تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : دك حصون المفترين بإثبات نزول رب العالمين


جمال البليدي
2009-06-15, 22:39
دك حصون المفترين بإثبات نزول رب العالمين


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد ‏‎:‎
هذا بحث جمعته في عجالة حول صفة النزول خاصة بعد أن رأيت تكالب ‏البعض على أهل الحديث ولمزهم بالفواقر العظام ‏
وياليتهم توقفوا عند هذا الحد!!؛ بل تجدهم –إلا من رحم الله- يقابل ذلك ‏الحق –المؤيد بالدليل الشرعي- بالشتم والقذف والقدح في الإيمان والديانة؛ ‏شأنهم كشأن من قال فيهم ربنا تبارك وتعالى: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ ‏وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}!!؛ فهذه هي طريقتهم!! في الرد على صاحب ‏الحق الذي يتكلم بالحجة والدليل؛ فبدلاً من أن يردوا عليه بعلم؛ تجدهم ‏يشغبون على صاحب الحجة والبرهان؛ ينهالون عليه بأقذع الشتائم، وأبطل ‏التهم؛ ظانين بذلك أنهم سينتصرون على الحق. ولكن هيهات هيهات؛ فهذه ‏الطرائق باتت مكشوفة للجميع؛ اللهم إلا عند نفر من أتباعهم المغفلين!!؛ ‏الذي يحسبون الورم شحمًا!، والتشغيب علمًا!!.‏
أما من رزقه الله فهمًا وبصيرة؛ فيعلم –يقينًا- أنها هذه طرائق العجزة!؛ ‏الذين لا يملكون شيئًا من العلم!!؛ إذ لو كان عندهم شيئٌ من ذلك؛ لرأيناه –‏في واقعهم معنا- بدلا من هذه القبائح؛ ولكن صدق من قال: «وكل إناء ‏بالذي فيه ينضح!!».‏
وقد قسمت البحث إلى عدة مباحث ‏‎:‎

المبحث الأول ‏‎:‎‏ حديث النزول
المبحث الثاني ‏‎:‎‏ كلام أئمة الإسلام في شرح الحديث‏

المبحث الثالث ‏‎:‎‏ هل نجزم بإثبات النزول أم نفوض ‏ونؤول؟ ‏‎
المبحث الرابع ‏‎:‎بيان أن تأويل الحديث هو من أقوال المعتزلة
المبحث الخامس ‏‎:‎‏ الرد على الشبهات‏

يتبع................

جمال البليدي
2009-06-15, 22:40
المبحث الأول ‏‎:‎‏ حديث النزول.



حديث النزول صحيح وهو من الأحاديث المتواترة، وهو ما رواه أبو هريرة عن ‏رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم ‏ أنه قال "ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول ‏فيقول: أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا ‏الذي يستغفرني فأغفر له، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر"(1).‏

موافقة هذا الحديث لما جاء في القرآن الكريم:

وهذه الأحاديث التي يحتج بها السلف جاءت موافقة للقرآن، وهذا ما احتج به الإمام إسحاق بن ‏إبراهيم بن راهويه على بعض الجهمية بحضرة الأمير عبد الله بن طاهر أمير خراسان، وذلك حين ‏سئل إسحاق، سأله رجل في مجلس الأمير عن حديث النزول أصحيح هو؟ قال إسحاق: نعم، قال ‏السائل: كيف ينزل؟!! قال إسحاق أثبته فوق، حتى أصف لك النـزول، فقل له الرجل: أثبته ‏فوق، فقال إسحاق: قال الله تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}433، فقال الأمير عبد الله: ‏يا أبا يعقوب! أهذا يوم القيامة، قال إسحاق: أعز الله الأمير ومن يأتي يوم القيامة فمن يمنعه ‏اليوم...؟.



المبحث الثاني ‏‎:‎‏ كلام أئمة الإسلام في شرح الحديث‏


قال الإمام الشافعي رحمه الله(204ه) (القول في السُّنة التي أنا عليها ‏ورأيت أصحابنا عليها أهل الحديث الذين رأيتهم‎ ‎وأخذت عنهم مثل ‏سفيان ومالك وغيرهما الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله , وأن‎ ‎محمداً ‏رسول الله‎ ‎وأن الله تعالى على عرشه في سمائه يَقرُب من خلقه كيف ‏شاء وأن الله‎ ‎تعالى ينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء‎».‎‏(2)‏
وقال الدارمي رحمه الله(280ه)(والآثار التي جاءت عن رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم في نزول الرب تبارك وتعالى تدل على أن الله ‏عز وجل فوق السماوات على عرشه ,بائن من خلقه))(3) ‏
وقال الإمام الطبري(وأنه سبحانه وتعالى يهبط كل ليلة وينزل إلى ‏السماء الدنيا,لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم))(4)‏
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال ‏‎:‎‏ قال رسول الله صلى الله عليه ‏وسلم((إذا كان ثلث الليل الباقي يهبط الله عز وجل إلى السماء الدنيا ثم ‏تفتح أبواب السماء ,ثم يبسط يده فيقول ‏‎:‎‏ هل من سائل يعطى سؤله ‏؟فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر)(5)‏
وعقد الإمام ابن خزيمة رحمه الله (311ه) بابا في كتاب ((التوحيد)) ‏افتتحه بقوله ‏‎:‎باب ذكر أخبار الثابتة السند ,صحيحة القوام,رواها ‏علماء الحجاز والعراق عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول الرب ‏جلا وعلا إلى السماء الدنيا كل ليلة .‏
نشهد شهادة مقر بلسانه ,مصدق بقلبه,مستيقن بما في هذه الأخبار من ‏ذكر نزول الرب من غير أن يصف الكيفية لأن نبينا المصطفى صلى ‏الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفية نزول خالقنا إلى السماء الدنيا ‏وأعلمنا أنه ينزل ,والله عز و جل لم يترك ولا نبيه عليه السلام بيان ‏ما بالمسلمين إليه الحاجة من أمر دينهم,فنحن قائلون مصدقون بما في ‏هذه الأخبار من ذكر النزول غير متكلفين القول بصفته أو بصفة ‏الكيفية ,إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفية النزول.‏
وفي هذه الأخبار ما بان وثبت وصح أنَّ الله جل وعلا فوق سماء ‏الدنيا الذي أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه يَنْزل إليه، إذ محال ‏في لغة العرب أن يقول: نزل من أسفل إلى أعلى، ومفهوم في ‏الخطاب أنَّ النُّزول من أعلى إلى أسفل )(6)‏
‏ وقال أبو العباس السراج رحمه الله(313ه)((من لم يقر ويؤمن بأن ‏الله تعالى يعجب ويضحك,وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا,فيقول(من ‏يسألني فأعطيه؟) فهو زنديق كافر ,يستتاب,فإن تاب وإلا ضربت ‏عنقه ,ولا يصلى عليه ولا يدفت في مقابر المسلمين)(7)‏
قال الذهبي معقبا على هذا الأثر((قلت إنما يكفر بعد علمه بأن الرسول ‏قال ذلك ثم إنه جهد ذلك ولم يؤمن به))كتاب العلو.‏
وقال أبو بكر بن أبي داود محدث بغداد(316) ‏‎:‎
تمسك بحبل الله واتبع الهدى...ولا تك بدعيا لعلك تفلح
ودن بكتاب الله والسنن التي... أتت عـن رسـول الله تنجـو ‏وتربـح
وقل ينزل الجبار في كل ليلة *** بـلا كيـف جـل الواحـد ‏المتمـدح‎ ‎
الى طبق الدنيـا يمـن بفضلـه *** فتفـرج أبـواب السمـاء ‏وتفتـح‎ ‎
يقول ألا مستغفر يلـق غافـرا *** و مستمنـح خيـرا ورزقـا ‏فيمنـح‎ ‎
روى ذاك قوم لا يرد حديثهـم *** ألا خـاب قـوم كذبوهـم ‏وقبحـوا(8)‏
وقال أبي الحسن الأشعري رحمه الله(324 ه) ‏‎:‎‏ ""ونصدق بجميع ‏الروايات التي يثبتها من النزول إلى السماء الدنيا وأن الرب عز وجل ‏يقول : ( هل من سائل ؟ هل من مستغفر ؟ ) وسائر ما نقلوه و أثبتوه ‏خلافاً لما قاله أهل الزيغ والتضليل . ونعوِّل فيما اختلفنا فيه على كتاب ‏ربنا عز وجل وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين وما كان ‏في معناه ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها ولا نقول على الله ‏مالا نعلم))(9)‏
وقال رحمه الله((ومما يؤكد أن الله عز وجل مستو على عرشه دون ‏الأشياء كلها ما نقله أهل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه ‏وسلم.وذكر حديث النزول بالسند عن ثلاثة من الصحابة وهم‎:‎جبير بن ‏مطعم وأبو هريرة ورفاعة الجهني رضي الله عنهم)(10).‏
وقال الإمام المشهور ابن أبي زمنين رحمه الله(399ه)تعليقا على ‏حديث النزول ‏‎: ‎‏ هذا الحديث بين أن الله عز وجل على عرشه في ‏السماء دون الأرض,وهو أيضا بين في كتاب الله,وفي غير ما حديث ‏عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .ثم ذكر آيات دالة على علو الله ‏تعالى)(11)‏
وقال الإمام أبو عمر الداني رحمه الله(444) ‏‎:‎‏ ومن قولهم ‏‎:‎‏ أن الله جلا ‏جلاله وتقدست أسماؤه ‏‎:‎‏ ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا في الثلث ‏الباقي من اليل ,فيقول(هل من داعي يدعوني فاستجيب له,وهل من سائل ‏يسألني فاعطيه,وهل من مستغفر يستغفرني فاغفر له؟)حتى ينفجر ‏الصبح,على ما صحت به الأخبار ,وتواترت به الآثار عن رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم .نزوله تبارك وتعالى كيف شاء,بلا حد ولا ‏تكييف.وهذا دين الأمة وقول أهل السنة في هذه الصفات أن تمر كما ‏جاءت بغير تحديد ولا تكييف,فمن تجاوز المروي فيها وكيف شيئا منها ‏ومثلها بشيء من جوارحنا وآلتنا فقد ضل واعتدى ,وابتدع في الدين ما ‏ليس منه,وخرق إجماع المسلمين,وفارق أئئمة الدين)(12)‏
وقال ابن عبد البر رحمه الله((هذا الحديث ثابت من جهة النقل ,صحيح ‏الإسناد,لا يختلف أهل الحديث في صحته ولا فيه(13) دليل على أن الله ‏عز و جل في السماء على العرش من فوص سبع سماوات,وعلمه في كل ‏مكان كما قالت الجماعة أهل السنة أهل الفقه والأثر(14),ثم ذكر الآيات ‏الدالة على علو الله عز وجل(15)‏
وقال الإمام أبو إسماعيل الصابوني رحمه الله(449ه) : ( ويثبت ‏أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا ‏من غير تشبيه له بنزول المخلوقين ولا تمثيل ولا تكييف ، بل يثبتون ما ‏أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتهون فيه إليه ، ويُمِرُّون الخبر ‏الصحيح الوارد بذكره على ظاهره ويَكِلون علمه إلى الله ) ، قلت : قوله ‏‏: ( يَكِلون علمه إلى الله ) يقصد به علم كيفية النزول ، فقد استأثر الله ‏بعلم الكيف ، أما المعنى فهو معروف من لغة العرب وهو لائق بجلال ‏الله وعظمته من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ‏وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ سورة الشورى ، الآية : 11 ] .(16)‏

