أبومحمد17
2014-02-07, 20:39
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمُتقين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ من أدواء الأُمة الإسلاميَّة التي يَئِنُّ المسلمون تحت وَطْأَتها، ويَكتوون بلَظاها - التفرُّقَ والاختلاف الذي يسري في جسدها، ويَنخر في صُلبها، ويَهدُّ من قواها، خلاف زَرَعت فيه الأهواء بذورَ الفتن، فأثمرَت الفُرقة والشِّقاق، والذي زاد في استطارة شرِّه أنِ انْبَرى كثيرٌ من بني زماننا، فحشَروا أنوفَهم في حمى مسائل الدين، وخاضُوا في مواطن الخلاف والاجتهاد، يتقصَّدون نَيْلَ مآربهم في الانتصار لرغبات شخصيَّة أو جهات معيَّنة، أو دفاعًا عن مواقفهم المجذومة، أو تسويغًا لعصبيَّة مشؤومة، دون تثبُّت أو هَوَادة؛ حتى صار الخوضُ في الخلافيَّات ومسائل الاجتهاد ساحةً خِصبة للممارسات الخاطئة، التي تَمور بين الوكس والشَّطط، فتفاقَم النزاعُ الواقع، واتَّسع الخَرْقُ على الراقع، "واستعمَل فيه الخصوم كلَّ أدوات الدفاع والهجوم، وضاقَت بالحِياد فيه الأرض بما رَحُبت، فالكل مُتَّهم، والكل برَاء، وأعجَز داء الأُمة الدواء، فحضَر الشهود إلاَّ شاهد العقل، واسْتُحْضِرت الحُجَج إلاَّ حُجة الإنصاف، ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ﴾ [يوسف: 53]"[1].
وَلَمْ تَزَلْ قِلَّةُ الإِنْصَافِ قَاطِعَةً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بَيْنَ الرِّجَالِ وَلَوْ كَانُوا ذَوِي رَحِمِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ومَن تقصَّى من أحوال الأُمة أخبارَها، وسَبَر بفكره أغوارَها، ألفى أن كثيرًا من مظاهر التشرذُم، وانتفاش الباطل، وتوالي النَّكبات في المسيرة العلميَّة والفكريَّة - مَرَدُّ شطر كبيرٍ منها إلى تغييب فريضة العدل والإنصاف[2]، والركون إلى الهوى والإجحاف، وما تَقذف به بعض المطابع من أسفار، شَنَّ بها ذَووها هجومًا على قضايا الاختلاف، ومسائل الراجح والمرجوح تَشهد ناطقةً بنعي الإنصاف، ونُدرة أهله الأشراف، وصدق مالك بن دينار يوم أن قال: "ليس في الناس شيءٌ أقل من الإنصاف"[3]، وقال جعفر بن سعد: "ما أقلَّ الإنصاف! وما أكثر الخلاف!"[4].
مع أنَّ كلَّ مَن رشَّح نفسه لتحقيق المسائل، واستشرَف فضَّ النزاع، واقتحَم مُعترك الأقوال لحَسْم الخلاف، يتحتَّم عليه أن يتدرَّع بعُدَّة العلم والتحقيق، وأن يتحلَّى بدِثار العدل؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ﴾ [الأنعام: 152].
قال ابن القيِّم - رحمه الله تعالى -: "والله تعالى يحبُّ الإنصاف، بل هو أفضل حِلْيَة تحلَّى بها الرجل، خصوصًا مَن نصَّب نفسه حَكَمًا بين الأقوال والمذاهب، وقد قال الله تعالى لرسوله: ﴿ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ﴾ [الشورى: 15]"[5].
والله أمَر بالعدل في غير ما آية؛ كما قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ﴾ [النساء: 135]، وقال - سبحانه -: ﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ﴾ [المائدة: 42]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58].
وعن عبدالله بن عمرو قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ المُقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن - وكلتا يديه يَمين - الذين يَعدلون في حُكمهم وأهليهم، وما وَلُوا))[6].
ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: ((وأسْأَلك كلمة الحقِّ في الغضب والرِّضا))[7].
وقال عمار - رضي الله عنه -: "ثلاث مَن جمعهنَّ، فقد جمَع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبَذْل السلام للعالَم، والإنفاق من الإقتار"[8].
قال ابن عبدالبر - رحمه الله -: "من بركة العلم وآدابه: الإنصاف فيه، ومَن لَم يُنصف، لَم يَفهم ولَم يتفهَّم"[9].
وقال ابن حزم - رحمه الله -: "أفضلُ نِعَم الله على العبد أن يطبعه على العدل وحبِّه، وعلى الحقِّ وإيثاره"[10].
فمن تجرَّأ على مسائل الدين من غير علمٍ، نزَل به جهلُه إلى دَركات المُبطلين، كما أنَّ مَن دخَلها من غير عدلٍ، خلفه جوره مع أنصار الظالمين، فإن الإنسان خُلِق ظلومًا جهولاً؛ قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -[11]: "الإنسان خُلِق ظلومًا جهولاً، فالأصل فيه عدمُ العلم، ومَيْله إلى ما يهواه من الشر، يحتاج دائمًا إلى علمٍ مُفصَّل يَزول به جهله، وعدلٍ في محبَّته وبُغضه، ورِضاه وغضبه، وفِعله وتَرْكه، وإعطائه ومَنْعه، وأكْله وشُربه، ونومه ويَقَظته، وكلُّ ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى علمٍ يُنافي جهلَه، وعدل يُنافي ظُلمَه، فإن لَم يمنَّ الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل، كان منه من الجهل والظلم ما يخرج به من الصِّراط المستقيم، وقد قال تعالى لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - بعد صُلح الحديبية وبَيعة الرضوان: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾ [الفتح: 1]... إلى قوله تعالى: ﴿ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [الفتح: 2].
فإذا كان هذه حاله في آخر حياته أو قريبًا منها، فكيف حال غيره؟!"؛ ا.هـ.
وإنَّ نكوصَ كثير من المخالفين وحيادهم عن سبيل السلف المؤيَّد بالكتاب والسُّنة - أحد نتائج الانسلاخ من أَزِمَّة العدل والإنصاف، وإيثار الهوى على الحق، ومما امتاز به أهلُ السُّنة والجماعة عن أهل البدعة والفُرقة اتِّباعُ الحقِّ وإقامة العدل، فقد بلغوا في الاستقامة عليه إلى حدٍّ جعَلهم أعدلَ وأرحم بأهل البدع من أهل البدعة بعضهم مع بعض؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "فأهل السُّنة يَستعملون معهم - يقصد أهلَ البدع - العدلَ والإنصاف، ولا يَظلمونهم؛ فإن الظلم حرامٌ مُطلقًا كما تقدَّم، بل أهل السنة لكلِّ طائفة من هؤلاء خيرٌ من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض"[12]؛ ا .هـ.
واعلم - رَحِمك الله - أنَّ شرف الباحث بوضع يده على الحق في ظل الاختلافات، وتنازُع المذاهب، واشتباك الأدلة - أمرٌ لا يتوقَّف على الرسوخ العلمي، واتِّساع القدرة العقليَّة على الاجتهاد في مسالك الاشتباه والتعارض فحسب، بل لا بدَّ أن يُرافق ذلك الرسوخُ في الديانة، والتجمُّل بالتقوى، والتحلِّي بالوَرَع والخَشْيَة، وكلُّ ما يُزكي النفس، ويوطِّد صِلتها بالخالق - سبحانه وتعالى - والله تعالى يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال: 29].
وتاج الأوصاف، التي يُتَحلَّى بها في لجج الخلاف، خُلُقُ العدل والإنصاف.
وإن كان أمرٌ مثل الإنصاف لا نشكُّ أنه مُستقرُّ الأركان عند الكثيرين في التنظير العلمي، لكنه ليس إلى حدٍّ يُقيم فينا الاستعداد الكامل لإقامة نُفُوسنا عليه والتزامه في واقعنا العملي، والأدهى من ذلك والأَمرُّ أن النَّبز بالإجحاف، والبُعد عن الإنصاف، صار تُهمة نَستأْسِد في إطلاقها على غيرنا، ثم نَخور ونستحيي أن نواجه بها أنفسَنا!
ومشاركةً في استنهاض الهِمم إلى سلوك سبيل الإنصاف وأسبابه، والولوج إليه من أبوابه، تجرَّأتُ على بثِّ هذا الذي أزعم أنه يحوي بعضَ ركائز الإنصاف الذي نُنشده، ونسعى إلى تحقيقه، سائلاً ربي التوفيقَ والسَّداد في القول والعمل:
الركيزة الأولى: الإخلاص في طلب الحق:
إن أعظم مقام يوطِّن الباحث عليه نفسه، ويَعقد عليه مجامعَ قلبه - هو الإخلاص لله ربِّ العالمين؛ بأن يكون الباعث له على مزاولة البحث وفَحْص المسائل العلميَّة، هو استجلاء الحق ورَفْع معالمه؛ الْتماسًا لرضا الله، ونيلاً لثوابه؛ فإن مَن قرَّ في قلبه صِدْقُ النيَّة، سعى به إخلاصه إلى الاستقامة على طريق العدل والإنصاف ولا بدَّ؛ لأنَّ الله يُبرئ عباده المخلصين من باطل الهوى والجَور، ويهديهم إلى ميزان الحق، ومَن حُرِم حُسْنَ المقصد، شقَّ عليه إحراز الانتصاف من نفسه في آرائه وأحكامه؛ لأنه في الغالب يأتي مُسقطًا لأهوائها، داحضًا لحظوظها؛ كما قال سهل التستري لَمَّا سُئِل: أيُّ شيء أشدُّ على النفس؟ قال: الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب[13].
وإذا أقفَرت ميادين البحث العلمي من النيات الصادقة في طلب الحقِّ، أيْنَعَت بنيَّات الظلم والإجحاف، وخفيات التحريف، وتسلَّل التشويه إلى الحقائق، ونال الطَّمسُ من المفاهيم والمصطلحات، ولُوِيَت أعناقُ النصوص ببراثن التأويل الفاسد؛ لأن من قصَدَ جَلْب أغراضه ونَيْل حظوظه، لا يُسعفه الإنصاف في تحصيلها، فيضطر - حرصًا على إدراكها - إلى الانسلاخ عن حِلْيَة العدل، ويسعى راكبًا هواه في عماية، يتتبَّع الظهور بالغَلَبة، ويَستجلب أُبَّهة الجاه والمكانة، وأهل الإخلاص متى ما ائتمُّوا بإمام الإنصاف، كان ذلك لمصلحتهم؛ فهو دليلُهم إلى ما قصدوا تحقيقَه من انتصار الحق وذيوع نوره؛ التماسًا لرضا الله - سبحانه وتعالى - ولهذا تجد المخلص قد تيقَّن بقلبه أنَّ انتصار الحقِّ وعُلو رايته، أغلى وأعظم من انتصار رأيه، أو إدراك شهواته، وتحقُّق ما يُرضي اللهَ - سبحانه وتعالى - أحلى وأشهى من نيْلِ مآربه وحصول مُراده، ولا يَجبن عن ارتياد سبيل العدل والإنصاف، إلاَّ مَن أبطَنَ في نفسه نيات الظَّفر بشهواته وحظوظ نفسه!
