
قالت وهي ترتجف لإحساسها بجسده القريب منها بينما تضغط أصابعه على ذراعها محذرة :- لا داعي بأن تتعب نفسك .. سيوصلنا تمام .. لديك ما يكفي من المشاغل
نظر إلى تمام وحياه بسرعة .. ثم قال لها بلهجة مبطنة :- أنا متأكد بأن تمام وجودي لن يمانعا العودة وحدهما
نظرت جودي إلى أماني بقلق .. لقد خمنت منذ فترة بأن علاقة أختها مع زوجها ليست على ما يرام .. ورغم استجوابها الدائم لأماني .. فإن الأخيرة كانت تصمد دائما نافية وجود أي مشاكل بينها وبين زوجها
و الآن .. وهي ترى الذعر في عيني شقيقتها .. والغضب البارد في وجه صهرها .. تجهل إن كان عليها التدخل أم لا
إلا أن تمام هو من حسم الأمر قائلا :- لنذهب يا جودي .. سأوصلك قبل أن يتأخر الوقت أكثر
من الواضح أن بصيرة تمام كانت أكثر عمقا من بصيرة خطيبته .. لقد أدرك حاجة الزوجين إلى الكلام. فأماني التي كان يراها خلال الأسابيع السابقة .. مختلفة تماما عن تلك التي قابلها أول مرة .. والتي بالكاد كانت قادرة على الابتعاد عن زوجها ..
بنظرة واحدة منه .. أذعنت جودي وهي تعتلي المقعد الأمامي .. بينما تبادل هو نظرة تفهم رجولية مع هشام الذي سحب زوجته المتمردة نحو سيارته السوداء
راقبت أماني بيأس من فوق كتفها سيارة تمام تبتعد .. ثم استسلمت لقدرها عندما فتح لها هشام باب المقعد الأمامي آمرا :- ادخلي إلى السيارة
رمقته بنظرة غاضبة لم تهز منه شعرة واحدة .. ثم نفذت أمره متأففة .. بينما دار هو حول السيارة .. وجلس خلف المقود قائلا بغلظة :- ضعي حزام الأمان
نفذت أمره وهي تقول بلهجة لاذعة :- ما ينقص الآن هو أن أناديك بسيدي كي يكتمل سيناريو السيد والأمة الذي تمثله
قال بخشونة :- اصمتي يا أماني .. من الأفضل لك بأن تصمتي وإلا دفعت ثمن تصرفاتك الطفولية .. والآن حالا
أطبقت فمها بغضب .. وعقدت ساعديها أمام صدرها بتمرد وهي تراقبه يقود السيارة بأعصاب باردة .. متناقضة تماما مع المشاعر العاصفة في عينيه..
قالت بعد دقائق وهي تنظر من النافذة :- هذا ليس طريق البيت
قال بحزم :- بل هذا هو بالضبط طريق البيت .. بيت زوجك أن كنت قد نسيت بأنك ما زلت متزوجة
قالت بتوتر :- هل تختطفني يا هشام ؟.. أنا لا أريد الذهاب إلى ذلك المكان مجددا
اشتدت أصابعه حول المقود وهو يقول كاتما غيظه :- سنذهب إلى هناك يا اماني .. وسنحظى بالخصوصية التامة دون أن يقاطعنا أحد .. أم تراك نسيت الحديث الجدي العالق بيننا ؟
تذكرت بالتأكيد الطريقة التي غادرت فيها مكتبه بعد أن أثارت غضبه كما لم تفعل من قبل .. حسنا .. في النهاية يجب أن يتحدثا .. ويضعا النقاط على الحروف ليحددا مسار علاقتهما
ترى .. هل سينطق هشام بتلك الكلمة أخيرا .. هل سيطلقها ويخرج من حياتها إلى الأبد ؟
خلال لحظة .. كانت روحها القتالية قد خمدت .. وحل محلها الألم والمرارة .. ألم تكن هي من اقتحم مكتبه وعجل المحتوم ؟ .. كل ما أرادته هو دفعه لاتخاذ القرار النهائي .. مع علمها بأن رجلا مثل هشام ليس من النوع المتردد .. فهو إن أراد شيئا .. سعى نحوه دون مواربة .. وإن لم يرده .. فسيقولها مباشرة
أهذا ما يخطط له .. أن يخبرها مباشرة بأنه سيطلقها ويحررها أخيرا ؟
دخلت السيارة عبر البوابة المفتوحة .. فترجلت منها فور أن أوقفها أمام الفيلا.. سارت أمامه قبل أن يلمسها نحو المصعد الكهربائي .. حيث احتواهما بمساحته الضيقة المشحونة بالذبذبات الصادرة عنهما معا
تحاشى هشام النظر إليها حتى فتح المصعد .. هذه المرة .. أصر على أن يمسك بمرفقها ويدخلها بنفسه إلى شقتهما .. تحررت منه فور أن توسطا الصالة الواسعة .. رفضت النظر حولها وتذكر الأيام التي عاشتها هنا .. استدارت إليه قائلة بهدوء :- حسنا يا هشام ... ها قد انفردنا أخيرا .. وتستطيع أن تقولها لي بعيدا عن الشهود .. كلمة الطلاق سهلة للغاية ولن تكلفك الكثير من الجهد
ارتسم ذلك التعبير الصارم في وجهه وهو يقول ببرود :- أنا لن أطلقك يا أماني
