نور2014
2014-01-08, 21:53
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
هذه قصة جميلة تدل على صنعة كاتبها البارع الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى الذي يروي فيها عن أحد أبطال غرناطة الأشاوس , فتعالوا مع بعض نتعرف على هذا البطل الغضنفر :
((لم تشهد شمس الواحد والعشرين من المحرم سنة 897 ه حينما أطلت على غرناطة , تلك المدينة الضاحكة للحياة , الساكنة الى النعيم , السابحة في جو النغم العذب والعطر والأريج , بل رأت مدينة واجمة حيرى , قد أقفرت من الرجال , إلا قبضة من الأبطال رابطت حيال الأسوار , هي بقية ذلك الجيش الذي دانت له أسبانيا كلها , وأظلت ألويته فرنسا وإيطاليا .... قد وقفت تدافع عن آخر حصن للإسلام في هذا القطر الممرع , تذود عن بيوت الله , ومقابر الأجداد ...
ولقد جازت غرناطة أياما سودا عوابس , ورأت مصائب ثقالا متتابعات , ولكنها لم تجد مثل هذه الليلة التي قضتها مسهدة مذعورة , تنظر حواليها فلا تبصر الا مدنا خضعت للعدو فجاس خلالها واستقر فيها , وقد كانت ارض العروبة , وكانت ديار الإسلام , وأمة استذلت واستعبدت , وقد كانت أعز من النسور وأمنع من العقبان , وبقيت هي وحدها تحمي الحمى وتدافع عن الأرض والعرض والدين , وتحمل وحدها الدين , دين الجهاد , الذي كان في اعناق مدن الأندلس كلها والمسلمين أجمعين , فنامت عنه مدن الأندلس , وشغلتها خيالات الامارة وألقابمملكة في غير موضعها ...
وجعلت تنظر غرناطة الى القصر البهي العظيم , وهو آخر هاتيك القصور التي شغل رواؤها الأمراء , وأنستهم سكناها أخلاق صحرائهم الأولى , فكانت مقابر لأمجادهم طفقت تنظر اليه فلا ترى من بناة الحمراء الا الرجل الضعيف , المرأة الملتحية التي اسمها ابو عبد الله الصغير - وأمه الشريفة الأبية , الرجل الذي خلق في جسم امرأة :
عائشة , فحولت وجهها عن القصر الى جهة السرر تسأل : هل عاد موسى ؟
ولقد كان ((موسى)) أمل هذا الشعب واليه مفزعه وعليه بعد الله اعتماده , بداله في ساعة الخطر كما يبدو النجم الهادي للضال الآيس .
لقد طلع فجأة من الظلام . ظلام الدهماء فاذا هو يلمع في لحظة واحدة التماع البدر المنير - وكذلك يقذف هذا الشعب العربي بالابطال كلما حاقت الشدائدوأدلهمت الخطوب- واذا هو امل الأمة , وإذا هو ملء السمع والبصر وملء السهل والجبل , واذا هو بطل المعركة المكفهرة , دعا الى القتال شعبا كل من القتال , فلباه على كلاله هذا الشعب الذ علمه محمد كيف يلبي كلما دعي الى التضحية والجهاد , لباه وتشققت أسماله البالية عن أسود غاب وسباع عرين . ززقف بهؤلاء الأسود في وجه السيل الإسباني الطامي وما زال ثابتا , ولكن أسوده قد سقطوا صرعى في ميادين السرف .
خرج موسى منذ أحدى عشرة ساعه يضرب الضربة الأخيرة ينال بها إحدى الحسنيين , إما النصر وإما الشهادة , ويرد العدو الذي أبقى عليه حلم المسلمين حتى قوي بضعفهم , واشتد بلينهم , وانتزع منهم الأرض قرية قرية , وبلدا بلدا , حتى أقبل يطردهم من آخر منزل لهم في الأندلس من غرناطة .
وعلت غرناطة فترة الجزع , من خوفها على موسى , لقد جعلته قائدها وسلمته الدفة , ليقود السفينة الهائمة على وجهها وسط الأعاصير والزوابع الى الشاطئ الآمن فاذا عجز موسى عن نجاتها لم ينجها احد بعده ... وقد كان موسى آخر خيوط من خيوط الرجاء . وآخر شعاعه من هذه الشمس التس سطعت فملأت الأرض نورا وهدى ثم أدركها المغيب . فإذا انقطع هذا الخيط عم اليأس وانتشر ..... وقد كان موسى آخر مقطع من هذا النشيد الذي ألف مطلعه طارق , ثم توالى على نظمه (شعراء ...) البطولة عبدالرحمن وعبدالرحمن وعبدالرحمن , الغافقي والداخل والناصر , فحمله الأبطال المساعير الى الأقاصي والأداني وتجاوبت بأصدائه سهول فرنسا , وبطاح إيطاليا , ثم ضعف وتخافت ولم يبق منه الا هذا المقطع , فإذا أنقضى جف النشيد على الشفاه وانقطع ومات ....