و قال الإمام الإسماعيلي رحمه الله(369ه) ‏‎: ‎‏(وأنه عز وجل ينزل ‏إلى السماء الدنيا على ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه ‏وسلم بلا اعتقاد كيفية))(17)‏
وقال أبو الخطاب الكلوذاني رحمه الله(510ه) ‏‎:‎‏ (‏
قالو ‏‎:‎النزول؟قلت ***‏‎:‎ناقله لنا قوم تمسكهم بشرع محمد
قالو ‏‎:‎فكيف نزول؟فأجبتهم***لم ينقل التكييف لي في مسند(18)‏
وقال الشيخ عبد الله بن محمد الأندلسي القحطاني المالكي ‏‎: ‎‏(‏
والله ينزل كل آخر ليلة ***لسمائه الدنيا بلا كتمان
فيقول ‏‎:‎هل من سائل فأجيبه***فأنا القريب أجيب من ناداني
حاشا الإله بأن تكيف ذاته***فالكيف والتمثيل منتفيان
والأصل أن الله ليس كمثله***شيء تعالى الرب ذو الإحسان(19)‏

وقال أبو الطيب رحمه الله ‏‎:‎‏ حضرت عند أبي جعفر الترمذي ‏‏(295ه)فسأله سائل عن حديث نزول الرب,فالنزول كيف هو يبقى ‏فوقه علو؟ فقال ‏‎: ‎‏ (النزول معقول ,والكيف مجهول,والإيمان به ‏واجب,والسؤال عنه بدعة))(20)‏
قال الإمام الذهبي معقبا-كما في كتابه العلو- ‏‎:‎‏ (صدق فقيه بغداد و ‏عالمها في زمانه إذا السؤال عن النزول ما هو عي لأنه إنما يكون ‏السؤال عن كلمة غريبة في اللغة وإلا فالنزول والكلام والسمع ‏والبصر والعلم والإستواء عبارات جلية واضحة للسامع فإذا اتصف ‏بها من ليس كمثله شيء فالصفة تابعة للموصوف وكيفية ذلك مجهولة ‏عند البشر).‏
وقال ابن القيم رحمه الله ‏‎:‎
وكذا نزول الرب جلا جلاله***في النصف من الليل وذاك الثاني
فيقول لست بسائل غيري بأح***وال العباد أنا العظيم الشان
من ذا يسألني فيعطي سؤله***من ذا يتوب إلي من عصيان
من ذاك يسألني فاغفر ذنبه***فأنا الودود الواسع الغفران
من ذا يريد شفاءه من سقمه***فأنا القريب مجيب من نادان
ذا شأنه سبحانه وبحمده***حتى يكون الفجر فجر ثان
يا قوم ليس نزوله وعلوه***حقا لديكم بل هما عدمان
وكذلك يقول ليس شيئا عندكم***لا ذا ولا قولا سواه ثان
كل مجاز لا حقيقة تحته ***أول وزد وأنقص بلا برهان(21)‏

جمال البليدي
2009-06-15, 22:42
المبحث الثالث ‏‎:‎‏ هل نجزم بإثبات النزول أم نفوض ‏ونؤول؟ ‏‎!‎


اعلم رحمك الله بأن حديث النزول(حديث كبير جليل ,تنادي جلالته ‏وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة))(22)‏
وقد انقسم الناس اتجاه هذا الحديث وغيره من نصوص الصفات إلى ‏ثلاثة أقسام ‏‎:‎
القسم الأول: من جعلوا الظاهر المتبادر منها معنى حقاً يليق بالله - عز وجل - وأبقوا دلالتها ‏على ذلك، وهؤلاء هم السلف الذين اجتمعوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم ‏وأصحابه، والذين لا يصدق لقب أهل السنة والجماعة إلا عليهم.‏
وقد أجمعوا على ذلك كما نقله ابن عبد البر فقال: "أهل السنة مجمعون على الإقرار ‏بالصفات الواردة كلها في القرآن الكريم والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على ‏المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة" أهـ.‏

القسم الثاني: من جعلوا الظاهر المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً لا يليق بالله ‏وهو: التشبيه، وأبقوا دلالتها على ذلك. وهؤلاء هم المشبهة
القسم الثالث: من جعلوا المعنى المتبادر من نصوص الصفات معنى باطلاً، لا يليق بالله ‏وهو التشبيه، ثم إنهم من أجل ذلك أنكروا ما دلت عليه من المعنى اللائق بالله، وهم أهل ‏التعطيل سواء كان تعطيلهم عاماً في الأسماء والصفات، أم خاصاً فيهما، أو في أحدهما، ‏فهؤلاء صرفوا النصوص عن ظاهرها إلى معاني عينوها بعقولهم، واضطربوا في تعيينها ‏اضطراباً كثيراً، وسموا ذلك تأويلاً، وهو في الحقيقة تحريف.‏

أين الحق؟؟؟


والحق بلا ريب ولا شك مع القسم الأول أهل السنة والجماعة ‏‎:‎
وذلك لوجهين:‏
‏ الأول: أنه تطبيق تام لما دل عليه الكتاب والسنة من وجوب الأخذ بما جاء فيهما من ‏أسماء الله وصفاته كما يعلم ذلك من تتبعه بعلم وإنصاف.‏ الثاني: أن يقال: إن الحق إما أن يكون فيما قاله السلف أو فيما قاله غيرهم، والثاني ‏باطل لأنه يلزم منه أن يكون السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان تكلموا بالباطل ‏تصريحاً أو ظاهراً، ولم يتكلموا مرة واحدة لا تصريحاً ولا ظاهراً بالحق الذي يجب اعتقاده. ‏وهذا يستلزم أن يكونوا إما جاهلين بالحق وإما عالمين به لكن كتموه، وكلاهما باطل، وبطلان ‏اللازم يدل على بطلان الملزوم، فتعين أن يكون الحق فيما قاله السلف دون غيرهم.‏
قال محمد بن جرير الطبري - بعد كلام طويل حول نصوص الصفات: "وأهل العلم بالكتاب ‏والآثار من السلف والخلف يثبتون جميع ذلك، ويؤمنون به بلا كيف ولا توهم. ويمرون الأحاديث ‏الصحيحة كما جاءت من رسول الله عليه الصلاة والسلام"‏


بطلان مذهب المشبهة ‏‎:‎


أما القسم الثاني (المشبهة) فلا ريب أن مذهبه باطل ,وذلك من أوجه ‏‎:‎
الأول: أنه جناية على النصوص وتعطيل لها عن المراد بها، فكيف يكون المراد بها التشبيه ‏وقد قال الله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)

‏ الثاني: أن العقل دل على مباينة الخالق للمخلوق في الذات والصفات، فكيف يحكم ‏بدلالة النصوص على التشابه بينهما؟
الثالث: أن هذا المفهوم الذي فهمه المشبه من النصوص مخالف لما فهمه السلف منها ‏فيكون باطلاً.‏
‏ فإن قال المشبه: أنا لا أعقل من نزول الله ويده إلا مثل ما للمخلوق من ذلك، والله ‏تعالى لم يخاطبنا إلا بما نعرفه ونعقله فجوابه من ثلاثة أوجه:‏
‏ أحدها: أن الذي خاطبنا بذلك هو الذي قال عن نفسه: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). ونهى عباده ‏أن يضربوا له الأمثال، أو يجعلوا له أنداداً فقال: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا ‏تَعْلَمُونَ) وقال: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). وكلامه - تعالى - كله حق ‏يصدق بعضه بعضاً، ولا يتناقض.‏

ثانيها: أن يقال له: ألست تعقل لله ذاتاً لا تشبه الذوات؟ ‏
‏ فسيقول: بلى! فيقال له: فلتعقل له صفات لا تشبه الصفات، فإن القول في الصفات ‏كالقول في الذات، ومن فرق بينهما فقد تناقض!.‏
‏ ثالثها: أن يقال: ألست تشاهد في المخلوقات ما يتفق في الأسماء ويختلف في الحقيقة ‏والكيفية؟ فسيقول: بلى! فيقال له: إذا عقلت التباين بين المخلوقات في هذا، فلماذا لا تعقله بين ‏الخالق والمخلوق، مع أن التباين بين الخالق والمخلوق أظهر وأعظم، بل التماثل مستحيل بين ‏الخالق والمخلوق كما سبق في القاعدة السادسة من قواعد الصفات.‏


بطلان مذهب المعطلة من الأشاعرة والجهمية:


