زهيرة
2009-06-16, 17:01
من أخلاق النصر(الزهد فى الدنيا)
http://www.alsayednooh.com/Admin/pics/17141480_fe97801802.jpg
الزهد في الدنيا
وعي الصحابة كذلك ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ من خلال
معايشتهم للقرآن الكريم ، ومصاحبتهم للنبي الأمين محمد صلى الله عليه وسلم ومشاهدتهم لأحوال المخلوقات على ظهر هذه الأرض : أن الدنيا دار اختبار وابتلاء ، وعليه فإنها مزرعة للآخرة يزرع الناس فيها اليوم ليقطفوا غداً في الآخرة ، حيث يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك : 2) ، وأنها صائرة إلى فناء وزوال ،إذ يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ {26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) (الرحمن : 26، 27) ، (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص : 88) ، وأن عمرها في جنب الآخرة قليل ، وقليل ، إذ يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: (وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ) (الرعد : 26) ، (أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) (التوبة : 38) ، بل إن عمرها في ذاتها ونفسها قليل ، وإن ظن الناس أنه كثير ، إذ يقول المولى ـ جل شأنه ـ: (قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (النساء : 77) ، (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) (غافر : 39) .
وأن كل شيء يصيبه المرء في هذه الحياة الدنيا يسأل عنه ، ويحاسب عليه ، فإن كان من حلال عذب بالمنافشة ، وإن كان من حرام عوقب بالنار ، إذ يقول الله ـ عز وجل ـ: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر : 8) ، (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (الأعراف : 6) ، وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تزول قدماً عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه ، وعن علمه فيما فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه ، وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه) (1).
وأنه إذا كان هذا شأنها فإن على العاقل أن يخرجها من قلبه ، وأن يجعلها في يده يتنازل عنها في أي وقت ، وتحت أي ظرف إذا طلبت منه ، مادامت لله ، وفي سبيل مرضاته ، إذ يقول صلى الله عليه وسلم : (نعم المال الصالح في يد العبد الصالح) (2) ، (تعس عبدالدينار ، وعبد الدرهم ، وعبد الخميصة إن أعطى رضى ، وإن لم يعط سخط ، وتعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش ) (3) .
وقلما كان صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهذه الدعوات : (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، راجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا
تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا) (1) .
وأن النبي صلى الله عليه وسلم بادر يطبق على نفسه هذا التصور الذي أعطاه لهم عن الدنيا ، إذ تقول أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ لابن إختها عروة بن الزبير : (إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين ، وما يقود في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار) ، فيقول عروة : ما كان يعيشكم ؟ قالت :(الأسودان : التمر والماء ، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كان لهم منائح وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناه) (2)،وإذ تقول أيضاً : (كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم ، وحشوه من ليف) (3) ، (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض) (4) .
بل لقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم : (اللهم ارزق آل محمد قوتاً) (1) .
وعى الصحابة ذلك وعياً تجاوز الاقتناع الذهني إلى أغوار القلب وسويدائه وإذا بهم يجاهدون أنفسهم على إخراج الدنيا من قلوبهم ، وإن ملكوا مها ما يملأ السهل والجبل ، فكان زهدهم زهداً إيجابياً مؤثراً في الحياة ، لا زهد نفر من المتأخرين انقطعوا عن الحياة الدنيا ، وتسربلوا بسرابيل الفقر والمسكنة ، ولبس خشن الثياب ، وترك النظافة والطيب .
هذا أبو بكر الصديق ـ وقد كان من أثرياء المهاجرين ـ يدعي إلى الانفاق في سبيل الله ، وتجهيز جيوش المجاهدين ، فيأتي بكل ماله ، وحين يسأله النبي صلى الله عليه وسلم (ما أبقيت لأهلك ؟ ) يجيب : (أبقيت لهم الله ورسوله) (2).
وهذا عثمان بن عفان يجهز جيشاً بأكمله في غزوة من الغزوات ، حتى يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) (3) .
وهـــذا صهيب الرومــــي يتنــــازل عــــن كـــل ماله يــــــــــوم الهجرة ، وقد اضطرته
قريش إلى ذلك ، وإلا يحال بينه وبين الهجرة ، حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم : (ربح البيع صهيب ، ربح البيع صهيب)(1).
