المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحضارة والثقافة


MOHAMMED70
2014-04-15, 06:19
مقدمة عن الكتاب:
أحاول في هذه الصفحات أن يعرف القارئ أن الحضارة لا تتمثل فحسب
في عظام االمنشآت كالأهرام أو قصور فرساي أو العمائر الشاهقة التي
تصعد في الجو, كأنها تنطح السحاب في نيويورك ,بل هي تتمثل في صورة
أوضح وأصدق في صغار الاكتشافات التي تقوم عليها حياة البشر. فرغيف
الخبز مثلا أنفع للبشر من الوصول إلى القمر ,وبالفعل أنفقت الإنسانية
عشرات الألوف من السنين حتى وفقت إلى صنع رغيف الخبز أو إناء من
الفخار ,وانتقلت نتيجة لذلك من حقبة من التاريخ إلى حقبة أخرى جديدة ,
والعبرة في منجزات البشر بما ينفع أكبر عدد من الناس وييسر لهم أسباب
الاستقرار والأمن ,لابما يبهر العيون ويرد الإنسان إلى الشعور بالقلق
وانعدام الأمن ,لأن الذين ينفقون الملايين ليهبطوا على سطح القمر قصدوا
أول ما قصدوا إلى إظهار امتيازهم على غيرهم وسبقهم لبقية الناس في
ميدان التقدم ,وهذا زهو وغرور ينطويان على شر ,فهما في الحقيقة
تهديد للآخرين ,إذ إن الصاروخ الذي دفع مركبة القمر في الفضاء يقوم
على النظرية نفسها التي يقوم عليها الصاروخ الذي يعبر القارات ليخرب
المدن ويقضي على ألوف الناس.
فرغيف الخبز وإناء الفخار مقياسان أصدق للتقدم الحق من الوصول
إلى القمر والعودة بقطع من حجارته ,لأن رغيف الخبز نعمة لا يأتي منها
إلا خير ,وإناء الفخار اختراع أدخل على حياة الإنسان تيسيرا بعيد ا لمدى ,
وكلاهما نقطة تحول في تاريخ الإنسان. أما الأهرام أو قصور فرساي أو
ناطحات السحاب أو مركبات القمر فماذا تعني? فأما الأهرام فتعني أن
ألوف البشر ظلوا يعملون عشرات السنين لينشئوا قبرا لإنسان واحد ,وقصور
فرساي تعني أن جهود ألوف أخرى قد صرفت على عمل منشآت يزهو بها
ملوك لم يعرفوا في حياتهم غير الظلم والأنانية واحتقار الناس ,وأما نواطح
السحاب فقد ثبت بالبرهان أن العيش فيها يصيب النفس بالكآبة وضيق
النفس وجفاف الطبع الإنساني ,وأما مركبات القمر فأي نفع عادت به على
الإنسان ?
لهذا فقد صرفت جانبا كبيرا من الجهد في توضيح معاني الحضارة
وكنهها وكيف تقوم ,واجتهدت في أن أتتبع كيف قامت في جهات شتى من
الأرض. وعرضت آراء ا لمؤرخين والفلاسفة في أوليات الحضارات الإنسانية
وظروف قيامها وبماذا تمتاز كل منها عن الأخريات ,ووقفت طويلا عند
أدوار النشوء والظروف التي أحاطت بها ,وعرضت نظريات المفكرين فيما
يعرض للحضارات من نمو وما يصيبها من ركود. وحرصت في كل حين
على أن أقف بآراء ا لمفكرين ا لمسلمين في هذه ا لموضوعات ,وخاصة إبن
خلدون ونظريته في دورة العمران. واجتهدت في أن أضرب الأمثلة من
تاريخنا العربي ,لأن القارئ به أعرف ,وكان ذلك سبيلا إلى إلقاء أشعة
جديدة من الضوء على بعض نواحي تاريخنا الحافل بأخبار الحضارة وما
يعرض لها من أحوال. وحرصت في كل حالة على أن أناقش الكثير من
الآراء ا لمتداولة بيننا دون نقد أو ’تمحيص ,وذلك حتى يصدق فهم القارئ لما
يقرأ من الفصول عن حضارة أمم “ الإسلام ,وقد كثرت هذه الفصول في
أيامنا هذه ,وجرى الناس في الحديث فيها على وتيرة واحدة جامدة تتشابه
في كل كتاب تقرأه ,حتى أصبحت صورا ثابتة أو « كليشيهات »... تنقل كما
هي دون تفكير ,مع الحرص على ترصيع الكلام بأسماء نفر من أعلام
العرب وا لمسلمين في بعض ميادين التقدم الحضاري.
في فصل خاص وقفت طويلا عند مفكري الغرب في العصور الحديثة
وخاصة « فلاسفة عصر الأنوار» , الذين وضعوا مشكلة الإنسان وأحواله
وماضيه وحاضره ومستقبله موضع درس عميق ,وأطلقوا العنان للفكر في
بحث مشاكل البشر وإعادة النظر في كل ما قامت به الإنسانية من تجارب
في ا لماضي ,وفتحوا للإنسانية أبوابا واسعة للتفكير والتغيير ,ومهدوا بذلك
لثورة طويلة بعيدة ا لمدى في الفكر الإنساني والنظم السياسية والاجتماعية
بدأت بالثورة الفرنسية ,ومازالت متصلة إلى يومنا هذا ,أي أنهم بتواليفهم
وآرائهم دخلوا بالإنسانية في عصور حضارية جديدة ,ومن هنا فإنه لا
يمكن فهم حضارتنا اليوم دون الإ لمام بهذه الآراء ,ومن هنا استطردت إلى
الكلام في حضارتنا الراهنة وما ينتظر لها من تطور في ا لمستقبل. وفي
النهاية تحدثت عن الثقافة ومفهوماتها عند المحدثين ,درست كنهها
ومحتواها ,وصححت-إلى حد ما-آراءنا في الثقافة ومحتواها ومبناها ,وهنا
أحسست أنني وصلت بالكلام عن الحضارة والثقافة إلى حد يحسن الوقوف
عنده ,بعد أن أثرت هذا الحشد الكبير من الآراء وفتحت-أرجو-أمام القارئ
آفاقا واسعة للتفكير والتدبير.
وهذا رابط التحميل:
http://www.gulfup.com/G.png (http://www.gulfup.com/?HPNvPx)