وفي مسائل الخلاف مِن توارُد الأقوال وتضارُب الآراء، ضروبٌ لا يستقرُّ معها الاهتداء إلى مَعين الصواب منها، إلاَّ بضمان الإخلاص في دراستها والترجيح بينها؛ فإن الله يَبتلي عباده بمواضع الخلاف، ويَمتحن بها صِدقهم، ويُمَحِّص نياتهم؛ فإنَّ "وجود النصوص التي يستشكل ظاهرها، لَم يقع عفوًا، وإنما هو أمرٌ مقصود شرعًا؛ ليبلوَ الله تعالى ما في النفوس، ويَمتحن ما في الصدور، ويُيَسِّر للعلماء أبوابًا من الجهاد العلمي، يَرفعهم الله به درجات"[14].
• قال ابن الجوزي - رحمه الله -: "الصِّدق في الطلب منار، أين وُجِد، يدلُّ على الجادة، وإنما يتعثَّر مَن لَم يُخلص"[15].
• وقال ابن القيم - رحمه الله -: "مَن آثَر الإنصاف، وسلَك سبيل العلم والعدل، تبيَّن له راجحُ المذاهب من مرجوحها، وفاسدُها من صحيحها"[16].
ومما يَنقض هذه الركيزة أن يستهدفَ الخائض في الخلاف ومسائله قطْعَ الخَصْم ودَحْر مذهبه؛ فإن ذلك يُهيِّج كوامنَ النفوس، ويَستثير الاندفاع إلى تحقيق الغَلَبة، فيحول دون استبصار الحق ولزوم الإنصاف فيه، وربما نفَخ في النفس بنافخ الكِبر، فتستعلي على النزول والتواضع للحق إذا انجلَى من جهة المخالف.
وهنا يجب ألاَّ ننخدِعَ للخلافات المُغلَّفة بالمباحث العلميَّة، وهي في باطنها تطلُّعات ذاتية لمصالح شخصيَّة؛ فقد تتستَّر حظوظ النفس ورغباتها وراء السعي في البحث عن الحق والانتصار له، وتجد الرجل يُشهر الحقَّ ونفسُه تصبو إلى تحصيل جاه أو مالٍ[17]، أو نيل رضا قريب أو حبيبٍ، ومن محاسن الاستنباط في هذا السياق ما علَّقه الإمام محمد بن عبدالوهَّاب في فوائد قوله تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ﴾ [يوسف: 108]؛ حيث قال - رحمه الله -: "التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيرين وإن دَعَوا إلى الحقِّ، فإنما يدْعون إلى أنفسهم".
ومما يدلُّ على أنَّ المرء أبرز النُّطق بالحق استجابةً لشهوة خفيَّة، أنه لا يَطمئنُّ إلى ظهور الحق من غيره، ويجد في نفسه فاقة ونزوعًا إلى التسبُّب مباشرة بقوله ونَشْره، ولو أخلَص النيَّة، وحَسُنَت منه الطويَّة في طلب رضا الله، لقطَع نفسه عن شهوتها، مكتفيًا ومطمئنًّا بما ظهَر وانبلَج من الحق الذي يحبُّه الله - سبحانه - ولو على لسان أو قلم غيره، فإنه ليس للمخلص وراء ذلك من مقصدٍ.
فعلى من وَلَج في غمار البحث: أن يُعمِّرَ قلبه بمراقبة الله، ويُديم ملاحظة اطِّلاع ربِّه عليه، ويؤم بالسعي في علمه وبحثه تحصيلَ مراد الله، وينيط همَّه وشُغله بالنُّصرة والانتصار للحق، متحرِّيًا رضا ربِّ الخَلق، فإن فعَل ذلك، أحجَمتْ نفسه عن ملاحقة شهواتها والميل إلى رغباتها، وصَفَتْ سريرته في استنباط الحكم، وجاءَه التأييد من الربِّ - جل وعلا - كما قال سالم بن عبدالله لعمر بن عبدالعزيز: "اعْلَم أنَّ عون الله تعالى للعبد على قدر النيَّة؛ فمَن تَمَّت نيَّته، تَمَّ عون الله له، وإن نقَصَت، نقَص بقدره"[18].
ولأن "الإخلاص يُورث الفَهم عن الله والعلم والحكمة"[19]؛ قال ابن معاذ الرازي: "مَن أشخَص بقلبه إلى الله، انفتَحَت ينابيع الحكمة من قلبه، وجرَت على لسانه"[20].
ومن ثمار الإخلاص لله - عز وجل - ومظاهر بركته في أهله[21] أنَّك تجد الرجل قد لا يُحيط في بحثه للمسألة بكلِّ ما فيها من أدلة ومذاهب إلاَّ قليلاً، لكن يوفِّقه الله في ذلك القليل إلى معدن الحق، وعين الصواب، وتجد الرجل قد صرَف جهدًا في استقصاء أطراف المسألة واستجماع المذاهب فيها، لكن يُحرم من التوفيق إلى القول الراجح، بقدر ما فوَّت على نفسه من تحقيق النيَّة، وتصحيح المقاصد، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، نسأل الله العظيم أن يُزيِّن قلوبنا بزينة الإخلاص.
الركيزة الثانية: محاسبة النفس ودَحْر الهوى:
طريق العدل مُستوعرة، ولا يُمكن لخَلَّة الإنصاف أن تترسَّخ في قلوبنا، وتتحقَّق في أقوالنا وأعمالنا، إلاَّ بعد مجاهدة وصِدق في محاسبة نفوسنا وتفقُّد أهوائها؛ "فإن العدل والإنصاف ثقيل على النفوس، فلا تهواه غالبًا، ومَن صارَت له محبَّة الحق سجيَّة، فقد أُوتِي العلم والحكمة، وأُيِّد بالحفظ أو العصمة"[22].
وإنَّ من بواعث الأسى والكمد: أنه إذا ذُكِر الإنصاف، كُلنا قرَّ في خَلَده أنه من أهله وحُلفائه، وإذا ذُمَّ الإجحاف والهوى، كلنا اطمأنَّ إلى براءة نفسه، وأحال القصور على غيره؛ حتى أضحَت غَفلتنا عن محاسبة النفس ومتابعة الأنفاس حجابًا كثيفًا أعمانا عن عيوب نفوسنا ومواطن الخَلل فيها، وأَوْقَعنا في أَسْر إحسان الظنِّ بها، واستأْنَسنا بتبرئتها واعتقاد السلامة فيها، ولا شكَّ أنَّ هذا من العُجب، وفيه يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثلاث مُهلكات: شُحٌّ مُطاع، وهوًى مُتَّبع، وإعجاب المرء بنفسه))[23].
قَعَدْتَ للإِنْصَافِ بَيْنَ الوَرَى http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَاطْلُبْ لَنَا الإِنْصَافَ مِنْ نَفْسِكْ [24]http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولو استَغنى أحد عن محاسبة نفسه وتجريدها من أهوائها، لكان الأنبياء أَوْلَى الناس بذلك؛ فقد قال ربُّنا - سبحانه وتعالى - لنبيِّه داود - عليه السلام -: ﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ص: 26].
بل خاطَب بذلك سيِّد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - فقال - عز من قائل -: ﴿ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [المائدة: 48]، وقال - سبحانه -: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [المائدة: 49]، وقال - سبحانه -: ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ ﴾ [الرعد: 37].
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخشى على نفسه أن يَحيد عن العدل في حُكمه بين الناس؛ فقد صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((وإني لأَرْجو أن ألقَى الله وليس أحدٌ منكم يُطالبني بمظلمة في دمٍ ولا مالٍ))[25].
فهل لصادقٍ - بعد هذا - أن يأمَنَ على نفسه خفيات الجَوْر والهوى؟!
ولَم يَجعل الله سبيلاً لسلامة المرء من مزالق الهوى، إلاَّ بالتقوى ومجاهدة النفس؛ لأن "إدراك الإنسان لاختلاط هواه بآرائه، قد يكون غير متيسِّر للإنسان نفسه؛ لدِقَّة المسالك والمسارب في هذا الشأن، لكنَّ نعمة الهداية تَجعل سيطرة الإنسان على أهواء نفسه أكثر إمكانًا، وحِلْية التقوى تزيد في البصيرة؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال: 29].
ومَهْمَا يكن من أمرٍ، فلا مناص من جهاد دائمٍ للنفس في ذات الله؛ بُغية التجرُّد له عن الأهواء والمطامع والشهوات"[26].
وقد كان الحسن البصري يقول: "اتَّهِموا أهواءَكم ورأيكم على دين الله، وانتَصِحوا كتاب الله على أنفسكم ودينكم"[27].
إنَّ المؤمن الصادق في تحرِّي الإنصاف، تجده على وجلٍ دائمٍ، فهو يتخوَّف أن يَحيف في حُكم، أو يجور في مسألة انتصارًا لهواه؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60].
وهذا شأن المؤمن، فهو وإن كان في نفس الأمر على جادة العدل، لكن لا يَستيقن ذلك من نفسه، بل يَستحضر أنَّ المقام مقامُ توقيعٍ عن ربِّ العالمين - سبحانه وتعالى - وأنَّ نفسه التي بين جَنبيه أمَّارة بالسوء، وهذا ما يوقِظ فيه شدَّة التحرُّز من أهواء نفسه، ولأنَّ اتِّباع الهوى يصدُّ عن سُنن العدل، ويدعو إلى الحَيْف، قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ﴾ [النساء: 135].
قال السعدي: "أي: فلا تتَّبعوا شهوات أنفسكم المعارِضة للحق؛ فإنكم إن اتَّبَعَتموها، عدَلتم عن الصواب، ولَم توفَّقوا للعدل؛ فإن الهوى إمَّا أن يعمي بصيرة صاحبه، حتى يرى الحقَّ باطلاً والباطل حقًّا، وإمَّا أن يعرفَ الحقَّ ويَتركه لأجْل هواه، فمَن سَلِم من هوى نفسه، وُفِّق للحق، وهُدِي إلى الصراط المستقيم"[28].
وفي الأثر قال الإمام وهب - رحمه الله -: "إذا شَكَكت في أمرين، ولَم تَدرِ خيرَهما، فانظر أبعدَهما من هواك، فأْتِه"[29].