وهذا عمر ـ رضي الله عنه ـ يدخل على رجل ويستقيه وهو عطشان ، فيأتيه بعسل ، فيقول له عمر : (ما هذا ؟ ) ، فيقول : (عسل) ، فيقول : (والله لا يكون أحاسب به يوم القيامة) (2) .
وهذا أبو عبيدة عامر بن الجراح ، يدخل عليه عمر بيته في بلاد الشام ، فلا يرى في بيته إلا سيفه ، وترسه ، ورحله) (2) .
وهذا مصعب بن عمير الذي نشأ وفي فمه ملعقة من هذب يصيبه البلاء والشدة بعد الإسلام . فلا يتغير قلبه على الله ورسوله لحظة واحدة ، إذ يقول الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه ـ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً بقباء ، ومعه نفر ، فقام مصعب بن عمير ـ رضي الله عنه ـ عليه بردة ما تكاد تواريه ، ونكس القوم ، فجاء فسلم ، فردوا عليه ، فقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم خيراً ، وأثنى عليه ، ثم قال : (لقد رأيت هذا عند أبويه بمكة يكرمانه ، وينعمانه وما فتى من فتيان قريش مثله ، ثم خرج من ذلك ابتغاء مرضاة الله ونصرة رسوله أما إنه لا يأتي عليكم إلا كذا ، وكذا ، حتى يفتح الله عليكم فارس والروم ، فيغدو . أحدكم في حلة ، ويروح في حلة ،ويغدي عليكم بقصعة ، ويراح عليكم بقصعة قالوا : يا رسول الله : نحن اليوم خيراً ، أو ذلك اليوم ؟ قال : (بل أنتم اليوم خير منكم ذلك اليوم ، أما لو تعلمون من الدنيا ما أعلم لاستراحت أنفسكم منها )(4) .
وهذا عبدالرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ تقبل عليه الدنيا من كل جانب فلا تقعده ، ولا تبطره ، بل هو الذي يسخرها في طاعة الله ، ومرضاته ، فها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يجهز سريته ، فينادي في أصحابه : (تصدقوا ، فإني أريد أن أبعث بعثاً) . ويبادر عبدالرحمن بن عوف إلى منزله ويعود مسرعاً ، ويقول يا رسول الله : عندي أربعة آلاف ، ألفان منهما أقرضهما ربي ، وألفان تركتهما لعيالي ، فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم : (بارك الله لك فيما أعطيت ، وبارك الله لك فيما أمسكت) .
وفي غزوة العسرة (تبوك) في العام التاسع من الهجرة ، كان عبدالرحمن في طليعة المتصدقين إذ تصدق بمأتي أوقية من الذهب ، حتى قال عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : إني لا أرى عبدالرحمن إلا مرتكباً إثماً ، فما ترك لأهله شيئاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالرحمن : هل تركت لأهلك يا عبدالرحمن ؟ فيجيبه : نعم ، تركت لهم أكثر مما أنفقت ويعاود النبي صلى الله عليه وسلم السؤال ؟ فيقول له : نعم ، فيقول له : كم ، فيقول : ما وعد الله ورسوله من الرزق ، والخير ، والأجر (1) .
والأمثلة على زهد الصحابة كثيرة تكاد تفوق الحصر .
ومغزى هذه الأسئلة : أنه حين تحرر الصحابة من سيطرة الدنيا بزخارفها ، وزينتها ، وبريقها وخضعوا ، وانقادوا ، وأسلموا أنفسهم لربهم ، ظاهرها ، وباطنها، أعزهم الله وأيدهم بروح منه ، ونصرهم على عدوهم .
ونستطيع نحن المسلمين اليوم : أن نصل إلى نفس ما وصل إليه القوم بالأمس بشرط أن نخرج حب هذه الدنيا من قلوبنا ، وأن نعبد أنفسنا لله وحده ، وإن ملكنا منها عدد ذرات الرمال ، وجبال الصحراء ، ويساعدنا في الوصول إلى هذا الهدف وإلى هذه الغاية .
1ـ اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء ، أو عابري سبيل ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (كن في الدنيا كأنك غريب ، أو عابر سبيل) (1).
2ـ وأن هذه الدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله ـ تبارك وتعالى ـ إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)(2) ، (الدنيا ملعونة ، معلون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه ، أو عالماً ، أو متعلماً)(3) .
3ـ وأن عمرها قد قارب على الانتهاء ، إذ يقــول صـــــــلى الله عليه وسلم بعثت أنا
كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى) (1) .
4ـ وأن الآخرة هي الباقية ، وهي دار القرار ، كما قال مؤمن آل عمران : (ا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ {39} مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ {40}) (غافر : 39 ، 40) .
فإذا لم تتحرر القلوب من حب الدنيا بعد اتباع هذه الخطوات المذكورة آنفاً : أنذرناها خوفناها بسوء العاقبه ، إذ يقول الحق ، تبارك وتعالى :
(إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ {7} أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ {8}) (يونس : 7 ، 8) .
(وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) (الشورى : 20) .
(مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا) (الإسراء : 18) .
وقصصنا عليها عاقبة المكذبين ، وما جره حب الدنيا عليهم من بلاء ووبال ، إذ يقول سبحانه عن الطاغية الجبار فرعون مصر : (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {25} وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ {26} وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ {27} كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ {28} فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ {29}) (الدخان : 25 ـ 29) . ويقول سبحانه عن فرعون وقومه بعد ذكره لعاد قـــوم هود ــوثمود قوم صالح : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ {6} إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ {7} الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ {8} وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ {9} وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ {10} الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ {11} فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ {12} فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ {13} إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ {14}) ( الفجر : 6ـ14) .
فإذا لم تستجب فليكن الإكثار من عيادة المرضى ، وتشييع الجنائز ، وذكر الموت وزيارة القبور ، إذا يقول صلى الله عليه وسلم :
(كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، ألا فزوروها ، فإنها تزهد في الدنيا ، وتذكر الآخرة) (1) ، ثم الاستعانة التامة بالله ـ عز وجل ـ فقد جاء في الحديث (ومن يستعف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله) (2) ثم لفت نظرها إلى : أن ما نحن فيه اليوم من ذل وهوان مبعثه حب الدنيا ، وكراهية الموت ، كما قال صلى الله عليه وسلم : (ولنزعن الله المهابة من قلوب عدوكــم
ويجعل في قلوبكم الوهن) قالوا : وما الوهن يا رسول الله ؟ قال : (حب الدنيا وكراهية الموت)(1) وإن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
الشيخ د. محمد نوح رحمه الله "من موقعه"
http://www.alsayednooh.com/Admin/pics/17141480_fe97801802.jpg
الزهد في الدنيا
وعي الصحابة كذلك ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ من خلال
معايشتهم للقرآن الكريم ، ومصاحبتهم للنبي الأمين محمد صلى الله عليه وسلم ومشاهدتهم لأحوال المخلوقات على ظهر هذه الأرض : أن الدنيا دار اختبار وابتلاء ، وعليه فإنها مزرعة للآخرة يزرع الناس فيها اليوم ليقطفوا غداً في الآخرة ، حيث يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك : 2) ، وأنها صائرة إلى فناء وزوال ،إذ يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ {26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) (الرحمن : 26، 27) ، (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص : 88) ، وأن عمرها في جنب الآخرة قليل ، وقليل ، إذ يقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: (وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ) (الرعد : 26) ، (أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) (التوبة : 38) ، بل إن عمرها في ذاتها ونفسها قليل ، وإن ظن الناس أنه كثير ، إذ يقول المولى ـ جل شأنه ـ: (قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (النساء : 77) ، (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) (غافر : 39) .
وأن كل شيء يصيبه المرء في هذه الحياة الدنيا يسأل عنه ، ويحاسب عليه ، فإن كان من حلال عذب بالمنافشة ، وإن كان من حرام عوقب بالنار ، إذ يقول الله ـ عز وجل ـ: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر : 8) ، (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (الأعراف : 6) ، وإذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تزول قدماً عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه ، وعن علمه فيما فعل ، وعن ماله من أين اكتسبه ، وفيم أنفقه ، وعن جسمه فيم أبلاه) (1).
وأنه إذا كان هذا شأنها فإن على العاقل أن يخرجها من قلبه ، وأن يجعلها في يده يتنازل عنها في أي وقت ، وتحت أي ظرف إذا طلبت منه ، مادامت لله ، وفي سبيل مرضاته ، إذ يقول صلى الله عليه وسلم : (نعم المال الصالح في يد العبد الصالح) (2) ، (تعس عبدالدينار ، وعبد الدرهم ، وعبد الخميصة إن أعطى رضى ، وإن لم يعط سخط ، وتعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش ) (3) .
وقلما كان صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهذه الدعوات : (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، راجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا
تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا) (1) .
وأن النبي صلى الله عليه وسلم بادر يطبق على نفسه هذا التصور الذي أعطاه لهم عن الدنيا ، إذ تقول أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ لابن إختها عروة بن الزبير : (إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين ، وما يقود في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار) ، فيقول عروة : ما كان يعيشكم ؟ قالت :(الأسودان : التمر والماء ، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار كان لهم منائح وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناه) (2)،وإذ تقول أيضاً : (كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم ، وحشوه من ليف) (3) ، (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض) (4) .
بل لقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم : (اللهم ارزق آل محمد قوتاً) (1) .
وعى الصحابة ذلك وعياً تجاوز الاقتناع الذهني إلى أغوار القلب وسويدائه وإذا بهم يجاهدون أنفسهم على إخراج الدنيا من قلوبهم ، وإن ملكوا مها ما يملأ السهل والجبل ، فكان زهدهم زهداً إيجابياً مؤثراً في الحياة ، لا زهد نفر من المتأخرين انقطعوا عن الحياة الدنيا ، وتسربلوا بسرابيل الفقر والمسكنة ، ولبس خشن الثياب ، وترك النظافة والطيب .
هذا أبو بكر الصديق ـ وقد كان من أثرياء المهاجرين ـ يدعي إلى الانفاق في سبيل الله ، وتجهيز جيوش المجاهدين ، فيأتي بكل ماله ، وحين يسأله النبي صلى الله عليه وسلم (ما أبقيت لأهلك ؟ ) يجيب : (أبقيت لهم الله ورسوله) (2).
وهذا عثمان بن عفان يجهز جيشاً بأكمله في غزوة من الغزوات ، حتى يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) (3) .
وهـــذا صهيب الرومــــي يتنــــازل عــــن كـــل ماله يــــــــــوم الهجرة ، وقد اضطرته
قريش إلى ذلك ، وإلا يحال بينه وبين الهجرة ، حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم : (ربح البيع صهيب ، ربح البيع صهيب)(1).
وهذا عمر ـ رضي الله عنه ـ يدخل على رجل ويستقيه وهو عطشان ، فيأتيه بعسل ، فيقول له عمر : (ما هذا ؟ ) ، فيقول : (عسل) ، فيقول : (والله لا يكون أحاسب به يوم القيامة) (2) .
وهذا أبو عبيدة عامر بن الجراح ، يدخل عليه عمر بيته في بلاد الشام ، فلا يرى في بيته إلا سيفه ، وترسه ، ورحله) (2) .
وهذا مصعب بن عمير الذي نشأ وفي فمه ملعقة من هذب يصيبه البلاء والشدة بعد الإسلام . فلا يتغير قلبه على الله ورسوله لحظة واحدة ، إذ يقول الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه ـ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً بقباء ، ومعه نفر ، فقام مصعب بن عمير ـ رضي الله عنه ـ عليه بردة ما تكاد تواريه ، ونكس القوم ، فجاء فسلم ، فردوا عليه ، فقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم خيراً ، وأثنى عليه ، ثم قال : (لقد رأيت هذا عند أبويه بمكة يكرمانه ، وينعمانه وما فتى من فتيان قريش مثله ، ثم خرج من ذلك ابتغاء مرضاة الله ونصرة رسوله أما إنه لا يأتي عليكم إلا كذا ، وكذا ، حتى يفتح الله عليكم فارس والروم ، فيغدو . أحدكم في حلة ، ويروح في حلة ،ويغدي عليكم بقصعة ، ويراح عليكم بقصعة قالوا : يا رسول الله : نحن اليوم خيراً ، أو ذلك اليوم ؟ قال : (بل أنتم اليوم خير منكم ذلك اليوم ، أما لو تعلمون من الدنيا ما أعلم لاستراحت أنفسكم منها )(4) .
وهذا عبدالرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ تقبل عليه الدنيا من كل جانب فلا تقعده ، ولا تبطره ، بل هو الذي يسخرها في طاعة الله ، ومرضاته ، فها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يجهز سريته ، فينادي في أصحابه : (تصدقوا ، فإني أريد أن أبعث بعثاً) . ويبادر عبدالرحمن بن عوف إلى منزله ويعود مسرعاً ، ويقول يا رسول الله : عندي أربعة آلاف ، ألفان منهما أقرضهما ربي ، وألفان تركتهما لعيالي ، فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم : (بارك الله لك فيما أعطيت ، وبارك الله لك فيما أمسكت) .
وفي غزوة العسرة (تبوك) في العام التاسع من الهجرة ، كان عبدالرحمن في طليعة المتصدقين إذ تصدق بمأتي أوقية من الذهب ، حتى قال عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : إني لا أرى عبدالرحمن إلا مرتكباً إثماً ، فما ترك لأهله شيئاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالرحمن : هل تركت لأهلك يا عبدالرحمن ؟ فيجيبه : نعم ، تركت لهم أكثر مما أنفقت ويعاود النبي صلى الله عليه وسلم السؤال ؟ فيقول له : نعم ، فيقول له : كم ، فيقول : ما وعد الله ورسوله من الرزق ، والخير ، والأجر (1) .
والأمثلة على زهد الصحابة كثيرة تكاد تفوق الحصر .
ومغزى هذه الأسئلة : أنه حين تحرر الصحابة من سيطرة الدنيا بزخارفها ، وزينتها ، وبريقها وخضعوا ، وانقادوا ، وأسلموا أنفسهم لربهم ، ظاهرها ، وباطنها، أعزهم الله وأيدهم بروح منه ، ونصرهم على عدوهم .
ونستطيع نحن المسلمين اليوم : أن نصل إلى نفس ما وصل إليه القوم بالأمس بشرط أن نخرج حب هذه الدنيا من قلوبنا ، وأن نعبد أنفسنا لله وحده ، وإن ملكنا منها عدد ذرات الرمال ، وجبال الصحراء ، ويساعدنا في الوصول إلى هذا الهدف وإلى هذه الغاية .
1ـ اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء ، أو عابري سبيل ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (كن في الدنيا كأنك غريب ، أو عابر سبيل) (1).
2ـ وأن هذه الدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله ـ تبارك وتعالى ـ إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء)(2) ، (الدنيا ملعونة ، معلون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه ، أو عالماً ، أو متعلماً)(3) .
3ـ وأن عمرها قد قارب على الانتهاء ، إذ يقــول صـــــــلى الله عليه وسلم بعثت أنا
كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى) (1) .
4ـ وأن الآخرة هي الباقية ، وهي دار القرار ، كما قال مؤمن آل عمران : (ا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ {39} مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ {40}) (غافر : 39 ، 40) .
فإذا لم تتحرر القلوب من حب الدنيا بعد اتباع هذه الخطوات المذكورة آنفاً : أنذرناها خوفناها بسوء العاقبه ، إذ يقول الحق ، تبارك وتعالى :
(إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ {7} أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ {8}) (يونس : 7 ، 8) .
(وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) (الشورى : 20) .
(مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا) (الإسراء : 18) .
وقصصنا عليها عاقبة المكذبين ، وما جره حب الدنيا عليهم من بلاء ووبال ، إذ يقول سبحانه عن الطاغية الجبار فرعون مصر : (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ {25} وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ {26} وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ {27} كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ {28} فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ {29}) (الدخان : 25 ـ 29) . ويقول سبحانه عن فرعون وقومه بعد ذكره لعاد قـــوم هود ــوثمود قوم صالح : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ {6} إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ {7} الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ {8} وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ {9} وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ {10} الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ {11} فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ {12} فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ {13} إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ {14}) ( الفجر : 6ـ14) .
فإذا لم تستجب فليكن الإكثار من عيادة المرضى ، وتشييع الجنائز ، وذكر الموت وزيارة القبور ، إذا يقول صلى الله عليه وسلم :
(كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، ألا فزوروها ، فإنها تزهد في الدنيا ، وتذكر الآخرة) (1) ، ثم الاستعانة التامة بالله ـ عز وجل ـ فقد جاء في الحديث (ومن يستعف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله) (2) ثم لفت نظرها إلى : أن ما نحن فيه اليوم من ذل وهوان مبعثه حب الدنيا ، وكراهية الموت ، كما قال صلى الله عليه وسلم : (ولنزعن الله المهابة من قلوب عدوكــم
ويجعل في قلوبكم الوهن) قالوا : وما الوهن يا رسول الله ؟ قال : (حب الدنيا وكراهية الموت)(1) وإن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
الشيخ د. محمد نوح رحمه الله "من موقعه"