أبو عبد الله الجزائر
2014-03-27, 12:11
الرغيف المسروق
(
(1)
جرى مُسرعًا وقد أطلَق العنان لقَدَميه، كان الجو باردًا، والشوارع شبه مُظلمة قد أقْفَرت من المارَّة، فالوقت قد تخطَّى منتصف الليل، ومع ذلك فقد أحسَّ (أمين) بأنَّ أحدًا ما يجري خَلفه ويُلاحقه، يبدو أنَّ الظلال قد اختلَطت أمامه، فأصبَح يتوهَّم ما لا وجودَ له، أو أنَّ الجوع قد أثَّر في عقله وأفْقَده القدرة على التركيز، لَم يشأْ أن يَلتفت ليتأكَّد من ذلك، بل كان خوفه يتحوَّل إلى سرعة، خصوصًا وأنه قد اقترَب من بيته.
فتَح الباب ودَلَف إلى الداخل وهو يَلهث من شدَّة التعب، ثم أغلقَه وأحكَم إغلاقه، خلَع مِعْطفه المُهترئ الذي لَم يَمنع عنه شدَّة البرد، لكنه استطاع أن يُخفي بداخله رغيفَ الخبز الساخن الذي اختلسَه خُفيةً من المخبز القريب من الشارع الرئيسي.
كان بيته عبارة عن بيت صفيحي في حارة شعبيَّة أطراف المدينة، يستقبل جميع الزوَّار من حرٍّ وبردٍ ومطر، أثاثه متواضع، عبارة عن طاولة خشبيَّة مُنخفضة الارتفاع، وفراش مع لحاف ووسادة؛ حصل عليها من "جمعيَّة الإحسان" في بداية الشتاء، وكان لَدَيه صندوق خشبي له قُفل يَضع فيه جميعَ أغراضه، ما عدا ذلك، فقد باع جميع ما كان لَدَيه؛ ليشتري بثمنه طعامًا وشرابًا.
وضَع الرغيف على الطاولة، وأخرَج علبة صغيرة فيها مِلح، ثم عبَّأ كوبًا من الماء، وجلَس على فراشه يستعدُّ ليأكل وجبته الأولى منذ يومين، صحيح أنَّ الرغيف قد بدأ يبرد، ويَبِس قليلاً، لكنه ما زال مُغريًا للأكل، مدَّ يده ليأكل، لكنَّه سَمِع شيئًا يَسقط على سقف البيت الصفيحي مُحدثًا صوتًا قويًّا، ارتعشَ قليلاً ورفَع بصره إلى السقف بحركة عفويَّة، لكنه ما لَبِث أن سَمِع مُواءَ قِطَّتين، فعرَف سبب الصوت، عاد للرغيف الذي ينتظره، قال لنفسه:
"لقد يَبِس الرغيف تمامًا مثل الحياة اليابسة هنا".
رشَّ قليلاً من الماء على الرغيف، ثم تساءل:
"لِمَ كلُّ هذا الصبر وأنا أموت جوعًا؟".
أحسَّ أنَّ هناك ما يَمنعه من أكْل هذا الرغيف، تذكَّر كيف تردَّد كثيرًا قبل الإقدام على السرقة، وتذكَّر كيف غافَل البائع وسرَقه، وتذكَّر أيضًا كيف همَّ بأكْله وهو يجري، لكنه فضَّل الانتظار للبيت؛ حيث الدفء النسبي والأمان، حاوَل أن يأكل وقال دون أن يشعر: "بسم الله"، ومدَّ يده، لكنه شَعر بها ترتجف، قال بسخرية: "كيف أُسَمِّي على طعام مسروق؟".
إنها أوَّل مرة يَسرق فيها، إنه رغيف، لكنه سرقَ وسَرعان ما يتعوَّد الإنسان على السرقة، اليوم رغيف وغدًا أرغفة، تَمْتَمَ: "إنه الجوع، والجوع كافر".
تردَّد صدى العبارة في نفسه:
"وأنت (أمين) الذي يُضْرب به المثل في النزاهة والاستقامة".
ضَحِك وقال: "أيَّة نزاهة واستقامة؟ وقد طُرِدت من عملي بحجَّة السرقة؟".
