ilyes70
2014-02-03, 10:32
الحمال و الأمير
خرج علي بن المأمون، ابن الخليفة العباسي المأمون، إلى شرفة من شرفات القصر ذات يوم، ينظر إلى سوق بغداد، ينظر من البروج العاجية، طعامه شهيٌ، ومركبه وطيّ، وعيشه هني، يلبس أفخر الثياب، ويأكل ما لذَّ وطاب، ما جاع يوماً في حياته، وما ظمئ أبداً، وما مست الشمس جبهته.
فأخذ ينظر من القصر إلى الناس في السوق، هذا يذهب، وهذا يأتي، هذا يبيع، وهذا يشتري.
ولفت نظر الأمير رجل من الناس، يعمل حمّالاً بالأجرة، وكان يظهر عليه الصلاح والنسك، حباله على كتفيه، والحمل على ظهره، ينقل الحمولة من دكان إلى دكان، ومن مكان إلى مكان.
فأخذ الأمير يتابع حركاته في السوق، فكان هذا الحمَّال إذا انتصف الضحى، ترك السوق، وخرج إلى ضفاف دجلة، فتوضأ وصلى ركعتين، ورفع يديه إلى الحي القيوم.
سبحان مَنْ يَعْفُو وَنَهْفُوا دَائِماً وَلَمْ يَزَلْ مَهْمَا هَفَا الْعَبْدُ عَفَا
يُعْطِي الَّذِي يُخْطِي وَلا يَمْنَعُهُ جَلالُهُ عَنِ الْعَطَا لِذِي الْخَطَا
سبحان من اتصل به الفقراء والمساكين، سبحان من التجأ إليه الضعفاء والمظلومون، سبحان من عرفه الفقراء، وحُجب عنه كثير من الأغنياء والوجهاء.
عرفه الذي في الخيمة، وعلى الرصيف بيده كسرة الخبز، ولم يعرفه الذي في القصر الشاهق، والمنصب العالي، والمنزلة الرفيعة.
أخذ الأمير ينظر إلى هذا الرجل، فكان إذا صلى الضحى، عاد إلى عمله، فعمل حتى قبيل الظهر، ثم اشترى خبزة جافة بدرهم، فيأخذها إلى نهر دجلة، فيأتي إلى النهر، فيبلّ كسرة الخبز بالماء، ويأكلها، ثم يشرب من الماء، ويحمد الله - عزَّ وجلَّ - ثم يتوضأ لصلاة الظهر، فإذا صلى، جلس فدعا الله - عزَّ وجلَّ - وابتهل وبكى، وناجى الحي القيوم، ثم ينام ساعة، وبعد النوم ينزل إلى السوق، فيعمل ويجتهد، ثم يشتري خبزاً ويذهب إلى بيته.
وفي اليوم الثاني يعود إلى نفس العمل، وهكذا في اليوم الثالث والرابع، إلى أيام كثيرة.
فتعجب الأمير من ذاك الرجل، وأصرّ على أن يعرف قصته، فأرسل جنديّاً من جنوده إليه؛ ليستدعيه إلى القصر، فذهب الجندي، واستدعى الحمَّال، فقال الحمَّال: ما لي وملوك بني العباس، ليس بيني وبين الخلفاء صلة، ليست لي قضية ولا مشكلة، ولا مهمة، إن أشكل عليّ شيء رفعته إلى الحي القيوم، إن جعت أشبعني الله، وإن ظمئت سقاني الله، ما عندي دار، ولا عقار، ولا أرض، فقال الجندي: أَمْرُ الأمير، لابد أن تحضر اليوم في قصر أمير المؤمنين. فظن المسكين أن الأمير سوف يحاسبه أو يحاكمه، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل!!
وهذه الكلمة سلاح الفقراء والمساكين، سلاح المظلومين والمضطهدين، بها تتكسر رؤوس الطغاة، وتتحطم عروش الجبابرة، وتسحق قلاع الظالمين.
قالها إبراهيم عليه السلام، لما أتوا به، ووضعوه في النار المحرقة، فجعلها الله عليه برداً وسلاماً.
وقالها موسى عليه السلام، لما طارده فرعون وجنوده، والبحر أمامه، والموت وراءه، فأخرج سلاحه وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فنجاه الله.
وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - في بدر، وأحد، والأحزاب، وتبوك، والمسلمون في قلة، وضعف، وفقر، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فنصره الله، وهداه الله.
