مشاهدة النسخة كاملة : "شيخ المؤرخين الجزائريين" الدكتور أبو القاسم سعد الله
Abdellah M
2014-01-28, 12:52
يعد سعد الله الملقب بـ"شيخ المؤرخين الجزائريين، أحد أعمدة العلم والتاريخ في الجزائر، ولد ببلدة "قمار" في ولاية الودي، ودرس بجامع "الزيتونة" في تونس من سنة 1947 حتى 1954 واحتل المرتبة الثانية في دفعته. وبدأ يكتب في صحيفة "البصائر"، وهي لسان حال "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" سنة 1954، وكان يطلق عليه "الناقد الصغير". كما درس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في القاهرة، وحاز على شهادة "الماجستير" في التاريخ والعلوم السياسية سنة 1962، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة سنة 1962، حيث درس في جامعة "منيسوتا" التي حصل منها على شهادة الدكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر باللغة الإنجليزية سنة 1965. ويصعب كثيرا الحديث عن هذا الرجل، فهو باحث ومؤرخ أنجز كتابا نفيسا يمتد على مدار تسع مجلدات يسمى "تاريخ الجزائر الثقافي"، وحفظ القرآن الكريم وتلقى مبادئ العلوم من لغة وفقه ودين، وهو من رجال الفكر البارزين ومن أعلام الإصلاح الاجتماعي والديني، وله سجل علمي حافل بالإنجازات من وظائف، ومؤلفات، وترجمات. وإلى جانب العربية، يتقن الراحل اللغة الفرنسية والإنجليزية كما درس الفارسية والألمانية، ومن أشهر مؤلفاته: "موسوعة تاريخ الجزائر الثقافي" و"أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر" في 5 أجزاء، و"محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث.. بداية الاحتلال"، بالإضافة إلى "بحوث في التاريخ العربي الإسلامي" و"تاريخ الحركة الوطنية" وغيرها من الإصدارات. وكان سعد الله يقول دوما "جيل الثورة قام بواجبه المقدس وهو تحرير الوطن وقد استشهد منه من استشهد على قناعة وإيمان وكان مسلحا بعقيدة الحرية للوطن والنضال من أجله إلى الموت. ولكن من بقي من ذلك الجيل على قيد الحياة لم يواصل كله مسيرة النضال عجزا أو خورا، وقد بدل وغير وجذبته الحياة بمغرياتها وانخدع لبعض الشعارات واستسلم لبعض الضغوط وتخلى بعضهم صراحة عن المبادئ التي كان يكافح من أجلها، والانحرافات التي كان ضدها، وقد غلبت على هؤلاء الأنانية والجهل بحقائق الأشياء وسلموا الراية لمن لا يستحقها ولا يعرف قدرها". وقال أيضا في أحد حواراته "للمؤرخ الحق مواصفات تكاد تكون عالمية فإذا لم يلتزم بها يضر الحقيقة شيئا فمنذ هيرودوت إلى الطبري إلى ابن خلدون إلى توينبي والمؤرخون منقسمون بين اختيار الموضوعية والالتزام بالحقيقة والبحث عنها في الوثائق والملابسات وتفسير الأحداث ونفسيات صناعها بما آتاه الله من عقل وحكمة وتجرد وضمير وبين اختيار المنفعة الشخصية حيث يكتب لينال حظوة من حاكم في وقته أو ترسيخ فكرة اقتنع بها ولا يحيد عنها مهما ظهر له من الحق أو الأخذ بالثأر من خصم له عن طريق تلبيس الحقائق ثوبا غير ثوبها وهذا التناول للتاريخ لا يمنع أن يكون المؤرخ ابن بيئته وعصره أيضا فهو لا يكتب دائما عن الماضي السحيق الذي لا تجمعه به جامعة في الزمان ولا في المكان".
من ناحية أخرى، لم يعرف عن الدكتور سعد الله جريا وراء المناصب، حيث ظل زاهدا مبتعدا عن الأضواء، حتى أنه نادرا جدا ما يجري حوارا أو لقاء مع وسائل الإعلام، وقدم للجزائريين تاريخهم في موسوعة عملاقة بعدما كان هذا التاريخ يأتي مشوها أو منقوصا من مصادر أجنبية، وخصوصا الفرنسية منها. ويقول في أحد حواراته أيضا "بعضهم صنفني من مؤرخي السلطة ربما على أساس أنني أكتب عن قضية الشعب الجزائري ولعل هؤلاء يريدون مني أن ألعن السلطة لكي أكون مؤرخا حقيقيا وهناك من صنفني مؤرخا ضد السلطة لأنني لا أمتدحها ولا أشيد بمواقف رجالها بل أنتقدها ضمنيا تارة وصراحة تارة أخرى والواقع أني مؤرخ مخضرم عشت في عهد الاستعمار الفرنسي وهو عهد عاشه الشعب الجزائري كله عهد تميز بالتجهيل والتفقير والقمع وكنا نطمع أثناء الثورة إلى أن مصيرنا سيتميز بالحرية والعلم والثورة.. أعرف أن هناك من ظل يمدح الاستعمار ويعتبر وجوده مكسبا وثقافته غنيمة والعلاقات معه تسامحا وانفتاحا وعالمية إنسانية وهؤلاء يقيسون ولاءهم للسلطة الجزائرية بميزان اقترابها وابتعادها عن القطب وهو دولة الاستعمار السابق".
Abdellah M
2014-01-28, 13:00
ولاثراء الموضوع نطلب من الأعضاء الكرام التكرم علينا ببعض كتابته لأنه أحسن من كتب عن الجزائر وتاريخها
Abdellah M
2014-01-28, 13:10
رحم الله شيخنا ومؤرخنا واسكنه فسيح جناته
رحم الله شيخنا ومؤرخنا واسكنه فسيح جناته
Abdellah M
2014-01-28, 13:13
الكاتب:
عبد العزيز فيلالي
شيخ المؤرخـــــين الجــــزائريين الدكتور سعد الله.. خالد بتراثه وفكره
تعود معرفتي بالأستاذ الكبير شيخ المؤرخين الجزائريين، أبي القاسم سعد الله، إلى نهاية الستينيات عندما كنت طالبا في قسم التاريخ الذي أنشئ حديثا، بكلية الآداب جامعة قسنطينة في السنة الدراسية 1969 ـ 1970 م فتتلمذت عليه، وحضرت بعض دروسه وهو أستاذ زائر لجامعة قسنطينة، ثم عرفته وأنا مدرس ونائب لعميد كلية الآداب ورئيس لقسم التاريخ في بداية السبعينيات، فصار بيننا تعاون بيداغوجي، في وقت كان قسم التاريخ يفتقر الى أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر (01).
فكنا نحضر دروسه مع طلابنا، ونستمتع بمشيخته وعلمه ومنهجيته، فعوضنا بما كنا نحتاج إلى معرفته من تاريخ الجزائر والحركة الوطنية.
فكان الأستاذ مفعما بالحيوية والنشاط، غزير العلم، واسع المعارف، يحرص على أن يفرغ ما وسعه فهمه وعقله وذوقه وحسه الى طلابه، بكل جدية وعمق، لأن الدراسة في الأقسام العربية آنذاك، كانت تشكو من الطرق التقليدية والحشو، لكونها يعزوها الإطار الكفء والكتاب المرجعي، وتنقصها المنهجية الصحيحة، والطرق الحديثة،لأن الكثير ممن كانوا يدرسون في الجامعة، في تلك الفترة، لا يحملون شهادتي الماجيستير والدكتوراه،إلا القليل الناذر من الجزائريين، وكذا من بعض المتعاونين الأجانب الشرقيين منهم أو الغربيين (02).
فحاول الأستاذ الدكتور، نقل ما يمكن نقله، من أحدث ما توصلت إليه العلوم الإجتماعية من تطور وتقدم، من مضانها الأنجلو سكسونية،لأنه يدرك تمام الإدراك، بأن الغرض من التعليم الجامعي، هو تثقيف العقل، لا لإملاء الحافظة، وحشوها بالمعلومات بل غرضه تنمية ملكة البحث العلمي، ومعرفة منهجه،و توسيع أفاق الإدراك به، وتعويد الطالب على حب العلم والقراءة، والتحكم في وسائل البحث واكتساب المعارف والتعمق في اللغة التي يدرس بها.
وكان الأستاذ صارما جدا،في دروسه وتوجيهاته، معروفا بتشدده العلمي والمعرفي،فكانت له مقاييس منهجية ولغوية، لا يتساهل فيها مع طلابه، وخاصة منهم طلاب الدراسات العليا، وأن صرامته هذه صرامة الصادقين الناصحين.
فكان يتقد حماسة في مجال التدريس، وامتهان العلم والبحث التاريخي، فبنى لنفسه مجدا بين طلابه، ومكانة مرموقة بين زملائه، ولكن مع الأسف نفقد كانت زيارته الى جامعة قسنطينة، محدودة بل نادرة، ولعل السبب في ذلك، يعود الى كثرة انشغالاته بالجامعة المركزية في الجزائر، أو ربما يعود لعدم توفير الشروط المريحة للأستاذ الزائر آنذاك، لأن ميزانية الجامعة في بداية السبعينيات، كانت تشكو من الضعف، فضلا عن تهاون المسيرين في الحقل الجامعي وقلة إدراكهم لمثل هذا التعاون العلمي، وعلى الرغم من ذلك، فقد كنا نلتقي بالأستاذ في اللجان البيداغوجية، التي تدعو إليها الوزارة، وهي فرصة أيضا كانت تسمح لنا بالاستئناس، إلى حديثه وأرائه وأفكاره، ومقترحاته العلمية والتربوية المتعلقة بالبرامج الدراسية ومقرراتها وآفاق الجامعة.
فقد عودنا الأستاذ على تشجيع الباحثين، ولاسيما منهم الناشئين ويأخذ بأيديهم ويقدم لهم العون والدعم، في مجال البحث والدراسة والتأليف والطبع، ولم يبخل عليهم بجهده ووقته وعلمه، أو يتأخر عنهم،فقد كان له الفضل في طبع كتابي الموسوم: "المظاهر الكبرى لعصر الولاة في بلاد المغرب والأندلس" بدار المعرف التونسية، في مدة زمنية قياسية لم تتعد الستة أشهر، بينما ظل ما يزيد عن سنتين في الجزائر ينتظر دوره في الطبع والنشر.
وعندما كنت رئيسا لجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية،شرفني برسالة تهنئة وتشجيع، تلقيتها عن طريق شقيقه "علي سعد الله" وهو في ديار الغربة، بالمملكة الأردنية الهاشمية، وهي لفتة كريمة منه، جعلتني لا أتردد في مفاتحة أخيه الذي كلفته بأن يقدم للأستاذ عرضا يتضمن عودته الى أرض الوطن، لأن جامعة الأمير عبد القادر في حاجة إليه وإلى علمه ومشيخته، وأن منصب رئيس المجلس العلمي للجامعة ينتظره، حتى نتمكن سويا من النهوض بهذه الجامعة الفتية، ذات الطابع الخصوصي المتميز، إلى المستوى والمهمة التي أسست من أجله، وهو بدون شك أهل لهذه المسؤولية لما يتميز به من قدرة علمية، ولما يتمتع به من سمعة بيداغوجية، عند الطلاب والدارسين، وكنت تواقا لرده.
لقد أتاحت لنا طليعة من زملائه وتلامذته، بأن نتشرف بالمساهمة في تأليف كتاب تذكاري، يضم أبحاثا وشهادات وانطباعات تعكس اهتمامات المشاركين المهنية، ومشاعرهم التقديرية نحو الأستاذ (03) .
دخل الأستاذ الدكتور الحياة الثقافية كاتبا وصحفيا وأديبا وشاعرا وانتهى به الأمر الى محقق ومؤرخ ومترجم يغوص في أغوار التراث والتاريخ، إذ وجد نفسه بفعل الدراسة الجديدة بأمريكا، يتحول من معالجة الأدب والشعر، إلى البحث في القضايا التاريخية والتراث، وأصبح البعد الثقافي الوطني هاجسه، وشغله الشاغل، يتحكم في توجهه ويشغل باله، إذ انتقل من الثقافة التقليدية، كما صاغتها جمعية العلماء المسلمين، وشكلتها الزيتونة، وطبعتها دار العلوم بالقاهرة، وصقلتها الجامعة الأمريكية إلى آفاق التخصص الواسعة والمتجددة في العلوم الإنسانية والإجتماعية (04) .
فقد ظل الأستاذ المثقف الذي يستمد مرجعيته وقيمه من الحضارة العربية الإسلامية، ويمتد أفقه خارج إطار الدعوة الفرنكفونية، حيث الأفاق العلمية الأنجلو سكسونية، فصارت له مواهب متعددة وآفاق واسعة، أفادت بعضها البعض، حتى صار من المثقفين الموسوعيين.
لازم الكتابة وقرض الشعر منذ نعومة أظفاره، وظل في ميدان الإنتاج الفكري أكثر من نصف قرن من العطاء المتواصل، أثرى المكتبة العربية بعشرات المؤلفات والمصنفات في مجالات معرفية شتى.
أما فيما يتعلق بمواقفه من قضايا التاريخ، فكان للأستاذ موقف حيادي من النضال السياسي في الجزائر في بداية الأمر، ثم أخذ يتغلغل وينفذ في الواقع الجزائري، ومعالجة القضايا الشائكة، الى أن أصبح يدلي بدلوه في اتخاذ المواقف الصريحة، في كبريات الأمور، وقضايا الساعة (05).
فكان يقول عن الكتابة التاريخية: "بأنها عملية متجددة، يمارسها كل جيل بالقدرة والعقلية التي وصلها، والوثائق المتوفرة لديه، والمستجدات الحضارية التي تحيط به"، ويقول أيضا: "أن المؤرخ ابن بيئته وظروفه وأسير ثقافته ووثائقه، ومن تمة فهو مرآة شعبه" (06) .
فقد ظل الأستاذ يدافع عن التعريب والجزأرة في التعليم، والديمقراطية وحرية التعبير، منذ وجوده في الجامعة المركزية بالجزائر سنة 1967 مع ثلة من زملائه وأصدقائه، وقد تميز عنهم، بأنه كان مهموما محموما بالثقافة الوطنية، واللغة العربية، التي يكتب بها (07) .
فقد كان مؤمنا بالوحدة الوطنية، ووحدة اللغة، والانتماء العربي الإسلامي، ولا يزال كذلك، يرفض التدجين والتغريب، فعن اللغة العربية المتيم بها، يعتبرها بمثابة روح الأمة، فقد ظلت ومازالت الحلم الذي يراوده، وجرحا غائرا يؤلمه، وألما شديدا يعانيه لواقع هذه اللغة، ولما أصبحت عليه اليوم في ديارها وبين أبناء أهلها في الجزائر، وأن ما آلت إليه اللغة في نظره يعود الى غياب استراتيجية ومفهوم المركزية الثقافية منذ الإستقلال، وما سماه بالتشرذم الثقافي، الذي انتاب الشعب الجزائري منذ العهد التركي مرورا بالعهد الفرنسي والى وقتنا هذا (08).
فتوحيد اللسان في نظره في الوطن الواحد، يعني توحيد الفكر والهوية والمصير والعقيدة، ويمكنه بعد ذلك، الانفتاح على تجارب الآخرين، بدون خوف على هويته وعقيدته، وأن يتعلم ما يشاء من اللغات والثقافات الأخرى، والتي تجعله بدون شك يطلع على المعارف وعالم المستجدات في ميدان العلم والفكر في البلدان المتقدمة الأخرى (09).
فبهذه الأفكار والمواقف، كان الأستاذ الدكتور، يقلق بعض الأوساط الرسمية والتغريبية واليسارية، وصار في نظرهم مثال غير مرغوب فيه، ونموذجا مزعجا للنمط الثقافي الذي خضعت له الجزائر بعد الإستقلال (10).
و قد عانى الأستاذ جراء ذلك الأمرين، بما ضرب حوله من حصار وتهميش واستفزازات داخل الحرم الجامعي وخارجه، لكن كعادته ظل صامدا مقاوما بهدوئه المعهودة ورزانته، واقفا متحديا شامخا شموخ الجزائر، لا يخاف لومة لائم في قضية الهوية والتراث، بل ظل يواجه المد المعاكس للثقافة الوطنية، ويتحدى أصحابه ودعاته في كثير من الأحيان، مع ثلة ممن يشاركونه في آرائه ومواقفه في الجامعة الجزائرية.
نهض الأستاذ الجليل، بمهام علمية ومسؤوليات تربوية في غاية الأهمية، منذ وجوده في الجامعة، تكوَّن على يده جيل من الأساتذة والباحثين، حاملين مشعله وطموحاته، كما كان له تأثير ملحوظ على جمهور عريض من المثقفين في الجزائر، وتزينت المكتبات الوطنية والعربية بمؤلفاته ومصنفاته، ونتاج فكره، مما جعل سمعته وشهرته العلمية تتعدى حدود وطنه، وكانت الجامعات العربية والإسلامية والأنجلو سكسونية، تدعوه للتدريس بمدرجاتها وعلى طلابها، وقد زادت مؤلفاته العشرين، فاق بها أقرانه بما أضفى عليها من كم وكيف هائل، تضمنت: "أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر (خمسة أجزاء)، وأضواء تاريخية ودراسات نقد وتأملات وأفكار، وإيداعات ومترجمات، ومسار قلم، يوميات، وتاريخ الحركة الوطنية الجزائرية (ستة أجزاء)، وتحقيق التراث (ثلاثة أجزاء)، وموسوعة تاريخ الجزائر الثقافي (عشرة أجزاء) من القرن 15 إلى الاستقلال واستعادة السيادة الوطنية.
فهذه الأعمال الموسوعية لا تقل عن (33 جزءا) نشرت في ثلاثة وعشرين مجلدا، نشرته وزارة المجاهدين في دار الغرب الإسلامي بيروت في طبعة أنيقة.
ونحن نعرف أن شيخنا ومؤرخنا كان يدوِّن في مفكرته التي لا تفارق جيبه، كل الزيارات التي كان يقوم بها داخل الوطن وخارجه، وما يدور على الساحة الوطنية من أحداث هامة، نتمنى أن تلقى من ينشرها.
فقد أفنى عمره وجهده في جمع تراث الأمة، من مختلف المكتبات العامة في الجزائر وفي العالم، ومن المكتبات الخاصة عبر التراب الجزائري، يعمل بهدوء ورزانة وبصمت، يكره الأضواء والنرجسية، بسيطا في حياته، متواضعا تواضع المفكرين، رفض المسؤوليات السامية، حتى يبقى مع التراث والتاريخ.
وقد شاءت الأقدار أن يروح عنا الى الدار الباقية، بجسده وروحه إلا أن تراثه وأفكاره ومصنفاته الموسوعية المختلفة وما دونته قريحته ووجدانه ستظل باقية وخالدة مفيدة للدارسين والباحثين، وأتمنى أن ينهض تلاميذه لاستكمال العطاء العلمي والفكري وتحقيق التراث الذي سطره شيخ المؤرخين الجزائريين، لأن الجزائر وتراثها وتاريخها لا يزال في أمس الحاجة الى أمثاله، طيب الله ثراه وأسكنه فسيح جنانه.
هوامش:
(1) - حاضر في السنة الجامعية 1971 - 1972.
(2) - عندما بدأت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في تطبيق الإصلاح الجامعي في السنة الدراسية 1971 - 1972 بدأت معها سياسة جزأرة الإطار الجامعي على الجزائريين في التدريس وفي التسيير بالجامعة، وبالتالي بدأ العد التنازلي، في تقليص التعاون مع الأجانب وخاصة المشرق.
(3) - الكتاب التذكاري عنوانه: دراسات وشهادات مهداة الى الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت 2000.
(4) - عن دراسته و تكوينه الثقافي انظر: حسن فتح الباب: شاعر وثورة، دار المعارف للطباعة والنشر سوسة تونس 1991، ص11 - 35 .
(5) - ناصر الدين سعيدون: أبو القاسم سعد الله، كاتبا ومفكرا من كتاب دراسات وشهادات ص 499 - 515.
(6) - جريدة الشعب : كتابة التاريخ 14/05/1990 ص511.
(7) - في هذا المجال، أي في قضية اللغة والتاريخ والتشرذم الثقافي، انظر ما كتبه أبو القاسم سعد الله في العديد من المقالات وما ألقاه في الكثير من المحاضرات نعالج فيها وضع اللغة العربية و التاريخ، انظر ناصر الدين سعيدوني: المرجع السابق ص 499 - ص 515.
(8) - ناصر الدين سعيدوني: المرجع السابق ص 511.
(9) - أبو القاسم سعد الله جريدة الشعب 14/05/1989.
(10) - انظر في هذا بالشأن: ناصر الدين سعيدوني: المرجع السابق ص 514 .
(*) جامعة قسنطينة2
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/190374.html
Abdellah M
2014-01-28, 13:15
الكاتب:
التهامي مجوري
الدكتور سعد الله: علّامة الجزائر وعلامتها
عندما لجأ الشيخ محمد البشير الإبراهيمي إلى القاهرة في بداية الخمسينيات، قدمه الناس إلى المصريين بلقب "الشيخ الإبراهيمي علَّامة الجزائر"، فعقب رحمه الله على هذا اللقب بقوله أنا لست علَّامة الجزائر، وإنما علامتها وعلامة رفع لا علامة خفض. وأرى بهذه المناسبة أن هذا الوصف ينطبق على الأستاذ سعد الله تماما؛ بل هو علَّامة الجزائر وعلامتها.
لم أعرف الدكتور سعد الله في الجامعة لأنني عصامي، ولم اعرفه زميلا؛ لأنني لم أشركه عملا أكاديميا أو غيره من أنشطته العلمية المشهودة في العالم وليس في الجزائر فحسب، ولم أعرفه قرينا لأنه في سن والدي، وإنما عرفته في معترك الحياة، كقارئ جاد متعلق بهويته الإسلامية العربية الجزائرية، وجد ضالته في كاتب جاد مرتبط بهويته الإسلامية العربية الجزائرية، يريد إيصالها للأجيال قبل أن يطلبوها.
تعرفت عن الدكتور سعد الله في ثمانينيات القرن الماضي، بمناسبة موضوعه الثوري الرائع "الحاج ديكرت"، المنشور في جريدة الشعب، وقبل هذا التاريخ لم أكن أعرف من هو سعد الله؟ فهذا المقال قد هزني كما هز الكثير من أبناء الجزائر من الشاعرين "بالاستقلال المنقوص"، ومنذ عرفته لم تنقطع صلتي به، مهاتفة ومعايدة واطمئنان على صحته، وقبل ذلك وبعده قراءة كل ما يصدر من مؤلفاته بداخل الوطن وخارجه.
ثم كان مقال "الحاج ديكارت" متبوعا بمقاله الأليم "أزمة ثقافة" وهو المقال المنشور أيضا في جريدة الشعب، الذي اشتكى فيه إلى الله سرقة حقيبته التي كانت تحتوي على فصلين من جزء من أجزاء كتابه الحركة الوطنية، وبطاقات مادة تاريخ الجزائر الثقافي، في مطار من مطارات بريطانيا، حيث كان الرجل طوال السنة في الجزائر يبحث ويقرأ ويدوّن، وعندما تحين فرصة الخروج إلى الخارج وإلى حيث الجو المناسب للكتابة؛ "لأن الكتابة في الجزائر معجزة" على حد قوله، يغتنمها في إنجاز ما اكتملت مادته مما جمع.. فسرقت منه الحقيبة بما فيها، ولم يتهم أحدا بعينه يومها، ولكن من قرأ ذلك المقال يحس أنه يتهم جهة ما معادية للجزائر وللثقافة الجزائرية سواء من داخل البلاد او من خارجها؛ لأن هذه السرقة وقعت في مرحلة كانت الجزائر تمر بموجة من التحولات السياسية والثقافية والاجتماعية، فكان يومها مشروع مراجعة الميثاق الوطني، وموجة التفتح الفني، والانفتاح الإعلامي عبر تنشيط الصوت المعارض من خلال وسائل الإعلام الرسمي، الجرائد والإذاعة والتلفزيون، والتي توجت بعد ذلك بأحداث أكتوبر 1988 المعروفة.
فمقال الحاج ديكارت إلى جانب نكبة ثقافة، لم يكونا معزولين عن معارك أخرى للأستاذ في الظل كانت بين سعد الله وخصومه الطبيعيين، ويظهر ذلك في قصته مع المركز الثقافي الجزائري في فرنسا الذي يمثل "دولة" مستقلة عن الجزائر في توجهه، وإلى مشكلته مع جريدة الجزائر الأحداث الأسبوعية الناطقة بالفرنسية Algérie Actualité، التي أرسل إليها بمقال يرد فيه على قضية لا أتذكرها الآن، ولم تنشره، مما اضطره إلى نشره في جريدة الشعب.
سعد الله رجل مسالم وهادئ وأليف الطبع، ولكن توجهه الفكري والتزامه الأخلاقي جلبا عليه متاعب كثيرة، ابتداء من التماطل في تعديل شهادته "الدكتوراه" التي حصل عليها من أمريكا وانتهاء بمتاعب إتمام مشروع كتابه تاريخ الجزائر الثقافي الذي أكمل بدايته قبيل وفاته؛ لأنه عصي عن دخول الصف بسهولة.
صحيح أن الرجل عرضت عليه مناصب في الدولة ورفضها لشعوره بخطورتها على مشروعه الوطني الكبير وهو الحفاظ على هوية الجزائر بجميع أبعادها المحلية والإقليمية والدولية، بلا تهوين ولا تهويل، ولكن في نفس الوقت طبع له جزء من أجزاء كتابه "أبحاث وأراء في تاريخ الجزائر"، وأظنه الجزء الثالث او الرابع، حيث كان الكتاب يطبع تباعا الأول فالثاني فالثالث.. وهكذا، ولما طبع لوحظ ان فيه معلومة ذكرها موجودة في كتاب لرحالة وصف فيها منطقة ما.. بأن أصل أهلها يهود.. فطلب من الأستاذ حذف هذه المعلومة، إذ ان القوم فهموا من نشر هذه المعلومة أنها تصفية حسابات سياسية في جو صراعات عصب الحزب الواحد، فرفض الأستاذ؛ لأن الكلام الوارد في كتابه ليس كلامه، وإنما هو لصاحب الرحلة التي يتكلم عنها، فصودر الكتاب المطبوع في الشركة الوطنية، وبعد سنوات بيع الكتاب بالدينار الرمزي أيام تصفية الشركة الوطنية للنشر والتوزيع (SNED) او تقسيمها.
إن الدكتور سعد الله من هذه الناحية يتميز بصرامة علمية لا مثيل لها لا يعلمها القوم الذين أرادوا منه ما أرادوا، ولم يعلموا أنه قاس قسوة الجراح عندما يتعلق الأمر بالمعلومة التاريخية، ولم يستثن من ذلك نفسه حيث كان يذكر الأمر السلبي ولو كان متعلقا به.. فقد أورد كلاما في يومياته "مسار قلم"، لا يليق ذكره عادة وعرفا، منها مثلا أنه جلس مع فلان في مقهى مثلا فطلب هو شايا اما صاحبه فقد طلب زجاجة "ويسكي"، أو أنه استقبل امرأة في فندق وصعد معها إلى الغرفة؛ بل واحتج عمن عاب عليه ذلك، أو أن فلانا غضب منه لأنه يخالفه في أمر ما.. ولما قيل له إن هذه اليوميات لا يليق أن تنشر هكذا وهي من أسرار المجالس وخفايا أحاديث النفس، فقال هذا هو التاريخ وهذا هو الواقع الذي وقع بحلوه ومره؛ بل إنه حريص على إعادة نشر النصوص كما دونت في يومها ولو بأخطاء نحوية كتبت بها.
اتصلت بسعد الله هاتفيا لأواسيه عندما سرقت منه محفظته، ومؤازرة له في محنته، ولأعرض عليه المساعدة إن كان في حاجة إليها، من أجل إعادة مشروع تاريخ الجزائر الثقافي، فقال لي "يا ريت... أين نحن من جهد عشرين سنة يا فلان؟"، ومع ذلك سألني ألا أجد عندك نسخة من "تاريخ العدواني" مطبوعة او مخطوطة؟ فذهلت للطلب ولجلد الرجل ورباطة جأشه.. الرجل ضرب ضربة تسقط لهولها الكوكبة من الرجال، ومع ذلك بقي صامدا، تألم لوجع الضربة _نعم- ولكنه لم تنثن، واستمر في طريقه لإتمام مشاريعه العظمى التي كان يرى دائما أنها أطول من عمره المحدود.
إن مشروع تاريخ الجزائر الثقافي كان منذ بداية السبعينيات، وقد صدر له منه الجزآن الأول والثاني عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، وفي سنة 1988 كان يأمل في أن يكمل جزئين آخرين ولكن المحنة المشار إليها أخرته إلى ما يقارب نهاية التسعينيات.. ولكن هذه المرة صدر الكتاب في تسعة أجزاء أي أكبر مما كان يتصور، فقد زرته في سنة 1997 أو 1998 لا أتذكر في الأردن، يوم كان في جامعة آل البيت بالمفرق، وحاولت أن أعرف منه موضوع تاريخ الجزائر الثقافي، ولم يقل لي شيئا ولم أدر أنه كان يومها في مرحلته الذهبية في استدراك ما ضاع منه وما تعطل في حياته كلها، حيث كان على مقربة من الأستاذ حبيب اللمسي صاحب دار الغرب الإسلامي المقيم ببيروت الذي أشرف على نشر كل إنتاجه.. فكان من بين ما أكمل الأستاذ تاريخ الجزائر الثقافي بأجزائه التسع، وأكمله بالجزء العاشر عندما عاد إلى الجزائر، باحتضان مركز دراسات الحركة الوطنية وأول نوفمبر، الذي تناول مرحلة تاريخ الجزائر الثقافي أثناء الثورة، ولم يبق لاكتمال المشروع إلا الفترة من الفتح الإسلامي إلى العهد العثماني، وهذه الفترة من تاريخ الجزائر الثقافي كان موزعا بين المغرب وتونس حسب رأي الأستاذ، التي كان الأستاذ يتألم لعدم إتمامها..، وقد علمت من الناشر الذي يتعامل معه
أنه أتمها قبيل وفاته وربما كانت من آخر ما أنتج رحمه الله، وحسب الناشر سوف تكون هذه المرحلة في أربعة أجزاء.
ودّع علامة الجزائر وعلامتها الدنيا ولم يأسف على شيء أسفه على الجزائر التي خصها الله كل شيء ومع ذلك هي محرومة من كل شيء، وأهم ما حرمت منه بكل أسف استقلاليتها الثقافية وتميزها الذي هي مطالبة به سياسة وثقافة واجتماعا وحضارة، وليس مزية "تتمزى" أو يتمزى بها مسؤولوها بها على أحد. طلبت من الأستاذ في نهاية الثمانينيات إفادتي بمراجع حول التغريب في الجزائر إذ كنت مكلفا بمحاضرة في مناسبة معينة، فقال لي وماذا تفعل بالمراجع؟ ها هي شوارع العاصمة تعج بكل ما تريد عن التغريب وأشكاله ومضامينه.. قال لي هذا الكلام بألم شديد وحسرة على اندثار قيم ثقافية وسياسية كانت تتمتع بها الحركة الوطنية قبل الاستقلال، وليس كما قد يتوهم المرء تهكما واستعلاء.
