تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ~¤۩۝ النافذة ۝۩¤~


شاعر_الشوارع
2013-10-27, 19:22
يراقب ياسين سقف الغرفة، مسندا رأسه للوسادة في وضعية شاردة، تتردد عيناه بين تفاصيل السقف و بين علو النافذة، يمارس الغوص في الأشياء و في ما تحمله من ذكريات، يحاول قدر طاقته الضعيفة استنطاق الوجود الذي يحتويه، هو يعلم جيدا أن المثقف هو من يستنطق الجمادات ليخرج ما تختزنه من ذكريات و غموض يكتنفها ، فتولد عندها فرصة للإبداع، كما فعل نيوتن بتفاحته عندما أرشدته للعبقرية، يحاول أن يكون متعلقا بوسطه الضاج بالركود و التراجع يعطيه دينامكية و صخب الحضارة.

يعاوده الألم الذي أسلمه لغرفة في مستشفى حكومي مترف بالإهمال، الصداع كبير و متقطع يزيد و يتقلص مثل اهتمام الممرضين و الأطباء، لم يكن الصداع ما يعنيه، رغم أن السكري الذي أدى به للإغماء و أدى به للنوم في هذه الزاوية المهجورة منذ أسبوع، كانت الوحدة في تلك الغرفة هي هاجسه هذه اللحظات، لا يكاد يستقيم للوقوف، يراقب بعينيه السقف في لا مبالاة بمن حوله.

يسمع قرع خطوات تقترب من أذنيه التي بدأت تألف هذا الوسط الجامد، تتزايد معلنة عن تغيير الأجواء الليلية في المستشفى، الفراغ و السكون المزدحم في رأسه يجعله يلاحق أي حركة منظمة أو عشوائية، الوحدة تجعلك تختلق وجود حركات و أصوات تعرف مسبقا أنها غير موجودة.

بمحاذاة الباب يسمع حديثا لا يهتم بمعانيه، مهتم فقط بكسر الصمت المحيط بسريره الصدئ.
-سأدخله هنا.
-ضعه بجانب النافذة، و حاول مراقبته في فترات الليل.
دخل الممرض يدفع عربة المرضى ليضع شيخا كبيرا في السن، وضعه كما اشار إليه الطبيب تماما، ثم ولى نفسه للخروج غير عابئ بحالتهم.
أصيب نوعا ما بخيبة أمل، كان يرجو أن يكون صديق غرفته شابا يعرف التحدث في شؤون الشباب، فالعجزة قلما يتحدثون، الرتابة عندهم مبدأ يتمسكون به للخروج من الحياة دون صخب.

سادت لحظات طويلة لم يتكلم أي واحد فيهما كلمة واحدة عدا كلمات الترحيب، ليستسلما للصمت و التفكير الغير المعلن.

مر النهار دون أي محاولة للتواصل بينهما، حتى إذا كان المساء و أذان العصر يعلن للناس غيابهم عن أنفسهم ليراجعوا صِلاتَهُم بخالقهم، أقبل الممرض ليعطي حقنة للعجوز، أمسكه و حوله قبالة النافذة، عندها تكلم الشيخ دون سابق إنذار:



الدنيا فرصة للجمال، لا تعرف قيمتها حتى تمسك تذكرة السفر نحو الجهة الأخرى.


لم يستطع ياسين مقاومة إغراء العجوز للحديث، فحاول مسايرته في كسر الجمود، لم يمهله العجوز و واصل في شدوه:


الحياة...(و أشار نحو النافذة) ليست مثلما تراه خلف هذه النافذة.

فأسرع بالسؤال عما يوجد خارج الغرفة:


ماذا يوجد في الخارج؟...
ليست كل النوافذ تؤدي إلى جديد.. فبعضها تلفظك للحياة و أخرى توصد من خلفك عندما تطرد منها، لذلك عليك أن لا تهتم بالثقوب و عمقها و ما خلفها و لكن ماذا يجب أن ترتدي لتعبر عنق اليأس، تلك هي طريقة العبور الوحيدة نحو الفضاء الجميل.
لم أفهم قصدك؟
ستفهمه عندما تعبر كهفك مثلما سأعبر ظل شجرتي.... (صمت قليلا) ..بعد حين