لن يَنسى أبدًا ذلك اليوم الذي طُرِد فيه من عمله كحارس لمخزن مواد غذائية تابع لإحدى الشركات الكبرى، طرَده المشرف على المخازن؛ بحجَّة وجود نَقْص مُتكرِّر في المواد، حاوَل أن يدافع عن نفسه، صرَخ، أقسم أنه لَم يسرق شيئًا، بكى، لكن لا جَدْوى، حاوَل مراجعة المديرين والمسؤولين، لكن لَم يُقابله أحد، ومَن يَأْبه لمسكين مثله؟! ونتيجة لذلك فقَدَ غُرفته التي يَسكنها على حساب الشركة، وفَقَدَ مصدرَ دَخْله الوحيد.
تألَّم كثيرًا، وبَقِي مريضًا عدَّة أيام، كان ألَمُه نابعًا من تشويه سُمعته والظلم الذي تعرَّض له، فضلاً عن تشريده وهو الغريب عن المدينة، القادم من قريته البعيدة الفقيرة للكسب الحلال.
عَلِم لاحقًا أن سبَبَ طَرْده هو ما كان يتكلَّم به بين زُملائه أكثر من مرة من أن مُشرِفه يتغاضى عن سرقات كثيرة تحصل، كما توقَّع أنَّ هذا المشرف له يد في تلك السرقات، لَم يَلبث كلامه أن وصَل إلى المشرف، فخاف على نفسه وطَرَده.
قال بمرارة: "هل صدَّقتُ ما قالوه عني؟ وأصبَحتُ لصًّا؟!".
تمدَّد على فراشه وقد فقَدَ الرغبة في الأكل، رغم الجوع الذي يَسْكن معدته الخاوية، ويُصارع ما تبقَّى من قواه.
"نعم أنا جائع، لكنَّ أكْل الحرام لأوَّل مرة أصعب مئات المرات من الجوع".
هكذا حدَّث نفسه، لقد سرَق في لحظة ضَعفٍ، سرَق ولَم يكن مُقتنعًا بما يفعل، سرَق وهو يقول: سأدفع قيمة ما سرقتُ لاحقًا، نظَر إلى الرغيف وقد تحوَّلت رغبته إلى شيء من النفور، وأصبَح ما بداخله ميدانًا للصراع بين الجوع والخوف والندم.
ماذا يفعل الآن؟
شَرِب الكثير من الماء لعلَّه يُسكت جوعه، أو يُطفئ النار التي بداخله، هل يعيد الرغيف إلى المخبز؟ لقد أُغْلِق المخبز الآن.
هل يعُطيه لأحد المتسوِّلين؟ لكن الله تعالى لا يقبل إلا طيِّبًا، فضلاً عن أنَّ أشد المتسوِّلين بؤسًا قد لا يقبل هذا الرغيف اليابس.
قرَّر أن يحاول النوم، ويَنتظر حتى الصباح لعله يجد حلاًّ، غطَّى نفسه وتَمْتَم: "ربِّ ارْحَم ضَعْفي".
(2)
طرقات شديدة على الباب، وأصوات مختلطة بالخارج تقول:
"هنا بيت اللص، هنا".
"اقْبِضوا عليه".
"افْتَح يا لص".
دخَل بضعة رجال عَنْوة لَمَّا لَم يَفتح الباب، وهمُّوا بالقبض عليه وهو يصرخ:
"هذا هو الرغيف، أقسم أنني لَم آكل حتى قطعة منه".
هبَّ من نومه مذعورًا، واستعاذ بالله، لكنه فِعْلاً يسمع طرقات خفيفة على الباب، فرَكَ عينيه وحرَّك رأسه؛ ليتأكَّد أنه قد استيقَظ تمامًا، قال:
"يا إلهي، يبدو أنني نِمت طويلاً، لكن هل سيتحقَّق الكابوس بهذه السرعة؟".
إلاَّ أنه اطمأنَّ بسبب عدم وجود أصوات أو صُراخ، لعله أحد الجيران، نَهَض من فراشه، كان الوقت ضحًى، خبَّأ الرغيف في الصندوق الذي لَدَيه، وتوجَّه إلى الباب وما إن فتَحه حتى أصابَه الذهول، لقد كان يتوقَّع أن يزورَه أيُّ شخص سوى هذا الواقف أمامه، إنه صاحب المخبز، نعم، إنه هو لقد كان يراه بعض الأحيان عندما يشتري الخبز، قال أبو صالح صاحب المخبز؛ ليُبَدِّد خوفه واضطرابه:
"السلام عليكم ورحمة الله، هل لي أن أدخل؟".
حاوَل أن يتماسَك ويتظاهر بالهدوء، ردَّ السلام وقال:
"تفضَّل".