وبيان بطلان ماذهب إليه القسم الثالث(المعطلة) من عدة أوجه ‏‎:‎
أحدها: أنه جناية على النصوص حيث جعلوها دالة على معنى باطل غير لائق بالله ولا مراد ‏له.‏
الثاني: أنه صرف لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عن ظاهره، ‏والله - تعالى - خاطب الناس بلسان عربي مبين، ليعقلوا الكلام ويفهموه على ما يقتضيه هذا ‏اللسان العربي، والنبي صلى الله عليه وسلم خاطبهم بأفصح لسان البشر؛ فوجب حمل كلام الله ‏ورسوله على ظاهره المفهوم بذلك اللسان العربي؛ غير أنه يجب أن يصان عن التكييف ‏والتمثيل في حق الله - عز وجل.‏
‏ الثالث: أن صرف كلام الله ورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه، قول على الله بلا ‏علم وهو محرم ؛ لقوله - تعالى - : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ‏وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا ‏تَعْلَمُونَ) ولقوله - سبحانه -: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ ‏كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً).‏
‏ فالصارف لكلام الله - تعالى - ورسوله عن ظاهره إلى معنى يخالفه قد قفا ما ليس له ‏به علم. وقال على الله ما لا يعلم من وجهين:‏
‏ الأول: أنه زعم أنه ليس المراد بكلام الله - تعالى - ورسوله كذا، مع أنه ظاهر ‏الكلام.‏
‏ الثاني: أنه زعم أن المراد به كذا لمعنى آخر لا يدل عليه ظاهر الكلام.‏
‏ وإذا كان من المعلوم أن تعيين أحد المعنيين المتساويين في الاحتمال قول بلا علم؛ فما ‏ظنك بتعيين المعنى المرجوح المخالف لظاهر الكلام؟!‏
‏ مثال ذلك: قوله - تعالى - لإبليس (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي). فإذا ‏صرف الكلام عن ظاهره، وقال: لم يرد باليدين اليدين الحقيقيتين وإنما أراد كذا وكذا. قلنا له: ‏ما دليلك على ما نفيت؟! وما دليلك على ما أثبت؟! فإن أتى بدليل - وأنى له ذلك - وإلا كان ‏قائلاً على الله بلا علم في نفيه وإثباته.‏
الوجه الرابع: في إبطال مذهب أهل التعطيل: أن صرف نصوص الصفات عن ‏ظاهرها مخالف لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها، ‏فيكون باطلاً، لأن الحق بلا ريب فيما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وسلف ‏الأمة وأئمتها.‏
‏ الوجه الخامس: أن يقال للمعطل:‏
‏ هل أنت أعلم بالله من نفسه؟ فسيقول: لا.‏
‏ ثم يقال له: هل ما أخبر الله به عن نفسه صدق وحق؟ فسيقول: نعم.‏
‏ ثم يقال له: هل تعلم كلاماً أفصح وأبين من كلام الله - تعالى؟ فسيقول: لا.‏
‏ ثم يقال له: هل تظن أن الله - سبحانه وتعالى - أراد أن يعمي الحق على الخلق في ‏هذه النصوص ليستخرجوه بعقولهم؟ فسيقول: لا.‏
‏ هذا ما يقال له باعتبار ما جاء في القرآن.‏
‏ أما باعتبار ما جاء في السنة فيقال له:‏
‏ هل أنت أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فسيقول: لا.‏
‏ ثم يقال له: هل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحق صدق وحق؟ ‏فسيقول: نعم.‏
‏ ثم يقال له: هل تعلم أن أحداً من الناس أفصح كلاماً، وأبين من رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم؟ فسيقول لا ثم يقال له هل تعلم أن أحداً من الناس أنصح لعباد الله من رسول الله ؟ ‏فسيقول : لا
‏ فيقال له: إذا كنت تقر بذلك فلماذا لا يكون عندك الإقدام والشجاعة في إثبات ما أثبته ‏الله - تعالى - لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم على حقيقته وظاهره اللائق بالله؟ ‏وكيف يكون عندك الإقدام والشجاعة في نفي حقيقته تلك، وصرفه إلى معنى يخالف ظاهره ‏بغير علم؟
‏ وماذا يضيرك إذا أثبت لله - تعالى - ما أثبته لنفسه في كتابه، أو سنة نبيه على الوجه ‏اللائق به، فأخذت بما جاء في الكتاب والسنة إثباتاً ونفياً؟
‏ أليس هذا أسلم لك وأقوم لجوابك إذا سئلت يوم القيامة: (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ).‏
‏ أوليس صرفك لهذه النصوص عن ظاهرها، وتعيين معنى آخر مخاطرة منك؟! فلعل ‏المراد يكون - على تقدير جواز صرفها - غير ما صرفتها إليه.‏
‏ الوجه السادس في إبطال مذهب أهل التعطيل: أنه يلزم عليه لوازم باطلة؛ وبطلان ‏اللازم يدل على بطلان الملزوم.‏
‏ فمن هذه اللوازم:‏
‏ أولاً: أن أهل التعطيل لم يصرفوا نصوص الصفات عن ظاهرها إلا حيث اعتقدوا أنه ‏مستلزم أو موهم لتشبيه الله - تعالى - بخلقه، وتشبيه الله - تعالى - بخلقه كفر؛ لأنه تكذيب ‏لقوله - تعالى-: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).
قال نعيم بن حماد الخزاعي أحد مشايخ البخاري - ‏رحمهما الله -: من شبه الله بخلقه فقد كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما ‏وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهاً. أهـ.‏

ومن المعلوم أن من أبطل الباطل أن يجعل ظاهر كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى ‏الله عليه وسلم تشبيهاً وكفراً أو موهماً لذلك.‏

ثانياً: أن كتاب الله - تعالى - الذي أنزله تبياناً لكل شيء، وهدى للناس، وشفاءً لما ‏في الصدور، ونوراً مبيناً، وفرقاناً بين الحق والباطل لم يبين الله - تعالى - فيه ما يجب على ‏العباد اعتقاده في أسمائه وصفاته، وإنما جعل ذلك موكلاً إلى عقولهم، يثبتون لله ما يشاءون، ‏وينكرون ما لا يريدون. وهذا ظاهر البطلان.‏
‏ ثالثاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين وأصحابه وسلف الأمة وأئمتها، ‏كانوا قاصرين أو مقصرين في معرفة وتبيين ما يجب لله تعالى من الصفات أو يمتنع عليه أو ‏يجوز؛ إذ لم يرد عنهم حرف واحد فيما ذهب إليه أهل التعطيل في صفات الله - تعالى - ‏وسموه تأويلاً.‏
‏ وحينئذ إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وسلف الأمة وأئمتها ‏قاصرين لجهلهم بذلك وعجزهم عن معرفته، أو مقصرين لعدم بيانهم للأمة، وكلا الأمرين ‏باطل!!‏
‏ رابعاً: أن كلام الله ورسوله ليس مرجعاً للناس فيما يعتقدونه في ربهم وإلاههم الذي ‏معرفتهم به من أهم ما جاءت به الشرائع بل هو زبدة الرسالات، وإنما المرجع تلك العقول ‏المضطربة المتناقضة وما خالفها، فسبيله التكذيب إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، أو التحريف الذي ‏يسمونه تأويلاً، إن لم يتمكنوا من تكذيبه.‏
‏ خامساً: أنه يلزم منه جواز نفي ما أثبته الله ورسوله، فيقال في قوله - تعالى -: ‏‏(وَجَاءَ رَبُّكَ).إنه لا يجيء،وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا إلى السماء ‏الدنيا"( إنه لا ينزل لأن إسناد المجيء والنزول إلى الله مجاز عندهم، وأظهر علامات ‏المجاز عند القائلين به صحة نفيه، ونفي ما أثبته الله ورسوله من أبطل الباطل، ولا يمكن ‏الانفكاك عنه بتأويله إلى أمره؛ لأنه ليس في السياق ما يدل عليه.‏
‏ ثم إن من أهل التعطيل من طرد قاعدته في جميع الصفات، أو تعدى إلى الأسماء - ‏أيضاً - ومنهم من تناقض فأثبت بعض الصفات دون بعض، كالأشعرية والماتريدية: أثبتوا ما ‏أثبتوه بحجة أن العقل يدل عليه، ونفوا ما نفوه بحجة أن العقل ينفيه أو لا يدل عليه.‏
‏ فنقول لهم: نفيكم لما نفيتموه بحجة أن العقل لا يدل عليه يمكن إثباته بالطريق العقلي ‏الذي أثبتم به ما أثبتموه كما هو ثابت بالدليل السمعي.‏
‏ مثال ذلك: أنهم أثبتوا صفة الإرادة، ونفوا صفة الرحمة.‏
‏ أثبتوا صفة الإرادة لدلالة السمع والعقل عليها.‏
‏ أما السمع: فمنه قوله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)(
‏ وأما العقل: فإن اختلاف المخلوقات وتخصيص بعضها بما يختص به من ذات أو ‏وصف دليل على الإرادة.‏
‏ ونفوا الرحمة؛ لأنها تستلزم لين الراحم ورقته للمرحوم، وهذا محال في حق الله ‏تعالى.‏
‏ وأولوا الأدلة السمعية المثبتة للرحمة إلى الفعل أو إرادة الفعل ففسروا الرحيم بالمنعم ‏أو مريد الإنعام.‏
‏ فنقول لهم: الرحمة ثابتة لله تعالى بالأدلة السمعية، وأدلة ثبوتها أكثر عدداً وتنوعاً من ‏أدلة الإرادة. فقد وردت بالاسم مثل: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). والصفة مثل: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو ‏الرَّحْمَةِ)(. والفعل مثل: (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ).‏
‏ ويمكن إثباتها بالعقل فإن النعم التي تترى على العباد من كل وجه، والنقم التي تدفع ‏عنهم في كل حين دالة على ثبوت الرحمة لله - عز وجل - ودلالتها على ذلك أبين وأجلى ‏من دلالة التخصيص على الإرادة، لظهور ذلك للخاصة والعامة، بخلاف دلالة التخصيص ‏على الإرادة، فإنه لا يظهر إلا لأفراد من الناس.‏
‏ وأما نفيها بحجة أنها تستلزم اللين والرقة؛ فجوابه: أن هذه الحجة لو كانت مستقيمة ‏لأمكن نفي الإرادة بمثلها فيقال: الإرادة ميل المريد إلى ما يرجو به حصول منفعة أو دفع ‏مضرة، وهذا يستلزم الحاجة، والله تعالى منزه عن ذلك.‏
‏ فإن أجيب: بأن هذه إرادة المخلوق أمكن الجواب بمثله في الرحمة بأن الرحمة ‏المستلزمة للنقص هي رحمة المخلوق.‏
‏ وبهذا تبين بطلان مذهب أهل التعطيل سواء كانت تعطيلاً عاماً أو خاصاً.‏
‏ وبه علم أن طريق الأشاعرة والماتريدية في أسماء وصفاته وما احتجوا به لذلك لا ‏تندفع به شبه المعتزلة والجهمية وذلك من وجهين:‏
‏ أحدهما: أنه طريق مبتدع لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا سلف الأمة ‏وأئمتها، والبدعة لا تدفع بالبدعة وإنما تدفع بالسنة.‏
‏ الثاني: أن المعتزلة والجهمية يمكنهم أن يحتجوا لما نفوه على الأشاعرة والماتريدية ‏بمثل ما احتج به الأشاعرة والماتريدية لما نفوه على أهل السنة، فيقولون: لقد أبحتم لأنفسكم ‏نفي ما نفيتم من الصفات بما زعمتموه دليلاً عقلياً وأولتم دليله السمعي، فلماذا تحرمون علينا ‏نفي ما نفيناه بما نراه دليلاً عقلياً، ونأول دليله السمعي، فلنا عقول كما أن لكم عقولاً، فإن ‏كانت عقولنا خاطئة فكيف كانت عقولكم صائبة، وإن كانت عقولكم صائبة فكيف كانت عقولنا ‏خاطئة، وليس لكم حجة في الإنكار علينا سوى مجرد التحكم وإتباع الهوى. ‏
وهذه حجة دامغة وإلزام صحيح من الجهمية والمعتزلة للأشعرية والماتريدية، ولا ‏مدفع لذلك ولا محيص عنه إلا بالرجوع لمذهب السلف الذين يطردون هذا الباب، ويثبتون لله ‏تعالى من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ‏إثباتاً لا تمثيل فيه ولا تكييف، وتنزيهاً لا تعطيل فيه ولا تحريف، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً ‏فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ).‏
لو كان حقا ما‎ ‎إبتدعتموه لكنتم إما خير من السلف ‏وهذا محال أو أنكم جئتم بدين أهدى مما جاء به‎ ‎النبي ‏صلى الله عليه وسلم نورا للعالمين وهذا محال‎ ‎كذلك‎.
وإلا‎:
‎((‎لزمتكم شنع ثلاث‎ ‎فارتؤوا‎***‎‏ أو خلة منهن أو ‏ثنتان‏‎
تقديمهم‎ ‎في العلم أو في نصحهم***أو في البيان أذاك ‏ذو‎ ‎إمكان‎
إن كان ما قد قلتم حقا فقد***ضل الورى‎ ‎بالوحي ‏والقرآن‎
إذ فيهما ضد الذي قلتم وما***ضدان في‎ ‎المعقول ‏يجتمعان‎
بل كان أولى أن يعطل منهما***ويحال في علم‎ ‎وفي ‏عرفان‎
إما على جهم وجعد أو على النظ***ام أو ذي‎ ‎المذهب ‏اليونان ‏‎
وكذلك أتباع لهم فقع الفلاصم***وبكم تابعو‎ ‎العميان ‏‎
وكذلك أفراخ القرامطة الألى***قد جاهروا‎ ‎بعداوة ‏الرحمن‎)) ‎الكافية الشافية‎.‎