ذهب خالد بن الوليد إلى اليرموك، فرأى جيوش الروم كالجبال، والمسلمون فئة قليلة، فقال أحد الصحابة لخالد - رضي الله عنه -: اليوم نلتجئ إلى جبال أجا وسلمى. فدمعت عينا خالد، وقال: بل إلى الله الملتجأ، حسبنا الله ونعم الوكيل ... فانتصر.
ورأى سعدٌ فارس في الكفر والعماية والجهالة، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فداس رؤوسهم بقدميه.
وقالها صلاح الدين فانتصر المسلمون، وداسوا أهل الصليب بأقدامهم.
وقالها المجاهدون الأفغان، لما أتت روسيا بقواتها، وطائراتها، ودباباتها، وصواريخها، فخرج المسلمون الأفغان بأسلحتهم القليلة، متوضئين، متوكلين على الله.
قال لهم الناس: التجؤوا إلى القوى العالمية، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
قالوا لهم: اذهبوا إلى العواصم الدولية، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
قالوا لهم: الحل في واشنطن ونيويورك، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
{فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174].
نصرهم الله - عزَّ وجلَّ - وخذل عدوهم، وأزال دولة الشيوعية من على خريطة الوجود!!
دخل الفقير على ابن المأمون الأمير، فسلم عليه.
قال الأمير: أما تعرفني.
قال الحمَّال: ما أتيتك، وما رأيتك حتى أعرفك!!
قال الأمير: أنا ابن الخليفة.
قال الحمَّال: يقولون ذلك!!
قال الأمير: ماذا تعمل؟
قال الحمَّال: أعمل مع عباد الله، في بلاد الله!!
قال الأمير: قد رأيتك أياماً، ورأيت ما أنت فيه من مشقة وعناء، وإني أريد أن أخفف عنك.
قال الحمَّال: وكيف ذلك؟
قال الأمير: ائتِ بأهلك، واسكن معي القصر، آكلاً، شارباً، مستريحاً، لا همّ، لا غمّ، لا حزن.
قال الحمَّال: يا ابن الخليفة، لا همّ على من لم يذنب، ولا غمّ على من لم يعصِ، ولا حَزَن على من لم يسئ!! أما من أمسى في غضب الله، وأصبح في معصية الله، فهو في الغم والهم والحزن.
فقال له الأمير: وهل عندك أهل؟
قال الحمَّال: أمي عجوز، وأختي عمياء، آتي بإفطارهما قبل الغروب، فهما تصومان كل يوم، فنفطر جميعاً ثم ننام بعد العشاء.
قال الأمير: فمتى تستيقظ؟
قال الحمَّال: إذا نزل الحي القيوم إلى سماء الدنيا، في الثلث الأخير من الليل!!
قال الأمير: وهل عليك دين؟
قال الحمَّال: ذنوب سلفت بيني وبين الحيّ القيوم.
قال الأمير: ألا تريد أن تسكن معي القصر؟
قال الحمَّال: لا والله.
قال الأمير: ولم؟
قال الحمَّال: أخاف أن يقسو قلبي، وأن يضيع ديني.
قال الأمير: أتفضِّل أن تكون حمالاً جائعاً عارياً، ولا تكون معي في القصر؟!
قال الحمَّال: إي والله!!
ثم تركه الحمَّال وانصرف، فأخذ الأمير يتأمل، وينظر إليه وهو مشدوه، فقد أعطاه درساً عمليّاً في الإيمان والتوكل على الله، أملى عليه دروساً في التوحيد والعبودية، ألقى عليه كلمات نفذت إلى قلبه، فأخذ يتابعه بطرفه، حتى اختفى عنه.
وفي ذات ليلة، استفاق الأمير من غفلته، وأفاق من غيبوبته وصحا من نومه، وعلم أنه كان في سبات عميق، ونوم طويل، وأن الوقت قد حان للتوبة والتشمير.
تَنَبَّهُوا يَا رُقُودُ إِلَى مَتَى الْجُمُودُ
فَهَذِهِ الدَّارُ تَبْلَى وَمَا عَلَيْهَا يَبِيدُ
الْخَيْرُ فِيهَا قَلِيلٌ وَالشَّرُّ فِيهَا عَتِيدُ
وَالْعُمْرُ يَنْقُصُ فِيهَا وَسَيِّئاتٌ تزيدُ
فَاسْتَكْثِرِ الزَّادَ فِيهَا إِنَّ الطَّرِيقَ بَعِيدُ
فاستيقظ الأمير وسط الليل، وقال لخدامه: إني ذاهب إلى مكان بعيد، فإذا أتى بعد ثلاثة أيام، فأخبروا والدي أني ذهبت، فسوف ألتقي أنا وإياه يوم العرض الأكبر.