دخَل أبو صالح وبيده كيس لَم يَتبيَّن (أمين) ما بداخله، قال لنفسه:
"يا إلهي ماذا يريد؟ لا بدَّ أنه اكتشَف الأمر وأتى ليُحاسبني، سأنكر أيَّ شيء".
قال أبو صالح:
"أتيت لنفطر سويًّا".
"أهلا بك تفضَّل".
قالها بقلقٍ، والشكوك تُساوره حول غرض هذا الرجل من الزيارة في هذا الوقت الباكر.
دخَل أبو صالح وهو يُبَسْمِل ويُحَوقِل، كان نحيلَ الجسم، بَهِيَّ الطلعة، ولَمَّا رأى هذا البيت المتواضع، تأثَّر لحال هذا الرجل، لَم يعرف أين يجلس، كان (أمين) متسمرًّا في مكانه يُحَدِّق في زائره مُستغربًا، لكنَّه مع ذلك سارَع إلى ترتيب فراشه الذي لا يوجد غيره للجلوس عليه وقال:
"تفضَّل، هنا".
جلَس الرجلان وفتَح أبو صالح الكيس الذي بيده ووضَعه على الطاولة الخشبيَّة، كان يحوي بضعة أرغفة، وبعضًا من الطعام الخفيف.
لاحَظ أبو صالح أنَّ (أمينًا) مُرتبك؛ حيث كانت نظراته تشي بالكثير، فقرَّر أن يُبدِّد هذا الغموض والتوتر، فقال:
"سمِّ الله وابْدَأ".
ويبدو أن (أمينًا) قد استطاع أن يقاوم ارتباكَه؛ رُبما لأنه اطمأنَّ قليلاً لهذا الرجل، لكنَّه لَم يَعُد يستطيع مقاومة جوعه، فبدأ يأكل مع ضيفه.
ساد الصمت قليلاً، ثم قال أمين وهو يَنهي طعامه:
"سيِّدي أشكرك جدًّا على كرمك، مع أنني لا أدري كيف عرَفت بأمري؟ وهل أتيتَ لتُفطر معي أو ...؟".
قاطَعه أبو صالح:
" لا عليك يا ....".
"أمين، اسمي: أمين".
ابتسَم أبو صالح وقال:
"حسنًا سأشرح لك الأمر يا أمين".
"تفضَّل".
عدل أبو صالح جلسته وبدأ يَشرح:
"بالأمس رأيتك وأنت تأخذ الرغيف على حين غفلة من البائع؛ حيث إنني أجلس أحيانًا في غُرفة مُنزوية داخل المخبز، أُراقب العمل هناك، ورأيتك تركض مسرعًا، فطَلَبت من البائع أن يعرفَ مكانك دون أن تَشعر، وعاد البائع وأخبرني بكلِّ شيء".
كانت عينا أمين تتَّسعان دهشةً مما يسمع، وأنفاسه تتسارَع، أراد أن يتكلَّم فلم يستطعْ.
تابَع أبو صالح:
"ولَمَّا عرَفت مكانك، تيقَّنت أن الحاجة هي التي دَفَعتك لذلك، فأتيتُ لأتأكَّد بنفسي".
"وهل تأكَّدت؟".
"مِن ماذا؟ من حاجتك أم من....؟".
أراد أن يقول: "أم من سرقتك"، لكنه سَكَت.
قال (أمين) بشيء من الحِدَّة:
"لعلَّ بائعك قد ضلَّ في الظلام".
"يا بُني، لا داعي لكل هذا، إن المسألة لا تتعدَّى رغيفًا، أنا لست هنا لأُحاسبك، بل لأُساعدك".
"تساعدني؟!".
"نعم لأساعدك، لكن يبدو أنك لا تريد ذلك".
ثم قام أبو صالح متَّجهًا صوب الباب، قال أمين:
"انتظر لحظة".
وأخرَج الرغيف من الصندوق وقال:
"هذا هو الرغيف".
ابتسَم أبو صالح وعاد للجلوس وقال:
"لقد كبرتَ في عيني، ألَم تأكله؟".
"لَم أستطع رغم جوعي".
"بارَك الله في صِدقك وخوفك من ربِّك، والآن قل لي ما هي قِصتك؟".
