الشريعة تبسة
2013-11-12, 15:57
الشيخ/ ناصر بن محمد الأحمد
إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ …
أما بعد:
بادئ ذي بدء، فإن هذه المحاضرة ليست في ترجمة حياة شيخ الإسلام، وإن كان الشيخ، تستحق سيرته وحياته أن تفرد لها محاضرات وإن ذلك لفي البال وسيكون بإذن الله تعالى، خصوصاً وأن هناك جوانب من حياة هذا الإمام تخفى على بعض طلبة العلم، لكن مقدمةً نقول بأنه ولد في يوم الاثنين، العاشر من شهر ربيع الأول من سنة 661هـ بحرّان من أرض الشام، كان يلقب بشيخ الإسلام ويكنى بأبي العباس نشأ حنبلياً ثم كان منه ما قال عنه الذهبي: وله الآن عدة سنين لا يفتي بمذهب معين بل بما قام الدليل عليه عنده. توفي ليلة الاثنين لعشرين من ذي القعدة سنة 728هـ، وقد شهد جنازته من الخلائق ما لا يحصره عَدّ؛ فهو إمام، جَبَل، عَلَم، كان - رحمه الله - عالم أمته، وإمام عصره، وأوحد زمانه، وكان بحر العلم الزاخر، وبدر العلماء الزاهر، وكوكبهم اللامع ونبراسهم الساطع، كان يُرجع إليه في المشكلات، ويُستصبح بضوئه في المعضلات، تضرب إليه أكباد الإبل، ويرحل إليه من أطراف البلدان، فهو شيخ الحافظين لميراث الهادي الأمين، وعَلَمُ المجددين للدين، أرسل على المبتدعة التدمرية، تدمر كل شيء بأمر ربها، وأنزل حمى الويل في الحموية على المعطلة، وانتصر على النصيرية وكسر أنوفهم في جبل كسروان. لمّا دخل على الأمة طيف الأشاعرة، استيقظ أبو العباس -رحمه الله- لمّا نادته الملة، فقال: كلا والله، فدفع التأويل والشبهات بالآيات، والظنّ باليقين، وراغ عليهم ضرباً باليمين. شيخ الإسلام مات ولم يتزوج، وما أنجب ولداً، ولم يضيع عمره سدى، بل أرسل شهبه على الضلال، كل يجد له شهاباً رصداً فلم يغادر منهم أحداً. مجتهد في التفسير كمجاهد، وذو ملكة في الاستنباط كمالك، وأحيا السنة في الأوطان كيحيا القطان، ومسدد في الحديث كمسدد، وأعطى من علمه كعطاء. أمة في رجل، وجيل في فرد. عَلَمٌ معقود، وسرادقٌ للعلم ممدود، والرجل محسود.
فاحذر عدوك فيما خُصصت به *** إن العلى حسنٌ في مثلها الحسدُ
دعا الظلمة إلى السياسة الشرعية، والمعطلة إلى الملة المحمدية، والمعتزلة إلى الطريقة السنية، والأشاعرة إلى المحجّة السلفية، ملك أعداؤه أسباب الدنيا فماتوا وهم أحياء فلا ذكر ولا أثر، لو اطلعت على كتبهم لوليت منها فراراً ولملئت منهم رعباً، ومَلك هو أسباب الآخرة فعاش وهو ميت بعلمه وسيرته، فلو قرأت كتبه لقلت: الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن، إذا تكلم فالسلام على المتكلمين، وإذا كتب أرضى الكرام الكاتبين، وإذا نطق صار بيت المنطق من طين. سلّ سيفه على الدهرية، وأغمده في صدور القبورية، وضرّجه بدماء النصيرية. هو للفضائل إمامها، وللحوادث حسامها، وللفتن زمامها، وللمعاني نظامها، وللفتاوى يَمَنُها وشامُها، وللأدب بُحتريّها وتمّامها، وللتقوى كعبتها ومَقامها. فرق بالفرقان شراذم الضالين، وأسكت بالجواب الصحيح أتباع المسيح، وهاج على الرافضة بالمنهاج، ودرء عن الدين بالدرء، وذبح الشاتم بالصارم، حلّ زمام أهل الحلول، واصطلم بحد صارمه أرباب الاتحاد، عَرَضَ المخالفون بضاعتهم المزجاة، وصاحوا بكم نقول، فأبطل بيعهم بصحيح المنقول وصريح المعقول {فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [(16) سورة البقرة] جنته وبستانه في صدره، وطاعة مولاه في عسره ويسره، طار ذكره من طنجة إلى البنجاب، فسجنه الحُجّاب، فضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، سجنه خلوة، تعظم فيه حسناته، وتحفظ فيه أوقاته، وإخراجه من البلد سياحة، وإيقافه عن الوعظ راحة، وقتله شهادة. هذا الرجل كان للملة ابنٌ بار، يدور مع الدليل حيث دار، لذا صارت كتبه ورسائله نور يستضاء بها في أوقات الظلمات، توقف الناس في مسائل العلم فتقدم، وتقدموا لأبواب الدنيا فتوقف، فطار ذكره في الآفاق، فساد وأجاد وأفاد، بلغ الجوزاء، وجاوز البلغاء، وخطب ودّ الخطباء والعلماء. فرحمة الله على هذا الإمام وجزاه رب العالمين على ما قدم وبذل خير الجزاء.
ومن أراد الاستزادة عن حياة هذا الرجل فعليه بكتب التراجم كتذكرة الحفاظ للإمام الذهبي والذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب والدرر الكامنة لابن حجر والبدر الطالع للشوكاني وغيرها، أو بالكتب المستقلة التي كتبت عن هذا الإمام كالرّد الوافر لابن ناصر الدين الدمشقي والعقود الدّرّية في مناقب ابن تيمية لابن عبد الهادي والكواكب الدرّية في مناقب ابن تيمية لمرعي الكرمي وغيرها. وسيكون كما قلت محاضرة مستقلة عن حياة هذا الإمام إن شاء الله تعالى.
ولنبدأ في صلب موضوعنا، وهو الذي حضرتم من أجله، فكرة هذه المحاضرة هو أن لشيخ الإسلام تقعيدات قوية رائعة في ثنايا كتاباته، وهو صاحب قلم رصين، فإذا قام بكتابة رسالة، أو جواب على سؤال ورد إليه أو حتى وهو يؤلف كتباً مستقلة، يكتب كلاماً مختصراً يصلح أن تكون قاعدة، أو أصل يرجع إليه، وهو الذي قصدناه عندما عُنون للمحاضرة بـ "قواعد وفوائد من كلام شيخ الإسلام"، فهو إذن كلام متفرق في عدد من كتبه نجعل كل واحدة منها قاعدة في باب معين ثم يتم التعليق عليه. ولا يلزم أن يكون الكلام كله في باب واحد ثم ننتقل لغيره فقد تكون إحداها مشرقة والأخرى مغربة، لكن كله لا يخرج عن أن يكون من كلام شيخ الإسلام. اخترت لكم إحدى عشرة وقفة:
فنستعين بالله - عز وجل - ونقول:
الوقفة الأولى:
من كتاب الإيمان: قال شيخ الإسلام:
"ومن أتى الكبائر مثل الزنا والسرقة أو شرب الخمر وغير ذلك فلابد أن يذهب ما في قلبه من تلك الخشية، والخشوع والنور، وإن بقي أصل التصديق في قلبه، وهذا من الإيمان الذي ينـزع عنه عند فعل الكبيرة ". انتهى...
يقرر شيخ الإسلام هنا بأن الوقوع في الكبائر يذهب من القلب الخشية والخشوع والنور، وأن هذا القدر من الإيمان ينـزع من القلب عند فعل الكبيرة. فيقال:
ألا تقف مع نفسك يا من تفعل الكبائر، نعم أنت الذي قد تكذب أحياناً أو تغش أحد المسلمين أو قد تغتاب أحداً من أصدقائك أو جيرانك أو أقاربك، أو قد تقع في أية كبيرة أخرى سوى هذه، هل تعلم بأن نور القلب يقل بعد فعل الكبيرة وأن خشوعه ينقص، هل تشعر بهذا أو لا تشعر؟ إذا كنت لا تشعر فتلك مصيبةٌ، وإن كنت تشعر فالمصيبة أعظم ومن الكبائر التي يمارسها الناس اليوم ومعظمهم لا يشعر ولا يحس أنه يقع في كبيرة التمتع والاستمتاع بالنظر في القنوات الفضائية.
يا أخي: أيّ كبيرة أعظم من جلوسك لساعات تلو ساعات وأنت تنظر في وجوه المومسات، وهنّ كاشفات عاريات، أضف إلى ذلك ما يصاحبه في الغالب من أصوات الموسيقى المحرمة، فإذا كان النظر إلى وجوه النساء ليس من الكبائر، وسماع الغناء والمعازف ليس من الكبائر، ومشاهدة مسلسلات العشق والغرام ليس من الكبائر، ومشاهدة السحر والزندقة والشرك وسماع الكفر ليس من الكبائر، وكل هذا يعرض في القنوات الفضائية وتعدى الأمر إلى ظهور السوأتين بل وممارسة الفاحشة، والمسلمون المصلون ينظرون ويشاهدون ولا يشعرون أنهم آثمون.
أما نشتكي أيها الأحبة جميعاً -إلا من رحم الله- من عدم حضور القلب في الصلوات، أما نشتكي من عدم ذَرَفَان الدمع عند سماع الآيات، أما نشتكي من عدم التأثر عند سماع المواعظ، ما سبب كل هذا وغيره، قليل منّا من يتبنه لما ذكره شيخ الإسلام من أن وقوع العبد في الكبائر يؤدي ولا بد، ولا بد من ذهاب خشية القلب وخشوعه بقدر وقوع الشخص وارتكابه لنوع الكبيرة، وإن كان أصل التصديق والإيمان يبقى في القلب، لكن ينـزع من الإيمان بقدر فعل الكبيرة، فكن يا عبد الله على حذر فإن القضية حقيقة لا مجرد تخويف، والله المستعان.
والشيء بالشيء يذكر، فبما أنه قد ذكر طرف مما يعرض في القنوات الفضائية فلا بأس بوقفة قصيرة حول هذا الموضوع الكبير والخطير والذي هو في الحقيقة أيضاً يحتاج إلى محاضرة مستقلة.
إن القنوات الفضائية مصيبتها عظيمة، وشرها مستطير وعاقبتها الخزي في الدنيا والآخرة، فهي تستقبل محطات التلفزة من شتى بقاع العالم، هناك محطات خاصة هدفها تدمير أخلاق الناس تُبث من إسرائيل ومن جنوب شرق آسيا ومن إيطاليا ومن غيرها، متخصصة في نشر الفساد وتربية الناس على الإباحية والفجور -والعياذ بالله-، وهناك محطات أخرى متخصصة في زعزعة الأمن في الدول، تعلّم عمل الجريمة وصنع المتفجرات وإتقان عمليات الاغتصاب، وكل عاقل يعلم أنه ليس في صالح أحد مثل هذه الأمور أن تعرض على مجتمعاتنا، وهناك محطات تعمل على نشر التنصير، وقد جنّد الفاتيكان مئات محطات التلفزة وآلاف الإذاعات التي يملكها وبعضها يستأجرها لبث التنصير إلى العالم بشكل عام وإلى العالم الإسلامي بشكل خاص وإلى هذا البلد بشكل أخص. ناهيك عن الأمور الأخرى التي فتن الناس بمشاهدتها حيث صار الجنس هو المحور الأول التي تتنافس في بثها معظم القنوات، ويصرحون بأن هذا هو الذي يجذب الناس، فينتقون أجمل النساء، ويعرضون مفاتنها في أقبح صورة، والمسلمون قد أسكرهم جمال الألوان ودقة الإخراج، ونسوا أنهم أحرقوا بسبب هذه القنوات كميات من الحسنات الله أعلم بها.
أذكرك مرة أخرى بأن فعل الكبيرة لابد وأن يذهب ما في القلب من تلك الخشية والخشوع والنور، وأن الإيمان ينقص من قلبك يا عبد الله بقدر الكبيرة التي فعلتها. والله المستعان.
الوقفة الثانية:
من الفتاوى المصرية: قال شيخ الإسلام:
"قد أمر الله في كتابه بغض البصر وهو نوعان: غض البصر عن العورة وغضها عن محل الشهوة، والثاني أشد من الأول".
يقرر شيخ الإسلام هنا بأن إطلاق البصر في محل الشهوة أشد خطراً وأعظم أثراً على المرء من إطلاقه في محل العورة، وإن كان عدم غض البصر عموماً مصيبة وأية مصيبة.
