مشاهدة النسخة كاملة : اشْكَالاتُ الدَّلالَةِ النَّقْدِيَّةِ لِمصطلح القصيدة الطويلة في شعر التفعيلة المعاصر
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 15:26
اشْكَالاتُ الدَّلالَةِ النَّقْدِيَّةِ لِمصطلح القصيدة الطويلة في شعر التفعيلة المعاصر
منقول عن : العربي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
توطئة
التفت إلى مصطلح القصيدة الطويلة عدد من النقاد والشعراء –قديما وحديثا على نحو ما سنوضح آتيا-،في محاولة لبيان دلالة هذا المصطلح وملامحه الفنية، وفي هذا السياق تُعد دراسة الباحثة الملتزمة رقية حجازي "القصيدة الطويلة في الشعر العربي الحديث" (1) من الدراسات الحديثة الجادة التي حشدت لجملة من الآراء و التفسيرات النقدية التي طالت المصطلح موضع الدراسة،وهو جهد أفاد منه الباحث في سعيه لتقديم رؤيته الخاصة، ومع أن الباحثة قد اعتذرت في شكرها لأستاذها عن التقصير الذي استشعرته في بحثها ،فإننا لا نجحد القيمة العلمية لما قدمت ،ولكن نأخذ عليها عدم اتخاذها موقفا نقديا واضحا من كثير من الآراء التي وقفت عليها، بل إننا كنا نجدها تتابع كثيرا من الأقوال والآراء،أو تكتفي بعرضها دون أن تعلل ذلك أو تبرره،كتسليمها بما ذهب إليه عز الدين إسماعيل وغالي شكري من أن هناك "أمرين هامين تقوم عليهما القصيدة الطويلة هما:التعقيد والفكرة"(2)، وكذلك تسليمها باقتران "صفة الدرامية بالطول في القصيدة" (3)،وقد حاولت الباحثة أن تكشف في الفصل الأول من دراستها عن التسميات والصفات التي قرنها النقاد بالقصيدة موضع البحث كالطويلة،والكلية،والمركبة،دون أن تناقش شيئا من ذلك،وهو ما يدفعنا إلى محاولة الإضافة إلى ما انتهت إليه الباحثة،واستدراك ما قد يكون فاتها،من خلال مناقشة أبرز الآراء النقدية التي بحثت في مصطلح القصيدة الطويلة، واتخاذ موقف ورؤية خاصة من الإشكالات التي طالت المصطلح .
(1)حجازي،رقية :القصيدة الطويلة في الشعر العربي الحديث ،رسالة ماجستير غير منشورة ،الجامعة الأردنية،
عمان ، الأردن ،1994
(2 )المصدر نفسه، ص 22.
(3)المصدر نفسه، ص 25.
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 15:32
عرف العرب القدامى الشعر قصيره وطويله (1)، لكنهم لم يقفوا على تعريف جامع مانع لمفهوم القصيدة ، و لم يجزموا بعدد الأبيات التي ينبغي أن تكون عليها ، وظل ذلك محل خلاف عند كثير منهم ، و من ذلك على سبيل المثال ما أورده صاحب اللسان تحت مادة (قصد)، فيقول: " و قال أبو الحسن الأخفش :...، "و ليست القصيدة إلا ثلاثة أبيات"،فجعل القصيدة ما كان على ثلاثة أبيات، قال ابن جني:وفي هذا القول من الأخفش جواز ؛وذلك لتسميته ما كان على ثلاثة أبيات قصيدة ، والذي في العادة أن يُسمى ما كان على ثلاثة أبيات أو عشرة أو خمسة عشر قطعة،فأما ما زاد على ذلك فإنما تسميه العرب قصيدة" (2)،و قال ابن رشيق:" وقيل إذا بلغت الأبيات سبعة فهي قصيدة ، ولهذا كان الإيطاء بعد سبعة غير معيب عند أحد من الناس،و من الناس من لا يعد القصيدة إلا ما بلغ العشرة وجاوزها ولو ببيت واحد ، ويستحسنون أن تكون القصيدة وترا" (3).
والمتأمل في الأقوال السابقة يجد أن الطول فيها كان أمرا شكليا بصورة عامة ، و مع ذلك فإن بعض كتب الأدب قد تناقلت شيئا من الأخبار التي تكشف أن الطول لم يكن أمرا شكليا صرفا على الإطلاق ، بل إن للمضمون أثره في طول القصيدة،يقول أبو عمرو بن العلاء إن العرب" كانت تطيل ليسمع منها ،وتوجز ليحفظ عنها " (4)، و قال الخليل بن أحمد الفراهيدي: " و تستحب الإطالة عند الإعذار، والإنذار، والترهيب، والترغيب، والإصلاح بين القبائل كما فعل زهير والحارث بن حلزة ومن شاكلهما ،وإلا فالقطع أطير في بعض المواضع ، و الطول للمواقف المشهورات"(5)،ووضع ابن رشيق في العمدة بابا أسماه باب في القطع والطول) جاء فيه:"غير أن المطيل من الشعراء أهيب في النفوس من الموجز وإن أجاد، على أن للموجز من فضل الاختصار ما ينكره المطيل، ولكن إذا كان صاحب القصائد دون صاحب القطع بدرجة أو نحوها، وكان صاحب القطع لا يقدر على التطويل إن حاوله بتةً سوي بينهما ؛ لفضل غير المجهود على المجهود، فإنا لا نشك أن المطول إن شاء جرد من قصيدته قطعة أبيات جيدة ، ولا يقدر الآخر أن يمد من أبياته التي هي قطعة قصيدة " (6)، و في حديثه عن القصائد السبع الطوال حاول ابن أبي طاهر طيفور أن يحدد المسوغات التي تقدمت بها تلك القصائد(7) و الأسس التي اعتمدها " ومما لا ريب فيه أن طول تلك القصائد كان أبين تلك الأسس، ولكن ابن طيفور يورد تعليلات أخرى لا ندري هل كانت قائمة في أذهان الذين اختاروا تلك القصائد، أو أنها نتاج تصوره الذاتي،فقد جعل:1-اشتمال القصيدة على معانٍ كثيرة لا مثل لها ،مثل قصيدة امرئ القيس وزهير 2-وانفرادها بمحاسن لم تجئ في غيرها وإطلاق خاتمة بليغة فيها كقصيدة طرفة. 3- وانفرادها في الوزن والعروض كقصيدة عبيد - جعل هذه الأمور عناصر في الحكم على الشعر الجيد " (8) ، ويرى حازم القرطاجني أن الطول يعود لمقصد الشاعر ،فيقول: " من القصائد ما يقصد فيه التقصير، ومنها ما يقصد فيه التطويل ، ومنها ما يقصد فيه التوسط بين الطول و القصر "(9)، و ما القصد الذي يشير إليه حازم القرطاجني إلا المضمون الذي من أجله طالت القصيدة أو قصرت أو توسطت .
(1) تحدث عدد كبير من النقاد القدماء عن الشعر العربي و أصوله ، و خاضوا في نشأته وحدّه ، ووقفوا على القول في
الرجز و القطع و القصيد ،و أولية ذلك ، و من الذين وقفوا على مثل هذه المسائل على سبيل المثال لا الحصر:ابن
سلام الجمحي في طبقات فحول الشعراء ، و ابن رشيق القيرواني في العمدة ، وقدامة بن جعفر في نقد الشعر،وابن
طباطبا في عيار الشعر، والجاحظ في البيان والتبيين والحيوان،وحازم القرطاجني في منهاج البلغاء،وابن خلدون في
مقدمته ، وسواهم.
(2)ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم.(ت711ﻫ)، لسان العرب ،ج 3 ، مادة (قصد) بيروت ، دار صادر ،
(د.ت) ، ص 355 .
(3)القيرواني ، ابن رشيق.(ت 463ﻫ) ،العمدة في محاسن الشعر و آدابه و نقده ،تحقيق:محمد محي الدين عبد الحميد،
ج1،ط1، القاهرة ،مطبعة حجازي ، 1934، ص 164 .
(4)العسكري ،أبو هلال.(ت بعد 395ﻫ)،الصناعتين:الكتابة و الشعر،ط1،تحقيق:علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل
إبراهيم ،دار إحياء الكتب العلمية ،عيسى البابي الحلبي، 1952،ص 192.
(5)ابن رشيق ، المصدر السابق ،ج1،ص 162 .
(6)المصدر نفسه ، ص 163 .
(7)طيفور ،ابن أبي طاهر (ت280 ﻫ)،المنثور و المنظوم:القصائد المفردات التي لا مثل لها ،تحقيق:محسن غياض،
ط1، بيروت –باريس ، منشورات عويدات ،ص 39 و ما بعدها .
(8)عباس ، إحسان : تاريخ النقد الأدبي عند العرب ، ط4 ،دار الثقافة ،بيروت،1983، ص 75 .
(9)القرطاجني ،حازم .(684ﻫ)،منهاج البلغاء و سراج الأدباء،تحقيق:محمد الحبيب بن الخوجة، تونس ، دار الكتب
الشرقية،1966، ص 303 .
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 15:39
و مع ذلك فقد ظل الأمر في كثير من المواضع مبهما، والصورة غير واضحة ،فنحن حين نقف على كتاب مثل (شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات) لابن الأنباري، أو جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي، ومن قبلهما المفضليات والأصمعيات، ونحاول البحث في مسوغات الاختيار الشعري، يتبين لنا أن الطول بدلالته الشكلية كان معيارا بارزا في اختيار كثير من القصائد ، ولعل المضمون كان معيارا لاحقا لدى بعضهم، فنحن نجد من النقاد من قدّم الشاعر أو أخره لطول قصائده أو عددها دون الاحتكام للمضمون ،ومن ذلك ما يرد عند صاحب الطبقات وصاحب الشعر والشعراء وغيرهما،فقد قال ابن سلام في حديثه عن الأسود بن يعفر: " وكان الأسود شاعرا فحلا ،وكان يكثر التنقل في العرب، ويجاورهم، فيذمّ ويحمد، وله في ذلك أشعار، وله واحدة رائعة طويلة لاحقة بأجود الشعر، لو كان شفعها بمثلها قدمناه على مرتبته"(1).وهذا ابن قتيبة في الشعر والشعراء حين يذكر طرفة بن العبد يقول:" وهو أجودهم طويلة" (2)، إلى أن يصل إلى ذكر الأعشى، فيقول: "قال أبو عبيدة: الأعشى هو رابع الشعراء المتقدمين، وهو يقدم على طرفة ، لأنه أكثر عدد طوالٍ جيادٍ" (3).ولمّا سئل أبو عبيدة عن جرير و الفرزدق والأخطل أيهم أشعر؟ اختار الأخطل ،وحين سئل بأي شيء فضُل عليهم، قال : "بأنه كان أكثرهم عدد قصائد طوالٍ جيادٍ ليس فيها فحش ولا سقط" (4) .
و مع أنه من الجلي تفضيل كثير من النقاد للقصيدة الطويلة إلا أننا لا نقف على حدود واضحة يمكن عندها إسباغ صفة الطول على القصيدة ،وقد يبدو الأمر مسوغا لهم على وجه من الوجوه ،إذ ليس من السهل أن نحدد عدد أبيات يمكن عندها بيان الحدود الفاصلة بين القصيدة الطويلة وغير الطويلة ،ومع ذلك لم يعدم الأمر من محاولة ميز القصيدة الطويلة عن سواها من خلال المضمون كذكر الأغراض والمواضع التي تستحب الإطالة فيها دون تفصيل المسألة أو بيانها.
و من جهة أخرى نجد بعض النقاد و الأدباء يرفض الإطالة و يستقبحها ، ويميل للإيجاز والقصد في الإبانة ، فقد جاء في العمدة : " قال بعض العلماء :يحتاج الشاعر إلى القطع حاجته إلى الطول ،بل هو عند المحاضرات ،و المنازعات ،و التمثل ،و الملح أحوج إليها منه إلى الطوال ، وقال أحد المجودين، وهو محمد بن حازم الباهلي:
أبى لي أن أطيل المدح قصدي إلى المعنى وعلمي بالصوابِ
وإيجازي بمختصرٍ قصيرٍ حذفت به الطويل من الجوابِ
وقيل لابن الزبعري: إنك تقصر أشعارك، فقال: لأن القصار أولج في المسامع، وأجول في المحافل، وقال مرة أخرى: يكفيك من الشعر غرة لائحة، وسبة فاضحة ، وقيل لبعضهم: لم لا تطيل الشّعر؟ فقال: حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق. وقيل ذلك لآخر، فقال: لستُ أبيعه مذارعة. وقيل للفرزدق: ما صيّرك إلى القصائد القصار بعد الطوال؟ فقال: لأني رأيتها في الصدور أوقع، وفي المحافل أجول. وقالت بنت الحطيئة لأبيها: ما بال قصارك أكثر من طوالك؟ فقال: لأنها في الآذان أولج، وبالأفواه أعلق. وقال أبو سفيان لابن الزبعري: قصرت في شعرك؟ فقال: حسبك من الشّعر غرّة لائحة، وسمةٌ واضحة. وقيل للنابغة الذبياني: ألا تطيل القصائد كما أطال صاحبك ابن حجر؟ فقال: من انتحل انتقر. "(5).
(1)الجمحي،ابن سلام(ت231ﻫ)،طبقات فحول الشعراء،ج1،شرحه:محمود محمد شاكر،مطبعة المدني،1974،ص147.
(2)الدينوري ، ابن قتيبة (ت276ﻫ).الشعر و الشعراء ،ط1، تحقيق: عمر الطباع ، بيروت ،شركة الأرقم بن أبي
الأرقم 1997 ، ص 118 .
(3)المصدر نفسه ، ص 173.
(4)الحموي، ياقوت (ت626ﻫ )، معجم الأدباء ، تحقيق : إحسان عباس ،ط1، ج6، بيروت ، دار الغرب الإسلامي ،
1993،ص2851.