إن كان قد عزّ في الدنيا اللقاءُ ففي مواقفِ الحشرِ نلقاكم ويكفينا
خرج الأمير في ظلام الليل، خلع ثيابه الفاخرة، ولبس لباس الفقير، ذهب واختفى، ولم يعلم أحد أين ذهب.
يقول أهل التاريخ: ركب إلى واسط، وغيّر هيئته، وصار مسكيناً من المساكين، وعمل أجيراً مع تاجرٍ من تجار الآجر، يعمل في صنع الطوب والطين والبناء.
أصبح ابن الخليفة صوَّاماً، قواماً، ذاكراً لله - تبارك وتعالى - له أوراد في الصباح والمساء، يحفظ القرآن، يصوم في شدة الهجير، يقوم الليل، يتَّصل بالحي القيوم، ليس عنده من المال إلا ما يكفيه يوماً واحداً. ذهب همه وغمه وكربه وحزنه، ذهب عنه العجب والكبر والخيلاء والغرور.
{أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].
ثم جاءت سكرة الموت بالحق، أتته الوفاة على هذه الحال، فأخبر التاجر أنه ابن الخليفة المأمون، وأوصاه إذا مات، أن يغسله، ويكفنه، ويدفنه، ثم أعطاه خاتمه ليسلمه إلى المأمون بعد وفاته.
ومات الأمير، فغسله الرجل، وكفنه، وصلى عليه، ودفنه، ثم ذهب بالخاتم إلى المأمون، فلما رأى المأمون الخاتم شهق وبكى حتى ارتفع صوته، ثم سأل التاجر عنه: وماذا كان يفعل؟ فأخبره التاجر أنه كان عابداً، ناسكاً، أواباً، ذاكراً لله تعالى، ثم أخبره بموته، فضجّ الخليفة والوزراء، وارتفعت أصواتهم بالبكاء والنحيب، وأيقنوا أن الأمير قد عرف طريق السعادة، وطريق النجاة يوم القيامة.
لكنهم ما مشوا معه في الطريق، وما أنابوا إلى الله كما أناب؛ {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [الأنعام: 125].
خرج علي بن المأمون، ابن الخليفة العباسي المأمون، إلى شرفة من شرفات القصر ذات يوم، ينظر إلى سوق بغداد، ينظر من البروج العاجية، طعامه شهيٌ، ومركبه وطيّ، وعيشه هني، يلبس أفخر الثياب، ويأكل ما لذَّ وطاب، ما جاع يوماً في حياته، وما ظمئ أبداً، وما مست الشمس جبهته.
فأخذ ينظر من القصر إلى الناس في السوق، هذا يذهب، وهذا يأتي، هذا يبيع، وهذا يشتري.
ولفت نظر الأمير رجل من الناس، يعمل حمّالاً بالأجرة، وكان يظهر عليه الصلاح والنسك، حباله على كتفيه، والحمل على ظهره، ينقل الحمولة من دكان إلى دكان، ومن مكان إلى مكان.
فأخذ الأمير يتابع حركاته في السوق، فكان هذا الحمَّال إذا انتصف الضحى، ترك السوق، وخرج إلى ضفاف دجلة، فتوضأ وصلى ركعتين، ورفع يديه إلى الحي القيوم.
سبحان مَنْ يَعْفُو وَنَهْفُوا دَائِماً وَلَمْ يَزَلْ مَهْمَا هَفَا الْعَبْدُ عَفَا
يُعْطِي الَّذِي يُخْطِي وَلا يَمْنَعُهُ جَلالُهُ عَنِ الْعَطَا لِذِي الْخَطَا
سبحان من اتصل به الفقراء والمساكين، سبحان من التجأ إليه الضعفاء والمظلومون، سبحان من عرفه الفقراء، وحُجب عنه كثير من الأغنياء والوجهاء.
عرفه الذي في الخيمة، وعلى الرصيف بيده كسرة الخبز، ولم يعرفه الذي في القصر الشاهق، والمنصب العالي، والمنزلة الرفيعة.