إن من غضّ بصره عمّا حرم الله عليه، عوضه الله تعالى: من جنسه ما هو خير منه، فكما أمسك نور بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصيرته وقلبه فرأى به ما لم يره من أطلق بصره في محارم الله، وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه، فإن القلب كالمرآة والهوى كالصدأ فيها، فإذا خلصت المرآة من الصدأ انطبعت فيها صور الحقائق كما هي، وإذا صدأت لم تنطبع فيها صور المعلومات فيكون علمه وكلامه من باب الخوض والظنون. وكما قيل:
كل الحوادث مبدؤها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فعلت في قلب صاحبها *** فعل السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها *** في أعين الغيد موقوف على خطر
يسُرّ مقلته ما ضرّ مهجته *** لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
اسمع جيداً وتأمل في هذا المقطع الذي نقلته لك من كلام شيخ الإسلام والمنقول من الفتاوى المجلد الخامس عشر (ص 344) وهو يفسر قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا...} [(19) سورة النور] وكلامه - رحمه الله - يمكن أن يُنَـزّل على كل من ساهم في بث ونشر الفساد والفاحشة التي تعرض من خلال القنوات الفضائية سواء من أهل الإعلام أو حتى أرباب الأسر وأولياء الأمور فإن لهم نصيب من هذا الكلام، يقول -رحمه الله-:
"فكل عمل يتضمن محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا داخل في هذا بل يكون عذابه أشد، فإن الله قد توعد بالعذاب على مجرد محبة أن تشيع الفاحشة بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وهذه المحبة قد لا يقترن بها قول ولا فعل، فكيف إذا اقترن بها قول أو فعل؟ بل على الإنسان أن يبغض ما أبغضه الله من فعل الفاحشة والقذف بها وإشاعتها في الذين آمنوا، ومن رضي عمل قوم حشر معهم كما حشرت امرأة لوط معهم ولم تكن تعمل فاحشة اللواط، فإن ذلك لا يقع من المرأة لكنها لما رضيت فعلهم عمّها العذاب معهم. فمن هذا الباب قيل: من أعان على الفاحشة وإشاعتها مثل القوّاد الذي يقود النساء والصبيان إلى الفاحشة لأجل ما يحصل له من رياسة أو سحت يأكله، وكذلك أهل الصناعات التي تنفق بذلك مثل المغنين وشربة الخمر وضمان الجهات السلطانية وغيرها، فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة ليتمكنوا من دفع من ينكرها من المؤمنين ". انتهى..
وأخيراً يا عبد الله: يا من أيام عمره في حياته معدودة، يا من عمره يُقضى بالساعة والساعة، يا كثير التفريط في قليل البضاعة، يا شديد الإسراف يا قوي الإضاعة، كأني بك عن قليل تُرمى في جوف قاعة، مسلوباً لباس القدرة وبأس الاستطاعة، وجاءك منكر ونكير في أفظع الفظاعة، كأنهما أخوان في الفظاظة من لبان الرضاعة، وأمسيت تجني ثمار هذه الزراعة، وتمنيت لو مُكّنتَ من لحظة طاعة، وقلت: رب ارجعون، ومالَكَ كلمةٌ مطاعة، يا متخلفاً عن أقرانه قد آن أن تلحق بالجماعة.
الوقفة الثالثة:
من كتاب الإيمان: قال -رحمه الله-:
"ومن لم يكن في قلبه بغض ما يبغضه الله ورسوله من المنكر الذي حرمه من الكفر والفسوق والعصيان لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه الله عليه فإن من لم يكن مبغضاً لشيء من المحرمات أصلا لم يكن معه إيمان أصلاً". انتهى...
كلام يحتاج إلى تأمل للحال، ووقفة مع النفس، وخوف من الوضع الذي نعيشه، يقرر شيخ الإسلام بأن الذي لا يبغض المنكر الذي حرمه الله ورسوله فإن هذا الرجل لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه الله، بل ويؤكد بأن من لم يكن مبغضاً لشيء من المحرمات أصلاً لم يكن معه إيمان أصلاً.
لا يخفانا جميعاً حجم المنكرات التي تحيط بنا، منكرات داخل البيوت، ومنكرات خارجها، منكرات فردية وأخرى جماعية، منكرات خاصة وغيرها عامة، هذه المنكرات أليس لها أصحاب يمارسونها؟ بلى. هل كل هؤلاء البشر الذين يقعون ويمارسون المنكرات من الأفراد والأسر والعوائل، أياً كانت نوعية المنكرات، أقول: هل كل هؤلاء وهم يمارسونها، يمارسونها وهم مبغضون لها؟ لا أريد أن أتهم الناس، لكن أستبعد ذلك، وأكاد أجزم بأن الكثرة الكاثرة ممن يفعل المنكر يفعله وهو يميل إليه ويرغبه، والبعض يحبه ويعشقه. فما هو حجم الإيمان في قلب من هذا حاله، إيمان ضعيف، وإن وجد فسيكون إيماناً جامداً، وإذا أردت الدليل فتأمل في جمود الناس تجاه مشاهدتهم للمنكرات. والخوف كل الخوف على ذلك الذي لا يبغض شيئاً من المحرمات فإن هذا والعياذ بالله ليس معه شيء من الإيمان أصلاً وإن ادعى ذلك أو كتب في تابعيته أنه مسلم.
الوقفة الرابعة:
من كتاب الإيمان أيضاً: قال -رحمه الله-:
"فالشفاعة الحسنة الإعانة على الخير الذي يحبه الله ورسوله من نفع من يستحق النفع، ودفع الضر عمن يستحق الضر عنه، والشفاعة السيئة الإعانة على ما يكرهه الله ورسوله، كالشفاعة التي فيها ظلم الإنسان أو منع الإحسان لمن يستحقه". انتهى...
الواسطة في مجتمعاتنا أمر لا بد منه، وإن قُلتَ بأن معظم معاملاتك لا تسير إلا عن طريق الواسطة لم تكن مبالغاً. فهذا يبحث عن شفاعة حسنة لتسجيل ابنه في الجامعة، وذاك يبحث عن واسطة لنقل زوجته المدرسة من منطقة إلى أخرى، وآخر يريدها ليعالج أحد أولاده في المستشفى، ورابع وخامس وسادس.
لا شك بأن باب الشفاعة الحسنة من أعظم أبواب النفع للمسلمين، قال الله تعالى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} [(85) سورة النساء] وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)) [رواه مسلم]. وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه السائل أو صاحب الحاجة قال: ((اشفعوا تؤجروا)) [رواه البخاري].
الواسطة حتى تكون مقبولة شرعاً وتنفع صاحبها لا بد لها من ضوابط:
الضابط الأول: عدم تضييع من له حق: فكم من الناس يتوسط في أمور يُضيّع بها حقوق آخرين على حساب نفع صاحبه أو قريبه، وهذا من المحرمات، ومن البلايا التي ابتلي بها أهل هذا الزمان، تُضيّع حقوق وتهدر أموال بسبب، مكالمة أو ورقة صغيرة إثمها كبير ووزرها خطير ويظن الجاهل أن هذا من الشفاعة الحسنة وما علم أنها من الشفاعة المحرمة {وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا}[(85) سورة النساء].
الضابط الثاني: أن تكون الواسطة في ما أَذِن فيه الشرع؛ لأن بعض الناس يظن أن كل واسطة يكون فيها الأجر والثواب، وهذا مخالف لقول الله تعالى: {وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} فدلّت الآية على وجود نوع من الشفاعات تكون حراماً وهي الشفاعة السيئة. وذلك مثل أن يشفع إنسان بجاهه أو منـزلته أو بكلمته المسموعة ليغتصب حقوق الآخرين أو يظلمهم أو يأكل أموالهم بالباطل.
الضابط الثالث: ألاّ تكون الشفاعة في حد من حدود الله: وحديث عائشة في البخاري صريح في هذا – ((أتشفع في حد من حدود الله، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)) – وذلك لمّا كلمه أسامة في شأن المرأة المخزومية التي سرقت.
وما أسباب النكبات التي تمر بها بلدان المسلمين -إلا من رحم الله- إلا بسبب تعطيل الحدود الشرعية بسبب شفاعات السوء، ووجاهات الضرار، فإذا تعطلت الحدود الشرعية حلّت عقوبة قدرية كونية تشمل المجتمع كله. فهذا زانٍ يزني فَيَشفَع فيه من يشفع فلا يقام عليه الحد، ويشرب الخمر من يشربها فيشفع فيه من يشفع فلا يقام عليه الحد، ويسب الدين والشرع ويستهزأ به ولا يقام الحد، ويرتدّ من يرتدّ علانية وربما كتب ذلك ولا يقام حدّ الرّدة، كل ذلك بسبب شفاعات السوء.
الضابط الرابع: عدم جواز أخذ مقابل على الواسطة: فإن هذا حرام ولا يجوز، فمن الناس من يعرض بذل جاهه ووساطته مقابل مبلغ مالي يشترطه ليعين شخصاً في وظيفة أو ينقل أحداً من دائرة لأخرى أو يخلّص لك معاملة في جهة ما، فهذا سحت حرام ولا يجوز، روى الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي أمامة مرفوعاً ((من شفع لأحدٍ شفاعةً فأهدى له هديةً فقبلها منه فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)) بل إن ظاهر الحديث يشمل الأخذ ولو بدون شرط مسبق وهذا ترجيح سماحة الإمام عبد العزيز بن باز -- رحمه الله - تعالى-: رحمة واسعة.
الوقفة الخامسة:
اخترتها من كتاب العبودية: قال -رحمه الله-:
"إذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه". انتهى...
وكلمة الجهاد هنا في كلام شيخ الإسلام قد يشمل الجهاد الذي هو منازلة أعداء الله وقتالهم وخوض المعارك في ذلك، وقد يكون هو كل جهد يبذله العبد في سبيل الدين فهو من الجهاد، ولذا قال شيخ الإسلام في موضع آخر من نفس الرسالة:
"وحقيقة الجهاد الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان".
وبناءً على كلام شيخ الإسلام في المقطعين يكون القادر على طلب العلم الذي قد أعطاه الله الفهم والصحة والوقت ولكنه لا يبذل الجهد فيه فإن هذا دليل على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه، وكذلك القادر على القيام بالدعوة إلى الله الذي قد أعطاه الله القدرة على التأثير في الناس ولو بشيء يسير، والقادر على نصح الناس وتوجيههم وإرشادهم ولو بنقل كلام العلماء وفتاويهم لهم وإيصالها إليهم لينتفعوا، لكن لم يبذل الجهد في ذلك فإن هذا دليل على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه، ومثلهم القادر على إنكار المنكر إما بيده أو لسانه لكنه لم يبذل جهده الذي يمكنه في ذلك فإن هذا دليل على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه.
فرحماك ثم رحماك يا رب. إن لدينا قدرات، وفينا طاقات، وعند معظمنا بعض مهارات وتفوقات في بعض الجوانب ولا ينقصنا إلا أن نغذيها بشيء من الهمة واستشعار المسئولية، وتوظيف هذه القدرات والطاقات في سبيل الدين وفي خدمة الإسلام، وإن لم نفعل ذلك فإن هذا -والعياذ بالله- دليلٌ على ضعف محبة الله ورسوله في قلوبنا. فهل من متعظ؟
الوقفة السادسة:
وقع الاختيار عليها من رسالة الحسبة: قال -رحمه الله-:
" الباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة ". انتهى...
يقرر شيخ الإسلام بأن الباغي الظالم يصرع في الدنيا وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة.
البغي والتعدي على الآخرين مرتعه وخيم، وعاقبته سيئة، وقد يكون جزاء صاحبه النار وخراب الدار، ولو بغى جبل على جبل لدكّ الباغي منهما، وما حرم الله شيئاً مثل ما حرم البغي والظلم، ولا توعد أحداً بمثل ما توعد به أهل قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} [(29) سورة الكهف] ومثل قوله {يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [(31) سورة الإنسان]. بئس الزاد إلى المعاد البغي وظلم العباد، ووالله ما عزّ ذو باطل ولو طلع القمر من بين عينيه، ولا ذلّ ذو حق ولو اتفق العالم عليه، وللباطل جولة ثم يضمحل، وللحق دولة لا تنخفض ولا تذلّ، والظلم ظلمات يوم القيامة، وقد توعد الله الظالم وعزّى المظلوم فقال: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [(42) سورة إبراهيم]. قال معاوية - رحمه الله -: "إني لأستحي أن أظلم من لا يجد عليّ ناصراً إلا الله".
لا تظلمنّ إذا ما كنت مقتدراً *** فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبه *** يدعو عليك وعين الله لم تَنَم
نادى رجل سليمان بن عبد الملك وهو على المنبر: يا سليمان اذكر يوم الأذان! فدعاه سليمان وقال: ما يوم الأذان؟ قال: قال الله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [(44) سورة الأعراف].
يحكى أن الحجاج حبس رجلاً ظلماً فكتب إليه رقعةً فيها: قد مضى من بؤسنا أيام ومن نعيمك أيام، والموعد القيامة، والسجن جهنم، والحاكم لا يحتاج إلى بينة، وكتب في آخرها:
ستعلم يا نؤومُ إذا التقينا *** غداً عند الإله من الظّلومُ
أما والله إن الظلم لؤمٌ *** وما زال الظلوم هو الملوم
سينقطع التلذذ عن أناس *** أداموه وينقطع النعيم
إلى ديّان يوم الدين نمضي *** وعند الله تجتمع الخصوم
ومن المضحك المبكي في بعض قصص الحجاج – والحجاج قد عرف بالبغي والظلم – أنه قرأ يوماً في سورة هود قول الله تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [(46) سورة هود] فلم يدر كيف تُقرأ {عَمَلٌ} بالضم والتنوين، أو بالفتح {عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} فبعث أحد حرّاسه فقال: إيتني بقارئ، فأُتي به بعد أن قام الحجاج من مجلسه، فحُبس القارئ، وبعد ستة أشهر استعرض الحجاج المحبوسين في سجنه يسألهم عن جرائمهم، فلما انتهى إلى القارئ قال له: فيم حُبست؟ قال: في ابن نوح!!! أصلح الله الأمير. فأمر بإطلاقه.