(5)ابن رشيق.المصدر السابق ، ج1،ص 163.
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 15:42
ويمكن أن نخلص من المقتبسات السابقة إلى أن القصيدة الطويلة قديما قد وقعت موقعا عظيما في نفوس النقاد و الأدباء ، وقدموها على غيرها في غير ما موضع، واتخذ بعض النقاد نظرية الكم معيارا أساسيا للمفاضلة بين الشعراء ، فكانوا يقدمون الشاعر لكثرة قصائده الطوال ، لكن القدماء لم يتواضعوا على دلالة محددة لمفهوم القصيدة الطويلة، بل كانوا يسبغون على القصيدة صفة الطول أو الجودة دون أن يحددوا عدد الأبيات الواجب توافرها في القصيدة لتُعدّ طويلة ، غير أن نظرة إلى بعض القصائد التي عُدت عند بعض النقاد وأصحاب الاختيارت من الطوال الجياد تُظهر أن عدد الأبيات فيها كان يتراوح ما بين الخمسين و المئة، تنقص أو تزيد قليلا ، وقد استندت صفة الطول في القصائد العربية القديمة إلى جانبين :الشكل ، والمضمون ،وكان المظهر الشكلي هو الأغلب في تحديد صفة الطول ، وتبعه المضمون ،أي لم يكن المضمون وحده كافيا لتُعد القصيدة من الطوال إن لم يعاضده الشكل الخارجي، وهذا لا ينفي وجود من فضلّ القصيدة القصيرة وقدمها على الطويلة لأسباب وتعليلات-سبق بسطها في موضعها- نرى أن كثيرا منها قد يكون موضع خلاف ونظر،لا يتناسب المقام والإفاضة في بيانه.
* * *
ارتبط الحديث عن القصيدة العربية المعاصرة –قصيدة التفعيلة – وظروف نشأتها بالحديث عن أثر القصيدة الغربية فيها، ولا نحتاج إلى كثير استشهاد لبيان مدى افتنان كوكبة من رواد الشعر العربي المعاصر -و على الأخص شعراء التفعيلة- بالأعمال الشعرية الغربية وأعلامها بصورة عامة، بل إن كثيرا منهم قد عبّر بوضوح عن إعجابه الشديد بها ،نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الشاعر بدر شاكر السياب الذي يقول:" درست شكسبير وملتون والشعراء الفكتوريين ثم الرومانتيكيين، وفي سنتيَّ الأخيرتين في دار المعلمين العالية تعرفت لأول مرة بالشاعر الإنجليزي ت.س.إليوت ، وكان إعجابي بالشاعر الإنجليزي جون كيتس لا يقل عن إعجابي بإليوت" (1)،ويضيف الدكتور إحسان عباس في السياق ذاته:" والحقيقة أن السياب في بحثه عن منبع شعري يتلاءم وطبيعته ومنهجه وقع تحت تأثير كل من لوركا وأيديث ستيويل " (2)،ويقول في موضع آخر:"أما الشاعرة الإنجليزية – يعني ستيويل – فإن علاقته بها أقوى و أعمق ، وربما كان من الغريب أن تحتل أيديث ستيويل كل هذه المكانة في نفسه ، ...، وتحدث دائما عنها في إجلال بالغ ، وذهب يعلن في شيء من المباهاة أنه تأثر طريقتها في الشعر ، وقرنها دائما بإليوت ؛ليقول إن الشعر الإنجليزي الحديث عرف شاعرين عظيمين لا واحدا" (3)،أما القصائد الطويلة الغربية التي نود الإشارة إلى تأثيرها في شعرائنا الرواد فهي عديدة، لعل أهمها وأشهرها: الأرض اليباب ، والرجال الجوف لإليوت ، وأم ترثي طفلها لأيديث ستيويل، وملكة الجان لسبنسر، وعذابات شمشمون لملتون ، والبحيرة ل لامارتين إلى جانب قصائد لشيلي، وسان جون بيرس ، وكيتس، وغيرهم .
(1)عباس ،إحسان : بدر شاكر السياب:دراسة في حياته وشعره ، ط4، دار الثقافة،بيروت،1987 ، ص123.
(2)المصدر نفسه ، ص 251 .
(3)المصدر نفسه ، ص 254-255 .
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 15:49
و كما أن النقاد القدامى لم يجمعوا على أمر واحد في القصيدة الطويلة، فكذلك النقاد الغربيون المعاصرون اختلفوا في الأمر عينه، فنجد منهم من أقرّ وجود القصيدة الطويلة و أبدع عددا منها مثلما نجد عند الناقد و الشاعر ت.س.إليوت ، ومنهم من وقف موقفا وسطاً كذلك الذي يرى أن "عنصر الحجم أو الطول عنصر هام،وهو ليس هاما بذاته، وإنما بمقدار ما يجعل بالإمكان الزيادة في التواشج والتوتر ورحابة العمل، ...،و أن القصيدة الطويلة اليوم يجب أن تؤدي بدورها –مقابل ما تستغرقه من مدى-أكثر مما كانت تفعله في الماضي " (1) ، وهذا الرأي نجده من قبل عند أرسطو حين رأى أن " الطول الفني الأمثل هو الذي يسمح للبطل أن ينتقل من حال السعادة إلى حال التعاسة أو من حال التعاسة إلى حال السعادة، وذلك في سلسلة من الأحداث المترابطة ببعضها على أساس من التتابع الحتمي أو المحتمل" (2).
ويفرد هربرت ريد جزءا من كتابه (طبيعة الشعر) للوقوف على القصيدة الطويلة ،ويرى أن أكثر الشعراء "يطمح لنظم قصائد طويلة ، ويمكننا أن نقول تقريبا إن الاختلاف بين شاعر مفلق وشُعرور إنما هو القدرة على نظم قصيدة طويلة نظما ناضجا ، ولست قادرا على التفكير بأي شاعر يجازف المرء بتسميته (عظيما) في الوقت الذي يتألف فيه عمله الشعري من مقطعات قصار ليس غير، وطبيعيّ،على الرغم من ذلك أن يكون ثمة شعراء صغار كثيرون ممن توافرت لهم موهبة فذة لنظم المقطعات القصار ،لهم عدد من القصائد الطوال الخاوية التي تعزّ قراءتها، الأمر الذي يحط من منزلتهم "(4) ،فالشعراء الكبار في نظره هم الذين يستطيعون نظم القصائد الطوال و الذين لا يستطيعون ليسوا كذلك ، و هذا رأي نرى فيه مبالغة من الناقد، تحتاج إلى تعليل أعمق، و يصعب القطع فيها على النحو الذي سبق، مع أنه يتنبه إلى نقطة مهمة للغاية تتعلق بالطول، ذلك أنه " ليس ثمة معيار شامل ، و في غياب المقياس الطولي نكون مدفوعين إلى التفتيش عن مقياس نوعي، ثمة اختلاف بين القصيدة القصيرة و القصيدة الطويلة، لكنه ليس اختلافا في الطول بقدر ما هو اختلاف في الجوهر " (4) .
وهذا الاختلاف الجوهري بين القصيدة القصيرة و الطويلة " يعتمد على الغنائية ،فنحن غالبا ما ندعو القصيدة القصيرة قصيدة غنائية " (5)، ثم يردف قائلا:إن القصيدة الغنائية هي التي " تجسد موقفا عاطفيا مفردا أو بسيطا،القصيدة التي تعبر مباشرة عن حال ذهنية مسترسلة " ( 6 (http://www.dhifaaf.com/vb/showthread.php?t=13643#_ftn6))،أما القصيدة الطويلة " فهي القصيدة التي توحّد من خلال البراعة عددا أو كثيرا من مثل هذه الأمزجة العاطفية " (7)،وحين "يكون التصوّر معقدا جدا إلى حدّ يستدعي من العقل أن يتلقاه في سلسلة مفككة مرتِّبا هذه السلسلة أخيرا في وحدة شاملة ،تحدد القصيدة آنذاك بأنها طويلة " (8). و كثير من أنظار ريد السابقة وجدت من النقاد العرب من يسير عليها حذو النعل بالنعل،كما سنجد عند عز الدين إسماعيل، وغالي شكري، وخليل الموسى و غيرهم وفق ما سنبين في الصفحات الآتية.
(1)ويليك ،رينيه و وارين،أوستين (1932)، نظرية الأدب ،ترجمة : محي الدين صبحي ،مراجعة : حسام الخطيب،
ط3، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت ، 1985 ، ص 257 .
(2)أرسطو طاليس (ت 322 ق.م )،فن الشعر ،ترجمة :إبراهيم حمادة ،القاهرة،هلا للنشر و التوزيع، 1999،ص 36.
(3)ريد، هربرت :طبيعة الشعر ، ترجمة :عيسى العاكوب ، مراجعة :عمر شيخ الشباب، منشورات،دمشق، وزارة
الثقافة السورية ،ص 59.
(4)المصدر نفسه ، ص 60.
(5)المصدر نفسه ، ص 60.
(6)المصدر نفسه، ص 60.
(7)ريد، المصدر السابق ، ص 60.
(8)المصدر نفسه ، ص 64.
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 15:52
وعلى العكس من هربرت ريد فإن،الناقد والشاعر "إدجار آلان بو " يقف من القصيدة الطويلة موقفا صارما، يتمثل في رفضها التام،وعدّها "كذبة مفتعلة" وهو في هذا الرأي يناقش الأمر من ناحية القدرة الإبداعية والحالة النفسية للمبدع ،ويرى أن القصيدة : "لا علاقات لها بالعقل أو الوعي إلا بصورة جانبية، وهي لا تهتم إطلاقا بالواجب أو الحقيقة "(1) ،و قد ضمّن بو نظرياته عن الشعر وفصلها في مقاله " مبدأ الشعر " ،و مقال "العقلية في الشعر" ،ومقال "فلسفة التأليف" الذي يدعو فيه "إلى الإيجاز في كتابة الشعر،وكان يدعو إلى القصيدة التي يستطيع القارئ أن يقرأها في جلسة واحدة ، إنه يرمي القصيدة الطويلة بالتناقض، لأنها لا تحقق هدفها -وهو السمو بالروح لفترة من الوقت-إنه يقول إن القصيدة الطويلة تفتقر إلى الوحدة ، وهو في الوقت نفسه يعتقد أن قصائد هوميروس وملتون إن هي إلا سلسلة من القصائد القصيرة " (2).
ويرفض "فنسنت" هذا الرأي ويرى أنه " قد تكون القصيدة الطويلة قصيدة حقيقية من أول بيت فيها حتى آخر بيت،و لكن قد يكون العيب هو عيب القارئ ،قد يفتر انتباه القارئ و يضعف نتيجة لتعبه الخاص،لا نتيجة لطول القصيدة،ولكن بو لا يفكر في هذا الاحتمال ،كما أنه لا يفكر في احتمال شعور القارئ بلذة جمالية تتحقق إذا ما قرأ القصيدة الطويلة على دفعات" (3).واعترض جورج لوكاتش على تلك الأنظار التي تبناها إدجار بو، ورأى أنها ستصير إلى النسيان ،بل إن كُتّابا أقل منه بكثير –يعني بو – أعلنوا نظريات أشد ضحالة، لكنها سقطت في النسيان،يقول لوكاتش:" إن بو ينكر في بحثه الغني بالمعلومات المفيدة (المبدأ الشعري) إمكانية أثر شعري طويل قائلا :"إنني أقول أن ليس ثمة قصيدة طويلة،وأقول عن تعبير قصيدة طويلة هو ببساطة تناقض فاضح في حدّ الكلمة" ،و في عمله (فلسفة التأليف) يشرح زعمه هذا بقوله:" إن كل أثر لا يقرأ في جلسة لا يتصف بوحدة و شمولية ، إن كل ما نسميه قصيدة طويلة ليس في الواقع سوى تتابع قصائد أقصر، أي تأثيرات شعرية قصيرة وهذه كلها آراء مرفوضة" (4).و مع ذلك فإن اعتراض إدغار -و من انتهجه نهجه- على وجود القصيدة الطويلة اعتراض له ما يبرره من بعض الوجوه.
(1)روسلو،جان :ادغار آلا ن بو،ترجمة:كميل قيصر،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت،1978، ص140.
(2)بورانيللي،فنسنت(- 196)،إدجار آلان بو :القصصي و الشاعر،ترجمة :عبد الحميد حمدي ،مراجعة:أحمد خاكي،
القاهرة،دار النشر للجامعات المصرية ، ص 102 .
فنسنت ، المصدر السابق ، ص 102-103 .
(4)لوكاتش ،جورج (1948).دراسات في الواقعية، ط2، ترجمة :نايف بلّوز ، منشورات وزارة الثقافة،دمشق ،
1972،ص 207 .
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 20:11
لم يعد الطول –إن عُدّ ضد القِصر- إلا مظهرا خارجيا، ليس كافيا لبيان حقيقة هذا النمط الجديد من الشعر، وتحول الشعراء والنقاد إلى سمات أخرى،تتجلى في القصيدة الطويلة،وتتصل اتصالا وشيجا ببنائها،الفني الذي يبدو أنه يحاول بصورة عامة أن ينأى بنفسه عن الغنائية التقليدية ،و ينحى منحى دراميا ،أو ينفتح على الأجناس الأدبية الأخرى من خلال توظيف التقنيات المعاصرة ،و أدوات البناء الجديدة التي تُلح على الرؤية و التجربة المتكاملة ،و تحوّل الشكل إلى أداة لتحقيق تلك الغاية ،و نحاول في ما يأتي أن نقف على بعض أبرز الآراء التي بحثت في مفهوم القصيدة الطويلة عند النقاد و الأدباء العرب المعاصرين ، و بيان أبرز الخصائص والسمات التي توافرت فيها ، و العوامل المؤثرة في ظهورها .