وقد طرَّز المعلمي اليماني كلامًا نفيسًا، كشَف فيه عن بعض مزالق الهوى، فقال - رحمه الله -: "وبالجملة، فمسالك الهوى أكثر من أن تُحصى، وقد جرَّبت نفسي أنني رُبَّما أنظر في القضيَّة زاعمًا أنه لا هوًى لي فيها، فيَلوح فيها معنًى، فأُقَرِّره تقريرًا يُعجبني، ثم يلوح لي ما يَخدش في ذاك المعنى، فأَجِدني أتبرَّم بذلك الخادش، وتُنازعني نفسي إلى تكلُّف الجواب عنه، وغَضِّ النظر عن مناقشة ذاك الجواب، وإنما هذا؛ لأني لَمَّا قرَّرت ذاك المعنى أولاً تقريرًا أعجَبني، صِرْت أهوى صحَّته، مع أنه لَم يعلم بذلك أحدٌ من الناس، فكيف إذا كنتُ قد أذَعته في الناس، ثم لاحَ لي الخدش؟ فكيف لو لَم يَلُح لي الخدش، ولكنَّ رجلاً آخرَ اعترَض عليّ به؟ فكيف لو كان المعترض ممن أكرَهه؟
هذا، ولَم يكلَّف العالِم بألاَّ يكون له هوًى؛ فإن هذا خارج عن الوسع، وإنما الواجب على العالِم أن يُفتِّش نفسه عن هواها؛ حتى يَعرفه، ثم يَحترز منه، ويُمعن النظر في الحقِّ من حيث هو حق، فإن بانَ له أنه مخالفٌ لهواه، آثَر الحقَّ على هواه"، ثم قال - رحمه الله -: "والعالم قد يُقصِّر في الاحتراس من هواه، ويُسامح نفسه، فتَميل إلى الباطل، فيَنصره، وهو يتوهَّم أنه لَم يَخرج من الحقِّ، ولَم يُعادِه، وهذا لا يكاد ينجو منه إلاَّ المعصوم، وإنما يتفاوت العلماء، فمنهم: مَن يكثر منه الاسترسال مع هواه ويفحش؛ حتى يَقطع مَن لا يعرف طباعَ الناس ومقدار تأثير الهوى بأنه متعمِّد، ومنه مَن يقل ذلك ويخف".
"فحيث تعذَّر العدل الحقيقي للتعذُّر أو التعسُّر في علمه أو عمله، كان الواجب ما كان به أشبه وأمثل، وهو العدل المقدور".
سبيل الاستبراء من الأهواء - المزالق فيه كما أنها خفيَّة، فإن مرتعَها وخيمٌ - توجب في الصادقين الفرارَ إلى الله تعالى، والتحرُّر من إحسان الظنِّ بالنفس، واللجوء إلى اتهام الخواطر والأفكار، ولزوم المحاسبة؛ فإن دون البراءة من لوثة الهوى، مُداومةَ المراقبة والاستمرار على المجاهدة، ولا يَأْنس من نفسه القوامة والسلامة من الخَلل ويطمئنُّ إلى ذلك إلاَّ محروم، والمعصوم مَن عصَمه الله.
الركيزة الثالثة: استجماع الأدلة واستيعاب النظر في حُجج المخالف:
في مَهْيَع العدل يجب على الباحث قبل تكوين الرأي في المسائل، والحكم على المختلف فيه - أن يستوفي الأدلة والمذاهب بالدراسة والتحرير؛ نصفةً للخَصم، وتحقيقًا للأمانة العلمية[30]، التي تحجر الباحثَ عن استثقال لَمِّ حُجج الخصوم، أو الاستهانة بدفن بعضها، فربما كان للخصم متعلق قويٌّ، أو مرجح جليٌّ، بحيث لو اطَّلع عليه المخالف بإنصاف، لاسْتَأْخَر مذهبه ونصَر قول مخالفه، ومال إلى مقتضى أدلَّته؛ قال ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: "أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تُستوعَبَ الأقوال في ذلك المقام، وأن يُنبَّه على الصحيح منها، ويُبطَل الباطل، فأمَّا مَن حكى خلافًا في مسألة، ولَم يستوعب أقوال الناس فيها، فهو ناقص؛ إذ قد يكون الصواب في الذي ترَكه"[31].
قال العلاَّمة ابن عثيمين تعليقًا: "فالإنسان الذي يسوق الخلاف، فإن من الأمانة أن ينقلَ جميع الأقاويل؛ لأنه - كما قال الشيخ ابن تيميَّة - رُبَّما يحذف من الأقاويل ما هو أصح"؛ ا.هـ.
عن عثمان بن عطاء عن أبيه، قال: "لا ينبغي لأحدٍ أن يفتي الناس، حتى يكون عالِمًا باختلاف الناس؛ فإن لَم يكن كذلك، رَدَّ من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه"[32].
وإن كانت للباحث ثقة بقوَّة استدلاله، فهي شيء لا يُستنكر، غير أنه لا يُمكن أن تكون مُغريًا له دون إعطاء حُجج الخصم حظَّها من الدراسة والبيان، بل كل باحث - لا يدَّخر جهدًا في تَجْلِيَة قوَّة مُعتمَدِه من الأدلة - يجب عليه ألاَّ يَنفصل عن تَجْلِيَتها، قبل تبيين وجوه الاعتراض على الاستدلال بها، كما لا يَفتأ عن تَجْلِيَة ما في مذهب غيره من أدلة قويَّة، بصرف النظر عن المتمذهب بها؛ فالله تعالى يقول: ﴿ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ﴾ [الأعراف: 85].
قال ابن تيميَّة: "يجب أن يكون الخطاب في المسائل المُشكلة بطريق ذِكر دليل كلِّ قولٍ ومعارضة الآخر له؛ حتى يتبيَّن الحق بطريقه لِمَن يريد الله هدايته"[33].
فالإنصاف داعية لصاحبه أن يستعرضَ ما تمكَّن من تقييده بحثًا، من جميع الأدلة والأقاويل، مُعربًا في سبيل نُصرة الحق عمَّا له وما عليه، بسلامة صدرٍ، وطمأنينة نفس، مستحضرًا قولَ الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾ [النساء: 135].
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قل الحقَّ ولو على نفسك))[34]، ومتأسِّيًا بصالحي السلف الذين لَم يتخلَّف أثرُ هذه الآية والحديث فيهم، بل كانت معانيهما قارَّة في قلوبهم، فاستعلوا بها على الأعراض والأغراض، وهضَموا أنفسهم في مقابل إشهار الحق، وفَسْر حدوده؛ كما قال الإمام وكيع بن الجرَّاح - رحمه الله -: "أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلاَّ ما لهم"[35].
• ثم اعلَم - رحمك الله - أن غَمْص المخالف في علومه، وحَجْب ما للخصوم من تحقيق، سوءة مَشينة، ومَعرَّة مهينة، تتَّصل رحمُها بخلال الأمة الغضبيَّة؛ كما بين الإمام ابن تيميَّة، لَمَّا ذكَر كيف وصَف الله المغضوب عليهم؛ حيث قال - رحمه الله -:
"فوصف - أي: الله سبحانه وتعالى - المغضوب عليهم بأنهم يكتمون العلم؛ تارة بخلاً به، وتارة اعتياضًا عن إظهاره بالدنيا، وتارة خوفًا أن يحتجَّ عليهم بما أظهَروه منه.
وهذا قد ابْتُلِي به طوائف من المنتسبين إلى العلم، فإنهم تارة يكتمون العلم بُخلاً به، وكراهة أن ينالَ غيرهم من الفضل ما نالوه، وتارة اعتياضًا عنه برياسة أو مالٍ، ويخاف من إظهاره انتقاص رياسته أو نَقْص ماله، وتارة يكون قد خالَف غيره في مسألة، أو اعتزَى إلى طائفة قد خولِفَت في مسألة، فيكتم من العلم ما فيه حُجَّة لمخالفه، وإن لَم يتيقَّن أن مخالفه مُبطل"؛ ا.هـ [36].
ومن تلبيس الشيطان علينا أن نعتقد أن إظهار أدلة المخالف على حقيقتها، وإبراز جوانب القوة فيها، هو هدْمٌ لجهودنا، وإشادة بمذهب الخَصم على أنقاضها؛ لأن النصوص الشرعية ليست حِكرًا على أحد، ولو سَبَق إليها، أو اشْتَهَرت من جهته، بل الأدلة الشرعية والحُجج العلمية، نصبت علامات تسوق المهتدين بها إلى معدن الحق، والانتصار لها انتصار لراية الحق الذي ننشده، وفي بروزها وإحقاقها فضلٌ من الله، به يفرح المخلصون من المؤمنين، لا يبالي أحدهم على يد مَن تحقَّقت.
ولا يحلُّ لباحث يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبقى نائيًا عن أدلة مخالفيه وأقوالهم، ثم يَستجيز لنفسه أن ينسبَ إليهم الأقوال، أو يَحكم عليهم بأحكام تَدعمها المزاعم والظنون، وإذا ما نقَل عن موافقيه، حقَّق وتثبَّت.
• قال ابن الجوزي - رحمه الله -: "وألوم عندي - ممن قد لُمته من الفقهاء - جماعة من كبار المحدِّثين، عرَفوا صحيح النقل وسقيمه، وصنَّفوا في ذلك، فإذا جاء حديث ضعيف يخالف مذهبهم، بيَّنوا وجه الطَّعن فيه، وإن كان موافقًا لمذهبهم، سكتوا عن الطَّعن فيه، وهذا يُنبئ عن قلة دينٍ، وغَلَبة هوًى"[37].
ثم ساق بسنده عن وكيع قوله السابق: "أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلاَّ ما لهم".
ويُقتل الإنصاف في مهده حينما يشرع أحدنا في بحثه، فيستقصي في سَرْد حُججه، ويُردفها بتبيين استدلالاته غير مُقصِّر، مع إظهار الجواب عن بعض الاعتراضات، ثم يَنعطف على أدلة مخالفيه بنظر عابرٍ، فيتخيَّر منها - بعد أن يُهمل بعضها - كلَّ مُتردِّية ونَطيحة؛ ليتسنَّى له من بعد نَقْضها وردِّها، ويَنهمك في التعكير على حججهم بما لا تَسلم منه حججه، ولا تَستقيم معه أدلته، ولا غَرْو أن تعجب من هذا، وشيخ الإسلام إزاء مثله قال:
"فلماذا يكون الإنسان من المُطففين؛ لا يَحتج لغيره كما يَحتج لنفسه، ولا يَقبل لنفسه ما يقبله لغيره؟"[38].
ولعله أن يكون لنفوسنا مُزدجر، إذا أدرَكتْ أن توعُّد الله للمطففين بالويل، يلحق كلَّ مَن طفَّف، ناكبًا عن مقتضى الوفاء، حتى في المباحثات العلمية والمقالات؛ قال العلامة السعدي - رحمه الله - في سياق تفسير قوله تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴾ [المطففين: 1]: "بل يدخل في عموم هذا الحُجج والمقالات، فإنه كما أنَّ المتناظرين قد جرَت العادة أن كلَّ واحدٍ منهما يحرص على ماله من الحُجج، فيجب عليه أيضًا أن يُبيِّن ما لخَصمه من الحجج التي لا يعلمها، وأن ينظرَ في أدلة خَصمه كما ينظر في أدلته هو، وفي هذا الموضع يُعرَف إنصاف الإنسان من تعصُّبه واعتسافه، وتواضُعه من كِبْره، وعقله من سَفَهه، نسأل الله التوفيق لكلِّ خير"[39].
قال ابن القَيِّم - رحمه الله -: "والإنصاف أن تكتالَ لمنازعك بالصاع الذي تكتال به لنفسك؛ فإن في كلِّ شيء وفاءً وتطفيفًا"[40].
وقال قبله شيخه ابن تيميَّة - رحمه الله -:
"ونحن في جميع ما نُورده نحكي ألفاظ المحتجين بعينها؛ فإن التصرُّف في ذلك قد يدخله خروج عن الصدق والعدل؛ إمَّا عمدًا، وإمَّا خطأً، فإنَّ الإنسان إن لَم يتعمَّد أن يلوي لسانه بالكذب، أو يكتم بعضَ ما يقوله غيرُه، لكنَّ المذهب الذي يقصد الإنسان إفسادَه، لا يكون في قلبه من المحبَّة له ما يدعوه إلى صوغ أدلته على الوجه الأحسن؛ حتى يَنظمها نظمًا يَنتصر به، فكيف إذا كان مبغضًا لذلك؟"[41].
ورُبَّما أراد أحدهم نقضَ مذهب خَصمه، فلجأ إلى إظهار مستنده من الأدلة على وجوه مُستكرهة، مستعينًا بالعبارات المُنفِّرة، وتفخيم المطاعن عليها، فتراه "يُسمن النصوص تارة، ويُضمرها أخرى"[42]، وليس هذا من عادة أهل العدل والوَرع، البصراء بمراتب الأدلة، ومعايير الترجيح والاحتجاج، بل عدَّ ابن القَيِّم مثل هذا من أسباب تمهيد قَبول التأويلات الفاسدة التي يَنتهجها أهلُ الأهواء تلبيسًا وتدليسًا؛ قال - رحمه الله -:
"السبب الثاني: أن يخرج المعنى الذي يريد إبطاله بالتأويل، في صورة مُستهجنة تَنفر عنها القلوب، وتنبو عنها الأسماع، فيتخيَّر له من الألفاظ أكرهَها وأبعدها وصولاً إلى القلوب، وأشدها نُفرة عنها، فيتوهَّم السامع أن معناها هو الذي دلَّت عليه تلك الألفاظ"؛ ا.هـ[43].
الركيزة الرابعة: التجرُّد من المقررات السابقة قبل التوجُّه إلى دراسة النصوص:
قد لا يُقصِّر الباحث في توسيع الاطِّلاع على نصوص الأدلة الشرعيَّة، لكن قد يفوته أن يطرحَ قناعاته الأوَّليَّة، وما ركزَ في نفسه من أحكام مُسبقة قبل الدخول على النص، فيشرع في تناوُل دلالات الأدلة شروعَ مَن يرتقب من دراستها دليلاً على ما سَبَق إلى قناعته، وربما يستبعد أن تُعارض مذهبه، فيلتَمس من كلِّ دليل ينظر فيه حجةً تؤيِّد رأيه، وتُسَوِّغ فَهمه[44]، وهذا الأسلوب من التعامل مع الأدلة - في ظلِّ هذه الخلفية الفكريَّة - لا شكَّ أنه يعود بالخَلل على طريقة استخراج المعاني والأحكام من الأدلة وترجيح الأقوال، فيرجِّح غير الراجح واهمًا أنه استجابَ لقوَّة الدليل، وهو في نفس الأمر اطمئنان من نفسه لشيء معهود ليس إلاَّ؛ قال المعلمي - رحمه الله -: "وإذا سَبَق إلى الإنسان أمرٌ - وإن كان ضعيفًا - ثم اطَّلع على ما يحتمل موافقة ذلك السابق، ويحتمل خلافه، فإنه يترجَّح في نفسه ما يوافق السابق، وقد يقوى ذلك في النفس جدًّا، وإن كان ضعيفًا"[45].
ولذلك ليس من الإنصاف في شيء أن نقرأ الأدلة والنصوص الشرعية قراءةَ استنصار، فنتكلَّف تنزيلَ ظواهر دلالاتها على نحو ينصر آراءنا الخاصة، مما قد استَحْسَنَّا قَبوله قبل تأمُّل الدليل؛ لأنها قراءة فاسدة، نَحرِم بها أنفسَنا الانتفاع بنور الأدلة الشرعيَّة وهدايتها إلى مراد الله - عز وجل - بل الواجب أن نقرأ الأدلة قراءةَ استبصارٍ، فنُسلم القياد لمقتضى النص، وَفْق المنهج العلمي للاستدلال؛ حتى ننتهي إلى ما تصير إليه الحجة الشرعيَّة، غير مُكترثين بالتخلي عن أيِّ رأي أو مذهبٍ أنسْنا إليه في غياب الدليل؛ قال ابن الجوزي - رحمه الله -: "إنما ينبغي للإنسان أن يَتبع الدليل، لا أن يَتبعَ طريقًا ويتطلَّب دليلها"[46].
وقد تولَّى الإمام الشاطبي - على طريقته في التأصيل - كشْفَ سبيل أخذ الأدلة، وميَّز بين مسالك الاستهداء بالنصوص الشرعيَّة؛ قال - رحمه الله -:
"فاعلم أن أخْذَ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين:
أحدهما: أن يؤخَذ الدليل مأخذ الافتقار، واقتباس ما تضمَّنه من الحكم؛ ليُعرضَ عليه النازلة المفروضة؛ لتقعَ في الوجود على وِفاق ما أعطى الدليلُ من الحكم، أمَّا قبل وقوعها، فبأن تُوقَعَ على وَفْقه، وأمَّا بعد وقوعها، فليَتلافى الأمر، ويَستدرك الخطأ الواقع فيها، بحيث يغلب على الظنِّ أو يقطع بأنَّ ذلك قصد الشارع، وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكامَ من الأدلة.
والثاني: أن يؤخَذ مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة، أن يظهر في بادئ الرأي موافقةُ ذلك الغرض للدليل، من غير تَحرٍّ لقصد الشارع، بل المقصود منه تنزيل الدليل على وَفْق غرضه، وهذا الوجه هو شأن اقتباس الزائغين الأحكامَ من الأدلة.
ويظهر هذا المعنى من الآية الكريمة: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ [آل عمران: 7]، فليس مقصودهم الاقتباسَ منها، وإنما مرادهم الفتنة بها بهواهم؛ إذ هو السابق المُعتبر، وأَخْذ الأدلة فيه بالتَّبع؛ لتكون لهم حُجةً في زَيغهم، ﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ [آل عمران: 7] ليس لهم هوًى يُقدِّمونه على أحكام الأدلة؛ فلذلك: ﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾ [آل عمران: 7]، ويقولون: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ [آل عمران: 8]، فيتبرَّؤون إلى الله مما ارتكبَه أولئك الزائغون، فلذلك صار أهلُ الوجه الأول مُحَكِّمين للدليل على أهوائهم، وهو أصل الشريعة؛ لأنها إنما جاءَت لتُخرج المكلَّف عن هواه؛ حتى يكون عبدًا لله، وأهل الوجه الثاني يُحَكِّمون أهواءَهم على الأدلة؛ حتى تكون الأدلة في أخْذهم لها تبعًا"؛ انتهى كلامه - رحمه الله[47].
وفيه ما يَهدي اللبيب إلى أنَّ جادة السلف تعظيم حُرمة النصوص، باستعراض الأحكام على مَحجتها، والإذعان للازم حُجتها، فلا يَثبت عندهم لشيء قرارٌ؛ حتى تَنتصب أدلتُه، وتَصِح براهينُه، خلافًا لأهل الزَّيغ والبدعة، الذين تَسبق أهواؤهم المختلة مقتضى صحيح الأدلة، فيَنتحلون العقائد والآراء، ثم يَستتبعون نصوص الشرع لتأكيدها، كرهًا على كره؛ قال ابن تيميَّة - رحمه الله -: "وأهل البدع سلكوا طريقًا آخرَ ابتدعوها، اعتمدوا عليها، ولا يذكرون الحديث، بل ولا القرآن في أصولهم، إلاَّ للاعتضاد، لا للاعتماد"[48].
وقال الإمام وكيع - رحمه الله -: "مَن طلَب الحديث كما جاء، فهو صاحب سُنة، ومَن طلَب الحديث ليُقوِّي هواه، فهو صاحب بدعة"[49].
فالواجب أن نؤخر أفكارَنا وآراءنا المُسبقة، ونعرض قناعاتِنا على الحجَّة الشرعيَّة، ولا نتقدَّم بأحكامنا بين يدي الكتاب والسُّنة؛ حتى يَسلم لنا الاستدلال، ويتمَّ الاستهداء؛ قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: "لكنَّ بلاء بعض العلماء أنهم يحكمون قبل أن يستدلُّوا، أو يعتقدون قبل أن يستدلوا، ونحن نقول: استدلَّ ثم اعْتَقِد، استدلَّ ثم احْكُم، هذا الصواب"[50].
"فالإنسان يجب أن يفهمَ النصوص على ما هي عليه، ثم يكون فَهمه تابعًا لها، لا أن يُخضع النصوص لفَهمه أو لِما يَعتقده؛ ولهذا يقولون: استدلَّ ثم اعْتَقِد، ولا تَعتقد ثم تستدل؛ لأنك إذا اعتقَدت ثم استدلَلْتَ، رُبَّما يَحملك اعتقادُك على أن تُحرِّف النصوص إلى ما تعتقده، كما هو ظاهر في جميع المِلل والمذاهب[51] المخالفة لِما جاء به الرسول - عليه الصلاة والسلام - تجدهم يُحرِّفون هذه النصوص؛ لتُوافق ما هم عليه"[52].
يتبع..........
"مَن استدلَّ ثم اعتقَدَ، فقد رشَد، ومَن اعتقَد ثم استدلَّ، فقد زَلَّ".
أمَّا بعدُ:
فإنَّ من أدواء الأُمة الإسلاميَّة التي يَئِنُّ المسلمون تحت وَطْأَتها، ويَكتوون بلَظاها - التفرُّقَ والاختلاف الذي يسري في جسدها، ويَنخر في صُلبها، ويَهدُّ من قواها، خلاف زَرَعت فيه الأهواء بذورَ الفتن، فأثمرَت الفُرقة والشِّقاق، والذي زاد في استطارة شرِّه أنِ انْبَرى كثيرٌ من بني زماننا، فحشَروا أنوفَهم في حمى مسائل الدين، وخاضُوا في مواطن الخلاف والاجتهاد، يتقصَّدون نَيْلَ مآربهم في الانتصار لرغبات شخصيَّة أو جهات معيَّنة، أو دفاعًا عن مواقفهم المجذومة، أو تسويغًا لعصبيَّة مشؤومة، دون تثبُّت أو هَوَادة؛ حتى صار الخوضُ في الخلافيَّات ومسائل الاجتهاد ساحةً خِصبة للممارسات الخاطئة، التي تَمور بين الوكس والشَّطط، فتفاقَم النزاعُ الواقع، واتَّسع الخَرْقُ على الراقع، "واستعمَل فيه الخصوم كلَّ أدوات الدفاع والهجوم، وضاقَت بالحِياد فيه الأرض بما رَحُبت، فالكل مُتَّهم، والكل برَاء، وأعجَز داء الأُمة الدواء، فحضَر الشهود إلاَّ شاهد العقل، واسْتُحْضِرت الحُجَج إلاَّ حُجة الإنصاف، ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ﴾ [يوسف: 53]"[1].
وَلَمْ تَزَلْ قِلَّةُ الإِنْصَافِ قَاطِعَةً http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بَيْنَ الرِّجَالِ وَلَوْ كَانُوا ذَوِي رَحِمِ http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ومَن تقصَّى من أحوال الأُمة أخبارَها، وسَبَر بفكره أغوارَها، ألفى أن كثيرًا من مظاهر التشرذُم، وانتفاش الباطل، وتوالي النَّكبات في المسيرة العلميَّة والفكريَّة - مَرَدُّ شطر كبيرٍ منها إلى تغييب فريضة العدل والإنصاف[2]، والركون إلى الهوى والإجحاف، وما تَقذف به بعض المطابع من أسفار، شَنَّ بها ذَووها هجومًا على قضايا الاختلاف، ومسائل الراجح والمرجوح تَشهد ناطقةً بنعي الإنصاف، ونُدرة أهله الأشراف، وصدق مالك بن دينار يوم أن قال: "ليس في الناس شيءٌ أقل من الإنصاف"[3]، وقال جعفر بن سعد: "ما أقلَّ الإنصاف! وما أكثر الخلاف!"[4].
مع أنَّ كلَّ مَن رشَّح نفسه لتحقيق المسائل، واستشرَف فضَّ النزاع، واقتحَم مُعترك الأقوال لحَسْم الخلاف، يتحتَّم عليه أن يتدرَّع بعُدَّة العلم والتحقيق، وأن يتحلَّى بدِثار العدل؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ﴾ [الأنعام: 152].
قال ابن القيِّم - رحمه الله تعالى -: "والله تعالى يحبُّ الإنصاف، بل هو أفضل حِلْيَة تحلَّى بها الرجل، خصوصًا مَن نصَّب نفسه حَكَمًا بين الأقوال والمذاهب، وقد قال الله تعالى لرسوله: ﴿ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ﴾ [الشورى: 15]"[5].
والله أمَر بالعدل في غير ما آية؛ كما قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ﴾ [النساء: 135]، وقال - سبحانه -: ﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ﴾ [المائدة: 42]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58].
وعن عبدالله بن عمرو قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ المُقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن - وكلتا يديه يَمين - الذين يَعدلون في حُكمهم وأهليهم، وما وَلُوا))[6].
ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: ((وأسْأَلك كلمة الحقِّ في الغضب والرِّضا))[7].
وقال عمار - رضي الله عنه -: "ثلاث مَن جمعهنَّ، فقد جمَع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبَذْل السلام للعالَم، والإنفاق من الإقتار"[8].
قال ابن عبدالبر - رحمه الله -: "من بركة العلم وآدابه: الإنصاف فيه، ومَن لَم يُنصف، لَم يَفهم ولَم يتفهَّم"[9].
وقال ابن حزم - رحمه الله -: "أفضلُ نِعَم الله على العبد أن يطبعه على العدل وحبِّه، وعلى الحقِّ وإيثاره"[10].
فمن تجرَّأ على مسائل الدين من غير علمٍ، نزَل به جهلُه إلى دَركات المُبطلين، كما أنَّ مَن دخَلها من غير عدلٍ، خلفه جوره مع أنصار الظالمين، فإن الإنسان خُلِق ظلومًا جهولاً؛ قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -[11]: "الإنسان خُلِق ظلومًا جهولاً، فالأصل فيه عدمُ العلم، ومَيْله إلى ما يهواه من الشر، يحتاج دائمًا إلى علمٍ مُفصَّل يَزول به جهله، وعدلٍ في محبَّته وبُغضه، ورِضاه وغضبه، وفِعله وتَرْكه، وإعطائه ومَنْعه، وأكْله وشُربه، ونومه ويَقَظته، وكلُّ ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى علمٍ يُنافي جهلَه، وعدل يُنافي ظُلمَه، فإن لَم يمنَّ الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل، كان منه من الجهل والظلم ما يخرج به من الصِّراط المستقيم، وقد قال تعالى لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - بعد صُلح الحديبية وبَيعة الرضوان: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾ [الفتح: 1]... إلى قوله تعالى: ﴿ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾ [الفتح: 2].
فإذا كان هذه حاله في آخر حياته أو قريبًا منها، فكيف حال غيره؟!"؛ ا.هـ.
وإنَّ نكوصَ كثير من المخالفين وحيادهم عن سبيل السلف المؤيَّد بالكتاب والسُّنة - أحد نتائج الانسلاخ من أَزِمَّة العدل والإنصاف، وإيثار الهوى على الحق، ومما امتاز به أهلُ السُّنة والجماعة عن أهل البدعة والفُرقة اتِّباعُ الحقِّ وإقامة العدل، فقد بلغوا في الاستقامة عليه إلى حدٍّ جعَلهم أعدلَ وأرحم بأهل البدع من أهل البدعة بعضهم مع بعض؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "فأهل السُّنة يَستعملون معهم - يقصد أهلَ البدع - العدلَ والإنصاف، ولا يَظلمونهم؛ فإن الظلم حرامٌ مُطلقًا كما تقدَّم، بل أهل السنة لكلِّ طائفة من هؤلاء خيرٌ من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض"[12]؛ ا .هـ.
واعلم - رَحِمك الله - أنَّ شرف الباحث بوضع يده على الحق في ظل الاختلافات، وتنازُع المذاهب، واشتباك الأدلة - أمرٌ لا يتوقَّف على الرسوخ العلمي، واتِّساع القدرة العقليَّة على الاجتهاد في مسالك الاشتباه والتعارض فحسب، بل لا بدَّ أن يُرافق ذلك الرسوخُ في الديانة، والتجمُّل بالتقوى، والتحلِّي بالوَرَع والخَشْيَة، وكلُّ ما يُزكي النفس، ويوطِّد صِلتها بالخالق - سبحانه وتعالى - والله تعالى يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال: 29].
وتاج الأوصاف، التي يُتَحلَّى بها في لجج الخلاف، خُلُقُ العدل والإنصاف.
وإن كان أمرٌ مثل الإنصاف لا نشكُّ أنه مُستقرُّ الأركان عند الكثيرين في التنظير العلمي، لكنه ليس إلى حدٍّ يُقيم فينا الاستعداد الكامل لإقامة نُفُوسنا عليه والتزامه في واقعنا العملي، والأدهى من ذلك والأَمرُّ أن النَّبز بالإجحاف، والبُعد عن الإنصاف، صار تُهمة نَستأْسِد في إطلاقها على غيرنا، ثم نَخور ونستحيي أن نواجه بها أنفسَنا!
ومشاركةً في استنهاض الهِمم إلى سلوك سبيل الإنصاف وأسبابه، والولوج إليه من أبوابه، تجرَّأتُ على بثِّ هذا الذي أزعم أنه يحوي بعضَ ركائز الإنصاف الذي نُنشده، ونسعى إلى تحقيقه، سائلاً ربي التوفيقَ والسَّداد في القول والعمل:
الركيزة الأولى: الإخلاص في طلب الحق:
إن أعظم مقام يوطِّن الباحث عليه نفسه، ويَعقد عليه مجامعَ قلبه - هو الإخلاص لله ربِّ العالمين؛ بأن يكون الباعث له على مزاولة البحث وفَحْص المسائل العلميَّة، هو استجلاء الحق ورَفْع معالمه؛ الْتماسًا لرضا الله، ونيلاً لثوابه؛ فإن مَن قرَّ في قلبه صِدْقُ النيَّة، سعى به إخلاصه إلى الاستقامة على طريق العدل والإنصاف ولا بدَّ؛ لأنَّ الله يُبرئ عباده المخلصين من باطل الهوى والجَور، ويهديهم إلى ميزان الحق، ومَن حُرِم حُسْنَ المقصد، شقَّ عليه إحراز الانتصاف من نفسه في آرائه وأحكامه؛ لأنه في الغالب يأتي مُسقطًا لأهوائها، داحضًا لحظوظها؛ كما قال سهل التستري لَمَّا سُئِل: أيُّ شيء أشدُّ على النفس؟ قال: الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب[13].
وإذا أقفَرت ميادين البحث العلمي من النيات الصادقة في طلب الحقِّ، أيْنَعَت بنيَّات الظلم والإجحاف، وخفيات التحريف، وتسلَّل التشويه إلى الحقائق، ونال الطَّمسُ من المفاهيم والمصطلحات، ولُوِيَت أعناقُ النصوص ببراثن التأويل الفاسد؛ لأن من قصَدَ جَلْب أغراضه ونَيْل حظوظه، لا يُسعفه الإنصاف في تحصيلها، فيضطر - حرصًا على إدراكها - إلى الانسلاخ عن حِلْيَة العدل، ويسعى راكبًا هواه في عماية، يتتبَّع الظهور بالغَلَبة، ويَستجلب أُبَّهة الجاه والمكانة، وأهل الإخلاص متى ما ائتمُّوا بإمام الإنصاف، كان ذلك لمصلحتهم؛ فهو دليلُهم إلى ما قصدوا تحقيقَه من انتصار الحق وذيوع نوره؛ التماسًا لرضا الله - سبحانه وتعالى - ولهذا تجد المخلص قد تيقَّن بقلبه أنَّ انتصار الحقِّ وعُلو رايته، أغلى وأعظم من انتصار رأيه، أو إدراك شهواته، وتحقُّق ما يُرضي اللهَ - سبحانه وتعالى - أحلى وأشهى من نيْلِ مآربه وحصول مُراده، ولا يَجبن عن ارتياد سبيل العدل والإنصاف، إلاَّ مَن أبطَنَ في نفسه نيات الظَّفر بشهواته وحظوظ نفسه!
وفي مسائل الخلاف مِن توارُد الأقوال وتضارُب الآراء، ضروبٌ لا يستقرُّ معها الاهتداء إلى مَعين الصواب منها، إلاَّ بضمان الإخلاص في دراستها والترجيح بينها؛ فإن الله يَبتلي عباده بمواضع الخلاف، ويَمتحن بها صِدقهم، ويُمَحِّص نياتهم؛ فإنَّ "وجود النصوص التي يستشكل ظاهرها، لَم يقع عفوًا، وإنما هو أمرٌ مقصود شرعًا؛ ليبلوَ الله تعالى ما في النفوس، ويَمتحن ما في الصدور، ويُيَسِّر للعلماء أبوابًا من الجهاد العلمي، يَرفعهم الله به درجات"[14].
• قال ابن الجوزي - رحمه الله -: "الصِّدق في الطلب منار، أين وُجِد، يدلُّ على الجادة، وإنما يتعثَّر مَن لَم يُخلص"[15].
• وقال ابن القيم - رحمه الله -: "مَن آثَر الإنصاف، وسلَك سبيل العلم والعدل، تبيَّن له راجحُ المذاهب من مرجوحها، وفاسدُها من صحيحها"[16].
ومما يَنقض هذه الركيزة أن يستهدفَ الخائض في الخلاف ومسائله قطْعَ الخَصْم ودَحْر مذهبه؛ فإن ذلك يُهيِّج كوامنَ النفوس، ويَستثير الاندفاع إلى تحقيق الغَلَبة، فيحول دون استبصار الحق ولزوم الإنصاف فيه، وربما نفَخ في النفس بنافخ الكِبر، فتستعلي على النزول والتواضع للحق إذا انجلَى من جهة المخالف.
وهنا يجب ألاَّ ننخدِعَ للخلافات المُغلَّفة بالمباحث العلميَّة، وهي في باطنها تطلُّعات ذاتية لمصالح شخصيَّة؛ فقد تتستَّر حظوظ النفس ورغباتها وراء السعي في البحث عن الحق والانتصار له، وتجد الرجل يُشهر الحقَّ ونفسُه تصبو إلى تحصيل جاه أو مالٍ[17]، أو نيل رضا قريب أو حبيبٍ، ومن محاسن الاستنباط في هذا السياق ما علَّقه الإمام محمد بن عبدالوهَّاب في فوائد قوله تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ﴾ [يوسف: 108]؛ حيث قال - رحمه الله -: "التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيرين وإن دَعَوا إلى الحقِّ، فإنما يدْعون إلى أنفسهم".
ومما يدلُّ على أنَّ المرء أبرز النُّطق بالحق استجابةً لشهوة خفيَّة، أنه لا يَطمئنُّ إلى ظهور الحق من غيره، ويجد في نفسه فاقة ونزوعًا إلى التسبُّب مباشرة بقوله ونَشْره، ولو أخلَص النيَّة، وحَسُنَت منه الطويَّة في طلب رضا الله، لقطَع نفسه عن شهوتها، مكتفيًا ومطمئنًّا بما ظهَر وانبلَج من الحق الذي يحبُّه الله - سبحانه - ولو على لسان أو قلم غيره، فإنه ليس للمخلص وراء ذلك من مقصدٍ.
فعلى من وَلَج في غمار البحث: أن يُعمِّرَ قلبه بمراقبة الله، ويُديم ملاحظة اطِّلاع ربِّه عليه، ويؤم بالسعي في علمه وبحثه تحصيلَ مراد الله، وينيط همَّه وشُغله بالنُّصرة والانتصار للحق، متحرِّيًا رضا ربِّ الخَلق، فإن فعَل ذلك، أحجَمتْ نفسه عن ملاحقة شهواتها والميل إلى رغباتها، وصَفَتْ سريرته في استنباط الحكم، وجاءَه التأييد من الربِّ - جل وعلا - كما قال سالم بن عبدالله لعمر بن عبدالعزيز: "اعْلَم أنَّ عون الله تعالى للعبد على قدر النيَّة؛ فمَن تَمَّت نيَّته، تَمَّ عون الله له، وإن نقَصَت، نقَص بقدره"[18].
ولأن "الإخلاص يُورث الفَهم عن الله والعلم والحكمة"[19]؛ قال ابن معاذ الرازي: "مَن أشخَص بقلبه إلى الله، انفتَحَت ينابيع الحكمة من قلبه، وجرَت على لسانه"[20].
ومن ثمار الإخلاص لله - عز وجل - ومظاهر بركته في أهله[21] أنَّك تجد الرجل قد لا يُحيط في بحثه للمسألة بكلِّ ما فيها من أدلة ومذاهب إلاَّ قليلاً، لكن يوفِّقه الله في ذلك القليل إلى معدن الحق، وعين الصواب، وتجد الرجل قد صرَف جهدًا في استقصاء أطراف المسألة واستجماع المذاهب فيها، لكن يُحرم من التوفيق إلى القول الراجح، بقدر ما فوَّت على نفسه من تحقيق النيَّة، وتصحيح المقاصد، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، نسأل الله العظيم أن يُزيِّن قلوبنا بزينة الإخلاص.
الركيزة الثانية: محاسبة النفس ودَحْر الهوى:
طريق العدل مُستوعرة، ولا يُمكن لخَلَّة الإنصاف أن تترسَّخ في قلوبنا، وتتحقَّق في أقوالنا وأعمالنا، إلاَّ بعد مجاهدة وصِدق في محاسبة نفوسنا وتفقُّد أهوائها؛ "فإن العدل والإنصاف ثقيل على النفوس، فلا تهواه غالبًا، ومَن صارَت له محبَّة الحق سجيَّة، فقد أُوتِي العلم والحكمة، وأُيِّد بالحفظ أو العصمة"[22].
وإنَّ من بواعث الأسى والكمد: أنه إذا ذُكِر الإنصاف، كُلنا قرَّ في خَلَده أنه من أهله وحُلفائه، وإذا ذُمَّ الإجحاف والهوى، كلنا اطمأنَّ إلى براءة نفسه، وأحال القصور على غيره؛ حتى أضحَت غَفلتنا عن محاسبة النفس ومتابعة الأنفاس حجابًا كثيفًا أعمانا عن عيوب نفوسنا ومواطن الخَلل فيها، وأَوْقَعنا في أَسْر إحسان الظنِّ بها، واستأْنَسنا بتبرئتها واعتقاد السلامة فيها، ولا شكَّ أنَّ هذا من العُجب، وفيه يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثلاث مُهلكات: شُحٌّ مُطاع، وهوًى مُتَّبع، وإعجاب المرء بنفسه))[23].
قَعَدْتَ للإِنْصَافِ بَيْنَ الوَرَى http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَاطْلُبْ لَنَا الإِنْصَافَ مِنْ نَفْسِكْ [24]http://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولو استَغنى أحد عن محاسبة نفسه وتجريدها من أهوائها، لكان الأنبياء أَوْلَى الناس بذلك؛ فقد قال ربُّنا - سبحانه وتعالى - لنبيِّه داود - عليه السلام -: ﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ص: 26].
بل خاطَب بذلك سيِّد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - فقال - عز من قائل -: ﴿ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [المائدة: 48]، وقال - سبحانه -: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [المائدة: 49]، وقال - سبحانه -: ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ ﴾ [الرعد: 37].
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخشى على نفسه أن يَحيد عن العدل في حُكمه بين الناس؛ فقد صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((وإني لأَرْجو أن ألقَى الله وليس أحدٌ منكم يُطالبني بمظلمة في دمٍ ولا مالٍ))[25].
فهل لصادقٍ - بعد هذا - أن يأمَنَ على نفسه خفيات الجَوْر والهوى؟!
ولَم يَجعل الله سبيلاً لسلامة المرء من مزالق الهوى، إلاَّ بالتقوى ومجاهدة النفس؛ لأن "إدراك الإنسان لاختلاط هواه بآرائه، قد يكون غير متيسِّر للإنسان نفسه؛ لدِقَّة المسالك والمسارب في هذا الشأن، لكنَّ نعمة الهداية تَجعل سيطرة الإنسان على أهواء نفسه أكثر إمكانًا، وحِلْية التقوى تزيد في البصيرة؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال: 29].
ومَهْمَا يكن من أمرٍ، فلا مناص من جهاد دائمٍ للنفس في ذات الله؛ بُغية التجرُّد له عن الأهواء والمطامع والشهوات"[26].
وقد كان الحسن البصري يقول: "اتَّهِموا أهواءَكم ورأيكم على دين الله، وانتَصِحوا كتاب الله على أنفسكم ودينكم"[27].
إنَّ المؤمن الصادق في تحرِّي الإنصاف، تجده على وجلٍ دائمٍ، فهو يتخوَّف أن يَحيف في حُكم، أو يجور في مسألة انتصارًا لهواه؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60].
وهذا شأن المؤمن، فهو وإن كان في نفس الأمر على جادة العدل، لكن لا يَستيقن ذلك من نفسه، بل يَستحضر أنَّ المقام مقامُ توقيعٍ عن ربِّ العالمين - سبحانه وتعالى - وأنَّ نفسه التي بين جَنبيه أمَّارة بالسوء، وهذا ما يوقِظ فيه شدَّة التحرُّز من أهواء نفسه، ولأنَّ اتِّباع الهوى يصدُّ عن سُنن العدل، ويدعو إلى الحَيْف، قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ﴾ [النساء: 135].
قال السعدي: "أي: فلا تتَّبعوا شهوات أنفسكم المعارِضة للحق؛ فإنكم إن اتَّبَعَتموها، عدَلتم عن الصواب، ولَم توفَّقوا للعدل؛ فإن الهوى إمَّا أن يعمي بصيرة صاحبه، حتى يرى الحقَّ باطلاً والباطل حقًّا، وإمَّا أن يعرفَ الحقَّ ويَتركه لأجْل هواه، فمَن سَلِم من هوى نفسه، وُفِّق للحق، وهُدِي إلى الصراط المستقيم"[28].
وفي الأثر قال الإمام وهب - رحمه الله -: "إذا شَكَكت في أمرين، ولَم تَدرِ خيرَهما، فانظر أبعدَهما من هواك، فأْتِه"[29].