فرحم الله الفقيد وعوض الجزائر فريقا من أمثاله أو خيرا منه، وما ذلك على الله بعزيز.
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/192553.html
Abdellah M
2014-01-28, 13:19
الأمينة العامة للجنة الليبية للتربية والثقافة والعلوم:
فوزية بريون
سعد الله حمل معه اللوح إلى أمريكا لتحفيظ ولده القرآن الكريم
هذه كلمة رثاء في أستاذنا الدكتور أبو القاسم سعد الله، الذي منحه رفاقه الجزائريون العارفون بفضله، لقب "شيخ المؤرخين وقدوة الباحثين"..، رثاء تخونه اللغة وتمكر به التراكيب فيتحول إلى مديح!.. إذ يجد العقل نفسه مبحرا في عوالم تراثه العلمية والأدبية والثقافية التي تفرغ مفردة الموت من معناها السديمي، فتتلاشى أمام آثاره المجسدة لعصارة فكره، وتفتقات ذهنه، ومثابراته الدؤبة على عدم إغماد قلمه، حتى في أحلك الظروف.. ليس من أجل إعمال الفكر وإحكام النظر ونشر المعرفة فحسب، وإنما لتجسيد موقف أخلاقي يفيض بالإلتزام وينضح بالمسؤولية، متنزها عن ذلك الإنفصام النكد الذي أصاب كثيرا من مثقفي جيله.
الدكتور أبو القاسم سعد الله ليس أستاذ التاريخ المبرز، بجامعة الجزائر العريقة فحسب، وليس مجاهد ثورة التحرير التي ألهمته القوافي والأقاصيص فأبلى فيها بسيف الكلمة، وأهداها إبداعا باقيا، بوّأه في تاريخ أدبها مكانا.. فقط، وهو ليس الكاتب المهموم بحال أمته الذي له في كل قضية رأي وفي كل أزمة رؤية، وكفى.
كما أنه ليس الفيلسوف الذي خبر سنن التاريخ وملابسات الوقائع والأحداث، فأحاط بها وتتبع جذورها ومساراتها واستنبط نتائجها وآثارها، وإنما هو أكثر من ذلك وأعظم وأبعد..، إنه عالم بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني متجددة. عالم لم تفارقه موهبة التعلم، لأنه آمن بأن العلم ليس له ضفاف، وأن سيد الخلق قد أوصانا بالسعي في طلبه من المهد إلى اللحد.. وعالم لم تفارقه موهبة التعليم، لأنه آمن أن الإنفاق من العلم المحصل لا يزيده إلا نماء وعمقا.. وأن مرافقة طلاب العلم والباحثين عنه وفيه، ومعايشة تكونهم الذهني وترقيهم المعرفي لذة لا تضاهيها لذة، ورسالة لا تفوقها سوى رسالات الأنبياء.. ولذلك فقد تجسدت في الراحل أخلاق العلماء، تلك البؤرة الجامعة للبحث عن الحقيقة في صدق ونزاهة وتجرد وضمير حي. ولذلك كان معصوما عن الميل بمنزلته العلمية نحو تحصيل المال أو الجاه أو المنصب، فلقد كان طلبه العلم من أجل العلم.. بل أقول إنه قد طلبه من أجل الله.. حيث لا يؤدي العلم الحقيقي إلا إلى المعرفة به والخشية منه؛ منتظما في مقام مقولة الغزالي: "طلبنا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله". ولذلك فليس غريبا أن يرفض الراحل منصب وزير الثقافة، وهو منصب رفيع في أمة يتكاثر فيها المثقفون والمبدعون، وتتسامق فيها العربية بعد قرن وثلث من سياسات الفرنسة، التي أرّخ لها الراحل في مؤلفاته، وفصّل في جوانبها السياسية والثقافية والسوسيولوجية.. ترفع عن هذا المنصب، أو اعتذر عليه كما قال، لأنه كان يفضّل أوزار العلم والثقافة ولذتهما عن أوزار السياسة والإدارة، التي يلهث وراءها الكثيرون.
بدأ د.سعد الله حياته مبكرا بطلب العلم في قريته بالجنوب الجزائري، حيث حفظ القرآن، ثم رحل إلى الزيتونة ليواصل فيها تعليمه لمدة سبع سنوات، قبل أن يبتعث من "جمعية العلماء المسلمين" للدراسة في "كلية دار العلوم" بالقاهرة، وكانت آنذاك ساحة لتأييد الثورة الجزائرية، واستقبال رجالاتها ومناضليها وشبابها. وكان الراحل قد نشر كتاباته الأولى في صحيفة جمعية العلماء "البصائر"، التي دعم رسالتها وتبنى منهجها. وفي بداية الستينيات حصل على درجة الماجستير من جامعة القاهرة، ثم سافر إلى أمريكا ليحصل على درجة الدكتوراه من جامعة منيسوتا عن أطروحته المتميزة "الحركة الوطنية الجزائرية" التي ترجمت إلى العربية في جزأين، ثم توسع فيها حتى صارت أربعة.
كانت تلك أولى الخطوات في جهوده الرامية لإستعادة المرجعية التاريخية، وافتكاكها من قبضة الغربيين والمستشرقين، وتفنيد تفسيراتهم المغرضة. فلقد تيقن بأن الجزائريين أولى وأحق من غيرهم بكتابة تاريخهم وتفسيره وتحليله. وهو ما قاده بعد ذلك إلى الإلتفات إلى تاريخ وطنه الثقافي، الذي هو الثروة الوطنية، والمصدر الإستراتيجي المغذي للوعي والهوية، فانكب على جمعه ووصل أطرافه الموزعة بين دور العلم والعبادة والزوايا والخزانات داخل بلاده الشاسعة، ومكتبات العالم ومتاحفه ومراكزه العلمية، محققا في المخطوطات والوثائق والرسائل، باحثا في مآثر قومه وعظماء أمته حتى وفقه الله إلى إصدار كتابه المرجع "تاريخ الجزائرالثقافي" في تسعة مجلدات زاخرة، أعطت لوطنه وجودا لافتا بين الأمم. كما أصدر سفره الثمين "الحركة الوطنية الجزائرية" في أربعة أجزاء، ومؤلفه القيم "أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر" في خمسة أجزاء.. هذا إضافة إلى عدد من التحقيقات والترجمات وأدب الرحلات والكتابات الهادفة الرصينة.
تلقى الراحل عدة أوسمة وجوائز تقديرية منها "وسام المقاوم" عن دوره في الثورة الجزائرية، عام 1984، و"وسام العالم الجزائري" عام 2007، كما فاز عام 1991 بـ"جائزة ابن باديس" عن مؤلفاته القيمة في الثقافة العربية والإسلامية؛ وكانت الجائزة مبلغا مجزيا من المال بالعملة الصعبة، ومعلوم أنه كان في حاجة ماسة إليه، لكنه وفي حفلة تكريمه وتسلّمه الجائزة أعلن عن تبرعه بها لمكتبة جامعة الأمير عبد القادر، وأوصى بأن يطلق على القسم الذي تصفّ فيه الكتب المشتراة من قيمة الجائزة اسم "الإنتفاضة الفلسطينية"، فجسد بسلوكه هذا قيمة هي غاية في الرقي، يتحقق فيها قوله سبحانه "ويؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة". وهي منزلة عليا لا يقدم عليها إلا أكابر القوم الذين يثقون بما عند الله.
والحقيقة أن الراحل لم يصل إلى تلك المنزلة إلا بعد مكابدة ومجاهدة، ومرابطة يقظة في رباط العلم، وبُعد عن الأضواء وترفع عن السفاسف.. ذلك أنه كان رجلا أمة.. مفكرا موسوعيا.. باحثا ومؤرخا ومثقفا رفيع الطراز؛ قضى في خزائن كنوز المعرفة سواد شبابه وبياض شيخوخته، ولم يفارق القلم يمناه حتى عندما طلب منه الأطباء التوقف عن الكتابة في مرضه الأخير.. فلقد كان ذلك هو فسيلته التي أراد أن يسقي بمدادها تربة الفكر قبل أن يلاقى ربه.
قابلت د. سعد الله أول مرة في أغسطس 1969 عندما حضر إلى طرابلس عضو وفد بلاده إلى "مؤتمر أدباء وكتاب المغرب العربي"، وكنت قد اخترت حينها من قبل الأستاذ علي مصطفى المصراتي، عضواً في الوفد الليبي مع الشاعرة هيام الدردنجي وثلة من الكتاب الليبيين، وكنت قد تخرجت لتوي من "كلية المعلمين العليا"، ولم يكن رصيدى سوى بعض الكتابات الصحفية والمحاولات الشعرية، أما د. سعد الله فكان شاعرا وقاصا وأستاذا جامعيا.
ومرّ زمن قبل أن نلتقي مرة أخرى في الثمانينيات في أمريكا، عندما قابله زوجي في إحدى مرافق "جامعة متشجن" فتعرف عليه ودعاه مع زوجته وابنه الوحيد أحمد إلى بيتنا، فتوثقت الصلة بيننا منذئذ على المستويين الشخصي والعلمي؛ وكنت آنذاك في صدد تجميع المادة العلمية لموضوع أطروحة الدكتوراه عن مالك بن نبي، فوجدت منه كل دعم وتشجيع، إذ زودني بكثير من المصادر والمراجع التي كان يصعب عليّ الوصول إليها لولاه. كما قام لاحقا بقراءة بعض الفصول وإبداء ملاحظاته القيمة حولها، مسجلا إعجابه بالفصل الأول من الأطروحة، الذي بينت فيه ما لحق الجزائر جراء الإستعمار الفرنسي من تحطيم لبنيتها التعليمية والإجتماعية. ولقد كان للدكتور سعد الله الفضل في ربطي ببعض القامات الجزائرية من أمثال الدكتور عبد الرزاق ڤسوم، والدكتور محمد ناصر، الذي أهداني مجلدي الشيخ طفيش عن سليمان الباروني، والدكتور العربي معيريش، الذي قام بالبحث عن حمودة الساعي صديق بن نبي فسجّل لي ذكرياته عن مالك. وبعد أكثر من عقدين، عندما أذن الله بطبع الترجمة العربية تكرم د. سعد الله بكتابة تصدير للكتاب "مالك بن نبي: عصره، حياته ونظريته في الحضارة".
لقد ظل د. سعد الله يتردد على مكتبة جامعة متشجن كلما سنحت له الفرصة، وكلما مكنته ظروفه المادية من توفير ثمن ثلاث تذاكر له ولأسرته، فكنا نسعد به وبأسرته، حيث نقضي الساعات في مناقشة موضوعات الساعة ومنها حتما الأوضاع في الجزائر وليبيا، أيام نكبتها الأخيرة. وكان الراحل يبدأ يومه بالذهاب إلى مكتبة الجامعة فيعتكف كالراهب المتبتل في ردهاتها وبين رفوفها وقاعاتها، باحثا عن تاريخ بلده وجذور أمته، ولا يفارقها حتى تقفل أبوابها في أماسي الصيف الطويلة، فيعود إلى بيته ليراجع "لوح" القرآن الذي جاء به من الجزائر ليكتب فيه أحمد سورة بعينها أو آيات يكون والده قد حددها له، فيسمعه ما حفظ، قبل أن يستعد لغيرها في اليوم التالي. وكانت حفصة، أم أحمد، الزوجة الصبور، والقارئة النهمة، المطلعة على جهود زوجها والمثمنة له ولها، خير داعم له ولكل المشاريع الكبيرة التي صرف فيها جلّ وقته وعصارة عمره.
ماذا عساني أن أكتب عن هذه القامة السامقة، وأنا التي عاصرتها وجالستها وقرأت لها وتراسلت معها فإذا بي عاجزة عن الإلمام ولو بجزء يسير من علمها ومعارفها وهمتها التي قدّت من الصخر مآثر، وفتحت للأفكار معابر.. وتمسكت بالأصالة والانتماء فكانت كالطود في محيط الرياح العاصفة؟ حسبي الآن هذا الإقتراب الوجل من عالمه المهيب، وهذا الإحتفاء الحزين بانتقاله إلى رحاب الرحيم الودود الشكور، ليحبوه ويكرمه.
إن لي معه مراسلات وفي أدراجي ببلاد الإغتراب عددا من الخطابات بخطه المنمنم، تضم أفكاره واقتراحاته، وومضات من وجدانه المرهف في ظروف مختلفة من تاريخ الأمة، لعلني أتفرغ لها يوما لأضيف لتاريخ هذا الرجل العظيم، الذي أصبح الآن صفحة نورانية من تاريخ الجزائر الثقافي الذي كان أول من ارتاد متاهاته ونظم سجلاته.
رحم الله شيخ المؤرخين وقدوة الباحثين، وعوض الله الجزائر والعرب والمسلمين فيه خيرا، ووفق ابناءه وتلاميذه للإقتداء به والسير على طريقه.. وعزاء محبيه أنه وإن انتقل بجسده، فهو باق بآثاره ومؤلفاته وأسفاره، وبما جسده من خلق وتواضع ونزاهة وترفع عن زخرف الحياة الفانية.
جمعنا الله به في جنان الفردوس مع الشهداء والعلماء والأولياء.. وحسن أولئك رفيقا.
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/191633.html
Abdellah M
2014-01-28, 13:20
الكاتب:
مصطفى وديع
رحمك الله يا سعد الله... يا شيخ الكرام
رحمك الله يا شيخ الكرام، وعطّر ثراك وبلّل ضريحك بماء الكوثر.
لقد فقدتك الأسرة الأكاديمية وخسرتك الجامعة والبحث العلمي، وفجعت في فقدك الجزائر التي حينما صرخت ونادت يوما يا بنيّ من لي في هذه الظلمة من الاحتلال الفرنسي قهرا وظلما وجورا وإبادة وحرقا وهتكا للأعراض ... فقلت أنا دون انتظار لمبادرة الآخرين فصدق فيك قول طرفة ابن العبد:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني * عنيت فلم أقعد ولم أتبلد
فجعت فيك الأمة العربية الإسلامية لأنك من أهل الهمم الذين لم يضعفهم الحال وتسكنهم مشدات الوهن وزخارف الحياة ، فكان قلمك بعّاثا لنور لب الجمال في هذه الأمة وأننا ما خلقنا إلاّ أسيادا في هذه الحياة يحبون الخير للناس جميعا، كما كان قلمك سيف في وجه جحّاد الخير والفضل والتاريخ فكنت نعم الكاتب للجزائر وللإسلام.
رحمك الله يا شيخ الكرام يا من فقدك أبناؤك من أهل التاريخ وأنا منهم لقد كنت نعم الباحث خيارا ومنهجا وناقدا ومقلبا للروايات.
كنت نعم الباحث في الصبر وتحمل المصاعب من أجل الوصول إلى الهدف دون كلل أو ملل ولم تزدك العوائق إلاّ إصرارا على التغلب والاجتهاد في إحداث وسائل الوصول إلى الهدف، كنت نعم الباحث الذي لم يوهنه البعد عن امتلاك وسائل الوصول مثلما أوهن الكثير ولم توهنه قلة العيش وضعف الحال في الانطلاق للوصول إلى أعلى الدرجات، إنها همم الرجال الذين صدق فيهم قول الشاعر :
بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها * تنال إلاّ على جسر من التعب
إنها همم الرجال الذين أدركوا بأنه ليس كل الموت مغيب بل هناك موت ينبعث منه الخلود في هذه الحياة. وإن ذلك لن يحققه المال وإن زاد ولا المنصب وإن علا، ولا استعباد الناس وإن جلا وجلا وإنما بابه واحد هو العلم، لأن العلماء أصحاب البصيرة هم أكثر قربا لفهم الحياة وما يراد وهم أحق الناس بالفخر
ما الفخر إلاّ لأهل العلم أنهمُ * على الهدى لمن استهدى أدلاّء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه * و الجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حيا به أبدا * الناس موتى وأهل العلم أحياء
فمن سيعوّضك في طلب العلم وإتقان العمل والحرص على مستوى الطلبة حتّى لا يتدنّى بهم المتدنّون ويعبث بهم العابثون.
كنت مؤرخا في أعلى طراز في الأخلاق والانضباط والاجتهاد والتفوّق، وكنت ابن "ڤمار" الأصيلة وحفيد الكرام البررة، كنت ابن الجزائر البار الذي لم يكبّله ظلم الاحتلال عن الوصول ولا أوهامه لاستجلاء منابع الحق التي هي الأحق. كنت نعم السفير في الشرق أم في الغرب لهذه الأرض الطيبة تجدّ في اكتساب العلم وتجتهد في معرفة الأصول وتكدّ في إبلاغ تاريخ الجزائر الحر وفوق كل ذلك تبرز عبقرية هذا الوطن في رجاله وأخلاقه وعلمه وسيادته.
من لنا بعدك يا شيخ الكرام بمثلك فقدنا عظمة الأساتذة - ونسأل الله أن يعوضنا - الذين يؤثرون على أنفسهم ويسهرون على تخريج طلبة أقوياء مؤهّلين لشقّ طريق البحث العلمي في حين راجت بضائع الانتهازيين والوصوليين.
من لهؤلاء الطلبة الأيتام، وقد غبت عنهم وخلا منك الميدان، ولعلمهم سيجدون زعانف ومبتذلين، ولكنهم لن يجدوا مثلك في تقديم النصح وتقويم العوج والانقطاع للبحث والكتابة والمنافسة على التفوّق البريء.
لقد غادرت ساحتنا يا شيخ الكرام بعد أن عرفناك طالبا نموذجا في طلب العلم ضحيت بالنفس والنفيس من أجل العلم لا من أجل الشهادة. وأستاذا عبقريا يلتزم قبل أن يطلب من غيره الالتزام. غادرتنا في أوجّ الشتاء والأرض عطشى و الناس لهفى والعصافير يُمنة ويسرى تبحث عن الكريم الأصيل وقد شحّت الأرض وعجزت النساء في مثل هذا الزمان أن تنجب من أمثالك الكل في طلب من الله أن يرزقنا الخير. فنسأل الله أن يرزقنا عوضا عنك وأن يحرك همم الكتاب وأصحاب الأقلام أن ينحوا نهجك وأن يعلموا أن الموت موعود فلا تكتبنّ بكفك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه، فَلَكَ أن تُسرّ يا سعد الله واهنأ لأنك ما كتبت إلاّ ما سَيَسُرُّك الله به يوم القيامة.
رحمك الله يا سعد الله، لقد فقدنا فيك الشجرة التي تغطينا كباحثين فانكشفنا، وفقدنا فيك البحث التاريخي الأصيل فاهتززنا، وفقدنا فيك العالم صاحب القيم والمبدأ فهل على أثرك سنبني ؟ وفقدنا فيك العطاء والإبداع فهل بميزاتك سنغنى؟
لا بحيلتنا إلاّ أننا نسأل الله أنه مثلما علّى من مقامك في الدنيا أن يزيدك علوا في الآخرة كما نسأله أن يثبت فينا كلمة وفاء لك على إتباع النهج ودمعة أسى وفقد لأب ومعلم لكل أبناء الجزائر والإسلام.
سمير عطلاوي
2014-01-28, 14:24
بارك الله فيك
وجزاك خيرا
Abdellah M
2014-01-28, 14:34
بارك الله فيك
وجزاك خيرا
و فيك بارك الله
Abdellah M
2014-01-28, 14:35
أرجو التفاعل من الأعضاء الكرام وبارك الله فيكم
Abdellah M
2014-01-29, 15:23
الكاتب:
أمينة صاري
شهادة من الجيل الأخير من الطّلبة في حقّ الدّكتور أبو القاسم سعد الله رحمه الله
لأوّل مرّة منذ أن دخلتُ الجامعة أشعر باليأس والإحباط.. لأوّل مرّة منذ ثمان سنوات مرّت على تحصيلي العلمي أشعر أنّ المسؤوليّة المناطة بجيلنا كبيرة وعظيمة، وأنّ الـحِمْلَ ثقيل.. ثقيل ثقل الجبال، رغم أنّي بذلت قصار جهدي لحدّ الآن في سبيل البحث العلمي وبكل أمانة، فقد أدركت بعد رحيل أستاذنا الفاضل الدّكتور أبو القاسم سعد الله رحمه الله تعالى، أنّ جيلنا نحن من سيكون سعد الله آخر، أنّنا نحن من سيحمل راية العلم ويكافح من أجله بنفس المنهج، ونفس الإصرار، ونفس الأمانة العلميّة.. أنّنا نحن من سيحمل تلك الأخلاق العلميّة السّامية.. أنّنا نحن من سيكافح من أجل إعلاء كلمة الدّين الإسلامي والعروبة والوطن. فهل نستطيع أن نكون بمثل ربع تلك القامة العلميّة الّتي فقدناها؟
رحل عنّا ذلك الرّجل الّذي عرفناه اسما وقلما، قبل أن نعرفه شخصا، ذلك العالم الجليل الّذي علّم من علّمنا من أساتذتنا الأفاضل، وزرع فيهم القيم والأخلاق السّامية، الّتي زرعوها هم بدورهم فينا.. فقد كان الفضل في معرفتي للدّكتور سعد الله رحمه الله في السّنة الأولى ليسانس، للأستاذ محمّد العربي معريش في تطبيق وحدة تاريخ الجزائر، ولطالما كان لسانه ينهج بذكر هذا الاسم الكبير، فعَلَّمَنَا منهج البحث العلمي على طريقة أستاذه، ولم يكتف الأستاذ معريش بالحديث لنا عن أستاذه وتوجيهنا إلى الاطّلاع على كتبه، بل برمج لنا لقاء معه. لكنّ ولسوء حضّي فقد حضر الدّكتور سعد الله حصّة الفوج الآخر، وعندما جاء دور فوجنا غادر لأنّ وقته لم يسمح له بالبقاء أكثر، فلم أره في ذلك اليوم إلا وهو يغادر، وتبعته بنظراتي إلى أن خرج من الرّواق. تلك كانت أوّل مرّة أراه فيها.
وفي السّنة الموالية حظيت بمشاهدته مرّة أخرى، إذ احتاجت أختي _ وكانت وقتها تحضّر مذكرة ماجستير في الأدب العربي عن شخصيّة علميّة و أدبيّة جزائرية في العهد العثماني- إلى استشارته رحمه الله، فجاءت و التقت به و تحاورت معه، كنتُ أنا مثل المتفرّجة على حوارهما، مع شعوري بالـخجل كوني أقف أمام عالم جليل مثل الدّكتور سعد الله. وإذا كنتُ في مرحلة الليسانس لم أحض بفرصة للحديث المباشر معه، وما ذلك إلاّ بسبب خجلي وحيائي من عالم مثله، أو لأنّي لم أكن أملك الجرأة التي اكتسبتها في مرحلة الماجستير ( فيما بعد)، إلاّ أنّ ذكره لم يغب، فأغلب الأساتذة كانوا يوجّهوننا إلى استعمال كتبه في بحوثنا ويتحدّثون لنا عنه، مثل الأستاذ مصطفى نويصر، والأستاذ عمّار بن خروف، والأستاذة عائشة غطّاس رحمها الله.
وبعد تخرّجي، شاركت في مسابقة الماجستير وكنتُ من النّاجحين والحمد لله، وهنا بدأت مرحلة جديدة في حياتي، مرحلة مكّنتني من الاحتكاك المباشر بالدّكتور سعد الله، فعرفته عن قرب، وكنت إحدى طالباته، وكان وقتها يدّرس وحدة "العلاقات الثقافية بين الشرق والغرب في الفترة الحديثة"، ولم أكن أنا أنتمي لنفس التّخصّص الّذي يدرّس فيه، لكنّ نفسي كانت تتوق للدّراسة عنده، فقصدته ذات مرّة وكان يدرّس يوم الأربعاء من الثّامنة والنّصف صباحا إلى العاشرة، انتظرت إلى أن جاء وقبل أن يدخل الحصّة تحدّثت معه، طلبتُ منه أن يسمح لي بحضور حصّته طوال تلك السّنة _ السّنة الدّراسيّة 2009/ 2010م- وكم كانت فرحتي كبيرة عندما كانت إجابته "نعم". ومن ذلك اليوم أصبحت أحرص على الحضور كل أربعاء من كلّ أسبوع، وخصّصتُ للوحدة كرّاسا أنيقا لأكتب فيه كلّما يقوله الدّكتور سعد الله في حصّته.
لم يشعرني الدّكتور سعد الله أبدا أنّي لا أنتمي إلى تلك المجموعة، بل كنتُ في نظره فردا من أفرادها، و ها أنا ذي الآن أردّ بعضا من جميله عليّ إذ أنقل كلمة صدق في حقّه رحمه الله، وبكلّ إخلاص، ولا أبغي في ذلك إلاّ وجه الله تعالى، فأنا لا أهدف إلى الشّهرة والتّسلّق من خلال اسمه فهذه الشّهادة سيسألني الله عزّ وجلّ عنها يوم القيامة، إن لم أتحرّى فيها نقل الحقائق وبكلّ عفويّة.
منهج الدّكتور سعد الله في إلقاء درسه:
يعتمد منهج الدّكتور سعد الله في الأساس على التّحاور، وأن يجعل كلّ طّالب شاء أم أبى فعّالا في كلّ حصّة، وهو يقوم على طرح الإشكاليّة وإعطاء آرائه ومعلوماته حولها، مع السّماح للطّلبة بالمشاركة، فيحاورهم ويناقشهم، ويحاول إقناعهم بآرائه، ويقتنع بآرائهم إن كانت صائبة، فقد كان يسود الدّرس جو من المناقشة العلميّة الرّاقية بينه وبين الطّلبة، وهو في كلّ هذا يحاول أن يخرج ما في فكرهم من عصارة علميّة، وهو في منهجه هذا يختلف عن منهج بعض الأساتذة القائم إمّا على الشرح دون السّماح بإدلاء الآراء، أو القائم على الإملاء، مع العلم أنّ هذا الأخير يقتل الفكر ويحجّره، فتجد الطّالب يوم الامتحان يرجع للأستاذ بضاعته كما هي وعندما يتخرّج تتلاشى تلك البضاعة ولا يبقى منها إلاّ السّراب.
كان الدّكتور سعد الله في كلّ حصّة تقريبا يحضر معه مجموعة من المصادر والمراجع الّتي تدخل في صميم موضوع الحصّة، فيمرّرها علينا ويحدّثنا عنها وعن قيمتها العلميّة، ولا يخطر ببال أحد أنّ تلك الكتب كانت من إنتاجه لا والله، فما كان منها من هذه المراجع التي كان يحضرها معه يمثّل فقط خمسة بالمائة، إذ لم يكن من النّوع الّذي يتباهى بما قام به من أعمال، رغم أنّ مؤلّفاته كانت بالنّسبة لنا أشهر من نار على علم.
ومن جهة أخرى كان يحبّ أن يجعل من الطّالب يبحث ويبحث ويبحث، فكان يطلب من الطّلبة القيام ببحث أساسي للوحدة، كما يكلّفهم في كلّ حصّة بالقيام بأبحاث صغيرة، كالبحث عن هذه الشّخصيّة أو تلك، والبحث في هذا المصدر أو ذاك، وفي آخر السّنة بلغ عدد هذه البحوث الصّغيرة لكلّ طالب أكثر من عشرين، وكان يسأل باستمرار عن تقدّمهم في البحوث، وعن المصادر والمراجع الّتي تحصّلوا عليها، ويوجّههم إلى أخرى قد تفيدهم، وبين الفينة والأخرى كان يتيح الفرصة لأحد الطّلبة لعرض بحثه، ويرغّب زملائه في مشاركته بأفكارهم وآرائهم، ومناقشته مناقشة علميّة، بالإضافة إلى إثرائه هو رحمه الله لموضوع الطّالب بمعلوماته القيّمة والكثيرة.
لطالما حدّثنا عن أبي راس النّاصري، والورثيلاني، والتامقروطي، والـمُحِبـِّي، وابن القاضي، والـمقَّري. هذا الأخير الّذي كان معجبا كثيرا به، وكان له منهجه ورأيه الخاص في نطق اسمه، فالكثير من الباحثين يقولون: "الـمَقَرِي"، أو "الـمَقَرِّي" إمّا بفتح الميم والقاف، وكسر الراء دون تشديدها، أو بكسر الرّاء وتشديدها، لكنّ الدّكتور سعد الله كان يقول لنا "الـمَقَّرِي" بفتح الميم، وفتح القاف وتشديدها، ويقول لنا أنّ اسمه نسبة إلى بلدة مَقَّرَه.
حدّثنا مرّة عن مظاهر التّأثير العثماني في المجتمع الجزائري، وطلب منّا أن نقدّم له نماذج عن ذلك التّأثُّر، فراح كلّ طالب يدلي دلوه. فأعطيناه أمثلة مثل: في الألبسة، وفي العمارة، وفي الفنون، وغيرها من الأمثلة، وإذا بهاتفه يرنّ _ وكان ذلك ناذرا في الحصّة- فبدأ يبتسم وقال لنا: "ما هذا؟" وكان يقصد رنّة الهاتف، وهي رنّة تركيّة هادئة، وبهذا أوحى لنا أنّ من هذه المظاهر، التّأثّير في الموسيقى. كما أشار في نفس الموضوع إلى مسألة ألقاب بعض العائلات الجزائريّة، وخاصّة من العاصمة التي لا تزال لحدّ الآن تفتخر بنسبها الممتدّ إلى الأتراك، وإذا به يوجّه الكلام لي، ويقول مثل عائلتك أنتِ، من دون أن أخبره أنا أنّ أصولي تركيّة، إذ أنّه رحمه الله كان خبيرا بمثل هذه الألقاب.
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/190461.html
يتبع...
Abdellah M
2014-01-29, 15:24
الكاتب:
أمينة صاري
منهجه في التّعامل مع طلبته:
كان رحمه الله متواضعا بكلّ معنى الكلمة، يتعامل مع الطّلبة كأنّهم أبنائه، يستمع لانشغالاتهم، ويهتمّ بآرائهم، يساعدهم ويوجّههم كلّما طلبوا ذلك، وهو في تعامله هذا لا يفرّق بين الطّالب الّذي سبق وأن درّسه، أو الطّالب الّذي لم يره من قبل، بل يعاملهم على السّواء، وكنت أنا في السّنة النّظريّة من الماجستير، بل ومن السّنة النّهائية في الليسانس أحلم أن أقوم بتحقيق مخطوط في مذكرة الماجستير، فسعيت في خلال تلك السّنة النظرية إلى الاستفسار من الأساتذة عن منهج التحقيق وأن يقترحوا عليّ نماذج من المخطوطات لأقوم بتحقيقها، ولطالما استشرته في هذا الموضوع، فكان يثني على رغبتي هذه ويشجّعني رحمه الله، حتّى أنّه في إحدى الحصص كنّا نتحدّث عن موضوع ما، ثمّ طلب منّا أمثلة، فبادرت أنا إلى الحديث عن المخطوطات، ضحك رحمه الله كيف أنّي لا يخرج حديثي عن مجال التّحقيق والمخطوطات، وكيف أنّي كنت مهووسة بهذا المجال، والحمد لله فقد وفّقني الله لتحقيق قسم من مخطوط "الجامع الكبير" للشّيخ عبد الرّحمن الثّعالبي، وناقشت مذكرتي في شهر فيفري 2013م، وكنت في خلال بحثي هذا لـمّا استشرته، أفادني رحمه بمعلومات قيّمة، سواء عن الثّعالبي، أو عن أماكن تواجد مخطوطات أو مصادر قد تفيدني، وكانت فرحتي كبيرة عندما أريته مذّكرتي و أبدى إعجابه بما قمتُ به من عمل، وهذه شهادة أعتزّ بـها.