استغرقت لحظات لتستوعب ما قاله قبل أن تقول بارتباك :- لماذا ؟
:- لم يحن الوقت لذلك بعد
ما الذي ظنته حقا ؟ أن يعترف بحبها وتمسكه بها ؟ استشاطت غيظا وهي تقول :- لست أنت من يحدد الوقت المناسب لطلاقنا يا هشام .. لقد اتفقنا منذ البداية على أن تطلقني فور أن أطلب منك الطلاق
حل ربطة عنقه وسحبها من حول رقبته وهو يقول ببرود :- لقد قلت وبوضوح بأنك حرة في طلب الطلاق متى شئت .. ولكنني لم أقل أبدا بأنني سأطلقك
اضطربت انفاسها وهي تراقبه يحل أزرار قميصه بنزق وكأنه يشعر بالاختناق .. بينما كانت هي مرتبكة الأحاسيس تسأله :- ولكن لماذا ترفض أن تطلقني ؟ ما الداعي للاستمرار في زواج لم يعد لأحدا أي فائدة منه ؟
أحنى رأسه قليلا وهو ينظر إليها قائلا بلهجة ناعمة :- إذن .. فقد انتفت حاجتك إلي يا أماني .. وما عدت بحاجة إلى خدماتي كحارس شخصي .. أليس كذلك ؟
قالت بعصبية وهي تتراجع إلى الخلف :- أنا لم أقل هذا
:- ولكنك عنيته بتلهفك للانفصال عني فور تأكدك من سلامة نية ابن عمك .. أليس هذا صحيحا ؟
قالت بحدة وهي تلاحظ كيف تغيرت لهجته .. وتبطنت بالتهديد المستتر :- لا تلعب دور الضحية يا هشام .. لقد كان الهدف من زواجنا هو حمايتي من صلاح .. ولكنك لم تخرج من هذا الزواج خالي الوفاض .. لقد أسكت والدتك التي تركض وراءك منذ سنوات متلهفة لزواجك .. بينما كنت أنت رافضا لمنح نفسك لأي امرأة وكأن استسلامك وجه من وجوه الضعف الذي تكرهه .. ترفض أن تشعر بالحب نحو امرأة تستغل مشاعرك وتذلك كما أذل أمك حبها لأبيك .. تخاف أن تجد نفسك في موقع تستجدي فيه العطف كما كنت وأنت طفل صغير في العاشرة من عمره
أصابته كلماتها في الصميم .. وكأن خنجرا مسموما غرز في صدره .. فقطع المسافة بينهما ممسكا لذراعها بقوة وهو يجذبها إليه .. ويزمجر بغضب :- أيتها ال....
لم ينطق بالشتيمة .. ولكنها فهمتها .. كالعادة عندما تجد أماني نفسها عاجزة ومحاصرة .. تفقد السيطرة على لسانها .. وهذه المرة .. أنساها يأسها وألمها الخوف و الحذر .. فهتفت به ببغض :- هيا قلها .. لماذا لم تفعل ؟.. ولتضربني أيضا إن استطعت .. ولكنك لن تؤذي دجاجتك التي تبيض ذهبا .. لقد وجدت امرأة تستمتع بمعاشرتها دون أن تكون مضطرا لأن تحبها .. فلماذا تتخلى عنها ما دامت تمنحك ما تحتاج إليه
هالته بشاعة كلماتها فهزها بعنف وهو يصرخ بها :- اخرسي
تحرر شعرها من عقاله تحت تأثير عنفه .. وتطاير في جميع الاتجاهات ليعود فيستقر ثائرا حول وجهها المتورد بفعل الغضب ليمنحها جمالا وحشيا هز كيانه .. تدفقت دموع القهر من عينيها وهي تقول صارخة :- ما الأمر يا هشام ؟ هل تخيفك الحقيقة .. أم أنها تقرفك كما تقرفني ... ربما أكون قد استغليتك لتحميني من صلاح .. ولكن استغلالك لي لم يكن أكثر بشاعة .. ما الأمر ؟ .. ألا تظن بأنك قد حصلت على ما يكفي ثمنا لخدماتك .. هل تريد المزيد يا هشام ؟
أسقطت معطفها عن كتفيها على الأرض .. لتتيح له النظر إلى جسدها المغطى بالفستان الرقيق .. تراجع مرتجفا وهو يشيح ببصره عنها .. وقد انحنى كتفاه وكأن ثقلا كبيرا يجثم فوقهما
أغمضت عينيها بقوة للحظات .. وكتمت أنفاسها كي لا يعلو نشيجها .. لا يمكن للحقيقة أن تكون أكثر وضوحا .. إنه حتى لم ينفي صحة كلماتها .. انحنت تلتقط معطفها .. ثم اتجهت نحو الباب بساقين ثقيلتين .. لم تعرف إلى أين ستذهب في هذا الوقت المتأخر .. ولكنها أرادت فقط أن تبتعد عنه .. أن تبكي دون أن يشهد هزيمتها
وقبل أن تعبر نصف الصالة .. أمسكت يده الخشنة بكتفها .. وأدارتها نحوه .. وسرعان ما وجدت نفسها بين ذراعيه .. قاومته بشراسة وهي تصرخ به :- ما الذي تفعله .. ما الذي تريده مني ؟