وقد طرَّز المعلمي اليماني كلامًا نفيسًا، كشَف فيه عن بعض مزالق الهوى، فقال - رحمه الله -: "وبالجملة، فمسالك الهوى أكثر من أن تُحصى، وقد جرَّبت نفسي أنني رُبَّما أنظر في القضيَّة زاعمًا أنه لا هوًى لي فيها، فيَلوح فيها معنًى، فأُقَرِّره تقريرًا يُعجبني، ثم يلوح لي ما يَخدش في ذاك المعنى، فأَجِدني أتبرَّم بذلك الخادش، وتُنازعني نفسي إلى تكلُّف الجواب عنه، وغَضِّ النظر عن مناقشة ذاك الجواب، وإنما هذا؛ لأني لَمَّا قرَّرت ذاك المعنى أولاً تقريرًا أعجَبني، صِرْت أهوى صحَّته، مع أنه لَم يعلم بذلك أحدٌ من الناس، فكيف إذا كنتُ قد أذَعته في الناس، ثم لاحَ لي الخدش؟ فكيف لو لَم يَلُح لي الخدش، ولكنَّ رجلاً آخرَ اعترَض عليّ به؟ فكيف لو كان المعترض ممن أكرَهه؟
هذا، ولَم يكلَّف العالِم بألاَّ يكون له هوًى؛ فإن هذا خارج عن الوسع، وإنما الواجب على العالِم أن يُفتِّش نفسه عن هواها؛ حتى يَعرفه، ثم يَحترز منه، ويُمعن النظر في الحقِّ من حيث هو حق، فإن بانَ له أنه مخالفٌ لهواه، آثَر الحقَّ على هواه"، ثم قال - رحمه الله -: "والعالم قد يُقصِّر في الاحتراس من هواه، ويُسامح نفسه، فتَميل إلى الباطل، فيَنصره، وهو يتوهَّم أنه لَم يَخرج من الحقِّ، ولَم يُعادِه، وهذا لا يكاد ينجو منه إلاَّ المعصوم، وإنما يتفاوت العلماء، فمنهم: مَن يكثر منه الاسترسال مع هواه ويفحش؛ حتى يَقطع مَن لا يعرف طباعَ الناس ومقدار تأثير الهوى بأنه متعمِّد، ومنه مَن يقل ذلك ويخف".
"فحيث تعذَّر العدل الحقيقي للتعذُّر أو التعسُّر في علمه أو عمله، كان الواجب ما كان به أشبه وأمثل، وهو العدل المقدور".
سبيل الاستبراء من الأهواء - المزالق فيه كما أنها خفيَّة، فإن مرتعَها وخيمٌ - توجب في الصادقين الفرارَ إلى الله تعالى، والتحرُّر من إحسان الظنِّ بالنفس، واللجوء إلى اتهام الخواطر والأفكار، ولزوم المحاسبة؛ فإن دون البراءة من لوثة الهوى، مُداومةَ المراقبة والاستمرار على المجاهدة، ولا يَأْنس من نفسه القوامة والسلامة من الخَلل ويطمئنُّ إلى ذلك إلاَّ محروم، والمعصوم مَن عصَمه الله.
الركيزة الثالثة: استجماع الأدلة واستيعاب النظر في حُجج المخالف:
في مَهْيَع العدل يجب على الباحث قبل تكوين الرأي في المسائل، والحكم على المختلف فيه - أن يستوفي الأدلة والمذاهب بالدراسة والتحرير؛ نصفةً للخَصم، وتحقيقًا للأمانة العلمية[30]، التي تحجر الباحثَ عن استثقال لَمِّ حُجج الخصوم، أو الاستهانة بدفن بعضها، فربما كان للخصم متعلق قويٌّ، أو مرجح جليٌّ، بحيث لو اطَّلع عليه المخالف بإنصاف، لاسْتَأْخَر مذهبه ونصَر قول مخالفه، ومال إلى مقتضى أدلَّته؛ قال ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: "أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تُستوعَبَ الأقوال في ذلك المقام، وأن يُنبَّه على الصحيح منها، ويُبطَل الباطل، فأمَّا مَن حكى خلافًا في مسألة، ولَم يستوعب أقوال الناس فيها، فهو ناقص؛ إذ قد يكون الصواب في الذي ترَكه"[31].
قال العلاَّمة ابن عثيمين تعليقًا: "فالإنسان الذي يسوق الخلاف، فإن من الأمانة أن ينقلَ جميع الأقاويل؛ لأنه - كما قال الشيخ ابن تيميَّة - رُبَّما يحذف من الأقاويل ما هو أصح"؛ ا.هـ.
عن عثمان بن عطاء عن أبيه، قال: "لا ينبغي لأحدٍ أن يفتي الناس، حتى يكون عالِمًا باختلاف الناس؛ فإن لَم يكن كذلك، رَدَّ من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه"[32].
وإن كانت للباحث ثقة بقوَّة استدلاله، فهي شيء لا يُستنكر، غير أنه لا يُمكن أن تكون مُغريًا له دون إعطاء حُجج الخصم حظَّها من الدراسة والبيان، بل كل باحث - لا يدَّخر جهدًا في تَجْلِيَة قوَّة مُعتمَدِه من الأدلة - يجب عليه ألاَّ يَنفصل عن تَجْلِيَتها، قبل تبيين وجوه الاعتراض على الاستدلال بها، كما لا يَفتأ عن تَجْلِيَة ما في مذهب غيره من أدلة قويَّة، بصرف النظر عن المتمذهب بها؛ فالله تعالى يقول: ﴿ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ﴾ [الأعراف: 85].
قال ابن تيميَّة: "يجب أن يكون الخطاب في المسائل المُشكلة بطريق ذِكر دليل كلِّ قولٍ ومعارضة الآخر له؛ حتى يتبيَّن الحق بطريقه لِمَن يريد الله هدايته"[33].
فالإنصاف داعية لصاحبه أن يستعرضَ ما تمكَّن من تقييده بحثًا، من جميع الأدلة والأقاويل، مُعربًا في سبيل نُصرة الحق عمَّا له وما عليه، بسلامة صدرٍ، وطمأنينة نفس، مستحضرًا قولَ الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾ [النساء: 135].
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قل الحقَّ ولو على نفسك))[34]، ومتأسِّيًا بصالحي السلف الذين لَم يتخلَّف أثرُ هذه الآية والحديث فيهم، بل كانت معانيهما قارَّة في قلوبهم، فاستعلوا بها على الأعراض والأغراض، وهضَموا أنفسهم في مقابل إشهار الحق، وفَسْر حدوده؛ كما قال الإمام وكيع بن الجرَّاح - رحمه الله -: "أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلاَّ ما لهم"[35].
• ثم اعلَم - رحمك الله - أن غَمْص المخالف في علومه، وحَجْب ما للخصوم من تحقيق، سوءة مَشينة، ومَعرَّة مهينة، تتَّصل رحمُها بخلال الأمة الغضبيَّة؛ كما بين الإمام ابن تيميَّة، لَمَّا ذكَر كيف وصَف الله المغضوب عليهم؛ حيث قال - رحمه الله -:
"فوصف - أي: الله سبحانه وتعالى - المغضوب عليهم بأنهم يكتمون العلم؛ تارة بخلاً به، وتارة اعتياضًا عن إظهاره بالدنيا، وتارة خوفًا أن يحتجَّ عليهم بما أظهَروه منه.
وهذا قد ابْتُلِي به طوائف من المنتسبين إلى العلم، فإنهم تارة يكتمون العلم بُخلاً به، وكراهة أن ينالَ غيرهم من الفضل ما نالوه، وتارة اعتياضًا عنه برياسة أو مالٍ، ويخاف من إظهاره انتقاص رياسته أو نَقْص ماله، وتارة يكون قد خالَف غيره في مسألة، أو اعتزَى إلى طائفة قد خولِفَت في مسألة، فيكتم من العلم ما فيه حُجَّة لمخالفه، وإن لَم يتيقَّن أن مخالفه مُبطل"؛ ا.هـ [36].
ومن تلبيس الشيطان علينا أن نعتقد أن إظهار أدلة المخالف على حقيقتها، وإبراز جوانب القوة فيها، هو هدْمٌ لجهودنا، وإشادة بمذهب الخَصم على أنقاضها؛ لأن النصوص الشرعية ليست حِكرًا على أحد، ولو سَبَق إليها، أو اشْتَهَرت من جهته، بل الأدلة الشرعية والحُجج العلمية، نصبت علامات تسوق المهتدين بها إلى معدن الحق، والانتصار لها انتصار لراية الحق الذي ننشده، وفي بروزها وإحقاقها فضلٌ من الله، به يفرح المخلصون من المؤمنين، لا يبالي أحدهم على يد مَن تحقَّقت.
ولا يحلُّ لباحث يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبقى نائيًا عن أدلة مخالفيه وأقوالهم، ثم يَستجيز لنفسه أن ينسبَ إليهم الأقوال، أو يَحكم عليهم بأحكام تَدعمها المزاعم والظنون، وإذا ما نقَل عن موافقيه، حقَّق وتثبَّت.
• قال ابن الجوزي - رحمه الله -: "وألوم عندي - ممن قد لُمته من الفقهاء - جماعة من كبار المحدِّثين، عرَفوا صحيح النقل وسقيمه، وصنَّفوا في ذلك، فإذا جاء حديث ضعيف يخالف مذهبهم، بيَّنوا وجه الطَّعن فيه، وإن كان موافقًا لمذهبهم، سكتوا عن الطَّعن فيه، وهذا يُنبئ عن قلة دينٍ، وغَلَبة هوًى"[37].
ثم ساق بسنده عن وكيع قوله السابق: "أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلاَّ ما لهم".
ويُقتل الإنصاف في مهده حينما يشرع أحدنا في بحثه، فيستقصي في سَرْد حُججه، ويُردفها بتبيين استدلالاته غير مُقصِّر، مع إظهار الجواب عن بعض الاعتراضات، ثم يَنعطف على أدلة مخالفيه بنظر عابرٍ، فيتخيَّر منها - بعد أن يُهمل بعضها - كلَّ مُتردِّية ونَطيحة؛ ليتسنَّى له من بعد نَقْضها وردِّها، ويَنهمك في التعكير على حججهم بما لا تَسلم منه حججه، ولا تَستقيم معه أدلته، ولا غَرْو أن تعجب من هذا، وشيخ الإسلام إزاء مثله قال:
"فلماذا يكون الإنسان من المُطففين؛ لا يَحتج لغيره كما يَحتج لنفسه، ولا يَقبل لنفسه ما يقبله لغيره؟"[38].