تساءل في نفسه عن النوافذ، الكهوف و الطول الهندسي للظل التي يراها العجوز، و هل هناك نافذة غير تلك الواقفة أمامهم، تلك التي تشبه أصبعا يشير إليهم بالتحليق ،و يصدر إليهم النور في شكل زخات مطر هارب من غيمة جافة.
كل ما يتذكره هو ارتفاع ضغطه، و دخوله في غيبوبة لم يعرف كم دامت، أفاق في فراش في وسط غرفة ضاجة بالملل و البأس مثل هيأته، لا يستطيع الحراك تماما، و حديث العجوز لفته للنافذة التي لم يهتم بما وراءها، فراح يستحث العجوز لمواصلة تغريده، لأنه لا يستطيع الوصول إليها.
العجوز الذي تبدو من ملامحه قسوة الأحزان التي لم تمنحه فسحة كافية للفرح، التجاعيد البارزة في خديه و جبهته العريضة، تؤكد نظرية التطور التي أتى بها فرويد، و لكنها في الاتجاه المعاكس تماما.
واصل العجوز تعليقاته المبهمة عما يوجد في الخارج و كأنه يراقب مصيره:
الأولاد في تلك الساحة يلعبون بعيدا عنا و عن تجاعيد أملنا العاجز. طفل يطارد فراشة و كأنه يلاحق أمنياته بالتحليق، و فتاة تحتضن زهرة تشبه لحد كبير فيروز عندما غنت للقدس أسطورتها زهرة المدائن، كذلك تلك الفتاة تراقص ورود الحقل و كأنها بلبل الطفولة.
صمت العجوز، متأثرا بالحقنة، و استجمع نفسا من أنفه العريض المنتصب عوض قامته المنحنية، هو كل رواسب الأمل الهارب من جسمه الذي يشبه الأطلال، و كأنه يعد نفسه لمحاضرة سيلقي بها للشاب، و أشار للممرض أن يتركه قبالة النافذة، أراد الممرض أن يقول شيئا:


و لكنك...

أسرع العجوز بإسكات الممرض بنرفزة و صوت جهوري هو كل ما يملكه هذا الشيخ من قوة شبابه المضمحل.
خرج الممرض و هو يتمتم في نفسه:


غريب أمر الناس هذا الزمن.


أحس ياسين نوعا ما بروح تدخل لنفسه و رغبة للخروج و معاودة اللعب الطفولي، ثم سارع لاستفزاز الشيخ:



أيمكن أن تحكي لي أكثر عن هؤلاء الأولاد و شقاواتهم، أنا عاجز عن الحركة منذ دخلت هنا.

تنهد الشيخ تنهيدة و كأنه كان يستجمع الهواء و الحياة في رئتيه ليواصل مراقبة الحياة و لو من خلال نافذة مهترئة.


أمسك الطفل فراشته و أودعها روحه و راح يلاطف أجنحتها الغارقة في الألوان، الفراشة لا تحس بالخوف، تعرف جيدا أنها ستكون وليمة للبراءة، الفتاة قطفت الزهرة و هي تشتم عطرها و كأنها تتعاطف مع الربيع، بل هي تملأ روحها بالجمال، يقترب الطفل من الفتاة بخطوات قصيرة، يتوقف حينا و يمشي حينا، متردد و كأنه يعلم أنها منعطفات الخيبة.
هل كلم الفتاة؟ .. قال ياسين.
لم يكلمها، البراءة لا تعترف بالنفاق، تؤمن بالتصرفات الشفافة و الملامح، البراءة تتقن لغة العيون و الشفاه، إنه يبتسم لها و هي لا تملك لغة غيرها، فتغدق عليه بابتسامة أشبه ما تكون ضحكة.
هل تراه يحبها؟ و هل يا ترى ستحبه؟ و هل تراهما ينجحان في صيانة حبهما؟
ينظر إليها و إلى الفراشة، لقد أهداها فراشته، و لأنها تعرف جمال هديته تنازلت عن زهرتها و علقتها على صدره، الآن فقط تكامل الجمال و تعاطفت الكائنات معهم و راجت العصافير تحلق فوقهم، الأغصان تعانق الريح و تتمايل فرحا بحب بريء.