ارتفعت قدماها عن الأرض .. في اللحظة التي كتم فيها صراخها بفمه ... قبلها بعنف وقسوة كما لم يفعل من قبل .. شيئا فشيئا كانت مقاومتها تختفي .. وشوقها إليه يعود إلى الحياة مجددا .. ذراعيها التفتا حول عنقه وهو يحملها إلى غرفة النوم .. وكأنه يحاول إبقائها بالطريقة الوحيدة التي لم يستعملها معها .. لقائهما اتسم بالعنف واليأس .. كل منهما كان يظهر للآخر مشاعره بالفعل بعد أن عجز عن استخدام القول .. دموع أماني سالت أنهارا وهي تضمه إليها وتمنحه حبها الكامل .. لم تفكر على الإطلاق في مغبة استسلامها هذه المرة .. لقد أحبته إلى حد الجنون .. وأرادته إلى حد الألم .. وكل ما رغبت به في تلك اللحظات هو أن تنعم بقربه كما لو أنها لن تفعل بعد الآن
لم تكن قد استعادت أنفاسها بعد ..عندما أحست به يبتعد عنها .. فتحت عينيها لتراه ذاهلة وهو يرتدي ملابسه .. فسألته باضطراب :- ما الذي تفعله ؟
نظر إليها من علو.. فحبست أنفاسها لما قرأته على ملامح وجهه المظلمة .. قال ببرود :- أرتدي ملابسي وأتركك في حالك يا عزيزتي .. أعتقد بأننا قد تساوينا الآن .. وأنا قد أخذت ثمنا عادلا لخدماتي لك .. وتستطيعين من الآن فصاعدا الذهاب حيث تشائين .. أنت حرة يا عزيزتي .. ولن أعيقك مجددا
غادر الغرفة دون أن يمنحها نظرة أخرى .. أو حتى الفرصة لتصحو من صدمتها .. سمعت صوت باب الشقة يصفق بعنف .. فجلست فوق السرير الذي شهد لتوه إعصار حبهما .. ونظرت حولها كالمجنونة قبل أن تطلق ضحكة هستيرية سرعان ما استحالت إلى بكاء مرير .. دفنت وجهها في الوسادة التي مازالت تعبق برائحته وأخذت تنشج بقوة لفترة طويلة لم تحسبها .. في النهاية .. وعندما بدأت تشعر بنفسها على وشك أن تموت تعبا وإرهاقا توقفت عن البكاء .. ولكنها لم تستطع أن تنام .. وكيف تنام في شقة رجل طردها لتوه من حياته .. سحبت نفسها من السرير .. ودخلت إلى الحمام .. وقفت تحت المياه الساخنة لساعات وهي ترفض حتى أن تفكر بما فعلته بنفسها .. هي لم تخطئ .. لقد أحبت زوجها ومنحته قلبها وجسدها .. وهو بكل بساطة خذلها ونبذها وكأن شيئا لم يكن
أوقفت شلال المياه .. ولفت نفسها بروب الحمام الطويل .. ستشرق الشمس بعد دقائق .. من الأفضل لها أن تجهز نفسها وتحزم بعض أغراضها وتخرج من هذا المكان قبل عودة هشام .. فهي لا تستطيع مواجهته مجددا .. بل هي ترفض أن تراه مجددا .. ستغادر الشقة وتبتعد أميالا عن كل ما يتعلق به .. وعندها .. ستتخذ قراراتها بهدوء وروية .. وتتذكر بأنها تحمل طفلا في أحشائها .. طفلا تقع على عاتقها مسؤولية توفير حياة آمنة ومريحة له ..حياة خالية من التعقيدات ..
بينما كانت تمشط شعرها أمام المرآة .. سمعت صوتا مكتوما من الصالة .. فسقط المشط من يدها وقد اعتراها الذعر .. أهو هشام ؟ هل عاد قبل أن يتيح لها فرصة الرحيل بكرامتها
انتظرت أن يقتحم عليها الغرفة .. إلا أنه لم يفعل .. وبعد دقائق حدثت نفسها بأنها إنما كانت تتوهم ذلك الصوت .. ورغم هذا .. سارت إلى الصالة لتتأكد بنفسها .. لتجد هشام هناك .. جالسا فوق الأريكة محنيا رأسه إلى الأسفل وقد احتضنه بيديه ..
أحس بوجودها فرفع رأسه إليها ... أذهلها ما رأته من إرهاق وتعاسة في وجهه وعينيه الحمراوين .. وبدلا من أن يبادرها بأي من الكلمات المهينة التي توقعتها .. التزم بالصمت .. وهو ينظر إليها بلا أي تعبير .. فتمتمت بخفوت :- لم أتوقع عودتك قريبا .. وإلا ما كنت وجدتني هنا
صمت للحظات طويلة قبل أن يقول بهدوء :- أعرف .. ولهذا بالضبط .. أنا لم أغادر الشقة على الإطلاق
ماذا ؟ .. وماذا عن صوت انصفاق الباب ..؟ هل كان موجودا هنا طوال الوقت ؟ هل استمع إليها وهي تبكي كالمجنونة ألما على فراقه ؟
شحب وجهها وضاقت أنفاسها حتى أحست بأنها ستفقد الوعي .. ولكن صوته أعاد لها التركيز وهو يقول :- لقد كنت على وشك الرجيل .. ولكنني لم أستطع .. عرفت بأنني ما أن أتجاوز عتبة هذا الباب حتى أفقد أي حق لي بالعودة
عرفت بأنه لم يقصد العودة إلى الشقة .. فنظرت إليه بذهول تنتظر منه أن يكمل ما بقول
هز رأسه وهو يقول :- جلست هنا لساعات .. أستمع إلى بكاءك .. غير قادر على الدخول إليك ومواساتك .. وكيف أفعل وأنا لا انفك أبعدك عني ببرودي وكبريائي السخيفين