كان أساتذة القسم _ الّذين كان أغلبهم من طلبة الدّكتور سعد الله- عندما يرونه يتزاحمون من أجل إلقاء التّحيّة عليه، والاستفادة من علمه، وهم في ذلك الموقف كنتُ أرى فيهم مثل الأبناء البررة الّذين اجتمعوا على والدهم الحنون لكي ينالوا بركته ورضاه، وهو رحمه الله كان يعطي كلّ ذي حقّ حقّه ولا يبخل بأي معلومة مهما كانت صغيرة.
لكن الشيء الّذي يحزّ في نفسي أنّني فقدت في كلّ مرّة عالما كبيرا وأنا في أمسّ الحاجة إلى استشارته، وحدث معي هذا مرّتين، ففي مرحلة الماجستير أردت استشارة الشيخ عبد الرّحمن الجيلالي في موضوعي، لكنّ الموت سبقني إليه، والآن وأنا مقبلة على مرحلة الدّكتوراه رغبت في استشارة الدّكتور سعد الله، فقيل لي أنّه مريض، فاستغنيت عن الاستشارة، بل أجلتها في سبيل راحته وسلامته، وإذا بخبر وفاته يصعقني كما صعق الجميع.
وبالرّغم من مرور أكثر من خمسة عشر يوما على رحيله عن هذه الدّنيا الفانية، إلاّ أنّني لا أزال غير مستوعبة لرحيله، أهو حقيقة أم أنّه كابوس مزعج أستيقظ منه فأجده حيّا يرزق، لازلت أبكيه كلّما رأيت صورة له، أو قرأت عنه مقالة في الجريدة، اعتدت في كلّ سنة أن أرى اسمه في جدول توقيت الـماجستير في قسم التاريخ بجامعة الجزائر2، لكن هذه السّنة تألّمت كثيرا وأحسست بفراغ كبير لـمّا لم أجد اسمه (حينها كان مريضا)، كانت كلّ دعواتي له بالشّفاء، لكنّ "فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُم لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ" ( الأعراف، الآية 34).
حديثه عن سيرته و إنجازاته:
لم يكن الدّكتور سعد الله رحمه الله، من النّوع الّذي يجعل الحصّة مجالا لعرض سيرته الذّاتيّة، أو تمجيد إنجازاته، بل كان جلّ اهتمامه هو أن يكون درسه مليئا بالمعلومات القيّمة، وإنّ عدد المرّات الّتي حدّثنا فيها عن نفسه تعدّ على الأصابع، وهي في الغالب الأعم تأتي عفويّة عند حديثه عن موضوع ما تطلّب منه أن يقدّم لنا نموذجا عن حياته. وبالرّغم من ذلك فقد دوّنت في كرّاسي وبكلّ دقّة بعض المعلومات التي أفادنا بها عن مسيرته العلميّة، وبعض المواقف في حياته وبالفعل فقد كنّا محضوضين كونه رحمه الله حدّثنا بنفسه عنها.
أخبرنا كيف كانت رحلته للدّراسة في أمريكا، وكيف أنّه سافر بجواز سفر تونسي، كونهم كانوا في ذلك الوقت لا يعترفون بجواز السفر الجزائري، وكيف أنّه كان من المفروض أن يدرس اللّغة لمدّة سنة كاملة، قبل أن يتوجّه للدّراسة في إطار التّخصّص الّذي اختاره، ثمّ كيف استعجل في طلبه للدّراسة في الجامعة قبل إنهائه دراسة اللّغة، حدّثنا أيضا عن بعض مؤلفاته مثل كتابه "مسيرة قلم" الّذي دوّن فيه سيرته الذّاتية ومواقفه فيه، وحدّثنا عن موقفه من الانخراط في السياسة أو تولّي المسؤوليّات، وكيف أنّه كان يفرّ منها لدرجة أنّه في إحدى المرّات اختبأ أربعة أو خمسة أيّام في إحدى الولايات، عندما طلب منه تولّي منصب ما.
كما برز لنا تواضعه الكبير من خلال إعرابه عن امتعاضه لكون إحدى الجامعات الوطنيّة قامت بتكريـمه، إذ قال لنا ما مفاده أنّه لا يعتبر تقديـم برنوس له تكريـما، بل تكريمه الحقيقي هو بإقامة ندوات علميّة وفكريّة، فقد كان رحمه الله يحبّ أن نكون نبّائين و فعّالين في المجتمع، لا أن نكتفي بالشّعارات البرّاقة.
مكانة الدّكتور سعد الله العلميّة:
لم يكن الدّكتور سعد الله رحمه الله رجلا عاديّا، بل كان كما قيل عنه شيخ المؤرّخين، ومؤسّس المدرسة التّاريخيّة، أديبا وناقدا، كان عالما موسوعيّا.. بل عالما من زمرة الكبار، كما جمع مع علمه سمتا حسنا، ونبلا كبيرا، أخلاقا عالية، وإنسانيّة راقية.. وإذا أردنا أن نشبّهه بغيره من العلماء فإنّنا نجده قد جمع بين شخصيات عديدة فهو ابن خلدون هذا الزّمان من ناحية كونه كان مجدّدا في زمن الرّكود الفكري، لكنّ الفرق بينه وبين عبد الرّحمن بن خلدون، أنّ السّياسة أغرت هذا الأخير فجرى وراءها حتّى كادت توصله إلى الهلاك، فيما راح أخوه يحيى ضحيّة من ضحاياها، أمّا الدّكتور سعد الله فقد هرب منها بكلّ ما أوتي من قوّة في الوقت الّذي كانت هي تفتح له أبوابها.
إنّ الدّكتور سعد الله شبيه بالعالم الجليل أبـي عبد الله محمد الشّريف التلمساني، في كونه كان محبّا لوطنه رغم الحظوة التي نالها عند السّلطان المريني أبي عنان الذي جلبه معه من تلمسان إلى فاس، ولأنّه آثر العودة إلى بلده على البقاء بفاس، كما يكمن الشبه بينهما في كون كلاهما كان عالـما موسوعيّا تجده في مختلف العلوم والمعارف، وكلاهما كان شغله الشّاغل هو التّدريس وتكوين الطّلبة فخرج على يدي الشريف التلمساني عبد الرّحمن وأخوه يحيى ابن خلدون، وابن قنفذ القسنطيني، والإمام الشّاطبي وابن عتاب.
وتخرّج على يدي الدّكتور سعد الله جملة من الأساتذة الّذين حملوا نفس أهدافه وقيمه، لكنّ الفرق بينهما أنّ الشريف التلمساني انشغل بالتّدريس وتكوين الطّلبة عن التّأليف فلم يخلّف إلاّ القليل، أمّا الدّكتور الدكتور سعد الله، فقد كان منشغلا بالتّدريس والتّأليف معا. وقد قال السلطان أبو عنان المريني في الشريف التلمساني مقوله كأنّي به يقولها عن الدّكتور سعد الله، إذ قال: "لكأني أرى العلم يخرج من منابت شعره".
إنّ شهرة الدّكتور سعد الله بين طلاّب العلم شبيهة بشهرة العالمين الجليلين أبي عبد الله محمّد ابن مرزوق الخطيب (الجدّ)، وأبي عبد الله محمد ابن مرزوق الحفيد، الّذين وصلت شهرتهما العلميّة حدّا جعل الطّلبة تقصدونهما من كلّ حدب وصوب، وجعلتهم يتغنّون بخصالهما الحميدة ويصفونهما بأرقى الصّفات، كما أنّهما كانا غزيري التّأليف مثله رحمه الله.
أمّا عن ابتعاده عن السّياسة وعن المناصب، فإنّي أرى فيه العلاّمة أبا زيد عبد الرّحمن الثّعالبي، الّذي لم تغره السلطة في حياته، زاهدا فيها إلى حدّ بعيد، منشغلا بالتّدريس والتّأليف وتنوير عقول النّاس، بل ونجده من خلال الرّسالة التي اكتشفها الدّكتور سعد الله وقام بنشرها يحرّض على الجهاد والوقوف ضدّ الأعداء، وقد قال عنه الدّكتور سعد الله رحمه الله: "..إنّ الثعالبي قبل هذه الرسالة كان في نظرنا رجلا سلبيا متفرجا على الأحداث التي كانت تجري في عصره، أما بعد هذه الرسالة فقد أصبح في نظرنا رجلا إيجابيا داعية خير وجهاد، عمليا في أفكاره وتصرّفاته..". ومثلما انتشرت واشتهرت كتب الثّعالبي في حياته كما قال أحد تلامذته: "..وأنّ في شيخنا هذا وتواليفه لسرّا بديعا و أمرا رفيعا، و لقد ظهرت تواليفه في حياته وسارت بها الرّكبان في الآفاق مع وجوده.. وربّما يكون في أثناء بعض تصانيفه والنّاس يختطفونه من يده ويتبعونه بالنّسخ، حتّى ربّما أدركه النّسخ قبل أن يستكمل الكرّاس فينتظرونه.."، فقد انتشرت كتب الدّكتور أبو القاسم سعد الله في حياته على اختلاف مواضيعها وأسمائها.
إنّ الدّكتور سعد الله شبيه بالعالم التّلمساني الشّهير الّذي لطالما أبدى إعجابه به وبإنتاجه العلمي، أبي العبّاس أحمد بن محمّد الـمَقَّري.. شبيه به في حلّه وترحاله في مختلف الأماكن لتلقّي العلم، وهو من حدّثنا مرّة عن فوائد السّفر إذ قال: "سافر فإنّ في الأسفار خمس فوائد، تفرّج همّ، واكتساب معيشة، وعلم، وآداب، وصحبة ماجد". ومثلما أبدع الـمقَّري في موسوعته "نفح الطّيب في غصن الأندلس الرّطيب"، أبدع الدّكتور سعد الله في موسوعته "تاريخ الجزائر الثّقافي"، وفي غيرها.
وفي مجال اهتمامه بالتّراث الجزائري وبحماية المخطوطات من الضّياع والقيام بتحقيقها لتكون في متناول طلبة العلم، فإنّي أرى فيه محمّد ابن أبي شنب هذا العصر، فلكليهما مساهمات جبّارة في نفض الغبار عن عدد من المخطوطات القيّمة وتقديمها للباحثين.
أفنى الدّكتور سعد الله حياته في الدّفاع عن مبادئه.. وفي خدمة وطنه، كما كتب هو بقلمه في النّسخة الّتي اشترتها عائلتي من كتابه "أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر" وطلبتُ منه أن يشرّفني ويكتب لي فيها بقلمه، فكتب ما نصّه: "يشرّفني أن أهدي هذا الكتاب إلى عائلة صاري المحترمة، وهو ثمرة من ثمرات جهدي العلمي في خدمة الوطن، فتح الله على الجميع سعد الله 3 فبراير 2010".
بهذه الخصال الحميدة عرف الجميع الدّكتور أبو القاسم سعد الله، وأحبّوه حتّى النّخاع مثلما أحبّ هو وطنه، وسخّر قلمه لأجله، متمسّكا بمبادئه.. رأوا فيه الأستاذ والعالم الجليل، والإنسان المتواضع.. ومن يتواضع للعلم يرفعه الله تعالى درجات.. وأختم بقول الله تعالى:
" يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ"
(المجادلة، الآية 11).
رحم الله الدّكتور سعد الله وأسكنه فسيح جنّاته
اللّهمّ اجعل كل الطّلبة الّذين درّسهم الدّكتور سعد الله في ميزان حسناته
اللّهمّ اجعل كلّ ما قام به من تآليف وما قدّمه من علم صدقة جارية ينتفع بها يا ربّ العالمين
اللّهمّ اجمعنا به في جنّتك كما جمعتنا به في هذه الدّنيا
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/190461.html
Abdellah M
2014-01-29, 15:28
الكاتب:
محمد الأمين بلغيث
مواقف إنسانية عشتها مع العلامة أبو القاسم سعد الله (1/2)
لعلني لا أبالغ، فأرى من خلال تجربتنا التي تزيد عن ربع قرن، ونحن نقرأ ما ينتج الأستاذ الكبير سعد الله فأقول إنه المؤرخ الموسوعي، متعدد المشارب والاهتمامات، فقد قرأنا له ما كتب في مجلة الآداب وقد كان شابًّا يافعًا يشارك في التأسيس للقصيدة الحرة، فهو بحسب النقاد من أوائل الشعراء الجزائريين الذين كتبوا القصيدة الجديدة، خارج دائرة القصيدة التقليدية العمودية، كما شاهدنا همته وهو يقوم بتدوين تاريخ الجزائر بداية من 1830إلى غاية 1945م، بوعي نادر يسابق به الزمن وهذا في عمله الموسوعي "الحركة الوطنية الجزائرية" كما ساهم مساهمة بالغة في تسجيل وتدوين تاريخ الجزائر الثقافي بداية من القرن الخامس عشر إلى منتصف القرن العشرين (1954م).
ولعل المصاب الجلل، والعملاق الذي هوى ستتذكره الجزائر في حولياتها، لأنه قام بواجبه كأي رجل شريف خدم أمته.
لهذا أقدم هذه المواقف الإنسانية التي عرفتها وأنا أتعامل مع شيخ المؤرخين الجزائريين من بعيد، حتى لا أقول أنني من أصفياء المؤرخ أو المقربين منه، لكن التاريخ شاهد علينا والأيام ابتلاء، والله خير الحاكمين.
هذه شهادتي وهذه مواقفي التي عرفت فيها شيخ المؤرخين وقدوة الباحثين ومؤرخ الأجيال خلال ثلاث وثلاثين سنة خلت، لعل القارئ والمحب واللدود معًا جميعًا يقرؤون زفرات قلب جريح فقد سندًا عظيمًا والعظمة لله سبحانه وتعالى، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، ولنا في آثار هذا العملاق الذي هوى المواساة من الموت، والموت حق.
الموقف الأول: تسمع بالمعيدي
بعد نجاحنا في مسابقة الدخول إلى نظام الماجستير في شهر نوفمبر 1980م انتظرت أنا القادم من قسنطينة مع زملائي لأرى شكل المؤرخ الكبير، وهذا في أول حصة بالخروبة، فلما وصل إلينا قلت لهم هل هذا هو سعد الله؟ وبصوت خافت، وكنت أنتظر أن أرى عملاقًا في جسده أشبه بالصورة الضخمة التي رسمتها في خيالي قبل وصولي إلى العاصمة، فكان قد سمع ما قلت فكان رده على الفور وبابتسامة الواثق من نفسه: "تسمع بالمعيدي خيرا من أن تراه" فقلت على الفور معاذ الله يا أستاذ.
أذكر للتاريخ أن المسابقة الوطنية التي أشرف عليها خيرة أساتذة التاريخ في الجزائر، قد أفرزت أحسن مجموعة من الباحثين على المستوى الوطني، وكان أغلب الناجحين في المسابقة من جامعة الجزائر، وأذكر أنه لم ينجح طلاب جامعة وهران، وأما جامعة قسنطينة فقد نجح العبد الضعيف، محمد الأمين بلغيث، وجئت في الترتيب الثاني بعد الأستاذ أحمد شريفي، وأما الثاني من قسنطينة فهو الأستاذ عبد الحميد خالدي، نجح بالإنقاذ، ولكنه التحق بجامعة بغداد بالعراق الشقيق بمعية محمد لحسن زغيدي، ومسعود خرنان، وإبراهيم بحاز ولم ينتظم معنا، فكان الدكتور سعد الله المتخلق الصارم هو المكلف بغيابات الطلبة، وفي السداسي الأول أقصى ثلاثة من سبعة وعشرين طالبًا على ما أذكر، ومنهم الأستاذ نور الدين ميهوبي من المدية رغم أنه تغيب بعذر شرعي، لكن سعد الله كان يعلم تحايل الطلبة على القانون، وهذا بغيابهم حصتين في كل مادة، وكانت مقبولة عند بعض الأساتذة، لكن شيخ المؤرخين قال لنا إن هذه يجب أن ينساها الطلبة، فثلاثة غيابات في كامل السداسي وفي كل المواد تقصي الطالب نهائيا وعليه أن يفكر في إعادة المسابقة من جديد.
الموقف الثاني: الدفعة الأولى لقسم الماجستير على المستوى الوطني
بدأنا ندرس عند شيخ المؤرخين مجموعة متكاملة متكونة من حوالي سبعة وعشرين طالبًا كما ذكرت آنفًا، ونحن نمثل أول مجموعة في أول دفعة لنظام الماجستير الذي عوض نظام الدراسات العليا القديم بالجامعات الجزائرية، كان يدرسنا من النسخة المخطوطة بقسميها الأول والثاني من موسوعته تاريخ الجزائر الثقافي الذي سيظهر في مجلدين على مطابع الشركة الوطنية للنشر والتوزيع عام 1982م، ورأى المدرس الحاذق عدم استجابتنا للمحور الخاص بالتصوف الذي درسه لنا في الحصص الأولى، فكانت الأسماء والعناوين الأولى عن دور الشيخ زروق، و"رسالة في التصفيق"، فقال لنا على الفور اعتقد أن موضوع التصوف لا يروق لكم، هل ترغبون في الاستماع إلى التاريخ في العهد العثماني، فبدأ يحدثنا عن التاريخ والمؤرخين، فرأى تجهٌّمًا وقلة راحة بل ربما فهم الأستاذ أنهم أخطؤوا التقدير في انتخابنا لنكون مشروع مجموعة من المؤرخين، قال لنا على الفور وبدارجة جزائرية "الظاهر يا جماعة ما هناش".
فرغم سلطة شيخ المؤرخين والمكانة التي يجدها في نفوسنا، أعجبتنا ردود الفعل الأولى عن جهلنا، فضحكنا بصوت واحد وابتسم معنا ثم واصل بعد ذلك يدرسنا في أسلوب الحكيم المتبصر بمسؤولية المؤرخ التي يحس بها وهو يدخل علينا كل أسبوع ولمدة أربع ساعات كاملة من الساعة التاسعة صباحًا إلى غاية الواحدة تقريبًا وهو يصول ويجول دون كلل أو ملل مما يدعونا إليه في مادة المنهجية وتاريخ الجزائر في العهد العثماني.
الموقف الثالث: قصة التخلي عن إشراف سعد الله
أما الموقف الذي أتذكره جيدًا فيتعلق باختيار التخصص، فبعد اقتراب السنة التمهيدية من الانتهاء، وفي حدود بداية السداسي الثاني اتجه معظم الطلبة للتسجيل مع الدكتور سعد الله، فرأى أنه ينوء بحمل كل هذه الأبحاث، وكنت من بين الأوائل الذين قبل الأستاذ الإشراف عليهم وتأطيرهم، فكان أول ما سألني: ما اسمك؟، قلت له: محمد الأمين بلغيث، قال: هل تعرف أبو الغيث القشاش، أو بلغيث القشاش، قلت أنا لا أعرف عالمًا أو علمًا بهذا الاسم، وتركني لحالي، ثم قال ابحث عن حياة وآثار الجنرال يوسف، فتوكلت على الله سبحانه وتعالى، وكان رفيقي المتزن والهادئ في البحث، هو يوسف مناصرية ،الذي يشتغل على كتب بول آزان Paul Azan فقد كنا لا نترك المكتبة الجامعية إلا أوقات الصلاة والأكل في مطعم الحي الجامعي بشارع عميروش، أو باجي مسعودة، وبعد حوالي شهر من المحاولة وجدت أن معظم أو قل كل ما هو مكتوب عن الجنرال يوسف الذي يسميه سعد الله صراحة يوسف اللقيط مكتوبا باللغة الفرنسية، وكنت أولا قد عرفت مستواي الحقيقي في اللغة الفرنسية والأمر الثاني كنت أجد حرجًا كبيرًا في أن ترتبط حياتي بلقيط خائن، وفي أول فرصة طلب سعد الله رحمه الله من بعضنا التوجه إلى تخصصات أخرى نظرًا للعدد الكثير للذين رغبوا في التسجيل معه، فكنت من الأوائل الذين استجابوا لهذا النداء، لأنني في حقيقة الأمر لم أجد نفسي قادرًا على مواصلة العمل بهذه الفرنسية البسيطة التي لا تزيد عن مستوى "الماصوات" البنائين عندنا، لهذا سيرتبط مصيري في التخصص الدقيق بالدراسات الأندلسية ومع المؤرخ الكبير عبد الحميد حاجيات حفظه الله.
الموقف الرابع: لقاء الباحث السعودي مازن صلاح مطبقاني
هذا الموقف شريكي فيه الأستاذ الباحث مسعود كواتي المتخصص في تاريخ الأقليات، واليهود بصفة أخص، كنا نمشي في بداية شارع الشهيد محمد العربي بن مهيدي بالجزائر العاصمة، في الاتجاه نحو مكتبة العالم الثالث، ومكتبة النهضة لميموني عبد القادر، ودار الكتاب، فإذا بنا نشاهد الدكتور سعد الله، وهذا طبعًا بعد حوالي شهر من تسجيل أبحاثنا مع الدكتور عبد الحميد حاجيات، فذهبنا إليه مباشرة، فوجدنا معه شخصية مشرقية، فقلنا له نساعدك يا أستاذ، فرفض بإصرار، فقلنا له معًا يا أستاذنا نساعدك فقط، لأنك أولا لست مشرفنا ولن تناقشنا مستقبلا، وهذه طبيعة خاصة في الدكتور سعد الله، فهو لا يكلف طلابه بحمل حقيبته حتى لا يحسسهم أنه يستغلهم كبعض الأساتذة غفر الله لهم، وحينما وصلته الرسالة وفهم المنطلق قال: ساعدا الأستاذ، وتوجهنا رأسًا لحمل معظم أثقال الضيف المشرقي، وجلسنا نتبادل الحديث مع الدكتور سعد الله، وعرفنا بضيفه الكريم فقال هذا باحث سعودي، اسمه مازن صلاح مطبقاني، وأعجبت الدكتور سعد الله صراحتنا وبقينا معهما لوقت قصير للتعارف ببهو نزل ألبير الأول، بالجزائر العاصمة، ثم غادرنا المكان، ومنذ ذلك الحين تتبعنا نشاط هذا الباحث السعودي، الذي كلمته وعزيته في رحيل شيخ المؤرخين صباح اليوم الثاني من شهر يناير للعام الجديد 2014 ووعدنبي بإرسال صور ضوئية لمراسلاته مع شيخ المؤرخين لإتمام المشروع الذي اتفقت فيه مع واحد من أصفياء المغفور له بإذن الله شيخ المؤرخين وقدوة الباحثين أبو القاسم سعد الله طيب الله ثراه وجعل الجنة مثواه، من أجل نشر رسائله إلى أحبابه.
الموقف الرابع: المؤتمر الدولي الأول للحضارة الإسلامية بتلمسان
حدث هذا الموقف في شهر ماي من عام 1987م، حيث نظمت وزارة الثقافة مؤتمرًا دوليا كبيرًا تحت عنوان الحضارة الإسلامية بمدينة تلمسان عاصمة الزيانيين، وكنت قد أتممت رسالتي للماجستير منذ مدة طويلة وانتظرت موعد المناقشة، فجاءت فرصة التقاء أعضاء اللجنة بتلمسان وهم: الأستاذ إبراهيم فخار من جامعة وهران، الأستاذ المشرف عبد الحميد حاجيات، الأستاذ محمد الصالح مرمول من جامعة قسنطينة، والدكتور موسى لقبال من العاصمة، فكنت أسعى من أجل اتفاقهم النهائي على موعد واحد للمناقشة، وأثناء تحركي بسرعة بين الأساتذة اصطدمت بواجهة زجاجية داخلية ليلا بفندق الزيانيين، فجرح الزجاج خاصري الأيسر، وشجَّ رأسي فكان أول من حملني إلى كرسي لإسعافي عند مقصف الفندق هو شيخ المؤرخين أبو القاسم سعد الله، فطلب من النادل كحولا، فجاءه بزجاجة، وبدأ يضمد جرحي بما في الزجاجة من كحول ثم سأله فجأة ما هذا، قال له "يا الشيخ هذا ويسكي"، سلمه الزجاجة، وقال شيخ المؤرخين بنرفزة، هل تعلم أن هذا الإنسان الموجود أمامي لم يذق في حياته خمرًا فتقوم بإسعافه بزجاجة خمر، فاعتذر النادل، وهو يتعجب من هذا السلوك الذي رآه غريبًا، ثم حملني زميلي مسعود كواتي بمساعدة سعد الله إلى سيارة سياحية من أجل الكشف علي وحقني بحقنة مسكنة ومذهبة للخوف كما قالوا، ثم عدت بعد ساعة من زمن من مستشفى تلمسان، وتناولنا طعام العشاء، ثم برمجت وزارة الثقافة والسياحة ليلة موسيقية أندلسية، وصادف وجود فرقة تونسية فولكلورية، فمتع جمهور الأساتذة والمؤرخين برقصة القٌلَّة، وكانت الراقصة فاتنة، فلما بدأت وصلتها رأيت وجوم معظم الأساتذة أما شيخ المؤرخين فقد انسحب من هذا المشهد الخادش للحياء، دون أن يلتفت إليه أحد، ثم خرجت بعده إلى غرفتي من شدة الألم، ولن أنسى هذا الموقف أبدًا وعلى الخصوص ثقته في أن هذا العبد الضعيف كاتب هذه المواقف لم تعرف الخمرة طريقًا إلى فمه، فانزعج شيخ المؤرخين أن يتذوقها جسمه عن طريق الأوردة المجروحة.
الموقف الخامس: دور المركز الوطني للدراسات والبحث في النشاط العلمي
عرفت نهاية تسعينيات القرن الماضي نشاطًا معتبرًا مع تأسيس المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954م، ووزارة المجاهدين وعلى الخصوص في عهد الوزير السابق الأمين العام الحالي لمنظمة المجاهدين السيد السعيد عبادو، فكان ملتقى اتحاد المؤرخين بعين صالح مشهودًا وهذا بحضور عينة نوعية من الشخصيات والإطارات والمؤرخين الشباب، وفي هذا الملتقى قدمت مداخلة نوعية ولا أزكي نفسي على الله "والله أعلم بمن اتقى" وكانت المداخلة بعنوان "نماذج من سياسة فرنسا للتوغل في الجنوب الغربي الجزائري و بلاد السنغال، من خلال فتوى قورارة 22 جوان 1893م وهذه مداخلة قدمتها في الملتقى الوطني الذي نظمه اتحاد المؤرخين الجزائريين بالتعاون مع المركز ووزارة المجاهدين بمدينة عين صالح ولاية تمنراست بين 21 - 23 ديسمبر 1997م. ثم نشرت المداخلة بالعدد الرابع من مجلة المصادر، ولما أخبرني الدكتور يوسف مناصرية بسفره القريب لزيارة الدكتور سعد الله بالأردن، أرسلت معه هدية إلى شيخ المؤرخين تتمثل في مجموعة مجلات وكتب تصورت أنها مقدمة لإعادة مد الجسور مع شيخ المؤرخين بعد طول غربة بالولايات المتحدة الأمريكية، وبعد عودة يوسف مناصرية حمل إلي رسالة ثمينة هي إجابة عن كل ما بثثته في رسالتي إلى شيخ المؤرخين، فقد غادر الدكتور سعد الله الجزائر بعيد الأحداث المؤلمة التي عرفتها خلال ما اصطلح هو على تسميتها بزمن الفتنة، وبالمناسبة مواقف سعد الله مما وقع للجزائر من 1992 إلى غاية المصالحة الوطنية واضحة كل الوضوح في "مسار قلم الجزء السادس" ولا يخفي موقفه مما يقع للبلاد وهو في أمريكا دون خوف أو مواربة، وصراحته ونزاهته وحرصه على الحق جلبت له المتاعب من السلطة السياسية العليا في الجزائر، وهذا موضوع طويل كتب فيه بعض أصفيائه.
وبعد ألم الغربة، عاد من جديد إلى محيطه العربي والإسلامي، حيث تعاقد مع جامعة آل البيت لمدة سبع سنوات كاملة حقق فيها المزيد من السمو الأخلاقي والتواضع، والمساهمة العلمية في الأردن، كما استقيناها من رفيقه المؤرخ ناصر الدين سعيدوني، وبعد عودته إلى الجزائر مباشرة، أقام لنا وليمة وجلسة شاي رائعة حضرها من السادة العبد الضعيف محمد الأمين بلغيث كاتب هذه الوقفات، والأستاذ مسعود كواتي، الأستاذ المغفور له بإذن الله إبراهيم مياسي والأستاذ مديني بشير وربما الأستاذ سيدي موسى محمد الشريف، والدكتور أحمد حمدي، المدير الثاني للمركز الوطني للدراسات والبحث في تاريخ الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954م. فكان الجو رائعًا بفرحتنا بعودة شيخ المؤرخين الجزائريين، وهنا يبدأ الموقف الخامس مع المؤرخ النزيه، فبعد أن أكلنا وشربنا، وتبادلنا الحديث، حدثناه عن التاريخ والمنهج، فأخذ الكلمة وقال إذا كان لي أن أنصحكم هو الكتابة بموضوعية، بعيدًا عن الانتصار للنفس والخطب السياسية العاطفية كجيل الحركة الوطنية، وكنت قد أعددت هدية لأستاذي ردًا على ما طلب مني في رسالته الموجودة أعلاه، فقلت له أنا شخصيا حينما أحس بأنني بدأت أحب الحياة العصرية، والتبرجز من البورجوازية أو أنسى فرنسا، أم الشرور كلها، أفتح خزانتي فأبدأ في قراءة متون الدكتور سعد الله، خاصة الجزء الرابع من أبحاث وآراء، وأستثني من كتبه القسم الخاص بالدكتوراه باللغة الفرنسية، فإنني حينما أقرأ الحركة الوطنية أحس بالنار تحرق فؤادي، وبصورة أخص قلت له حينما أقرأ دراستكم المترجمة عن آداب الأقدام السوداء وبطلهم الكاريكاتوري كاقايوس، نظرًا للطريقة التي تصورون بها فرنسا الاستعمارية وما فعلت بأسلافنا، ثم قلت له هذا هو ما طلبت مني منذ مدة قليلة في رسالتكم التي جاء بها مناصرية فقلت له: هذه دراسة هادئة كما طلبت منا وقدمت له بحثًا متكاملا مستفيضًا عن الحركة السنوسية وهي عبارة عن دراسة وترجمة لوثيقة أصلية حول مراقبة الطرق الصوفية والحركة السنوسية في الجزائر تحديدًا وأما الثانية، فهي ما طلبت مني في رسالتكم الأخيرة من الأردن حول النص العربي لفتوى قورارة الشهيرة المؤرخة بتاريخ 22 جوان 1893م. ثم طلب في نهاية الحديث من الدكتور حمدي العنوان الإلكتروني للمركز، فقال له بفرنسية سين أش، نون وأخيرًا ختمها بشعار الجزائر العالمي، نقطة "دز" DZ فقال له شيخ المؤرخين بدعابة عفوية. "هاذيك دز معاهم كلنا نعرفوها". وغادرنا المجلس الطيب لشيخ المؤرخين وهي ثالث مرة على ما أذكر أدخل بيته بحي"les asphodèles" ليزاسفودال ببن عكنون بالجزائر العاصمة.