عندها صمت الشيخ و استسلم للنوم، و راح ياسين يغوص في نفسه و يكتشف إنسانيته و ينقب في منعطفات حياته التي لم يصادف فيها حبا مرة واحدة.
لم يحس بنفسه إلا و هو نائم حتى أقبل الصباح، استيقظ على حركة غريبة في الغرفة، و مجموعة من الممرضين يحيطون بسرير الشيخ.
أشار لأحد الممرضين يسأله عن السبب، حتى سمع أحدهم يقول، لقد مات في النوم، أتراه لم يتألم عندما مات نائما.
شعر ياسين بالألم يدب في أعماقه، رغم أن هذا الشيخ لم يعش معه إلا يوما واحدا و لكنه منحه نفسه و أعطاه فرصة للعودة لمحطة الحياة التي كان يريد الخروج منها.
في المساء عندما أقبل الممرض إليه سأله أن يحوله لسرير الشيخ، لبى الممرض رغبة ياسين، واصل توسله للممرض أن يجلسه أمام النافذة، ليرى ماذا كان يرى الشيخ.


حسنا سأوقفك عندها.

وقف أمام النافذة و بقي مندهشا مما رآه، الصدمة جعلته يتذكر عندها جغرافية المدينة و ماذا كان يوجد بمحاذاة العيادة، راقب بقلب جديد مجموعة من الناس تبدو من ملامح وجوههم الحزن و هم يزفون جسدا لأحد النوافذ، تزينه أثواب لون النور و تفوح منه رائحة الكافور، و غير بعيد عنهم يقفان في وسط المقبرة، هما من حدثه عنهم ذلك الشيخ، أكيد هناك يرقدان فحجم قبريهما ضئيلين و حافلين بالورود.

الصقر الأسود ...
2013-10-27, 21:49
أولا أسجل اعجابي الشديد لهذا القلم النابض بالخير
و ليس هذا إلاّ لأنّ صاحبه ذو قلب طيّب كبير ...
فـ أسعدك المولى دنيا و آخرة ...

فما طرحته بين أيدينا اليوم قصة في قمّة الجمال
و دليلا قاطعا على احترافية حرفك ...

"
'
إلاّ أنّ هذه المرة لي نقد بسيط ( لا ) من ناقد محترف ( بل ) من قارئ فقط .

فـ تخيل معي أنك تقص علي نص رواية و أنا المتصنت لمجرى أحداثها
و أنّ بجانبنا ببغاء يردد الكلمة مرّات . ألا تشعر حينها بإزعاج ؟
فقد حدث في هذا النص الجميل ( أنّ التكرار ) يكسر سيرورة الأحداث ، و يفصل معاني الكلمة عن هدفها المنشود ..
و عذرا بحجم الكون ....
و لك مني و لمدادك العذب كل الاحترام و التقدير ...

شاعر_الشوارع
2013-10-27, 22:07
أولا أسجل اعجابي الشديد لهذا القلم النابض بالخير
و ليس هذا إلاّ لأنّ صاحبه ذو قلب طيّب كبير ...
فـ أسعدك المولى دنيا و آخرة ...

فما طرحته بين أيدينا اليوم قصة في قمّة الجمال
و دليلا قاطعا على احترافية حرفك ...

"
'
إلاّ أنّ هذه المرة لي نقد بسيط ( لا ) من ناقد محترف ( بل ) من قارئ فقط .

فـ تخيل معي أنك تقص علي نص رواية و أنا المتصنت لمجرى أحداثها
و أنّ بجانبنا ببغاء يردد الكلمة مرّات . ألا تشعر حينها بإزعاج ؟
فقد حدث في هذا النص الجميل ( أنّ التكرار ) يكسر سيرورة الأحداث ، و يفصل معاني الكلمة عن هدفها المنشود ..
و عذرا بحجم الكون ....
و لك مني و لمدادك العذب كل الاحترام و التقدير ...





أيها الرائع مثل النسيم الصباحي

فعلا كما قلت

كنت قد نشرت قصتي في مكان آخر و حصل أن نالت قرءاة أحد كبار القصاص العرب و رأى رأيك
و أقسم أنني لم أنتبه

قد قمت بتعديل أولي للقصة
و لكنها ما زالت في طور إعادة تشكيل للبناء لتكون أكثر جمالا

التكرار أحيانا لا يكون عائقا
و لكنه هنا فعلا و قف في وجه جمال النص


بوركت ايها الجميل الصقر
و فعلا الأسود يليق بك و كذلك التحليق


تقديري و محبتي

شاعر_الشوارع
2013-10-28, 17:55
الصقر الأسود

قد قمت بتعديل القصة

أرجو أن تمر لترى هل تغيرت للأفضل أم سقطت القصة للحضيض


تقديري و محبتي

الصقر الأسود ...
2013-10-28, 18:48
عندما يكون القلم في يدٍ تمتهن الإبداع غاية

تصير الحُصية للقلب زهرة ....