نهض واقفا فشهقت بخفوت عندما استعادت كل ذكرى حميمة جمعت بينهما .. نظر إليها بتعاسة صدمتها وهو يقول بصوت أجش :- لقد كنت محقة يا أماني .. محقة في كل كلمة قلتها عني .. أنا فعلا أكثر رجال الأرض جبنا عندما يتعلق الأمر بالعاطفة .. رأيت أمي لسنوات تعاني من حب رجل لم يبادلها الحب بمثله .. لن تعرفي أبدا صعوبة أن تتعذبي في حب انسان لا يعيرك أي أهمية .. لم أسامح والدتي يوما على ضعفها هذا .. وأقسمت يوما على ألا أسمح لنفسي بأن أصل إلى هذا المستوى من الضعف و التخاذل .. في الواقع .. لم أشعر بهذا النوع من التهديد أبدا حتى قابلتك يا أماني
أغمضت عينيها وهي تتوسل إليه سرا ألا يقول شيئا .. لن تستطيع تحمل المزيد .. ولكنه قال :- لقد كنت مخطئة في شيء واحد فقط يا أماني ... وهو أنك ما كنت أبدا بالنسبة إلي مجرد امرأة أعاشرها دون أن أحبها .. لقد كنت دائما وابدا المرأة التي لم أحبب يوما كما أحببتها
تدفقت الدموع من عينيها غزيرة وهي تهمس :- توقف أرجوك .. لا تقل شيئا لا تعنيه .. لا تكن نبيلا إلى هذا الحد لأنك سمعتني أبكي فحسب.. بكائي لا يعني شيئا ..
قال بتوتر :- وقد يعني كل شيء .. كل ما أردته يا أماني ان أشعر منك بشيء من العاطفة .. شيء مختلف عن الخوف والتوتر الذي وصم علاقتنا في بدايتها .. والألفة والامتنان بعد زواجنا .. لم أعرف إن كنت سأجرؤ يوما على الإفصاح عن شعوري نحوك لأنني كنت قد قررت منذ خمس سنوات بأن أدفن كل ما أحمله من عاطفة اتجاهك وألا أظهره مهما كلفني الأمر
منذ خمس سنوات .. خمس سنوات طويلة .. منذ بدأت في العمل لديه .. أحست بالدوار وكادت تفقد توازنها لو لم ترتكز إلى إطار باب غرفة النوم الذي لم تجرؤ بعد على تجاوزه
لاحظ شحوب وجهها .. وصدمتها القوية .. ولكنه تابع قوله بصوته الجامد :- نعم يا أماني .. منذ خمس سنوات دخلت إلى مكتبي فتاة صغيرة .. رائعة الجمال .. إلا أنها كانت بقوة عشرة رجال .. لم تسمح لأحد باختراق حصونها والاقتراب منها مما أثار فضولي بداية .. ثم إعجابي بعد ذلك .. ليتطور مع معرفتي بك عن قرب إلى مرض لعين لم أستطع منه فكاكا
ألم تفكري حقا بالسبب الحقيقي الذي دفعني لعرض الزواج عليك ؟
تمتمت بصوت مختنق :- لقد أردت .. لقد أردت حمايتي من صلاح
:- لقد كان هذا أحد أسبابي .. لقد عجل هجوم صلاح ما كنت أخطط له منذ فترة .. كنت أهدف إلى كسب ثقتك أولا .. ثم حبك ثانية .. وبعدها أعرض عليك الزواج كأي رجل تقليدي .. ولكن خططي تغيرت مع تغير الظروف .. وفكرت بأنني سأسعى لكسب حبك مستعينا بألفة الزواج .. لم أفكر أبدا بانك لن تنظري إلي يوما إلا كوسيلة للخلاص من صلاح
اقترب منها وهو يقول :- ذلك اليوم في المستشفى .. عندما رفع عنك صلاح تهديده الدائم .. نظرت إلي بكل بساطة وتحدثت عن الطلاق .. هل تتخيلين كيف أحسست في تلك اللحظة ؟ .. عرفت بأن الوقت قد داهمني .. وأنك رغم كل شيء تريدين الطلاق .. فكرت بأنني في النهاية لم أترك لك خيارا عندما فرضت عليك الزواج .. وأنك تحتاجين إلى بعض الوقت فقط لتدركي بأنك أحببت العيش معي ولو قليلا .. وأنك لا تمانعين إن أكملت حياتك معي .. وفي الوقت المناسب ... ربما بعد أن تتزوج جودي .. سأجد كل الوقت لأهجم مجددا .. بطريقة مختلفة هذه المرة .. حتى اقتحمت علي المكتب ذلك النهار مطالبة إياي بالطلاق ..
أغمضت أماني عينيها غير قادرة على رؤية النظرة البائسة في عينيه .. ضم قبضتيه وهو يقول بانفعال :- رغبت بضربك وأنت تقدمين استقالتك بكل برود .. بل وتتكلمين عن العمل مع ذلك الحيوان .. أنا لا أهتم لو أنه أعاد إليك حقوقك أو حتى تنازل لك عن حقوقه هو .. ما كنت لأسمح له بالاقتراب منك إلا على جثتي ..
أمسك بذراعيها .. وهزها برفق ليجبرها على النظر إليه قائلا :- انظري إلي يا أماني
شهقت وهي تبعد وجهها عنه فكرر بيأس هذه المرة :- انظري إلي .. أرجوك