يعدُّ الدكتور عز الدين إسماعيل من أوائل النقاد العرب الذين أوْلَوا القصيدة الطويلة اهتماما واسعا في كتابه "الشعر العربي المعاصر:قضاياه و ظواهره الفنية و المعنوية"،و يرى أنه خلال الخمسة عشرة سنة الأولى من بدايات القصيدة العربية المعاصرة " تم استكشاف عدة أطر للقصيدة ، كان آخرها إطار القصيدة الطويلة،وكان هذا التطور نفسه في إطار القصيدة الجديدة مصاحبا لبروز النزعة الدرامية و غلبتها على الشعر المعاصر " (1)،وسنلاحظ بعدها أن فكرة النزعة الدرامية والتعقيد في القصيدة الطويلة ستكون أساسا يبني عليه الدكتور عز الدين إسماعيل تصوره العام لقضايا القصيدة الطويلة الفنية والمعنوية،متأثرا في كل ذلك بما صدر عن هربرت ريد وعلى الأخص: ثنائية العاطفة والفكرة (2)، وتعريفه-أي ريد- للقصيدة القصيرة (الغنائية) والقصيدة الطويلة ، وأثر هو بدوره-إسماعيل- بالنقاد العرب الذين تبنوا ما تبنى من آراء واتجاهات تتصل بالقصيدة الطويلة.
يقول عز الدين إسماعيل :إن " مفهوم القصيدة قد تغير ، فلم تعد عملا إضافيا للإنسان،يزجي به أوقات فراغه،أو يمارس فيه هواياته ،وإنما صارت عملا صميميا شاقا ،يحتشد له الشاعر بكل كيانه ، صارت القصيدة تشكيلا جديدا للوجود الإنساني ، و مزيجا مركبا معقدا من آفاق هذا الوجود المختلفة أو –لنقل في إيجاز-إنها صارت بنية درامية "(3)، و يرى عز الدين إسماعيل أن عصر الملاحم الشعرية قد انتهى تقريبا من عصرنا هذا،وأن القصيدة الطويلة المعاصرة صورة بديلة للملاحم القديمة، و" نستطيع أن نقرر وفقا لنظرية تطور الأنواع الأدبية أن جوهر القصيدة الملحمية الطويلة قد ازداد وضوحا و نماء وتميزا في العصر الحديث ، ولم تفقد الملحمة إلا خصائصها الشكلية وملابساتها العامة ،كالطول المفرط ، و المدة الطويلة التي يستغرقها نظم القصيدة ،وكما تطور النوع تطور الاسم الذي يطلق عليه،فأصبحت"القصيدة الطويلة" بديلا من "الملحمة" " (4)،وإذا سلمنا بصحة الرأي السابق -على ما في ذلك من بعض التعسف- فإننا نقول بداية:إن كان هذا التفسير لظهور القصيدة الطويلة يصلح للآداب التي عرفت "الملحمة" فبماذا سنفسر ظهور القصيدة الطويلة في الشعر العربي المعاصر الذي يكاد يكون خاليا من "الملاحم" ؟ و أي نوع أدبي سيكون البديل الذي تطورت عنه القصيدة الطويلة عربيا؟
ثم يقول عز الدين إسماعيل: إن" القصيدة الطويلة قد أخذت تعمل في خفاء، لتدخل نوعا شعريا جديدا في الشعر العربي،لم يعرف فيه من قبل،هو (شعر الفكرة)،فلم يعد الشعر أنه مجرد مشاعر بل أصبح –كما يقول الشاعر ريلكه –خبرات إنسانية و تجارب عميقة" (5)، لكنه لا يوضح لنا هل القصيدة الطويلة التي تعمل في الخفاء في النص السابق هي القصيدة العربية أم الغربية ؟ ويبدو واضحا من النص أن عز الدين إسماعيل يلح على علاقة: (الفكرة) ↔ (القصيدة الطويلة) التي أخذها عن هربرت ريد جاعلا منها أساسا لمفهوم القصيدة الطويلة المعاصرة .
(1)إسماعيل ،عز الدين : الشعر العربي المعاصر :قضاياه و ظواهره الفنية و المعنوية، ط3، القاهرة ،دار الفكر
العربي،1978، ص240 .
(2)المصدر نفسه ، ص 241.
(3)عز الدين إسماعيل، المصدر السابق ، ص 248-252.
(4)المصدر نفسه ، ص 248 .
(5)المصدر نفسه ، ص 250 .
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 20:14
وكان الدكتور غالي شكري من الذين تحدثوا عن القصيدة الطويلة في وقت مبكر(1) أيضا، ورأى أنه "مما يؤكد طموح شعرائنا إلى اللحاق بركب هذه الحضارة هو ما نلاحظه من تجارب في باب (القصيدة الطويلة)" (2)،لكنه قبل أن يعرض لنماذج من تجارب شعرائنا المعاصرين مع القصيدة الطويلة، يطرح سؤالا مهما، ويجيب عنه فيقول : " ما هي القصيدة الطويلة ؟ أجاب الشاعر العربي القديم بما يمكن تسميته (المطولات) لا (القصائد الطويلة) ، فقد كان من مظاهر الإعجاز أن يكتب الشاعر في بحر واحد –وربما قافية واحدة-أكبر عدد ممكن من الأبيات،التي قد تصل المئات و الألوف ،...، أما ما تقوله هذه المطولات و طريقتها في القول فإنها أشياء لم تخطر على بال الشاعر العربي القديم إلا في القليل النادر " (3) ، و أيا ما كان موقفنا من هذا الرأي، فإن دلالته الواضحة تقطع الصلة بين القصيدة الطويلة المعاصرة والقصيدة الطويلة التقليدية ، أي لم يعرف العرب القدماء القصيدة الطويلة كما عرفها الشاعر المعاصر،و بذا تكون وافدة إلى الشعر العربي المعاصر ، ويصرح أن القصيدة الطويلة كتلك القصيدة التي نجدها عند الشاعر الأوروبي–يقصد إليوت- "الذي يقول لنا إن القصيدة الطويلة (تركيبة شعرية جديدة) لا علاقة لها بعدد الأبيات ، إن طولها مظهر خارجي فحسب ، هو نتيجة لأسباب أكثر عمقا ،...،ولا سبيل أن تستغني فيها عن مقطع بآخر ولا عن بيت بآخر" (4)، و بذا يتبنى غالي شكري القول بنسبة ظهور القصيدة الطويلة في الشعر العربي المعاصر إلى مؤثرات غربية ، وتصبح دلالة الطول مرتبطة بالرؤية و البناء الدرامي المعقد .
أما خليل الموسى –على تأخر طرحه النقدي مقارنة بسابقَيه - فإنه يتدرج في الوصول إلى دلالة مصطلح القصيدة الطويلة من خلال تعريف القصيدة القصيرة التي يرى أنها " ذات عاطفة واحدة منتشرة فوق مساحة القصيدة،وتسير في اتجاه واحد، ترافقها رؤية ممتدة على السطح، يوجهها شعور انفعالي حار، ولذلكتضحي القصيدة القصيرة بكثير من ميزات الإبداع، فهي تفقد عنصر الصراع، وتغدو متشابهةفي ظاهرها وباطنها، فالشعور الانفعالي يقود رؤية القصيدة ويوجهها ، ومنخصائصها أيضاً التقريرية والرتابة والحشو، فالتقريرية نتيجة للانفعال الحار الفوضوي، ولانعدام عنصري الصراع والحركة في بنية القصيدة. أما الرتابة فيفرضها الوزن الظاهري المكرر من جهة، وانعدام الحركة والتموج في بنية القصيدة من جهةأخرى. وأما الحشو فأمر ناتج عن كل ما تقدم " (5)،إلا أننا نرفض كثيرا من الصفات التي يسبغها خليل الموسى على القصيدة القصيرة، لأنها تحمل أحكاما غير معللة،ولا تلتفت إلى القيمة الفنية التي يمكن أن تتحقق من خلال القصيدة القصيرة تماما كما في القصيدة الطويلة ، ويبدو أن الهاجس الذي كان يدفعه لمثل هذا القول هو نفي مثل تلك الأوصاف عن القصيدة الطويلة، وهو أيضا مما لا نسلم به على نحو تام أو مطلق .
(1)ظهرت الطبعة الأولى من كتابه (شعرنا الحديث إلى أين) عام 1968 ، و صرح في مقدمة الكتاب أن مادته تتكون
من مجموعة بحوث نشرت قبل هذا التاريخ بخمس سنوات .
(2)شكري ، غالي : شعرنا الحديث إلى أين ؟ ،ط 3 ، بيروت ، دار الشروق ،1991، ص 95 .
(3)غالي شكري،المصدر السابق ، ص 95 .
(4)المصدر نفسه ، ص 96 .
(5)الموسى،خليل:مفهوما القصيدة الطويلة والقصيرة في شعرنا المعاصر،مجلة الموقف الأدبي،(عدد114) ،1980،
ص75.
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 20:18
ثم يحشد الموسى للقصيدة الطويلة تعريفا طويلا، يحوم حول مبدأ الفكرة المركبة ،والبناء الدرامي دون أن يضيف كثيرا إلى ما قاله كل من عز الدين إسماعيل و غالي شكري ،فيقول : القصيدة الطويلة " عمل شعري ضخم مركب معقد، ذو معمارية درامية، وبناء عضوي، يقوم على أساس الصراع بين عناصرفكرية متجاذبة في حوار داخلي، وتداخل أفقي شاقولي وظيفي، وقد تستخدم أسلوب القصوالحوار المسرحي للتعبير عن الحياة. والشاعر فيها وريث الحضارات الإنسانية بلااستثناء، فصوته يتداخل ضمن سيمفونية من الأصوات المختلفة، إلى أن تصير القصيدة قطعةمن الحياة في تطورها النفسي والفكري والاجتماعي. ثم هي تجربة تعبر عن رؤيا،باختصار: القصيدة الطويلة هي التي تعرف كيف توائم بين غنائيتهاوعمقها." ( 1 (http://www.dhifaaf.com/vb/newreply.php?do=postreply&t=13643#_ftn1))، ويسلّم كما ذهب غالي شكري من قبل إلى أن " القصيدة الطويلة حديثة العهد في شعرنا المعاصر، وأنها نتيجة لمؤثرات أوروبية وظروف عربية موائمة لها " (2) ،إنه باختصار لم يضف حرفا واحد جديدا لما جاء به كل من عز الدين إسماعيل أو غالي شكري اللذين كان واضحا جدا تأثرهما بالآراء النقدية الغربية التي عرضنا لجزء منها .
و ليس خليل الموسى هو الوحيد الذي ينطبق عليه هذا الحكم،بل إن الغالبية العظمى من النقاد العرب لم يزيدوا على التوسع أو الإيجاز أوتغيير الصياغة اللفظية في الحديث عن القصيدة الطويلة،كما ورد عند كل من عز الدين إسماعيل و غالي شكري،ونكتفي في هذا السياق بذكر بعض أمثلة على ما نقول كتلك التي نجدها عند جلال الخياط في قوله:" بدأت تنحسر ظلال الغنائية لتحل مكانها أجواء درامية ، وتضاءلت الأغراض القديمة، وصار الإنسان مدار مضامين شعرية،تحمل سمات محلية واضحة تؤدي إلى عالمية في الذيوع والانتشار" (3)،وإن كان الخياط أبدى وعيا لحقيقة الوصف الذي أسبغ على القصيدة الطويلة،وأنه يختص كثيرا بإطار من أُطر القصيدة الطويلة و تشكيلاتها ألا وهو(القصيدة الدرامية).
أما إبراهيم الحاوي فيقول مفرقا بين القصيدة القصيرة والطويلة:"إن القصيدة القصيرة ذات مستوى شعوري واحد،وموقف عاطفي يسير باتجاه محدد و ملموس،أما القصيدة الطويلة:فهي التي اجتمعت فيها عدة مواقف شعورية وخبرات فردية أو إنسانية متنوعة " (4)،و كذلك الدكتور وليد مشوح الذي يذهب إلى أن" التشكيل في القصيدة الطويلة لا يقوم على لحظة معينة من لحظات الرؤية الشعرية، وإنما يستمد مقوماته من الموقف الدرامي الذي تحكيه القصيدة الطويلة " (5) بل إن كثيرا من الدراسات المتخصصة بشاعر معين هي الأخرى تبنت الرأي ذاته.
(1)الموسى،المصدر السابق ، ص 81 .
(2)المصدر نفسه ، ص 81 -82
(3)الخياط ، جلال : الأصول الدرامية في الشعر العربي ، بغداد ، وزارة الثقافة و الإعلام،1975، ، ص6.
(4)الحاوي ،إبراهيم:حركة النقد الحديث و المعاصر في الشعر العربي، بيروت،مؤسسة الرسالة،1984، ،ص 209.
(5)مشوح،وليد،التشكيلات الحيوية في معمار القصيدة العربية الجديدة ،مجلة ثقافات ،كلية الآداب،جامعة البحرين(ع3)،
2000 ، ص 55 .