أذكرك بمقولة شيخ الإسلام مرةً أخرى: "الباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة".
الوقفة السابعة:
وهي عبارة عن أربع مقاطع متفرقة من أربع كتب مختلفة لشيخ الإسلام إذا جمعت بعضها إلى بعض فإنها تلقم حجراً أولئك الذين يفسرون النوايا، ويحكمون على الناس من خلال بواطنهم وكأنهم علموا الغيب. فشيخ الإسلام يقعّد تقعيدات غاية في الروعة والبيان والتأصيل في هذه القضية فيقول - رحمه الله - في السبعينية:
" قد بينا أن المؤمن الذي لا ريب في إيمانه قد يخطئ في بعض الأمور العلمية الاعتقادية، فيغفر له كما يغفر له ما يخطي فيه من الأمور العملية، وأن حكم الوعيد على الكفر لا يثبت في حق الشخص المعين حتى تقوم عليه حجة الله التي بعث بها رسله، وأن الأمكنة والأزمنة التي تفتر فيها النبوة لا يكون حكم من خفيت عليه آثار النبوة حتى أنكر ما جاء به خطأً، كما يكون حكمه في الأمكنة والأزمنة التي ظهرت فيها آثار النبوة ". انتهى...
نعم إن المؤمن الذي لا نشك في إيمانه وإخلاصه وحبه للخير قد يخطئ في بعض الأمور العلمية العقدية، وهذا ما دام أنه لم يتعمد الخطأ، وقد أخطأ مجتهداً فهو مأجور غير مأزور، فيغفر له كما لو وقع في خطئٍ بعض الأمور العملية.
المقطع الثاني يقول - رحمه الله - في كتاب الإيمان:
"لا يُجعل أحد بمجرد ذنب يذنبه ولا ببدعة ابتدعها ولو دعا الناس إليها كافراً في الباطن إلا إذا كان منافقاً، فأما من كان في قلبه الإيمان بالرسول وما جاء به وقد غلط فيما تأوله من البدع، فهذا ليس بكافر أصلاً". انتهى...
وهذه قاعدة مهمة جداً في هذا الباب ويضم للكلام السابق، فليس كل من وقع في البدعة فهو مبتدع وليس كل من وقع في الكفر فهو كافر، حتى يُبين له بأن هذه بدعة وهذا كفر، والتبيين يكون بالأدلة الشرعية، فما حكم عليه الله ورسوله بأنه بدعة فهو البدعة وما حكم الله عليه ورسوله بأنه كفر فهو كفر، فإذا أقيمت الحجة على المكلف بأن تحققت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع وبقي بعد ذلك على ما هو عليه من البدعة أو الكفر عندها يقال فلان كذا وكذا.
أرعني سمعك جيداً للمقطع الثالث العجيب من كلام شيخ الإسلام، الذي هو الغاية في فهم مقاصد الشريعة، يقول - رحمه الله -:
"والخير والشر درجات فيقتنع بالخير اليسير إذا لم يحصل ما هو أكثر منه ويدفع الشر الكبير بالشر اليسير، وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار، فأسلم على يديه خلق كثير وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفاراً، والنبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الخلق بغايته الإمكان ونقل كل شخص إلى خير مما كان عليه بحسب الإمكان ولكل درجات مما عملوا به وقد بعث بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد أو تقليلها". انتهى...
بإجماع السلف أن الجهمية كفار، ومع ذلك يقرر ابن تيمية بأن خروج الشخص من الكفر ودخوله في الرفض أو التجهم خير له من أن يبقى على كفره، فنرضى أحياناً وفي بعض الأزمنة وفي بعض الأمكنة بالخير اليسير إذا لم يحصل ما هو أكثر منه، وندفع بقدر الإمكان الشر الكبير بفعل الوقوع في الشر اليسير، فإن الشرع ما جاء إلا بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها.
أين نحن من هذا الفهم؟ ومن هذه القواعد والفوائد؟ ألا فليقرأ كلام شيخ الإسلام أولئك الذين بدّعوا عباد الله وأخرجوهم من دائرة أهل السنة وما علمنا منهم إلاّ خيراً. وتجاوزاً نقول أنهم وقعوا في بدعة وأخطؤوا في أمور علمية عقدية تنـزلاً مع كلامهم، فهل أثبتوا بالأدلة الشرعية بدعية ما وقعوا فيه؟ أم هو تخرصات وأوهام لا حقيقة لها؟ ثم هل أُقيمت عليهم الحجة؟ لا أظن أن كل هذا حصل فأنسب ما يمثل به هؤلاء ما وصفهم به شيخ الإسلام عندما قال وهذا هو المقطع الرابع من كلامه تجده في منهاج السنّة:
" الجاهل في كلامه على الأشخاص والطوائف والمقالات بمنـزلة الذباب الذي يقع على العقر ولا يقع على الصحيح، والعقل يزن الأمور جميعاً هذا وهذا ".
والمعنى أن همّ مثل هذا الإنسان هو تصيّد الأخطاء والوقوف على الزلات والذي يبحث يجد، فمن من البشر لا يزل، وفي المقابل يترك هذا الكم الهائل وهذه الأطنان المتراكمة من قوله الصحيح السليم النافع لعباد الله. فإن مَثَلَ هذا مَثَلَ الذباب الذي لا يقع إلا على الجرح ويدع الصحيح السليم. نعوذ بالله من الخذلان.
الوقفة الثامنة:
من كتاب الفتاوى المصرية: قال - رحمه الله -:
"الذي يعين حضور القلب في الصلاة شيئان: قوة المقتضى وضعف الشاغل، أما الأول فاجتهاد العبد في أن يعقل ما يقوله ويفعله ويتدبر القرآن والذكر والدعاء ويستحضر أنه مناج لله كأنه يراه، ثم كلما ذاق العبد حلاوة الصلاة كان انجذابه إليها أوكد، وهذا يكون بحسب قوة الإيمان، والأسباب المقوية للإيمان كثيرة.
وأما زوال المعارض فهو الاجتهاد في دفع ما يشغل القلب من تفكر الإنسان فيما لا يعنيه، وتدبر الجواذب التي تجذب القلب عن مقصود الصلاة، وهذا في كل عبد بحسبه". انتهى...
من منّا لا يشتكي من قلة الخشوع في الصلاة، من منّا لا يشتكي من ضعف حضور قلبه، الله المستعان، كلنا ذلك الرجل لكن منّا المقل ومنّا المستكثر، كيف لا يكون ذلك وقد أخرج الترمذي والحاكم من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً جالساً بين أصحابه فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: "هذا أوان أن يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء" فقال زياد بن لبيد أحد الأنصار: يا رسول الله، كيف وقد قرأنا القرآن فوالله لنَقرأَنّه ولنُقرأنّه نساءنا وأبناءنا" فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدك من فقهاء المدينة، هؤلاء اليهود والنصارى في أيديهم التوراة والإنجيل فما أغنى عنهم)) قال زبير بن نفير الحضرمي راوي الحديث، وأحد ثقات التابعين، قال: فلقيت عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، فقلت له: "ألا تسمع ما يقوله أخوك أبو الدرداء؟" قال: "وما يقول؟" قال: "فذكرت له ما قال". فقال: "صدق أبو الدرداء، إن شئت لأخبرنّك بأول علم يرفع من الأرض، الخشوع، يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً".
فشيخ الإسلام يقرر بأن حضور القلب في الصلاة يتعين بأمران: قوة المقتضي وضعف الشاغل. ثم شرح الأول فقال: أما الأول فاجتهاد العبد في أن يعقل ما يقوله ويفعله ويتدبر القرآن والذكر والدعاء ويستحضر أنه مناج لله كأنه يراه.
وكلامه - رحمه الله - صحيح، فإن كثيراً من الناس يصلي ولو سألته عن معنى ما يقرأ به أو يدعو به أو يذكر ربه به ما عرف، ثم يشتكي بأنه لا يخشع في صلاته، لا إشكال في أنك ما عرفت، لكن الإشكال هو أنك إلى الآن لم تسأل عن ما لم تعرف ولا فكرت أن تتعلم لتعرف، فلو قلت له: أنت تقول في صلاتك: سبحانك اللهم وبحمدك، ما معنى سبحانك اللهم وبحمدك؟ لأجاب لا أعرف. ما معنى وتعالى: جدُك؟ الجواب لا أعرف. أنت تقول في صلاتك: التحيات لله والصلوات والطيبات، فما معنى التحيات لله؟ الجواب لا أعرف. تقول: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد، ما معنى ولا ينفع ذا الجد منك الجد؟ نفس الجواب السابق، هذا شيء أنت تقوله باستمرار لماذا لا تبحث عنه؟ لماذا لا تسأل عنه؟ ثم تشتكي من عدم حضور القلب في الصلاة. عدم معرفتك لما تتلفظ به في الصلاة من الأسباب التي تجعلك لا تخشع. هذا أمر الأمر الثاني الذي ذكره شيخ الإسلام والذي يعين على حضور القلب هو: ضعف الشاغل. فكلما قوي الشاغل قوي الصارف وضعف حضور القلب ونقص الخشوع.
والشواغل التي تشغل المصلي عن صلاته وتُضعف خشوعه نوعان:
النوع الأول: شواغل تأتي من الخارج وهذا أمرها بسيط بالنسبة للنوع الثاني ويمكن للعبد التخلص منها، كالأشياء التي تراها بعينك أمامك في قبلتك تشغلك عن الصلاة، هذه تزيلها وأمرها ينتهي، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم–: ((كما في الحديث المتفق عليه أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى وكان عليه أنبجانية (ثوب) فيه أعلام فقال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم واتوني بأنبجانية أبي جهم فإن أعلامها ألهتني عن صلاتي)). ومثله حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- ما عند النسائي: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب وفي يده خاتم فألقى بالخاتم وقال: "إليكم نظرة وإلى الخاتم نظرة")).
إذن: كل ما يلهيك عن الصلاة تزيله إذا تمكنت من إزالته، وإن لم تتمكن فتغض بصرك عنه وتنظر إلى موضع سجودك.
ومن الأشياء الخارجة والتي تشغل المصلي أيضاً: الأشياء المسموعة، لو كنت تصلي إلى قوم يتحدثون، أحياناً ينشَدّ الإنسان إلى حديثهم، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى كراهية الصلاة إلى قوم يتحدثون. ومثله الأماكن التي فيها أصوات مزعجة كبعض الورش والمصانع ونحوها، هذه يمكن التخلص منها بأن يذهب الشخص ويصلي في مكان آخر.
النوع الثاني: شواغل يكون مبعثها من القلب: وهذا هو الخطير؛ لأنها من الداخل والقلب يحتاج إلى مجاهدة، لذلك الذين يسألون كيف نخشع يريدون علاجاً سريعاً كمفعول بعض الحبوب عند تناولها، وهذا لا يحصل في موضوع حضور القلب في الصلاة، والأمر يحتاج إلى مجاهدة وتعب وهذا له طريقان:
الطريق الأول: أن تدفع الخواطر القلبية دفعاً مؤقتاً وذلك بأن تفعل الأمور التالية: تبكر إلى الصلاة، تقرأ شيئاً من القرآن قبل إقامة الصلاة، تصلي ما تيسر لك من النوافل، تجديد الوضوء لكل صلاة، وهذه أمور يمكن أن تفعلها وهي تساعد كثيراً بحيث يتجرد القلب من الشواغل ويتجمع بعض الشيء قبل دخولك في الصلاة، وهذا أمر سهل يمكن أن تعود نفسك عليه، والخير عادة كما قيل، حتى تقبل على صلاة الفرض وأنت متجرد عن الشواغل والملهيات، وهذا من الثابت لغةً وشرعاً وواقعاً وفطرةً أن هذا أمر ممكن أن يتم لكن بالاستمرار وسيحصل العبد على خير كثير. أما أن يكون الإنسان منذ أن يصلي الفجر وحتى الظهر وهو منشغل بأمور الدنيا، ثم من الظهر إلى العصر، وهكذا حتى العشاء يشتغل إما بقلبه أو بجوارحه أو مكالمة هاتفية أو مراسلة أو مكاتبة، بحيث أن أغلب الصلوات إذا حضرها في المسجد يأتيها وقد فاته بعضها، فهو قبل دخوله في الصلاة بلحظات كان منشغلاً بغيرها، فتنتهي الصلاة ولم يتمكن بعد من التخلص من المؤثرات التي كانت قبلها، ثم يقول أنا لا أستطيع أن أستحضر قلبي في الصلاة، فنقول له لن تستحضر قلبك ما دامت حياتك كلها أصبحت ضائعة في طلب الدنيا، ولو طردت الهواجس والوساوس بعض الشيء فإنها سرعان ما تعود إليك.