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/191428.html
Abdellah M
2014-01-29, 15:31
الكاتب:
محمد الأمين بلغيث
مواقف إنسانية عشتها مع العلامة أبو القاسم سعد الله (2)
الموقف السادس: قصة تحلية المؤرخ أبو القاسم سعد الله بشيخ المؤرخين الجزائريين يعود الفضل إلى زميلي محمد رحاي من جامعة سكيكدة الذي يحضر أطروحة دكتوراه بإشراف الأستاذ عبد الكريم بوصفصاف، ومن ضمن محاور أطروحته سعد الله، فقال لي يوم التقيته بسكيكدة: لماذا لا تكتب مواقفك الشخصية مع الدكتور سعد الله شيخ المؤرخين الجزائريين، لأنني أحتاج العودة إلى الجانب الإنساني في حياة سعد الله، فقلت له: لمن أراد أن يعرف أدق تفاصيل حياة سعد الله الباحث والشاعر والإنسان والوطني الصادق فعليه أن يقرأ "موسوعة لسان قلم" التي تشرف الآن على صدور الجزء السابع منها، ثم التقيت الباحث العصامي الأستاذ لحسن بن علجية في المعرض الوطني للكتاب يوم تكريم الشيخ محمد الصالح الصديق، فقال لي: هل تذكر إنك الوحيد الذي استمع إليه وهو يقرن تحلية اسم سعد الله بشيخ المؤرخين الجزائريين، ثم سألت أصحابي، مسعود كواتي، بشير مديني، فأكدوا لي هذه النسبة، والحقيقة التي لا أنساها أنني كنت أسمع منذ عام 1980 الأستاذ الدكتور موسى لقبال رحمه الله إذا حدثنا عن تونس يقول وجاء في خلاصة تاريخ تونس لأستاذ الجيل حسن حسني عبد الوهاب، يرددها بحنية خالصة، رغم تحفظي من شخصية أستاذ الجيل هذا وهو قامة عالية في الدراسات التاريخية في الإذاعة التونسية، وغيرها من المؤسسات.
ومنذ ذلك الزمن، وأنا في ذهني مكانة روحية عالية للدور الذي يقوم به المؤرخ النزيه سعد الله فبدأت تحليته بهذه الصفة بداية من 1997م، ولم تجد الكلمة صداها بشكل كبير إلا أثناء رحيله عن هذه الدنيا الفانية، وأول نص مكتوب فيه ارتباط اسم المؤرخ النزيه بتحلية شيخ المؤرخين تعود إلى كتابي "تاريخ الجزائر المعاصر"، الذي طبع عام 2001م بدار البلاغ الجزائرية، ودار ابن كثير البيروتية، ومقدمة الكتاب الأولى مؤرخة في الجزائر، يوم الجمعة 17 رمضان 1421هـ/ الموافق لـ 13 ديسمبر 2000م. ثم أهديت كتابي حول المؤرخ محمد بن عمر العدواني كما يلي إلى شيخ المؤرخين الدكتور أبو القاسم "سعد الله أٌهدي هذا الكتاب المتواضع" وطبع الكتاب في مارس 2002م/ 1423هـ، كما ظهر الإهداء في الطبعة الجديدة من كتابي الشيخ محمد بن عمر العدواني مؤرخ سوف والطريقة الشابية، ووقع تغيير بسيط في الإهداء وهو: إلى شيخ المؤرخين أبو القاسم سعد الله أٌهدي هذا الكتاب عربون تواصل بين جيلكم المؤسس وجيلنا الطموح للسير على الدرب السليم"، طبع الكتاب طبعة راقية بدار كتاب الغد بجيجل لصاحبها الفاضل محمود ميراجي، كما ظهرت التحلية في دراستي في الكتاب التكريمي الذي أصدره مخبر الدراسات التاريخية والفلسفية، ولم أجد من حلاه بهذه التحلية، والله شاهد على ما أقول، وسعد الله أهل لكل خير لأنه من بنى للجزائر هذه الأهرامات الخالدة، تاريخ الجزائر الثقافي، تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية،أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، وعشرات الكتب المحققة والمترجمة إضافة إلى إبداعاته منذ بدأ يكتب القصيدة الحرة بتونس عام 1947م. هذا التحلية مع وصف فرنسا [بمغول القرن التاسع عشر والقرن العشرين] لصيقة بي في أعمالي وحصصي الإذاعية، ولن أتركها حتى ألقى الله سبحانه وتعالى وأنا أقول أن المواطن رقم واحد في هذه البلاد من أيام إنسان تيغنيف، أي من عشرة آلاف سنة قبل الميلاد إلى إنسان الطاسيلي وجدتهم الخرافية تينهينان إلى اليوم، هو المواطن المؤرخ النزيه الذي حبب لنا الجزائر وكره لنا العودة إلى الجاهلية، مهما كان زخرفها هو مؤرخ الأجيال كما قال صديقي المرحوم إبراهيم مياسي وشيخ المؤرخين، وقدوة الباحثين الدكتور أبو القاسم سعد الله رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه، وجعل قبره روضة من رياض الجنة امتدادها على امتداد بصره يوم كان شابًّا يافعًا.
الموقف السابع: في ملتقى مؤرخ سوف مانعة الهارب الشيخ محمد بن عمر العدواني
يعود هذا الموقف إلى عام 1999م، فقد ذهبنا كعادتنا في عطلة الشتاء إلى بلدة الزقم ببلدية حساني عبد الكريم بوادي سوف، وكنت إلى جانب الدكتور إبراهيم لونيسي فحدثني عن رسائله إلى شيخ المؤرخين إلى الأردن، وأنه قد وصلته في هذا الأسبوع رسالة هامة فكان يحدثني بشوق كيف كان ينقل للدكتور وهو في غربته بأمريكا أو الأردن أخبار الجزائر في رسائل خطية، وفعلا أشار الدكتور سعد الله إلى جانب من هذه الرسائل مرة بالإشارة، ومرات أخرى بذكر أصحابها كنا نتذكر شيخ المؤرخين، ثم ذهبنا إلى رمال قمار وجربنا صعود هذا الجبال الكبيرة من الرمال الناعمة فقال لي لونيسي، هنا كان يلعب سعد الله في أيام طفولته وشبابه، ثم قال سأذكر شيئًا للدكتور عن زيارتنا هذه إلى قمار وسأذكر له تحديدًا من كان معي في لعبة الصعود والهبوط في تلال ورمال قمار الناعمة. ثم اقترح علينا الأستاذ مسعود كواتي والأستاذ مديني بشير زيارة قمار، بلدة شيخ المؤرخين وآل سعد الله، الأول لزيارة شقيقته، والثاني ليلقي نظرة على أهله وخاصة خاله أستاذ الفلسفة الذي نعرفه جمعًيا من كثرة زيارتنا إلى قمار، وفي أحيان أخرى كنا نزور الأستاذ الفاضل الذي حببه لنا الدكتور سعد الله خِلَّهٌ الوفي الشاعر الأديب الموسوعي محمد الطاهر التليلي، لقد كان يقرأ لنا بعض أعماله، كما كان يستشيره في كثير من غرائب المصطلحات وأسماء أعلام وهو يحقق تاريخ الشيخ محمد بن عمر العدواني، ثم عدنا إلى ديارنا بعد هذا الملتقى الخاص بالشيخ محمد بن عمر العدواني، وبالمناسبة فشيخ المؤرخين لا يحبذ هذه المشاركات الإخوانية.
الموقف الثامن: سعد الله الإنسان.. وقصة إرسال نسخة من أطروحتي للدكتوراه إلى تلمسان
يعود هذا الموقف إلى شهر ديسمبر 2002م، حينما جئت إلى المركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954م ، لأقدم النسخة النهائية من أطروحة الدكتوراه إلى الأستاذ الدكتور عبد المجيد بوجلة ليحملها إلى تلمسان ومن هناك إلى أستاذي الخلوق الفاضل عبد الحميد حاجيات، ولما اقترب شيخ المؤرخين مني ليسلم علي في مكتب الكاتبات بالمركز الوطني للدراسات والبحث في تاريخ الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954م، سقط المجلد الأول فقال سعد الله رحمه الله، "فلما رأته حسبته لجّة وكشفت عن ساقيها".
ثم قام الشيخ المتواضع برفع الجزء الذي سقط أرضًا وطلب ورقًا من الكاتبة، ثم ساعدني في لفه وتسليمه إلى الأستاذ بوجلة، فحمل المجلدين معه إلى تلمسان.
الموقف التاسع: أبو القاسم سعد الله.. القارئ الأبدي
لَبِّينَا دعوة مخبر الدراسات التاريخية والفلسفية بجامعة منتوري، بقسنطينة من أجل المشاركة في أعمال الندوة التكريمية التي أقامها المخبر للدكتور سعد الله، تحت عنوان هام "الأعمال التاريخية والأدبية والفكرية للدكتور أبي القاسم سعد الله في ميزان الباحثين الجامعيين يومي 12 و13 يناير/جانفي 2004م"، وبالمناسبة وحتى لا تفوت الفرصة فندونها، بعد أن كانت تتداولها الألسن شفويا، أن طلبة سعد الله الذين حضروا الندوة هم، الأول طالبه وصفيه الدكتور إبراهيم لونيسي، وطالبه الأول من أيام الدفعة الأولى للماجستير رغم أنه لم يشرف على أعماله هو العبد الضعيف [محمد الأمين بلغيث]، وفي اليوم الثاني أعتقد أنه اليوم الموعود لأقدم مداخلتي الموسومة بـ"أبو القاسم سعد الله محقق التراث الجزائري، عيِّنَة من التراث الجزائري" وفي حضرة المحتفى به، نهضت باكرًا كعادتي هيأت نفسي، أديت صلاتي، وكانت الساعة السادسة والنصف صباحًا قلت في نفسي هذا موعد الإفطار قد بدأ في نزل بانوراميك بقسنطينة، فنزلت الهوينى، فوجدت شخصًا واحدًا منعزلا يتناول إفطاره، فإذا به شيخ المؤرخين الدكتور أبو القاسم سعد الله فألقيت عليه تحية الإسلام، واستأذنته في مشاركته هذه الطاولة فرحب بي، وجلسنا مدة طويلة، تحدثنا فيها عن عديد القضايا، ثم نهضنا، ونحن في طريقنا إلى غرفنا بالنزل، قلت له بالمناسبة يا أستاذ نكمل حديثنا في غرفتكم، قال لي لا يا سي بلغيث أنا ذاهب لأقرأ، فقلت له على سبيل النكتة وبدارجة جزائرية، نعم صحيح أنت تعرف أنني ختمت القراية[إشارة إلى مناقشتي للدكتوراه في شهر ماي 2003م]، أما أنت فلا تزال صغيرًا أقرأ على روحك؟ فتبسم وشدني من يدي وقال تعالى انظر إلى الطبعة المفاجئة التي وصلتني من دار الغرب الإسلامي لمجلة البصائر، فجلسنا مدة وتركته يلملم أشياءه في انتظار موعد السيارات التي ستنقلنا إلى قاعة المحاضرات.
الموقف العاشر: ملتقى عقبة بن نافع رضي الله عنه
حضرنا الملتقى الوطني الخامس [بسكرة عبر العصور]، أيام 11، 12، 13 ديسمبر 2006م، بالمركب الإسلامي بسيدي عقبة، وكان الدكتور شيخ المؤرخين من الحضور البارزين، وكانت اللجنة العلمية للملتقى قد أجمعت على تكريم الدكتور موسى لقبال رحمه الله، وكان الحضور من مختلف البلدان العربية من لبنان والمملكة العربية السعودية وتونس وليبيا، والجزائر طبعًا، ويبدو أن مستوى الملتقى لم يرق للأستاذ سعد الله، وهو ما عبر عنه صراحة في كلمته، وللأمانة أنا من أشرف على الجلسة الختامية للملتقى، وحدث أن وقع تغيير في التكريمات فبدلاً من تكريم الدكتور لقبال، برمجوا تكريمًا حافلاً للأستاذ سعد الله، فكان شيخ المؤرخين يجهل أسباب توتر الدكتور موسى لقبال، وطلب مني أعضاء الجمعية الخلدونية أن أتوسط لدى شيخ المؤرخين ليقول كلمة بالمناسبة، مناسبة التكريم، وبمناسبة اختتام الملتقى، الخاص بعقبة بن نافع رضي الله عنه.
قبل شيخ المؤرخين الأمر مكرهًا لحساسية الموضوع، وكلمته كلها واضحة في أنه لم يرض عن المداخلات التي قدمت في هذه الجلسة تمامًا، لكن للأمانة حضر شيخ المؤرخين الجلسة المسائية التي تداول على منصتها مجموعة من الباحثين ورأينا تململا من الدكتور سعد الله، [وقد ذكر لي أحدهم تبرم شيخ المؤرخين من جل المداخلات إلا مداخلتي أنا العبد الضعيف ومداخلة الدكتور مراد اليعقوبي التونسي، وقال كلامًا لا أعرف أن المؤرخ الخلوق يصدر منه]، والحقيقة للتاريخ أن شيخ المؤرخين يتعالى عن هذه المصطلحات، وقد أوردت هذا الموقف من شخصية كبيرة لا أملك إلا أن أصدقها ولكن ليس بهذه اللغة..
والحقيقة فعلا أن الأستاذ مراد اليعقوبي التونسي باحث متمكن من تخصصه، وباللغتين الفرنسية والعربية، تمكن من شد الحضور، بعربيته الجميلة، رغم أنه تخرج من السوربون، وناقش دكتوراه الدولة حول التاريخ الحربي لعصر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أما العبد الضعيف فقد قدمت مقاربة مقبولة حول شخصية كسيلة بن لزم الذي قاتل عقبة وقتل أصحابه في المعركة الشهيرة التي أدت إلى استشهاد من كان مع عقبة من الصحابة والتابعين ومن بينهم أبي المهاجر دينار.
الموقف الحادي عشر: اللقاء الخالد وصراحة شيخ المؤرخين الجزائريين
كنت على موعد يوم السبت 8 ديسمبر 2012م، مع الأستاذ بشير مديني، لما التقينا صعدنا إلى قسم التاريخ، ودخلنا مصلحة البحث العلمي فوجدنا شيخ المؤرخين مع طالبة من طلابه يقرأ ويصحح مذكرتها، لما دخلنا ترك ما كان يقرأ ورحب بنا ثم سألناه عن صحته فقال الحمد لله، وكان يبدو عليه الجهد والتعب وثقل السنوات، ثم مازحته أنا فقلت يا أستاذ أتممنا الجزء السادس من مسار قلم، ولم نجد أسماءنا، فقال مباشرة واقترب مني "هل تعرف يا سي بلغيث أن واحدًا من أبناء إخوتي قرأ أحد كتبي وحضر فهارسه، لما طبع الكتاب لم يجد اسمه مع الذين ذكرتهم في الكتاب أعرض عني غاضبًا إلى اليوم... وأخذنا صورة تذكارية مع شيخ المؤرخين سوف تكون ملحقة في ألبوم الصور والمستندات بإذن الله.
الموقف الثاني عشر: شيخ المؤرخين يودع الدنيا الفانية بالمستشفى العسكري
لا أنسى هذا الموقف، وأعلم قارئ هذه المواقف أنني لم ألتق بشيخ المؤرخين منذ يوم السبت 8 ديسمبر 2012م إلا عبر الهاتف، وكنت مع الدكتور محمد العربي معريش أول من رأى جثمانه الطاهر بعد أقرب المقربين له من أسرته، فقد دخلنا عليه بغرفة الانعاش، فنزعنا عنه الغطاء وقبله معريش أولا، ثم قبلته ثانيا ودعونا له المولى سبحانه وتعالى أن يتقبله في الصالحين، ثم أخذوه من جناح الانعاش إلى مصلحة حفظ الجثث وبقي هنالك إلى غاية إتمام الإجراءات الإدارية التي قام بها ابنه الوحيد أحمد في بلدية القبة، ثم سبقتنا سيارة الإسعاف إلى بيته دار الأردن، وهناك ألقى عليه أحبابه والمعزون النظرة الأخيرة وترحموا على روحه، وكان هذا آخر موقف مع شيخ المؤرخين رحمه الله، إذ هاتفني محمد العربي معريش صباحًا في حدود الثامنة والنصف من يوم السبت 14 ديسمبر 2013م، فقال لي عظم الله أجركم في شيخنا الدكتور سعد الله، فأخذت سيارتي رأسًا من بيتي إلى المستشفى العسكري بعين النعجة ولم أجد صعوبة هذه المرة في الولوج إلى المستشفى، وانتظرت طويلا ، أو هكذا بدى لي مجيئ الدكتور محمد العربي معريش، ثم دخلنا بهو جناح الانعاش، فوجدنا أم أحمد، وواحد من أبناء أخيه وواحد فقط من إخوته، وسألناهم عن مكان دفنه فطلبوا منا الانتظار، ثم أخبرونا بعد ذلك أنه سينقل إلى ڤمار ليدفن هناك بوصية منه، وطلب أن يترك بسلام دون أن تتدخل أي مؤسسة في دفنه.
وشهادة للتاريخ، فقد كان لنا الدكتور إبراهيم حمادة نعم المساعد، فقد عرفته قبل أن يكون طبيبًا ماهرًا وصاحب خلق كريم، فهو على درجة عالمية في معارفه التاريخية، وقال لي ونحن ننتظر خروج سيارة الاسعاف وحملها نعش الفقيد العزيز إلى أهله بدار الأردن بضاحية دالي إبراهيم بالجزائر العاصمة، قال لي كنت هذه المدة الأخيرة أشرف على صحة شيخ المؤرخين سعد الله وأستمع لك وأنت تتكلم بعاطفة جياشة عن رائد المدرسة التاريخية الأكاديمية في القناة الثقافية وفي برنامج |التاريخ يسجل". فشكرته على إنسانيته وعلاقته الطيبة بأحمد نجل الدكتور سعد الله في هذه الفترة العصيبة.
سلام عليك يا شيخ المؤرخين في الخالدين وطيب الله ثراك فقد كنت نعم الرائد لأمته في حرصك على تنوير الذاكرة الجزائرية، وتنبيه الأهل وسادة البلد إلى ما يٌدار من وراء البحر من أجل تسفيه وطمس أعمال الصالحين من العلماء والمجاهدين العاملين من أبناء هذا الشعب المعوان على الخير.
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/191524.html
Abdellah M
2014-02-02, 12:55
رحمه الله رحمة واسعة
رحم الله شيخنا ومؤرخنا واسكنه فسيح جناته
شكراً على مرورك أخي الكريم
وُلد الدكتور أبو القاسم سعد الله العام 1930 بضواحي قمار بولاية الوادي، وهو باحث ومؤرخ، حفظ القرآن الكريم وتلقى مبادئ العلوم من لغة وفقه ودين، وهو من رجالات الفكر البارزين ومن أعلام الإصلاح الاجتماعي والديني.
له سجل علمي حافل بالإنجازات: من وظائف، ومؤلفات، وترجمات.
درس بجامع الزيتونة بتونس من 1947 حتى 1954 واحتل المرتبة الثانية في دفعته.
بدأ يكتب في صحيفة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1954، وكان يطلق عليه "الناقد الصغير"، كما درس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في القاهرة، وحاز على شهادة الماجستير في التاريخ والعلوم السياسية سنة 1962، ثم انتقل إلى أمريكا سنة 1962، حيث درس في جامعة منيسوتا التي حصل منها على شهادة الدكتوراة في التاريخ الحديث والمعاصر باللغة الإنجليزية سنة 1965.
إضافة إلى اللغة العربية، يتقن الراحل اللغة الفرنسية والإنجليزية كما درس الفارسية والألمانية.
ومن أشهر مؤلفاته:
المؤلفات:
موسوعة: تاريخ الجزائر الثقافي (9 مجلدات)، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1998.
أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر (5 أجزاء)،دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1993-1996-2004.
الحركة الوطنية الجزائرية (4 أجزاء)، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1969-1992-1997.
محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث (بداية الاحتلال)، ط1، مصر، 1970، ط3، الجزائر، 1982.
بحوث في التاريخ العربي الإسلامي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 2003.
الزمن الأخضر، ديوان سعد الله، الجزائر، 1985.
سعفة خضراء، المؤسسة الوطنية، الجزائر، 1986.
دراسات في الأدب الجزائري الحديث, دار الآداب، بيروت، 1966.
تجارب في الأدب والرحلة، المؤسسة الوطنية، الجزائر، 1982.
منطلقات فكرية، ط2، الدار العربية للكتاب، تونس ـ ليبيا، 1982.
أفكار جامحة، الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1988.
قضايا شائكة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1989.
في الجدل الثقافي، دار المعارف، تونس، 1993.
هموم حضارية، دار الأمة، الجزائر، 1993.
التحقيق:
حكاية العشاق في الحب والاشتياق، الأمير مصطفى بن إبراهيم باشا، الجزائر، 1982.
رحلة ابن حمادوش الجزائري، عبد الرزاق بن حمادوش الجزائري، الجزائر، 1982.
منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية، عبد الكريم الفكون، عمار، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1987.
مختارات من الشعر العربي، جمع المفتي أحمد بن عمار، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2 ،1991.
تاريخ العدواني، محمد بن عمر العدواني، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1996.
رسالة الغريب إلى الحبيب، تأليف أحمد بن أبي عصيدة البجائي، دار الغرب الإسلامي، 1991.
أعيان من المشارقة والمغاربة (تاريخ عبد الحميد بك)، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 2000.
الترجمة:
شعوب وقوميات، الجزائر، 1958
الجزائر وأوروبا، جون ب. وولف، الجزائر، 1986
حياة الأمير عبد القادر، شارل هنري تشرشل، الجزائر-تونس، 1982
الوظائف العلمية والإدارية،
أستاذ التاريخ، جامعة آل البيت الأردن، 1996 – 2002م.
أستاذ التاريخ، جامعة الجزائر منذ 1971م.
أستاذ مشارك في التاريخ، جامعة الجزائر 1967 – 1971م.
أستاذ مساعد في التاريخ، جامعة ويسكنسن، أوكلير (أمريكا) 1960 – 1976م.
وكيل كلية الآداب، جامعة الجزائر، 1968 – 1972م.
رئيس قسم التاريخ، كلية الآداب، جامعة الجزائر 1969 – 1971م.
توفي، السبت14/12/2013 ، شيخ المؤرخين الجزائريين الدكتور أبو القاسم سعد الله بمستشفى عين النعجة العسكري بالعاصمة عن 86 سنة بعد معاناة من المرض.
Abdellah M
2014-02-03, 09:27
رحم الله شيخنا ومؤرخنا واسكنه فسيح جناته
باراك الله فيك أخي الكريم برنوس
وجزاك الله خيراً
Abdellah M
2014-02-03, 09:32
الكاتب:
عبد الكريم عوفي
هيرودوت الجزائر يرحل وتبقى موسوعاته التاريخية والثقافية تنتظر الباحثين
كتب كثير من الزملاء العلماء وطلاب العلم عن العلامة الراحل، أستاذ الأجيال وشيخ المؤرخين الجزائريين (أبو القاسم سعد الله) "هيرودوت الجزائر". كتبوا عن مآثره وقدموا شهاداتهم. والحقيقة إنه مهما كتبنا وتحدثنا عنه فإننا لن نعطي الرجل حقه، لأن ما كتبه عن الحركة الوطنية والثقافة الجزائرية وأعلامهما بمختلف أطيافها كثير وكثير جدا. وعزاؤنا الوحيد أن نتضرع إلى الله- سبحانه وتعالى- أن يجزيه عنا وعن العلم خيرا كثيرا، وأن يسكنه فسيح جنانه، وأن ينزله منزلة عباده الصالحين.
سأل الكاتب الصحفي مراد وزناجي المرحوم عن عدد من الأعلام الجغرافية التي احتضنت مسيرته الفكرية فأجابه: "قمار مطلع الفجر، ووادي سوف واحتي الوارفة، والزيتونة مهد العلم والأدب، ودار العلوم بيت سدنة اللغة العربية والدراسات الإسلامية الرصينة، وبن عكنون جنتي بعد عذاب الغربة... ومنيسوتا نقطة التقاء حضارتين عندي (حضارتنا وحضارتهم)، وآل البيت تجربة الجمع بين تراث الشرق ومنهج الغرب...". بهذه المفاتيح اللسانية لخص الدكتور أبو القاسم سعد الله سيرته العلمية العطرة. إنه صاحب أكبر موسوعة ثقافية جزائرية "تاريخ الجزائر الثقافي"، وأحد الأعلام الذين شكلوا على مر السنين الثقافة الوطنية المتميزة، كابن الفكون، وابن قنفذ، وأبي رأس المعسكري، وابن باديس، واطفيش، وابن أبي شنب، والإبراهيمي، ومالك بن نبي، ومفدي زكرياء، ومحمد العيد، وغيرهم كثير، ممن تُعطر سيرتهم كتب التراجم والفهارس والطبقات.
لا يخفى على المثقف النزيه والطالب النجيب أن أبا القاسم سعد الله قامة سامقة من قامات العلم، فهو العالم الموسوعي؛ المؤرخ، والمحقق، والرحالة، والأديب، والصحفي، والمترجم، والمصلح الاجتماعي، والمربي، لقد أثرى المكتبة الوطنية والعربية، بل العالمية بعشرات من الكتب، ولا سيما المطولة منها، وألف عقولا عبر مسيرته التعليمية في الجامعة الجزائرية وفي عدد من الجامعات خارج الجزائر، إذْ كوَّن أجيالا من الباحثين كان لهم الأثر الطيب على الحركة العلمية والفكرية.
تعود صلتي بالرجل إلى أيام الطلب العلمي في الجامعة عندما قرأت بعض كتبه (محمد العيد آل خليفة، والشاذلي القسنطيني، وابن العنابي وابن حمادوش ومنشور الهداية وابن الفكون، وبعض كتبه التاريخية). وقد قويت هذه الصلة عندما حضرت له بعض الندوات والملتقيات الفكرية، ولما بدأت في العناية بالتراث الجزائري المخطوط عام 1982م، تأكدت أن خير من يشد عضدي في هذا الحقل المعرفي هو الشيخ أبو القاسم سعدالله، لأنه أكثر من غيره معرفة بكنوز التراث المخطوط في الجزائر وفي خارجها. فكان تاريخ الجزائر الثقافي مرآة عاكسة لما أنشُده، وكانت البداية مع جزئيه الأول والثاني قبل أن تلحق الأجزاء الأخرى تباعا- وكنت على معرفة منه بمراحل إنجازها-، بل أفدت منه الكثير قبل أن يخرجها مطبوعة، إذ كنت أفزع إليه كلما أشكل علي أمر. بيني وبينه مراسلات عديدة بشأن المخطوطات في الجزائر. لقد كان الرجل متواضعا سخيا في المعلومات العلمية والتوجيهات والنصائح، رغم بعده ومعاناته وكبر سنه.
لقد خدم الدكتور أبو القاسم سعد الله المجتمع الجزائري خدمة تاريخية وثقافية وأدبية ولغوية وتربوية وسياسية واجتماعية ونقدية، خدمة لا نجدها عند غيره من أعلام الفكر الجزائري؛ قديما وحديثا، فآثاره الخالدة التي تزيد على ثلاثين مجلدا، غير المقالات والأبحاث المتناثرة في المجلات والجرائد الوطنية والعربية والأجنبية شاهدة على سيرته العلمية العطرة وعلى المكانة المرموقة التي ارتقى إليها.
ترك الدكتور سعد الله بصمة قوية بأعماله المتميزة، فهو عالم لا يُشق له غبار في منهج كتابة التاريخ وخدمة التراث والتعامل معه. إنه صاحب تجربة طويلة، أفنى عمره في البحث والتنقيب مُرتحلا إلى جهات مختلفة في أنحاء العالم. ولا نجانب الحقيقة إذا قلنا: إن الرجل صاحب مدرسة متميزة كوَّن رعيلا من الباحثين في مجال العلوم الإنسانية، كالتاريخ والآداب والرحلات والاجتماعيات وغيرها.
ولتميز كتابه "تاريخ الجزائر الثقافي"، الذي صدر في تسعة أجزاء عن دار الغرب الإسلامي، عام 1998م، ثم أعيد نشره في الدار نفسها بعد أن أضاف إليه جزءا عاشرا، وكان يحبذ تسميته بـ (الموسوعة الثقافية الجزائرية)، لأن ما تضمنه من مواد واسعة ونادرة يتطلب هذه التسمية، لكن الكتاب عُرف في طبعتيه الأولى والثانية (جزآن) بالاسم المذكور فأبقى عليه كما هو. قلت: ولتميزه أحببت أن أخصه بالذكر هنا وفاء لجهوده النادرة.
فالكتاب اعتنى فيه بالآثار الفكرية والمادية التي أنتجها العلماء الجزائريون في شتى فنون المعرفة الإنسانية، كالفقه، والأصول، والتوحيد، والفرائض، والنوازل، والقرآن وقراءاته، والتفسير، والحديث النبوي الشريف، والإجازات، وعلم الكلام، والتصوف، والمنطق، واللغة، والنحو، والصرف، والمعاجم، والأدب، والشعر، والقصة، والمسرح، والأمثال، والتاريخ، والتراجم، والسير، والأنساب، والأثبات، والرحلات، والطب، والسحر والخرافة، والتنجيم، والفلك، والزراعة، والاجتماع، والسياسة، والفلسفة، والقضاء، والرياضيات، والجغرافيا، والكيمياء، والفنون الأخرى، كالموسيقى، والرسم، والنحت، والمنمنمات، وغير ذلك مما يتعلق بالآثار المادية، والمؤسسات، والمكتبات، والمساجد، والزوايا، والقصور.
أكد الدكتور أبو القاسم سعد الله أن ما جاء في الموسوعة من معارف ومواد لم يأت بسهولة، إذ رجع فيه إلى مئات من المصادر والمراجع، والوثائق، والمخطوطات، والآثار، والوسائل المادية؛ في مكتبات، ومتاحف، وخزانات، وزوايا، وأقبية، ومراكز بحث في شتى أنحاء الجزائر، وفي خارجها؛ في كبريات الجامعات، والمراكز البحثية، والمتاحف، شرقا وغربا، وما أفاده من الأرشيف الفرنسي كان غزيرا، إذا إن الكثير من أوجه النشاط الثقافي والفكري في العهدين العثماني والفرنسي مُستمد من كتابات الفرنسيين. وقد أشار الأستاذ أيضا في أكثر من موضع إلى أن المتعامل مع المصادر والوثائق ينبغي أن يكون حذرا، وألا يقبل كل ما يُقال، بل على الباحث أن يعمل فكره ويرجح ما هو أقرب إلى الحقيقة.