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 20:23
ومما يستوقفنا في العرض السابق ذلك الإلحاح على البناء الدرامي في القصيدة الطويلة، والنفور من النموذج الغنائي –و إن كان طويلا- حتى تكاد تكون القصيدة الطويلة عند كثير منهم هي القصيدة الدرامية ،ولعل ذلك يعود إلى " أنهم كانوا يبحثون عن البنية الفنية العليا للقصيدة الطويلة،البنية الدرامية التي هي وسيلة الشعر للبعد عن الغنائية،ولأنهم وجدوا أن النماذج المتميزة من القصيدة الطويلة ذات بنية درامية " (1)،لكن الخطير في الأمر هو ذلك التشدد للبناء الدرامي الذي ذهب معه بعض النقاد إلى أن " أية قصيدة تقع خارج هذا المفهوم هي مطولة،وليست قصيدة طويلة لسبب بسيط،هو افتقارها إلى البنية الدرامية التي أصبحت عاملا حاسما في تحديد هوية(القصيدة الطويلة) ، وفرزها عن نسختها المشوهة (القصيدة المطولة)" (2)،لكن نرفض هذا الرأي ونرى أنه ينبغي"ألا يتبادر للذهن بأن أي قصيدة طويلة هي درامية بالضرورة، فليس الطول وحدة ميزة للعطاء الدرامي" (3)،ولا يعني هذا أن القصيدة الطويلة "واحدة من أهم إنجازات الحداثة الشعرية العربية على مستوى البناء الفني للقصيدة في شكلها الجديد" (4)، دون أن ننتقص من قيمة البناء الدرامي و أثره في القصيدة المعاصرة، أو أهمية الغنائية حتى في القصيدة المعاصرة.
وبدا من الحديث السابق عن القصيدة الطويلة أن ضدها هو القصيدة القصيرة ،و أن القصيدة القصيرة هي القصيدة الغنائية ، ونرى أنها تُعد منجزا مهما، لا يقل شانا عن القصيدة الطويلة ، و لا نبالغ إن قلنا إن كثيرا من الشعراء الرواد والجيل الذي تلاهم قد أبدع هذا النوع من القصائد أكثر من القصيدة الطويلة، و قد بين عز الدين إسماعيل أن القصيدة القصيرة ما تزال " تشغل حيزا لا بأس به في دواوينهم-الشعراء الرواد- وما زال شعراء الجيل الطالع يكتبونها " (5).
و قد اهتم كثير من النقاد بالقصيدة القصيرة المعاصرة، فأشار غالي شكري إلى أن " إحدى ضربات الشعر الحديث القصيدة القصيرة المركزة الغنية بالإيماء والرمز والتدفق " (6)، وجرى أساس التفريق بينها والقصيدة الطويلة لدى كثير من النقاد على أساس الجوهر والمضمون،لا على أساس الطول أو الشكل الخارجي،ومع ذلك فقد كان الغالب"على القصيدة القصيرة صفة الذاتية والغنائية " (7)، وهذا رأي هربرت ريد الذي سبق بيانه ، و بقيت العاطفة البسيطة التي تعبر عن موقف شعوري موحد ، والذاتية المفرطة أكثر السمات الفنية المرتبطة بها والمميزة لها ، إلى جانب سمات معاصرة أخرى أبرزها التركيز و الكثافة ، والاستجابة السريعة من الشاعر ، و الخلو من البناء الدرامي الذي تمتاز به القصيدة الطويلة، وإن كنا نجد من يرى " أن البناء الدرامي ليس حكرا على القصيدة الطويلة ، بل بات من الممكن الإمساك بعناصره في القصيدة القصيرة نسبيا ، ما دام العرض الفني فيها متميزا بتصاعد وتيرة التأزم العاطفي والفكري " (8).
(1)حجازي،المصدر السابق ، ص 25.
(2)القصيري ، فيصل : بنية القصيدة في شعر عز الدين المناصرة،ط1،عمان ،دار مجدلاوي للنشر،2006، ،ص 40.
(3)أطميش،محسن : دير الملاك:دراسة فنية في الظواهر الفنية في الشعر العراقي المعاصر، بغداد ،منشورات
وزارة الثقافة و الإعلام،1977، ، ص 75 .
(4) القصيري ، المصدر السابق ، ص35.
(5)إسماعيل ، المصدر السابق ، ص 242.
(6)غالي شكري ، المصدر السابق ، ص 96.
(7)أطميش ، المصدر السابق ، ص15.
(8)بغدادي، شوقي ، تحولات في بنية القصيدة العربية ، مجلة الموقف الأدبي ، (ع3) سنة 1999،دمشق ،اتحاد الكتاب
العرب، ص 56.
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 20:25
ومن ضمن الإشكالات التي دارت حول القصيدة القصيرة -إضافة إلى ما اتصل ببنائها- إشكالية التسمية ، فقد ظهر لهذا النمط من القصائد أسماء متعددة ، و حاول كثير من النقاد أن يوضح نقاط افتراقها عن غيرها من المسميات ، ونأيا بالبحث عن الإطالة نكتفي بالإشارة إلى أبرز التسميات التي أُطلقت على هذا الشكل- سبع عشرة تسمية - كما رصدها الدكتور فيصل القصيري (1)، وهي :" القصيدة القصيرة أو الغنائية ، و القصيدة الشعرية المركزة ، و قصيدة التوقيعة ، و قصيدة الضربة ، وقصيدة الفقرة ، و قصيدة الدفقة ، وقصيدة الومضة، وقصيدة اللمحة، وقصيدة المفارقة ، وقصيدة الأسئلة ، وقصيدة النفس الواحد ،و قصيدة القص الشعري، و القصيدة الصورة ، و القصيدة الفكرة ، و القصيدة الخاطرة ، و القصيدة البرقية ، والقصيدة العنقودية " ، ويرى الدكتور علي الشرع " أن المستقِر في الاصطلاح هو القصيدة القصيرة short poem التي تنتظمها دفقة " (2).
أنماط القصيدة الطويلة
إن التأمل في الخلاف الذي وقع بين النقاد-من عرب وغربيين- يسلمنا إلى أمر نرى أن له أهمية في هذا الشأن، ألا وهو تلك النماذج الشعرية التي استندت إليها الآراء النقدية التي عرضنا لبعضها في ما سبق ، فكثير من النصوص الشعرية التي تمثل القصيدة الطويلة كانت توظف دون معيار محدد لمسوغات اختيارها من قبل النقاد ، بل نرى أنها في كثير من الأحيان كانت توظف لخدمة الرأي النقدي الذي يتبناه الناقد ، وقد يُظهر لنا جمع تلك النصوص من مظانها النقدية في سفر مستقل عن مدى التباين بينها ، إنها في سياق مفرد تصلح لشدّ عضد بعض الأنظار ، لكنها لا تصلح لها جميعا ، فعلى سبيل المثال تبدو لنا بعض أنظار الشاعر و الناقد أدجار آلان بو في القصيدة الطويلة منطقية، إذا ما عرفنا أنه دلل على صحتها بنماذج لملتون و هوميروس و دانتي، في حين تبدو الأنظار المخالفة لأدجار آلان بو –كتلك التي وجدناها عند هربرت ريد وجورج لوكاتش مثلا- هي الأخرى منطقية، إذا ما عرفنا كذلك أنها بنيت على الاستشهاد بنماذج مختلفة من أعمال سان جون بيرس وسبنسر و ت.س.إليوت ، وعليه،فإن بعض الآراء النقدية اختلفت لاختلاف النماذج الشعرية ، وسيكون من الصعب الجمع بين الإلياذة أو الفردوس المفقود والأرض اليباب ،لكن سيظل الطول أبرز الخصائص المشتركة التي تجمع بينها .
وبصورة عامة فإن التباين الحاصل حول القصيدة الطويلة مرده إلى الاختلاف في المضمون و الأسلوب، وما يتصل بهما من أفكار و تقنيات و مقدرة فنية ، وعليه قد تكون بعض القصائد طويلة،لكن ليس بالضرورة أن تجري على نسق واحد يحكم بناءها، ونرى أن الأمر لا يقف عند حدود إثبات الطول أو نفيه على الرغم من الإشكالية التي تصاحب هذه المسألة ،بل نرى أن في الأمر سعة تمكننا من الإفادة من النماذج الشعرية المختلفة في بنائها وطولها للتحدث عن أنماط ممكنة للقصيدة الطويلة ،ولعله من الممكن أن يتأتى هذا الأمر من بعدين، نقدر أن أولهما يتصل بالشكل الخارجي(الطول) ،والثاني يتصل بالبنية الداخلية، لكننا ندرك أن الوقوف على حدود فاصلة بين الأجناس الأدبية –وحتى في الجنس الواحد-أمر يصعب الوصول إليه بصورة قطعية، وتبقى المسألة نسبية في كثير من جوانبها،وهذا الأمر هو ما ندركه في محاولتنا الآتية لتفسير القصيدة الطويلة من حيث الشكل والبنية .
(1)القصيري ، المصدر السابق ، ص95 و ما بعدها.
(2)الشرع ،علي: بنية القصيدة القصيرة في شعر أدونيس ، دمشق ، منشورات اتحاد الكتاب العرب،1987،ص 54 .
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 20:29
القصيدة الطويلة من حيث الشكل
ذهب بعض النقاد والأدباء، كما بينّا في التمهيد، إلى إنكار أهمية الطول في الحديث عن القصيدة الطويلة ، بل إن منهم من رأى أن بعض القصائد قد تكون طويلة طولا شكليا، لكنها قصيرة من حيث المضمون ،فيقول عز الدين إسماعيل : " ينبغي أن يكون واضحا هنا أن القصر ليس معناه قلة عدد أسطر القصيدة ،فقد تكون القصيدة طويلة من حيث عدد الأسطر ،بل قد تشتمل على عدة مقاطع -كما يصنع كثير من شعرائنا المعاصرين حين يذهبون إلى حدّ ترقيم مقاطع القصيدة –و مع ذلك تظل القصيدة غنائية ،و من ثمّ قصيرة، مادامت تصور موقفا عاطفيا في اتجاه واحد" (1) ، إلا أننا لا نسلم بصحة هذا الرأي بصورة تامة ، ونجد الطول معيارا أوليا وأساسيا لوجود القصيدة الطويلة، لأنه كما يذهب هربرت ريد " ضروري و اعتباطي في الوقت نفسه ، ضرورة يستدعيها المضمون،واعتباطي بالنسبة إلى الصفة الشعرية للقصيدة ،أعني أنه ليس الشعر ما يستدعي الطول بل القصيدة " (2)، ولا نظن أن قصيدة قصيرة شكلا يمكن أن تسمى قصيدة طويلة لاعتبارات مضمونية ،ونؤمن أن " شكل القصيدة هو القصيدة كلها "(3)،إلا أننا في الوقت ذاته نؤمن أن الطول في القصيدة الطويلة أمر يتحقق بوصفه لازمة لا تنفصل عن تكوينها ،وعليه، فإن الشاعر الذي يحقق القدرة على إبداع قصيدة قصيرة، تتجاوز العاطفة الفردية إلى الفكرة بأقل عدد من الأسطر الشعرية، لا يمكن أن تسمى قصيدته حينئذ قصيدة طويلة .
و قد أسهمت الآراء النقدية التي دارت حول عملية الإبداع الشعري، وكيفية تشكل القصيدة في بلورة جزء من الرؤية النقدية الخاصة بالقصيدة الطويلة ،و هذه المسألة من النقاط الرئيسية التي بنى عليها أدجار آلان بو ومن انتهج نهجه حججهم في نفي وجود القصيدة الطويلة من خلال الميل إلى نظرية الإلهام في الإبداع الشعري ،فأنكر أن تدوم الحالة الشعورية كل هذه المدة الزمنية التي يحتاجها خلق القصيدة الطويلة بوصف القصيدة تكثيف وخلق لحالة موجودة داخل الشاعر ،تنمو نموا عضويا يتطور من جوانبها كلها مع كل كلمة وصورة جديدة، فعدّ أدجار القصيدة الطويلة مجموعة من القصائد القصار التي ضُمت إلى بعضها ،وعندما عرضنا للانتقاد الذي وجهه "رينيه ويليك" في نظرية الأدب لآراء أدجار، وجدنا أنه يرى أن أدجار كان كاذبا في مقالته" فلسفة التأليف"التي وصف فيها كيف أن عملية تأليف قصيدة(الغراب)-لأدجار- قد مضت خطوة خطوة حتى نهايتها بالدقة والتتابع المنطقي الصارم اللذين يتطلبهما حل مسألة رياضية (4).
و إن كان الخلاف حول عملية الإبداع حاصل في الحديث عن القصيدة بصورة عامة ،فإنه في القصيدة الطويلة أشد ظهورا و تأثيرا،و ظل البت في قضية الإلهام و اتصاله بالإبداع الشعري مطلبا بعيدا، لم يُقدّر للقدماء و لا للمحدثين البت فيه على الرغم من تعدد النظريات والاتجاهات في هذا السياق، ومن النقاد من عمد إلى جمع أبرز تلك الأنظار والآراء دون الفصل بشيء، وإنما للوقوف عليها و بيان أثرها في تفسير الأثر الأدبي (5).
لكننا نعود من جديد ونقول :إن طبيعة القصيدة الشعرية ، وخصوصية التجربة التي لا بدّ إن تتقاطع مع الإلهام عند نقطة معينة،هي التي تكون المرجعية الأولى للحكم على القصيدة ، ولهذا وجدنا قصائد طويلة متميزة و أخرى رديئة ،ويصعب أن نسلم بأن القصائد الطويلة قد خلقت خلقا متكاملا في لا وعي الشاعر، وتشكلت دفعة واحدة من أولها حتى آخرها ، وفي الوقت ذاته لا شيء يمنع عبقرية الشاعر العظيم أن تخلق قصيدة طويلة في حالة شعورية واحدة،إذا كان "يعيش الحدث مخاضا وتجربة، ويختلط عنده الحلم بالوعي ، والخيال بالواقع ، و اللامرئي بالمرئي ، فتستحيل عنده اللغة لعبا بالكلمات ،فيتحرر الدال من المدلول في تشكيل عفوي، يرمي إلى تمثيل عالم قيد البناء ، وتنقلب الكلمات إلى شيفرة جمالية" (6)،وهذا كله يحتاج إلى مدة من الزمن لا يمكن أبدا تحديدها ،بل قد تختلف المدة التي يحتاجها الشاعر من مقطع لأخر في القصيدة الواحدة ، ويبقى السؤال قائما:هل تعدّ القصائد التي تستغرق مدة طويلة ، أو تتكون من مقاطع عدة، و حالات شعورية متفاوتة لإتمامها قصائد طويلة؟ أم مجموعة من القصائد التي ضمت إلى بعضها ؟
(1)إسماعيل ، المصدر السابق ، ص 251 .