الطريق الثاني: قطع القلب عن الدنيا بحث يكون همّ وأصل اشتغال العبد بقضايا الآخرة، حياتك كلها لا بد أن تكون للآخرة، بمعنى أن تغيّر منهجك في الحياة، لا ترضى أن تكون عبداً للدرهم والدينار، والوظيفة والريال والعمل والمنصب والعيال، فلا ترضى أن تكون عبداً إلا لله، تكتب على حياتك كما قال بعضهم: وقف لله تعالى، يكون قيامك وقعودك وذهابك وإيابك في سبيل الله - عز وجل -، إذا فعلت ذلك تكون حتى الوساوس والخواطر التي تعرض لك في الصلاة تكون خواطر شرعية كما ثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: " والله إني لأجهز الجيش وأنا في الصلاة ". فيقطع الإنسان قلبه عن الدنيا ويكون همّه معالي الأمور لا سفسافها، يكون همّه الدعوة، العبادة، الأعمال الصالحة، ولا مانع بعد ذلك أن يعمل للدنيا؛ لأن مثل هذا الإنسان ستكون الدنيا في يده لا في قلبه أُنظر إلى الدنيا كما وصفها الشافعي - رحمه الله - تعالى: عندما قال:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها *** وسيق إلينا عذبها وعذابها
فما هي إلا جيفة مستحيلة *** عليها كلاب همهنّ اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها *** وإن تجتذبها نازعتك كلابها
فلا تتنازع يا أخي مع كلاب الدنيا على الدنيا، بل اجعل همك الله والدار الآخرة، ثم انظر بعد ذلك هل تخشع أو لا تخشع، هل تستحضر قلبك في الصلاة أو لا تستحضر. أسأل الله الإعانة لي ولكم.
الوقفة التاسعة:
قال - رحمه الله - في كتاب الاختيارات:
" يجوز اللعب بما قد يكون فيه مصلحة بلا مضرة وكل ما أفضى إلى المحرم كثيراً حرمه الشارع إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، كأن يكون سبباً للشر والفساد وما ألهى وشغل عما أمر الله به فهو منهي عنه وإن لم يحرم جنسه كالبيع والتجارة، وأما سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو وضروب اللعب مما لا يستعان به في حق شرعي فكله حرام ويرخص للصغار ما لا يرخص للكبار ". انتهى...
لقد حرم الإسلام ألعاباً معينة نص على تحريمها كاللعب بالنرد والشطرنج وغيرها، وحث على ألعاب معينة لما فيها مصلحة ظاهرة للإسلام كالرماية والسباحة وركوب الخيل، وسكت عن أنواعٍ أخرى كثيرة من الألعاب مما يدل على إباحتها في الأصل لكن يحكم على جوازها من حرمتها بمآلاتها وبما تفضي إليه، ولهذا قال - رحمه الله - في هذه القاعدة البديعة: " يجوز اللعب بما قد يكون فيه مصلحة بلا مضرة وكل ما أفضى إلى المحرم كثيراً حرمه الشارع إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، كأن يكون سبباً للشر والفساد وما ألهى وشغل عما أمر الله به فهو منهي عنه وإن لم يحرم جنسه".
ولهذا بعد ضبط هذه القاعدة أظن أنه يتضح لك حكم اللعبة الفلانية، أو الرياضة الفلانية، وكثير من الناس ممن كان يشكل عليهم وضع لعبة كرة القدم وأعني وضعها الحالي من تنصيب الأندية لها والمسابقات والدوريات والمنافسات بين الدول وبذل الأموال، بل وضع الرياضة العالمية بشكل عام، فلعل بعد نقل كلام شيخ الإسلام يتضح في الأمر شيء ويتبين لك بعض حُكمٍ، فينظر في اللعبة المعينة أو الرياضة المعينة هل فيها مصلحة ظاهرة للدين أم هي مضرة؟ هل تُفضي إلى أمور حُرّمت في الشرع أم لا؟ هل تكون سبباً للشر والفساد أم ينتشر الخير ويعم الإصلاح؟ هل يُلهي ويُشغل عمّا أمر الله أم أنها تساعد على طاعة الله والإكثار من الأعمال الصالحة؟ فبعد النظر في هذه المآلات وما تُفضي إليه بعين الإنصاف يتبين لكل عاقل جوازها من حرمتها. أذكرك مرة أخرى بآخر كلام شيخ الإسلام فإنه ضابط مهم جداً في المسألة حيث قال: "وأما سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو وضروب اللعب مما لا يستعان به في حق شرعي فكله حرام ويرخص للصغار ما لا يرخص للكبار".
وبعد سماعك لهذا التقرير البديع من كلام ابن تيمية - رحمه الله - لا بأس أن أقرأ عليك فتوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتى الديار في سؤال وجه إليه عن حكم الرياضة في الإسلام وإن كان فيه بعض طول لكن لأهميته سأقرأه كاملاً فقال - رحمه الله -:
أما السؤال عن حكم الرياضة في الإسلام فلا شك في جواز أو استحباب ما كان منها بريئاً هادفاً مما فيه تدريب على الجهاد وتنشيط للأبدان وقلع للأمراض وتقوية للأرواح، فلقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سابق بالأقدام، وسابق بين الإبل، وسابق بين الخيل، وحضر نضال السهام، وصار مع إحدى الطائفتين وطعن بالرمح، وركب الخيل مُسرجة ومُعرّاة، وصارع ركانة فصرعه. وقد بسط الإمام ابن القيم - رحمه الله - بحث هذا في كتابه " الفروسية " كما أشار - رحمه الله - في كتاب " زاد المعاد " إلى أن ركوب الخيل ورمي النشّاب والمصارعة والمسابقة بالأقدام كل ذلك رياضة للبدن قالعة للأمراض المزمنة كالاستسقاء والقولنج. ونص شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - على حكم الشرع في الكرة نفسها فقال في " باب السبق " في مختصر فتاواه فقال - رحمه الله -: ولعب الكرة إذا كان قصد صاحبه المنفعة للخيل والرجال بحيث يستعان بها على الكر والفر والدخول والخروج ونحوه في الجهاد وغرض الاستعانة على الجهاد الذي أمر الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو حسن، وإن كان في ذلك مضرة بالخيل أو الرجال فإنه يُنهى عنه.
وبعد هذا النقل من ابن تيمية أكمل سماحته فتواه فقال: وبمناسبة الحديث عن الألعاب الرياضية وتعريجنا على اللعب بالكرة وإيرادنا ما ذكره الشيخ من النهي عن اللعب بها إذا كان فيه مضرة بالخيل والرجال يحسن أن نغتنم هذه الفرصة لنقول بأن اللعب بالكرة الآن يصاحبه من الأمور المنكرة ما يقضي بالنهي عن لَعِبها، هذه الأمور نلخصها فيما يأتي:
أولاً: ثبت لدينا مزاولة لَعِبها في أوقات الصلاة مما ترتب عليه ترك اللاعبين ومشاهديهم للصلاة أو للصلاة جماعة أو تأخيرهم أداؤها عن وقتها، ولا شك في تحريم أي عمل يحول دون أداء الصلاة في وقتها أو يُفوّت فعلها جماعة ما لم يكن ثم عذر شرعي.
ثانياً: ما في طبيعة هذه اللعبة من التحزبات أو إثارة الفتن وتنمية الأحقاد وهذه النتائج عكس ما يدعو إليه الإسلام من وجوب التسامح والتآلف والتآخي وتطهير النفوس والضمائر من الأحقاد والضغائن والتنافر.
ثالثاً: ما يصاحب اللعب بها من الأخطار على أبدان اللاعبين بها نتيجة التصادم والتلاكم مع ما سبق ذكره، فلا ينتهي اللاعبون بها من لعبتهم في الغالب دون أن يسقط بعضهم في ميدان اللعب مغمى عليه أو مكسورة رجله أو يده، وليس أدل على صدق هذا من ضرورة وجود سيارة إسعاف طبية تقف بجانبهم وقت اللعب بها.
رابعاً: عرفنا مما تقدم أن الغرض من إباحة الألعاب الرياضية تنشيط الأبدان والتدريب على القتال وقلع الأمراض المزمنة، ولكن اللعب بالكرة الآن لا يهدف إلى شيء من مبررات إباحة الألعاب الرياضية، وإن هدف إلى شيء من ذلك فقد اقترن به مع ما سبق ذكره ابتزاز المال بالباطل فضلاً عن أنه يعرض الأبدان للإصابات وينمي في نفوس اللاعبين والمشاهدين الأحقاد وإثارة الفتن، بل قد يتجاوز أمر تحيّز بعض المشاهدين لبعض اللاعبين إلى الاعتداء والقتل كما حدث في إحدى مباريات جرت في إحدى المدن منذ أشهر، ويكفي هذا بمفرده لمنعها. وبالله التوفيق. والسلام عليكم. انتهى فتواه - رحمه الله - من المجلد الثامن. (8/115).
الوقفة العاشرة:
قال - رحمه الله - في رسالة تفسير المعوذتين:
"والأصل الذي دل عليه الكتاب والسنة أن من فعل محظوراً ناسياً لم يكن قد فعل منهياً عنه، فلا يبطل بذلك شيء من العبادات، ومن ترك مأموراً فعليه إعادة ما أمكن إعادته". انتهى...
وهذه قاعدة مهمة جداً تريح المكلف كثيراً في ضبط عباداته فيما لو فهم هذه القاعدة فلو فعل الإنسان المحظور ناسياً ولم يعلم إلاّ بعد فراغه من العبادة فالعبادة صحيحة، بخلاف ما لو ترك المأمور المتعلق بهذه العبادة ولو ناسياً فالعبادة باطلة وعليه الإعادة، وإليك المثال:
رجلان صليا، أحدهما صلى بثوب نجس ولم يعلم إلاّ بعد فراغه من الصلاة، والآخر صلى وهو محدث ناسياً ولم يعلم أيضاً إلاّ بعد فراغه من الصلاة. فيقال للأول صلاتك صحيحة وليس عليك الإعادة، ويقال للثاني صلاتك باطلة وعليك الإعادة، ما السبب؟ السبب: لأن الأول الذي صلى في الثوب النجس وهو لا يعلم قد وقع في محظور، والثاني الذي صلى محدثاً وهو لا يعلم أيضاً قد ترك المأمور. وتقعيد شيخ الإسلام الذي سمعت أن العبادة لا تبطل بفعل المحظور ناسياً بخلاف ترك المأمور فإنها تبطلها ولو نسياناً. ولهذه القاعدة من الأدلة في الكتاب والسنة ما دلت عليها ليس هذا موطن بسطها.
الوقفة الحادية عشرة:
وهي آخر الوقفات قال - رحمه الله تعالى-: في الفتاوى 20/59:
"إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر. فالعالم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسليماً إلى بيانها". انتهى
وهذا فقه عزيز، وهو أن تُسأل عن مسائل وأنت تعرف الجواب، ويكون الجواب هو السكوت. إن إنزال هذه الفقه على أرض الواقع، والتطبيق العملي لها يحتاج إلى فقه. متى تكون المصلحة في الجواب، ومتى تكون المصلحة في السكوت عن الجواب. وقد أعطى شيخ الإسلام مثالاً واحداً ونموذجاً واقعاً لهذا الفقه فقال: كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر. فالإسلام في أول أمره وأول ما بدأ يدخل بيوتات مكة ويسلم بعض القلة من أهلها، كانوا حديث عهد وما زالت ركام الجاهلية مترسخة في النفوس، فكان من الحكمة السكوت عن أشياء، وعدم تحريم بعض الأشياء إلا بالتدريج حتى تقبلها النفوس المقبلة على هذا الدين الجديد. ثم وجه شيخ الإسلام نصيحة مهمة للعلماء ولطلاب العلم خصوصاً ممن يعيشون في أوضاع يكون فيها الشر هو الغالب، ويكون مفسدوا المجتمع أكثر من مصلحوها والغلبة للباطل وأهله، فقال - رحمه الله - فالعالم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن. لأن هناك كثير من الحق لا يتمكن صاحب الحق أن يظهره، بسبب الأوضاع التي يعيشها. كما أخّر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فمن الفقه السكوت في مثل هذه الأحوال والأوقات، وهي أوقات غربة الدين وقلة الناصر والمعين، وضعف العلماء وتمكن الباطل وأهله. لأن المفسدة المترتبة على البيان والبلاغ أعظم من مصلحة البيان والبلاغ. وهذا الفقه من شيخ الإسلام ينفع كثيراً من يتصدى للتربية، ومن حمّلهم الله مسئولية المحاضن التربوية، ينبغي لهم فقه هذا الكلام وهو السكوت عن إيضاح بعض الأحكام وأنت ترى ممن تتعامل معهم وتربيهم أنهم واقعون فيها، ليس سكوتاً عن الحق لكن تأخير للبيان بعض الوقت حتى تتهيأ النفوس، كل ذلك في سبيل جذبهم إلى طريق الاستقامة بالتدريج، والله - جل وتعالى -: هو الهادي إلى سواء السبيل.
والله أعلم.. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً..
إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ …
أما بعد:
بادئ ذي بدء، فإن هذه المحاضرة ليست في ترجمة حياة شيخ الإسلام، وإن كان الشيخ، تستحق سيرته وحياته أن تفرد لها محاضرات وإن ذلك لفي البال وسيكون بإذن الله تعالى، خصوصاً وأن هناك جوانب من حياة هذا الإمام تخفى على بعض طلبة العلم، لكن مقدمةً نقول بأنه ولد في يوم الاثنين، العاشر من شهر ربيع الأول من سنة 661هـ بحرّان من أرض الشام، كان يلقب بشيخ الإسلام ويكنى بأبي العباس نشأ حنبلياً ثم كان منه ما قال عنه الذهبي: وله الآن عدة سنين لا يفتي بمذهب معين بل بما قام الدليل عليه عنده. توفي ليلة الاثنين لعشرين من ذي القعدة سنة 728هـ، وقد شهد جنازته من الخلائق ما لا يحصره عَدّ؛ فهو إمام، جَبَل، عَلَم، كان - رحمه الله - عالم أمته، وإمام عصره، وأوحد زمانه، وكان بحر العلم الزاخر، وبدر العلماء الزاهر، وكوكبهم اللامع ونبراسهم الساطع، كان يُرجع إليه في المشكلات، ويُستصبح بضوئه في المعضلات، تضرب إليه أكباد الإبل، ويرحل إليه من أطراف البلدان، فهو شيخ الحافظين لميراث الهادي الأمين، وعَلَمُ المجددين للدين، أرسل على المبتدعة التدمرية، تدمر كل شيء بأمر ربها، وأنزل حمى الويل في الحموية على المعطلة، وانتصر على النصيرية وكسر أنوفهم في جبل كسروان. لمّا دخل على الأمة طيف الأشاعرة، استيقظ أبو العباس -رحمه الله- لمّا نادته الملة، فقال: كلا والله، فدفع التأويل والشبهات بالآيات، والظنّ باليقين، وراغ عليهم ضرباً باليمين. شيخ الإسلام مات ولم يتزوج، وما أنجب ولداً، ولم يضيع عمره سدى، بل أرسل شهبه على الضلال، كل يجد له شهاباً رصداً فلم يغادر منهم أحداً. مجتهد في التفسير كمجاهد، وذو ملكة في الاستنباط كمالك، وأحيا السنة في الأوطان كيحيا القطان، ومسدد في الحديث كمسدد، وأعطى من علمه كعطاء. أمة في رجل، وجيل في فرد. عَلَمٌ معقود، وسرادقٌ للعلم ممدود، والرجل محسود.
فاحذر عدوك فيما خُصصت به *** إن العلى حسنٌ في مثلها الحسدُ
دعا الظلمة إلى السياسة الشرعية، والمعطلة إلى الملة المحمدية، والمعتزلة إلى الطريقة السنية، والأشاعرة إلى المحجّة السلفية، ملك أعداؤه أسباب الدنيا فماتوا وهم أحياء فلا ذكر ولا أثر، لو اطلعت على كتبهم لوليت منها فراراً ولملئت منهم رعباً، ومَلك هو أسباب الآخرة فعاش وهو ميت بعلمه وسيرته، فلو قرأت كتبه لقلت: الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن، إذا تكلم فالسلام على المتكلمين، وإذا كتب أرضى الكرام الكاتبين، وإذا نطق صار بيت المنطق من طين. سلّ سيفه على الدهرية، وأغمده في صدور القبورية، وضرّجه بدماء النصيرية. هو للفضائل إمامها، وللحوادث حسامها، وللفتن زمامها، وللمعاني نظامها، وللفتاوى يَمَنُها وشامُها، وللأدب بُحتريّها وتمّامها، وللتقوى كعبتها ومَقامها. فرق بالفرقان شراذم الضالين، وأسكت بالجواب الصحيح أتباع المسيح، وهاج على الرافضة بالمنهاج، ودرء عن الدين بالدرء، وذبح الشاتم بالصارم، حلّ زمام أهل الحلول، واصطلم بحد صارمه أرباب الاتحاد، عَرَضَ المخالفون بضاعتهم المزجاة، وصاحوا بكم نقول، فأبطل بيعهم بصحيح المنقول وصريح المعقول {فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [(16) سورة البقرة] جنته وبستانه في صدره، وطاعة مولاه في عسره ويسره، طار ذكره من طنجة إلى البنجاب، فسجنه الحُجّاب، فضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، سجنه خلوة، تعظم فيه حسناته، وتحفظ فيه أوقاته، وإخراجه من البلد سياحة، وإيقافه عن الوعظ راحة، وقتله شهادة. هذا الرجل كان للملة ابنٌ بار، يدور مع الدليل حيث دار، لذا صارت كتبه ورسائله نور يستضاء بها في أوقات الظلمات، توقف الناس في مسائل العلم فتقدم، وتقدموا لأبواب الدنيا فتوقف، فطار ذكره في الآفاق، فساد وأجاد وأفاد، بلغ الجوزاء، وجاوز البلغاء، وخطب ودّ الخطباء والعلماء. فرحمة الله على هذا الإمام وجزاه رب العالمين على ما قدم وبذل خير الجزاء.
ومن أراد الاستزادة عن حياة هذا الرجل فعليه بكتب التراجم كتذكرة الحفاظ للإمام الذهبي والذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب والدرر الكامنة لابن حجر والبدر الطالع للشوكاني وغيرها، أو بالكتب المستقلة التي كتبت عن هذا الإمام كالرّد الوافر لابن ناصر الدين الدمشقي والعقود الدّرّية في مناقب ابن تيمية لابن عبد الهادي والكواكب الدرّية في مناقب ابن تيمية لمرعي الكرمي وغيرها. وسيكون كما قلت محاضرة مستقلة عن حياة هذا الإمام إن شاء الله تعالى.
ولنبدأ في صلب موضوعنا، وهو الذي حضرتم من أجله، فكرة هذه المحاضرة هو أن لشيخ الإسلام تقعيدات قوية رائعة في ثنايا كتاباته، وهو صاحب قلم رصين، فإذا قام بكتابة رسالة، أو جواب على سؤال ورد إليه أو حتى وهو يؤلف كتباً مستقلة، يكتب كلاماً مختصراً يصلح أن تكون قاعدة، أو أصل يرجع إليه، وهو الذي قصدناه عندما عُنون للمحاضرة بـ "قواعد وفوائد من كلام شيخ الإسلام"، فهو إذن كلام متفرق في عدد من كتبه نجعل كل واحدة منها قاعدة في باب معين ثم يتم التعليق عليه. ولا يلزم أن يكون الكلام كله في باب واحد ثم ننتقل لغيره فقد تكون إحداها مشرقة والأخرى مغربة، لكن كله لا يخرج عن أن يكون من كلام شيخ الإسلام. اخترت لكم إحدى عشرة وقفة:
فنستعين بالله - عز وجل - ونقول:
الوقفة الأولى:
من كتاب الإيمان: قال شيخ الإسلام:
"ومن أتى الكبائر مثل الزنا والسرقة أو شرب الخمر وغير ذلك فلابد أن يذهب ما في قلبه من تلك الخشية، والخشوع والنور، وإن بقي أصل التصديق في قلبه، وهذا من الإيمان الذي ينـزع عنه عند فعل الكبيرة ". انتهى...
يقرر شيخ الإسلام هنا بأن الوقوع في الكبائر يذهب من القلب الخشية والخشوع والنور، وأن هذا القدر من الإيمان ينـزع من القلب عند فعل الكبيرة. فيقال:
ألا تقف مع نفسك يا من تفعل الكبائر، نعم أنت الذي قد تكذب أحياناً أو تغش أحد المسلمين أو قد تغتاب أحداً من أصدقائك أو جيرانك أو أقاربك، أو قد تقع في أية كبيرة أخرى سوى هذه، هل تعلم بأن نور القلب يقل بعد فعل الكبيرة وأن خشوعه ينقص، هل تشعر بهذا أو لا تشعر؟ إذا كنت لا تشعر فتلك مصيبةٌ، وإن كنت تشعر فالمصيبة أعظم ومن الكبائر التي يمارسها الناس اليوم ومعظمهم لا يشعر ولا يحس أنه يقع في كبيرة التمتع والاستمتاع بالنظر في القنوات الفضائية.
يا أخي: أيّ كبيرة أعظم من جلوسك لساعات تلو ساعات وأنت تنظر في وجوه المومسات، وهنّ كاشفات عاريات، أضف إلى ذلك ما يصاحبه في الغالب من أصوات الموسيقى المحرمة، فإذا كان النظر إلى وجوه النساء ليس من الكبائر، وسماع الغناء والمعازف ليس من الكبائر، ومشاهدة مسلسلات العشق والغرام ليس من الكبائر، ومشاهدة السحر والزندقة والشرك وسماع الكفر ليس من الكبائر، وكل هذا يعرض في القنوات الفضائية وتعدى الأمر إلى ظهور السوأتين بل وممارسة الفاحشة، والمسلمون المصلون ينظرون ويشاهدون ولا يشعرون أنهم آثمون.
أما نشتكي أيها الأحبة جميعاً -إلا من رحم الله- من عدم حضور القلب في الصلوات، أما نشتكي من عدم ذَرَفَان الدمع عند سماع الآيات، أما نشتكي من عدم التأثر عند سماع المواعظ، ما سبب كل هذا وغيره، قليل منّا من يتبنه لما ذكره شيخ الإسلام من أن وقوع العبد في الكبائر يؤدي ولا بد، ولا بد من ذهاب خشية القلب وخشوعه بقدر وقوع الشخص وارتكابه لنوع الكبيرة، وإن كان أصل التصديق والإيمان يبقى في القلب، لكن ينـزع من الإيمان بقدر فعل الكبيرة، فكن يا عبد الله على حذر فإن القضية حقيقة لا مجرد تخويف، والله المستعان.
والشيء بالشيء يذكر، فبما أنه قد ذكر طرف مما يعرض في القنوات الفضائية فلا بأس بوقفة قصيرة حول هذا الموضوع الكبير والخطير والذي هو في الحقيقة أيضاً يحتاج إلى محاضرة مستقلة.
إن القنوات الفضائية مصيبتها عظيمة، وشرها مستطير وعاقبتها الخزي في الدنيا والآخرة، فهي تستقبل محطات التلفزة من شتى بقاع العالم، هناك محطات خاصة هدفها تدمير أخلاق الناس تُبث من إسرائيل ومن جنوب شرق آسيا ومن إيطاليا ومن غيرها، متخصصة في نشر الفساد وتربية الناس على الإباحية والفجور -والعياذ بالله-، وهناك محطات أخرى متخصصة في زعزعة الأمن في الدول، تعلّم عمل الجريمة وصنع المتفجرات وإتقان عمليات الاغتصاب، وكل عاقل يعلم أنه ليس في صالح أحد مثل هذه الأمور أن تعرض على مجتمعاتنا، وهناك محطات تعمل على نشر التنصير، وقد جنّد الفاتيكان مئات محطات التلفزة وآلاف الإذاعات التي يملكها وبعضها يستأجرها لبث التنصير إلى العالم بشكل عام وإلى العالم الإسلامي بشكل خاص وإلى هذا البلد بشكل أخص. ناهيك عن الأمور الأخرى التي فتن الناس بمشاهدتها حيث صار الجنس هو المحور الأول التي تتنافس في بثها معظم القنوات، ويصرحون بأن هذا هو الذي يجذب الناس، فينتقون أجمل النساء، ويعرضون مفاتنها في أقبح صورة، والمسلمون قد أسكرهم جمال الألوان ودقة الإخراج، ونسوا أنهم أحرقوا بسبب هذه القنوات كميات من الحسنات الله أعلم بها.
أذكرك مرة أخرى بأن فعل الكبيرة لابد وأن يذهب ما في القلب من تلك الخشية والخشوع والنور، وأن الإيمان ينقص من قلبك يا عبد الله بقدر الكبيرة التي فعلتها. والله المستعان.
الوقفة الثانية:
من الفتاوى المصرية: قال شيخ الإسلام:
"قد أمر الله في كتابه بغض البصر وهو نوعان: غض البصر عن العورة وغضها عن محل الشهوة، والثاني أشد من الأول".
يقرر شيخ الإسلام هنا بأن إطلاق البصر في محل الشهوة أشد خطراً وأعظم أثراً على المرء من إطلاقه في محل العورة، وإن كان عدم غض البصر عموماً مصيبة وأية مصيبة.