فتحت عينيها أخيرا لتنظر إلى وجهه الذي فقد لونه .. كان البؤس مرتسما على كل ملامحه وهو ينظر إلى تقاطيع وجهها بشغف .. قال بصوت أجش :- أحبك يا أماني .. أحبك كما لم أفعل من قبل .. وقد ظننت نفسي عاجزا عن حب أي انسان غير أفراد عائلتي .. كلماتك القاسية هنا قبل ساعات مستني في الصميم لمدى صحتها .. لم أدرك إلى ـأي حد أنا ضعيف وعاجز حتى واجهتني أنت بهذه الحقيقة .. الضعف الحقيقي هو أن أعجز عن الاعتراف بحبي للمرأة التي أحب أكثر من أي شيء آخر .. الضعف هو أن أراها ترحل وأعجز عن إيقافها بكلمة ..
لمس وجنتها بيده متحسسا نعومة بشرتها التي بللتها الدموع .. ومنع نفسه بصعوبة من أن يضمها إليه .. ليس قبل أن يضع النقاط على الحروف .. ليس قبل أن يبسط أوراقه أمامها بكل وضوح .. لن يكون هناك التباس هذه المرة .. ستكون الحقيقة .. والحقيقة فقط ما يجمع بينهما
قال بصوت خشن :- رأيتك تسيرين نحو الباب فلم أفكر إلا بأنني يجب أن أمنعك من الخروج .. وعندما لمستك .. لم أستطع حتى أن أمنع نفسي من تقبيلك مجددا .. من الإحساس بجسدك .. بدفئك وبحبك .. وتجاوبك لم يساعدني حتى على المقاومة .. أدركت بعدها فداحة ما فعلت .. إذ أنني أسرق منك خياراتك مجددا .. لقد فرضت نفسي عليك من جديد بلا مراعاة لمشاعرك .. كلماتي الجارحة لم تبد لي كذلك وقتها .. كنت وكأنني أحاول محو ما حصل وكأنه لم يحدث قط .. ثم عرفت .. عرفت بأنني أخسرك مجددا .. وللابد هذه المرة .. سماعك تبكين وحدك جعلني أفكر بأنك ما كنت لتجرحي بهذا الشكل لو لم أكن أعني لك الكثير .. بل أنك ما كنت استسلمت لي ومنحتني تلك العاطفة الجياشة لو لم أحتل مكانا في قلبك .. أنت أماني النجار .. سيدة الجليد التي لا تهزها الرياح .. لن تسمحي لي أبدا باختراق حصونك لو لم تحبيني كما أحبك بالضبط
احمر وجهها وهي تشيح بوجهها بعيدا .. فأمسك بذقنها .. ورفع وجهها إليه .. نظر إلى عينيها الخضراوين الغارقتين في العاطفة .. ثم قال هامسا :- إن كنت مخطئا في تحليلي لمشاعرك ... قوليها لي فقط .. ولن أزعجك أبدا بعد الآن ..
عادت دموعها تتدفق على وجنتيها وهي تهمس :- أنت تعرف بأنني أحبك .. لربما كنت في معظم الأحيان موظفة سليطة اللسان .. وزوجة متمردة ومزعجة .. إلا أنك أنت من كان يحتل قلبي دائما .. حتى قبل أن أعرف بأنني أحبك .. لطالما كنت أنت .
نظر إلى وجهها المتورد غير مصدق ..ثم طبع على شفتيها قبلة قوية وهو يقول :- يا إلهي .. هل تقولين الحقيقة ؟ أتحبينني حقا ؟
هزت رأسها متمتمة :- . كل عنادي وتمردي وإصراري على الطلاق كان رغبة في اكتشاف مدى تمسكك بي .. أردتك زوجا وحبيبا .. وليس حاميا متذمرا من مسؤولية رميت فوق أكتافه بلا إنذار .. كلماتي القاسية لم أعنيها حقا .. لقد كنت غاضبة لأنني ظننتك عاجزا عن حبي كما أحبك بالضبط
أمسك وجهها بين يديه قائلا :- أنا لست آسفا لأنك قلتها .. لقد أيقظتني كلماتك من غفلتي .. حررتني من غيبوبة دامت لسنوات .. أنت بين يدي الآن .. حبيبتي ولي وحدي .. ولن أسمح للحظة أن تمر بعد الآن دون أن أعبر لك فيها عن حبي
قبلها بشغف كاد ينسيها الأخبار التي ما زال يجهلها .. ثم فكرت بأن معرفته بحملها .. ستسبب له صدمة كبيرة خاصة بعد الطريقة القاسية التي عاملها بها قبل ساعات .. قد تؤجل اطلاعه على الأخبار حتى صباح الغد .. أو ربما الصباح الذي يليه .. ستحظى به لنفسها لساعات طويلة قبل أن تسمح لطفلهما بان يكون جزءا من حياتهما
تمتمت بين قبلاته :- هل كنت حقا سترحل لو لم تسمع بكائي ؟
هز رأسه قائلا :- ما كنت لأستطيع الرحيل .. عرفت بانني إن غادرت الشقة .. فإنني لن أجدك عندما أعود .. ستختفين من حياتي وتتركينها باردة .. وخاوية كما كانت قبل أن أعرفك
تمتمت :- كما حدث في قصة سيدة الشتاء
نظر إلى عينيها وهو يبثها حبه الخالص بنظراته الحانية قائلا :- أنت ما كنت يوما سيدة للشتاء ..
لقد كنت دائما بالنسبة إلي سيدة كل الفصول
أنت سيدتي أنا