وقد كان موسى آخر سطر في سفر الحق والبطولة والمجد , ذلك الذي كتبه العرب المسلمون في ثمانمائة سنة , فمحاه الأسبان في سنوات , ولم يبق الا هذا السطر فإذا طمس ذهب السفر وباد .. وقد كان موسى آخر نفس من أنفاس الحياة في الأندلس المسلمة , فإذا وقف هذا النفس الواحد , وسكن هذا اللماء الباقي , صارت الأندلس المسلمة أثرا بعد عين , وصارت ذكرى عزيزة في نفس كل مسلم , وأمانة في عنقه الى يوم القيامة ....
وانطلقت من فوق الأسوار أن (( لقد عاد موسى )), فتقاذفتها الألسن وتناقلتها الآذان , فطارت في ارجاء المدينة وسارت في جوانبهامسير البرق , فبلغت الساحات والدروب , وولجت الدور والمنازل , وأوغلت خلال البيوت والسراديب فلم تلبث أن نفضتها نفضا فألقت بأهليها الى الأزقة والشوارع , فاذا هي ممتلئة بالناس من كل حنس وسن ومنزلة واذا هي تزخر بهذا النهر الأنساني , الذي يجري صوب الأسوار , صخابا جياشا مزبدا , يتحدر ويسرع مجنونا , كأنما تدفعه قوة خفية هائلة احتوتها هذه الكلمات السحرية المكهربة الثلاثة : (( لقد عاد موسى ))
لقد كان يوما من الأيام التي تضئ الطريق لمن يسلك فجاج التاريخ , وتجئ في الليالي كالعبقري في الناس , وتصنع العجائب لتكون معجزة في الزمان , ما شهدت مثله في غرناطة , ولا ابصرت منه (الا قليلا) عين الوجود ! يوم أضاع فيه الناس غريزة المحافظة على الذات في غمار غريزة النوع ونسوا نفوسهم ليذكروا الدين والوطن , وأنبتوا من الحاضر المقيت , ليعيشوا في الماضي الفخم , فماج في سوح غرناطة بحر من الأجسام البشرية حمل أصحابها أرواحهم على أكفهم , وقدموا بين أيديهم دماءهم , التي غضب فيها ميراث ثمانية قرون كلها مجد وعز , ونفوسهم التي عصفت فيها ذكريات ألف معركة منصورة , فمشت في الأعصاب النار واستعد كتاب التاريخ ليكتبوا أعجب موقف للشعب اذا هب .
ووصل موسى , ذلك البطل البدري الذي أخطأ طريقه في الزمان فلم يأت في سنوات الهجرة الأولى , بل جاء في الأواخر من القرن التاسع , ولم يطلع في الحجاز التي كانت تبتدئ تاريخها المجيد , بل في الأندلس التي كانت تختم تاريخها ...
وكانت تعلوه كآبة , فأنصت الشعب واحترم كآبة هذا الرجل الذي لو سبق به الدهر لصنع يرموكا أخرى أو قادسية ثانية , ولكن الله الذي فتح تاريخنا في الأندلس بموسى , قد ختمه الآن بموسى !
ونظر موسى حوله , فإذا حوله شيوخ قد أراق الكرم على شيباتهم بهاءه ونوره , وأطفال كالزهر فتحوا عيونهم على الدنيا فوجدوها غارقة في بركة من الدم , و نسوة تفتحت الأكمام عن زهراتها , فرأت الطرقات من تكن الشمس تراهن صيانة وتعففا, قد برزن يسرن الى المعركة ويزاحمن الرجال , ولم يكن يخشين على جمالهن , فقد غطت عاطفة الجهاد على عاطفة الجنس , فكان كل رجل أخا فيه لكل امرأة فأحنى رأسه , ورأى الناس في عيني البطل دمعة تترقرق , وفتح فمه فحبس الناس أنفاسهم .
فإذا هو يعلن النبأ المهول , نبأ تسليم أبي عبد الله الصغير مفاتيح غرناطة !
نبأ بدأ صغيرا كما تبدو المصائب , فلم يدر الناس لهول المفاجأة ما أثره هذا وما خطره , ولكن القرون الآتيات درت ما أثر هذا النبأ , ولم تفرغ الى اليوم من وصف فواجعه وأهواله .