(2)ريد ، المصدر السابق ، ص 61 .
(3)أدونيس،علي أحمد سعيد:مقدمة الشعر العربي ، ط1 ، بيروت ، دار العودة ،1979، ص 111.
(4)رينيه ، المصدر السابق ، ص 258.
(5)المجالي،جهاد :دراسات في الإبداع الفني- الإلهام و الإبداع الشعري،عمان، دار الجنادرية للنشر،2008، ،ص38.
(6)جيرر، بيير:علم الإشارة السيمولوجيا، ط3،ترجمة:منذر عياشي ،حلب ،مركز الاتحاد الحضاري،2007، ،ص18.
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 20:32
إن الفصل بإجابة محددة أمر يصعب تحقيقه بصورة قاطعة ، لكن الأغلب على هذه القصائد أن تعد قصائد طويلة، ما دامت تحافظ على ثنائية القصيدة الطويلة الخاصة -"التشكيل والرؤيا"- التي استبدلت بثنائية "الشكل والمضمون بمفهومها التقليدي "إذ تحول الشكل المجرد والبسيط والأحادي إلى التشكيل بمعناه المركب والمعقد والمتعدد، وتحول المضمون بمعناه المباشر والكمي والقصدي إلى الرؤيا بمفهومها الحلمي والنوعي واللاقصدي" (1)،وبهذا يمكن أن تتشكل القصيدة الطويلة من مجموعة متتالية من المقاطع أو اللوحات أو الصور التي قد تأخذ عناوين أو أرقاما شرط تحقيق الاتساق والترابط في الرؤيا أو الخطاب،ومع ذلك فإننا،لا نعدم وجود تجارب شعرية رديئة حاول أصحابها إبداع القصيدة الطويلة لكن الإمكانات الشعرية خانتهم فجاءت تلك القصائد الطوال مقطعة ، مفككة ،لا رابط حقيقيا يجمع بينها ، و لعدم إدراكهم أن " للتشكيل في القصيدة الحديثة وجهان:أحدهما خارجي ، و الآخر داخلي.
فالتشكيل الخارجي يعني بناء القصيدة بناء متلاحم الأجزاء، متدامج المقاطع، بحيث لا يند جزء من أجزاء النص عن البناء الكلي، أما التشكيل الداخلي، فعناصره متنوعة عديدة، أبرزها عنصر الصورة و الموسيقى،ومن خلال هذين العنصرين يتم التعامل الفني الجيد مع سائر العناصر المكونة للتشكيل الداخلي " (2)،وهذا يقودنا إلى أمر آخر ارتبط بتشكيل القصيدة الطويلة، لجأ إليه كثير من الشعراء، يتمثل في تقسيم القصيدة الطويلة إلى عدة مقاطع ، وإعطائها أرقاما أو عناوين أو فواصل، جعلت بعض النقاد يتخذ منها مطعنا على بعض الشعراء ، ودليلا على تفكك قصائدهم، و بالتالي نفي انتسابها لجنس القصيدة الطويلة ، كما فعل غالي شكري حين حلل بعض قصائد البياتي، فذهب إلى أن قصيدته (الذي يأتي و لا يأتي) " و أمثالها من هذا النمط بعيد كل البعد عن إليوت والقصيدة الحديثة بشكل عام ،وقريب غاية القرب من مطولات شعرائنا القدامى" (3) ، و نحن حين نقرأ بعض القصائد المطولة المسهبة من ذلك النوع لا نستطيع " في الغالب الإمساك بخيط يدلنا على مفاتيحها أو مغزاها ، لقد أصبحت هذه المطولات الشعرية تقليعة مغرية، جرّت إليها عددا كبيرا من الشعراء المولعين بالثرثرة الجميلة،وفتحتْ شهيتهم إلى القول إلى أقصى مداها،وحين نحاسب هذه القصائد المطولة،وحين نتساءل إن كان هناك من ضرورة فنية أو فكرية تستدعيها نجد أنها لا تختلف عن أية قصيدة قصيرة أخرى " (4)،وقد رفض غالي شكري أن يعدّ قصيدة البياتي السابقة قصيدة طويلة على الرغم من مقاطعها المتعددة ،ورأى " أن أمثال هذه المقاطع دليل إدانة للشاعر،لأنها لا تكاد تستقل بذاتها ، و لا ترتبط بما سبقها أو لحق بها إلا التكرار الممل" (5)، و التكرار الذي يزدحم في القصيدة من غير وظيفة فنية يؤديها ما هو إلا عبء عليها، وعامل من عوامل ضعف الاتساق والترابط ، و دافع للإطالة التي لا مسوغ لها .
(1)عبيد، محمد صابر، التشكيل مصطلحا أدبيا ، الأسبوع الأدبي ، العدد 1124، 25/10/2008 ، دمشق ،اتحاد
الكتاب العرب
(2)الحاوي ، مصدر سابق ، ص 207.
(3)غالي ، المصدر السابق ، ص 96.
(4)العلاق ، علي جعفر :مملكة الغجر ، بغداد ، دار الرشيد للنشر و التوزيع،1981، ، ص 119-120.
(5)غالي ، المصدر نفسه ، ص 97.
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 20:39
و من أمثلة ذلك أننا حين ننظر في قصيدة "يوميات جرح فلسطيني" للشاعر محمود درويش التي يمكن أن تعد من التجارب الريادية له على طريق إبداع القصيدة الطويلة، نقف على قصيدة تتكون من أربعة و عشرين مقطعا ، و مع أن هذه المقاطع العديدة لا تعدم فكرة عامة تنتظمها ، وعواطف جياشة تفيض بها، إلا أن ملمحا للتفكك يبدو جليا في بعض مقاطعها،إذا نظرنا إليها بوصفها قصيدة طويلة، فلا يضيرها لو تقدم بعض المقاطع بعضه الآخر، أو حتى لو حُذِف فإنه لا يؤثر كثيرا في بنية النص ومضمونه،فهو يقول في المقطع الثامن عشر :
رايتي سوداء ،
و الميناء تابوت
وظهري قنطرةْ
يا خريف العالم المنهار فينا
يا ربيع العالم المولود فينا
زهرتي حمراء ،
و الميناء مفتوح ،
وقلبي شجرةْ! (1)
و هذا المقطع – كبعض المقاطع – يمكن أن يتقدم، أو يتأخرن أو حتى أن يحذف، أو يدمج في غيره دون أن يؤثر ذلك كثيرا في القصيدة، و الحق ما ذهب إليه غالي شكري من أن صنع المقاطع الشعرية لا يخلق قصيدة طويلة ما لم تتسق بشكل متنام مع بعضها .
إلا أن هذه المقاطع قد تكون أحيانا مهمة لإعطاء الشاعر مساحة مناسبة للتحول إلى فكرة جزئية، أو مشهد، أو بُعدٍ جديد من أبعاد التجربة المتكاملة،و مثال ذلك قصيدة خليل حاوي الطويلة "وجوه السندباد" (2) فهي تتألف من تسعة مقاطع مرقمة، ولكل مقطع منها عنوان خاص به، وتنضوي جميعها تحت العنوان الرئيسي " وجوه السندباد" ، و المقاطع كلها تكوّن مجتمعة الصورة المتكاملة لتجربة السندباد -خليل حاوي ذاته - على نحو لا يمكن معه الاستغناء عن مقطع من مقاطع هذه الرحلة ، وبترتيب متسلسل لا يستقيم معه تقديم أو تأخير مقطع من مقاطع القصيدة ، و في هذا المقام يمكن أن نعد التقسيم المرقم أو المعنون فضيلة و ميزة للشاعر ، و في كلا الحالين من التقسيم المعنون أو المرقم، فإن القصيدة تبقى طويلة لكن الحكم عليها من الناحية الفنية هو الذي يختلف ، ففي المقطعين الأول والثاني يتحدث خليل حاوي عن وجه من وجوه السندباد –حاوي ذاته –قبل السفر ، ثم نراه في المقطع الثالث يتحدث عن وجه آخر من وجوه السندباد، يكشف عن حياة اللهو و العبث التي عاشها حاوي في بلاد الغرب ، وينتقل بصورة متسلسلة إلى المقطع الرابع الذي يصف حالة الصحو من العبث والمجون و التحول نحو حياة البحث و المعرفة ، ويستمر في الحديث عن وجوه رحلته إلى أن يصل إلى آخرها " الوجه السرمدي " الذي يعبر عن مرحلة الانتصار على الزمن والخلود، الذي يتمثل في العودة إلى الوطن، والإسهام في بناء غد مشرق ، يقول :
أسندِي الأَنقاضَ بالأَنقاضِ
شُدِّيها.. على صدري اطمئنِّي،
سوف تخضرُّ،
غدًا تخضرُّ في أعضاء طفلٍ
عمرُهُ منْكِ ومنِّي
دَمُنَا في دمِهِ يسترجعُ
الخصْبَ المغَنِّي،
حُلْمُهُ ذِكرى لنَا،
رجع لِما كنَّا وَكانْ،
ويمر العُمرُ مهزومًا
ويَعْوي عنْد رِجلَيهِ
ورِجْلَيْنا الزمانْ(3)
و هذا التوظيف لأسطورة السندباد تم للشاعر على نحو مترابط ومتسلسل،جعل من تجربة خليل حاوي مع هذا الرمز تجربة ناجحة، و" من أنضج نماذج استخدام الشخصية التراثية عنوانا على مرحلة، بل من أنضج نماذج استخدام الشخصية التراثية في شعرنا العربي المعاصر " (4) .
و قد أدرك بعض النقاد أن محاولة تأطير القصيدة الطويلة، ووضعها في قالب محدد ذي صفات معينة وخصائص فنية ثابتة، أمر يصعب تحققه على نحو مرضٍ، إن لم يكن صعب المنال،ولذا كان لابد من البحث عن مخرج لهذا المأزق، فقام بعضهم في هذا السبيل بوضع تعريف كبير متشعب التفاصيل للقصيدة الطويلة، يحاول استيعاب صورها كافة ، وهو ما لمسناه عند غالي شكري وخليل الموسى، ومنهم من أدرك أهمية تفصيل المسألة لكن على نحو يحفظ لمحاولة قولبة القصيدة الطويلة أساسها ، و هو ما وقع في روع عز الدين إسماعيل الذي صادف في دراسته بعض النماذج الشعرية التي تجمع بين القصيدة الغنائية –القصيرة من وجهة نظر معينة-والقصيدة الطويلة ، و قاده حرصه على ربط القصيدة القصيرة بمضمون عام، يُعدّ "تصويرا لموقف عاطفي يتحرك أو يتطور في اتجاه واحد " (5) إلى تقسيم القصيدة القصيرة إلى صور متعددة بدلا من أن يُقر بوجود صور متعددة للقصيدة الطويلة ، ونراه في سبيل هذه الغاية يمهد للأمر كما ذكرنا من منطلق مهم أكدّ فيه أن القصر ليس في قلة عدد السطور ، ثم في محاولة لا تخلو من الغموض و شيء من الاضطراب يقف بنا على أقسام للقصيدة القصيرة، وهي كالآتي:
· الشكل الدائري المغلق / و هو باختصار شكل تبدو فيه "القصيدة كأنها دائرة مغلقة تنتهي حيث تبدأ ،ومن أمثلة ذلك قصيدة البياتي (مقاطع من السمفونية الخامسة لبروكوفيف) مع أنها تتكون من ثمانية مقاطع" (6).وكل ما نجده في هذا الشكل هو تحليل من الناقد للقصيدة يمكن أن نأخذ عليه مآخذ شتى.
· شكل يتفق في كل شيء مع الشكل السابق ولكنه يختلف عنه من حيث النهاية/"والشاعر في هذا الشكل لا يتم دورته الشعورية حتى يعود من حيث بدأ ،و إنما ينتهي في القصيدة إلى نهاية غير نهائية " (7) و هو لا يعطي لهذا الشكل اسما محددا ، ولا يمثل له بنموذج شعري معين بحجة أن هذا الشكل منتشر جدا في شعرنا المعاصر.
· الشكل الحلزوني / ويحتوي هذا الشكل على " آفاق شعورية لهذه التجربة أو الرؤية ، وكل أفق فيها له وجهة ، أي تدور القصيدة عدة دورات غير مغلقة " (8) ،و يمثل لها بقصيدة "أغنية للشتاء" لصلاح عبد الصبور على الرغم من أنها تتكون من أربعة مقاطع طويلة نسبيا.