* * * * * * * * * * *
تمت بحمد لله

{[ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ - إلهي لكـ الحمد والشكر نستغفركـ ياعفو ياغفور ))

ithran sara
2015-06-23, 12:39
السلام عليكم

انتهت الروايه

وأتمنى أن تنال أعجابكم :) <3

ithran sara
2015-06-27, 16:25
الفصل الخامس
بلا قلب

كانت أماني مستغرقة تماما في عملها عندما ارتفع رنين الهاتف الداخلي .. رفعت السماعة لتسمع صوت (سحر) .. سكرتيرة المدير يقول :- ماذا دهاك ؟ أنا أحاول الاتصال بك منذ دقائق
اشتمت أماني رائحة المشاكل .. فزفرت قائلة :- لقد عدت منذ دقائق من استراحة الغداء ثم انهمكت في العمل ولم أسمع صوت الهاتف .. مالأمر ؟ هل يطلبني الكونت في مكتبه ؟
كانت قد أطلقت عليه منذ عام لقب الكونت كدلالة على تعجرفه واستبداده .. وقد أعجب اللقب باقي الموظفين ودفعهم لاستعماله بحرص فيما بينهم كي لا يصل الأمر الى المدير
قالت سحر بتوتر :- الكونت غاضب لتأخرك .. لذا أنصحك بترك ما في يدك والقدوم الى هنا فورا بكامل أسلحتك .. في حال قرر أن يلتهمك كتحلية بعد الغداء
أنهت أماني المكالمة .. وتنهدت بسأم .. لا مزاج لديها اليوم للشجار معه .. ولكن إن كان مصرا فهي مستعدة له دائما
تناولت بعض الأوراق التي طلبت منها سحر إحضارها معها .. وتأكدت من حسن مظهرها وأناقتها قبل أن تغادر مكتبها
وقبل أن تدخل إلى مكتب المدير .. أخذت سحر تلقي عليها عشرات التعليمات ( أرجوك .. كوني مهذبة – لا تغضبيه هذه المرة – فقط استمعي إلى ما يقوله و ........)
كان خوف سحر منه طبيعيا كأي موظف آخر في الشركة من المدير الصارم الذي أسس ثروته من لا شيء .. وفقا للقليل الذي أخبرتها به خالته سمر عنه .. فإنه لم يترك عملا شاقا أو مهينا إلا ومارسه منذ كان في العاشرة من عمره .. وهذا يفسر بالتأكيد صلابته .. وافتفاره التام إلى العاطفة في التعامل مع الغير
أخذت نفسا عميقا وطرقت الباب .. ثم دخلت عندما سمعت الصوت الصارم يدعوها إلى الدخول .. خطت إلى داخل المكتب الفسيح .. وركزت اهتمامها نحو مركز الغرفة حيث استقر (هشام عطار)
وقد ملأ مقعده الجلدي بكتفيه العريضتين .. منهمكا في إحدى مكالماته الهاتفية المهمة .. رفع بصره إليها .. وأشار لها بيده أن تقترب .. ثم تجاهلها تماما وهو يستمع إلى محدثه
أقفلت الباب ورائها بهدوء .. وظلت واقفة على بعد مترين على الأقل عن مكتبه بمنأى عن الخطر .. تململت بضيق عندما استغرق وقتا أطول مما توقعت في مكالمته .. وإن كان الحديث كما فهمت يتعلق بصفقة مهمة .. ظهرت على ملامحه السمراء الخشنة علامات الاهتمام وهو يتحدث بصوته الأجش المتسلط .. أشفقت على محدثه الذي يجفف عرقه الآن في الغالب محاولا مجاراة خصمه الذكي والحازم .. الذي اعتاد على الحصول على ما يريده بأي ثمن كان
أزاحت عينيها عنه نحو محتويات المكتب الخشبي الضخم الذي تراصت فوقه الأجهزة الحديثة بأنواعها .. ثم دارت ببصرها حول المكان تتأمل الأثات الفخم الذي ملأه .. وغيرها من مظاهر الثراء التي لا يتردد أمثاله في إظهارها للآخرين .. لم تدرك بأن نظرة الازدراء كانت مرتسمة بوضوح في عينيها حتى سمعت صوته البارد يقول :- هل انتهيت من تقييمك للمكان ؟
رفعت عينيها إليه بسرعة . وغضبت من نفسها عندما احمر وجهها بحرج .. متى أنهى مكالمته وبدأ بمراقبة تفحصها الدقيق لمحتويات مكتبه ؟ لم ترغب بزيادة الأمر سوءا فتنحنحت قائلة بتهذيب :- أخبرتني سمر أنك طلبت رؤيتي