حكى له أمين كيف أتى من قريته البعيدة؛ ليَكْسب لُقمة العيش، وكيف كان وضْعه في عمله، وكيف كان يرى السرقات بعينيه، ثم كيف طُرِد من عمله ظُلمًا؛ لأنه بدأ يتكلَّم عمَّا يَحدث، وكيف آلَت أحواله إلى ما يرى، قال أبو صالح:
"إن كان ما تقول صحيحًا، فإنك لَم تسرق الرغيف، بل هم الذين سرقوا منك لُقمة عيشك".
نَهَض أبو صالح وهَمَّ بالخروج وقال:
"لا تتردَّد في طلب أيِّ شيء مني، ولْتَأْتِ إليّ بعد يومين؛ لعلي أستطيع تدبير عملٍ لك، فأنت - ما شاء الله - قوي وأمين، نعم أمين - بإذن الله".
ابتسَم أمين، وصافحَه بحرارة قائلاً:
"سيِّدي، لا أعرف كيف أشكرك".
تلعْثَم وقد اغْرَورقَت عيناه بالدموع، ربَّتَ أبو صالح على كتفه وقال:
"قل لي: يا عمي وهَوِّن عليك".
ثم استطرَد قائلاً:
"والآن أريد أن آخذ الرغيف معي".
استغرَب أمين من هذا الطلب، لكنه بادَر إلى إعطائه الرغيف، خرَج أبو صالح وترَك أمينًا يَسبح في فرحته وحَيْرته من هذا الرجل الذي يبدو أنه من أهل البر والتقوى.
"يا إلهي ما أرْحَمك! وما أعجب هذه الدنيا! طَرَدوني من عملي وقالوا: سارق ولَم أسرِق، وسَرَقت من هذا الرجل، فأتى ليُطعمني ويساعدني".
ثم سأل نفسه:
"لكن ماذا يريد أبو صالح من رغيف يابس مسروق؟!".
(3)
بعد يومين، مَرَّ أمين على أبي صالح في المخبز وكله أملٌ أن يتحقَّق ما وعَده به، تبادَلا التحيَّة، ثم قال أمين:
"آمل يا عمي أن تكون قد وجَدت لي عملاً؟".
"لا تَقلق، ستعمل عند أحد أصحابي التجار، لقد كلَّمته ولَم يُمانع، وسنمرُّ عليه غدًا ونتَّفق على كلِّ شيء".
"بارَك الله فيك يا عمي، وزادَك من نعيمه".
"شكرًا يا بُني، والحمد لله أوَّلاً وآخرًا".
هَمَّ أمين بالانصراف، لكنه تذكَّر الرغيف، فنظَر إلى أبي صالح وأرادَ أن يتكلَّم، لكن أبا صالح فَطِن لذلك فقال:
"تريد أن تعرف أين الرغيف؟".
"نعم، ُأريد أن أعرف ماذا حلَّ بهذا الرغيف المسكين؟".
ضَحِك أبو صالح ثم قال:
"في الحقيقة لقد حَيَّرني أمر هذا الرغيف".
"كيف ذلك؟".
"بصراحة عندما أخَذت منك الرغيف، كنت أنوي أن أتأكَّد بطريقتي من حقيقة قصتك، ثم سأذهب بعدها بالرغيف إلى أرباب عملك، كدليل على أمانتك وبراءتك مما اتَّهموك به، سأقول لهم: صحيح أنه سَرَقه في لحظة ضَعْفٍ، لكن لَم يأكله برغم جوعه، سأحكي لهم كل شيء وأُنَبِّههم إلى ما يجري في الخفاء - مع ظني أنه لا يَخفى عليهم - فلم أتعوَّد أن أسكتَ عن الظلم، لكن...".
"لكن ماذا؟".
"وصَلت إلى المخبز ووضَعت الرغيف جانبًا، ودَخَلت لآخذ بعض الأغراض، ولَمَّا خرَجت لَم أجده".
"لَم تجده؟! أين ذهب؟!".
"لا أدري، بحثتُ عنه وسألتُ البائعين، فلم يُجبني أحد".
"أمْرٌ عجيب فعلاً، لعلَّه سَقَط منك هنا أو هناك".
"لا يا بُني، لا أظنُّه سقَط".
"فأين اختفى إذًا؟ هل سَرَقه جائع آخر؟"، قالها بعفويَّة.
نظَر أبو صالح بعيدًا وقال:
"يبدو أن رغيفنا سيظلُّ مسروقًا ما دُمنا في غفلة عن السارق الحقيقي".
نظر إليه أمين وكأنه يُفكِّر في شيء، لكنه لَم يجد ما يقوله.