و تبين لنا أن هذا التقسيم يقوم على اختيار غير مسوغ للنصوص الشعرية ، وتحليل يشي بوجود قلق و اضطراب في بعض الأفكار ،فهو مثلا يقول بعد أن ينتهي من تقسيم القصيدة القصيرة السابق إن: "البنية البسيطة للقصيدة الطويلة أقرب ما تكون في معماريتها من المعمارية الحلزونية في القصيدة القصيرة ، مع فارق جوهري بطبيعة الحال يتمثل في هيمنة شعور موحد على أجزاء القصيدة القصيرة ، وفكرة موحدة على أجزاء القصيدة الطويلة "(9)،ثم نراه يناقض نفسه حين يقول إن" قصيدة (الملك لك) لصلاح عبد الصبور بداية طيبة في طريق القصيدة الطويلة بمفهومها الذي شرحناه ، وهي و إن لم تكن من حيث الطول الحرفي طويلة، فإن معماريتها تمثل صورة لمعمارية القصيدة الطويلة، وأعني بذلك المعمارية الدرامية" (10) ، فهو يرى في قصيدة قصيرة بداية للقصيدة الطويلة فقط لمعماريتها الدرامية، ولقد أصاب حين ذكر البنية البسيطة للقصيدة الطويلة، و هو شكل نقره لها ، لكن يبدو أن الهاجس الذي كان يسيطر على عز الدين إسماعيل في معالجته لقضايا القصيدة الطويلة والقصيرة ينطلق من ثنائية (العاطفة – الفكرة) ، و لعل الصواب أنه أراد الحديث عن نوعين من الشعر المعاصر هما :شعر الفكرة (11) و شعر العاطفة يتمثلان على الوجه الآتي :
القصيدة القصيرة ↔(الغنائية) ـــــ شعر العاطفة
القصيدة الطويلة ↔ (درامية) ـــــ شعر الفكرة
و إذا أراد عز الدين إسماعيل أن ينكر الطول أو القصر بوصفهما مظهرا خارجيا مؤثرا للنص، فإنه يتوجب عليه أن يبحث عن صفة أخرى للقصيدة غير لفظة "الطويلة" ليكون تنظيره منسجما مع ثنائية هربرت ريد التي سيطرت عليه ، و نسأل في هذا السياق :هل تخلو القصائد العاطفية (الغنائية) على الإطلاق من وجود فكرة تنتظمها ؟ وهل يخلو "شعر الفكرة" خلواً تاما من العاطفة أو الغنائية التي هي "سمة شعرية بامتياز، إذا أضيفت إلى ما هو أبلغ منها،..، إلى وعي الغرابة الكامنة في كل مرئي أو محسوس أو مسموع ، واستدراجها إلى شباك اللغة ، وكذلك إذا أضيفت إلى رؤيا لا تنزلق بشكل أفقي على أشياء العالم بل تخترقها ، وتسمي ما لم يسم " (12) ؟ وهل تحمل دوال:"القصيدة القصيرة" و"القصيدة الطويلة" تلك المدلولات التي ينطلق منها بعض نقادنا؟وماذا نسمي القصيدة التي تحمل عاطفة(غنائية) وفكرة(درامية) في الوقت عينه؟هل نسميها القصيدة المتكاملة كما فعل بعض النقاد حين عرف القصيدة المتكاملة-وأعتقد جازما أنه يقصد القصيدة الطويلة بدليل ما صرح به في موضع سابق-فقال:"القصيدة المتكاملة هي القصيدة الغنائية التي يتوافر فيها البناء الدرامي الهرمي المتصاعد،ويقوم التعبير فيها على شخصية أو قناع،ويعتمد حدثا أو موقفا من التراث الإنساني،ويتم التكامل من خلال العلاقات بين الماضي والحاضر والإيجابي والسلبي وفق حركة نمو سليمة"(13)؟
(1)درويش، محمود:الأعمال الشعرية الكاملة، يوميات جرح فلسطيني،ج1، ط2، بغداد ، دار الحرية للطباعة
والنشر،2000، ص 169.
(2)حاوي ، خليل :ديوان خليل حاوي ، بيروت ، دار العودة ، ،1993،ص 204 وما بعدها .
(3)خليل حاوي،المصدر السابق ، ص 205.
(4)زايد ،علي عشري: استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، ط1، طرابلس، منشورات
الشركة العامة للنشر و التوزيع،1978،ص 322.
(5)إسماعيل ، المصدر السابق ، ص251.
(6)إسماعيل ، المصدر السابق ، 252.
(7)المصدر نفسه ، 259.
(8)المصدر نفسه ، 260.
(9)المصدر نفسه ، 262.
(10)إسماعيل،المصدر السابق ، 268.
(11)ورد هذا المصطلح عند عز الدين إسماعيل صفحة 250.
(12)منصور،خيري:أبواب ومرايا – مقالات في حداثة الشعر ،ط1،بغداد،دار الشؤون الثقافية العامة،1987، ،ص38.
(13)الموسى، خليل:المكونات التراثية في بنية القصيدة المعاصرة المتكاملة، مجلة المعرفة، السنة الحادية
والثلاثون (العدد 351) ، 1992،دمشق ، منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية ص 87.
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 20:41
ونحن في الوقت ذاته نجد من النقاد من أشار إلى تمازج الدرامي والغنائي في أعمال بعض الشعراء،ومنهم على سبيل المثال " أدونيس ، وتأليفه الفذّ بين الغنائية والتنظيم المعقد للبناء الفني"(1)، ثم لماذا لم يحاول بعض النقاد أن يقسم القصيدة الطويلة إلى أنواع، كما قُسّمت القصيدة القصيرة ؟ ويضاف إلى ذلك حاجتنا إلى الإقرار بوجود غنائية حديثة تختلف عن الغنائية التقليدية،وتصلح أن تكون نمطا بنائيا للقصيدة المعاصرة ، إننا بصورة عامة لا ننفي و لا نثبت كل ما جاء في ثنايا الكتب النقدية التي عرضنا لبعضها ، بل نستضيء به للإسهام في محاولة بيان رؤية أخرى تحتكم إلى الطول بوصفه أمرا حتميا في القصيدة الطويلة ، و إلى البناء من غير أن نجعل الغنائية مطعنا في القصيدة الطويلة المعاصرة، والقصيدة الطويلة التي ننظر فيها هي تلك القصيدة التي يتحقق فيها الطول–على اختلافه - بوصفه شرطا أساسيا لتكوينها متضافرا مع البناء الفني الواعي-على اختلاف أنماطه- الذي يفضي إلى عمل فني مركب و متكامل قائم على استخدام الأدوات وتوظيف التقنيات الشعرية التي يتطلبها الطول لإنتاج خطاب يحمل رؤيا معينة، ويدفع تحقيقه بصورة شمولية الشاعر إلى الإطالة ، ويمكن أن تقسم القصيدة الطويلة من حيث الشكل-الطول- إلى ثلاثة أقسام ، و هذه الأقسام يبقى الطول فيها معيارا نسبيا يصعب تقيده بعدد محدد من الأسطر الشعرية أو الصفحات ، لكن الأمر فيه من الطول بصورة عامة ما يحقق القدر الكافي من الوقوف على نحو مستقل عند كل قسم من الأقسام التي سنوردها آتيا:
القصيدة شبه الطويلة
و هذا النمط من القصائد الطويلة قد يتسبب في نوع من الإشكال للمتلقي؛ نظراً لتحقق طول محدود في القصيدة قد يجعلها قصيرة من وجهة نظر، وطويلة من وجهة نظر أخرى، وقد نجازف ونقول:إنها يمكن أن تكون في حدها الأدنى بين المئة والمئتي سطر شعري (تقريبا) ، أو بين العشر والعشرين صفحة (تقريبا)، و هذا ما استوحيناه من قصيدة (الملك لك) لصلاح عبد الصبور التي ذكرنا أن عز الدين إسماعيل عدّها البداية الطيبة للقصيدة الطويلة على الرغم من طولها المحدود ،وقد أشار عز الدين إسماعيل إلى هذا النمط في حديثه عن أنواع القصيدة القصيرة–الشكل الحلزوني كما أسماه -و ذكرنا في موضع سابق أنه رأى في هذا الشكل أن "البنية البسيطة للقصيدة الطويلة أقرب ما تكون في معماريتها من المعمارية الحلزونية في القصيدة القصيرة "(2) فإن كان هو ينسب هذا الشكل إلى القصيدة القصيرة،فإننا نخالفه،وننسبه إلى القصيدة الطويلة ذلك أنه برر نسبته إلى القصيدة القصيرة "لهيمنة شعور موحد على أجزاء القصيدة القصيرة،وفكرة موحدة على أجزاء القصيدة الطويلة"(3).
إلا أننا نرى أنه ليس هناك ما يمنع أن يتحقق في هذا الشكل فكرة موحدة ذات بناء فني متكامل مع عاطفة موحدة تنتظم الفكرة، ولا غرابة في احتواء الفكرة على عاطفة،و في هذا الشكل أيضا تتمازج العاطفة والفكرة الموحدة بأبسط صورها في بوتقة الغنائية،أو البناء الدرامي،أو السردي،أو المركب على نحو يوحي للمتلقي أن الشاعر يملك القدرة على الإطالة ،و توظيف التقنيات الشعرية الفنية الخاصة بالقصيدة المعاصرة التي تمكنه من أن يقف بالمتلقي على خطاب يحمل رؤية معينة، ولعل هذا الحد من الطول في القصيدة هو من ما يقدر عليه الغالبية العظمى من الشعراء ،لكن الشاعر الذي لا يستطيع أن يتجاوز هذا الحد من الطول الفني لا يمكن أن يعدّ من أصحاب القصائد الطويلة ، وليس معنى ما سبق أن كل قصيدة من هذا الشكل هي قصيدة جيدة ،فمن الممكن أن يخفق الشاعر فنيا حتى في الحد الأدنى من القصائد الطويلة .
(1)الصكر،حاتم:مرايا نرسيس ، ط1، بيروت ، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع،1995 ،ص 75.
(2)إسماعيل ، مصدر سابق ،ص 262.
(3)إسماعيل،المصدر السابق ،ص 262.
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 20:45
و من نماذج هذا الشكل نقف على قصيدة "لاعب النرد" للشاعر محمود درويش من ديوانه الأخير "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي" ، فهذه القصيدة من الناحية الشكلية تحتوي على حدّ أدنى من الطول، قد يثير حولها خلافا في ما يتصل بهذا الأمر، وهو من مثل ما لمسه عز الدين إسماعيل في حديثه عن قصيدة "الملك لك" لصلاح عبد الصبور فرأى أنها "و إن لم تكن من حيث الطول الحرفي طويلة، فإن معماريتها تمثل صورة لمعمارية القصيدة الطويلة " (1)،وقصيدة محمود درويش لا تنتمي للمعمارية الدرامية التي ألحّ عليها كثير من النقاد ،بل إنها تمازج بين الغنائية والسردية والدرامية، وتتجلى فيها العاطفة الفردية الجياشة بصورة لا تطغى على الفكرة أو الرؤية التي يحملها النص،وبقدر ما فاض النص بالعاطفة الفردية، فإنه قد انتظمته فكرة موحدة، تحولت بالنص من الذاتية إلى الموضوعية من خلال ضمير المفرد المتكلم وعبّر عنها الشاعر من خلال امتلاكه التقنيات الفنية الحديثة للقصيدة المعاصرة،تمثل بعضها في التناص،والسرد،والحلم،والتذكر،والتداعي،والحوار،وشيء من الصراع، وتوظيف الرموز،والأساطير وغيرها، يقول محمود درويش:
أنا لاعب النرد ،
أربح حينا و أخسر حينا
أنا مثلكمْ
أو أقل قليلا...
ولدتُ إلى جانب البئر
و الشجرات الثلاث الوحيدات كالراهباتْ
ولدت بلا زفّةٍ و بلا قابلهْ
وسُميتُ باسمي مصادفةً
و انتميت إلى عائلهْ
مصادفةً،
وورثت ملامحها و الصفاتْ (2)
إن العاطفة الفردية التي تظهر في المقطع السابق ببنائها الغنائي ذات أهمية كبرى في التأسيس لفكرة موحدة تشكل الهاجس الذي يؤرق الشاعر ، و سؤال الأنا الذي يلح على الشاعر لا ينفصل أبدا عن القضية المركزية التي يعشها، فأنا الشاعر التي تبرز على طول النص هي الأداة التي يعبّر من خلالها عن قضية الوطن ومعنى الوجود الذاتي الذي لا يكون إلا بوجود الوطن ، يقول :
من أنا لأقول لكم
و ما أقول لكم
عن باب الكنيسة
ولست سوى رمية نرد
مابين مفترس وفريسة
ربحت مزيدا من الصحو
لا لأكون سعيدا بليلتي المقمرة
بل لكي أشهد المجزرة (3)
والمكاشفة التي يضع الشاعر نفسه أمامها تكشف عن الحقيقة القاسية، التي تمثل حقيقة وجود الشاعر،فيعترف بالتحول الحاد الذي يعيشه عبر التحول من لاعب إلى لعبة ،بل إلى رمية تجعل منه رقما يحدد قيمته الحظ فقط ،فالواقع الذي يحياه ، و النجاة ، و كل ما هو عليه كان مقدرا له، ولم يكن هو الذي يصنعه، والذاتية هنا تعبّر عن تحولالإنسان بصورة عامة عند الشاعر من خلال الإنسان الفلسطيني لا إلى لاعب نرد ،بل فيالواقع إلى حجر نرد يُرمى به، فلا يستطيع أن يعرف إلا مكان سقوطه. وهذا المكان ليسمكانا ثابتا. فكل إلقاء جديد لحجر النرد قد يقذف به إلى مكان آخر ، يقول :
و مصادفة صارت الأرض أرضا مقدسة
و مصادفة صار منحدر الحقل في بلدٍ
متحفا للهباء...
و مصادفة عاش بعض الرواة و قالوا :
لو انتصر الآخرون على الآخرين
لكانت لتاريخنا البشري عناوين أخرى (4)
فالفكرة الموحدة موجودة في النص على الرغم من الغنائية التي يعج بها ،و قد استطاع الشاعر أن يخفف من حدة هذه الغنائية من خلال البناء السردي و توظيف بعض التقنيات الشعرية المعاصرة ، كاستخدام المنولوج في كثير من المقاطع ،و تقنيات الحلم و التذكر، والإشارة إلى بعض الأساطير كنرسيس وأولمب،وتوظيف بعض الرموز كأمرئ القيس،والتناص مع القرآن الكريم من خلال الإشارة إلى حادثة الإسراء والمعراج،وميلاد عيسى،وخبر موسى في جبل الطور، وغيرها،وهذه التقنيات والرموز والأساطير تتطلب من الشاعر مساحة أكبر للتعبير بها على نحو تام ومترابط .
(1)المصدر نفسه ،ص 268.
(2)درويش،محمود :لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي: لاعب النرد، رياض الريس للكتب والنشر،2009 ،ص35-36.