ونظر موسى فإذا الصرح الذي أنفق في إقامته الدهر الأطول , قد أنهار في دقائق واذا هذه الديار التي سقيت بدم الجدود , ومتزجت برفاتهم , وقامت على أيديهم , يسلمها جبان مأفون للعدو المغير , واذا السادة صاروا خولا , والملوك عبيدا .... وجعل يفكر في هذه الفئة التي حوله , في أكرم زهرات غرناطة وأزكاها , هل يجنبها الموت الحاصد ويردها , الى حيث وجدت الراحة والدعه , أم يخلصها من حياة كلها ذل وألم ويسوقها الى موت شريف ؟
وأنه لفي التفكير وإذا بأطفال غرناطة ينشدون ذلك النشيد الذي لا يعرف من نظمه لهم فيصغي الناس ويستمع الفلك الدائر :
(( لا تبكي يا أماه , إنا ذاهبون إلى الجنة ,
إن أرض غرناطة لن تضيق عن لحد طفل صغير مات في سبيل الله
إن ازهار غرناطة لن تمنع عطرها قبرا لم يمتع صاحبه بعطر الحياة ,
إن ينابيع غرناطة لن تحرم ماءها ثرى لحد ما ارتوى صاحبه من مائها ,
أنت يا ارض غرناطة أمنا الثانية فضمينا الى صدرك الدافئ الذي ضم آباءنا الشهداء ,
لا تبكي يا أماه بل اضحكي واحفظي لعبنا , سيأتي إخوتنا فيلعبون بها .
فذكريهم بأننا تركناها من أجل هذا الوطن ,
سنلتقي يا أماه , إنك لن تؤثري الحياة في ظلال الأسبان على الموت تحت الراية الحجازية .
ولن تضيق عنا ارض غرناطة . ما ضاقت أرضنا بشهيد ))
ولم يعد يطيق موسى أكثر من ذلك , فلكز رأسه , وانطلق الى حيث لا يدري أحد كما جاء من حيث لا يدري أحد .
وكذلك ذهب آخر أبطال الأندلس , لم يخف له قبرا في الأرض , ولا سيرة واضحة في التاريخ , بل مر علينا كأنه حلم بهيج !
رحمة الله على موسى بن ابي الغسان وعلى أولئك الأبطال ))
هذه قصة جميلة تدل على صنعة كاتبها البارع الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى الذي يروي فيها عن أحد أبطال غرناطة الأشاوس , فتعالوا مع بعض نتعرف على هذا البطل الغضنفر :
((لم تشهد شمس الواحد والعشرين من المحرم سنة 897 ه حينما أطلت على غرناطة , تلك المدينة الضاحكة للحياة , الساكنة الى النعيم , السابحة في جو النغم العذب والعطر والأريج , بل رأت مدينة واجمة حيرى , قد أقفرت من الرجال , إلا قبضة من الأبطال رابطت حيال الأسوار , هي بقية ذلك الجيش الذي دانت له أسبانيا كلها , وأظلت ألويته فرنسا وإيطاليا .... قد وقفت تدافع عن آخر حصن للإسلام في هذا القطر الممرع , تذود عن بيوت الله , ومقابر الأجداد ...
ولقد جازت غرناطة أياما سودا عوابس , ورأت مصائب ثقالا متتابعات , ولكنها لم تجد مثل هذه الليلة التي قضتها مسهدة مذعورة , تنظر حواليها فلا تبصر الا مدنا خضعت للعدو فجاس خلالها واستقر فيها , وقد كانت ارض العروبة , وكانت ديار الإسلام , وأمة استذلت واستعبدت , وقد كانت أعز من النسور وأمنع من العقبان , وبقيت هي وحدها تحمي الحمى وتدافع عن الأرض والعرض والدين , وتحمل وحدها الدين , دين الجهاد , الذي كان في اعناق مدن الأندلس كلها والمسلمين أجمعين , فنامت عنه مدن الأندلس , وشغلتها خيالات الامارة وألقابمملكة في غير موضعها ...
وجعلت تنظر غرناطة الى القصر البهي العظيم , وهو آخر هاتيك القصور التي شغل رواؤها الأمراء , وأنستهم سكناها أخلاق صحرائهم الأولى , فكانت مقابر لأمجادهم طفقت تنظر اليه فلا ترى من بناة الحمراء الا الرجل الضعيف , المرأة الملتحية التي اسمها ابو عبد الله الصغير - وأمه الشريفة الأبية , الرجل الذي خلق في جسم امرأة :
عائشة , فحولت وجهها عن القصر الى جهة السرر تسأل : هل عاد موسى ؟
ولقد كان ((موسى)) أمل هذا الشعب واليه مفزعه وعليه بعد الله اعتماده , بداله في ساعة الخطر كما يبدو النجم الهادي للضال الآيس .