جمال البليدي
2009-06-15, 22:43
المبحث الرابع ‏‎:‎بيان أن تأويل الحديث هو من أقوال المعتزلة

قال الأشعري "وقالت المعتزلة نزول الله معناه نزول آياته أو نزول الملك ‏بأمره(23) وقد حكى ابن فورك عن مشايخه ضبط الحديث بضم الياء (يُنزل) أي يأمر ‏ملكاً ينزل، هو تحريف للكلم عن مواضعه فما مدى صحة هذه الرواية المضبوطة عند ‏أهل الكلام.‏
وهذه المقالة الاعتزالية نجدها اليوم مقالة الأشاعرة: ولذا قال الشيخ عبد القادر الجيلاني "والله ينزل كل يوم ‏إلى السماء كيف شاء وليس بمعنى نزول الرحمة والثواب كما تدعي المعتزلة والأشعرية(24)‏

جمال البليدي
2009-06-15, 22:44
المبحث الخامس ‏‎:‎‏ الرد على الشبهات‏

الشبهة الأولى ‏‎:‎‏ تأويلهم للنزول على أنه نزول الملك أو الأمر من الله أو الرحمة.



والرد على هذا التأويل المعتزلي الأشعري من عدة ‏أوجه‎:‎



الوجه الأول‎:‎أن أمره‎ ‎وملائكته ورحمته دائما ‏تنزل أناء الليل وأطراف النهار وفي كل ساعة فلما ‏تخصيص الثلث‎ ‎الأخير من الليل فقط؟‎!
قال الطبري رحمه الله(((‎ويهبط إلى السماء‎ ‎الدنيا ‏وينزل إليها كل ليلة,ولا نقول:معنى ذلك ينزل ‏أمره,بل نقول:أمره نازل إليها‎ ‎كل لحظة وساعة وإلى ‏غيرها من جميع خلقه الموجودين مادامت ‏موجودة.ولا تخلو ساعة من‎ ‎أمره,فلا وجه لخصوص ‏نزول أمره إليها وقتا دون وقت,مادامت موجودة‎ ‎باقية‎))(‎‏25‏‎).
قال‎ ‎ابن عبد البر رحمه الله‎ ((‎وقد قال قوم:إنه ينزل ‏أمره وتنزل رحمته‎ ‎ونعمته.وهذا ليس بشيء ,لأن ‏أمره بما شاء من رحمته ونقمه ينزل بالليل والنهار بلا‎ ‎تقويت ثلث الليل ولا غيره‎))(‎‏26‏‎)
وقال ابن خزيمة‎((‎وأنه تعالى‎ ‎ينزل إلى السماء ‏الدنيا,ومن زعم أن علمه ينزل أو أمره ضل‎)(‎‏27‏‎)

الوجه الثاني‎:‎كيف نجيب عن قوله‎ "‎من يدعوني ‏‏. . .إلخ" فهل يعقل أن يكون هذا قول الملك؟ فإنه ‏حينئذ يكون ‏كافراً‎. ‎قال تعالى‎ {‎وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ ‏مِّن دُونِهِ‎ ‎فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ‎}.‎‏‎

الوجه‎ ‎الثالث‎:‎أن ألفاظ الحديث تبطل التأويل بنزول ‏الملك,ففي بعض الروايات أن‎ ‎الرب تعالى يقول‎(‎أنا ‏الملك,أنا الملك,من يدعوني فأستجيب‎ ‎له‎)(‎‏28‏‎(
‎وفي ‏بعضها أن تعالى يقو((‎لا أسأل عن عبادي أحدا‎ ‎غيري‎))(‎‏29‏‎)
‎وكلاهما صحيح‎.
قال الحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله‎((‎وهذان ‏الحديثان يقطعان تأويل كل متأول ويدحضان حجة كل‎ ‎مبطل))

ومعلوم أن الكلام المذكور في الحديث هو كلام الله ‏الذي لا‎ ‎يقوله غيره فإن الملك لا يقول‎((‎لا أسأل عن ‏عبادي أحدا‎ ‎غيري‎)) ‎ولا يقول‎((‎من يسألني ‏فاعطينه‎)).‎بل الذي يقول‎ ‎الملك :ما ثبت في الصحيح ‏عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‎(( ‎إن الله تعالى ‏إذا أحب عبداً دعا جبريل، فقال : إني أحب فلانا ‏فأحببه، فيحبه جبريل،‎ ‎ثم ينادي في السماء فيقول : إن ‏الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع‎ ‎له ‏القبول في الأرض‎))‎وذكر البغض مثل ذلك‎.
فالملك إذا نادى عن الله لا‎ ‎يتكلم بصيغة المخاطب,إنما ‏يقول:إن الله أمر بكذا وكذا وقال بكذا‎ .
والسلطان إذا‎ ‎أمر خادمه بشيء فإن الخادم لن يقول ‏مباشرة كذا كذا بل يقول:قال لكم السلطان كذا‎ ‎وكذا‎.

الوجه الرابع‎:‎أنه قال((من ذا‎ ‎يدعوني فأستجيب ‏له؟من ذا الذي يسألني فأعطينه؟من ذا الذي يستغفرني ‏فأغفر له؟حتى‎ ‎يطلع الفجر))ومعلوم أنه لا يجيب ‏الدعاء ولا يغفر الذنوب إلا الله‎ ‎تعالى‎.
الوجه الخامس‎:‎نزول رحمته وأمره لا يكون إلا منه ‏وهذا‎ ‎يقتضي أن الله في العلو ,وإلا من تنزل ‏الرحمة؟‎!!
ولهذا قال بعض النفاة لبعض‎ ‎المثبتين:ينزل أمره ‏ورحمته,فقال المثبت:فممن ينزل؟ما عندك فوق العالم ‏شيء ,فممن‎ ‎ينزل الأمر؟من العدم المحض؟؟؟فبهت ‏النافي وكان كبيرا‎ ‎فيهم(31‏‎)
قال الإمام‎ ‎الدارمي رحمه الله‎(‎ونفس الحديث يبطل هذا ‏التفسير ويكذبه,غير أنه‎ ‎أغيظ حديث للجهمية,وأنقض ‏شيء لدعواهم,لأنهم لا يقرون أن الله فوق عرشه فوق‎ ‎سمواته,ونفس الحديث ناقض لدعواهم وقاطع‎ ‎لحججهم‎)(‎‏32‏‎)

الوجه السادس‎:‎لو كان‎ ‎النزول هو نزول ‏الملائكة والرحمة والأمر لكان أخبرنا بذلك النبي ‏صلى الله عليه وسلم‏‎ ‎الذي تركنا على المحجة البيضاء ‏لا يزيغ عنها إلا هالك فلا شك أن صرف النصوص ‏المحكمة‎ ‎الصريحة عن ظاهرها يعتبر تحريفا للشرع ‏وتكذيب للإسلام شعروا بذلك أم لم‎ ‎يشعروا‎.
الوجه السابع‎:‎إن سلف الأمة‎ ‎وأئمتها مجمعون ‏على إثبات صفة النزول لله تعالى من غير تحريف ولا ‏تكييف ولا‎ ‎تمثيل.ولم يثبت عن أي واحد منهم أنه تأول ‏شيئا من الصفات ألبتة‎
بل الثابت عن‎ ‎السلف والأئمة أنه لما ظهرت الجهمية ‏والزنادقة وأنكروا نزول الله تعالى ردوا عليهم‎ ‎وشنعوا عليهم وبينوا أن الله عز وجل ينزل إلى السماء ‏دنيا نزولا حقيقيا يليق بجلاله‎ ‎وعظمته‎.
حدث الإمام حماد‎ ‎بن سلمة رحمه الله(167ه) بحديث ‏النزول ثم قال‎((‎من رأيتموه ينكر‎ ‎هذا فاتهموه‎)(‎‏33‏‎)
وقال الإمام نعيم بن حماد رحمه ‏الله((228ه‎):((‎حديث نزول يرد على الجهمية ‏قولهم‎))(‎‏34‏‎)
وأفرد الإمام أبو داود‎ ‎في (كتاب السنة) بابا في الرد ‏على الجهمية وأورد حديث‎ ‎النزول(11‏‎).