إن من غضّ بصره عمّا حرم الله عليه، عوضه الله تعالى: من جنسه ما هو خير منه، فكما أمسك نور بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصيرته وقلبه فرأى به ما لم يره من أطلق بصره في محارم الله، وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه، فإن القلب كالمرآة والهوى كالصدأ فيها، فإذا خلصت المرآة من الصدأ انطبعت فيها صور الحقائق كما هي، وإذا صدأت لم تنطبع فيها صور المعلومات فيكون علمه وكلامه من باب الخوض والظنون. وكما قيل:
كل الحوادث مبدؤها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فعلت في قلب صاحبها *** فعل السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها *** في أعين الغيد موقوف على خطر
يسُرّ مقلته ما ضرّ مهجته *** لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
اسمع جيداً وتأمل في هذا المقطع الذي نقلته لك من كلام شيخ الإسلام والمنقول من الفتاوى المجلد الخامس عشر (ص 344) وهو يفسر قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا...} [(19) سورة النور] وكلامه - رحمه الله - يمكن أن يُنَـزّل على كل من ساهم في بث ونشر الفساد والفاحشة التي تعرض من خلال القنوات الفضائية سواء من أهل الإعلام أو حتى أرباب الأسر وأولياء الأمور فإن لهم نصيب من هذا الكلام، يقول -رحمه الله-:
"فكل عمل يتضمن محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا داخل في هذا بل يكون عذابه أشد، فإن الله قد توعد بالعذاب على مجرد محبة أن تشيع الفاحشة بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وهذه المحبة قد لا يقترن بها قول ولا فعل، فكيف إذا اقترن بها قول أو فعل؟ بل على الإنسان أن يبغض ما أبغضه الله من فعل الفاحشة والقذف بها وإشاعتها في الذين آمنوا، ومن رضي عمل قوم حشر معهم كما حشرت امرأة لوط معهم ولم تكن تعمل فاحشة اللواط، فإن ذلك لا يقع من المرأة لكنها لما رضيت فعلهم عمّها العذاب معهم. فمن هذا الباب قيل: من أعان على الفاحشة وإشاعتها مثل القوّاد الذي يقود النساء والصبيان إلى الفاحشة لأجل ما يحصل له من رياسة أو سحت يأكله، وكذلك أهل الصناعات التي تنفق بذلك مثل المغنين وشربة الخمر وضمان الجهات السلطانية وغيرها، فإنهم يحبون أن تشيع الفاحشة ليتمكنوا من دفع من ينكرها من المؤمنين ". انتهى..
وأخيراً يا عبد الله: يا من أيام عمره في حياته معدودة، يا من عمره يُقضى بالساعة والساعة، يا كثير التفريط في قليل البضاعة، يا شديد الإسراف يا قوي الإضاعة، كأني بك عن قليل تُرمى في جوف قاعة، مسلوباً لباس القدرة وبأس الاستطاعة، وجاءك منكر ونكير في أفظع الفظاعة، كأنهما أخوان في الفظاظة من لبان الرضاعة، وأمسيت تجني ثمار هذه الزراعة، وتمنيت لو مُكّنتَ من لحظة طاعة، وقلت: رب ارجعون، ومالَكَ كلمةٌ مطاعة، يا متخلفاً عن أقرانه قد آن أن تلحق بالجماعة.
الوقفة الثالثة:
من كتاب الإيمان: قال -رحمه الله-:
"ومن لم يكن في قلبه بغض ما يبغضه الله ورسوله من المنكر الذي حرمه من الكفر والفسوق والعصيان لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه الله عليه فإن من لم يكن مبغضاً لشيء من المحرمات أصلا لم يكن معه إيمان أصلاً". انتهى...
كلام يحتاج إلى تأمل للحال، ووقفة مع النفس، وخوف من الوضع الذي نعيشه، يقرر شيخ الإسلام بأن الذي لا يبغض المنكر الذي حرمه الله ورسوله فإن هذا الرجل لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه الله، بل ويؤكد بأن من لم يكن مبغضاً لشيء من المحرمات أصلاً لم يكن معه إيمان أصلاً.
لا يخفانا جميعاً حجم المنكرات التي تحيط بنا، منكرات داخل البيوت، ومنكرات خارجها، منكرات فردية وأخرى جماعية، منكرات خاصة وغيرها عامة، هذه المنكرات أليس لها أصحاب يمارسونها؟ بلى. هل كل هؤلاء البشر الذين يقعون ويمارسون المنكرات من الأفراد والأسر والعوائل، أياً كانت نوعية المنكرات، أقول: هل كل هؤلاء وهم يمارسونها، يمارسونها وهم مبغضون لها؟ لا أريد أن أتهم الناس، لكن أستبعد ذلك، وأكاد أجزم بأن الكثرة الكاثرة ممن يفعل المنكر يفعله وهو يميل إليه ويرغبه، والبعض يحبه ويعشقه. فما هو حجم الإيمان في قلب من هذا حاله، إيمان ضعيف، وإن وجد فسيكون إيماناً جامداً، وإذا أردت الدليل فتأمل في جمود الناس تجاه مشاهدتهم للمنكرات. والخوف كل الخوف على ذلك الذي لا يبغض شيئاً من المحرمات فإن هذا والعياذ بالله ليس معه شيء من الإيمان أصلاً وإن ادعى ذلك أو كتب في تابعيته أنه مسلم.
الوقفة الرابعة:
من كتاب الإيمان أيضاً: قال -رحمه الله-:
"فالشفاعة الحسنة الإعانة على الخير الذي يحبه الله ورسوله من نفع من يستحق النفع، ودفع الضر عمن يستحق الضر عنه، والشفاعة السيئة الإعانة على ما يكرهه الله ورسوله، كالشفاعة التي فيها ظلم الإنسان أو منع الإحسان لمن يستحقه". انتهى...
الواسطة في مجتمعاتنا أمر لا بد منه، وإن قُلتَ بأن معظم معاملاتك لا تسير إلا عن طريق الواسطة لم تكن مبالغاً. فهذا يبحث عن شفاعة حسنة لتسجيل ابنه في الجامعة، وذاك يبحث عن واسطة لنقل زوجته المدرسة من منطقة إلى أخرى، وآخر يريدها ليعالج أحد أولاده في المستشفى، ورابع وخامس وسادس.
لا شك بأن باب الشفاعة الحسنة من أعظم أبواب النفع للمسلمين، قال الله تعالى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} [(85) سورة النساء] وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)) [رواه مسلم]. وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه السائل أو صاحب الحاجة قال: ((اشفعوا تؤجروا)) [رواه البخاري].
الواسطة حتى تكون مقبولة شرعاً وتنفع صاحبها لا بد لها من ضوابط:
الضابط الأول: عدم تضييع من له حق: فكم من الناس يتوسط في أمور يُضيّع بها حقوق آخرين على حساب نفع صاحبه أو قريبه، وهذا من المحرمات، ومن البلايا التي ابتلي بها أهل هذا الزمان، تُضيّع حقوق وتهدر أموال بسبب، مكالمة أو ورقة صغيرة إثمها كبير ووزرها خطير ويظن الجاهل أن هذا من الشفاعة الحسنة وما علم أنها من الشفاعة المحرمة {وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا}[(85) سورة النساء].
الضابط الثاني: أن تكون الواسطة في ما أَذِن فيه الشرع؛ لأن بعض الناس يظن أن كل واسطة يكون فيها الأجر والثواب، وهذا مخالف لقول الله تعالى: {وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} فدلّت الآية على وجود نوع من الشفاعات تكون حراماً وهي الشفاعة السيئة. وذلك مثل أن يشفع إنسان بجاهه أو منـزلته أو بكلمته المسموعة ليغتصب حقوق الآخرين أو يظلمهم أو يأكل أموالهم بالباطل.
الضابط الثالث: ألاّ تكون الشفاعة في حد من حدود الله: وحديث عائشة في البخاري صريح في هذا – ((أتشفع في حد من حدود الله، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)) – وذلك لمّا كلمه أسامة في شأن المرأة المخزومية التي سرقت.
وما أسباب النكبات التي تمر بها بلدان المسلمين -إلا من رحم الله- إلا بسبب تعطيل الحدود الشرعية بسبب شفاعات السوء، ووجاهات الضرار، فإذا تعطلت الحدود الشرعية حلّت عقوبة قدرية كونية تشمل المجتمع كله. فهذا زانٍ يزني فَيَشفَع فيه من يشفع فلا يقام عليه الحد، ويشرب الخمر من يشربها فيشفع فيه من يشفع فلا يقام عليه الحد، ويسب الدين والشرع ويستهزأ به ولا يقام الحد، ويرتدّ من يرتدّ علانية وربما كتب ذلك ولا يقام حدّ الرّدة، كل ذلك بسبب شفاعات السوء.
الضابط الرابع: عدم جواز أخذ مقابل على الواسطة: فإن هذا حرام ولا يجوز، فمن الناس من يعرض بذل جاهه ووساطته مقابل مبلغ مالي يشترطه ليعين شخصاً في وظيفة أو ينقل أحداً من دائرة لأخرى أو يخلّص لك معاملة في جهة ما، فهذا سحت حرام ولا يجوز، روى الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي أمامة مرفوعاً ((من شفع لأحدٍ شفاعةً فأهدى له هديةً فقبلها منه فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)) بل إن ظاهر الحديث يشمل الأخذ ولو بدون شرط مسبق وهذا ترجيح سماحة الإمام عبد العزيز بن باز -- رحمه الله - تعالى-: رحمة واسعة.
الوقفة الخامسة:
اخترتها من كتاب العبودية: قال -رحمه الله-:
"إذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه". انتهى...
وكلمة الجهاد هنا في كلام شيخ الإسلام قد يشمل الجهاد الذي هو منازلة أعداء الله وقتالهم وخوض المعارك في ذلك، وقد يكون هو كل جهد يبذله العبد في سبيل الدين فهو من الجهاد، ولذا قال شيخ الإسلام في موضع آخر من نفس الرسالة:
"وحقيقة الجهاد الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان".
وبناءً على كلام شيخ الإسلام في المقطعين يكون القادر على طلب العلم الذي قد أعطاه الله الفهم والصحة والوقت ولكنه لا يبذل الجهد فيه فإن هذا دليل على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه، وكذلك القادر على القيام بالدعوة إلى الله الذي قد أعطاه الله القدرة على التأثير في الناس ولو بشيء يسير، والقادر على نصح الناس وتوجيههم وإرشادهم ولو بنقل كلام العلماء وفتاويهم لهم وإيصالها إليهم لينتفعوا، لكن لم يبذل الجهد في ذلك فإن هذا دليل على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه، ومثلهم القادر على إنكار المنكر إما بيده أو لسانه لكنه لم يبذل جهده الذي يمكنه في ذلك فإن هذا دليل على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه.
فرحماك ثم رحماك يا رب. إن لدينا قدرات، وفينا طاقات، وعند معظمنا بعض مهارات وتفوقات في بعض الجوانب ولا ينقصنا إلا أن نغذيها بشيء من الهمة واستشعار المسئولية، وتوظيف هذه القدرات والطاقات في سبيل الدين وفي خدمة الإسلام، وإن لم نفعل ذلك فإن هذا -والعياذ بالله- دليلٌ على ضعف محبة الله ورسوله في قلوبنا. فهل من متعظ؟
الوقفة السادسة:
وقع الاختيار عليها من رسالة الحسبة: قال -رحمه الله-:
" الباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة ". انتهى...
يقرر شيخ الإسلام بأن الباغي الظالم يصرع في الدنيا وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة.
البغي والتعدي على الآخرين مرتعه وخيم، وعاقبته سيئة، وقد يكون جزاء صاحبه النار وخراب الدار، ولو بغى جبل على جبل لدكّ الباغي منهما، وما حرم الله شيئاً مثل ما حرم البغي والظلم، ولا توعد أحداً بمثل ما توعد به أهل قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} [(29) سورة الكهف] ومثل قوله {يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [(31) سورة الإنسان]. بئس الزاد إلى المعاد البغي وظلم العباد، ووالله ما عزّ ذو باطل ولو طلع القمر من بين عينيه، ولا ذلّ ذو حق ولو اتفق العالم عليه، وللباطل جولة ثم يضمحل، وللحق دولة لا تنخفض ولا تذلّ، والظلم ظلمات يوم القيامة، وقد توعد الله الظالم وعزّى المظلوم فقال: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [(42) سورة إبراهيم]. قال معاوية - رحمه الله -: "إني لأستحي أن أظلم من لا يجد عليّ ناصراً إلا الله".
لا تظلمنّ إذا ما كنت مقتدراً *** فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبه *** يدعو عليك وعين الله لم تَنَم
نادى رجل سليمان بن عبد الملك وهو على المنبر: يا سليمان اذكر يوم الأذان! فدعاه سليمان وقال: ما يوم الأذان؟ قال: قال الله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [(44) سورة الأعراف].
يحكى أن الحجاج حبس رجلاً ظلماً فكتب إليه رقعةً فيها: قد مضى من بؤسنا أيام ومن نعيمك أيام، والموعد القيامة، والسجن جهنم، والحاكم لا يحتاج إلى بينة، وكتب في آخرها:
ستعلم يا نؤومُ إذا التقينا *** غداً عند الإله من الظّلومُ
أما والله إن الظلم لؤمٌ *** وما زال الظلوم هو الملوم
سينقطع التلذذ عن أناس *** أداموه وينقطع النعيم
إلى ديّان يوم الدين نمضي *** وعند الله تجتمع الخصوم
ومن المضحك المبكي في بعض قصص الحجاج – والحجاج قد عرف بالبغي والظلم – أنه قرأ يوماً في سورة هود قول الله تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [(46) سورة هود] فلم يدر كيف تُقرأ {عَمَلٌ} بالضم والتنوين، أو بالفتح {عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} فبعث أحد حرّاسه فقال: إيتني بقارئ، فأُتي به بعد أن قام الحجاج من مجلسه، فحُبس القارئ، وبعد ستة أشهر استعرض الحجاج المحبوسين في سجنه يسألهم عن جرائمهم، فلما انتهى إلى القارئ قال له: فيم حُبست؟ قال: في ابن نوح!!! أصلح الله الأمير. فأمر بإطلاقه.