لقد طلع فجأة من الظلام . ظلام الدهماء فاذا هو يلمع في لحظة واحدة التماع البدر المنير - وكذلك يقذف هذا الشعب العربي بالابطال كلما حاقت الشدائدوأدلهمت الخطوب- واذا هو امل الأمة , وإذا هو ملء السمع والبصر وملء السهل والجبل , واذا هو بطل المعركة المكفهرة , دعا الى القتال شعبا كل من القتال , فلباه على كلاله هذا الشعب الذ علمه محمد كيف يلبي كلما دعي الى التضحية والجهاد , لباه وتشققت أسماله البالية عن أسود غاب وسباع عرين . ززقف بهؤلاء الأسود في وجه السيل الإسباني الطامي وما زال ثابتا , ولكن أسوده قد سقطوا صرعى في ميادين السرف .
خرج موسى منذ أحدى عشرة ساعه يضرب الضربة الأخيرة ينال بها إحدى الحسنيين , إما النصر وإما الشهادة , ويرد العدو الذي أبقى عليه حلم المسلمين حتى قوي بضعفهم , واشتد بلينهم , وانتزع منهم الأرض قرية قرية , وبلدا بلدا , حتى أقبل يطردهم من آخر منزل لهم في الأندلس من غرناطة .
وعلت غرناطة فترة الجزع , من خوفها على موسى , لقد جعلته قائدها وسلمته الدفة , ليقود السفينة الهائمة على وجهها وسط الأعاصير والزوابع الى الشاطئ الآمن فاذا عجز موسى عن نجاتها لم ينجها احد بعده ... وقد كان موسى آخر خيوط من خيوط الرجاء . وآخر شعاعه من هذه الشمس التس سطعت فملأت الأرض نورا وهدى ثم أدركها المغيب . فإذا انقطع هذا الخيط عم اليأس وانتشر ..... وقد كان موسى آخر مقطع من هذا النشيد الذي ألف مطلعه طارق , ثم توالى على نظمه (شعراء ...) البطولة عبدالرحمن وعبدالرحمن وعبدالرحمن , الغافقي والداخل والناصر , فحمله الأبطال المساعير الى الأقاصي والأداني وتجاوبت بأصدائه سهول فرنسا , وبطاح إيطاليا , ثم ضعف وتخافت ولم يبق منه الا هذا المقطع , فإذا أنقضى جف النشيد على الشفاه وانقطع ومات ....
وقد كان موسى آخر سطر في سفر الحق والبطولة والمجد , ذلك الذي كتبه العرب المسلمون في ثمانمائة سنة , فمحاه الأسبان في سنوات , ولم يبق الا هذا السطر فإذا طمس ذهب السفر وباد .. وقد كان موسى آخر نفس من أنفاس الحياة في الأندلس المسلمة , فإذا وقف هذا النفس الواحد , وسكن هذا اللماء الباقي , صارت الأندلس المسلمة أثرا بعد عين , وصارت ذكرى عزيزة في نفس كل مسلم , وأمانة في عنقه الى يوم القيامة ....
وانطلقت من فوق الأسوار أن (( لقد عاد موسى )), فتقاذفتها الألسن وتناقلتها الآذان , فطارت في ارجاء المدينة وسارت في جوانبهامسير البرق , فبلغت الساحات والدروب , وولجت الدور والمنازل , وأوغلت خلال البيوت والسراديب فلم تلبث أن نفضتها نفضا فألقت بأهليها الى الأزقة والشوارع , فاذا هي ممتلئة بالناس من كل حنس وسن ومنزلة واذا هي تزخر بهذا النهر الأنساني , الذي يجري صوب الأسوار , صخابا جياشا مزبدا , يتحدر ويسرع مجنونا , كأنما تدفعه قوة خفية هائلة احتوتها هذه الكلمات السحرية المكهربة الثلاثة : (( لقد عاد موسى ))
لقد كان يوما من الأيام التي تضئ الطريق لمن يسلك فجاج التاريخ , وتجئ في الليالي كالعبقري في الناس , وتصنع العجائب لتكون معجزة في الزمان , ما شهدت مثله في غرناطة , ولا ابصرت منه (الا قليلا) عين الوجود ! يوم أضاع فيه الناس غريزة المحافظة على الذات في غمار غريزة النوع ونسوا نفوسهم ليذكروا الدين والوطن , وأنبتوا من الحاضر المقيت , ليعيشوا في الماضي الفخم , فماج في سوح غرناطة بحر من الأجسام البشرية حمل أصحابها أرواحهم على أكفهم , وقدموا بين أيديهم دماءهم , التي غضب فيها ميراث ثمانية قرون كلها مجد وعز , ونفوسهم التي عصفت فيها ذكريات ألف معركة منصورة , فمشت في الأعصاب النار واستعد كتاب التاريخ ليكتبوا أعجب موقف للشعب اذا هب .
ووصل موسى , ذلك البطل البدري الذي أخطأ طريقه في الزمان فلم يأت في سنوات الهجرة الأولى , بل جاء في الأواخر من القرن التاسع , ولم يطلع في الحجاز التي كانت تبتدئ تاريخها المجيد , بل في الأندلس التي كانت تختم تاريخها ...
وكانت تعلوه كآبة , فأنصت الشعب واحترم كآبة هذا الرجل الذي لو سبق به الدهر لصنع يرموكا أخرى أو قادسية ثانية , ولكن الله الذي فتح تاريخنا في الأندلس بموسى , قد ختمه الآن بموسى !
ونظر موسى حوله , فإذا حوله شيوخ قد أراق الكرم على شيباتهم بهاءه ونوره , وأطفال كالزهر فتحوا عيونهم على الدنيا فوجدوها غارقة في بركة من الدم , و نسوة تفتحت الأكمام عن زهراتها , فرأت الطرقات من تكن الشمس تراهن صيانة وتعففا, قد برزن يسرن الى المعركة ويزاحمن الرجال , ولم يكن يخشين على جمالهن , فقد غطت عاطفة الجهاد على عاطفة الجنس , فكان كل رجل أخا فيه لكل امرأة فأحنى رأسه , ورأى الناس في عيني البطل دمعة تترقرق , وفتح فمه فحبس الناس أنفاسهم .
فإذا هو يعلن النبأ المهول , نبأ تسليم أبي عبد الله الصغير مفاتيح غرناطة !
نبأ بدأ صغيرا كما تبدو المصائب , فلم يدر الناس لهول المفاجأة ما أثره هذا وما خطره , ولكن القرون الآتيات درت ما أثر هذا النبأ , ولم تفرغ الى اليوم من وصف فواجعه وأهواله .
ونظر موسى فإذا الصرح الذي أنفق في إقامته الدهر الأطول , قد أنهار في دقائق واذا هذه الديار التي سقيت بدم الجدود , ومتزجت برفاتهم , وقامت على أيديهم , يسلمها جبان مأفون للعدو المغير , واذا السادة صاروا خولا , والملوك عبيدا .... وجعل يفكر في هذه الفئة التي حوله , في أكرم زهرات غرناطة وأزكاها , هل يجنبها الموت الحاصد ويردها , الى حيث وجدت الراحة والدعه , أم يخلصها من حياة كلها ذل وألم ويسوقها الى موت شريف ؟
وأنه لفي التفكير وإذا بأطفال غرناطة ينشدون ذلك النشيد الذي لا يعرف من نظمه لهم فيصغي الناس ويستمع الفلك الدائر :
(( لا تبكي يا أماه , إنا ذاهبون إلى الجنة ,
إن أرض غرناطة لن تضيق عن لحد طفل صغير مات في سبيل الله
إن ازهار غرناطة لن تمنع عطرها قبرا لم يمتع صاحبه بعطر الحياة ,
إن ينابيع غرناطة لن تحرم ماءها ثرى لحد ما ارتوى صاحبه من مائها ,
أنت يا ارض غرناطة أمنا الثانية فضمينا الى صدرك الدافئ الذي ضم آباءنا الشهداء ,
لا تبكي يا أماه بل اضحكي واحفظي لعبنا , سيأتي إخوتنا فيلعبون بها .
فذكريهم بأننا تركناها من أجل هذا الوطن ,
سنلتقي يا أماه , إنك لن تؤثري الحياة في ظلال الأسبان على الموت تحت الراية الحجازية .
ولن تضيق عنا ارض غرناطة . ما ضاقت أرضنا بشهيد ))
ولم يعد يطيق موسى أكثر من ذلك , فلكز رأسه , وانطلق الى حيث لا يدري أحد كما جاء من حيث لا يدري أحد .
وكذلك ذهب آخر أبطال الأندلس , لم يخف له قبرا في الأرض , ولا سيرة واضحة في التاريخ , بل مر علينا كأنه حلم بهيج !
رحمة الله على موسى بن ابي الغسان وعلى أولئك الأبطال ))