وقال‎ ‎عباد بن العوام‎((‎قدم علينا شريك بن عبد الله منذ ‏نحو من خمسين سنة‎ ,‎فقلت له:يا أبا عبد الله إن عندنا ‏قوما من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث(أي أحاديث‎ ‎النزول)قال:فحدثني بنحو من عشرة أحاديث في ‏هذا.وقال:أما نحن فقد أخذنا ديننا هذا عن‎ ‎التابعين عن ‏أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم عمن‏‎ ‎أخذوا‎))(‎‏35‏‎)
وقد‎ ‎وقع بين إسحاق بن راهويه وبين إبراهيم بن ‏صالح المعتزلي ، وبينه وبين منصور بن طلحة‎ ‎أيضاً ‏منهم كلام ، بعضه عند عبد الله بن طاهر بن عبد الله ‏المعتزلي ، وبعضه عند‎ ‎أبيه طاهر بن عبد الله‎ .
قال إسحاق بن راهويه‎ : ‎جمعني وهذا‎ ‎المبتدع ـ يعني ‏إبراهيم بن صالح ـ مجلس الأمير عبد الله بن طاهر ، ‏فسألني الأمير عن‎ ‎أخبار النزول فسردتها ، فقال ‏إبراهيم : كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء ، ‏فقلت آمنت‎ ‎برب يفعل ما يشاء ، قال فرضي عبد الله ‏كلامي وأنكر على إبراهيم . وقد أخذ إسحاق‎ ‎كلامه ‏هذا عن الفضيل بن عياض رحمه الله فإنه قال : إذا ‏قال الجهمي : أنا أكفر برب‎ ‎ينزل ويصعد ، فقل آمنت ‏برب يفعل ما يشاء ، ذكره أبو الشيخ ابن حبان في ‏كتاب السنة‎ .‎




الشبهة الثانية ‏‎:‎قولهم بأن الليل ينتقل من مكان إلى مكان ‏
قال أحد الأحباش(( ويلزم من حديث النزول أن يكون الله فيما بين النصف الثاني من الليل والفجر ‏مستمراً في النزول والصعود، وذلك أن الليل يختلف باختلاف البلاد، فنصف الليل في بلد هو أول النهار في ‏بلد آخر)).‏
والجواب عليه ‏‎:‎
قال الحافظ "وقد استشكل ذلك (الحديث) وهو أنه يستلزم استغراق الزمان كله في ‏ذلك لاتصال الصلاة والسلام عليه ‏الصلاة والسلام‏ في أقطار الأرض ممن لا يحصى كثرة، وأجيب ‏بأن أمور الآخرة لا تُدرك بالعقل، وأحوال البرزخ أشبه بأحوال الآخرة"(2).‏

فإذا كان العقل لا يدرك كيفية رجوع الروح إلى جسد النبي فمن باب أولى أن لا ‏يدرك كيفية نزول الله. ولكن أهل البدع يتناقضون: فتارة يقدّمون العقل على النقل وتارة ‏يقدمون النقل على العقل وتارة يجوّزون عقلاً ما لا يجوز شرعاً وتارة يجوّزون شرعاً ‏ما لا يجوز عقلاً.‏
وهذا المثال يظهر به ما تعانيه نفوسهم من مرض التشبيه، وحيازتهم لأدواء ‏فاسدة يسمونها التأويل يظنون أن بها شفاءهم.‏
والحجة الدامغة في ذلك أن أفاضل هذه الأمة رووا هذا الحديث وكتبوه في كتبهم ‏وسئلوا عن معناه فلم يعارضوه بعقولهم ولم يضربوا له مثل السوء الذي ضربتموه، بل ‏المعروف عنهم عدم التعرض لأحاديث الصفات بما يعرض للعقول من وساوس.‏
ولهذا أجاب الحافظ ابن رجب(3) على من قال "إن ثلث الليل يختلف باختلاف ‏البلدان فلا يمكن أن يكون النزول في وقت معين" فقال رحمه الله "معلوم بالضرورة قبح ‏هذا الاعتراض وأن رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم‏ وخلفاءه الراشدين لو سمعوا من يعترض به لما ‏ناظروه، بل بادروا إلى عقوبته وإلحاقه بزمرة المخالفين المنافقين المكذبين".‏
وقد رد على هذه الشبهة السخيفة شيخ الإسلام ابن تيمية فقال ‏‎: ‎‏ ((ومن هنا يظهر عما ذكره ابن حزم ‏وغيره في حديث النزول حيث قال النبي ‎صلى الله عليه وسلم "‎ينزل ربنا‎ ‎كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ‏ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من‎ ‎يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له ‏حتى يطلع الفجر‎".
فقالوا: قد ثبت أن الليل‎ ‎يختلف بالنسبة إلى الناس فيكون أوله ونصفه وثلثه بالمشرق قبل ‏أوله ونصفه وثلثه‎ ‎بالمغرب قالوا فلو كان النزول هو النزول المعروف للزم أن ينزل في جميع ‏أجزاء الليل‎ ‎إذ لا يزال في الأرض ليل قالوا أو لا يزال نازلا وصاعدا وهو جمع بين‎ ‎الضدين‎.
وهذا إنما قالوه لتخيلهم من نزوله ما يتخيلونه من نزول أحدهم وهذا عين‎ ‎التمثيل ثم إنهم ‏بعد ذلك جعلوه كالواحد العاجز منهم الذي لا يمكنه أن يجمع من‎ ‎الأفعال ما يعجز غيره ‏عن جمعه وقد جاءت الأحاديث بأنه يحاسب خلقه يومالقيامة كل‎ ‎منهم يراه مخليا به ويناجيه ‏لا يرى أنه متخليا لغيره ولا مخاطب لغيره, وقد قال‎ ‎النبي‎صلى الله عليه وسلم: "‎إذا قال العبد الحمد لله رب ‏العالمين يقول الله حمدني عبدي وإذا قال‎ ‎الرحمن الرحيم قال الله أثنى علي عبدي‎".
فكل من الناس يناجيه والله تعالى يقول‎ ‎لكل منهم ذلك ولا يشغله شأن عن شأن, وذلك ‏كما قيل لابن عباس كيف يحاسب الله تعالى‎ ‎الخلق في ساعة واحدة فقال: كما يرزقهم في ‏ساعة واحدة‎.
ومن مثل مفعولاته التي‎ ‎خلقها بمفعولات غيره فقد وقع في تمثيل المجوس القدرية فكيف بمن ‏مثل أفعاله بنفسه أو‎ ‎صفاته بفعل غيره وصفته‎.
يقال لهؤلاء أنتم تعلمون أن الشمس جسم واحد وهي متحركة‎ ‎حركة واحدة متناسبة لا ‏تختلف ثم إنه بهذه الحركة الواحدة تكون طالعة على قوم‎, ‎وغاربة عن آخرين, وقريبة من ‏قوم وبعيدة من آخرين؛ فيكون عند قوم عنها ليل وعند قوم‎ ‎نهار وعند قوم شتاء وعند قوم ‏صيف وعند قوم حر وعند قوم برد؛ فإذا كانت حركة واحدة‎ ‎يكون عنها ليل ونهار في ‏وقت واحد لطائفتين وشتاء وصيف في وقت واحد لطائفتين فكيف‎ ‎يمتنع على خالق كل ‏شيء الواحد القهار أن يكون نزوله إلى عباده ونداه إياهم في ثلث‎ ‎ليلهم, وإن كان مختلفا ‏بالنسبة إليهم وهو سبحانه لا يشغله شأن عن شأن ولا يحتاج أن‎ ‎ينزل عن هؤلاء ثم ينزل ‏على هؤلاء بل في الوقت الواحد الذي يكون ثلثا عند هؤلاء‎ ‎وفجرا عند هؤلاء يكون نزوله ‏إلى سماء هؤلاء الدنيا وصعوده عن سماء هؤلاء الدنيا‎ ‎فسبحان الله الواحد القهار سبحان ‏ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد‎ ‎لله رب العالمين‎".

جمال البليدي
2009-06-15, 22:46
الشبهة الثالثة ‏‎:‎‏احتجاجهم بما رواه النسائي في(عمل اليوم والليلة‎):((‎أن ‏الله عز وجل يمهل‎ ‎حتى يمضي شطر الليل ثم يأمر ‏مناديا ينادي فيقول هل من داع فيستجاب له‎ )).‎



والجواب على ذلك:‏

أولاً: أن هذه الرواية لا ذكر فيها: لا لنزول الله ولا نزول الملك، فمن أين ‏حكمت بأن النزول هو نزول الملك بأمره؟ فالتعويل على هذه الرواية يلغي موضوع ‏النزول برمته.‏
ثانياً: أنه تفرد بهذه اللفظة حفص بن غياث (38) وهو ‏ممن تغير حفظه قليلا بأخرة,وخالفه غير‎ ‎واحد من ‏الثقات ,مثل:شعبة ومنصور بن المعتمر وفضيل بن ‏غزوان ومعمر بن راشد,فرووه‎ ‎بلفظ((إن‎ ‎الله يمهمل ‏حتى إذا ذهب ثلث الليل الأول ,نزل إلى السماء‎ ‎الدنيا,فيقول:هل من مستغفر‎....)).
فروايته السابقة شاذة وإن صحت فلها وجه‎ ‎وهو‎:‎
الثالث ‏‎:‎‏ إن هذا إن كان ثابتا عن النبي صلى الله عليه ‏وسلم فإن الرب يقول ذلك,..ويأمر مناديا‎ ‎فينادي...لا ‏أن المنادي يقول((من يدعوني فاستجيب له)) ومن ‏روى عن النبي صلى الله‎ ‎عليه وسلم أن المنادي يقول ‏ذلك فقد علمنا أنه يكذب على رسول الله صلى الله عليه‎ ‎وسلم فإنه-مع أنه خلاف اللفظ المستفيض المتواتر ‏الذي نقلته الأمة خلفا عن‎ ‎السلف-فاسد في ‏المعقول,يعلم أنه من كذب بعض المبتدعين,كما روى ‏بعضهم((يُنزِّلٌ‎)) ‎بالضم وكما قرأ بعضهم(وكلم اللهَ ‏موسى تكليما))(39) ونحو ذلك من تحريفهم للفظ‎ ‎والمعنى‎ .‎
الرابع ‏‎:‎‏ أن الرواية على ضعفها خبر آحاد وتمسككم ينقض ما زعمتم ‏التزامه وهو عدم الاحتجاج بحديث الآحاد في العقائد.‏
الخامس ‏‎:‎‏ أن تحريفكم هذا يحقق حكم أبي الحسن الأشعري فيكم أنكم من ‏أهل الزيغ والضلالة. فقد روى الحافظ ابن عساكر عن أبي الحسن الأشعري أن الله هو ‏الذي "يقول (هل من سائل هل من مستغفر) خلافاً لما قاله أهل الزيغ والضلالة(40)‏
وقال "ومما يؤكد أن الله عز وجل مستو على عرشه دون الأشياء كلها، ما نقله ‏أهل الرواية عن رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم‏ قال: ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى السماء الدنيا(41)‏
فاعدد: كم من المسائل خالفت بها الأشعري ووافقت بها المعتزلة.‏




الشبهة الرابعة ‏‎:‎‏ قولهم((هل يستلزم نزول الله عز ‏وجل أن يخلو العرش منه أو لا؟))‏.

والجواب ‏‎:‎
‏((علينا أن نثبت النزول على الوجه الذي يليق بالله، ومع كونه ‏استوى على العرش، فهو‎ ‎ينزل كما يليق به عز وجل ليس كنزولنا، إذا ‏نزل فلان من السطح خلا منه السطح، وإذا‎ ‎نزل من السيارة خلت منه ‏السيارة فهذا قياس فاسد له؛ لأنه سبحانه لا يقاس بخلقه، ولا‎ ‎يشبه ‏خلقه في شيء من صفاته. كما أننا نقول استوى على العرش على ‏الوجه الذي يليق به‎ ‎سبحانه، ولا نعلم كيفية استوائه، فلا نشبهه ‏بالخلق ولا نمثله، وإنما نقول استوى‎ ‎استواء يليق بجلاله وعظمته، ‏ولما خاض المتكلمون في هذا المقام بغير حق حصل لهم بذلك‎ ‎حيرة ‏عظيمة حتى آل بهم الكلام إلى إنكار الله بالكلية، حتى قالوا: لا داخل ‏العالم‎ ‎ولا خارج العالم، ولا كذا ولا كذا، حتى وصفوه بصفات معناها ‏العدم وإنكار وجوده‎ ‎سبحانه بالكلية، ولهذا ذهب أصحاب رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم وأهل السنة والجماعة‎ ‎تبعاً لهم فأقروا بما جاءت ‏به النصوص من الكتاب والسنة، وقالوا لا يعلم كيفية صفاته‎ ‎إلا هو ‏سبحانه، ومن هذا ما قاله مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم، والكيف ‏مجهول،‎ ‎والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) يعني عن الكيفية، ‏ومثل ذلك ما يروى عن أم سلمة‎ ‎رضي الله عنها عن ربيعه بن أبي عبد ‏الرحمن شيخ مالك رحمهما الله: (الاستواء غير‎ ‎مجهول، والكيف غير ‏معقول، والإيمان بذلك واجب)، ومن التزم بهذا الأمر سلم من شبهات‎ ‎كثيرة ومن اعتقادات لأهل الباطل كثيرة عديدة، وحسبنا أن نثبت ما ‏جاء في النصوص وأن‎ ‎لا نزيد على ذلك، وهكذا نقول يسمع ويتكلم ‏ويبصر، ويغضب ويرضى على وجه يليق به‎ ‎سبحانه، ولا يعلم كيفية ‏صفاته إلا هو، وهذا هو طريق السلامة وطريق النجاة، وطريق‎ ‎العلم ‏وهو مذهب السلف الصالح، وهو المذهب الأسلم والأعلم والأحكم، ‏وبذلك يسلم‎ ‎المؤمن من شبهات المشبهين، وضلالات المضللين، ‏ويعتصم بالسنة والكتاب المبين، ويرد‎ ‎علم الكيفية إلى ربه سبحانه ‏وتعالى، والله سبحانه ولي‎ ‎التوفيق‎.‎‏)) من فتوى للشيخ ابن باز رحمه ‏الله.‏


الشبهة الخامسة ‏‎:‎قولهم بأن النزول يقتضي الحركة ‏والإنتقال وهذا من خصائص الأجسام.‏


والجواب من عدة أوجه ‏‎:‎



الأول ‏‎:‎‏ إن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق ‏بالحق ,وأنصح الخلق للخلق,وأفصح الخلق في بيان ‏الحق,وأحرص الخلق في هداية الخلق,فما بينه من ‏أسماء الله وصفاته هو الغاية في هذا الباب"فإن كان ‏كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس ‏‏,وأجهلهم وأسوئهم أدبا,بل يجب تأديبه ‏وتعزيره,ويجب أن يصان كلام رسول الله صلى الله ‏عليه وسلم عن الظنون الباطلة,والإعتقادات ‏الفاسدة"(42)‏
ولفظ(الحركة) لم يثبت لا في الكتاب ولا في‎ ‎السنة ‏وبالتالي هو لفظ مجمل يجب الإستفصال في معناه في ‏إن كان حق قبلناه وإن كان‎ ‎باطلا رددناه‎ .
فإن كان‎ ‎قصدكم بالحركة أن الله إستوى العرش وكلم ‏موسى وينزل كل ليلة في الثلث الأخير وأنه‎ ‎خلق ‏السموات وخلق الخلق وأنه أنزل الله الكتب وأنه يجيء ‏يوم القيامة ليحاسب العباد‎ ‎فهذا المعنى حق دل عليه ‏الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة‎ ((‎واتفق أهل‎ ‎السنة ‏على القول بمقتضى ما دل عليه الكتاب والسنة من ‏ذلك غير خائضين فيه ، ولا‎ ‎محرفين للكلم عن ‏مواضعه، ولا معطلين له عن دلائله . وهذه النصوص ‏في إثبات الفعل ،‎ ‎والمجيء ، والاستواء ، والنزول ‏إلى السماء الدنيا إن كانت تستلزم الحركة لله‎ ‎فالحركة ‏له حق ثابت بمقتضى هذه النصوص ولازمها ، وإن ‏كنا لا نعقل كيفية هذه‎ ‎الحركة‎))(1).
أما‎ ‎إذا كنتم تقصدون بلفظ(الحركة) أن الله يماثل أحد ‏مخلوقاته في شيء من صفاتهم فهذا‎ ‎المعنى باطل ‏ننكره والإمام الدارمي ينكره كذلك‎ .
لكن اللفظ حادث وموقف أهل السنة من الألفاظ الحادثة‎ ‎هو‎:
‎-‎إما نفيها تماما‎ ‎والوقوف على الألفاظ الواردة فقط‎
‎-‎إما إثبات المعنى الصحيح منها وترك المعنى‎ ‎الخاطئ وإبقاء اللفظ(وهذه طريقة الدارمي‎)
‎-‎إما إثبات المعنى الصحيح والوقف عن اللفظ‎ ‎وعدم ‏القول به( وهذه طريقة بعض السلف وطريقة ابن ‏تيمية رحمه‎ ‎الله‎).‎



الثاني ‏‎:‎‏ إن الإنتقال إن لزم من إثبات ما أثبته الله تعالى ‏ورسوله صلى الله عليه وسلم ,فلا بد من إثباته ‏ضرورة ,إذ لا زم الحق حق,وإن لم يكن ذلك لازم ‏له,فأنتم معترضون على الرسول صلى الله عليه وسلم ‏كاذبون عليه,متقدمون بين يديه,فبطل إلزامك إن صح.‏
قال ابن رجب رحمه الله ‏‎:‎‏(لا نسلم لزومه,فإن نزوله ‏ليس كنزول المخلوقين)(43)‏
وقال الحافظ الذهبي ‏‎:(‎‏ ((الصواب في حديث النزول ‏ونحوه ما قاله مالك وأقرانه يُمر كما جاء بلا كيفية , و لازم ‏الحق حق , و نفي‎ ‎الإنتقال و إثباته عبارة ‏محدثة , فإن ثبتت في الأثر ‏رويناها و نطقنا‎ ‎بها , و ان نفيت ‏في الأثر نطقنا بالنفي , و إلا ‏لزمنا السكوت‎ ‎و آمنا‎ ‎بما ثبت في الكتاب و السنة ‏على مقتضاه " اهـ(44)‏
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ‏‎:‎‏ (( والأحسن في هذا ‏الباب مراعاة ألفاظ النصوص.فالألفاظ التي جاء بها ‏الكتاب والسنة في الإثبات تثبت ,والتي جاءت في ‏النفي تنفى .والألفاظ المجملة كلفظ(الحركة) ‏و(النزول) و(الإنتقال) يجب أن يقال فيها ‏‎:‎أنه منزه ‏عن مماثلة المخلوقين من كل وجه,لا يماثل المخلوق ‏لا في نزول,ولا في حركة ولا انتقال ولا زوال ولا ‏غير ذلك(45).وهذه سبيل من اعتصم بالعروة ‏الوثقى(46)))‏.

الثالث ‏‎:‎‏ يقال لهم ‏‎:‎رب العالمين إما أن يقبل الاتصاف ‏بالإئتيان والمجيء والنزول وجنس الحركة,وإما أن لا ‏يقبله,فإن لم يقبله كانت الأجسام التي تقبل الحركة ولم ‏تتحرك أكمل منه,وإن قبل ذلك ولم يفعله كان ما ‏يتحرك أكمل منه,فإن الحركة كمال للمتحرك,ومعلوم ‏أن من يمكنه أن يتحرك بنفسه أكمل ممن لا يمكنه ‏التحرك ,وما يقبل الحركة أكمل ممن لا يقبها(47)‏
قال ابن القيم رحمه الله ‏‎:‎‏ ((ومن نزهه عن نزوله كل ‏ليلة إلى السماء الدنيا,ودنوه عشية عرفة من أهل ‏الموقف,ومجيئه يوم القيامة للقضاء بين عباده فرار ‏من تشبيهه بالأجسام,فقد شبهه بالجماد الذي لا ‏يتصرف ولا يفعل ولا يجيئ ولا يأتي ولا ‏ينزل))(48)‏.

الرابع ‏‎:‎قولكم أن هذه الأمور كالمجيئ والإتيان ‏والنزول من خصائص أجسام قول باطل قطعا لأن ‏الأعراض كذلك توصف بذلك فيقال ‏‎:‎جاء البرد ,جاء ‏الحر,جاء الصيف ,وجاءت الحمى...فهل هذه أجسام ‏عندكم؟وبالتالي قولكم هذا من الهذيان والهراء والحمد ‏لله .‏
الخامس ‏‎:‎‏ أن يقال ‏‎:‎المجيء والإتيان والصعود ‏والنزول توصف بها روح الإنسان التي تفارقه ‏بالموت,وتسمى النفس,وتوصف به الملائكة .وليس ‏نزول الروح وصعودها من جنس نزول البدن ‏وصعوده,فإن روح المؤمن تصعد إلى فوق السموات ‏ثم تهبط إلى الأرض فيما بين قبضها ووضع الميت في ‏قبره .وهذا زمن يسير لا يصعد البدن إلى فوق ‏السماوات ثم ينزل إلى الأرض في مثل هذا الزمن.‏
وإذا كانت الروح تعرج إلى السماء مع أنها في البدن، علم أنه ليس عروجها من جنس عروج البدن الذي يمتنع هذا فيه. وعروج الملائكة ونزولها من ‏جنس عروج الروح ونزولها، لا من جنس عروج البدن ونزوله. وصعود الرب عز وجل فوق هذا كله وأجل من هذا كله؛ فإنه تعالى أبعد عن مماثلة ‏كل مخلوق من مماثلة مخلوق لمخلوق.‏
فتدبر أيها القارئ اللبيب.‏

يتبع...

جمال البليدي
2009-06-15, 22:48
الشبهة السادسة ‏‎:‎‏ هل النزول يستلزم أن تكون السماء الدنيا تقله ، والسماء ‏الثانية فوقه ؟‎

والجواب ماقاله الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح العقيدة السفارينية :272‏‎ :‎‏ ‏‎ ‎لا يلزم ‏، بل نعلم أنه لا يمكن ، وذلك لأنه لو أقلته السماء الدنيا لكان محتاجاً‎ ‎إليها ، ولو أقلته ‏السماء الثانية لكانت فوقه ، والله سبحانه وتعالى له العلو‎ ‎المطلق أزلاً وأبداً ، إذاً فليست ‏السماء الدنيا تقله ولا السماء الأخرى تظله‏‎ .
المبحث الثالث : هل إذا نزل إلى السماء الدنيا يخلو منه العرش أو لا يخلو‎ ‎؟‎
في هذا ثلاثةُ أقوال لعلماء السنة‎ :
‎•‎فمنهم من قال : إن العرش يخلو منه‎ .
‎•‎ومنهم من قال : إن العرش لا يخلو منه‎ .
‎•‎ومنهم من توقف‎ .
فأما الذين‎ ‎قالوا : إن العرش يخلو منه ، فقولهم باطل ، لأن الله أثبت أنه استوى على العرش ‏بعد‎ ‎خلق السموات والأرض ، ولم ينفِ هذا الاستواء في الحديث حين قال الرسول صلى ‏الله‎ ‎عليه وسلم : (( ينزلُ ربنا إلى السماء الدنيا ) ، فوجب إبقاء ما كان على ما كان ،‎ ‎وليس الله عز وجل كالمخلوقات ، إذا شغل حيزاً فرغ منه الحيز الآخر ، نعم ، نحن إذا‏‎ ‎نزلنا ‏مكاناً خلا منا المكان الآخر ، أما الله عز وجل فلا يقاس بخلقه . فهذا القول‎ ‎باطل لا شك ‏فيه‎ .
ويبقى النظر في القولين الآخرين ، وهما : التوقف ، أو أن نقول‎ : ‎إنه لا يخلو منه العرش‎ .
فذهبت جماعة من العلماء رحمهم الله إلى التوقف ،‏‎ ‎وقالوا : ما لنا ولهذا السؤال أصلاً . ولا ‏ينبغي أن نورد هذا السؤال ؛ لأننا لسنا‎ ‎أشد حرصاً على العلم بالله من الصحابة رضي الله ‏عنهم ، ولم يسألوا الرسول عليه‎ ‎الصلاة والسلام عن هذا ، فنقول : هذا السؤال من أصله ‏غير وارد ، ونقول لمن أورده‎ : ‎أنت مبتدع ودعنا من هذا‎ .
وعندي أن هذه الطريقة أسلم طريقة ؛أن لا نسأل عن شيء‎ ‎لم يسأل عنه الصحابة رضي الله ‏عنهم ، وأن نلقم من سأل عنه حجراً ، فإذا قال قائل‎ : ‎أنا أريد المعقول ، قلنا : اجعل ‏عقلك في نفسك ، وفكر في نفسك ، أما في مثل هذا‎ ‎الأمر فلا تفكر فيه ما دام لم يأتك خبر ‏عنه‎ .
وللأسف فإن بعض الناس يجادل ويقول‎ : ‎دعوني أتصور النزول حقيقة حتى أتبين هل خلا ‏منه العرش أم لا ؟ ، فنقول : سبحان‎ ‎الله ! ألا يسعك ما وسع الصحابة رضي الله عنهم ؟ ‏اسكت واترك هذا الكلام الذي لم‎ ‎يقله الصحابة رضي الله عنهم للرسول صلى الله عليه ‏وسلم ، وهم أشد الناس حرصاً على‏‎ ‎العلم بالله ، وأعلم الناس بالله‎ .
وذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يخلو منه‎ ‎العرش ، لأن الله تعالى ذكر أنه استوى على ‏العرش حين خلق السموات والأرض ، ولم يذكر‎ ‎النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا نزل خلا ‏منه العرش ، فالواجب بقاء ما كان على ما‎ ‎كان ، فهو سبحانه استوى على العرش ، ولم ‏يزل مستوياً عليه ، وينزل إلى السماء‎ ‎الدنيا في هذا الوقت ، والله على كل شيء قدير ، ‏وهو سبحانه لا يقاس بخلقه‎.
كما‎ ‎إننا نقول جزماً : إنه إذا نزل إلى السماء الدنيا لم يكن نازلاً على المخلوقات ، بل‎ ‎هو ‏فوق كل شيء ، وإن كان نازلاً إلى السماء الدنيا ؛ لأن الله لا يقاس بخلقه ، والى‎ ‎هذا ذهب ‏شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن العرش لا يخلو منه. ولكني أميل إلى‎ ‎ترجيح القول ‏الثاني وهو التوقف وألا يورد هذا السؤال أصلا ، وإذا كان الإمام مالك‎ ‎رحمه الله لما قال له ‏القائل : الرحمن على العرش استوى ، كيف استوى ؟ قال : السؤال‎ ‎عن هذا بدعة ، فإننا ‏نقول في هذا : السؤال عنه بدعة‎ .‎
الشبهة السابعة ‏‎:‎نسبتهم التأويل للإمام مالك رحمه الله
قال الحبشي "فقد ثبت التأويل عن مالك في حديث النزول أنه قال: نزول رحمة لا نزول نقلة"(49)

وقوله هذا مردود من وجوه عديدة:‏


أولاً: أن هذه الرواية إن صحت (وهي ضعيفة السند) تعارض رواية مالك الصحيحة المشهورة في الاستواء.‏
والأشاعرة تتناقض موافقهم ففي حديث العلو يحتجون بقول مالك (وكيف عنه مرفوع) وفي حديث النزول يجعلون الكيف معقولاً ومؤولاً بنزول ‏الرحمة.‏
ففي حين ينهى مالك عن إعطاء كيفية للاستواء يجيز حسب هذه الرواية إعطاء تكييف للنزول بأنه رحمة لا نقلة. وكان بإمكانه أن يقول في الاستواء ‏‏(علو مكانة لا علو جهة وتحيز). فكيف ينهى مالك عن طلب الكيفية في الاستواء ثم يفصل النزول بكيفية نزول؟ هذا تناقض!‏
ثانياً: أن المعتمد عند الحبشي وعند عامة الأشاعرة والماتريدية أن السلف فوضوا آيات الصفات ولم يتأولوها وإنما كان التأويل بدعة الخلف. فكيف ‏يذهب مالك إلى قول الخلف؟
ثالثاً: أن الرواية عن مالك لم تصح، فيها حبيب بن أب حبيب قال أحمد "كان يكذب" وقال أبو داود "كان من أكذب الناس" وقال ابن حبان "أحاديثه كلها ‏موضوعة، كان يُدخل على الشيوخ الثقات ما ليس من حديثهم"(50).‏
وقال الحافظ ابن عبد البر شيخ المالكية في عصره عن رواية حبيب "وأنكره آخرون فقالوا: هذا ليس بشيء لأن أمره ورحمته لا يزالان ينزلان أبداً في ‏الليل والنهار". وشكك الذهبي في صحة الروية عن حبيب(51).‏
وفيها محمد بن علي الجبلّي فقيل إنه كان رافضياً شديد الرفض(52).‏