إن المادة التي جمعها شيخنا في هذه الموسوعة من خلال رحلاته مع المصادر والمراجع التي وقف عليها في الجامعات ومراكز البحث على اختلاف اهتماماتها، تقدم خدمة جليلة لخَدَمة التراث الجزائري المخطوط والمطبوع؛ الذي أنتجه علماؤنا عبر الأعصر المختلفة، ولم ير بعضه النور بعد. هذه المادة الخام بحاجة إلى دراسة وتحليل واستقراء ونقد، لاستخراج الدرر منها، ووضعها في متناول أبناء المجتمع للاستفادة منها، كل في مجاله، ولا أجانب الصواب إذا قلت: إن خير ما يربط البحث العلمي في جامعاتنا ومراكزنا البحثية بالتنمية الوطنية هو أن نولي وجهة نظرنا نحو هذا الكنز الذي وضعه بين أيدينا الدكتور الشيخ، وهو عربون وفاء للرجل.
ومن الإنصاف والعدل أن نؤكد حقيقة مرة عاشها "هيرودوتس" الجزائر في مسيرته العلمية تعاورتها أطراف متعددة، لقد نُكب الرجل في إحدى سفرياته فضاعت محفظته وفقد أوراقه وجذاذاته ومصادره ومراجعه ومصوراته، وكل ما يتعلق بيومياته مما دونه عن رحلاته ومشاهداته وانطباعته في السنوات (1984/1988م)، ولكن إخلاصه النية في إتمام مشروعه العلمي الكبير جعله يقلع مرة أخرى مستعينا بالله ليستدرك ما ضاع منه. فهذا عامل اخترق حلقة من حلقات بحثه أثر فيه كثيرا، لكن العامل الأخطر هو تنكر أبناء وطنه لجهوده (1) (أعني بعض من كان بيدهم سلطة القرار من مسؤولين؛ صغارا أم كبارا). فقد حدثني في مراسلات كثيرة عن هذا الجانب، وأستأذن القراء في اقتطاف بعض الفقرات من رسالة بعثها إلي بعد أن قرأ العرض الذي قدمته حول (تاريخ الجزائر الثقافي) (2). قال: "الأخ الدكتور عبد الكريم عوفي، تحية طيبة، وبعد اطلعت على ما دبجه قلمك الرصين لعرض كتاب تاريخ الجزائر الثقافي. لقد سرني تقديمك له لأنك من أبرز المدركين لرسالته الفاهمين لمراميه. وللحقيقة أقول إنني أستغرب من نفسي عندما أتأمل ما ضمنته من مصادر ومعارف وآراء.. كيف استطعت أن أكتب وحدي عملا مثله في وقت كنت فيه في حاجة ماسة إلى توفير الحد الأدنى للعيش مع عائلتي في بلاد الغربة، ولكن يومياتي ستفصل كيف كنت أصارع من أجل لقمة العيش بينما أكتب التاريخ الثقافي فصلا فصلا تحت وطأة الألم والمعاناة والقلق والخوف من المستقبل.
أحب أن أشير إلى أن الكتاب أصبح في عشرة مجلدات، فقد وفقني الله إلى البلوغ به سنة 1962. وأصبح المجلد الأخير من طبعته الأولى هو التاسع بينما أصبح ما كان تاسعا (الفهارس) هو العاشر. وقد طبعت المجلدات العشرة عدة طبعات عند الناشر (عالم المعرفة).
ومع ذلك فما يزال في التاريخ الثقافي كثير من الثغرات. وقد جمعت معلومات عديدة لكتابة استدراك له. وفي زيارات سريعة هذا العام إلى تندوف وأدرار والأغواط وغرداية اكتشفت كنوزا أخرى من تراثنا الثقافي، ولكن أنّى لمثلي أن يلم بكل ما اكتشفت بينما لم تعد صحتي تسمح لي بالوقوف الطويل ولا المشي البعيد ولا التركيز العميق ولا السفر الشاق.
ومن جهة أخرى تقدمت منذ خمس سنوات إلى مختلف الوزارات والمراكز المعنية بالبحث... أطلب منحة تفرغ مدة ستة أشهر في بلاد أجنبية لكي أرجع بالبحث في التاريخ الثقافي: من الفتح الإسلامي إلى فاتح العهد العثماني، فلم تستجب أية جهة، أليس هذا مما يسبب الإحباط واليأس؟
مرة أخرى أشكرك على المقالة الواعية العارضة لمحتوى الكتاب، واعدا القراء بمواصلة البحث ما دمت حيا. وفي نفس الوقت يسرني أن أخبرك أنه قد صدرت يومياتي (مسار قلم )، وهي تبلغ حتى الآن خمسة مجلدات، كما صدر لي كتب جديدة هي: حصاد الخريف، حاطب أوراق، على خطى المسلمين. والله المستعان... دالي براهيم 11 أكتوبر 2010م".
لله درك يا شيخ الشيوخ! كيف احتملت ما لقيت من عاديات الزمن؟ وكيف صبرت على المتنكرين لجهودك؟
قلت في ردي على الشيخ على الرسالة السابقة: "... السر يا شيخنا هو أن الله سبحانه وتعالى يعلم أنك أخلصت النية فأمدك بالقوة ويسَّر لك التوفيق، ولم يُيسِّره لغيرك ممن حاله أيسر، وينفقون أوقاتهم وأموالهم في الملاهي ووو... الحمد لله على نعمه.
أعلَم كثيرا عن المعاناة التي رافقتك في رحلة البحث العلمي في الداخل والخارج، هي ضريبة العالم، يحترق ليستضيء الآخرون، أبْشِر أستاذي فإن جزاءك عند الله كبير. النفوس الوفية كغيمة ماطرة، الكل يسعد بقدومها ويستبشر برؤيتها، وهكذا أنت يا شيخنا، أبا القاسم. جعلك الله سعيد الدارين، قرير العينين لا تشكوهما ولا حزنا ولا دينا". (3)
لا أظن أن أحدا من حملة العلم ومن العارفين بحركة التاريخ عبر الأزمنة المختلفة يخالفني إذا قلت: إن أبا القاسم سعد الله هو هيرودتس الجزائر، بل هو أعظم منه، لُقِّب هيروديتس الإغريقي بأبي التاريخ، لكونه أول من وضع الحجر الأساس في كتابة التاريخ بعد رحلاته الشهيرة إلى ليبيا ومصر وأكرانيا وصقلية، وسجل وقائع الحرب الفارسية اليونانية، وشخص عادات وتقاليد وتاريخ شعوب البحر المتوسط في كتابه (تاريخ هيرودتس)، ولم يراع فيما كتبه الدقة العلمية والموضوعية- كما يؤكد مؤرخو الغرب. واستحق أبو القاسم سعد الله أن يلقَّب بـ(شيخ المؤرخين). لقد كان في رحلاته الميدانية الطويلة؛ شرقا وغربا، وفي رحلاته الفكرية أكثر إحاطة وشمولية، ودقة في الطرح العلمي والموضوعية، ولنا تلقيبه بـ:(هيرودتس الجزائر) بفخر واعتزاز لما تميزت به كتاباته التاريخية والثقافية والأدبية والاجتماعية والسياسية من منهجية محكمة وبعد فكري في التناول والموضوعية.
رحم الله شيخنا وأسكنه فسيح جنانه، ووفق طلابه ومحبيه في استكمال مشروعه العلمي، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(*) دكتور بجامعة جامعة أم القرى بمكة المكرمة
هوامش:
(1) معروف عند العام والخاص أن أبا القاسم سعد الله أعرض عن المناصب والمسؤوليات، لأنه يدرك أنها تتعارض والتعاطي مع العلم.
(2) ينظر المقال في مجلة دراسات أدبية، العدد: الخامس، عام 2010م، التي تصدر عن مركز البصيرة في الجزائر العاصمة .
(3) مكة المكرمة في يوم الجمعة 3/1/1432هـ.
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/192220.html
Abdellah M
2014-02-03, 09:34
الكاتب:
لحسن بن علجية
أبو القاسم سعد الله... عُلُوٌّ فِي الحَيَاةِ وَفِي المَمَاتِ
إنْ قيلَ ماتَ فلم يمتْ مَنْ ذِكْرُهُ *** حيُّ على مَرِّ الليالِي باقِي
جمع الله سبحانه وتعالى في شيخنا أبي القاسم سعد الله ما تفرق في غيره من المحاسن الفاخرة والمناقب المتكاثرة، عُرِف رحمه الله بالاستقامة الخُلقية والصرامة العلمية والزهد في حطام الفانية، لم يعرف الكلل ولا الملل وما ضعف وما استكان، وكان من الصابرين.
تحمَّل مسؤولية وأمانة التأريخ الكامل والشامل لبلده الجزائر، بالرغم من عدم توفر كثير من الشروط التي ذكرها لمن يقوم بهذه المهمة الشاقة والصعبة، فلم تتوفر له المحفزات _ المادية والمعنوية _ ولم يتوفر له المناخ الحر، بل انعدم في كثير من المراحل التاريخية. كان سعد الله نتاج شعب يصنع التاريخ ولا يكتبه، والأدهى والأمر من ذلك أنه شعب لا يعترف لأي بطل في تاريخه، حتى أنه تميز بظاهرة غريبة انفرد بها عن بقية الشعوب وهي ظاهرة تحطيم الأبطال والرموز الذين صاروا غَرَضًا، كما لا حظ ذلك الشيخ سعد الله، فأمسى تاريخنا مهملا.
ولما توفر لسعد الله شرطان أساسيان وهما: بطولات وإنجازات شعبه، وثقافته العالية أيقن رحمه لله أن كتابة تاريخ شعبه أصبحت فرض عين يجب أداؤه على الفور لا التراخي، وأنَّ توقيتَ هذا الفرض ضروري لا اختيار ولا فسحة فيه .
كانت المهمة صعبة وشاقة وعظيمة - ولكن العظيم تصغر في عينه العظائم - تتطلب تضحيات كبيرة فمسارات وجوانب تاريخ الجزائر لا تحصى ولا تحصر ولا تستقصى، كتب رحمه عن فترة الإحتلال والمقاومات الشعبية والحركة الوطنية، والثورة الجزائرية، وفصل تاريخنا الثقافي الشامل من الفتح الإسلامي إلى القرن العشرين، في موسوعته العظيمة النادرة المفيدة الماتعة، واهتمَّ بتحقيق أعمال جزائرية رائعة . كان ميزانه العلمي صارما دقيقا، لا يَزِنُ بضاعة إلا إذا تميزت بالجِدِّية في المنهج، والجديد في الموضوع.
لم يبخس أحدا حقه ولم يجامل أو يتحامل على أحد، وكان يرى أن التاريخ لا يرحم الموتى الذين تنكروا وخانوا وطنهم وأمتهم، سواء كانوا زعماء أو أعيان أو مشايخ ......الخ.
وإذا كان من وَرَّخَ لمؤمن فكأنما أحياه، فما بالك بمن وَرَّخَ لأمة وأحيا تاريخها !!!
لم يكن ولاء الشيخ سعد الله إلا لدينه ولغته ووطنه، لم يقصد بما خَطَّ قلمه خدمة ملك أو أمير، ولم يرفع إنتاجه لسدة رئيس أو أعتاب وزير، ولم يرتمي ببضاعته إلا على أبواب فضل الله العلي القدير، رفض المناصب السامية، والجنسية الأمريكية، ونذر نفسه لخدمة العلم فاعتكف في محرابه، صائما عن زخرف الدنيا، قائما على كتابة تاريخ شعبه. كان رحمه الله مؤرخا حُرًا نزيها مُنزويا عن الشُّهرة، ناقما على صنف من المؤرخين وصفهم بأنهم يرضعون أثداء النظام ويمتصون أصابع الحكام، وما أكثرهم في العالم العربي.
لم يعجب البعض من قومنا منهج سعد الله العلمي المرتكز على دينه ولغته ووطنه، فهو نتاج مدرسة النجاح بقمار وشيخها محمد الطاهر التليلي ونتاج الحلقات العلمية بجامع الزيتونة ودار العلوم بالقاهرة، أرادوا منه أن يكون نتاج المدرسة الغربية ولم يكن ولاؤه لها بالرغم من دراسته بأمريكا، التي قصدها محصنا بصلابة دينه وعشقه للغته وحبه لوطنه.، وربما كان ذنبه أنه لم يتخرج من جامعة فرنسية، وحتى لو تخرج منها لكان كما كان، وبمناسبة ذكر فرنسا، ما أروع مقاله: (أتيناك طائعين يا باريس) جريدة الجديد: 15 / 12 / 2013م
لم أتشرف بالتتلمذ على أستاذ الجيل ومفخرة الجزائر، وتشرفت بمراسلات عديدة معه، اغلبها إجابات عن أسئلتي، وربما يأبى الجواب عن بعضها، فلا أراجِعُهُ هيبةً منه، كان يصف اعتكافه للبحث والتأليف ببيت الطاعة، وكنت كلما عثرت على وثيقة مهمة أو كتاب نادر يهمه أو إصدار هنا أو هناك عن تاريخ الجزائر أرسله له، كان رحمه الله يطلب مني معرفة ثمن الكتاب أو الكتب التي أرسلها له ليسدد ثمنها ويقول لي : لعلك تكلف نفسك ما لا تطيق، وأجيبه أن هذا دأبي مع زملائي من طلبة العلم ومشايخي، وأن إكرام أهل العلم مما أوصانا به سلفنا الصالح.
ومما قاله لي رحمه الله: (أن الرحلة أصبحت من طبعي، فلا إنتاج بدون تغيير البيئة ولا تغييرَ بدون رحيل ومشاهدةٍ وإضافة علم على علم) .
كان رحمه الله يقول: (إن أوقاتي معدودة بالدقائق !!! ) .
كان يقول: (أخافُ أن تنطفئ الشمعة قبل أن أكملَ المشروع !)، ونقول لك يا شيخنا: نَمْ قريرَ العين، لقد اكتمل المشروع ولم تنطفئ الشمعة بل زادت نورا على نور.
كان وفيا لأساتذته ومشايخه حققَ ونشرَ بعض تراثِ شيخه محمد الطاهر التليلي، وكان حاضرا في اليوم الدراسي بباتنة الذي خُصص للشيخ عُمر دَرْدُور، وكان الشيخ سعد الله قد تعرَّف عليه بالقاهرة، وأثنى عليه في كلمته، وقال عنه إنه - أي الشيخ عمر دردور - (كان من جيل آخر، جيل تطمئن إليه النفس وتثق في كلامه صدقه)، وكان وفيا للشيخ المهدي البوعبدلي فنشر الرسائل المتبادلة بينهما ........ الخ .
كان رحمه الله سليم الصدر عزيز النَّفس كاملَ الأدب، عفيف اللسان والقلم، يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه، بعيدا عن التَّكلف في أقواله وأفعاله، مُنْزَوِيًا عن الشُّهرة، عُرِفَ برجاحة العقل والفهم الثاقب والرأي الصائب، والمروءة والتواضع الجَمِّ، شهد له الناس بحسن السيرة وصفاء السريرة، كَثَّرَ اللهُ في المسلمين أمثاله. رحلَ سعد الله تاركًا وراءه مئات الطلبة، وآلاف القراء والباحثين، يعتمدون في رسائلهم وبحوثهم ومؤلفاتهم على مؤلفاته التي لا غنى عنها، فهي كالمُدَونة عند المالكية .
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/189773.html
Abdellah M
2014-02-03, 09:35
الكاتب:
أحمد بن السائح
المجاهد أبو القاسم سعد الله... فارس العلم والقلم
كانت الساعة الرابعة وأربع وأربعين دقيقة من مساء يوم السبت 14 / 12 / 2013 عندما هاتفني صديقي الأستاذ الدكتور مسعود فلوسي ، وبعد السلام والتحية .. قال لي : (( هل علمت آخر الأخبار ؟!!.. )) قلت على الفور لا ـ واستيقنت قبل أن يكمل الخبر أن الأمر جلل ـ قال لي : (( الدكتور سعد الله توفي إلى رحمة الله )) .. فكان الخبر الفاجع الذي زلزلني وهزني من الداخل ؛ والأستاذ الدكتور مسعود فلوسي من القلائل الذين يعرفون عمق الرابطة والصلة الوثيقة التي تربطني بالفقيد الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله ... دَعَوْتُ له بالرحمة والمغفرة .. وَوَدَّعْتُ الدكتور فلوسي ، وبقيت وَاجِمًا مستغفرًا مترحمًا على هذا الرجل الفذ الذي أخلص للعلم وألزم نفسه بالمناضلة الشريفة في مجال البحث العلمي ومتابعة الشأن الثقافي بوساطة جهوده المخلصة واهتماماته التي ركزت على إحياء التراث والتاريخ الجزائريين وتخليصهما من منظور المدرسة الكولونيالية.
وكان هذا المشروع العلمي الضخم ـ الذي تحمله فقيدنا المرحوم الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله ـ الذي لا يتصدى له إلا الفحول من العلماء ، ولا يصبر ويصابر على مشاقه والمعاناة في سبيله إلا أولئك الذين تشهد أعمالهم الخالدة على ما بذلوه في سبيل نشر العلم وترقية المعرفة بَلْهَ الاضافات المبدعة . ومن ثمة كان العلم هو شغله الشاغل ، وكانت الدراسات الأكاديمية هي التي ارتضاها لنفسه عن قناعة وطواعية واختيار ، وكان يردِّدُ دائمًا عبارته الذهبية : (( ... مشاريعي العلمية أكبر من عمري . )) . وكان عليه رحمة الله كالنحلة الذكية التي أوحى لها ربك لتؤدى وظيفتها وفق الناموس المسطر لها متنقلة بين أنفع الأشجار وأفيد الأزهار، وكانت رحلاته ومحطاته بين أشهر المكتبات ، وما فيها من نفائس المجاميع والمخطوطات ، وكانت أجمل لحظات سعادته تلك التي يقضيها قارئا ومُدَوِّنًا ومقابلا بين النصوص ومُقَارِنًا بين المصادر والمراجع المتنوعة التي يعرف وحده كيف يغربلها وينخلها بمنهجه الصارم وطرائقه العلمية الدقيقة الموشحة بشروحاته وتعليقاته الثرية وملاحظاته القيمة التي يتدفق بها صلب قلمه ، وهي بمثابة الشراب المختلف ألوانه يتشكل منها صميم العلم وجرثومته.
كان البروفيسور سعد الله مُبرمِجًا لأعماله ، وكانت رزنامته الفكرية والعلمية ـ اليومية أَوْ على المدى الطويل ـ مزدحمة بكثرة الأعمال وتراكم المشاريع ؛ والغريب أن مشاريعه ليست مقتصرة على اختصاص واحد يتعلق بالتاريخ كما يتبادر إلى كثير من الأذهان ؛ وأعماله في الواقع قد يتغلب عليها التاريخ إلى حَدٍّ ما ، ولكن مشاريعه بشكل عام لا تصب كلها في مجال التاريخ ، فسعد الله بدأ حياته إعلاميا ـ مراسلا من تونس ـ في جريدة (( البصائر )) وغيرها من جرائد تونس ، وكان في خواتيم الأربعينيات ومطالع الخمسينيات من القرن الآفل شاعرًا شابًّا مُغَرِّدًا في آفاق الوطنية المكبلة من طرف الآسر المحتل ، كما كان قَاصًّا مُبْدِعًا وصاحب خواطر رائعة نشرها هنا وهناك في جرائد الجزائر وتونس ومجلة (( الآداب )) البيروتية ، وكان متابعا ومطلعا على ينابيع الثقافة المشرقية ، وظل على تلك الحال قارِئًا نهمًا يلتهم كل ما يقع في يده ، وقد انتفع بذهابه إلى تونس بكل ما كان يُنْشَرُ هناك من ثقافة متنوعة ، وعلى الرغم من كثرة المواد التي كانت مقررة على طلبة الزيتونة يومذاك إلا أن فقيدنا ـ عليه رحمة الله ـ كان فرادة بين أقرانه ولَدَّاتِهِ وظاهرة علمية تَنْمَازُ عن غيرها ، وبذلك استطاع أن يُوَفِّقَ بين مهمة الطلب والتحصيل والازدراد من الكتب الخارجة عن المقرر ، وقد كان لكل تلك الكتب التي كانت تستهويه وتأخذ بمجامع قلبه الأثر البالغ في تكوينه وتحصيله اللغوي وصقل مواهبه في مجال الشعر والفن القصصي .
وفي تونس نجح في نشر تجاربه القصصية وأشعاره الأولى وخواطره المبدعة في جريدتي : (( النهضة )) و (( الأسبوع )) وهو دون العشرين ، وفي تونس ـ أيضا ـ تعرَّف على أدب المشرق وتابع باهتمام وانتظام ما كانت تنشره : (( الآداب )) اللبنانية و (( أبوللو )) و (( الرسالة )) المصريتان وغيرهما من المجلات الأدبية التي لا تصل إلى الجزائر ، وكان مساره في هذا الإتجاه الجديد مُوَفَّقًا ، بل كان بمثابة الفتح العلمي الجديد الذي جمع بين الاطلاع والنشر . والواقع أن انطلاقته ـ الإيجابية ـ وجراءته على النشر ومساهمته في الحياة الأدبية يُعَدُّ من الحوافز التي جعلت طموحات الشاب سعد الله في محلها ، وكسرت مخاوفه النفسية ، وفسحت أمامه أبواب العلم وما فيه من تحديات وعراك فكري ونقاشات فيها الانتقاد والاختلاف الذي تمليه سلطة المذاهب الأدبية والمدارس الإجتماعية والفلسفية ، بَلْهَ ما تفرضه هيمنة التيارات السياسية . ومن جهوده في تلك الأثناء مساهمته بمعية زمرة من زملائه وصحبه المبدعين تأسيس : (( رابطة القلم الجديد )) التي اتُّفِقَ على تسميتها والانضمام إليها ، و (( رابطة القلم الجديد )) جمعية أدبية غير معتمدة من أية جهة رسمية ، واعتمادها الوحيد هو اتفاق أصحابها ومؤسسيها على تسميتها بهذا الإسم ؛ وهي قائمة فيما بينهم فقط ، وقد نشر بعضهم باسمها محاولاتهم الأولى ، وهي تتألف من تونسيين وجزائريين ، ولعل أبرزهم هو صاحبنا الشاب أبو القاسم سعد الله الذي ظل أكثر التزاما بـ : (( رابطة القلم الجديد )) . والملاحظ أن (( رابطة القلم الجديد )) تفتقر إلى منبر يجمع شتاتها ، ويتولى نشر مساهمات أعضائها الذين راح كل واحد منهم ينشر نتاجه الأدبي في أية جريدة أو مجلة تتاح له فيها فرصة النشر . وتبقى (( رابطة القلم الجديد )) رابطة قائمة بوساطة الاتفاق بين أعضائها ، ولا يكاد يُعْرَفُ لها وجود في واقع الناس ، فهي رابطة اقتصرت على مؤسسيها وحدهم .
وبعد ذهابه إلى دار العلوم بالقاهرة تفتقت مواهبه الإبداعية وراحت تشق طريقها نحو عالم النشر . وبالموازاة مع دراسته في دار العلوم استطاع هذا الشاب الذي جاء إلى القاهرة ـ بطريقة فيها الكثير من المغامرة والمخاطرة ـ أن يجمع بين الحسنيين ، فكان جادًّا في دراسته ، الأول في الترتيب دائما ، متفهما لوضعه وكيف وَصَلَ إلى القاهرة بقليل من الزاد وكيف غامر بالمجئ متحديا كل مخاوف اليأس التي كادت تقضي على طموحه المتفائل ، وتدفن آماله العراض في الالتحاق بركب العلم والعلماء ، وكان فقيدنا ـ طيب الله بالرحمات ثراه ـ يعلم أن وجوده في أرض الكنانة معجزة وهو الغريب الذي لا يمتلك قوت يومه ، ولا يعلم أين يولي وجهه وسط العاصمة المصرية التي تعج بالألوف المؤلفة من أمثاله الذين يتوافدون عليها من كل فج عميق ، ليجد كل واحد منهم ضالته المتطلع إليها ، ومقصده الذي جاء من أجله .
وفي دار العلوم التي تحققت طموحاته بالانتساب إليها ، وجد نخبة من العلماء المحققين أخذ عنهم أصول العلم وحقائق المعرفة . وكان نعم الطالب الوارث لعلمهم الغزير ، وكان من أساتذته في دار العلوم الأستاذ المحقق الكبير عبد السلام محمد هارون والأستاذ الدكتور سامي الدهان والأستاذ الدكتور عمر الدسوقي .. وغير هؤلاء ، وفي تلك المرحلة تابع أخبار النخبة المثقفة في مصر من خلال كثرة مطالعاته وشغفه بالأدب الذي هيمن على عقله ، وشغل وقته بالادمان والاستزادة من لذة القراءات المتواصلة التي جعلت منه فيما بعد سعد الله العالم المحقق وشيخ المؤرخين والباحث الأكاديمي الموسوعي . وفي مصر شدته أيضا الحياة الفكرية وما كان فيها من جدل واختلاف بين أساطين العلم وجهابذة المفكرين ، وهناك تعرف على حقيقة الواقع الثقافي وما فيه من مشاهد متباينة ، وأدرك بوعيه الغض أبعاد رسالة المثقف ومواقفه الفكرية وما يترتب عليها من انتماء وتحديد اتجاهات ، ومجابهة سلطة التفكير الموجَّه ، والعض بالنواجذ على الاستمساك بحق حرية الرأي والتعبير ، والتضحية في سبيل الذود عنهما وحمايتهما . وبالرغم من الظروف العسيرة التي التحق فيها بدار العلوم ، فقد كان من أنشط الطلبة وأقدرهم على الإبداع والكتابة ، وكان يحرص على تنظيم وقته وبرمجة نشاطاته التي لا يحيد عنها يمنة أو يسرة بفضل انضباطه الدقيق والتزامه بالعمل الجاد .
وإذا كانت مساهماته الأدبية وما فيها من تنوع وإبداع قد سجلت حضورها بشكل لافت في المشهد الثقافي ، فقد تعرف من جهة أخرى على نخبة من رموز الأدب والثقافة وانجذب إليهم بمواهبه وطموحاته ، وانجذبوا ـ بدورهم ـ إليه ليكون إضافة جديدة تدعم تطلعاتهم ، وتضفي المزيد من المصداقية على مذهبهم الأدبي الجديد الثائر على القديم ، وكان من ألمع الأسماء التي تعرف عليها الشاعر صلاح عبد الصبور والشاعر فاروق شوشة والشاعر أحمد عبد المعطي حجازي وعبد الرحمن الخميسي ويوسف السباعي ورجاء النقاش و محمود أمين العالم ومحمد الفيتوري وعبد الرحمن الشرقاوي .
وبانضمام الأديب الشاب أبو القاسم سعد الله إلى هذه النخبة من أعلام الشعر الحديث في مصر ، رمى وراءه ظهريا أوهام (( رابطة القلم الجديد )) التي كانت تمثل مرحلة محدودة ومؤقتة انتهت وانفرط عقد جماعتها بانسحاب الأستاذ سعد الله منها ، فقد كان عمود خيمتها والأكثر نشرًا باسمها . والحقيقة أن (( رابطة القلم الجديد )) كانت قائمة على التوهم الذي اضطر أعضاءها إلى الإعلان عن إنشائها ، وهي التي تفتقر لكل المقومات القانونية والموضوعية والمادية التي ينبني عليها الإنشاء والتأسيس . ووجد الشاب سعد الله وسط هذا الوضع الثقافي الجديد ـ بمصر ـ ضالته التي كان يبحث عنها ويتغياها ؛ وضاعف من كتاباته المبدعة في مجلة (( الرسالة الجديدة )) و (( الآداب )) البيروتية و (( العالم العربي )) و (( البصائر )) الجزائرية قبل أن تتوقف نهائيا في أفريل 1956 ؛ واستطاع أن يُعرِّف بالأدب الجزائري ـ الذي ظل مغمورًا إلى حين ـ بدراساته المستفيضة على صفحات (( الآداب )) بالإضافة إلى ما نشره من أشعار ودراسات نقدية تتلاءم مع توجهات (( الرسالة الجديدة )) ، ويكاد قلمه لا يتوقف ، وفي تلك الأثناء اشترك في العديد من المناشط الثقافية شعرا ونثرا وإبداعا في القصة والرواية والنقد ، و كثف من مطالعاته المتنوعة ، وكانت فترة تواجده بدار العلوم فترة خصبة توازى فيها التكوين العلمي الرصين وإشباع الرغبة من مطالعة المعاناة المتواصلة التي لا تعرف الراحة أو الانقطاع . وتحولت قراءاته إلى ظاهرة إدمان تقتصر عليه دون سواه ، وتمكن في نهاية المطاف من الإنتصار لثورته بطبع باكورة إنتاجه الشعري (( النصر للجزائر )) في (( دار الفكر )) بالقاهرة سنة 1957 وهي السنة التي وقع فيها (( إضراب الثمانية أيام )) و دارت فيها (( معركة الجزائر )) بعنف وضراوة زلزلتا قواعد الواقع الكولونيالي الجائر .
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/189774.html
Abdellah M
2014-02-03, 09:36
الكاتب:
محمد سريج
أبو القاسم سعد الله... الأديب الشاعر
لا شك أن العديد من الناس يعرفون سعد الله بكتاباته التاريخية في الحركة الوطنية وتاريخ الجزائر الثقافي والترجمة والمخطوطات والتحقيقات وغيرها، لكن نقول إن سعد الله أيضا الاديب، قصائده عديدة ومتنوعة المتمعن فيها يلحظ فيها الانسان الفقير، المتأثر بحال الجزائر، نفسه تتوق دائما للاشادة بالكبار في شتى المجالات وأيضا الرفيق والصاحب .
وقلة منهم من يدرك أنه صحافيا وأديبا (قاصا وشاعرا)، من يطلع على إنتاجه في "البصائر" في خمسينيات القرن الماضي، يدرك الكثير منه، فبالاضافة إلى العديد من الكتابات الادبية، آثرت أن أنحو منحى آخر وهو تشخيص بعض من عمل الأستاذ الادبي وأنقل ما جادت به قريحته في الشعر بنوعيه (الحر والعمودي). فهو الأديب الشاعر قبل أن يكون مؤرخا محترفا.
لقد آمن سعد الله، بقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحرا". (1) ، ولو لم يكن في الشعر الا الحكمة لكفته شرفا وفائدة، كيف لا والله تعالى يقول عن الحكمة: "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يتذكر إلا أولو الألباب" (2)
فسخر أدبه من شعر ونثر للقضايا الوطنية وللاشادة بعظماء الرجال لما قدموه للانسانية وهو حق لهم علينا، فنوع كتاباته سيما ما تعلق بالشعر، تارة الشعر الحر وأحيانا أخرى الشعر العمودي، ناهيك عن أعمال قصصية عديدة، ولتعريف القارئ الكريم ببعض مساهمات الاستاذ في مجال الادب، اقتطفت بعضا مما قاله في مواضيع شتى.
01 ـ إشادة الشاعر بالأديب الحفناوي هالي :
له قصيدة نظمها في الشعر العمودي تتألف من واحد وثلاثين بيتا، نظمها في حق الاستاذ الاديب الحفناوي هالي ـ أستاذ بالمعهد ـ عنونها بـ "قيثارة الأنغام"، مشيدا بخصاله وإنتاجه الفكري والبلاغي، إنه اعتراف من طالب على الطريق إلى أستاذ محترف في الأدب والبلاغة، نقتطع جزءا منها على سبيل المثال لا الحصر يقول :
من ذا الذي أنجبت هذا كوكب والخـلق قد سجدوا إلى الاجرام
أنجبت أضوأ كوكب في أفقـه نورا وأسـمى في سمـاء كـرام
وسمـوت لله العظيـم كـأنما جزت الفضاء على براقك "سامي"
أجمل به قمـرا كـأن بزوغـه والأفـق مجل وشـروق سـلام (3)
02 ـ ماذا قال سعد الله في محمد العيد آل خليفة؟
ـ لم ينس الاستاذ سعد الله الشاعر الجزائري أمير الشعراء محمد العيد آل خليفة، وخصص له من أدبه قصيدة شعر يثني فيها على الرجل، وبل يدعوه إلى العودة إلى هذا الفن لما فيه من أسرار لا يفهم معناها إلا الأديب، عنونها بـ "هزار (4) الشعر"، تتألف من واحد وعشرين بيتا اقتطفت بعضا منها، يقول:
يا حـالما بأمـاني الخلد يستـرها وفي الوجـود أمان هو باكيـها
مجـللا بوقـار الشيـب تدفعـه "روح التصـوف" رفافا بواديـها
إن الشيـوخ إذا لم ترو حكمتـها صدى الشباب.فلا جدوى له فيها
كم من شعوب أضاء الشعر منهجها إلى الحقيقـة فانجابت دياجيـها
عد للطبيعة وابعث حسنها نغـما فإنـما الشـعر ألحـان نغنيـها (5)
03 ـ إشادة سعد الله باابن باديس :
مؤرخنا وأديبنا الاستاذ سعد الله لا يفتأ دائما يذكر الرجال العظام الذين ماتوا وتركوا النهج والأثر، الذين لم يعيشوا لأنفسهم بل عاشوا لامتهم وللانسانية جمعاء، الذين وإن ماتوا فذكرهم يبقى حيا بيننا لأن مآثرهم ـ شئنا أم أبينا ـ تبقى خير شاهد عليهم، إنه رائد التجديد والإصلاح والنهضة في الجزائر الشيخ عبد الحميد ابن باديس، ذكره في قصيدة من أربعة وعشرين بيتا يقول:
أين ضوء الفجر في تلك الربـا سترت أنواره كـف الزمـان
ليـتتها تعلـم لمـا فـعلـت إن نبع النور طامي الفيـضان
ناج روح الفيلسوف قد ثـوى عبقري الرأي جياش الجنـان
أذهل التاريـخ مـا أحكمـه في الوجود من فنون ومبـان
وعقول تائهـات أصبحـت تنهل العرفان من كل مكـان
أنت للجـيل الجديـد مرشد أحسن التوجيه بالشرع القرآني
كنت خصبا ورواء ونـدى وسموا وهدى في المهـرجان
أورقت منـك عقول ذبـلت وانتشت منك قلوب ومغان
يا ابـن باديس هنـاء ضافـيا بالنعيم في الخلود والتهـاني (6)
04 ـ سعد الله الوطني الثائر:
كانت الثورة تسري في كيانه سريان الدم في العروق، لطالما أشاد بها وبالذين أشادوا بها وفي هذا السياق كتب قصيدة ـ من الشعر الحر ـ في كفاح الشعب الجزائري، ذات الأربعين بيتا عنونها بـ"الطيــن"، فيها الكثير من التفاؤل بمستقبل مشرق، داعيا إياهم إلى الصبر لأن الفرج قريب، اخترت بعضا منها، يقول:
يا أخي الضارب في دنيا الكفاح
أيها الساخر من عصف الريـاح
يا ابن أمي، أيها الدامي الجراح
اصطبر، وابشر بإشراق الصباح
فالغد المنشـود خفاق الجنـاح
***
يا أخي الرابض في تلك البطاح..
إنـك اليوم سفيـر الفـلاح
حولـك الأمة آمالا فسـاح
فخذ الحق اغتصـابا واكتساح
أيها الرابض في تلك البطـاح .. (7)
ـ وفي قصيدة أخرى عنونها بـ "احتــراق" ضمنها حبه الشديد لشعبه ووطنه، وتذكر الشهداء الذين رووا الأرض الطاهرة لا لشيء سوى ليتحرر من الاستعمار، القصيدة تتكون من خمسة عشر بيتا، اقتطف منه البعض على سبيل الاستدلال ليس إلا، يقول:
أيا شعب أنت وجودي وحبي وإيماني الفائض المستـراق
وأنت وداعي الذي لـن يذوب إذا وا الوجود عراه المحـاق
ولست أؤمـل غيـر اعـتاق يعيدك خلدا، نعيمك يغرى
ويـا وطـنا غامـرا بالمـاء تجرعـه العاديـات الـزؤام
يمـوت الشهيد ويثغو الوليـد وكل يبارك هـذا النـظام
وتخـطو الحـياة إلى غـايـة ونحن على عرشها والغمام
ويطوي الفناء صحائف حرب ولن تنطوي صفحة من سلام
هبـونا نطمئن قلـب الـدرام فقد تنطفئ جذوة بالـلظاء (8)
05 ـ سعد الله الصديق المهنئ للرفاق:
هي أنشودة "هناء" عنونها بـ "خميلة وربيع" نظمها للصديق الأستاذ ابراهيم مزهودي بزواجه الذي صاهر به أسرة إصلاحية مثقفة: أسرة المرحوم مبارك الميلي فقيد التاريخ والادب والاصلاح، يقول الاستاذ: "فإلى العروسين وإلى الزميل محمد الميلي وإلى الربيع الجديد أزف هذه الأنشودة الرمزية". هذه الأنشودة في شكل حوار بين خميلة وربيع:
تقول خميلة: توشحت بالورد والياسمين ورحت اناجي الصباح العطر
وعلى شفتي ابتهال الحنيـن وفـوق البراعم ضوء القمر
ونمنمت لوني عـلى شفـتي قـهب الصبـاح يجــدده
يقول ربيع: خميل بحق الحنـان الوريـق وحق الحشائش من حولـك
بنا رفـرف الكـون بالعـبق ووشى الـروابي لـون قزح
وسالت مع الجـدول الدفـق رؤانا وشعر اللـقاء المـرح (9)
06 ـ سعد الله وهموم الفقراء والمحرومين :
و في قصيدة أخرى بعنوان "أنشودة المزارع والحقول"، فيها الكثير من الآهات والتأوهات، يستشعر الألم من الظروف التي ألمت به والفقر الذي يرافقه، ويرافق السواد الاعظم من الجزائريين، إنها كلمات تعبر عن أشياء عدة كانت تختلج صدر الأديب سعد الله، اخترت بعضا منها يقول:
طول النهار ....
استنبت الأرض الخراب
وأغالب البؤس المميت
لا البرد يقعدني ولا الريح العصوف
لا البؤس يرفق بي ولا المرض العضال
طول النهار ...كاالالة الخرساء...أعمل مطلقا ...
بدراهم وشتائم
لا غاية تدنو ...و لا أملا طليق
دنيا من الحرمان والدم والشهيق
***
أنا هنا ...
نحن العبيد ...
عرقا وأعصابا وروحا
شبحا وإعصارا مبيد (10)
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/189772.html
Abdellah M
2014-02-03, 09:37
الكاتب:
أحمد بن السائح
الدكتور سعد الله...مؤسس المدرسة التاريخية الجزائرية
في غمرة إنتاجه الأدبي الوفير ، كتب العلامة أبو القاسم سعد الله أطروحته للماجيستير سنة 1960 عن الشاعر محمد العيد آل خليفة وكانت بعنوان : (( محمد العيد آل خليفة رائد الشعر الجزائري في العصر الحديث )) ؛ وكان للمقادير مشيئتها ودورها ، فلم يناقش رسالته وتوجَّهَ إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد حصوله على منحة للدراسة من جبهة التحريرالوطني .
وفي قسم التاريخ بجامعة (( منيسوتا ـ MINNESOTA )) تحصل على الماجيستير سنة 1962 ، ومنها نال الدكتوراه سنة 1965 ، وعاد إلى جامعة الجزائر سنة 1967 ؛ وبدأ مساره الأكاديمي بين زملائه وطلبته ، وتبوَّأَ عدة مناصب ومسؤوليات في الجامعة الجزائرية ، وكان أستاذا زائرا في العديد من الجامعات العربية والأجنبية ، وساهم في إصلاح التعليم العالي بتجربته وخبرته ، وترأس لجانا علمية مختلفة كما كان عضوا في بعضها ، كما أسندت له مهام علمية أخرى مثل فيها الجزائر أحسن تمثيل . وعن جهوده الأكاديمية التي تُذكرُ على الدهر فَتَشْكَرُ فقد خصه (( معهد المناهج )) بنشرية حول : (( السيرة الذاتية والعلمية )) تحت عنوان (( أ. د . أبو القاسم سعد الله شيخ المؤرخين ، وقدوة الباحثين )) بمناسبة تكريمه واستحقاقه لـ : (( وسام العالم الجزائري )) الممنوح له من طرف المعهد المذكور ـ ربيع الثاني 1428 / ماي 2007 ـ ؛ فتحية خالصة لِـ : (( معهد المناهج ))على لفتته الخالدة ، وتقديره لأعمال فقيدنا وتكريمه في حياته .
وأنتج في مجال تخصصه طائفة من التواليف الموسوعية ككتابه الضخم (( تاريخ الجزائر الثقافي )) الذي جاء في عشرة مجلدات ، واشتمل على أكثر من 5071 صفحة ، وموسوعته الأخرى (( أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر )) المؤلفة من خمسة مجلدات واشتملت على 1675 صفحة ، وأطروحته للدكتوراه (( الحركة الوطنية الجزائرية )) بمجلداتها الأربعة ، وتجاوز تعداد صفحاتها 1880 صفحة ؛ فضلا عن كتبه الأخرى التي زادت على الأربعين وتوزَّعتها التراجم والدراسات المختلفة والتحقيق والإبداع الأدبي بمختلف ضروبه ؛ وستبقى كتبه ودراساته شاهدة على موسوعيته وأصالة أبحاثه وغزارة علمه ؛ فهو الرجل الذي جمع أطراف العلم ، واعتكف في محراب التاريخ ، ورابط دهرًا طويلا في خنادق الأدب ، وكان بحق المفكر والمؤرخ والرحالة الطَّوَّاف الذي جاب الأمصار والبقاع النائية من أجل استكمال معلومة أوتسجيل تهميش يظنهما البعض من البساطة بمكان ، وهما عند فقيدنا من صميم العلم الذي لا يستقيم إلا بهما وبأشباههما ونظائرهما ، وهو الأديب الشاعر الناثر والروائي المبدع الذي جرب كل ألوان السرد ، فكان يراعه مطواعا يستجيب ويتدفق كالسيل المنهمر ، وهو الذي جال أصقاعا كثيرة للاطلاع على شتى فنون المعرفة والوقوف على منشأ ونهاية الحضارات ، فكان المتقن المتحكم في فن الأداء العلمي بمهارة المتخصص الذي خُلْقَ للإنتاج الفكري وخُلْقَ هذا الأخير له ، وكأنهما صنوان لا يفترقان .
وعلى الرغم من ذلك الجهد وما فيه من مثابرة وانضباط ، فقد كان الطالب أبو القاسم سعد الله يتطلع من وراء كل تلك المتاعب والمشاق إلى التحصن بثقافة معرفية شاملة تكون بمثابة الذخيرة العلمية المسلحة بلسان العلم والدليل ، التي تحتاجها جزائر ما بعد الاستقلال ، تحسبا وتحديا للفراغات والتركة الخراب التي سيتركها المستدمر بعد رحيله ؛ وكان فقيدنا ـ يومذاك ـ على علم ووعي تامين بمخططات العدو ومكره وأحابيله الإدارية والعسكرية التي كانت تستهدف تقرير المصير وتتربص باسترجاع سيادتنا الوطنية . وقد تحقق الكثير من حدس سعد الله ، بتصاعد عنف منظمة الجيش السري (( O.A.S )) التي عملت على تلغيم التفاوض ، وضرب استقلال الجزائر بشكل جنوني بوساطة تنفيذ جرائم جهنمية فيها الإبادة والمحو الكامل لكل ما له صلة بالشعب الجزائري الذي أصبح هدفا مستباحا لجرائمها التي لا تستثني شيئا ولا ترحم أحدا ؛ وقد اشتمل مخطط المنظمة الإرهابية على زرع الخراب وإشاعة الرعب والذعر في النفوس ، وتدمير المؤسسات واغتيال الأشخاص ، ومناوءة كل ما هو جزائري ، فكان اغتيال الكاتب مولود فرعون في : 15 / 03 / 1962 ، وتفجير الميناء في قلب العاصمة في : 02 / 05 / 1962 ، وحرق مكتبة جامعة الجزائر في : 07 / 06 / 1962 ، من بعض أعمالها الراسخة في الذاكرة الجزائرية .
وكان تحدي سعد الله في محله ، فالجزائر ـ في السنوات الأولى لاستقلالها ـ كانت في أشد الحاجة إلى أبنائها وإطاراتها العلمية والثقافية في كل مجال . وكان فقيدنا عليه رحمة الله من أبرز تلك النخب المخلصة التي عادت إلى الجزائر للمساهمة في بنائها ؛ وقد عاد بعزيمة صادقة لتحرير الجزائر ثقافيا وتطهيرها من أدران المستدمر وآثار بقايا االمسخ والانسلاخ ، التي دمرت الأمة الجزائرية ، وفَرْنَسَتْ واقعها على مدى أكثر من قرن واثنتين وثلاثين سنة . وبعودة سعد الله إلى الجامعة الجزائرية ، بدأت هذه الأخيرة تعرف نقلة نوعية في التدريس ، وبدأ اليراع في أيدي الطلبة يتحرك من اليمين إلى الشمال ؛ وعلى مستوى المضمون كان للشاب المتألق الدكتور أبو القاسم سعد الله الفضل كل الفضل في تحرير الدرس التاريخي من قبضة المدرسة التاريخية الفرنسية ، وتفسيرها المغرض للتاريخ من وجهة نظرها الكولونيالية المتجنية ، وتعصبها الشوفيني المقيت . وكان سعد الله ـ صاحب الحركة الوطنية الجزائرية ـ بمنهاجه الصادق ونظرته المتطلعة التي تقوم على استراتيجية علمية وطنية ، يعمل على تأسيس مدرسة واقعية للتاريخ الجزائري ، مدرسة موضوعية متحررة من هيمنة الإملاءات التي يحاول تكريسها والإبقاء عليها سدنة الإستدمار وقَوَّادِّيهِ بوساطة المنهج العلمي !!! ـ وما هو بعلمي ـ أو التدليس الكولونيالي من الذين تداولوا على دراسة وتدريس التاريخ الجزائري من منطلقات متشبعة إلى حَدِّ التخمة بالروح الإستدمارية القائمة على الإستكبار والزيف والإستعلاء .
والواقع أن الْمُتَبَنِّينَ للمنهج الطاغي للمدرسة التاريخية الفرنسية ، راحوا يرقصون رقصة الطير الذبيح بعد أن ضاعت منهم الجزائر إلى الأبد ، وحَلَّ محلها في المجال الأكاديمي ـ وفي الجانب التاريخي تحديدا ـ سعد الله الذي عاد بمشروعه الرافض لرجع صدى الناعقين بجدوى الطرح الكولونيالي للتاريخ الجزائري في القديم أو الحديث أو حتى المعاصر لأسباب واعتبارات مختلفة تعود إلى لوثة ومثالب الإستدمار في حَدِّ ذاته وما صاحبه من اغتصاب ومظالم . ونستطيع أن نقرر الآن أن الدكتور سعد الله هو رائد المدرسة التاريخية الجزائرية ، وواضع بذورها في تربة الواقع الأكاديمي الجزائري ، وصاحب مشروعها العلمي بدون منازع ، وهو الذي رعى طوال مشواره العلمي الحافل بالأعمال الجليلة والتواليف الرصينة التي تنافح عن الأرض وتذود عن العرض ، وتتصدى للدجل العلمي الزائف باسم أكذوبة البحث العلمي !!! للإبقاء على الصنم المتهالك للمدرسة التاريخية الفرنسية التي تهاوت على أيدي البروفيسور أبو القاسم سعد الله الذي ظل إلى آخر رمق من حياته مرابطا في خندق التاريخ ، وظل رمزا من رموز المجابهة الثقافية التي ليس لها من غاية سوى إحقاق الحق ، وإزهاق الباطل الزاحف باسم العلم !!! وإسكات مكبرات الصوت التي يروج لها أحباء
(( الجزائر فرنسية )) وخلفاء المعلم (( لافيجري )) بيننا ، وهم كثر ولا يزالون على ضلالهم القديم .
ويكفي الدكتور سعد الله أنه تحول إلى مدرسة قائمة بذاتها ورمز علمي قضَّى أكثر من خمس وستين سنة فارسًا لا يُشقُّ له غبار في ميدان العلم ، وسلخ يفاعته وزهرة شبابه وكهولته وشيخوخته بين القرطاس والقلم ، وأحب الكتابة ومتابعة البحث إلى درجة الهوس والافتتان ، فجاءت النتائج كما أراد لها أن تكون ، وأصبحت الكتابة عنده جِرَشَّةً تلازمه ويلازمها ، يكتب في كل مكان .. يصطحب معه كنانيشه أينما حل وارتحل .. يُدَوِّنُ .. يلاحظ .. يتساءل عن فكرة .. يبحث عن مخطوط .. يحاور من أجل الظفر بغائبة أو اكتشاف حقيقة علمية تنير دروب البحث وتبدد الضباب الكثيف الذي يحجب ذخائر التراث وحقائق التاريخ .. يثير النقاشات حول مواضيع تحتاج إلى التعاون والتركيز للوقوف على أجوبة تتعلق بقضايا ثقافية حساسة غير مجمع عليها .
وقد آتت المدرسة التاريخية الجزائرية أكلها على أيدي أبي القاسم سعد الله وأينعت ثمارها في كل جامعات الوطن ، ولاخوف على مصيرها ومشروعها ؛ فأصلها ثابت وفرعها في السماء ، وسيبقى سعد الله الرمز .. سعد الله النضال .. سعد الله الموقف .. سعد الله الإنسان الذي لا ينفد صبره .. سعد الله اليراع المتميز الذي لا ينضب حبره ، ويكفيه أن يكون من طلبته وحوارييه هذه الأسماء اللامعة والهامات المتألقة في سماء الجامعة الجزائرية التي تسلمت أمانة المشعل من أيدي المعلم الرائد الذي ذهب إلى دار البقاء مطمئنا ، ونذكر منهم الأستاذ الدكتور العالم المحقق نصر الدين سعيدوني ، والبروفيسور الكبير محمد العربي الزبيري والبروفيسور المرحوم يحي بوعزيز ، والبروفيسور يوسف مناصرية ، والأستاذ الدكتور محمد العربي معريش ، والأستاذ الدكتور محمد الأمين بلغيث ، والأستاذ الدكتور أحمد مريوش ...
والذي يريد أن يتعرف على سعد الله أكثر عليه أن يقرأ آثاره ، ويتعمق في فهم نتاجه الذي يعد ظاهرة في عالم الكتابة الموسوعية التي لا ساحل لها ؛ وبقراءة سعد الله واكتشاف عالمه الفكري الدسم نستطيع التعرف على اهتمامات هذا المفكر العملاق الذي لَمْ نعرف بعد من يجاريه من معاصريه في غزارة الإنتاج العلمي ، والتفرغ للبحث الأكاديمي تفرغًا كليا ؛ واللافت للإنتباه أن أبا القاسم نذر نفسه للبحث الْمُضَنَّى الذي كان على حساب صحته ، وأوغل في هذا الإتجاه حتى طالته طائفة من الأسقام ، تضافرت كلها على النيل منه ، وأحاطت به من كل جانب ، وجعلت منه فريسة للأدواء المستعصية ، وما كان منه ـ عليه رحمة الله ـ إلا أن تصدى لها بمواصلة الكتابة وبالتصميم على إنجاز ما يمكن إنجازه ؛ وكان صبورًا وقويًا ببأْسه وعناده ، وواجه محنة العلل التي جاءته تترى بإضافة مشاريع جديدة إلى مشاريعه السابقة ، وتشبث بالبحث ودفع ضريبة التعب والمرض في سبيل حفظ تاريخنا الثقافي من الإنمحاء والتلاشي والضياع ، وأبلى البلاء الحسن بصموده المتواصل وثباته الذي يشهد عليه المنصفون . واستمسك في نهاية المطاف بالقلم بين ثلاثية السبابة والوسطى والإبهام ، مثله مثل المقاتل الشهم الجريح في ميدان الوغى ، يقاتل وجراحه تنزف ؛ ذلك هو سعد الله الذي يأبى أن يسقط القلم من يمناه ، ويصر على استمرارية المواجهة بين القلم والقرطاس ، وتسجيل آخر الفصول من معركة الحبر مع بياض الورق الذي سيظل بياضا بعد مجالدة سعد الله الذي انطفأت بذهابه و رحيله إلى دار البقاء شمعة من شموع الوطنية والعلم والتاريخ .
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/189767.html
Abdellah M
2014-02-03, 09:39
الكاتب:
محمد سي يوسف
العلامة أبو القاسم سعد الله كما عرفته
عندما شرعت في كتابة هذه الكلمة، وجدت نفسي قد خانتني العبارات ولم أجد الكلمات المناسبة لأعبر بها عن هذا الرجل العظيم. لقد عرفته أول مرة عندما كنت طالبا في قسم التاريخ لتحضير شهادة الليسانس وكان ذلك عام 1974بجامعة الجزائر، إذ درسنا عدة مواد، منها الحياة الثقافية في العهد العثماني والجزائر ما بين الحربين.. وبعد الليسانس، درسنا كذلك خلال سنة كاملة لتحضير شهادة المنهجية التي تؤهلنا للتسجيل في الدراسات العليا، ثم أشرف علي في الماجيستير بعد أن ناقشت دبلوم الدراسات المعمقة وكان رئيس اللجنة المناقشة.
كان الدكتور سعد الله رحمه الله في غاية البساطة، فهو يقدم المحاضرات وكنا نشعر وكأننا في جلسة سمر بين الأصدقاء، لا نشعر بالوقت إلا وقد انتهت المحاضرة. وقد علمت أن الكثير من الأساتذة الجامعيين الذين درسهم - وأنا واحد منهم - تأثروا بطريقته في التدريس، لأنها طريقة تشد الطالب لتتبع المحاضرة دون أن يشعر بالملل والتعب. كان رحمه الله يحث الطلبة على الإكثار من قراءة الكتب، إذ كان يذكر لنا دوما كتبا من تأليف كتاب عاشوا في العهد العثماني، مثل كتب ابن حمادوش وابن العنابي وأبي راس الناصري... إلخ. إذ كان في هذه الفترة متقدما في جمع مادة "الحياة الثقافية" الذي نشر جزأه الأول والثاني عام 1981، كما نشر عام 1975 كتاب "الحركة الوطنية" الجزء الثالث، ووجدنا فيه جل المحاضرات التي كان قد مها لنا عن فترة ما بين الحربين، وعرفت فيما بعد أن كل الأعمال التي حاضر فيها - تقريبا - نشرت على شكل كتب. عندما كان مشرفا علينا (مع طلبة آخرين) قال لنا - رحمه الله - عدة مرات بأنه لايقبل أن يشرف على طلبة يعملون من أجل الشهادة فقط، بل لا بد أن يكونوا باحثين، وكان يشجع طلبته بل ويحثهم على كتابة المقالات وتولى تصحيحها بنفسه، لتنشر إن وجدت وسيلة للنشر، وإلا كان يقول: المهم أن تكتبوا وقد يكون النشر في وقت لاحق. وكان لنا ذلك بعد أن أصدر قسم التاريخ "مجلة الدراسات التاريخية"، إذ احتوت أعدادها الأولى على مقالات كثيرة لطلبة الدكتور أبو القاسم سعد الله رحمه الله.
إن أكثر الأشياء التي تعلمناها عن الفقيد رحمه الله هي الدقة في الشرح والوصف والابتعاد عن الغموض والإبهام، وكان يلح على شرح كل كلمة غامضة وكل الأعلام الواردة في النص إن كان ذلك سيزيد الموضوع وضوحا ولا بد من الإهتمام أكثر بالهوامش لأنها تخدم النص. وكان - رحمه الله - لا يقبل بأعمال خالية من الفهارس، فهي ضرورية في البحث خصوصا إن تعلق الأمر بالكتب، فالفهارس حتمية لا يمكن الاستغناء عنها، ولا يقبل من دور النشر أن تتصرف فيها أو تهملها مهما تكون الأسباب، فالأعمال الآكاديمية تتطلب ذلك كما يقول.
كان الدكتور سعد الله رحمه الله بسيطا في حياته، قنوعا، عفيفا، زاهدا في كل شيء إلا البحث العلمي والتدريس، وقد عرضت عليه مناصب عليا فرفضها. وكان متسامحا لأبعد الحدود حتى مع الذين أساؤوا إليه، وقد أخبرني ذات مرة في عام 1987 وبنبرة فيها الكثير من الحسرة والألم أن كتابه "أبحاث و آراء في تاريخ الجزائر" الجزء الثالث، الصادر عن المؤسسة الوطنية للكتاب عام 1986 قد تعرض للحجز والمنع من التداول بسبب عبارة صغيرة وردت في الصفحة 264، الهامش 17 مكرر، ويبدو أن إحدى "الشخصيات البارزة" في ذلك الوقت هي التي أمرت بمنع توزيع الكتاب وهذا رغم أن هذه العبارة التي كانت سببا في منع الكتاب تحسب لصالح الأستاذ سعد الله وليس ضده، لأنه صحح بها في الهامش معلومات خاطئة كان قد دونها صاحب المخطوط الذي هو موضوع الدراسة التي قدمها الدكتور سعد الله. ومع ذلك لم يشفع له تصحيح هذا الخطأ كما لم تشفع له مكانته العلمية والآكاديمية، ولم يسمح بتسويق الكتاب إلا بعد سنتين أي حوالي نهاية 1988. إلا أنه رحمه الله كان متسامحا وتقبل الأمر إلى أن صدر الأمر بتداوله من جديد، ورفض - رحمه الله - ذكر اسم الشخص (أو الشخصية البارزة) التي كانت وراء المنع. هذه هي أخلاقه.
رحم الله أستاذنا وشيخنا وأسكنه فسيح جنانه. إنا لله وإنا إليه راجعون.
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/189653.html
Abdellah M
2014-02-03, 11:16
الكاتب:
الطيب برغوث
هكذا يكون المجد حقا.. كلمة وداع للدكتور أبي القاسم سعد الله(1)
تلقت "مؤسسة السننية للدراسات الحضارية " كما تلقى الجزائريون عامة والنخبة المثقفة منهم خاصة، نبأ وفاة شيخ المؤرخين الجزائريين الأستاذ الدكتور أبي القاسم سعد الله رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه الفردوس الأعلى من جنته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، فحزن أعضاؤها كثيرا على ما انقطع بوفاته من علم ومعرفة وقدوة وجهاد رسالي نموذجي، نحن في أمس الحاجة إليه، في مرحلة تتعرض فيها هويتنا الثقافية وأمننا الاجتماعي والحضاري لتحديات كبيرة وخطيرة، ظل رحمه الله يواجهها طيلة حياته، من خلال مرابطته النموذجية في ثغر بناء الوعي التاريخي لأجيال المجتمع، باعتباره الشرط القاعدي الأساس لاستكمال استقلالنا الوطني وحمايته من ناحية، والتخلص من مركبات وعقد الدونية والاستلابية الثقافية والحضارية من ناحية أخرى، والانفتاح الواعي على الثقافات والخبرات العالمية بروح المساهمة والمنافسة من ناحية ثالثة، واستثمار ذلك كله في بناء نهضتنا الحضارية الوطنية من ناحية رابعة.
وإن اختيار الدكتور أبي القاسم سعد الله للمرابطة في هذا العمق الحيوي من الساحة الثقافية، من توفيق الله تعالى له، فقد أحسن رحمه الله تحديد مضغة وأولوية الاهتمام لديه منذ وقت مبكر، عندما ركز جهده على المساهمة في بناء الوعي التاريخي لأجيال المجتمع الجزائري، من خلال العناية بكتابة تاريخ المجتمع الجزائري، وأبدع في ذلك أيما إبداع، وترك لنا ثروة عظيمة لا تقدر بثمن، فهي تقع ضمن دائرة أم الثروات الاستراتيجية، لأنها الثروة التي تساعدنا على معرفة من نحن؟ وما وزننا في التاريخ؟ وما دورنا فيه وواجبنا تجاهه؟ وماذا نملك من مقومات وشروط لأداء هذا الدور؟ وأين أخطأنا وأين أصبنا؟ ولماذا أخطأنا أو أصبنا؟ وكيف تشكل حاضرنا بالصورة التي هو عليها؟
إن الساحة التاريخية بمحتواها الفكري والثقافي والحضاري، كانت ولا زالت وستظل، الميدان الذي دارت وتدور وستدور فيه أقوى معارك المواجهة الفكرية والثقافية والاجتماعية والحضارية بين المشروع الاستعماري الاستئصالي الاستكباري البغيض، أو أي مشروع استضعافي هيمني آخر، وبين المجتمع الجزائري بل ومنطقة الشمالي الإفريقي، أو أي مجتمع آخر ينشد الحرية والعدالة واستقلالية الإرادة الوطنية. ولولا بقايا الوعي التاريخي الذي صمد في وجه المشروع الاستعماري زمنا طويلا (قرنا وأزيد من ثلث قرن)، لتغير وجه التاريخ في هذا الشمال الإفريقي وفي أجزاء واسعة من القارة الإفريقية، كما تغير قبل ذلك في الضفة الجنوبية الغربية للبحر الأبيض المتوسط، في حركة التطهير العرقي والديني التي تعرض لها الوجود الإسلامي فيما كان يعرف بالأندلس.
فالوعي التاريخي السنني الأصيل، محرك أساسا من محركات التاريخ، من أمتلكه من أفراد أو مجتمعات، نمت قواه الذاتية وطموحاته الاجتماعية، واستعصى على الاستلاب والتبعية، وتحررت إرادته الحضارية، وامتلك زمام إمكانه الحضاري، واستقلالية وفعالية فعله الثقافي والاجتماعي والحضاري. ومن افتقده كان عرضة لشتى صنوف الاستلاب والتبعية، ووهنت إرادته الحضارية، وفقد استقلاليته، وعرَّض وجوده للخطر.
فقصور الوعي التاريخي الأصيل، هو الذي جعل، على سبيل المثال، أحد أقطاب النخبة الوطنية في ثلاثينيات القرن الماضي، وهو فرحات عباس رحمه الله يقول: " فرنسا هي أنا.. ولو أني اكتشفت وجود الأمة الجزائرية لكنت وطنيا. فالرجال الذين ماتوا من أجل طموحهم الوطني يكرمون يوميا ويحترمون، ولا قيمة لحياتي أكثر من حياتهم، على أني غير مستعد لهذه التضحية، فالجزائر كوطن ليست سوى أسطورة، أنا لم أكتشفه. سألت عنه التاريخ، سألت عنه الأموات والأحياء، زرت المقابر: لم يحدثني عنه أحد .
والوعي التاريخي السنني المتكامل، هو الذي جعل قطبا آخر من أقطاب النخبة الوطنية في نفس الفترة، وهو الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله، يقول مناقشا لفرحات عباس ومسائلا لفئات من النخبة الوطنية التي بدأ وعيها التاريخي يعاني من آثار الاستلاب الثقافي: "لا يا سادتي... إننا نحن فتشنا في صحف التاريخ، وفتشنا في الحالة الحاضرة، فوجدنا الأمة الجزائرية المسلمة متكونة موجودة كما تكونت ووجدت كل أمم الدنيا، ولهذه الأمة تاريخها الحافل بجلائل الأعمال، ولها وحدتها الدينية واللغوية، ولها ثقافتها الخاصة وعوائدها وأخلاقها، بما فيها من حسن وقبيح، شأن كل أمة في الدنيا.
ثم إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت. بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج. ولها وطن محدود معين هو الوطن الجزائري بحدوده الحالية المعروفة، والذي يشرف على إدارته العليا السيد الوالي العام المعين من قبل الدولة الفرنسية" (آثار الإمام عبد الحميد بن باديس 3 / 308).
وقد كان لهذا الوعي التاريخي الأصيل، الذي كانت تستند إليه مواقف ومبادرات وحركة الأمام عبد الحميد بن باديس وحركة الإصلاح خاصة، وجمهرة الحركة الوطنية عامة، تأثيره المباشر لدى الزعيم الوطني الكبير فرحات عباس، فتجاوز هذا الارتباك في وعيه التاريخي، ليقف وجها لوجه أمام ليل الاستعمار البهيم، ويساهم في فضح بشاعته، وكشف زيف أطروحات الرسالة التحضيرية لفرنسا فيما وراء البحار !
لهذا تمنح الأمم الحية مكانة خاصة للوعي التاريخي، وتجند له أعزَّ ما لديها من العبقريات الفكرية، ومن الإمكانات البشرية والمادية والوسائل الفنية، والشروط القانونية، حتى تنمي هذا الوعي التاريخي في الأجيال، وتحررها من الشعور بالدونية، وتغذي فيها الثقة بالنفس، والاعتزاز بالانتماء، والإحساس بالمسؤولية، وروح المبادرة والمنافسة والمكابدة، من أجل إثبات الوجود وتفعيله ثقافيا واجتماعيا وحضاريا. بل إن بعض المجتمعات الفقيرة في الوعي التاريخي، تلجأ إلى الأساطير والخيال الفني، لتستدرك بعض النقص الذي تعانيه في مجال الوعي التاريخي! لشعورها بما للوعي التاريخي من ثقل تربوي وثقافي واجتماعي وسياسي غير عادي في مجال صناعة النهضة الحضارية والمحافظة على استمراريتها في الوقت نفسه.
من أجل هذا قلت في مطلع هذه الخاطرة، بأن اختيار الدكتور أبي القاسم سعد الله للمرابطة في هذا العمق الحيوي من الساحة الثقافية، هو من توفيق الله تعالى وتكريمه له، ليكون في عداد خالدي الذكر، بما يقدمه من خدمة فكرية وثقافية وتربوية جادة، في إحدى أهم بؤر ومضغ إعادة بناء وتجديد الوعي التاريخي لأجيال المجتمع الجزائري، وتحريرها من نفوذ وسطوة وزيف المدرسة التاريخية الاستعمارية، التي عملت وما تزال تعمل بكل قوة، على إقناع أجيال المجتمع والأمة والعالم، بأن الاستعمار كان يحمل رسالة تحضيرية إنسانية للمجتمع الجزائري ! وأن وجوده قد أنهى فترة الغزو العربي والتسلط التركي ! كما تدل على ذلك محاور مقرر دراسة التاريخ في العهد الاستعماري، التي كانت مصاغة بعناية وحنكة بيداغوجية وسيكولوجية، كما يلي: ( الوجود الروماني، الغزو العربي، التسلط التركي، مجيء الفرنسيين ) (مولود قاسم، أصالية أم انفصالية)! ناهيك عما كان يدور على الساحات المعرفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية الأخرى، من معارك شرسة، تتمحور كلها حول ضرب مقومات الوعي التاريخي لأجيال المجتمع الجزائري، وتجريدها من الشعور بذاتيتها الثقافية والحضارية، وتحويلها إلى كتلة غثائية هامشية مسخرة للأعمال والمهام القذرة!
وبمناسبة الإشارة إلى الرسالة التحضيرية التي رفع الاستعمار شعارها، واستباح بها مجتمعات وهتك بها أعراضها، وعبث بمقدراتها، وقصم ظهورها، أثبت هنا مقولة ذات دلالات عميقة على النزعة الاستكبارية المركزية التي كانت تقف وراء "مشروع البتر والإلحاق " الذي واجهه المجتمع الجزائري طيلة الوجود الاستعماري الفرنسي. هذه المقولة المؤسسة والمغذية للمركزية الاستعلائية الاستكبارية، جاءت في خطاب الكاتب والسياسي الفرنسي العنصري جول فيري في 28 جوان 1885، قال فيه: "أيها السادة، ينبغي أن نتكلم بصوت أعلى وأقوى! ينبغي أن نقول بكل صراحة إن للأعراق العليا حقا على الأعراق الدنيا، قلت إن لها حقا بمعنى أن لها واجبا . أن عليها واجب إدخال الأعراق الدنيا في الحضارة" (سيكولوجية الجماهير /26).
هكذا كان العلم يُسخَّر لخدمة الأغراض الاستعمارية، وهكذا كان العلماء يوظفون عبقرياتهم العلمية، وأوزانهم العلمية والاجتماعية لتغذية روح القهر والتدمير لمجتمعات أخرى، ونهب مقدراتها، باسم واجب إدخال الأعراق الدنيا في الحضارة!
إن ما أنجزه الدكتور سعد الله رحمه الله في مجال إعادة بناء وتجديد الوعي التاريخي لأجيال المجتمع الجزائري، ومواجهة هذه الروح الاستعمارية الاستكبارية، يقع ضمن الثروات الإستراتيجية الحقيقية الخالدة، بل يعد أمًّا لهذه الثروات الإستراتيجية البشرية منها والطبيعة أو الفكرية.. لأن الوعي التاريخي بأبعاده العقدية والفكرية والثقافية والحضارية، هو الذي يمنح أجيال المجتمع عامة، والنخب الفكرية والسياسية والاجتماعية فيه خاصة، البصيرةَ الفكرية والروحية الرسالية الهادية، ويشحذ غيرتها الوطنية، ويرفع مستوى إخلاصها وتفانيها في خدمة الوطن ورعاية مصالحه العليا بكل أمانة.
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/189443.html
Abdellah M
2014-02-03, 11:18
الكاتب:
الطيب برغوث
هكذا يكون المجد حقا.. كلمة وداع للدكتور أبي القاسم سعد الله (2)
وإني أستطيع أن أقول بأن المجتمع الجزائري عانى من قصور الوعي التاريخي حتى بعد مرحلة الاستقلال، فهرعت بعض نخبه مبكرا ذات اليسار نحو الاشتراكية، بل والشيوعية، وذات اليمين نحو الرأسمالية، وباتجاه التلفيقية التي لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، إلا رائحة المصالح الفردية أو الفئوية أو الجهوية.. وقد كان لذلك كله الأثر السيئ على مسيرة ومصير النهضة الحضارية الوطنية، التي توفرت الكثير من شروطها المعنوية والنفسية والاجتماعية والسياسية، عبر الإنجاز التاريخي الضخم للثورة الجزائرية الكبرى، والكثير من شروطها المادية، وعبر الثروات الضخمة التي يتوفر عليها المجتمع الجزائري، وعبر الشروط البشرية ممثلة في الاستعداد غير العادي لأجيال المجتمع الجزائري للتضحية من أجل تحقيق النهضة.
إن كل هذه الشروط الاستثنائية للنهضة الحضارية، تبخرت بين أيدينا، بسبب اضطراب وضمور الوعي التاريخي، حتى وصلنا إلى مرحلة نادى فيها بعض طلبتنا: "التاريخ في المزبلة"!؟ وصار الحديث باللغة الوطنية أو ارتداء الأزياء الوطنية منقصة لدى كثير من النخب! والحديث بلغة المستعمر وتقليده في عاداته وتقاليده وأوضاعه، دون حاجة إلى ذلك، حاجة نفسية واجتماعية لدى هؤلاء! وتحول الإسلام ذاته إلى عامل صراع واهتلاك اجتماعي بعد أن كان عامل لحم وتأليف وشحذ للطاقات، ولو دُرست وقُيِّمت مسيرة المجتمع الجزائري بعد الاستقلال، ومصير نهضته الحضارية، من منظور الوعي التاريخي، لتأكد لدينا فعلا مدى مسئولية قصور أو اضطراب الوعي التاريخي عن ذلك كله.
وبمناسبة الحديث عن مركب الدونية والغثائية والإمعية، الذي حرص المشروع الاستعماري على زرعه في أعماق الإنسان والمجتمع الجزائريين، من خلال ضرب وعيهما التاريخي وحرمانهما منه، نذكر بأن الدكتور أبو القاسم سعد، يعطينا نموذجا حيا في هذا المجال عن الأهمية الكبيرة للوعي التاريخي في تحصين الأفراد والمجتمع، وتحقيق توافقهما النفسي، وانسجامهما الاجتماعي.
فهو رحمه الله كان يتقن الإنجليزية، ويعرف الفرنسية والألمانية.. ودرس في الولايات المتحدة حتى نال شهادة الدكتوراه، وانفتح على الثقافة العالمية المعاصرة وآدابها وتياراتها ومناهجها، في سن عمْرية حساسة، وفي مرحلة تاريخية كان العالم فيها يغلي بالأفكار اليسارية واليمينية والتلفيقية، التي جرفت واستوعبت جل النخب الوطنية والعربية والإسلامية.. وحولتها إلى دعاة ومبشرين بها ومجسدين لها في حياتهم الخاصة، وفيما يتاح لهم من مسئوليات ثقافية أو اجتماعية أو سياسية عامة في المجتمع، ومع ذلك لم تستوعبه أي من هذه الثقافات، أو يجرفه أي تيار من هذه التيارات العالمية، شرقية كانت أم غربية، بل ظل جزائريا مسلما خالصا معتقا، أخذ كل ما في هذه الثقافات العالمية من خيرية وبركة، وهضمها واستوعبها جيدا، وأعاد صياغتها على ضوء معطيات المعادلة الثقافية والاجتماعية والحضارية لمجتمعه وأمته، فكان ما قدمه لنفسه ولمجتمعه ولأمته خيرا خالصا بإذن الله.
وإني أرى بأن ما ذكره شاعر الإسلام الكبير محمد إقبال، عن تمكنه من الإفلات من سحر وأسر واستلاب الثقافة الغربية المعاصرة، حينما قال: "لقد كسرت طلسم العصر الحاضر، وأبطلت فكره، التقطت الحبة، وأفلت من شبكة الصياد، يشهد الله أني كنت في ذلك مُقلِّدًا لإبراهيم، فقد خضتُ في هذه النار واثقًا بنفسي، وخرجت منها سليمًا محتفظًا بشخصيتي " ـ روائع إقبال للندوي ـ. ينطبق على الدكتور سعد الله إلى حد بعيد.
واستكمالا للصورة في عمقها، أرى أنه من المفيد تربويا أن نذكر هنا كذلك، بأن الدكتور سعد الله وهو يقضي جزءا كبيرا من حياته مطلعا على التراث الثقافي الإسلامي، وعلى تياراته الفكرية والسياسية والدعوية.. لم يستوعبه أي تيار من هذه التيارات في المشرق أو في المغرب، ولم ينحاز إلا لما هو أصيل ونافع وداعم لبناء وتجديد الوعي التاريخي للفرد والمجتمع والأمة. لقد كان متوازنا على الصعيد الذاتي، وكان منصفا وموضوعيا إلى حد بعيد على المستوى العلمي والمنهجي، ولذلك فهو يصنف ضمن المدرسة الفكرية الحضارية الجامعة، التي تقوم على الاعتزاز النفسي والفعلي بثوابت الهوية الذاتية للمجتمع والأمة من ناحية، وعلى الانفتاح الفعلي على رشد الخبرة السننية البشرية أينما كانت من ناحية أخرى، وعلى احترام المعادلة الثقافية والاجتماعية للمجتمع الجزائري ومراعاة مصالحها الحيوية من ناحية ثالثة، وعلى روح المنافسة التكاملية بين مكونات المجتمع والأمة على خدمة النهضة الحضارية المنشودة من ناحية ثالثة، وعلى التكاملية الحضارية الإنسانية من ناحية رابعة.
من هنا تتجلى الأهمية الكبيرة للجهد المعرفي التربوي الذي قام به الدكتور أبو القاسم سعد الله في مجال إعادة بناء وتجديد الوعي التاريخي لأجيال المجتمع الجزائري، كما تتجلى كذلك المكانة الكبيرة التي يحتلها هذا الرجل في تاريخ المجتمع الجزائري المعاصر، حتى وإن لم تتح لجهوده الضخمة فرص الانتشار والتعميم المطلوب مرحليا، وحوصر هو نفسه وضيِّق عليه، حتى اضطر إلى الهجرة حفاظا على حياته وكرامته، وحرصا على إتمام مشروعه الثقافي الكبير.
وكعادة الله سبحانه وتعالى في مباركة الجهود المخلصة والتمكين لها، فإن ما قدمه الدكتور سعد الله يلقى قبولا لدى عموم فئات المجتمع، وسيزداد الاهتمام به اتساعا وعمقا مع مرور الزمن. وإنني عندما أرى نماذج من تعليقات أجيال مختلفة في مواقع التواصل الاجتماعي، على وفاته رحمه الله، وكيف غمره من يعرفه ومن لا يعرفه بالدعاء الخالص له بالمغفرة وجزيل الثواب. وعندما أرى واحدا من هذه الأجيال يكتب في تعليقه مخاطبا له: "لأول مرة في حياتي تفيض عيناي دموعاً على إنسان لم أعرفه ولم أسمع عنه حتى هذا اليوم، نعم الرجال أنت يا أبا القاسم".
وقبل أن أترحم عليك، نرجو منك أن تسامحنا على تقصيرنا وتجاهلنا لشخصية عظيمة مثلك وعدم الاستفادة من كنوزك oussama ـ تقرت، الشروق اليومي:14 . 12 . 2013 . وعندما أرى نوعية من حضروا جنازته، من العلماء والمفكرين والباحثين والأدباء والفنانين وجموع المواطنين، رغم بعد المسافة .
عندما يرى الإنسان كل هذا، ويستحضر ما قيل فيه من شهادات من زملائه وتلامذته وقرائه، والسيل الغامر من الأدعية الصادقة التي ليس وراءها مطامع أو مخاوف، يتأكد فعلا بأن الله تعالى يبارك جهود المخلصين من عباده، ويكتب لها القبول، ويضمن لها الذيوع والانتشار والخلود، وهو كل ما يتوق إليه كل ذي بصيرة في هذه الدنيا، بأن يجعل الله له لسان صدق في الآخرين، كما قال أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام: "وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ".
وفي التاريخ وعت سيدة مقام أهل العلم عند الله وعند الناس، وأدركت دورهم المحوري في تاريخ المجتمعات الإنسانية، وكانت لها كلمة عظيمة تكتب بحروف من نور في ذاكرة كل إنسان بصفة عامة، وأمام صاحب كل مسئولية وولاية على الناس خاصة، رأيت أن أسوقها بمناسبة وفاة شيخ المؤرخين وأستاذ الأجيال الدكتور أبي القاسم سعد الله رحمه الله، لتعتبر بها الأجيال، وتضع نفسها حيث ينبغي لها أن تكون. فقد كان رحمه الله ممن تنطبق عليهم هذه الكلمة بحق.
روي أن الخليفة هارون الرشيد وعبد الله بن المبارك، قدما من غير اتفاق سابق بينهما، إلى الرقّة، فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، وتقطّعت النعال، وارتفعت الغَبَرة، من شدة الزحام، والرغبة في طلب العلم، والتبرك بأمير المؤمنين في الحديث: "فأشرفت أمّ ولد أمير المؤمنين من برج الخشب، فلما رأت الناس قالت: ما هذا؟! قالوا: عالم أهل خراسان قدم الرقة يقال له عبد الله بن المبارك. فقالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون، الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَطٍ وأعوان "!.
وأنا أقول في ختام خاطرتي هاته: هذا والله هو المجد حقا، وليس الملك فحسب، فالمجد سلطان ممتد لا ينقطع، لأنه يرتكز على العلم النافع للأجيال، والمحصِّن لها من التيه والدونية والعدمية التاريخية، وفي السنة النبوية: "مَن سَنَّ سُنَّةً حَسنةً فعمِلَ بِها، كانَ لَهُ أجرُها وَمِثْلُ أجرِ مَن عملَ بِها، لا يَنقُصُ مِن أجورِهِم شيئًا ومن سنَّ سنَّةً سيِّئةً فعملَ بِها، كانَ عليهِ وزرُها وَوِزْرُ مَن عملَ بِها من بعده لا ينقصُ من أوزارِهِم شيئًا" رواه ابن ماجة .
هذا هو الدرس البليغ الذي تستفيده الأجيال من حياة الدكتور أبي القاسم سعد الله، وأن تقتدي به فيه، إن أرادت فعلا أن يكون لها نصيب من المجد الخالد. إن على كل فرد في المجتمع أن يختار المجال الحيوي المناسب له، ويركز جهده عليه، ويذهب بعيدا في الإبداع فيه، وخدمة القضايا والمصالح الحيوية لمجتمعه وأمته من خلاله، بكل إخلاص وصبر ودأب وفعالية واحتسابية.
والأسئلة التربوية الهامة التي أود إنهاء هذه الخاطرة بها، وأرجو من أصدقاء وتلامذة ومحبي الدكتور سعد الله رحمه الله الإجابة عنها هي: كيف اهتدى إلى الاهتمام بهذه المضغة المحورية في الوعي الثقافي: أي الوعي التاريخي؟ خاصة وأنه بدأ أديبا صاحب ملكات وقدرات كبيرة، فكيف فلت من سحر الأدب وسلطانه، وتماهى مع الفن التاريخي ومتاعبه؟ وكيف لم تؤثر فيه الثقافات التي أمتلك زمام أوعيتها اللغوية كالانجليز والفرنسية والألمانية..؟ وكيف حافظ على توازنه الفكري والسلوكي أمام عواصف التيارات اليسارية والليبرالية والتلفيقية؟ من أين جاءته قوة التوازن الفكري والنفسي والسلوكي ؟ هل هذه الأمور خاصة به لا يمكن تكررها؟ أم إنها تتكرر بمعرفة أسبابها وشروطها والأخذ بها؟ كيف نصنع نماذج علمائية وفكرية من هذا الطراز العالي؟ من المسئول عن ذلك؟ ما دور السلطة في ذلك؟ وما دور المجتمع في ذلك؟ وما دور الأسرة في ذلك؟ وما دور الإعلام ورجال المال وغيرهم في ذلك؟ كيف تستمر جهود هذه المدرسة التاريخية الجزائرية على نفس الروح الرسالية العالية، وعلى نفس المنهج العلمي الموضوعي المتوازن؟
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/189561.html
Abdellah M
2014-02-03, 11:19
الكاتب:
فريد بوڤرة
أبو القاسم سعد الله.. مفخرة الجزائر في هذا العصر
لم أحزن على أحد مثل حزني على الأستاذ الكبير أبو القاسم سعد الله الذي أحيا الله به الجزائر من خلال عشرات الكتب التي دوّنها وحقّقها ونشرها، والذي نفخ الروح بقلمه في صفحات تاريخها المجيد، فهو مؤرخ الجزائر بلا منازع ومعلي رايتها بين الأمم، ومثله لا يتكرر إلا مرة في القرن أو أكثر، ويكفيه فخرًا موسوعته "تاريخ الجزائر الثقافي" التي تنوء بها العصبة من المؤرخين والباحثين، وهي الموسوعة التي جعلت الجزائري يرفع رأسه عاليًا في سماء الفكر والثقافة، ويفخر بتاريخ أجداده وبلاده. فهل يكفي أن نصف الأستاذ بـ"حارس ذاكرة الجزائر" أو "شيخ المؤرخين الجزائريين" أو "مؤرخ الأجيال" أو "مؤرخ الجزائر الكبير"؛ فهو في الحقيقة فوق أي لقبٍ وفوق أي تكريمٍ.
عرفتُ الفقيد فعرفتُ التاريخ وأحببته، عرفتُ الأستاذ من خلال كتبه وعشتُ معه فيها بروحي ومشاعري، لا تمر عليَّ بضعة أيام دون أن أقرأ في أحد كتبه أو أبحث فيها عن أمر يشغلني أو عن مسألة تؤرقني، فلا أهدأ ولا أسكن حتى يشفي غليلي "سعد السعود" - كما كان يدعوه الإمام البشير الإبراهيمي -.
قرأتُ "يومياته" التي نشرها تحت عنوان "مسار قلم" فعرفته أكثر وأحببته أكثر؛ فرحتُ لفرحه وحزنتُ لحزنه، وتنقّلتُ معه بين الجزائر والقاهرة وأمريكا وفرنسا والأردن، كنتُ معه مقيمًا ومسافرًا، وشاركته أحلامه وأبحاثه، رافقته طالبًا مميّزًا ثم أستاذًا وباحثًا مبرِّزًا، رأيته شابًا وكهلاً وشيخًا، كما رأيته ابنًا وزوجًا وأبًا.
ومن آخر كتب الأستاذ الذي طبعتْ في حياته كتاب "حبر على ورق" (عالم المعرفة 2012)، وهو عبارة عن مقالات متنوِّعة نُشرت متفرِّقة في الزمان والمكان، فجمع سعد الله شملها بين دفتي كتاب واحد، يجد القارئ نفسه بين مقالات فكرية وذكريات عن شخصيات، وجولات ومشاهدات.
ومن أمتع ما في الكتاب حديث الدكتور عن رحلاته إلى أدرار وتندوف وغرداية والأغواط، لما فيها من صورة شيخ كبير لم يمنعه التقدم في العمر ولا المرض من الاستزادة من العلم والمعرفة بدل الركون إلى الراحة.
في المقدِّمة يُحدثنا "قدوة الباحثين الجزائريين" عن منزلة الكتابة من نفسه فيقول: (قلمي لا يهدأ له بال، ولا يستقر له بلبال... فالكتابة عندي هي دوائي وهي دائي، هي غذائي وهي هوائي، فإذا كتبتُ رضيتُ عن نفسي وإذا لم أكتب سخطتُ عنها ومرَّ اليوم كأنَّه سُرق من عمري)، إيه يا شيخنا يا ليت شباب الكتَّاب يقرؤون كلماتك، بل يا ليتهم يسمعون آهاتك .
وفي ختام المقدِّمة أهدى الدكتور الكتاب إلى أبناء جيله من الأحياء الذين استكانوا للراحة أو المرض وطلَّقوا القلم والقرطاس قائلا: (أهدي إليهم هذا الكتاب الذي سيقول لهم: اكتبوا حتى بأهدابكم وأظافركم إذا لم تُطعكم أقلامكم، ثم اذهبوا إلى ربِّكم وأنتم راضون أنكم قُمتم بمهمتكم الفكرية والإنسانية، ولكم مني كل التمنيات) اهـ، فبهذا القلم السيال وهذا الفكر الجوّال ساد الأستاذ ونبغ وتميّز، فرحمه الله رحمة واسعة.
ثم لا يمكن أن نتحدث عن الأستاذ سعد الله ونغفل أمرا مهما وهو: ذوقه الرفيع في اختيار ووضع عناوين كتبه، حتى أصبح متفرِّدًا في هذا عن غيره من الكتّاب؛ ولا شك أن العناوين المميَّزة تُوحي بالمضامين المميَّزة، فإن ذلك: "أفكار جامحة، خارج السرب، مجادلة الآخر، حاطب أوراق، حصاد الخريف، حبر على ورق، مسار قلم..."، ولا عجب فسعد الله يُعدُّ أديبًا وشاعرًا قبل أن يكون مؤرخًا، وكم هم جميل حين يكون المؤرخ أديبًا؟!!
وبعد، فقد مات سعد الله بجسمه المادي الفاني ولكن سعد الله الذي عرفتُ حيٌّ لم يمت، فهو حيٌّ معي من خلال كتبه التي تملأ عليَّ حياتي ومكتبتي، وعزائي أن العظماء لا يموتون بل هم أحياء بيننا بمآثرهم وآثارهم... رحم الله أستاذي الكبير وشيخي الجليل، وجزاه عني وعن الجزائر والجزائريين خير الجزاء، وجعل كل ما قدّمه من عملٍ وكل ما بذله من جهدٍ في ميزان حسناته.
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/189329.html
Abdellah M
2014-02-03, 11:20
الكاتب:
عبد الحميد عثماني
أبو القاسم سعد الله... عالم رفض الأضواء
"إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شيء"، قول منسوب إلى سيد الخلق عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، تمثلته حينما بلغني نعي شيخ المؤرخين الجزائريين الدكتور أبو القاسم سعد الله، الذي رحل عن عمر ناهز 83 عاما قضاها دون كلل ولا ملل طالبا ومدرسا وباحثا ومؤلفا، يصطاد جواهر التاريخ الوطني في أرجاء المعمورة الفسيحة، فما ترك عبر القارات الخمس، متحفا ولا مركزا علميّا ولا جامعة عالمية تحوي وثائق أو مخطوطات قديمة تتعلق بماضي الجزائر القريب والبعيد، وإلا وحط بها رحاله، منقّبا عن مآثر وآثار هذه البلاد التي عشقها منذ صغره، فعاش صوفيا متبتلا في محراب تاريخها التليد، ينفض عنه غبار الطمس والنسيان والتنكر، ولأجل تلك المهمة الجليلة التي تفرغ لها بإخلاص، رفض كل المناصب السياسية والمسؤوليات الرسمية التي تصرفه عن همّه النبيل، فقدم للجزائر بمفرده وجهده الشخصي ما عجزت كافة المؤسسات العلمية عن إنجازه طيلة عقود، ويكفيه شرفا وفخرا أنه جمع بعد سنوات طويلة من البحث والتمحيص "تاريخ الجزائر الثقافي" في تسعة مجلدات، وهو الحقل المعرفي السحيق الذي لم يطرقه سواه، لأنه خشي أن يجهل العالم إسهام الجزائر الثقافي في مجرى الحضارة الإنسانية عندما يُقرن تاريخها فقط بالبطولات الحربية والثورات العسكرية عبر القرون.
لا أظنّ أن رحم الجزائر ستلد رجلا آخر في مقام هذا العالم الكبير، ففقدانه اليوم هو ثلمة غائرة ستتهدم على أنقاضها عرى عديدة من تاريخ الجزائر، مع هذه الرفعة السامية والمشوار الحافل بالعطاء، فقد تميز الرجل بأخلاق العلماء الكبار الذين يتسمون بالتواضع ونبذ الشهرة والهروب من الأضواء التي لاحقته باستمرار، لكنه كان أسمى من الوقوع في درك الغرور وتقديس الذات.
زرته في شهر مارس من عام 2007 في مكتبه بالمركز الوطني للبحث في تاريخ الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954، بأعالي الأبيار، وجدته عند مدخل الباب ينتظرني في الموعد المحدد بالدقيقة، لأنه لا يستقبل ضيوفه وهو جالس فوق أريكته على طريقة المسؤولين، بل ينهض من مكانه ويتقدم للترحيب بزوّاره احتراما لهم، صافحته ثم هممت بتقبيل ناصيته كما يفعل الناس عندنا احتفاء بأهل العلم، فرجع قليلا للخلف، وأبى عليّ ذلك، ثم خاطبني "أعزّك الله يا بني".
جلست إلى جنبه ثلاث ساعات كاملة، وتشعّب بنا الحديث الشيق عن أبحاثه ومؤلفاته ومسيرته العلمية، من مسقط الرأس بمدينة قمار إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مرورا بالزيتونة والأزهر وبغداد، لكني وجدت نفسي أمام عالم يتحفظ جدا في الحديث عن ذاته، فكنت المتحدث وهو المستمع!، وأقصى ما يهمس به، هو أن يؤكد معلومة أو يصوّب أخرى، ولم يتلفظ طيلة المجلس الذي جمعنا بكلمة واحدة، لا بالفرنسية ولا بالانجليزية ولا بالفارسية ولا بالألمانية، وهي اللغات التي أتقنها جميعها بهدف التمكن من الغوص في أعماق التاريخ الوطني، بل كان حريصًا على الكلام العربي الفصيح، وإن شذّ عن ذلك، نطق بلهجة محليّة من واد سوف، ما زال يرطّب بها لسانه الذي لم يتبدّل بعد 60 عاما من الغربة.
وفي غضون ذلك المجلس الطيب الذي سكب عليه من عطر روحه الزكية بنفحات العلم، أبلغتُ عالمنا الجليل أنه قد وقع عليه الاختيار من طرف اتحاد الطلبة لنيل "وسام الاستحقاق السنوي"، كأهم شخصية جزائرية خدمت الثقافة، وأن عليه حضور مراسيم الحفل البروتوكولي لاستلام الوسام الذي سيغطيه التلفزيون وتشارك فيه شخصيات حكومية، لمحت التأثر الواضح في نظرات عيونه، شكرني على المبادرة، لكنه رفض أن يشاركنا الاحتفالية، مؤكدا لي أنه لا يستحق التكريم جزاء خدمته للثقافة!، ثم اعتذر بلباقة، قائلا إن وقته لا يسمح بذلك، وحتى لا يحملني على العودة بخفيّ حنين، فأخرجُ من عنده منزعجا، أبدى لي عمدة المؤرخين الاستعداد لتقديم محاضرة مفيدة للطلبة في مناسبة أخرى، ما جعلني أفهم أن الرجل لا يحبّ الأضواء ويتحاشى مجالس المديح والثنايا، وقتها صدقت فعلا تلك الرواية المتداولة على نطاق واسع، والتي مفادها أن الدكتور أبو القاسم سعد الله رفض رفضا قاطعا أن يتولّى شؤون وزارة الثقافة بعد إلحاح شديد من المرحوم قاصدي مرباح، إنها أخلاق العلماء الكبار الذين يتواضعون بسموّ منزلتهم، ولا تزيدهم شهرتهم إلا تقديرا وتشبّثا بمكانة ونزاهة وشفافية رجل العلم الخالص.
رحم الله الشيخ سعد الله، وعوض الجزائر في مصيبتها وتاريخها خيرا.
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/189328.html
بارك الله فيك يا أخي نعم يستحق الدكتور لقب شيخ المؤرخين بجدارة .فمنذ طفولتي كلما قرات كتابا و جدت على الهامش إسم الدكتور أبو القاسم سعد الله .
الجليس الصلح
2014-02-03, 17:05
رحم الله شيخ المؤرخين الجزائريين الدكتور سعد الله
بارك الله فيك
Abdellah M
2014-02-04, 12:34
بارك الله فيك يا أخي نعم يستحق الدكتور لقب شيخ المؤرخين بجدارة .فمنذ طفولتي كلما قرات كتابا و جدت على الهامش إسم الدكتور أبو القاسم سعد الله .
شكراً على مرورك أختي الكريمة
Abdellah M
2014-02-04, 12:36
رحم الله شيخ المؤرخين الجزائريين الدكتور سعد الله
بارك الله فيك
شكراً على مرورك أخي الكريم
Abdellah M
2014-02-04, 12:45
رحم الله شيخ المؤرخين الجزائريين الدكتور سعد الله
بارك الله فيك
شكراً على مرورك أخي الكريم
Abdellah M
2014-02-04, 13:49
الكاتب:
محمد بغداد
لقاء سعد الله... حكاية درس لن يُنسى
دامت لشهور متوالية مطاردتي له، وإلحاحي عليه، وترددي على كل مكان يكون فيه، واستعمال الوسائل للتأثير فيه، لعلي أحصل على موافقته التي طالما تمنيتها أن تكون، لكنه في كل مرة كان يرفض بأدب، ويمتنع بحياء، ويتهرب بدبلوماسية راقية، ويبحث عن المبررات والحجج، لكي يتجنب الموافقة، وفي كل مرة كان يحرص على ألا يصيبني بصدمة الرفض المباشر، ويسعى إلى إبعاد طلبي من طريقه بأرقى الأساليب، وأجود السبل، وعندما قطعت عنه كل طريق، وأفسدت عليه كل مجلس، أوصلتني الظروف إليه، قال لي بصراحة وبصوته الشجي النحيل، (لا تتعب نفسك، وأرحها من عناء المحاولة، أنا لي يمين لا أحنث به، لقد أقسمت ألا أدلي بأي حوار لأي وسيلة إعلامية مهما كانت، وهذا قرار لا رجعة فيه ولن أحنث.
استثناء البداية
جوابه الحاسم، وتمسكه به، كان بمثابة الصدمة التي فتحت أمامي سلسلة الأسئلة التي لم ينته توالدها، وأنا الذي كنت أراهن على مشروع ثقافي يطمح إلى النوعية والاستثنائية يستكمل جميل تراكمات ما سبق، فمشروع (ضيف الثالثة) حرصت على أن يكون أبو القاسم سعد الله وأربعة أسماء أخرى من شموع هذا الوطن في هذا العصر من ضيوفه ليتوجوا أهدافه التي رسمتها له منذ البداية، وأهمها صناعة قيم الاحترام الثقافي والفكري، وبناء السلوك الحضاري في العالم الجديد.
ورفضه المستميت يفضح تلك الصفحة المؤلمة فينا، فالآخرون يستنزفون تاريخنا، ويهربون هويتنا، ويستثمرون في إنجازاتنا، ويبنون بعباقرتنا الثروات والأمجاد بأسهل التكنولوجيات المتوافرة وأعقدها منسجمين مع عصرهم، وأجيالنا الجديدة تتابع تاريخها وهويتها تبث وتنشر لدى الآخرين، وهويتنا يرسمها من ليس من أبناء البلد، ونحن نتبختر في إنتاج التخلف والإحباط واليأس.
تطاول السنين
وبعدما كاد اليأس يتسلل إلى أعماقي، ويقنعني باستحالة إنجاز اللقاء، وعلى غير موعد سابق ساقني القدر إلى الالتقاء به في مدينة قسنطينة التي كان متواجدا بها للمساهمة النوعية، كما هي عادته في ملتقى دولي، فكررت المحاولة، واستعنت بظروف الملتقى لأجد نفسي في مواجهة رفض أقوى وأعلى من الذي سبقه ، لكنني استجمعت كل ما أملك من إمكانات الإقناع، وحضـّرت أدواتي التقنية في ظروف تصوير سيئة وصعبة.
وما أعلمه هو أن تمنع الرجل من اللقاءات الصحفية نابع من سببين، أولهما إدراكه العميق لأبعاد العملية الإعلامية ودورها في التاريخ وقدرتها الرهيبة على التأثير في الوعي الاجتماعي، والمتطلبات الرهيبة التي تفرضها على من يتورطون في الدخول في أتونها وهو الإدراك الذي يعي سعد الله جيدا أننا لم نعد له عدته، ولم نأخذه بعين الجد والتقدير، ولم نحضر له إمكاناته الفكرية والنفسية المناسبة، وإصرارنا المستميت على السير في طريق التخلف والغرق في أوحال الانحطاط بالرغم من مرور الأيام وتطاول السنين.
وثانيهما تعرضه لسلوك أحمق ومتعجرف كما جرت العادة من أحد الدخلاء والمغشوشين في عالم الممارسة الإعلامية، ما جعله يترفع عن الانخراط في مستنقعاته حتى يحفظ كرامته ويصون هيبته، وهو الذي خبر المشهد الإعلامي الثقافي، وعاين أمراضه المزمنة، وتجرع الألم ما جعله يتخذ من المواقف ما يناسب حجم عبثيته.
الامتحان العسير
عندما هممت بمباشرة إنجاز اللقاء وجدت نفسي ودون أن انتبه أقع في فخ المستجوب، وليس الذي يطرح الأسئلة، ودون سابق إنذار منه شرع أبو القاسم سعد الله في امتحاني، فأمطرني بسيل من الأسئلة استخدمها كآخر محاولة للتملص من التصوير، لتتمحور أسئلته حول ماذا قرأتَ من كتبي، وعن تواريخ صدورها والدُور التي نشرتها، وما اطلعت عليه من مقالاتي، وغيرها من الأسئلة، ولما أنقذتني ذاكرتي المتآكلة تحت سطوة ترهل العمر انتقل إلى الأسلوب الثاني ملوحا بأسئلة أخرى تعلقت بنوع الأسئلة التي حضرتها لتكون موضوع اللقاء، وكلما عرضت عليه سؤالا طلب الثاني باحثا عن الفائدة المرجوة منه، والهدف المراد تحقيقه.
وفي لحظات الامتحان العسير، جال بخاطري ما نتخبط فيه من أدران التخلف، وعبثية السلوكات، التي تدفع الممارسين للإعلام الثقافي منه على وجه الخصوص، للعبث بمقدسات المهنة، ويدوسون يوميا على كرامتها، فمن دون سابق إنذار تجرى الحوارات، ومن دون معرفة حقيقة بخلفيات المواضيع والأحداث، تنشر وتبث الأخبار، وبسرعة البرق تلمع الأسماء، وبكل عنجهية تهمش وتقصى الجودة والنوعية، ويختفي الإبداع وتزول الجودة، ويتهافت من يسمون أنفسهم زورا بالمثقفين، على أضواء الإعلام، ويتبجحون بكل وقاحة على الظهور دون أن يكون فيهم قلة حياء، أو نزر من شهامة، يتحدثون في كل شيء، ولا يقولون شيئا، وكم تمنيت لو ندخل جميعا ممن هم في ساحة الإعلام الثقافي، تحت وطأة هذا الامتحان، الذي مررت به علنا لنتعافى من بعض أسقامنا.
لذة زبائنية
إلى غاية آخر دقيقة، من مسلسل محاولاته التملص من اللقاء، وحلقات إصراري على الوفاء بدين قديم في ذمتي، تجاه أمثاله، اشترط شرطا، لعله يكون اعتماده في تحقيق ما أكرهته عليه، فلطلب أن يبث كلامه كاملا، دون أن ينقص منه شيء، ولا تحذف من الحوار كلمة واحدة، وبقدر ما كان يحرص على تنفيذ شرطه، الذي لم تكن غايته حرفيته، ولا شكليته الظاهرة، بقدر ما كان يستخدمه حجة، للتحلل من الظهور، لأن سعد الله كان تحت التزامات أخلاقية وأدبية نادرة اليوم، تفرض على المثقف أن تكون وجهة نظره، ومواقفه كاملة، غير منقوصة بعيدة عن التلاعب والاجتهادات، وأنه هو من يتحمل مسؤولية إنتاجها، وعليه أن يبلغها بطريقته وأسلوبه الخاص، لمن يهمه الأمر من الرأي العام، دون أن يعتمد على قدرات الآخرين في التعبير عنها، مهما بلغت مستويات من يعتمد عليه في تلك المهمة.
في تلك الأجواء، تزاحمت عليا كثير من المشاهد والسلوكات، التي أعيشها يوميا من جحافل النخب المغشوشة، ومن يناصرها، التي استسلمت للريوع، واستسهلت فتاتها، وهي تقدم يوميا أكثر مما تملك، على أمل أن يتم التكرم عليها بفضل الخدمة الدنيئة، والقيام بالواجبات العفنة، جاعلة نفسها ضحية زبائنية ضحلة، تدفع تكاليف الولاء الباهظة، ولا تنال سوى قليل الريوع، التي تلوث كرامتها، وتسلبها إنسانيتها، وتلوث صاحبها حد القذارة.
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/189326.html
Abdellah M
2014-02-04, 13:50
الصورة المشوهة
تكرم العلامة سعد الله أبو القاسم بالاتصال بي، وقد بادرني باللوم والعتاب الرقيق، قائلا أني ورطته في الظهور، وأن الكثيرين هم الذين اتصلوا به، واقلقوا خلوته واخترقوا راحته، وقد شاركته نفس الموضوع، وأشهد أني تلقيت أكثر الاتصالات في عددين أو ثلاثة من البرنامج، حتى فقدت بطارية هاتفي قدرتها على مقاومة توالي الاتصالات، المعاتبة على قصر مدة اللقاء والمطالبة على أن تكون سلسلة طويلة، مع أبو القاسم سعد الله، علنا نرتقي إلى تدوين التاريخ الوطني، عبر الوسائط الإعلامية الاتصالية الحديثة.
عندها فهمت كيف يكون الإنسان إنسانا، ويبتعد عن دائرة الشخص فيه، عندما يراهن على الاحترام ويناضل من أجله، متجاوزا كل إغراءات الإعجاب، وأن الدخول في قلوب الناس، وكسب مودتهم ليس بالأمر اليسير، فدونه نزوات النفس، وعفن الواقع، وتخلف الذوق، وتقاصر الهمم.
وعندما حاولت أن أثير فيه عبر أسئلتي موضوع التاريخ الثقافي، وجدت منه استجابة مستفزة وتصورا يغري بالاقتحام، ومن إجابته، فهمت لماذا كان سعد الله الوحيد الذي تورط في التاريخ الثقافي، وعجز غيره عن الاقتراب منه، لأن الأمم تقاس قيمتها وتمتلك قدرات الانخراط في المستقبل، بقدر ما عندها من وعي حقيقي بهويتها الثقافية، وقدراتها في الاستثمار النوعي فيه.
وقد عجزت النخب الجزائرية عن مقارعة سعد الله، في مغامرته في التاريخ الثقافي، فانتقل به إلى الخارج، ليطبعه وينشره، لينتصر على ما يسمى وهما، مؤسسات تستهلك الأموال خيالية، وتضم جحافل الأفراد، من قيادات النخب المغشوشة، التي يفترض أن مهمتها تسويق صورة الجزائر في الخارج، والتي تمكنت من تشويه صورة البلاد، في أذهان الآخرين، ونجح سعد الله بمفرده، في تعريف الآخرين بالبلاد، وتحبيبهم فيها، ودفعهم إلى الاهتمام بها.
الانخراط في التاريخ
لقد كان الحوار في غاية الأناقة، وفي قمة روعة المعنى، قال فيه سعد الله، خلاصة مسيرته، وعبر عن نتائج جهوده، دون أن يخفي مرارة الألم، التي توارت في نفسه سنوات، إلا أن شهامته ورفعة نفسه، جعلته يتحدث مع الأجيال القادمة، التي سيكون سعد الله صديقها الوفي، ومنه تتعلم كيف تراهن على كسب الاحترام، وكيف تنقذ نفسها، وتحصل على الانخراط في التاريخ، عبر ما تتركه من خلفها من انجازات.
وقد أدركت اليوم، لماذا ترفعت الهيئات الثقافية على مجرد إعلان تعزية، عند رحيل سعد الله، ومارست الإهمال البارد، والتجاهل القاتل، للتعبير عن مستواها الحقيقي، وموقفها الصارم منه، ومن أمثاله، وإن كان الراحل الطاهر وطار، قد نشر مراسيم جناته حيا، فإن سعد الله، رق لحلنا، وستر عوراتنا، بوصيته الأخيرة.
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/189326.html
Abdellah M
2014-02-04, 13:51
الكاتب:
بشير بلاح
هموم ومساهمات ثقافية في مسار الفقيد العلامة أبو القاسم سعد الله
عرّف أحد النّقّاد البريطانيين المعاصرين (Raymond Williams ) الثقافة بأنها "الطريقةُ الشّاملة للحياة". وللثقافة جانب ديناميكي فاعل تزداد أهميته باطّراد، يتضمن دورها في توجيه سلوك الإنسان، ركز عليه بعض المفكرين كـ"مالينوفسكي" (Malinowsky) الذي اعتبر "الثقافة جهازا فعّالا ينتقل بالإنسان إلى وضعٍ أفضل؛ وضع يواكبُ المشاكل التي تواجه الإنسانَ في هذا المجتمع أو ذاك، في بيئته، وفي سياق تلبيته لحاجاته الأساسية". فهي قدرةٌ خلاّقة تمكّن الإنسان من توسيع رِحابِ نفسه عن طريق النشاط الإبداعي الأصيل؛ باعتبار أنّه ليس مستهلكاً لتراثه الثقافي فحسب؛ بل إنه كذلك مستمرّ في الإبداع والزيادة على ما وصل إليه.
والمرحوم الدكتور أبو القاسم سعد الله من كبار المثقفين الجزائريين الذين حملوا هموم أمتهم ومجتمعهم في هذا الإطار، متسلّحين بالأصالة التي استمدّوها من الثقافة العربية الإسلامية؛ والفعالية التي اقتبسوها من المناهج الغربية الحديثة المُحْكمة، في ظل ظروف مثبّطة ومعاكسة، لم تمنعهم من الإبداع، والمساهمة في تنوير المجتمع والأمة وحل مشكلاتهما، وخدمة العلم والثقافة، وترقية الإنسانية.
طموح علمي ونحت في الصخر
يعتبر ارتفاع صرحِ المرحوم الدكتور سعد الله (المولود بڤمار عام 1927) الثقافي المهيب في صلب البيئة الجزائرية تصديقًا لآراء التيار الفردي من علم النفس الثقافي، الذي يذهب إلى أنَّ الكائن البشري نظامٌ متوازن تعمل آليات التوازن الداخلي لديه على تفتيت الثقافة واستيعابها وصناعتها، وأن الضغوط الاجتماعية السلبية لا تؤثر إلا على الأفراد الذين يمكّنونها من ذلك بضعفهم أو لا مبالاتهم، بخلاف الأقوياء الذين يغالبونها ويصمدون لها، ويبدعون داخل مجتمعات يسودها الاغتراب والجهل، ضاربين على ذلك مثَل أن المواقف الاجتماعية تقدّم الحبوب إلى مطحنة الفرد، لا أنها المطحنة التي تنتج عمله؛ وأن الفرد مبدعٌ ثقافيٌّ يضيف تجربته الفريدة إلى مجموع الأنماط والتوقعات الثقافية الجماعية، فتتغير الثقافة باستمرار من خلال هذا التفاعل بين الأفراد، وبينهم وبين الثقافة.
من أبلغ أمثلة الطموح العلمي التي عزّ نظيرها لدى المرحوم: تجاوزه لما سمّاه "النكبة الثقافية" التي ألمّت به عام 1988، ممثّلة في ضياع محفظته (في مطار هيثرو-لندن) المشتملة على الفصول الثلاثة الأخيرة من الجزء الأول من الحركة الوطنية (1830-1900)، أي قسمَه الثاني (مرحلة 1860- 1900)، وبطاقات ذلك الجزء جميعا، وقسم هام من الجزء الثالث من تاريخ الجزائر الثقافي، وجميع بطاقات جزأيه 3 و4. فرغم أنها زعزعته، إلا أنها لم تحبط مشروعه العلمي الذي اطّردَ بإخراج الجزء العاشر من التاريخ الثقافي سنة 2007، ثم جزءين آخرين من ذات التاريخ يؤرخان لما قبل 1500 سيصدران قريبا مع أعمال أخرى على الراجح.
مساهمات جُلّى في بعث التراث وإحياء الثقافة، وإرساء قواعد مدرسة تاريخية
لطالما تألم الراحل لواقع الثقافة العربية الإسلامية المأساوي في الجزائر (والعالم الإسلامي عامة) الذي تواطأ عليه عاملان: تفريط المجتمع، وخذلان النخب العصرية الحاكمة.
لذلك دعا الراحل إلى إنزال الثقافة العربية الإسلامية المنزلة التي تستحقُّها؛ وعضَدها بجهوده الملموسة الواعية، باستفراغ الجهد في إحياء تراثها الثقافي الإيجابي؛ وتنشيط الساحة الثقافية؛ وصيانة الذاكرة الجماعية للمجتمع الجزائري (والأمة بشكل عام) بملء الفراغ في مجال التاريخ الذي كان حكرًا على إنتاج المدرسة الاستعمارية.
1 . إحياء التراث
من أبرز الأمثلة على مساهمة الراحل في بعث رموز وذخائر التراث الجزائري: معلَمة "تاريخ الجزائر الثقافي" (1981- 1998) بأجزائها التسعة، ثم جزءها العاشر (2007)، التي تعكس ملكةً أدبية راسخة وقدرة على الاستقصاء والتقميش فائقة ومصابرة على البحث نادرة، وسدّت ثغرة كبيرة في هذا المجال. ولا غرور؛ فقد كتب عنه الشيخ البشير الإبراهيمي عام 1960 بأنه "مشغوف إلى حدّ الافتتان بالبحث عن الآثار الأدبية والعلمية لعلماء الجزائر في جميع العصور" (أبو القاسم سعد الله، محمد العيد آل خليفة (1961)، ص 3).
إلى جانب أعماله عن أمثال "محمد العيد آل خليفة رائد الشعر الجزائري في العصر الحديث" (1961)، و"القاضي الأديب: الشاذلي القسنطيني" (1974)، و"رائد التجديد الإسلامي: ابن العنابي" (1977)، و"الطبيب الرحالة: ابن حمادوش الجزائري" (1982)، و"شيخ الإسلام عبد الكريم الفكّون" (1986)، وتحقيقاته لكتابات أعلام الجزائر كـ"رحلة ابن حمادوش" (1983)، و"حكاية العشاق" (1983)، و"منشور الهداية" للفكون (1987)، و"رسالة الغريب إلى الحبيب"، للبجائي (1992)، و"تاريخ العدواني"، وغيرها. وفي هذا السياق أيضا تأكيدٌ على الوحدة الثقافية للشعب الجزائري، ككتابته عن كتاب "الحوض" لمحمد بن علي بن إبراهيم السوسي في الفقه المكتوب بالأمازيغية بحروف عربية، وعن "الأُفعول" في الحميرية والبربرية، وغير ذلك.
2 . إرساء قواعد المدرسة التاريخية الجزائرية
ساهم الراحل في بناء صرح التاريخ الوطني، بتأسيس قاعدتين:
- قاعدة تاريخ الجزائر السياسي والعسكري المعاصر: حيث يرى بأن العهد الاستعماري وتتبع مسيرة الصراع بين الجزائريين والفرنسيين خلاله لم يدرس بعدُ باستيعاب، ومن هنا طموحه إلى تقديم أرضية يمكن للباحثين اللاّحقين الاستفادة منها والانطلاق من حيث توقف هو - كما قال عام 1989 - رغم اعترافه مرارا بأنه لم يحقق كل ما عزم على إنجازه في ذلك المشروع.
- قاعدة أوسع لتاريخ الجزائر الثقافي، قرُبت أن تكون قصة حضارتها الحديثة والمعاصرة، خاصة أنه صرّح في الجزء الأول من "تاريخ الجزائر الثقافي"- وهو بيت القصيد - بالقول عام 1979: "كان هدفي من البحث إنتاج عمل يكشف عن مساهمة الجزائر في الثقافة العربية الإسلامية والإنسانية عبر العصور"، لولا أنه تجنّب تتويجها بحوصلة فلسفية تفسّر طابع الثقافة الجزائرية البياني- الوصفي- الاستِعادي، وتحدّد التيارات العميقة التي صاغت أفكارنا وحكمت أعمالنا وصنعت مصايرنا، لنقدها وتقويمها واستثمارها في معتركات التدافع والتداول والتجديد، ربما لأنه تحاشى - كما لاحظ الدكتور ناصر الدين سعيدوني - الوقوع في محاذير إخضاع الأحداث لنظرة خاصة قد تقلل من قيمة عمله وتثير حفيظة المخالفين (ناصر الدين سعيدوني، دراسات وشهادات مهداة إلى الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله (2000)، ص 583)، أو لأنه من المؤرخين الذين يعتقدون - على غرار المؤرخين البريطانيين - بأن معنى التاريخ ظاهر وواضح بذاته، فلا يكون موضوعًا استنتاجيّا؟ تلك "الاستنتاجية" التي يعتبرها بعض أعلام المؤرخين إكسير الحياة بالنسبة إلى التاريخ - فضلا عن الطموح إلى المساهمة في تصحيح أخطاء التاريخ، كما في قوله "هناك مواقف وتفاسير كثيرة في تاريخ المغرب العربي تحتاج إلى تصحيح وإعادة نظر"، يذكر منها مقاومة البربر "المزعومة" للعرب، وطبيعة وأعمال وتأثيرات بني هلال وبني سُليْم، والفتح العثماني، مما يُعرف بذهابه فيها عكس مذاهب المؤرخين الفرنسيين ومن سايرهم.
- ناهيك عن التطلّع إلى تقويم وإثراء الحياة الثقافية، حيث صرّح في كافة أعماله بغيرته على اللغة العربية وحرصه على خدمتها وإثرائها، ولا غرو، فتكوينه الأدبي والعلمي- التاريخي وفّرا له كافة المبررات والإمكانات.
إشكالية الوعي التاريخي
الوعي التاريخي هو الإدرك العميق لدور الخبرة التاريخية الذاتية والإنسانية الحيوي في بناء الوعي بسنن التسخير عامة، وسنن الأنفُس والهداية والتأييد منها خاصة، وما يوفّره ذلك لحركة التجديد من شروط ضرورية لضمان أصالة وفعالية واطّرادية مبادراتها على كافة الصُّعد؛ أو هو الوعي بمقومات الوجود التاريخي، والإمساك بتلك المقومات، وإعمال الإرادة لحمايتها. ولعل استعادة المجتمع والأمة هذا الوعي كفيل ببلورة وعيهما بسنن الاجتماع والتدافع البشريّيْن والتعجيل بالنهضة المنشودة، التي سعى إليها الراحل ومَن جايَلَه من المؤرخين والمثقفين العامِلين.
ويبدو أن أصول إشكالية الوعي التاريخي عند الأمة الإسلامية تتصل بمعركة صِفّين (37هـ/ 657م) والانحراف الذي تلاها كما يرى مالك بن نبي، الذي ذهب إلى أنّ الحضارة الإسلامية لم تنشأ-بسبب ذلك- عن مبادئ الإسلام، بل إنّ مبادئَ الإسلام هي التي توافقت مع سلطةٍ زمنيّة قاهرة. حتى استبدلت اسميْ "المُلك العاضّ" و"المُلك الجبري" الوارديِن في الحديث الشريف باسم "الخلافة"، وغدت نظريتُها السياسيةُ في مواجهة مجادلات الفِرَق-على سبيل المثال- مجرّدَ انعكاسٍ للوقائع التاريخية؛ أي صبغٌ لتاريخ الأمة بصبغة عقلية.
فغدا التاريخُ نفسُه أداةً للجدلِ المذهبي، وسبباً في الجمود الفكريّ؛ بدلاً من أن يكون وسيلةً للنقد الذّاتي، ومقاومة التعصّب والأوهام والغُثائية واللاّفعالية، وتأسيس الوعي الموضوعي والسُّننيّ التكامليّ، واستنباط وسائل ترشيد الفعل الثقافي والتربوي، لتحقيق الانبعاث الاجتماعي والحضاري؛ حتى ذهب بعض الباحثين إلى أنّ تلك "الأحكام السلطانية"، ومبدأ "طاعة المتغلّب"، وذلك التأويل العقلي للكتاب والسنّة؛ ليست سوى تسويغًا بعديًّا للوقائع التاريخية السابقة التي أقرّها الإجماع؛ لأنّ الأمّة من هذا المنظور لا يمكنها الوقوع في الإثم والخطأ، وإلاّ فقدت جدارتها حبطت أعمالها.
تتجلّى مساهمة الدكتور سعد الله في التأسيس لحلّ إشكالية الوعي التاريخي في دعوته إلى التسلّح بالمناهج العلمية الحديثة، وكتابة التاريخ العلمي الدقيق لا التاريخ الاستعراضي أو تاريخ المناسبات، واجتهاده في إظهار الحقائق، وإبراز قيمة الأبطال، خلافًا لما ينعاهُ على الجزائريين من الزهد في الكتابة، والركون إلى الأوهام، وتهوين قيمة الرموز.
على أنّ الراحل لم يكن -شأن كافة البشر- بمعزل عن تأثير العاطفة والانتماء الفكري، كما في تمجيده "التاريخ الرسمي" للأمة الإسلامية مثلا. ولا غرو؛ فتكوُّن أفكار المؤرخ مرتبط بتكوّن وعيه، الذي يتشكّل في حدود الفضاء الثقافي الذي يرتاده والتكوين الذي حصّله، ناهيك عن أن المؤرخ لا يهمّه من التاريخ إلا ما يرى فيه أداةً لحل إشكاليات الحاضر، كما تدلّ عليه عبارة المؤرخ الإيطالي "كروتشي" (Croce) الشهيرة: "التاريخ بأجمعه هو تاريخ معاصر"، التي تعني أن التاريخ يتألّف أساسًا من رؤية الماضي من خلال عيون الحاضر وعلى ضوء مشاكله.
مع ذلك نجح الدكتور سعد الله في هذا المضمار إلى حدّ بعيد في تخطيط معالم مدرسة تاريخية جزائرية، ذات منهج عصري، ولسان عربي، ومضمون أصالي ووطني؛ غدت موئلاً للباحثين عن صورة الجزائر الأصيلة، وملاذًا من عواصف التشكيك في الهوية وتفكيك عناصر الوحدة الاجتماعية الجزائرية؛ فساهم في تعميق وبلورة التوجّه الثقافي الساعي إلى فكّ الارتباط بالموروث الاستعماري والثقافة التقليدية الميّتة (وإن لم يشدّد على مواجهة الأخيرة مثلما فعل مالك بن نبي مثلا)، وتثبيت انتماء الجزائر العربي الإسلامي، بكيفية واعية بمقومات ذلك الانتماء، حريصة على حفظها وترقيتها بأصالة وفعالية. ومن المفيد ذكر جانب من ذلك:
1 - في بعث التراث الجزائري: لإبراز مساهمة الجزائر في الثقافة العربية الإسلامية وحفز المبادرات الإبداعية لدى أبناء الجيل، من خلال ما ذكرناه آنفا.
2 - في نصرة القضايا الوطنية الجزائرية وبيان حقائقها وحيثياتها: للحدّ من تأثير وجهة النظر الاستعمارية وتأويلاتها، وشحذ اعتزاز الأجيال بجهاد الآباء واستلهام دروس التاريخ، كما في: الحركة الوطنية الجزائرية، بأجزائه الثلاثة (1830- 1900 / 1900 - 1930 / 1930 - 1945) - أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، بأجزائه الثلاثة (1976، 86، 90) (ثم جزآن آخران: 1996، 2005)، وغيرها.
3 - في كتابة التاريخ الثقافي: لاستقصاء وتسجيل خلفيات الأحداث الباطنة وعوامل التغيير العميقة، وربط الجزائر بمحيطها الطبيعي العربي الإسلامي، ودرْء تيارات الاستلاب الجارفة والنزعات الانعزالية الهدّامة، خاصة في موسوعته "تاريخ الجزائر الثقافي" بمجلداتها العشرة، التي صدر جزآها الأوّلان عام 1981، ودراساته عن محمد العيد آل خليفة (1961)، والشاذلي القسنطيني (1974)، والمفتي ابن العنابي (77)، وشيخ الإسلام عبد الكريم بن الفكون (86)...
4 - في بحث قضايا الساعة في الفكر والمجتمع والسياسة، خاصة: منطلقات (1982)- أفكار جامحة (88) - قضايا شائكة (89) - في الجدل الثقافي (93) - هموم حضارية (93)- خارج السرب (2005) - حوارات (2005).
الخاتمة
كان الراحل سعد الله مثقفا أصيلا، أدّى دورًا ظاهرا في بلورة وإنعاش ورسم توجّهات الثقافة الجزائرية المعاصرة، خاصة في قضايا تأصيل التاريخ والتعريب والتربية، وقيم المجتمع المدني أيضا. كما كان عالِما نذر نفسه للحقيقة كما بلّغه تخصّصه واجتهاده، رغم أعاصير ومناورات أرباب المصالح الضيقة. مع حرصٍ على صرامة المنهج، واعتدالٍ وحذرٍ في المواقف العامة، وميلٍ إلى التآلف والتوافق. وهو أيضا ذاكرة جيل حلُمَ بالنهضة، لكنّ الذي تراءى له كذلك كان حركةَ وعيٍ وتعبئةٍ ودفاع عن الذات أمام تحديات الانحلال الداخلي والهيمنة الخارجية، أكثر منه نهضةً متكاملة تدرك الحاجات، وتتوفر لها الخبرات والقدرات. ويبدو أنّ النهضة المنشودة مَنوطة ابتداءً باستكمال الوعي التاريخي (المحقِّق لإدراك مقوّمات الوجود التاريخي والتمسّك بها) لدى نخبة المجتمع والأمة وجماهيرها على حدّ سواء، لتفعيل طاقاتها وحفزها إلى البناء والتجديد كما أسلفنا، ولطالما نبّه إلى ذلك الدكتور سعد الله وكافح من أجله، وإن لم ينظّر له بشكل مستقل. فهل تتضافر الجهود في هذه السبيل؟.
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/189325.html
belkhodja amina
2014-12-23, 15:36
شكرا على هذا الكلام الطيب
ورحم الله شيخ المؤرخين واسكنه فسيح جناته
Abdellah M
2014-12-28, 16:21
شكرا على هذا الكلام الطيب
ورحم الله شيخ المؤرخين واسكنه فسيح جناته
شكراً على مرورك أختي الكريمة
Business.pro2100
2015-01-02, 13:01
قدمت لنا .. موضوع مفيد, بارك لله فيك أخي الكريم .
aminebio
2015-07-01, 18:10
بارك الله فيك على المعلومة و جزاك خيرا
piratack007
2015-10-14, 13:44
بارك الله فيك
ربـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي يحــــــــــــــــــــــــــــفظكم ( اسماءالصحف والمجلات الناطة باسم الاتجاهات السياسة للحركة الوطنية) رانييي زاااربة بلييييوز دركا
vBulletin® v3.8.10 Release Candidate 2, Copyright ©2000-2025, TranZ by Almuhajir