(
(1)
جرى مُسرعًا وقد أطلَق العنان لقَدَميه، كان الجو باردًا، والشوارع شبه مُظلمة قد أقْفَرت من المارَّة، فالوقت قد تخطَّى منتصف الليل، ومع ذلك فقد أحسَّ (أمين) بأنَّ أحدًا ما يجري خَلفه ويُلاحقه، يبدو أنَّ الظلال قد اختلَطت أمامه، فأصبَح يتوهَّم ما لا وجودَ له، أو أنَّ الجوع قد أثَّر في عقله وأفْقَده القدرة على التركيز، لَم يشأْ أن يَلتفت ليتأكَّد من ذلك، بل كان خوفه يتحوَّل إلى سرعة، خصوصًا وأنه قد اقترَب من بيته.
فتَح الباب ودَلَف إلى الداخل وهو يَلهث من شدَّة التعب، ثم أغلقَه وأحكَم إغلاقه، خلَع مِعْطفه المُهترئ الذي لَم يَمنع عنه شدَّة البرد، لكنه استطاع أن يُخفي بداخله رغيفَ الخبز الساخن الذي اختلسَه خُفيةً من المخبز القريب من الشارع الرئيسي.
كان بيته عبارة عن بيت صفيحي في حارة شعبيَّة أطراف المدينة، يستقبل جميع الزوَّار من حرٍّ وبردٍ ومطر، أثاثه متواضع، عبارة عن طاولة خشبيَّة مُنخفضة الارتفاع، وفراش مع لحاف ووسادة؛ حصل عليها من "جمعيَّة الإحسان" في بداية الشتاء، وكان لَدَيه صندوق خشبي له قُفل يَضع فيه جميعَ أغراضه، ما عدا ذلك، فقد باع جميع ما كان لَدَيه؛ ليشتري بثمنه طعامًا وشرابًا.
وضَع الرغيف على الطاولة، وأخرَج علبة صغيرة فيها مِلح، ثم عبَّأ كوبًا من الماء، وجلَس على فراشه يستعدُّ ليأكل وجبته الأولى منذ يومين، صحيح أنَّ الرغيف قد بدأ يبرد، ويَبِس قليلاً، لكنه ما زال مُغريًا للأكل، مدَّ يده ليأكل، لكنَّه سَمِع شيئًا يَسقط على سقف البيت الصفيحي مُحدثًا صوتًا قويًّا، ارتعشَ قليلاً ورفَع بصره إلى السقف بحركة عفويَّة، لكنه ما لَبِث أن سَمِع مُواءَ قِطَّتين، فعرَف سبب الصوت، عاد للرغيف الذي ينتظره، قال لنفسه:
"لقد يَبِس الرغيف تمامًا مثل الحياة اليابسة هنا".
رشَّ قليلاً من الماء على الرغيف، ثم تساءل:
"لِمَ كلُّ هذا الصبر وأنا أموت جوعًا؟".
أحسَّ أنَّ هناك ما يَمنعه من أكْل هذا الرغيف، تذكَّر كيف تردَّد كثيرًا قبل الإقدام على السرقة، وتذكَّر كيف غافَل البائع وسرَقه، وتذكَّر أيضًا كيف همَّ بأكْله وهو يجري، لكنه فضَّل الانتظار للبيت؛ حيث الدفء النسبي والأمان، حاوَل أن يأكل وقال دون أن يشعر: "بسم الله"، ومدَّ يده، لكنه شَعر بها ترتجف، قال بسخرية: "كيف أُسَمِّي على طعام مسروق؟".
إنها أوَّل مرة يَسرق فيها، إنه رغيف، لكنه سرقَ وسَرعان ما يتعوَّد الإنسان على السرقة، اليوم رغيف وغدًا أرغفة، تَمْتَمَ: "إنه الجوع، والجوع كافر".
تردَّد صدى العبارة في نفسه:
"وأنت (أمين) الذي يُضْرب به المثل في النزاهة والاستقامة".
ضَحِك وقال: "أيَّة نزاهة واستقامة؟ وقد طُرِدت من عملي بحجَّة السرقة؟".