وفيها جامع بن سوادة "ضعيف"(53) ومطرف بن عبد الله بن مطرف اليساري أبو مصعب المدني ابن أخت الإمام مالك: كان مضطرب الحديث وكان ‏يحدث عن مالك وغيره بالمناكير فلعل هذا من مناكيره(54).‏
فرواية الاستواء قد تلقاها سائر أهل العلم بالقبول وتواترت عندهم. أما رواية النزول فهي واهية معلولة لو صحت لكانت شاذة فكيف وقد ثبت ضعفها!‏
رابعاً: أن الثابت عن مالك خلاف ذلك، فقد ذكر البيهقي صفات الفوقية والنزول والإتيان، ثم روى بسنده عن الوليد بن مسلم قال: سئل الأوزاعي ومالك ‏والثوري والليث بن سعد عن هذه الأحاديث فقالوا "أمرّوها كما جاءت"(55).‏
هكذا أثبته الصابوني عنهم في كتابه عقيدة السلف وأصحاب الحديث، وأثبته ابن عبد البر عن مالك: وهو أعلم بمذهب مالك من غيره.‏
ولذا حكى الشيخ عبد القادر الجيلاني عقيدة أهل السنة وذكر منها إيمانهم بأنه تعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء وكما شاء، ونسب تأويل ‏النزول بنزول الرحمة إلى الأشاعرة والمعتزلة(56).‏
خامساً: أن مالكاً لم يتأول صفة الاستواء حين سأله السائل عن كيفية الاستواء، وإنما اكتفى بالقول: الاستواء معلوم والكيف مجهول. ولو كان متأولاً ‏شيئاً من صفات الله لتأول صفة الاستواء من باب أولى. وسئل أبو حنيفة عن النزول فقال "ينزل بلا كيف" فأثبت أبو حنيفة النزول ولم يبطله بنزول ‏الملك بأمره أو نزول رحمته. وليس من العقل الجمع بين النقيضين كأن نقول: ينزل، ولكن ينزل الملك بأمره!‏
ـ أن تأويل النزول بنزول الرحمة باطل فإن الرحمة لا ينقطع نزولها. وتأويلها بنزول الملائكة أكثر بطلاناً فإن الملائكة لا تزال تنزل بالليل والنهار ‏وليس في الثلث الأخير من الليل فقط.‏


ـ وقولهم ينزل أمره باطل ومتناقض فإنه ليس عندهم في السماء شيء فمن أين ينزل أمره؟ أليس ينزل الأمر ممن هو فوق؟.‏
ـ ومن المعلوم عند أهل الكلام أن الرحمة صفة، وأن الصفة لا تقوم بنفسها بل لا بد لها من محل، وهي لا تتكلم بنفسها ولا تقول أنا الله، فالقائل هو الله ‏حقيقة والفاعل هو الله حقيقة. ثم إذا نزلت الرحمة إلى السماء الدنيا ولم يتنزل إلينا فأي منفعة لنا في ذلك؟
سابعاً: أنه إذا ثبت عن مالك وأحمد وغيرهما تأويل شيء في موارد النزاع فهو تنازع يُرَدّ إلى الكتاب والسنة. وهو تنازع مسبوق بتنازع الصحابة في ‏تفسير القرآن وغيره. فقد اختلف ابن عباس وابن مسعود في قوله تعالى {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} قال ابن عباس "هو دخان يجيء قبل ‏يوم القيامة، بينما قال ابن مسعود "هو ما أصاب قريشاً من الجوع.‏
ـ وروى البخاري عن الفضيل بن عياض أنه قال "إذا قال لك الجهمي أننا لا نؤمن بربٍ ينزل عن مكانه فقل له أنت: أنا أؤمن بربٍ كيف يشاء"(57).‏
وسئل ابن المبارك عن حديث النزول – كيف ينزل؟ فأجابك "ينزل كيف يشاء"(58).‏
ـ فلماذا الميل إلى تأويل صفة النزول؟ أخوفاً من التشبيه، فإنه لا يعتبر تشبيهاً إلا عند أهل الوسوسة. فكما أنهم يؤمنون بإرادةٍ لله ليست كإرادتنا وبكلام ‏ليس ككلامنا: فما الذي يمنعهم أن يؤمنوا بنزول ليس كنزولنا وباستواء ليس كاستوائنا؟!‏

وأما احتجاجهم بقول الحافظ ابن حجر أن "المشبهة حملوا النزول على ظاهره"(59).‏
والجواب: أننا نحتج عليكم وعلى الحافظ رحمه الله بقوله هو "أن المعتزلة والجهمية تذرّعوا بالذريعة عينها فقالوا من أثبت هذه الصفات فهو مشبّه. ثم ‏نقل عن الجويني ارتضاؤه في نهاية المطاف ترك 60(().‏
ونقول: نعم، من حمله على ظاهره من غير الضابط الحاسم للنزاع وهو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فهو مشبه حقاً، أما أهل السنة والجماعة فإنهم يراعون هذه ‏الآية دائماً عند إثبات كل صفة أثبتها الله لنفسه.‏



جمعه ونسقه أخوكم :جمال البليدي ستر الله عيوبه.

المراجع:
1-القواعد المثلى لابن عثيمين
2-شرح العقيدة السفارينية لابن عثيمين
3-الكلمات الحسان في بيان علو الرحمان
4-موسوعة أهل السنة في نقد الأحباش والأشاعرة.
5-مجموع الفتاوى لابن تيمية .
6-الردود والتعقيبات على أخطاء النووي في الصفات .



--------------------------------------------------------------------------------‏





‏(1) البخاري (1145) مسلم (758) الموطأ 1/214 واختلفت الرواية في تحديد وقد النزول واتفق ‏العلماء على أن أصح الروايات رواية "الثلث الآخر من الليل" حكاه الحافظ عن الترمذي (الفتح ‏‏3/31).‏

‏(2) الوصية ص54‏
‏(3) الرد على الجهمية ص73‏
‏(4)التبصير في معالم الدين ‏
ص136‏
‏(5) رواه ابن خزيمة(ص89) وأحمد(1/388و403و446) ‏والأجري(312) بسند صحيح.‏
‏(6) التوحيد(ص125-126).‏
‏(7)العلو ص(534)‏
‏(8)السير(13/233-234).‏
‏(9)الإبانة(ص29-30).‏
‏(10)الإبانة
‏(11) أصول السنةص113-114‏
‏(12)الرسالة الوافية ص134-138)‏
‏(13)التمهيد(7/128)‏
‏(14)الإستذكار(8/148)‏
‏(15)التمهيد(7/129).‏
‏(16)عقيدة السلف أصحاب الحديث.‏
‏(17)اعتقاد أئمة أهل الحديث ص62‏
‏(18)اتمام المنة بشرح إعقاد أهل السنة
‏(19)نونية القحطاني
‏(20)رواه الذهبي في العلو ‏
‏(21) الكافية الشافية
‏(22) زاد المعاد(3/677)‏
‏(23) مقالات الإسلاميين 291 وانظر التبيين لابن عساكر 150.
‏(24) الغنية لطالبي الحق 57.‏

‎(‎‏25‏‎)‎التبصير في معالم الدين 'ص142-147) طبعة دار العاصمة‎ 1416
‎(‎‏26‏‎)‎الاستذكار(8/148‏‎).‎

‎(‎‏27‏‎)‎تذكرة‎ ‎الحفاظ(2/728‏‎).

‎(‎‏28‏‎) ‎أخرجه مسلم (758)من حديث‎ ‎أبي هريرة رضي الله عنه‎.
‎(‎‏29‏‎)‎أخرجه النسائي في(اليوم والليلة)(475‏‎) ‎والدارمي(1481و1482) وأحمد(4/16-‏‏17)(16265و16268) وصححه الألباني‎ .
‎(‎‏31‏‎)‎مجموع‎ ‎الفتاوى(5/416‏‎).
‎(‎‏32‏‎) ‎نقضه على المريسي(1/500‏‎).
‎(‎‏33‏‎9)‎سير أعلام‎ ‎النبلاء(7/451‏‎).
‎(‎‏34‏‎)‎التمهيد(7/44‏‎)
‎(‎‏35‏‎1)‎سنن أبي‎ ‎داود(4/243)(4733‏‎)
‎(‎‏36‏‎)‎رواه البيهقي في الأسماء والصفات(949) بسند صحيح
‏(37) بيان تلبيس الجهمية (2|229‏‎)‎
‏(38) وقد حكم بضعف اللفظة المذكورة الشيخ الألباني في ‏السلسلة الضعيفة(3897‏‎)‎
‏(39) النساء164 وتوجيه التحريف نصب لفظ الجلالة ‏على أنه مفعول ورفع موسى على أنه الفاعل‎ ‎وهذا من ‏تحريفات المعتزلة‎..‎
‏(40) تبيين كذب المفتري ص 161 الإبانة 25.‏
‏(41) الإبانة 88 وانظر مقالات الإسلاميين 290-291.‏
‏(42)مجموع الفتاوى(18/129-130).‏
‏(43) الذيل على طبقات الحنابلة(4/34).‏
‏(44) المهذب في اختصار السنن الكبير ( 2 / 470‏‎ )‎
‏(45)مجموع الفتاوى(16/426)‏
‏(46) مجموع الفتاوى(16/432)‏
‏(47)مجموع الفتاوى(8/23).‏
‏(48) طريق الهجرتين ص295‏
‏(49) الدليل القويم 49.‏
‏(50) تهذيب التهذيب 2/181 وانظر التقريب (1087).‏
‏(51) التمهيد 7/143 سير أعلام النبلاء 8/105.‏
‏(52) انظر ترجمته: تاريخ بغداد 3/101-103 والمنتظم لابن الجوزي 8/135 وميزان الاعتدال 3/657 ولسان الميزان 5/343 ترجمة رقم ‏‏(7805).‏
‏(53) ميزان الاعتدال 1/387 لسان الميزان 2/119 ترجمة رقم (1896).‏
‏(54) الكامل لابن عدي 6/2374 ميزان الاعتدال 4/124 تهذيب التهذيب 10/175.‏
‏(55) الأسماء والصفات 569.‏
‏(56) الغنية لطالبي طريق الحق 57.‏
‏(57) رواه البخاري في خلق أفعال العباد ص 17 وشرح اعتقاد أهل السنة للالكائي 3/452 وعقيدة السلف للصابوني 1/118 واحتج بها الشيخ عبد ‏القادر الجيلاني في كتابه الغنية لطالبي الحق (ص 58) وانظر الأسماء والصفات للبيهقي 569 أو 2/197 تحقيق حيدر.‏
‏(58) رواه البيهقي في الأسماء والصفات 569 نسخة حيدر 2/198-199 وهذا القول من ابن المبارك يبطل تحريف الأشاعرة لقول السلف (بلا ‏كيف).‏
‏(59) مجلة منار الهدى 11/28.‏
‏(60) فتح الباري 13/ 407.‏