تراجع فوق مقعده ورمقها بإحدى نظراته السوداء وهو يقول ببرود :- أنا لا أطلب في هذا المكان يا آنسة أماني .. ونعم لقد أمرت سحر باستدعائك منذ نصف ساعة على الأقل .. وأرغب بشدة في أن أعرف سبب هذا التأخير
تمالكت أعصابها وقد عرفت بأن مزاجه اليوم يتوق إلى توبيخ أحدهم وقد وقع اختياره كالعادة عليها .. قالت بصبر محافظة على تهذيبها :- لم تنته استراحة الغداء إلا منذ ربع ساعة ..
:- كنت في صالة الطعام إذن
:- نعم .. برفقة باقي الزملاء
كست الصرامة ملامحه وهو يقول :- إذن .. فلتبلغي زملاءك بأن استراحة الغداء تعتبر ملغاة منذ هذه اللحظة و حتى شهر من الآن .. وأي تقاعس عن العمل خلالها أو مغادرة للشركة من أي موظف .. ستؤدي إلى تمديد العقوبة إلى أجل غير مسمى
صرت على أسنانها بغيظ .. سيقتلها زملاؤها في حال عرفو بالكارثة الجديدة التي جلبتها عليهم بسبب تأثيرها غير المسبوق على هذا الرجل .. لم تتمالك نفسها .. ورمت بتهذيبها عرض الحائط .. قائلة بحدة :-
:- مفهوم .. سأخبر الجميع بالحمية الإجبارية الجديدة .. وأنصحهم بتسريب سندويتشات منزلية داخل معاطفهم منذ الغد لاستراق اللقيمات من وراء ظهرك ريثما تصدر أوامرك التالية بمنعنا عن التنفس
.. رمى قلمه من يده فأجفلت لحركته المفاجئة .. لاحظت عينيه السوداوين تلمعان بغضب شديد .. ولكنه تأملها طويلا حتى أحست بنظراته ستقتلعها من مكانها .. ثم ارتفع صوته الجهوري فجأة :- أنت تستمتعين بهذا .. أليس كذلك ؟
قالت بحذر :- ماذا تقصد ؟
:- أنت تستمتعين باعتماد اللامبالاة في تصرفاتك .. وإحالة جو العمل إلى نوع من السخرية والفوضى
قالت بتوتر :- لقد سبق واعتذرت عما حدث الأسبوع الماضي .. ووعدتك بألا يتكرر
قال بجفاف :- وماذا عما حدث اليوم ؟
ارتفع حاجباها بدهشة وهي تقول :- ماذا ؟؟
لوى فمه القاسي بابتسامة بالكاد ظهرت .. بدا واضحا مدى استمتاعه بحيرتها .. نهض واقفا ودار حول المكتب فتراجعت تلقائيا عندما دنا منها بطوله الفارع وجسده الضخم المكسو بالبذلة الأنيقة .. توترت وهو يزيد من اقترابه ببطء قائلا :- دعيني أخمن .. هل تبادلت حديثا شيقا مع زملاءك أثناء تناولكم الغداء في كافيتيريا الشركة ؟
شحب وجهها وقد فهمت قصده .. لقد انخرطت في حديث ساخر مع مجموعة من زملائها .. وقد كانت أصواتهم مرتفعة بحيث سمع الحديث جميع الجالسين حول طاولتهم .. أخذت تقلد المدير الصارم بأسلوب
فكاهي أضحك الجميع .. ثم استرسلت في الحديث عن الجليد الذي يجري في عروقه بدلا من الدماء .. وافتقاره التام للإحساس .. وعن قناعتها بأن السبب في عزوفه عن الزواج رغم تجاوزه الثلاثين بسنوات هو هروب النساء من وجهه العابس الذي لا يبتسم إلا لكسب صفقة أو مال وفير كغيره من محدثي النعمة ..
لقد قالت الكثير من الكلام المسيء والمهين له .. ولكن من يلومها إذا كان صورة لا تختلف كثيرا عن والدها أو صلاح ؟
لقد كان هشام عطار نموذجا للرجل المستعد لفعل أي شيء لأجل زيادة ثروته .. قد تتفهم دوافعه نظرا إلى نشأته الصعبة .. ولكنها لن تتفهم أبدا تصرفاته المتسلطة والمتكبرة وقسوته الغير مبررة نحو موظفيه .. تمالكت أعصابها وقالت ببرود :- كيف عرفت هذا ؟
نظر إليها ببرود أخافها .. لطالما أخافتها نظراته الغير مفهومة والغامضة المطلة من عينيه الحادتين كعيني الصقر .. فال :- لدي مصادري
قال بحدة :- تقصد جواسيسك
رفع حاجبيه القاتمين فلاحظت بوضوح ذلك الأثر القديم لجرح طولي قاطع أحدهما .. مما ذكرها بندبتها المخفية تحت خصلات الشعر المسدلة بعناية حول وجهها وقال :- ربما
تراجعت خطوتين كي تجد الشجاعة لأن تقول بعصبية :- إن كنت تطالبني باعتذار فلن تحصل عليه .. عملي لديك لا يمنحك السلطة للتحكم بأفكاري ورأيي بك ..
هدر بصوت جمد الدماء في عروقها :- موقف آخر من هذا النوع وستجدين نفسك خارج جدران هذا المبنى دون رجعة
هتفت باستنكار :- هل تهدد بطردي ؟
:- ولم العجب ؟ أنا رجل عديم الإحساس والعاطفة .. ومحدث نعمة لا أخلاق له .. ما الذي يمنعني من إلقائك خارجا بدون أي تردد ؟
احمر وجهها وهي تستمع إلى صدى كلماتها المهينة من خلال صوته الغاضب .. إنه محق بغضبه بالتأكيد .. ولكن طردها لهذا السبب لن يكون عادلا
تراجع عنها وعاد إلى عرشه الواقع خلف المكتب وهو يقول بهدوء :- من حسن حظك أن علاقتك بسمر تشفع لك .. وإلا لكنت تبحثين عن عمل آخر منذ فترة طويلة
قالت بحدة :- أنت لا تبقيني هنا إكراما لسمر فأنا موظفة كفؤة وأنت تعرف هذا تماما
عاد يرسم على شفتيه تلك الابتسامة الساخرة .. ورفض منحها تأكيدا شافيا .. بل قال وهو يسترخي فوق مقعده :- في الواقع ..أستغرب أن يكون لامرأة مثلك أي علاقة صداقة بسمر .. فهي امرأة دافئة ورقيقة .. لا تكف أبدا عن العطاء .. أما أنت ...
ارتجفت عندما جرت عيناه السوداوان الحادتان فوق ملابسها الأنيقة بتقييم مشمئز وهو يقول :-
:- طفلة مدللة وثرية .. اعتادت الحصول على ماتريده بأي ثمن .. تكاد تدمرك عقدة التفوق التي ولدت معها .. وهذا واضح من طبيعتك العدوانية والمتهكمة .. التي لاتعرف أبدا كيف تحب أو تعطي
تمنت لو أنه لا يلاحظ شحوب وجهها .. فهو قد أصابها بالصميم دون أن يدري 00 بذلت جهدا خرافيا كي تحافظ على ثبات ملامحها وتحاشت النظر إليه كي لا يقرأ الألم في عينيها .. ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد .. بل تأملها طويلا قبل أن يقول بهدوء :- لقد كنت محقا .. أليس كذلك ؟ كلماتك التي قصدت وصمي بها لم تكن إلا انعكاس لك ولقلبك الميت .. كأمثالك ممن ولدوا وفي أفواههم ملعقة من ذهب ..يمتلكون كل شيء .. ولكن هذا يخلق داخلهم فراغا هائلا وافتقار إلى الإحساس والآدمية .. في المرة القادمة التي تتبجحين فيها وتبدأين بتعداد نواقص الغير .. تذكري نواقصك فهي أكثر مما تظهرين على ما يبدو
رفعت رأسها بصلابة لتواجهه .. كان قادرا على ملاحظة الحقد الوحشي يلمع في عينيها الواسعتين .. قالت ببرود :- هل أستطيع العودة إلى مكتبي الآن ؟
أشار بيده قائلا بتهكم :- لم أستدعيك لنتبادل حديثا اجتماعيا .. سنتحدث في العمل ثم تنصرفين إلى مكتبك
ثم اعتدل على كرسيه وهو يقول بجدية :- اجلسي من فضلك .. وأخبريني عن ......
اختفى تماما أي أثر لتهكمه وقسوته .. وعاد من جديد رجل الأعمال المحترف .. من يراهما الآن وهما يتناقشان بهدوء ماكان ليصدق مدى كراهية كل منهما للآخر
كان يتحدث .. ويلقي عليها بملاحظاته وتعليماته .. بينما تمنحه هي الإجابات المقتضبة وعقلها بعيد تماما عن العمل .. لقد كان غارقا بمدى إصابة هشام عطار للواقع في كلماته التي قصد بها إهانتها
ترى هل يعرف بأن قلب أماني قد مات حقا قبل سنوات قليلة ؟
وأنها لا تعرف إن كان سيعود يوما إلى الحياة .. أو أنها ستكمل ما تبقى من حياتها بلا قلب ..




اشكرك جزيل الشكر

ithran sara
2015-06-27, 16:26
قصة رائعة

على حسب ما قرات اظن ان القصة لم تنتهي

ننتظر النهاية

والمزيد من التالق

ان شاء الله

شكراااااا

amal97
2015-07-26, 18:11
الرواية روووعة بتجنن و انا انتظر التكملة و اتمنى انو تحطي صور الشخصيات متشوقة لشوفهم