ولعله أن يكون لنفوسنا مُزدجر، إذا أدرَكتْ أن توعُّد الله للمطففين بالويل، يلحق كلَّ مَن طفَّف، ناكبًا عن مقتضى الوفاء، حتى في المباحثات العلمية والمقالات؛ قال العلامة السعدي - رحمه الله - في سياق تفسير قوله تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴾ [المطففين: 1]: "بل يدخل في عموم هذا الحُجج والمقالات، فإنه كما أنَّ المتناظرين قد جرَت العادة أن كلَّ واحدٍ منهما يحرص على ماله من الحُجج، فيجب عليه أيضًا أن يُبيِّن ما لخَصمه من الحجج التي لا يعلمها، وأن ينظرَ في أدلة خَصمه كما ينظر في أدلته هو، وفي هذا الموضع يُعرَف إنصاف الإنسان من تعصُّبه واعتسافه، وتواضُعه من كِبْره، وعقله من سَفَهه، نسأل الله التوفيق لكلِّ خير"[39].
قال ابن القَيِّم - رحمه الله -: "والإنصاف أن تكتالَ لمنازعك بالصاع الذي تكتال به لنفسك؛ فإن في كلِّ شيء وفاءً وتطفيفًا"[40].
وقال قبله شيخه ابن تيميَّة - رحمه الله -:
"ونحن في جميع ما نُورده نحكي ألفاظ المحتجين بعينها؛ فإن التصرُّف في ذلك قد يدخله خروج عن الصدق والعدل؛ إمَّا عمدًا، وإمَّا خطأً، فإنَّ الإنسان إن لَم يتعمَّد أن يلوي لسانه بالكذب، أو يكتم بعضَ ما يقوله غيرُه، لكنَّ المذهب الذي يقصد الإنسان إفسادَه، لا يكون في قلبه من المحبَّة له ما يدعوه إلى صوغ أدلته على الوجه الأحسن؛ حتى يَنظمها نظمًا يَنتصر به، فكيف إذا كان مبغضًا لذلك؟"[41].
ورُبَّما أراد أحدهم نقضَ مذهب خَصمه، فلجأ إلى إظهار مستنده من الأدلة على وجوه مُستكرهة، مستعينًا بالعبارات المُنفِّرة، وتفخيم المطاعن عليها، فتراه "يُسمن النصوص تارة، ويُضمرها أخرى"[42]، وليس هذا من عادة أهل العدل والوَرع، البصراء بمراتب الأدلة، ومعايير الترجيح والاحتجاج، بل عدَّ ابن القَيِّم مثل هذا من أسباب تمهيد قَبول التأويلات الفاسدة التي يَنتهجها أهلُ الأهواء تلبيسًا وتدليسًا؛ قال - رحمه الله -:
"السبب الثاني: أن يخرج المعنى الذي يريد إبطاله بالتأويل، في صورة مُستهجنة تَنفر عنها القلوب، وتنبو عنها الأسماع، فيتخيَّر له من الألفاظ أكرهَها وأبعدها وصولاً إلى القلوب، وأشدها نُفرة عنها، فيتوهَّم السامع أن معناها هو الذي دلَّت عليه تلك الألفاظ"؛ ا.هـ[43].
الركيزة الرابعة: التجرُّد من المقررات السابقة قبل التوجُّه إلى دراسة النصوص:
قد لا يُقصِّر الباحث في توسيع الاطِّلاع على نصوص الأدلة الشرعيَّة، لكن قد يفوته أن يطرحَ قناعاته الأوَّليَّة، وما ركزَ في نفسه من أحكام مُسبقة قبل الدخول على النص، فيشرع في تناوُل دلالات الأدلة شروعَ مَن يرتقب من دراستها دليلاً على ما سَبَق إلى قناعته، وربما يستبعد أن تُعارض مذهبه، فيلتَمس من كلِّ دليل ينظر فيه حجةً تؤيِّد رأيه، وتُسَوِّغ فَهمه[44]، وهذا الأسلوب من التعامل مع الأدلة - في ظلِّ هذه الخلفية الفكريَّة - لا شكَّ أنه يعود بالخَلل على طريقة استخراج المعاني والأحكام من الأدلة وترجيح الأقوال، فيرجِّح غير الراجح واهمًا أنه استجابَ لقوَّة الدليل، وهو في نفس الأمر اطمئنان من نفسه لشيء معهود ليس إلاَّ؛ قال المعلمي - رحمه الله -: "وإذا سَبَق إلى الإنسان أمرٌ - وإن كان ضعيفًا - ثم اطَّلع على ما يحتمل موافقة ذلك السابق، ويحتمل خلافه، فإنه يترجَّح في نفسه ما يوافق السابق، وقد يقوى ذلك في النفس جدًّا، وإن كان ضعيفًا"[45].
ولذلك ليس من الإنصاف في شيء أن نقرأ الأدلة والنصوص الشرعية قراءةَ استنصار، فنتكلَّف تنزيلَ ظواهر دلالاتها على نحو ينصر آراءنا الخاصة، مما قد استَحْسَنَّا قَبوله قبل تأمُّل الدليل؛ لأنها قراءة فاسدة، نَحرِم بها أنفسَنا الانتفاع بنور الأدلة الشرعيَّة وهدايتها إلى مراد الله - عز وجل - بل الواجب أن نقرأ الأدلة قراءةَ استبصارٍ، فنُسلم القياد لمقتضى النص، وَفْق المنهج العلمي للاستدلال؛ حتى ننتهي إلى ما تصير إليه الحجة الشرعيَّة، غير مُكترثين بالتخلي عن أيِّ رأي أو مذهبٍ أنسْنا إليه في غياب الدليل؛ قال ابن الجوزي - رحمه الله -: "إنما ينبغي للإنسان أن يَتبع الدليل، لا أن يَتبعَ طريقًا ويتطلَّب دليلها"[46].
وقد تولَّى الإمام الشاطبي - على طريقته في التأصيل - كشْفَ سبيل أخذ الأدلة، وميَّز بين مسالك الاستهداء بالنصوص الشرعيَّة؛ قال - رحمه الله -:
"فاعلم أن أخْذَ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين:
أحدهما: أن يؤخَذ الدليل مأخذ الافتقار، واقتباس ما تضمَّنه من الحكم؛ ليُعرضَ عليه النازلة المفروضة؛ لتقعَ في الوجود على وِفاق ما أعطى الدليلُ من الحكم، أمَّا قبل وقوعها، فبأن تُوقَعَ على وَفْقه، وأمَّا بعد وقوعها، فليَتلافى الأمر، ويَستدرك الخطأ الواقع فيها، بحيث يغلب على الظنِّ أو يقطع بأنَّ ذلك قصد الشارع، وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكامَ من الأدلة.
والثاني: أن يؤخَذ مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة، أن يظهر في بادئ الرأي موافقةُ ذلك الغرض للدليل، من غير تَحرٍّ لقصد الشارع، بل المقصود منه تنزيل الدليل على وَفْق غرضه، وهذا الوجه هو شأن اقتباس الزائغين الأحكامَ من الأدلة.
ويظهر هذا المعنى من الآية الكريمة: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ [آل عمران: 7]، فليس مقصودهم الاقتباسَ منها، وإنما مرادهم الفتنة بها بهواهم؛ إذ هو السابق المُعتبر، وأَخْذ الأدلة فيه بالتَّبع؛ لتكون لهم حُجةً في زَيغهم، ﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ [آل عمران: 7] ليس لهم هوًى يُقدِّمونه على أحكام الأدلة؛ فلذلك: ﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾ [آل عمران: 7]، ويقولون: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ [آل عمران: 8]، فيتبرَّؤون إلى الله مما ارتكبَه أولئك الزائغون، فلذلك صار أهلُ الوجه الأول مُحَكِّمين للدليل على أهوائهم، وهو أصل الشريعة؛ لأنها إنما جاءَت لتُخرج المكلَّف عن هواه؛ حتى يكون عبدًا لله، وأهل الوجه الثاني يُحَكِّمون أهواءَهم على الأدلة؛ حتى تكون الأدلة في أخْذهم لها تبعًا"؛ انتهى كلامه - رحمه الله[47].
وفيه ما يَهدي اللبيب إلى أنَّ جادة السلف تعظيم حُرمة النصوص، باستعراض الأحكام على مَحجتها، والإذعان للازم حُجتها، فلا يَثبت عندهم لشيء قرارٌ؛ حتى تَنتصب أدلتُه، وتَصِح براهينُه، خلافًا لأهل الزَّيغ والبدعة، الذين تَسبق أهواؤهم المختلة مقتضى صحيح الأدلة، فيَنتحلون العقائد والآراء، ثم يَستتبعون نصوص الشرع لتأكيدها، كرهًا على كره؛ قال ابن تيميَّة - رحمه الله -: "وأهل البدع سلكوا طريقًا آخرَ ابتدعوها، اعتمدوا عليها، ولا يذكرون الحديث، بل ولا القرآن في أصولهم، إلاَّ للاعتضاد، لا للاعتماد"[48].
وقال الإمام وكيع - رحمه الله -: "مَن طلَب الحديث كما جاء، فهو صاحب سُنة، ومَن طلَب الحديث ليُقوِّي هواه، فهو صاحب بدعة"[49].
فالواجب أن نؤخر أفكارَنا وآراءنا المُسبقة، ونعرض قناعاتِنا على الحجَّة الشرعيَّة، ولا نتقدَّم بأحكامنا بين يدي الكتاب والسُّنة؛ حتى يَسلم لنا الاستدلال، ويتمَّ الاستهداء؛ قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: "لكنَّ بلاء بعض العلماء أنهم يحكمون قبل أن يستدلُّوا، أو يعتقدون قبل أن يستدلوا، ونحن نقول: استدلَّ ثم اعْتَقِد، استدلَّ ثم احْكُم، هذا الصواب"[50].
"فالإنسان يجب أن يفهمَ النصوص على ما هي عليه، ثم يكون فَهمه تابعًا لها، لا أن يُخضع النصوص لفَهمه أو لِما يَعتقده؛ ولهذا يقولون: استدلَّ ثم اعْتَقِد، ولا تَعتقد ثم تستدل؛ لأنك إذا اعتقَدت ثم استدلَلْتَ، رُبَّما يَحملك اعتقادُك على أن تُحرِّف النصوص إلى ما تعتقده، كما هو ظاهر في جميع المِلل والمذاهب[51] المخالفة لِما جاء به الرسول - عليه الصلاة والسلام - تجدهم يُحرِّفون هذه النصوص؛ لتُوافق ما هم عليه"[52].
يتبع..........
"مَن استدلَّ ثم اعتقَدَ، فقد رشَد، ومَن اعتقَد ثم استدلَّ، فقد زَلَّ".