لن يَنسى أبدًا ذلك اليوم الذي طُرِد فيه من عمله كحارس لمخزن مواد غذائية تابع لإحدى الشركات الكبرى، طرَده المشرف على المخازن؛ بحجَّة وجود نَقْص مُتكرِّر في المواد، حاوَل أن يدافع عن نفسه، صرَخ، أقسم أنه لَم يسرق شيئًا، بكى، لكن لا جَدْوى، حاوَل مراجعة المديرين والمسؤولين، لكن لَم يُقابله أحد، ومَن يَأْبه لمسكين مثله؟! ونتيجة لذلك فقَدَ غُرفته التي يَسكنها على حساب الشركة، وفَقَدَ مصدرَ دَخْله الوحيد.
تألَّم كثيرًا، وبَقِي مريضًا عدَّة أيام، كان ألَمُه نابعًا من تشويه سُمعته والظلم الذي تعرَّض له، فضلاً عن تشريده وهو الغريب عن المدينة، القادم من قريته البعيدة الفقيرة للكسب الحلال.
عَلِم لاحقًا أن سبَبَ طَرْده هو ما كان يتكلَّم به بين زُملائه أكثر من مرة من أن مُشرِفه يتغاضى عن سرقات كثيرة تحصل، كما توقَّع أنَّ هذا المشرف له يد في تلك السرقات، لَم يَلبث كلامه أن وصَل إلى المشرف، فخاف على نفسه وطَرَده.
قال بمرارة: "هل صدَّقتُ ما قالوه عني؟ وأصبَحتُ لصًّا؟!".
تمدَّد على فراشه وقد فقَدَ الرغبة في الأكل، رغم الجوع الذي يَسْكن معدته الخاوية، ويُصارع ما تبقَّى من قواه.
"نعم أنا جائع، لكنَّ أكْل الحرام لأوَّل مرة أصعب مئات المرات من الجوع".
هكذا حدَّث نفسه، لقد سرَق في لحظة ضَعفٍ، سرَق ولَم يكن مُقتنعًا بما يفعل، سرَق وهو يقول: سأدفع قيمة ما سرقتُ لاحقًا، نظَر إلى الرغيف وقد تحوَّلت رغبته إلى شيء من النفور، وأصبَح ما بداخله ميدانًا للصراع بين الجوع والخوف والندم.
ماذا يفعل الآن؟
شَرِب الكثير من الماء لعلَّه يُسكت جوعه، أو يُطفئ النار التي بداخله، هل يعيد الرغيف إلى المخبز؟ لقد أُغْلِق المخبز الآن.
هل يعُطيه لأحد المتسوِّلين؟ لكن الله تعالى لا يقبل إلا طيِّبًا، فضلاً عن أنَّ أشد المتسوِّلين بؤسًا قد لا يقبل هذا الرغيف اليابس.
قرَّر أن يحاول النوم، ويَنتظر حتى الصباح لعله يجد حلاًّ، غطَّى نفسه وتَمْتَم: "ربِّ ارْحَم ضَعْفي".
(2)
طرقات شديدة على الباب، وأصوات مختلطة بالخارج تقول:
"هنا بيت اللص، هنا".
"اقْبِضوا عليه".
"افْتَح يا لص".
دخَل بضعة رجال عَنْوة لَمَّا لَم يَفتح الباب، وهمُّوا بالقبض عليه وهو يصرخ:
"هذا هو الرغيف، أقسم أنني لَم آكل حتى قطعة منه".
هبَّ من نومه مذعورًا، واستعاذ بالله، لكنه فِعْلاً يسمع طرقات خفيفة على الباب، فرَكَ عينيه وحرَّك رأسه؛ ليتأكَّد أنه قد استيقَظ تمامًا، قال:
"يا إلهي، يبدو أنني نِمت طويلاً، لكن هل سيتحقَّق الكابوس بهذه السرعة؟".
إلاَّ أنه اطمأنَّ بسبب عدم وجود أصوات أو صُراخ، لعله أحد الجيران، نَهَض من فراشه، كان الوقت ضحًى، خبَّأ الرغيف في الصندوق الذي لَدَيه، وتوجَّه إلى الباب وما إن فتَحه حتى أصابَه الذهول، لقد كان يتوقَّع أن يزورَه أيُّ شخص سوى هذا الواقف أمامه، إنه صاحب المخبز، نعم، إنه هو لقد كان يراه بعض الأحيان عندما يشتري الخبز، قال أبو صالح صاحب المخبز؛ ليُبَدِّد خوفه واضطرابه:
"السلام عليكم ورحمة الله، هل لي أن أدخل؟".
حاوَل أن يتماسَك ويتظاهر بالهدوء، ردَّ السلام وقال:
"تفضَّل".
دخَل أبو صالح وبيده كيس لَم يَتبيَّن (أمين) ما بداخله، قال لنفسه:
"يا إلهي ماذا يريد؟ لا بدَّ أنه اكتشَف الأمر وأتى ليُحاسبني، سأنكر أيَّ شيء".
قال أبو صالح:
"أتيت لنفطر سويًّا".
"أهلا بك تفضَّل".
قالها بقلقٍ، والشكوك تُساوره حول غرض هذا الرجل من الزيارة في هذا الوقت الباكر.
دخَل أبو صالح وهو يُبَسْمِل ويُحَوقِل، كان نحيلَ الجسم، بَهِيَّ الطلعة، ولَمَّا رأى هذا البيت المتواضع، تأثَّر لحال هذا الرجل، لَم يعرف أين يجلس، كان (أمين) متسمرًّا في مكانه يُحَدِّق في زائره مُستغربًا، لكنَّه مع ذلك سارَع إلى ترتيب فراشه الذي لا يوجد غيره للجلوس عليه وقال:
"تفضَّل، هنا".
جلَس الرجلان وفتَح أبو صالح الكيس الذي بيده ووضَعه على الطاولة الخشبيَّة، كان يحوي بضعة أرغفة، وبعضًا من الطعام الخفيف.
لاحَظ أبو صالح أنَّ (أمينًا) مُرتبك؛ حيث كانت نظراته تشي بالكثير، فقرَّر أن يُبدِّد هذا الغموض والتوتر، فقال:
"سمِّ الله وابْدَأ".
ويبدو أن (أمينًا) قد استطاع أن يقاوم ارتباكَه؛ رُبما لأنه اطمأنَّ قليلاً لهذا الرجل، لكنَّه لَم يَعُد يستطيع مقاومة جوعه، فبدأ يأكل مع ضيفه.
ساد الصمت قليلاً، ثم قال أمين وهو يَنهي طعامه:
"سيِّدي أشكرك جدًّا على كرمك، مع أنني لا أدري كيف عرَفت بأمري؟ وهل أتيتَ لتُفطر معي أو ...؟".
قاطَعه أبو صالح:
" لا عليك يا ....".
"أمين، اسمي: أمين".
ابتسَم أبو صالح وقال:
"حسنًا سأشرح لك الأمر يا أمين".
"تفضَّل".
عدل أبو صالح جلسته وبدأ يَشرح:
"بالأمس رأيتك وأنت تأخذ الرغيف على حين غفلة من البائع؛ حيث إنني أجلس أحيانًا في غُرفة مُنزوية داخل المخبز، أُراقب العمل هناك، ورأيتك تركض مسرعًا، فطَلَبت من البائع أن يعرفَ مكانك دون أن تَشعر، وعاد البائع وأخبرني بكلِّ شيء".
كانت عينا أمين تتَّسعان دهشةً مما يسمع، وأنفاسه تتسارَع، أراد أن يتكلَّم فلم يستطعْ.
تابَع أبو صالح:
"ولَمَّا عرَفت مكانك، تيقَّنت أن الحاجة هي التي دَفَعتك لذلك، فأتيتُ لأتأكَّد بنفسي".
"وهل تأكَّدت؟".
"مِن ماذا؟ من حاجتك أم من....؟".
أراد أن يقول: "أم من سرقتك"، لكنه سَكَت.
قال (أمين) بشيء من الحِدَّة:
"لعلَّ بائعك قد ضلَّ في الظلام".
"يا بُني، لا داعي لكل هذا، إن المسألة لا تتعدَّى رغيفًا، أنا لست هنا لأُحاسبك، بل لأُساعدك".
"تساعدني؟!".
"نعم لأساعدك، لكن يبدو أنك لا تريد ذلك".
ثم قام أبو صالح متَّجهًا صوب الباب، قال أمين:
"انتظر لحظة".
وأخرَج الرغيف من الصندوق وقال:
"هذا هو الرغيف".
ابتسَم أبو صالح وعاد للجلوس وقال:
"لقد كبرتَ في عيني، ألَم تأكله؟".
"لَم أستطع رغم جوعي".
"بارَك الله في صِدقك وخوفك من ربِّك، والآن قل لي ما هي قِصتك؟".