أذكرك بمقولة شيخ الإسلام مرةً أخرى: "الباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة".
الوقفة السابعة:
وهي عبارة عن أربع مقاطع متفرقة من أربع كتب مختلفة لشيخ الإسلام إذا جمعت بعضها إلى بعض فإنها تلقم حجراً أولئك الذين يفسرون النوايا، ويحكمون على الناس من خلال بواطنهم وكأنهم علموا الغيب. فشيخ الإسلام يقعّد تقعيدات غاية في الروعة والبيان والتأصيل في هذه القضية فيقول - رحمه الله - في السبعينية:
" قد بينا أن المؤمن الذي لا ريب في إيمانه قد يخطئ في بعض الأمور العلمية الاعتقادية، فيغفر له كما يغفر له ما يخطي فيه من الأمور العملية، وأن حكم الوعيد على الكفر لا يثبت في حق الشخص المعين حتى تقوم عليه حجة الله التي بعث بها رسله، وأن الأمكنة والأزمنة التي تفتر فيها النبوة لا يكون حكم من خفيت عليه آثار النبوة حتى أنكر ما جاء به خطأً، كما يكون حكمه في الأمكنة والأزمنة التي ظهرت فيها آثار النبوة ". انتهى...
نعم إن المؤمن الذي لا نشك في إيمانه وإخلاصه وحبه للخير قد يخطئ في بعض الأمور العلمية العقدية، وهذا ما دام أنه لم يتعمد الخطأ، وقد أخطأ مجتهداً فهو مأجور غير مأزور، فيغفر له كما لو وقع في خطئٍ بعض الأمور العملية.
المقطع الثاني يقول - رحمه الله - في كتاب الإيمان:
"لا يُجعل أحد بمجرد ذنب يذنبه ولا ببدعة ابتدعها ولو دعا الناس إليها كافراً في الباطن إلا إذا كان منافقاً، فأما من كان في قلبه الإيمان بالرسول وما جاء به وقد غلط فيما تأوله من البدع، فهذا ليس بكافر أصلاً". انتهى...
وهذه قاعدة مهمة جداً في هذا الباب ويضم للكلام السابق، فليس كل من وقع في البدعة فهو مبتدع وليس كل من وقع في الكفر فهو كافر، حتى يُبين له بأن هذه بدعة وهذا كفر، والتبيين يكون بالأدلة الشرعية، فما حكم عليه الله ورسوله بأنه بدعة فهو البدعة وما حكم الله عليه ورسوله بأنه كفر فهو كفر، فإذا أقيمت الحجة على المكلف بأن تحققت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع وبقي بعد ذلك على ما هو عليه من البدعة أو الكفر عندها يقال فلان كذا وكذا.
أرعني سمعك جيداً للمقطع الثالث العجيب من كلام شيخ الإسلام، الذي هو الغاية في فهم مقاصد الشريعة، يقول - رحمه الله -:
"والخير والشر درجات فيقتنع بالخير اليسير إذا لم يحصل ما هو أكثر منه ويدفع الشر الكبير بالشر اليسير، وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار، فأسلم على يديه خلق كثير وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفاراً، والنبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الخلق بغايته الإمكان ونقل كل شخص إلى خير مما كان عليه بحسب الإمكان ولكل درجات مما عملوا به وقد بعث بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد أو تقليلها". انتهى...
بإجماع السلف أن الجهمية كفار، ومع ذلك يقرر ابن تيمية بأن خروج الشخص من الكفر ودخوله في الرفض أو التجهم خير له من أن يبقى على كفره، فنرضى أحياناً وفي بعض الأزمنة وفي بعض الأمكنة بالخير اليسير إذا لم يحصل ما هو أكثر منه، وندفع بقدر الإمكان الشر الكبير بفعل الوقوع في الشر اليسير، فإن الشرع ما جاء إلا بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها.
أين نحن من هذا الفهم؟ ومن هذه القواعد والفوائد؟ ألا فليقرأ كلام شيخ الإسلام أولئك الذين بدّعوا عباد الله وأخرجوهم من دائرة أهل السنة وما علمنا منهم إلاّ خيراً. وتجاوزاً نقول أنهم وقعوا في بدعة وأخطؤوا في أمور علمية عقدية تنـزلاً مع كلامهم، فهل أثبتوا بالأدلة الشرعية بدعية ما وقعوا فيه؟ أم هو تخرصات وأوهام لا حقيقة لها؟ ثم هل أُقيمت عليهم الحجة؟ لا أظن أن كل هذا حصل فأنسب ما يمثل به هؤلاء ما وصفهم به شيخ الإسلام عندما قال وهذا هو المقطع الرابع من كلامه تجده في منهاج السنّة:
" الجاهل في كلامه على الأشخاص والطوائف والمقالات بمنـزلة الذباب الذي يقع على العقر ولا يقع على الصحيح، والعقل يزن الأمور جميعاً هذا وهذا ".
والمعنى أن همّ مثل هذا الإنسان هو تصيّد الأخطاء والوقوف على الزلات والذي يبحث يجد، فمن من البشر لا يزل، وفي المقابل يترك هذا الكم الهائل وهذه الأطنان المتراكمة من قوله الصحيح السليم النافع لعباد الله. فإن مَثَلَ هذا مَثَلَ الذباب الذي لا يقع إلا على الجرح ويدع الصحيح السليم. نعوذ بالله من الخذلان.
الوقفة الثامنة:
من كتاب الفتاوى المصرية: قال - رحمه الله -:
"الذي يعين حضور القلب في الصلاة شيئان: قوة المقتضى وضعف الشاغل، أما الأول فاجتهاد العبد في أن يعقل ما يقوله ويفعله ويتدبر القرآن والذكر والدعاء ويستحضر أنه مناج لله كأنه يراه، ثم كلما ذاق العبد حلاوة الصلاة كان انجذابه إليها أوكد، وهذا يكون بحسب قوة الإيمان، والأسباب المقوية للإيمان كثيرة.
وأما زوال المعارض فهو الاجتهاد في دفع ما يشغل القلب من تفكر الإنسان فيما لا يعنيه، وتدبر الجواذب التي تجذب القلب عن مقصود الصلاة، وهذا في كل عبد بحسبه". انتهى...
من منّا لا يشتكي من قلة الخشوع في الصلاة، من منّا لا يشتكي من ضعف حضور قلبه، الله المستعان، كلنا ذلك الرجل لكن منّا المقل ومنّا المستكثر، كيف لا يكون ذلك وقد أخرج الترمذي والحاكم من حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً جالساً بين أصحابه فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: "هذا أوان أن يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء" فقال زياد بن لبيد أحد الأنصار: يا رسول الله، كيف وقد قرأنا القرآن فوالله لنَقرأَنّه ولنُقرأنّه نساءنا وأبناءنا" فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدك من فقهاء المدينة، هؤلاء اليهود والنصارى في أيديهم التوراة والإنجيل فما أغنى عنهم)) قال زبير بن نفير الحضرمي راوي الحديث، وأحد ثقات التابعين، قال: فلقيت عبادة بن الصامت -رضي الله عنه-، فقلت له: "ألا تسمع ما يقوله أخوك أبو الدرداء؟" قال: "وما يقول؟" قال: "فذكرت له ما قال". فقال: "صدق أبو الدرداء، إن شئت لأخبرنّك بأول علم يرفع من الأرض، الخشوع، يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً".
فشيخ الإسلام يقرر بأن حضور القلب في الصلاة يتعين بأمران: قوة المقتضي وضعف الشاغل. ثم شرح الأول فقال: أما الأول فاجتهاد العبد في أن يعقل ما يقوله ويفعله ويتدبر القرآن والذكر والدعاء ويستحضر أنه مناج لله كأنه يراه.
وكلامه - رحمه الله - صحيح، فإن كثيراً من الناس يصلي ولو سألته عن معنى ما يقرأ به أو يدعو به أو يذكر ربه به ما عرف، ثم يشتكي بأنه لا يخشع في صلاته، لا إشكال في أنك ما عرفت، لكن الإشكال هو أنك إلى الآن لم تسأل عن ما لم تعرف ولا فكرت أن تتعلم لتعرف، فلو قلت له: أنت تقول في صلاتك: سبحانك اللهم وبحمدك، ما معنى سبحانك اللهم وبحمدك؟ لأجاب لا أعرف. ما معنى وتعالى: جدُك؟ الجواب لا أعرف. أنت تقول في صلاتك: التحيات لله والصلوات والطيبات، فما معنى التحيات لله؟ الجواب لا أعرف. تقول: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد، ما معنى ولا ينفع ذا الجد منك الجد؟ نفس الجواب السابق، هذا شيء أنت تقوله باستمرار لماذا لا تبحث عنه؟ لماذا لا تسأل عنه؟ ثم تشتكي من عدم حضور القلب في الصلاة. عدم معرفتك لما تتلفظ به في الصلاة من الأسباب التي تجعلك لا تخشع. هذا أمر الأمر الثاني الذي ذكره شيخ الإسلام والذي يعين على حضور القلب هو: ضعف الشاغل. فكلما قوي الشاغل قوي الصارف وضعف حضور القلب ونقص الخشوع.
والشواغل التي تشغل المصلي عن صلاته وتُضعف خشوعه نوعان:
النوع الأول: شواغل تأتي من الخارج وهذا أمرها بسيط بالنسبة للنوع الثاني ويمكن للعبد التخلص منها، كالأشياء التي تراها بعينك أمامك في قبلتك تشغلك عن الصلاة، هذه تزيلها وأمرها ينتهي، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم–: ((كما في الحديث المتفق عليه أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى وكان عليه أنبجانية (ثوب) فيه أعلام فقال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم واتوني بأنبجانية أبي جهم فإن أعلامها ألهتني عن صلاتي)). ومثله حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- ما عند النسائي: ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب وفي يده خاتم فألقى بالخاتم وقال: "إليكم نظرة وإلى الخاتم نظرة")).
إذن: كل ما يلهيك عن الصلاة تزيله إذا تمكنت من إزالته، وإن لم تتمكن فتغض بصرك عنه وتنظر إلى موضع سجودك.
ومن الأشياء الخارجة والتي تشغل المصلي أيضاً: الأشياء المسموعة، لو كنت تصلي إلى قوم يتحدثون، أحياناً ينشَدّ الإنسان إلى حديثهم، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى كراهية الصلاة إلى قوم يتحدثون. ومثله الأماكن التي فيها أصوات مزعجة كبعض الورش والمصانع ونحوها، هذه يمكن التخلص منها بأن يذهب الشخص ويصلي في مكان آخر.
النوع الثاني: شواغل يكون مبعثها من القلب: وهذا هو الخطير؛ لأنها من الداخل والقلب يحتاج إلى مجاهدة، لذلك الذين يسألون كيف نخشع يريدون علاجاً سريعاً كمفعول بعض الحبوب عند تناولها، وهذا لا يحصل في موضوع حضور القلب في الصلاة، والأمر يحتاج إلى مجاهدة وتعب وهذا له طريقان:
الطريق الأول: أن تدفع الخواطر القلبية دفعاً مؤقتاً وذلك بأن تفعل الأمور التالية: تبكر إلى الصلاة، تقرأ شيئاً من القرآن قبل إقامة الصلاة، تصلي ما تيسر لك من النوافل، تجديد الوضوء لكل صلاة، وهذه أمور يمكن أن تفعلها وهي تساعد كثيراً بحيث يتجرد القلب من الشواغل ويتجمع بعض الشيء قبل دخولك في الصلاة، وهذا أمر سهل يمكن أن تعود نفسك عليه، والخير عادة كما قيل، حتى تقبل على صلاة الفرض وأنت متجرد عن الشواغل والملهيات، وهذا من الثابت لغةً وشرعاً وواقعاً وفطرةً أن هذا أمر ممكن أن يتم لكن بالاستمرار وسيحصل العبد على خير كثير. أما أن يكون الإنسان منذ أن يصلي الفجر وحتى الظهر وهو منشغل بأمور الدنيا، ثم من الظهر إلى العصر، وهكذا حتى العشاء يشتغل إما بقلبه أو بجوارحه أو مكالمة هاتفية أو مراسلة أو مكاتبة، بحيث أن أغلب الصلوات إذا حضرها في المسجد يأتيها وقد فاته بعضها، فهو قبل دخوله في الصلاة بلحظات كان منشغلاً بغيرها، فتنتهي الصلاة ولم يتمكن بعد من التخلص من المؤثرات التي كانت قبلها، ثم يقول أنا لا أستطيع أن أستحضر قلبي في الصلاة، فنقول له لن تستحضر قلبك ما دامت حياتك كلها أصبحت ضائعة في طلب الدنيا، ولو طردت الهواجس والوساوس بعض الشيء فإنها سرعان ما تعود إليك.