أخذ الأمير ينظر إلى هذا الرجل، فكان إذا صلى الضحى، عاد إلى عمله، فعمل حتى قبيل الظهر، ثم اشترى خبزة جافة بدرهم، فيأخذها إلى نهر دجلة، فيأتي إلى النهر، فيبلّ كسرة الخبز بالماء، ويأكلها، ثم يشرب من الماء، ويحمد الله - عزَّ وجلَّ - ثم يتوضأ لصلاة الظهر، فإذا صلى، جلس فدعا الله - عزَّ وجلَّ - وابتهل وبكى، وناجى الحي القيوم، ثم ينام ساعة، وبعد النوم ينزل إلى السوق، فيعمل ويجتهد، ثم يشتري خبزاً ويذهب إلى بيته.
وفي اليوم الثاني يعود إلى نفس العمل، وهكذا في اليوم الثالث والرابع، إلى أيام كثيرة.
فتعجب الأمير من ذاك الرجل، وأصرّ على أن يعرف قصته، فأرسل جنديّاً من جنوده إليه؛ ليستدعيه إلى القصر، فذهب الجندي، واستدعى الحمَّال، فقال الحمَّال: ما لي وملوك بني العباس، ليس بيني وبين الخلفاء صلة، ليست لي قضية ولا مشكلة، ولا مهمة، إن أشكل عليّ شيء رفعته إلى الحي القيوم، إن جعت أشبعني الله، وإن ظمئت سقاني الله، ما عندي دار، ولا عقار، ولا أرض، فقال الجندي: أَمْرُ الأمير، لابد أن تحضر اليوم في قصر أمير المؤمنين. فظن المسكين أن الأمير سوف يحاسبه أو يحاكمه، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل!!
وهذه الكلمة سلاح الفقراء والمساكين، سلاح المظلومين والمضطهدين، بها تتكسر رؤوس الطغاة، وتتحطم عروش الجبابرة، وتسحق قلاع الظالمين.
قالها إبراهيم عليه السلام، لما أتوا به، ووضعوه في النار المحرقة، فجعلها الله عليه برداً وسلاماً.
وقالها موسى عليه السلام، لما طارده فرعون وجنوده، والبحر أمامه، والموت وراءه، فأخرج سلاحه وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فنجاه الله.
وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - في بدر، وأحد، والأحزاب، وتبوك، والمسلمون في قلة، وضعف، وفقر، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فنصره الله، وهداه الله.
ذهب خالد بن الوليد إلى اليرموك، فرأى جيوش الروم كالجبال، والمسلمون فئة قليلة، فقال أحد الصحابة لخالد - رضي الله عنه -: اليوم نلتجئ إلى جبال أجا وسلمى. فدمعت عينا خالد، وقال: بل إلى الله الملتجأ، حسبنا الله ونعم الوكيل ... فانتصر.
ورأى سعدٌ فارس في الكفر والعماية والجهالة، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فداس رؤوسهم بقدميه.
وقالها صلاح الدين فانتصر المسلمون، وداسوا أهل الصليب بأقدامهم.
وقالها المجاهدون الأفغان، لما أتت روسيا بقواتها، وطائراتها، ودباباتها، وصواريخها، فخرج المسلمون الأفغان بأسلحتهم القليلة، متوضئين، متوكلين على الله.
قال لهم الناس: التجؤوا إلى القوى العالمية، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
قالوا لهم: اذهبوا إلى العواصم الدولية، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
قالوا لهم: الحل في واشنطن ونيويورك، قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
{فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174].
نصرهم الله - عزَّ وجلَّ - وخذل عدوهم، وأزال دولة الشيوعية من على خريطة الوجود!!
دخل الفقير على ابن المأمون الأمير، فسلم عليه.
قال الأمير: أما تعرفني.
قال الحمَّال: ما أتيتك، وما رأيتك حتى أعرفك!!
قال الأمير: أنا ابن الخليفة.
قال الحمَّال: يقولون ذلك!!
قال الأمير: ماذا تعمل؟
قال الحمَّال: أعمل مع عباد الله، في بلاد الله!!
قال الأمير: قد رأيتك أياماً، ورأيت ما أنت فيه من مشقة وعناء، وإني أريد أن أخفف عنك.
قال الحمَّال: وكيف ذلك؟
قال الأمير: ائتِ بأهلك، واسكن معي القصر، آكلاً، شارباً، مستريحاً، لا همّ، لا غمّ، لا حزن.
قال الحمَّال: يا ابن الخليفة، لا همّ على من لم يذنب، ولا غمّ على من لم يعصِ، ولا حَزَن على من لم يسئ!! أما من أمسى في غضب الله، وأصبح في معصية الله، فهو في الغم والهم والحزن.
فقال له الأمير: وهل عندك أهل؟
قال الحمَّال: أمي عجوز، وأختي عمياء، آتي بإفطارهما قبل الغروب، فهما تصومان كل يوم، فنفطر جميعاً ثم ننام بعد العشاء.
قال الأمير: فمتى تستيقظ؟
قال الحمَّال: إذا نزل الحي القيوم إلى سماء الدنيا، في الثلث الأخير من الليل!!
قال الأمير: وهل عليك دين؟
قال الحمَّال: ذنوب سلفت بيني وبين الحيّ القيوم.
قال الأمير: ألا تريد أن تسكن معي القصر؟
قال الحمَّال: لا والله.
قال الأمير: ولم؟
قال الحمَّال: أخاف أن يقسو قلبي، وأن يضيع ديني.
قال الأمير: أتفضِّل أن تكون حمالاً جائعاً عارياً، ولا تكون معي في القصر؟!
قال الحمَّال: إي والله!!
ثم تركه الحمَّال وانصرف، فأخذ الأمير يتأمل، وينظر إليه وهو مشدوه، فقد أعطاه درساً عمليّاً في الإيمان والتوكل على الله، أملى عليه دروساً في التوحيد والعبودية، ألقى عليه كلمات نفذت إلى قلبه، فأخذ يتابعه بطرفه، حتى اختفى عنه.
وفي ذات ليلة، استفاق الأمير من غفلته، وأفاق من غيبوبته وصحا من نومه، وعلم أنه كان في سبات عميق، ونوم طويل، وأن الوقت قد حان للتوبة والتشمير.
تَنَبَّهُوا يَا رُقُودُ إِلَى مَتَى الْجُمُودُ
فَهَذِهِ الدَّارُ تَبْلَى وَمَا عَلَيْهَا يَبِيدُ
الْخَيْرُ فِيهَا قَلِيلٌ وَالشَّرُّ فِيهَا عَتِيدُ
وَالْعُمْرُ يَنْقُصُ فِيهَا وَسَيِّئاتٌ تزيدُ
فَاسْتَكْثِرِ الزَّادَ فِيهَا إِنَّ الطَّرِيقَ بَعِيدُ
فاستيقظ الأمير وسط الليل، وقال لخدامه: إني ذاهب إلى مكان بعيد، فإذا أتى بعد ثلاثة أيام، فأخبروا والدي أني ذهبت، فسوف ألتقي أنا وإياه يوم العرض الأكبر.
إن كان قد عزّ في الدنيا اللقاءُ ففي مواقفِ الحشرِ نلقاكم ويكفينا
خرج الأمير في ظلام الليل، خلع ثيابه الفاخرة، ولبس لباس الفقير، ذهب واختفى، ولم يعلم أحد أين ذهب.
يقول أهل التاريخ: ركب إلى واسط، وغيّر هيئته، وصار مسكيناً من المساكين، وعمل أجيراً مع تاجرٍ من تجار الآجر، يعمل في صنع الطوب والطين والبناء.
أصبح ابن الخليفة صوَّاماً، قواماً، ذاكراً لله - تبارك وتعالى - له أوراد في الصباح والمساء، يحفظ القرآن، يصوم في شدة الهجير، يقوم الليل، يتَّصل بالحي القيوم، ليس عنده من المال إلا ما يكفيه يوماً واحداً. ذهب همه وغمه وكربه وحزنه، ذهب عنه العجب والكبر والخيلاء والغرور.
{أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].
ثم جاءت سكرة الموت بالحق، أتته الوفاة على هذه الحال، فأخبر التاجر أنه ابن الخليفة المأمون، وأوصاه إذا مات، أن يغسله، ويكفنه، ويدفنه، ثم أعطاه خاتمه ليسلمه إلى المأمون بعد وفاته.
ومات الأمير، فغسله الرجل، وكفنه، وصلى عليه، ودفنه، ثم ذهب بالخاتم إلى المأمون، فلما رأى المأمون الخاتم شهق وبكى حتى ارتفع صوته، ثم سأل التاجر عنه: وماذا كان يفعل؟ فأخبره التاجر أنه كان عابداً، ناسكاً، أواباً، ذاكراً لله تعالى، ثم أخبره بموته، فضجّ الخليفة والوزراء، وارتفعت أصواتهم بالبكاء والنحيب، وأيقنوا أن الأمير قد عرف طريق السعادة، وطريق النجاة يوم القيامة.
لكنهم ما مشوا معه في الطريق، وما أنابوا إلى الله كما أناب؛ {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [الأنعام: 125].