حكى له أمين كيف أتى من قريته البعيدة؛ ليَكْسب لُقمة العيش، وكيف كان وضْعه في عمله، وكيف كان يرى السرقات بعينيه، ثم كيف طُرِد من عمله ظُلمًا؛ لأنه بدأ يتكلَّم عمَّا يَحدث، وكيف آلَت أحواله إلى ما يرى، قال أبو صالح:
"إن كان ما تقول صحيحًا، فإنك لَم تسرق الرغيف، بل هم الذين سرقوا منك لُقمة عيشك".
نَهَض أبو صالح وهَمَّ بالخروج وقال:
"لا تتردَّد في طلب أيِّ شيء مني، ولْتَأْتِ إليّ بعد يومين؛ لعلي أستطيع تدبير عملٍ لك، فأنت - ما شاء الله - قوي وأمين، نعم أمين - بإذن الله".
ابتسَم أمين، وصافحَه بحرارة قائلاً:
"سيِّدي، لا أعرف كيف أشكرك".
تلعْثَم وقد اغْرَورقَت عيناه بالدموع، ربَّتَ أبو صالح على كتفه وقال:
"قل لي: يا عمي وهَوِّن عليك".
ثم استطرَد قائلاً:
"والآن أريد أن آخذ الرغيف معي".
استغرَب أمين من هذا الطلب، لكنه بادَر إلى إعطائه الرغيف، خرَج أبو صالح وترَك أمينًا يَسبح في فرحته وحَيْرته من هذا الرجل الذي يبدو أنه من أهل البر والتقوى.
"يا إلهي ما أرْحَمك! وما أعجب هذه الدنيا! طَرَدوني من عملي وقالوا: سارق ولَم أسرِق، وسَرَقت من هذا الرجل، فأتى ليُطعمني ويساعدني".
ثم سأل نفسه:
"لكن ماذا يريد أبو صالح من رغيف يابس مسروق؟!".
(3)
بعد يومين، مَرَّ أمين على أبي صالح في المخبز وكله أملٌ أن يتحقَّق ما وعَده به، تبادَلا التحيَّة، ثم قال أمين:
"آمل يا عمي أن تكون قد وجَدت لي عملاً؟".
"لا تَقلق، ستعمل عند أحد أصحابي التجار، لقد كلَّمته ولَم يُمانع، وسنمرُّ عليه غدًا ونتَّفق على كلِّ شيء".
"بارَك الله فيك يا عمي، وزادَك من نعيمه".
"شكرًا يا بُني، والحمد لله أوَّلاً وآخرًا".
هَمَّ أمين بالانصراف، لكنه تذكَّر الرغيف، فنظَر إلى أبي صالح وأرادَ أن يتكلَّم، لكن أبا صالح فَطِن لذلك فقال:
"تريد أن تعرف أين الرغيف؟".
"نعم، ُأريد أن أعرف ماذا حلَّ بهذا الرغيف المسكين؟".
ضَحِك أبو صالح ثم قال:
"في الحقيقة لقد حَيَّرني أمر هذا الرغيف".
"كيف ذلك؟".
"بصراحة عندما أخَذت منك الرغيف، كنت أنوي أن أتأكَّد بطريقتي من حقيقة قصتك، ثم سأذهب بعدها بالرغيف إلى أرباب عملك، كدليل على أمانتك وبراءتك مما اتَّهموك به، سأقول لهم: صحيح أنه سَرَقه في لحظة ضَعْفٍ، لكن لَم يأكله برغم جوعه، سأحكي لهم كل شيء وأُنَبِّههم إلى ما يجري في الخفاء - مع ظني أنه لا يَخفى عليهم - فلم أتعوَّد أن أسكتَ عن الظلم، لكن...".
"لكن ماذا؟".
"وصَلت إلى المخبز ووضَعت الرغيف جانبًا، ودَخَلت لآخذ بعض الأغراض، ولَمَّا خرَجت لَم أجده".
"لَم تجده؟! أين ذهب؟!".
"لا أدري، بحثتُ عنه وسألتُ البائعين، فلم يُجبني أحد".
"أمْرٌ عجيب فعلاً، لعلَّه سَقَط منك هنا أو هناك".
"لا يا بُني، لا أظنُّه سقَط".
"فأين اختفى إذًا؟ هل سَرَقه جائع آخر؟"، قالها بعفويَّة.
نظَر أبو صالح بعيدًا وقال:
"يبدو أن رغيفنا سيظلُّ مسروقًا ما دُمنا في غفلة عن السارق الحقيقي".
نظر إليه أمين وكأنه يُفكِّر في شيء، لكنه لَم يجد ما يقوله.