(3)المصدر نفسه ، ص40.
(4)درويش، المصدر السابق ، ص52-53.
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 20:47
القصيدة الطويلة
و هي القصيدة التي يبرز فيها طول نَفَس الشاعر، و قد تمتد لتشكل جزءا كبيرا من ديوان الشعر، وفيها تظهر قدرة الشاعر الحقيقية على إبداع بناء فني مركب ومتكامل ،قادر على حمل أبعاد التجربة الشعرية كافة ، من خلال التنويع و التكثيف في استخدام التقنيات الشعرية المعاصرة على نحو متنام ومترابط، يخدم الفكرة ،ويوصل الخطاب من غير تكلف أو تعسف ، وتتحول القصيدة بين يدي الشاعر إلى عمل فني يتطلب جهدا كبيرا و مقدرة متميزة، وتجعله كالبناء الكبير الذي يفقد قيمته الجمالية والتكوينية إذا نقص منه حجر، أو زيد فيه آخر.
ومن النماذج الريادية التي تعدّ من بدايات القصيدة الطويلة المعاصرة قصيدة المومس العمياء للسياب، و هذه القصيدة التي تمتد عبر مئات الأسطر الشعرية و عشرات الصفحات، نالت حظا كبيرا من الدراسات النقدية، التي خلصت إلى أن السياب في المومس العمياء كان يسعى إلى إنتاج عمل يضاهي النماذج الشعرية الغربية المعاصرة التي قام بناؤها الفني في أحيان كثيرة على الإطالة وحشد الرموز و الأساطير، ويبدو أن إغراق السياب لقصيدته بهذه الرموز والأساطير جاء على حساب القيمة الفنية للقصيدة في بعض النواحي،أي أن هذا التوظيف المكثف لم يكن توظيفا مترابطا على نحو يحقق للقصيدة النمو الفني ،فتحولت كثير من الرموز والأساطير إلى عامل مرهق للمتلقي، أثر سلبا في تحقيق التواصل المطلوب مع القصيدة ،إلى جانب إغراق القصيدة في بعض مقاطعها بالغنائية المفرطة على حساب الأنماط البنائية الأخر كالبناء الدرامي أو السردي، يقول السياب في المومس العمياء:
سرب من البط المهاجر ،يستحثّ إلى الجنوب
أعناقه الجذلى .. تكاد تزيد من صمت الغروب
صيحاته المتقطعات ،وتضمحل على السهوب
بين الضباب ،و يهمس البردي بالرجوع الكئيب
ويرج وشوشة السكون
طلقٌ ..فيصمت كل شيء ..ثم يغلط في جنون
هي بطة فلم انتفضتِ ؟ وما عساها أن تكون ؟
ولعل صائدها أبوك ،فإن يكن فستشبعون (1)
و كما كان الشاعر مغرقا في غنائيته ،حريصا على القافية ، كان حريصا كذلك على حشد الرموز و الأساطير ،ونكتفي في هذا السياق بذكر أبرز الرموز و الأساطير التي وردت في القصيدة مرتبة حسب ورودها فيها،و منها: ميدوزا ، بابل، قابيل، أوديب، جوكست، مدينة طيبة وأبو الهول، المعري، أفروديت، فاوست و الشيطان، هيلين ، الإله أبولو، دفني ابنة إله أحد الأنهار، كيوبيد، هابيل ، يأجوج و مأجوج، أغنية شعبية، ..إلخ ، و لا مشاحة في أن هذا الحشد من الرموز و الأساطير يحتاج إلى مساحة كبيرة للتعبير به على الوجه التام ، لكن السياب ذاته شعر بثقل هذا الرموز و الأساطير فعمد إلى وضع إحالات هامشية تعين المتلقي على التواصل مع القصيدة ، و اكتفي في بعض المواضع بتوظيف عابر لبعض الرموز أو الأساطير ، و مع ذلك فإن هذه القصيدة و قصيدة "حفار القبور" للسياب " تعدان " المقدمتان الجادتان للقصيدة الطويلة الحديثة" (2) ، و من التجارب التي أسهمت في التأسيس لمرحلة أكثر نضجا في مسيرة القصيدة الطويلة .
(1)السياب، المصدر السابق
(2)شكري ، مصدر سابق ، ص 98.
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 20:50
القصيدة الديوان
و هذا الشكل من أشكال القصيدة الطويلة هو الأطول على الإطلاق ، و فيه تمتد القصيدة لتشكل ديوانا كاملا ، وتصبح عملا فنيا مستقلا ،يعبر فيه الشاعر عن تجربة متكاملة ، ويقدم من خلاله رؤية شاملة لحدث أو تجربة إنسانية ، وهذا الطول يعطي الشاعر مساحة كبيرة جدا للتعبير عن أبعاد التجربة بتفاصيلها كافة ، وحرية في التنويع و التلوين في استخدام التقنيات الشعرية المعاصرة كحشد الرموز و الأساطير و الانفتاح على الجناس الأدبية الأخرى و التنويع في أنماط البناء الفني و غيرها ، و أمثال هذا العمل الضخم ليس الأساس فيها مناقشة الوقت الذي تستغرقه ، أو الحالة الشعورية الموحدة التي تنتاب الشاعر لحظة إبداعها بقدر ما هو السؤال عن مدى الاتساق و الترابط الذي يتحقق بين أجزاء القصيدة ، و الفكرة الموحدة التي تنتظم أجزاءها كافة على نحو معماري متسلسل متناسق ، إضافة إلى تكامل الخطاب الذي تحمله و الرؤية التي يعاينها الشاعر .
و نعتقد أن هذا النمط من القصائد الطويلة ظهر في الإبداعات الشعرية العربية بعد مروره بالشكلين السابقين ، وكان ثمرة لتلك التجارب التي قدمها الشعراء الرواد و الجيل الذي تلاهم من خلال الاطلاع عليها، وتمثلها،وأخذ مزاياها،و تجنب مزالقها ، و لا يعني هذا أن قصائد هذا النوع كانت كلها تجارب ناجحة و متكاملة ، بل إن منها أعمالا اعتورها الضعف و القصور ، وفشلت في تحقيق النجاح الذي حققته إبداعات مماثلة لها في الطول .
و من نماذج القصيدة الديوان نقف على قصيدة "طرفة في مدار السرطان "للشاعر علي الجندي الذي وجد في تجربة الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد معادلا موضوعيا لتجربته الخاصة، فاحتاج إلى مساحة كبيرة جدا للتعبير عن تفاصيل تجربته، فاستعار قناع طرفة، و مهد للقصيدة بدافع اختياره لهذا القناع ، إذ يقول" نختلف في كثير من صفاتنا ، فقد مات هو يافعا ، و ما أزال أهرم .. إلا أننا نتفق في شيء أساسي هو أننا معا عرضة للانهيار في أي لحظة،وأن "السرطان" يقرض حياتينا أبدا"(1)،و يرى الدكتور خالد الكركي في طرفة رمزا للحيرة واستشراف المستقبل ، و أزمته تكاد تكون وجودية ، فهو " لم يتحول إلى رفض الجماعة ، بل ارتد نحو الأسئلة الكبرى عن الحياة و الظلم ، وتراجع نحو العبث و الإسراف " (2) ، ويلجأ علي الجندي إلى بعض المغايرة و الافتراق في صورة طرفة بن العبد، ليتحدث عن واقعه الخاص، فيقول على لسان طرفة :
إلى خدرك يا خولة أمضي جائعا
طالبا بعض الحنان
حالما أن ألتقي دفئك الموعود بالراحة
أو " تقصير يوم الدجن " أو
نسيان يوم الحرب
أيام تمرست بذاتي و الطعان
و إذا قالوا جهارا :" من فتى ؟
خلت أنا" ..
لكنني اليوم جبان
عرفت أوردتي طعم الهوان .. (3)
لكنه يلتقي مع طرفة في الشعور بالاغتراب في أرضه و بين قومه، مفيدا من الحالة الشعورية التي عبر عنها طرفة في معلقته ، يقول علي الجندي:
" إنني أعرف أني صرت وحدي ،
إنني أفردت إفراد البعير
صرت كالمجذوم في أهلي
فمن دنياي .. غوري " (4)
و هو في شعوره السابق يلجأ إلى التناص مع أبيات طرفة التي يقول فيها :
فمازال تشرابي الخمور و لذتي و بيعي و إنفاقي طريفي ومتلدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها و أفردت إفراد البعير المعبّد ( 5 (http://www.dhifaaf.com/vb/showthread.php?t=13643&page=2#_ftn5))
و في هذه القصيدة الديوان ،لجأ الشاعر إلى تقنيات معاصرة متنوعة، أبرزها :القناع ، والتناص، ومزج بين البناء الغنائي و السردي، فوظف تقنيات التداعي و الحلم و التذكر والمشهد و الوصف واستخدم الحوار ،و المونولوج و نوّع في القافية و الأوزان على نحو حقق للقصيدة ترابطا واتساقا، أسهم في الرقي بمعماريتها.
(1)الجندي ، علي :طرفة في مدار السرطان ، دمشق ، منشورات اتحاد الكتاب العرب،1975 ، ص 5.
(2)الكركي،خالد: توظيف الرموز التراثية في الشعر العربي الحديث ، ط1، بيروت ،دار الجيل ،عمان ،مكتبة الرائد ،
1989، ص 112 .
(3)الجندي ، المصدر السابق ، ص 35.
(4)المصدر نفسه ، ص 15.
(5)طرفة بن العبد،الديوان،شرح:الأعلم الشنتمري ،تحقيق:درية الخطيب و لطفي السقال ، دمشق ،مجمع اللغة العربية،
1980، ص 43.
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 20:52
إن محاولة التقسيم السابقة للقصيدة الطويلة على أساس الطول الشكلي تنبثق من الإقرار بأهميته بوصفه مظهرا خارجيا لا بد من تحققه في القصيدة الطويلة دون أن ينفصل ذلك عن ارتباط الطول بالبنية التي تتكوّن القصيدة الطويلة منها، وتفصيل القول ببنية القصيدة الطويلة أمر يختلف عن البحث في الأنماط الممكنة لها.
القصيدة الطويلة من حيث البنية
حين تحقق القصيدة الطويلة شرطها الشكلي –الطول- فلا بد أن يقترن ذلك بالنظر إلى مضمونها و بنائها ، ولا نقصد في هذا المقام تحليل الرؤية التي تحملها ،و لا الكيفية التي يعبر بها الشاعر عن تجربته و الأدوات التي يستخدمها - على أهمية ذلك في كل قصيدة - بقدر ما نقصد الحكم العام على تلك القصيدة من حيث قدرتها على تحقيق الغاية منها، وتبرير الطول الحاصل فيها ، و نقدر أن بيان مضامين القصيدة الطويلة ، و أنماط بنائها وتشكيلاتها ، و تقنياتها الفنية تحتاج إلى دراسة مستقلة ، وعليه فإننا نرى أنه يمكن أن تقسم القصيدة الطويلة من حيث البنية العامة إلى قسمين :قصيدة طويلة مسطحة ،وقصيدة طويلة نامية ،و نحاول بهذا التقسيم الابتعاد عن أي تأطير فني للبنى التركيبية التي تقوم عليها القصيدة المعاصرة ، وعلى نحو خاص البناء الدرامي الذي استندت إليه كثير من التقسيمات كما في تقسيم بعض النقاد القصيدة الطويلة إلى :قصيدة طويلة وقصيدة مطولة ، وكذلك في تقسيم آخر يرى أن القصيدة الطويلة تقسم حسب البنية إلى قسمين : البنية الدرامية البسيطة ، و البنية الدرامية المعقدة (1)،وعلى الرغم من أن التقسيم الأخير يستحق النظر إلا أننا نرى أنه يمكن أن يكون تقسيما خاصا بالقصيدة الدرامية لا القصيدة الطويلة،والقصيدة الدرامية تقع ضمن نطاق القصيدة الطويلة لا العكس.
القصيدة الطويلة السطحية
و هي تلك القصيدة التي تفشل في التعامل مع الطول، واستثمار المساحة التي تستغرقها للتعبير عن رؤيتها ، فيتحول الطول فيها إلى عبء يثقلها ، ويفقدها كثيرا من فنيتها ، ويعود هذا الفشل إلى عدم مقدرة الشاعر على التحكم ببناء القصيدة الطويلة و معماريتها ، فتتحول القصيدة إلى حشد من الكلمات والجمل، تفتقر إلى الاتساق و الترابط ، ويعجز الشاعر فيها أن يوظف التقنيات الشعرية المعاصرة على النحو الذي يتطلبه الطول ،أو قد يصعب عليه التنويع في أنماط البناء المتاحة له، فيقوده قصور أدواته الفنية ،و عدم اكتمال رؤيته إلى الصنعة الممجوجة، أو التكرار الممل،أو الإسقاطات غير الواعية،وعندها يقع المتلقي فريسة للملل والتكرار، ويعود من القصيدة بخيبة أمل عندما يرتاد هذه المساحة الطويلة من التعبير، و لا يصل إلى شيء مميز، أو حتى مبرِر للإطالة.