الطريق الثاني: قطع القلب عن الدنيا بحث يكون همّ وأصل اشتغال العبد بقضايا الآخرة، حياتك كلها لا بد أن تكون للآخرة، بمعنى أن تغيّر منهجك في الحياة، لا ترضى أن تكون عبداً للدرهم والدينار، والوظيفة والريال والعمل والمنصب والعيال، فلا ترضى أن تكون عبداً إلا لله، تكتب على حياتك كما قال بعضهم: وقف لله تعالى، يكون قيامك وقعودك وذهابك وإيابك في سبيل الله - عز وجل -، إذا فعلت ذلك تكون حتى الوساوس والخواطر التي تعرض لك في الصلاة تكون خواطر شرعية كما ثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: " والله إني لأجهز الجيش وأنا في الصلاة ". فيقطع الإنسان قلبه عن الدنيا ويكون همّه معالي الأمور لا سفسافها، يكون همّه الدعوة، العبادة، الأعمال الصالحة، ولا مانع بعد ذلك أن يعمل للدنيا؛ لأن مثل هذا الإنسان ستكون الدنيا في يده لا في قلبه أُنظر إلى الدنيا كما وصفها الشافعي - رحمه الله - تعالى: عندما قال:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها *** وسيق إلينا عذبها وعذابها
فما هي إلا جيفة مستحيلة *** عليها كلاب همهنّ اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها *** وإن تجتذبها نازعتك كلابها
فلا تتنازع يا أخي مع كلاب الدنيا على الدنيا، بل اجعل همك الله والدار الآخرة، ثم انظر بعد ذلك هل تخشع أو لا تخشع، هل تستحضر قلبك في الصلاة أو لا تستحضر. أسأل الله الإعانة لي ولكم.
الوقفة التاسعة:
قال - رحمه الله - في كتاب الاختيارات:
" يجوز اللعب بما قد يكون فيه مصلحة بلا مضرة وكل ما أفضى إلى المحرم كثيراً حرمه الشارع إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، كأن يكون سبباً للشر والفساد وما ألهى وشغل عما أمر الله به فهو منهي عنه وإن لم يحرم جنسه كالبيع والتجارة، وأما سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو وضروب اللعب مما لا يستعان به في حق شرعي فكله حرام ويرخص للصغار ما لا يرخص للكبار ". انتهى...
لقد حرم الإسلام ألعاباً معينة نص على تحريمها كاللعب بالنرد والشطرنج وغيرها، وحث على ألعاب معينة لما فيها مصلحة ظاهرة للإسلام كالرماية والسباحة وركوب الخيل، وسكت عن أنواعٍ أخرى كثيرة من الألعاب مما يدل على إباحتها في الأصل لكن يحكم على جوازها من حرمتها بمآلاتها وبما تفضي إليه، ولهذا قال - رحمه الله - في هذه القاعدة البديعة: " يجوز اللعب بما قد يكون فيه مصلحة بلا مضرة وكل ما أفضى إلى المحرم كثيراً حرمه الشارع إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، كأن يكون سبباً للشر والفساد وما ألهى وشغل عما أمر الله به فهو منهي عنه وإن لم يحرم جنسه".
ولهذا بعد ضبط هذه القاعدة أظن أنه يتضح لك حكم اللعبة الفلانية، أو الرياضة الفلانية، وكثير من الناس ممن كان يشكل عليهم وضع لعبة كرة القدم وأعني وضعها الحالي من تنصيب الأندية لها والمسابقات والدوريات والمنافسات بين الدول وبذل الأموال، بل وضع الرياضة العالمية بشكل عام، فلعل بعد نقل كلام شيخ الإسلام يتضح في الأمر شيء ويتبين لك بعض حُكمٍ، فينظر في اللعبة المعينة أو الرياضة المعينة هل فيها مصلحة ظاهرة للدين أم هي مضرة؟ هل تُفضي إلى أمور حُرّمت في الشرع أم لا؟ هل تكون سبباً للشر والفساد أم ينتشر الخير ويعم الإصلاح؟ هل يُلهي ويُشغل عمّا أمر الله أم أنها تساعد على طاعة الله والإكثار من الأعمال الصالحة؟ فبعد النظر في هذه المآلات وما تُفضي إليه بعين الإنصاف يتبين لكل عاقل جوازها من حرمتها. أذكرك مرة أخرى بآخر كلام شيخ الإسلام فإنه ضابط مهم جداً في المسألة حيث قال: "وأما سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو وضروب اللعب مما لا يستعان به في حق شرعي فكله حرام ويرخص للصغار ما لا يرخص للكبار".
وبعد سماعك لهذا التقرير البديع من كلام ابن تيمية - رحمه الله - لا بأس أن أقرأ عليك فتوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتى الديار في سؤال وجه إليه عن حكم الرياضة في الإسلام وإن كان فيه بعض طول لكن لأهميته سأقرأه كاملاً فقال - رحمه الله -:
أما السؤال عن حكم الرياضة في الإسلام فلا شك في جواز أو استحباب ما كان منها بريئاً هادفاً مما فيه تدريب على الجهاد وتنشيط للأبدان وقلع للأمراض وتقوية للأرواح، فلقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سابق بالأقدام، وسابق بين الإبل، وسابق بين الخيل، وحضر نضال السهام، وصار مع إحدى الطائفتين وطعن بالرمح، وركب الخيل مُسرجة ومُعرّاة، وصارع ركانة فصرعه. وقد بسط الإمام ابن القيم - رحمه الله - بحث هذا في كتابه " الفروسية " كما أشار - رحمه الله - في كتاب " زاد المعاد " إلى أن ركوب الخيل ورمي النشّاب والمصارعة والمسابقة بالأقدام كل ذلك رياضة للبدن قالعة للأمراض المزمنة كالاستسقاء والقولنج. ونص شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - على حكم الشرع في الكرة نفسها فقال في " باب السبق " في مختصر فتاواه فقال - رحمه الله -: ولعب الكرة إذا كان قصد صاحبه المنفعة للخيل والرجال بحيث يستعان بها على الكر والفر والدخول والخروج ونحوه في الجهاد وغرض الاستعانة على الجهاد الذي أمر الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو حسن، وإن كان في ذلك مضرة بالخيل أو الرجال فإنه يُنهى عنه.
وبعد هذا النقل من ابن تيمية أكمل سماحته فتواه فقال: وبمناسبة الحديث عن الألعاب الرياضية وتعريجنا على اللعب بالكرة وإيرادنا ما ذكره الشيخ من النهي عن اللعب بها إذا كان فيه مضرة بالخيل والرجال يحسن أن نغتنم هذه الفرصة لنقول بأن اللعب بالكرة الآن يصاحبه من الأمور المنكرة ما يقضي بالنهي عن لَعِبها، هذه الأمور نلخصها فيما يأتي:
أولاً: ثبت لدينا مزاولة لَعِبها في أوقات الصلاة مما ترتب عليه ترك اللاعبين ومشاهديهم للصلاة أو للصلاة جماعة أو تأخيرهم أداؤها عن وقتها، ولا شك في تحريم أي عمل يحول دون أداء الصلاة في وقتها أو يُفوّت فعلها جماعة ما لم يكن ثم عذر شرعي.
ثانياً: ما في طبيعة هذه اللعبة من التحزبات أو إثارة الفتن وتنمية الأحقاد وهذه النتائج عكس ما يدعو إليه الإسلام من وجوب التسامح والتآلف والتآخي وتطهير النفوس والضمائر من الأحقاد والضغائن والتنافر.
ثالثاً: ما يصاحب اللعب بها من الأخطار على أبدان اللاعبين بها نتيجة التصادم والتلاكم مع ما سبق ذكره، فلا ينتهي اللاعبون بها من لعبتهم في الغالب دون أن يسقط بعضهم في ميدان اللعب مغمى عليه أو مكسورة رجله أو يده، وليس أدل على صدق هذا من ضرورة وجود سيارة إسعاف طبية تقف بجانبهم وقت اللعب بها.
رابعاً: عرفنا مما تقدم أن الغرض من إباحة الألعاب الرياضية تنشيط الأبدان والتدريب على القتال وقلع الأمراض المزمنة، ولكن اللعب بالكرة الآن لا يهدف إلى شيء من مبررات إباحة الألعاب الرياضية، وإن هدف إلى شيء من ذلك فقد اقترن به مع ما سبق ذكره ابتزاز المال بالباطل فضلاً عن أنه يعرض الأبدان للإصابات وينمي في نفوس اللاعبين والمشاهدين الأحقاد وإثارة الفتن، بل قد يتجاوز أمر تحيّز بعض المشاهدين لبعض اللاعبين إلى الاعتداء والقتل كما حدث في إحدى مباريات جرت في إحدى المدن منذ أشهر، ويكفي هذا بمفرده لمنعها. وبالله التوفيق. والسلام عليكم. انتهى فتواه - رحمه الله - من المجلد الثامن. (8/115).
الوقفة العاشرة:
قال - رحمه الله - في رسالة تفسير المعوذتين:
"والأصل الذي دل عليه الكتاب والسنة أن من فعل محظوراً ناسياً لم يكن قد فعل منهياً عنه، فلا يبطل بذلك شيء من العبادات، ومن ترك مأموراً فعليه إعادة ما أمكن إعادته". انتهى...
وهذه قاعدة مهمة جداً تريح المكلف كثيراً في ضبط عباداته فيما لو فهم هذه القاعدة فلو فعل الإنسان المحظور ناسياً ولم يعلم إلاّ بعد فراغه من العبادة فالعبادة صحيحة، بخلاف ما لو ترك المأمور المتعلق بهذه العبادة ولو ناسياً فالعبادة باطلة وعليه الإعادة، وإليك المثال:
رجلان صليا، أحدهما صلى بثوب نجس ولم يعلم إلاّ بعد فراغه من الصلاة، والآخر صلى وهو محدث ناسياً ولم يعلم أيضاً إلاّ بعد فراغه من الصلاة. فيقال للأول صلاتك صحيحة وليس عليك الإعادة، ويقال للثاني صلاتك باطلة وعليك الإعادة، ما السبب؟ السبب: لأن الأول الذي صلى في الثوب النجس وهو لا يعلم قد وقع في محظور، والثاني الذي صلى محدثاً وهو لا يعلم أيضاً قد ترك المأمور. وتقعيد شيخ الإسلام الذي سمعت أن العبادة لا تبطل بفعل المحظور ناسياً بخلاف ترك المأمور فإنها تبطلها ولو نسياناً. ولهذه القاعدة من الأدلة في الكتاب والسنة ما دلت عليها ليس هذا موطن بسطها.
الوقفة الحادية عشرة:
وهي آخر الوقفات قال - رحمه الله تعالى-: في الفتاوى 20/59:
"إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر. فالعالم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسليماً إلى بيانها". انتهى
وهذا فقه عزيز، وهو أن تُسأل عن مسائل وأنت تعرف الجواب، ويكون الجواب هو السكوت. إن إنزال هذه الفقه على أرض الواقع، والتطبيق العملي لها يحتاج إلى فقه. متى تكون المصلحة في الجواب، ومتى تكون المصلحة في السكوت عن الجواب. وقد أعطى شيخ الإسلام مثالاً واحداً ونموذجاً واقعاً لهذا الفقه فقال: كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر. فالإسلام في أول أمره وأول ما بدأ يدخل بيوتات مكة ويسلم بعض القلة من أهلها، كانوا حديث عهد وما زالت ركام الجاهلية مترسخة في النفوس، فكان من الحكمة السكوت عن أشياء، وعدم تحريم بعض الأشياء إلا بالتدريج حتى تقبلها النفوس المقبلة على هذا الدين الجديد. ثم وجه شيخ الإسلام نصيحة مهمة للعلماء ولطلاب العلم خصوصاً ممن يعيشون في أوضاع يكون فيها الشر هو الغالب، ويكون مفسدوا المجتمع أكثر من مصلحوها والغلبة للباطل وأهله، فقال - رحمه الله - فالعالم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن. لأن هناك كثير من الحق لا يتمكن صاحب الحق أن يظهره، بسبب الأوضاع التي يعيشها. كما أخّر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فمن الفقه السكوت في مثل هذه الأحوال والأوقات، وهي أوقات غربة الدين وقلة الناصر والمعين، وضعف العلماء وتمكن الباطل وأهله. لأن المفسدة المترتبة على البيان والبلاغ أعظم من مصلحة البيان والبلاغ. وهذا الفقه من شيخ الإسلام ينفع كثيراً من يتصدى للتربية، ومن حمّلهم الله مسئولية المحاضن التربوية، ينبغي لهم فقه هذا الكلام وهو السكوت عن إيضاح بعض الأحكام وأنت ترى ممن تتعامل معهم وتربيهم أنهم واقعون فيها، ليس سكوتاً عن الحق لكن تأخير للبيان بعض الوقت حتى تتهيأ النفوس، كل ذلك في سبيل جذبهم إلى طريق الاستقامة بالتدريج، والله - جل وتعالى -: هو الهادي إلى سواء السبيل.
والله أعلم.. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً..