كاتب المقامات
2013-12-27, 21:22
* المقامة المعيرشيّــــة
بقلم: البشير بوكثير
إهداء: إلى الأستاذ الدكتور، والبروفيسور البارّ المبرور "موسى معيرش"، رفعَ الله تعالى مقامه، وسدّد في الحقّ سِنانه وسِهامه . أرفع هذه المقامة.
-حدّثنا الشقيق صالح، عن صديقه الرّجل الصالح، قال:
من أرض الشهداء "تقلعيت" وُلِد و خرج، وفوق ثراها الطاهر شبّ ودرج، ومن زهرها الفوّاح تضوّع العنبر والأرج، فاذكرْ مناقبه أخي "البشير" وليس عليك في عُرْف "السحامدة" من حرج.
في هذه البطاح، تردّد ذكرُ الفتى اللمّاح، والسيّد الجحْجاح، الذي بزَّ فيما بعد السادة الأقحاح، والدكاترة الصّحاح، بالعلم الرّاسخ، والأصل الشامخ الباذخ ، فليس عجيبا بالمرّة أنْ يتبوّأ السّيادة ،ويحوز الريادة، وينال القيادة أكثرَ من مرّة.
بعد بضع سنين ، شدّه القدرُ و الحنين، إلى بلدة رأس الوادي، قلعة العلم وقِبلة الجهاد، فقد جاءها "موسى" على قَدر، وأمرٍ قد قُدِر، ففرّ القحط، واجتمع شملُ الرّهط، وأينع الثمر، وحلا السّمر، وبدأتْ رحلة الدراسة السعيدة، بالمتوسطة الجديدة، الموسومة اليوم بـ "متوسطة العربي بنّور" ، وفي حجراتها بزغ فجرك ياموسى وسطعَ النّور، فدخل الجهلُ القبور، حين حلّ بمقدمك البِشْرُ وأطلّ السرور، وهو يغنّي ويدور: الآن اختفى الظلام واندحرتْ كافّةُ الشّرور.
هي سنوات من الزمن الجميل اختلسناها، ومن عبق ذاك الرعيل الأصيل اقتبسناها وتلمّسْناها، فما أحلى سنوات الإخاء والصّفاء ، وما أجمل لحظات الوفاء والنّقاء ، وما أبقى زمن الوداد وحسن العِشرة، حين كنّا نتقاسم الماء والملح والكسرة، ولو كان بالإمكان الآن، إعادةَ عجلة ذاك الزّمان، لاشتريتُه بالجواهر الثِّمان، وبالدّرر والعقيان، وباللؤلؤ والمرجان، آهٍ منك يازمان ...!
حقّا لاشيء يضاهي في الدنيا عودة الخلاّن، إلى تلك الرّبوع والأحضان ، بعد سنوات الهجران:
لاشيء في الدنيا أحبّ لناظري * من منظر الخلاّن والأصحاب
وألذُّ موسيقى تسرّ مسامعي * صوت البشير بعودة الأحبـاب
سنواتٌ عديدة، بالمتوسطة الجديدة، اكتستْ حُلّة قشيبة، وذكريات جميلة وعجيبة، بقيت راسخةً في الأذهان، لاتمحوها عواتي الزّمان ، وستبقى ما بقيَ الحَدثان :
إنْ كنتَ تذكر يادكتور، أيام الأنس والحبور، في "شارع زرار الهلالي"، الذي فاقَ شهرةَ أبي زيد الهلالي، في تلك الحقب الخوالي .على رصيفه كنّا نلهو ونرتع، وندرس ونسمع، حكايات الطفولة، وملاحم الرّجولة ، بعدها نُعرّج على الأقسام، لننهل من معين الأساتذة الكرام، عُلومًا تجلو البصائر والأفهام . وكم أبهرني وسَباني ، درسُ أستاذنا "حسين تبّاني"، الذي حقّق فتوحاتِ في التاريخ، عجزت عنها أمريكا في كوكب المريخ، دون أن أنسى درسَ حفيد شكسبير، أستاذ الإنجليزيّة النحرير ، "الطاهر جلاّد"، سليل الأمجاد، في رأس الواد. ولن أذكِّرَك بعمّي " الوالع رابح"، أستاذ الفرنسيّة الصالح ، بفكره السانح، حين يلطمني بلكمة فأمسي بين لاطمٍ ونائح !
وبعد سنوات طويلة، غادرتَ مدينتنا الجميلة، إلى مدينة " المسيلة"، في تلك الرحلة العلميّة الجليلة، التي شحذتْ الهمّة، ورفعتك إلى القمّة، نظيرَ تضحياتك الجِسام، وبطولاتك العِظام، في سبيل تحقيق الطموحات والأحلام .
ولازلتُ أذكر ساعات الوداع، ولواعج الشوق والالتياع، وكأنّي أسمع تُراب رأس الوادي ، يلطم وينادي ، وهو يبكي ويتحسّر، ويقتفي منك الأثر : بفراقك يا موسى صرتُ روضةً بلا شجر، ومُزنةً بلا مطر، وصحراء بلْقع هجَرها الطير والسّراب والثّمر .
وبعد سنوات عِجاف ، نلتقي صدفةً على" شروق" الضفاف، وتعود للأذهان، ذكريات زمان، فتضحك الأشجان، وترقص الألحان، بعودة الفتى الحبيب، والفيلسوف اللبيب، وتتوشّى قسنطينة ، بجوهرتها الثمينة، لأنها احتضنتْ سليل "ابن باديس"، المنافح عن نور الفوانيس، وقاهر زيف باريس.
وقد وجدتك يا صديقي تغوص في الفلسفة الإغريقية، وتتبحّر في العلوم الأنثربولوجية، وتتعمّق في الدراسات الإسلاميّة، وتُشرِّح النظم السياسيّة، بفكرٍ ثاقب وألمعيّة ، فتخرِج لنا الأسفار الثِّمان ، حتى سارتْ بذكرك ومؤلفاتك الرّكبان، وتغنّتْ بمآثرك الحِسان، طلائعُ الفرسان، من "رأس الوادي" إلى "عين ولمان"، بل من" تبسة" إلى "وهران".
ولاعجب، فأنتَ سليل الصّحب النُّجب، معدنك شريف، وظلّك خفيف، ومعشرك لطيف، ولسانك كما عرفتك دوما طاهر عفيف، وصدق من قال:
هيهات لايجود الزمان بمثله * إنّ الزّمان بمثله لبخيل.
أمّا أخوك "بشّور" يا دكتور، فقد نخره السوسُ و أكله الطبشور، بعدما صال وجال، مربيا للأجيال، فوجد نفسه صفرا على الشمال، في جزائر الاستقلال، والحمد لله الواحد المتعال.
الجمعة : 27 ديسمبر 2013م.
بقلم: البشير بوكثير
إهداء: إلى الأستاذ الدكتور، والبروفيسور البارّ المبرور "موسى معيرش"، رفعَ الله تعالى مقامه، وسدّد في الحقّ سِنانه وسِهامه . أرفع هذه المقامة.
-حدّثنا الشقيق صالح، عن صديقه الرّجل الصالح، قال:
من أرض الشهداء "تقلعيت" وُلِد و خرج، وفوق ثراها الطاهر شبّ ودرج، ومن زهرها الفوّاح تضوّع العنبر والأرج، فاذكرْ مناقبه أخي "البشير" وليس عليك في عُرْف "السحامدة" من حرج.
في هذه البطاح، تردّد ذكرُ الفتى اللمّاح، والسيّد الجحْجاح، الذي بزَّ فيما بعد السادة الأقحاح، والدكاترة الصّحاح، بالعلم الرّاسخ، والأصل الشامخ الباذخ ، فليس عجيبا بالمرّة أنْ يتبوّأ السّيادة ،ويحوز الريادة، وينال القيادة أكثرَ من مرّة.
بعد بضع سنين ، شدّه القدرُ و الحنين، إلى بلدة رأس الوادي، قلعة العلم وقِبلة الجهاد، فقد جاءها "موسى" على قَدر، وأمرٍ قد قُدِر، ففرّ القحط، واجتمع شملُ الرّهط، وأينع الثمر، وحلا السّمر، وبدأتْ رحلة الدراسة السعيدة، بالمتوسطة الجديدة، الموسومة اليوم بـ "متوسطة العربي بنّور" ، وفي حجراتها بزغ فجرك ياموسى وسطعَ النّور، فدخل الجهلُ القبور، حين حلّ بمقدمك البِشْرُ وأطلّ السرور، وهو يغنّي ويدور: الآن اختفى الظلام واندحرتْ كافّةُ الشّرور.
هي سنوات من الزمن الجميل اختلسناها، ومن عبق ذاك الرعيل الأصيل اقتبسناها وتلمّسْناها، فما أحلى سنوات الإخاء والصّفاء ، وما أجمل لحظات الوفاء والنّقاء ، وما أبقى زمن الوداد وحسن العِشرة، حين كنّا نتقاسم الماء والملح والكسرة، ولو كان بالإمكان الآن، إعادةَ عجلة ذاك الزّمان، لاشتريتُه بالجواهر الثِّمان، وبالدّرر والعقيان، وباللؤلؤ والمرجان، آهٍ منك يازمان ...!
حقّا لاشيء يضاهي في الدنيا عودة الخلاّن، إلى تلك الرّبوع والأحضان ، بعد سنوات الهجران:
لاشيء في الدنيا أحبّ لناظري * من منظر الخلاّن والأصحاب
وألذُّ موسيقى تسرّ مسامعي * صوت البشير بعودة الأحبـاب
سنواتٌ عديدة، بالمتوسطة الجديدة، اكتستْ حُلّة قشيبة، وذكريات جميلة وعجيبة، بقيت راسخةً في الأذهان، لاتمحوها عواتي الزّمان ، وستبقى ما بقيَ الحَدثان :
إنْ كنتَ تذكر يادكتور، أيام الأنس والحبور، في "شارع زرار الهلالي"، الذي فاقَ شهرةَ أبي زيد الهلالي، في تلك الحقب الخوالي .على رصيفه كنّا نلهو ونرتع، وندرس ونسمع، حكايات الطفولة، وملاحم الرّجولة ، بعدها نُعرّج على الأقسام، لننهل من معين الأساتذة الكرام، عُلومًا تجلو البصائر والأفهام . وكم أبهرني وسَباني ، درسُ أستاذنا "حسين تبّاني"، الذي حقّق فتوحاتِ في التاريخ، عجزت عنها أمريكا في كوكب المريخ، دون أن أنسى درسَ حفيد شكسبير، أستاذ الإنجليزيّة النحرير ، "الطاهر جلاّد"، سليل الأمجاد، في رأس الواد. ولن أذكِّرَك بعمّي " الوالع رابح"، أستاذ الفرنسيّة الصالح ، بفكره السانح، حين يلطمني بلكمة فأمسي بين لاطمٍ ونائح !
وبعد سنوات طويلة، غادرتَ مدينتنا الجميلة، إلى مدينة " المسيلة"، في تلك الرحلة العلميّة الجليلة، التي شحذتْ الهمّة، ورفعتك إلى القمّة، نظيرَ تضحياتك الجِسام، وبطولاتك العِظام، في سبيل تحقيق الطموحات والأحلام .
ولازلتُ أذكر ساعات الوداع، ولواعج الشوق والالتياع، وكأنّي أسمع تُراب رأس الوادي ، يلطم وينادي ، وهو يبكي ويتحسّر، ويقتفي منك الأثر : بفراقك يا موسى صرتُ روضةً بلا شجر، ومُزنةً بلا مطر، وصحراء بلْقع هجَرها الطير والسّراب والثّمر .
وبعد سنوات عِجاف ، نلتقي صدفةً على" شروق" الضفاف، وتعود للأذهان، ذكريات زمان، فتضحك الأشجان، وترقص الألحان، بعودة الفتى الحبيب، والفيلسوف اللبيب، وتتوشّى قسنطينة ، بجوهرتها الثمينة، لأنها احتضنتْ سليل "ابن باديس"، المنافح عن نور الفوانيس، وقاهر زيف باريس.
وقد وجدتك يا صديقي تغوص في الفلسفة الإغريقية، وتتبحّر في العلوم الأنثربولوجية، وتتعمّق في الدراسات الإسلاميّة، وتُشرِّح النظم السياسيّة، بفكرٍ ثاقب وألمعيّة ، فتخرِج لنا الأسفار الثِّمان ، حتى سارتْ بذكرك ومؤلفاتك الرّكبان، وتغنّتْ بمآثرك الحِسان، طلائعُ الفرسان، من "رأس الوادي" إلى "عين ولمان"، بل من" تبسة" إلى "وهران".
ولاعجب، فأنتَ سليل الصّحب النُّجب، معدنك شريف، وظلّك خفيف، ومعشرك لطيف، ولسانك كما عرفتك دوما طاهر عفيف، وصدق من قال:
هيهات لايجود الزمان بمثله * إنّ الزّمان بمثله لبخيل.
أمّا أخوك "بشّور" يا دكتور، فقد نخره السوسُ و أكله الطبشور، بعدما صال وجال، مربيا للأجيال، فوجد نفسه صفرا على الشمال، في جزائر الاستقلال، والحمد لله الواحد المتعال.
الجمعة : 27 ديسمبر 2013م.