وهذا النمط من القصائد الطويلة ظهر في جزء من المحاولات الريادية ،ومحاولات بعض الشعراء الذين تتصف القدرة التعبيرية لهم بالقِصر ، فاستعصت عليهم الإطالة الفنية،ولم يكن لقصائدهم الطويلة نصيب من الطول سوى الاسم ، ومن نماذج هذا النوع من القصائد الطويلة قصيدة "الذي يأتي و لا يأتي " لعبد الوهاب البياتي. فالقصيدة التي أرادها الشاعر سيرة ذاتية لحياة عمر الخيام الباطنية عجزت عن تقديم سيرة الخيام على النحو الذي أراده الشاعر، فوقع نهبا للكلمات الثورية التي راحت تتكرر في جميع مقاطع القصيدة، وتحولت في بعض الأحيان إلى سباب وشتم ،وأسلمته دون وعي–أو ربما بوعي- إلى أسر القافية التي أثقلت القصيدة في كثير من المقاطع ، يقول البياتي :
لسانها الثرثار
يقطع فيه خشب التابوتْ
خيوط العنكبوتْ
تلتف حول هذه الذبابةْ
أيتها السحابةْ
لتغسلي ذوائب المدينة الثرثارةْ
وهذه القذارةْ
كل الغزاة ،من هنا، مروا بنيسابورْ
على ظهور الصافنات و على أجنحة الطيورْ
البشر الفانونْ
يحطمون بيضة النسر،ويولدونْ
من زبد البحر و من قرارة الأمواجْ
من وجع الأرض و من تكسر الزجاجْ (2)
و غالبية مقاطع القصيدة مثقلة بأمثال هذه القوافي المرهقة، أما سيرة الخيام التي قصد البياتي إلى إعادة صياغتها، فإنها اختفت تماما ، و لم يستطع أن يستثمرها بصورة فنية وافية ، و لم تستطع المقاطع الشعرية –على كثرتها –أن تحقق فيما بينها ذلك الترابط و الانسجام، الذي تتطلبه بنية القصيدة الطويلة إلى الحد الذي يمكن للقارئ أن يحذف منها، أو يبدل ترتيبها دون أن يؤثر ذلك شيئا في بنائها ، كما أن كثيرا من الصور و الرموز و الأساطير التي احتوتها القصيدة لم تؤد إضافة فنية حقيقية ، وإنما جاءت في كثير من الأحيان على صورة "إشارة عابرة ذات دلالة سطحية جافة محدودة الفاعلية "(3) كشفت أن الشاعر كان يسعى إلى أن" يحشر موضوعات مستمدة من التراث في شعره حشرا ، و يرهق قصيدته بهذا التصوير التأريخي المباشر ، ...، دون أن يمنح طاقة فنية تبرز روعتها و أهميتها في حاضرنا " (4) ، وكثير من صور القصيدة "التي كانت رؤيا عذراء ذات يوم أضحت مألوفة و عادية وممضوغة،...، بل إن طول (الذي يأتي و لا يأتي) يفقد حتميته وتبريره منذ اللحظة الأولى التي يبتعد فيها عن التركيب البانورامي المعقد للقصيدة الحديثة " (5) .
(1)عبد الفتاح ، كاميليا :القصيدة العربية المعاصرة ، الإسكندرية ، دار المطبوعات الجامعية،2007،ص 739.
(2)البياتي،عبد الوهاب: الأعمال الشعرية-الذي يأتي ولا يأتي،ج2،بيروت،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،1995،
ص65-66.
(3)رحاحلة ، أحمد :توظيف الموروث الجاهلي في الشعر العربي المعاصر،عمان ،دار البيروني للنشر،2008
والتوزيع ، ص56.
(4)حداد، علي :أثر التراث في الشعر العراقي الحديث ، بغداد ، دار الشؤون الثقافية،1986 ، ص 112.
(5)شكري ، المصدر السابق ، ص 98.
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 20:55
القصيدة الطويلة النامية
و هي تلك القصيدة التي يبرز فيها وعي الشاعر بالقيمة الحقيقية التي تعطيها الكلمة للقصيدة ، فلا يظهر فيها إقحام للصور و التراكيب و الرموز و الأساطير ، و تنأى بنفسها عن التكرار الممجوج للصور و التعابير ، أو الإسقاطات المستهلكة للرموز و الأقنعة ، ويبدو الطول فيها مبررا ، بل مطلبا أساسيا لاستيعاب جوانبها كافة ، وتتحول القصيدة بين يدي الشاعر إلى لوحة فسيفسائية، لا تكتمل إلا مع آخر قطعة تتطلبها اللوحة، فلا مجال فيها للزيادة أو النقصان، أو تغيير قطعة مكان أخرى .
و هذا العمل الفني النامي و المتكامل لا يتحقق إلا بين يدي شاعر يمتلك الأدوات الفنية اللازمة لإتمام معمارية هذا العمل ، ويعي وعيا تاما بنمط البناء الفني الذي تتطلبه القصيدة ، ويُقدِّر أن الوصول إلى الرؤيا المتكاملة -لا إلى الطول- هو المنطلق الذي يجب أن يبدأ منه لإنجاز عمله الفني .
و في شعرنا العربي المعاصر نماذج عديدة لقصائد طويلة متكاملة نقف على نموذج منها للشاعر محمود درويش في قصيدته "الجدارية"، تلك القصيدة الديوان التي يعاين فيها الشاعر معنى الوجود و فلسفة الموت بعد تجربة خاصة له معه ، و يبحث في أسرار الحياة ليخلص إلى فلسفة خاصة للكون ترقى بالذاتية إلى الموضوعية، يقول :
سأصير يوما ما أريد
سأصير يوما فكرة .لا سيف يحملها
إلى الأرض اليباب،ولا كتاب ..
كأنها مطرٌ على جبل تصدع من
تفتُّح عشبةٍ،
لا القوة انتصرت
ولا العدل الشريد
سأصير يوما ما أريدُ (1)
و استطاع الشاعر على الرغم من الطول الواضح للقصيدة أن يحافظ على جماليات القصيدة الطويلة من خلال البعد عن التكرار ، و ابتداع الصور الفنية الخاصة ، و التجديد في التعامل مع الرموز و الأساطير ، و التنويع في أنماط البناء الفني ، فنجده مثلا يلجأ إلى البناء السردي من خلال تقنيات التذكر و التداعي و الحلم و الارتداد و المشهد ، و الزمان و المكان وغيرها، ومن ذلك أيضا استخدام المنولوج الداخلي، كما في المقطع الذي يقول فيه :
أنا من يحدث نفسه :
يا بنت : ما فعلت بك الأشواق ؟
إن الريح تصقلنا و تحملنا كرائحة الخريف ،
نضجتِ يا امرأتي على عكازتيَّ،
بوسعك الآن الذهاب على "طريق دمشق"
واثقة من الرؤيا .ملاك حارسٌ
وحمامتان ترفرفان على بقية عمرنا ، و الأرض عيدُ... (2)
ومن التنويع في الأساليب الشعرية التي تظهر في الجدارية استخدام الشاعر الحوار الذي لا يخلو من بعد درامي – على الرغم من الصراع المحدود في الأحداث – يسهم في رفع القيمة الفنية لبناء القصيدة، و يخفف من وقع الغنائية فيها، يقول محمود درويش:
قلت للسجان عند الشاطئ الغربي:
-هل أنت ابن سجاني القديم ؟
-نعم!
-فأين أبوك ؟
قال: أبي توفي من سنين
أصيب بالإحباط من سأم الحراسة .
ثم أورثني مهمّته و مهنته ، و أوصاني
بان أحمي المدينة من نشيدك...
قلت:منذ متى تراقبني و تسجن
في نفسك ؟
قال: منذ كتبت أولى أغنياتك.
قلت : لم تكن قد وُلدتَ
فقال : لي زمن ولي أزلية،
و أريد أن أحيا على إيقاع أمريكا
و حائط أورشليم
فقلت : كن من أنتَ.لكني ذهبتُ.
و من تراه الآن ليس أنا ،أنا شبحي
فقال : كفى ! ألست اسم الصدى
الحجري ؟ لم تذهب و لم ترجع إذا .
ما زلت داخل هذه الزنزانة الصفراء
فاتركني و شأني !
قلت : هل ما زلت موجودا
هنا ؟ أأنا طليق أو سجين دون
أن أدري .وهذا البحر خلف السور بحري ؟
قال لي : أنت السجينُ ، سجينُ
نفسك و الحنين .ومن تراه الآن
ليس أنا . أنا شبحي
فقلت محدثا نفسي : أنا حيٌّ. (3)
وفي القصيدة أساليب وتقنيات أخرى لا يتسع المقام للوقوف عليها لكثرتها و لطول القصيدة، لكنها تكشف عن القدرة الفنية ، و الوعي الذي بلغته قصائد محمود درويش المتأخرة إذا ما قورنت بتلك التي أشرنا إلى إحداها في المراحل الأولى من تجربته الشعرية.
(1)درويش ، محمود: جدارية محمود درويش ، بيروت ، رياض الريس للكتب و النشر ،2000، ص 12.
(2)درويش، المصدر السابق ، ص 38.
(3)درويش،المصدر السابق ، ص 94-96.
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 20:56
وقد بينت لنا هذه الوقفة أن مصطلح (القصيدة الطويلة) من المصطلحات التي لفّ دلالتها شيء من الغموض الذي احتاج إلى بعض التوضيح لبيان حقيقته وتجليته، و تأتت الإشكالية الكبرى لدلالة هذا المصطلح عبر الموقف النقدي لثنائية التشكيل و الرؤية ، ذلك أن لفظة (القصيدة) ترتبط ارتباطا أوليا بالرؤية أوثق من لفظة (الطويلة) التي تفتح أفقا أرحب باتجاه التشكيل، فيتطلب الأمر التوفيق بين اللفظتين للوصول إلى دلالة جامعة مانعة للمصطلح تراعي الرؤية و التشكيل .
و كثير من المعالجات الدلالية للمصطلح في الدراسات النقدية -الغربية أو العربية - لم تحفل كثيرا بالأسس أو المسوغات التي قام عليها استدعاء النماذج الشعرية التي تم الاستشهاد بها عند الوقوف على القصيدة الطويلة ،وهذا مزلق خطير أدى بدوره إلى الإسهام في زيادة الإشكالية ، كما أن نقادنا العرب الرواد –و كثير منهم يعدون من كبار النقاد - تابعوا النقاد الغربيين– في كثير من الأحيان دون مناقشة - في جلّ ما صدروا عنه في تنظيراتهم النقدية التي دارت حول القصيدة الطويلة، وهذا انسحب بدوره على النقاد العرب الذين جاءوا بعد النقاد العرب الرواد إلا في مواقف محدودة وأنظار جزئية .
وارتبط بإشكالات القصيدة الطويلة محاور عدة، من أبرزها : ثنائية الغنائية و الدرامية ، وثنائية العاطفة والفكرة ، وبقيت هذه المحاور تشكل الفلك الأوحد الذي تدور حوله جل الدراسات التي ارتبطت بالقصيدة الطويلة ،حتى كادت القصيدة الطويلة تعادل القصيدة الدرامية، كما صرح أو ألمح بعض النقاد العرب، وهو ما نفيناه ، ووجدنا أن في الأمر سَعة لمحاولة تقسيم القصيدة الطويلة من حيث التشكيل والبنية، تسهم في لم كثير من التساؤلات التي قد يثيرها الطول بوصفه مظهرا خارجيا غير ثابت أو محدد ، والبنية التي قد تعبر عن رؤية نامية و أخرى سطحية .
وقد أتاح تشكيل القصيدة المعاصرة للشاعر أن يتخير الطول و الحدود التي تكفي للتعبير عن تجربته الشعرية ، فظهرت تشكيلات شعرية ذات طول محدود، يمثل الحدّ الأدنى من الطول ، ووقفنا على تشكيلات شعرية طويلة لا مراء في طولها ، وكذلك وقفنا على القصيدة التي امتدت لتشكل ديوانا مستقلا أو عملا قائما بذاته ، و هذه التشكيلات الخارجية لا تنفك تتحد بالبنية التي تكون القصيدة الطويلة، و هي إما أن تكون بنية مسطحة تعبر عن تجربة غير متكاملة دون أن يكون للطول فيها ذلك التأثير المطلق ، أو أن تكون ذات بنية نامية بصرف النظر عن حدود الطول التي وُجِدت بها .
و هذا البحث يفتح لدينا الأفق إلى سؤال آخر يرتبط بالقصيدة الطويلة ،ونرى أنه يحتاج إلى دراسة مستقلة واعية قادرة على الوصول إلى نتائج دقيقة حوله، و السؤال هو : ما العوامل التي جعلت الشاعر / القصيدة يميل إلى الطول ؟ و ما صلة هذه العوامل بتشكيل القصيدة ؟ و ما صلتها برؤاها ؟
الصقر الأسود ...
2013-11-05, 20:58
الخاتمة
وقف البحث على دلالات مصطلح القصيدة الطويلة في الشعر العربي، وكشف عن التباين الحاصل في هذه الدلالة بين القدماء والمحدثين-من غربيين وعرب- ، وقد أظهرت مناقشة أبرز الآراء النقدية المنظورة في البحث أن هناك مظهرين اثنين يرتبطان بدلالة القصيدة الطويلة هما:المظهر الخارجي (الطول) ،والمظهر الداخلي (البنية) ، وهما مظهران لا يمكن تحقق أحدهما في غياب الآخر، ولا يمكن الاكتفاء بأحدهما لوسم القصيدة بصفة الطول، إلا أن كل مظهر منهما له خصوصيته التي تؤهله للإسهام في تحقيق دلالة مصطلح القصيدة الطويلة ،فالمظهر الخارجي (الطول) يتفاوت من نص لآخر مع المحافظة على حد أدنى معقول من الطول، وكذلك بنية القصيدة فإنها تعتمد على تقنيات توظيفية وأنماط بنائية تتناغم مع المساحة الكبيرة التي يوفرها الطول .
ومن غير المسلم به ربط القصيدة الطويلة بالبنية الدرامية ، أو التعقيد، أو الفكرة على حساب أنماط أخرى كالسردية أو الغنائية أو على حساب العاطفة ودون الالتفات إلى الطول بوصفه مظهرا خارجيا ملازما للقصيدة الطويلة.
napster94
2015-10-10, 16:28
الله يعطيك الصحة
kada2000
2016-04-04, 21:29
شكرا على الموضوع القيم
vBulletin® v3.8.10 Release Candidate 2, Copyright ©2000-2025, TranZ by Almuhajir