فـ هنيئا لنا و لـ قلمك بك .. (وقد ) صارت القصة في قمّة جمالها ....


حفظك المولى و أسعدك ... يا رائــع

"

'

بالمناسبة لي سؤال بسيط إنْ أمكن ..

- كيف خطرت لكـ فكرة هذه القصة ... ؟

شاعر_الشوارع
2013-10-28, 20:26
عندما يكون القلم في يدٍ تمتهن الإبداع غاية

تصير الحُصية للقلب زهرة ....

فـ هنيئا لنا و لـ قلمك بك .. (وقد ) صارت القصة في قمّة جمالها ....


حفظك المولى و أسعدك ... يا رائــع

"

'

بالمناسبة لي سؤال بسيط إنْ أمكن ..

- كيف خطرت لكـ فكرة هذه القصة ... ؟





شكرا أخي صقر

الحقيقة فكرة القصة استقيتها من القصةالتي وضعتها طيبة نفس (قصة مريضين و لكن القصة هناك كانت قصة انطباعية و لا تمت لفن القص بشئ)
أخذت الفكرة و قمت بنسج فكرة من خلال ذلك الحدث لأعطي للقارئ زاوية أخرى و عمقا أكبر للحياة

على كل أشكر تواصلك معي

محبتي و تقديري

الصقر الأسود ...
2013-10-28, 21:08
شكرا أخي صقر

الحقيقة فكرة القصة استقيتها من القصةالتي وضعتها طيبة نفس (قصة مريضين و لكن القصة هناك كانت قصة انطباعية و لا تمت لفن القص بشئ)
أخذت الفكرة و قمت بنسج فكرة من خلال ذلك الحدث لأعطي للقارئ زاوية أخرى و عمقا أكبر للحياة

على كل أشكر تواصلك معي

محبتي و تقديري

أخي الأستاذ ب . عبد الرزاق ..

ماسألتك إلاّ لأقول شيئا . و قد كان من ردك الأنيق ... فدمتَ كما أنت ( إنسان واقعي ،مبدع و بسيط ... ) و هذا قد يكون سر نجاحك الأكيد ( بإذن الله تعالى ) ....

فالقصّة هي ( أولاَ ) إحساس مفعم بالفكر و المشاعر . فلا يمكن لـ كاتب أن يكون ناجحا إلاّ إذا بسط ما يختلج بين حنايا الروح صرخة ( و إنْ ) كانت صامته ... ( كما في ) " مقصورة العقاب " .....

كن بخير يا رائع و لك مني كل الإحترام ، الإعجاب و التقدير ...

شاعر_الشوارع
2013-10-28, 21:45
إذن عرفت مرتعي الأخر

فهناك و هنا مجرد شخص يحتاج لمصاحيتكم و رأيكم
أحتاج لروحكم الطيبة و قلوبكم

هنا كانت بدايتي و هناك أتطلع للإحتراف و الإحتكاك بالكبار يصقل الموهبة جيدا

أتمنى رؤيتك هناك أيضا فمثلك أستمتع به جيدا

مقصورة العقاب
شهداء الماء بجزئيه
و زهرة
و الآن النافذة
و القادم سيكون معكم أحلى

أتعلم هذا الركن من المنتدى أحببته لأجلك


محبتي و تقديري

الصقر الأسود ...
2013-10-28, 22:48
إذن عرفت مرتعي الأخر

فهناك و هنا مجرد شخص يحتاج لمصاحيتكم و رأيكم
أحتاج لروحكم الطيبة و قلوبكم

هنا كانت بدايتي و هناك أتطلع للإحتراف و الإحتكاك بالكبار يصقل الموهبة جيدا

أتمنى رؤيتك هناك أيضا فمثلك أستمتع به جيدا

مقصورة العقاب
شهداء الماء بجزئيه
و زهرة
و الآن النافذة
و القادم سيكون معكم أحلى

أتعلم هذا الركن من المنتدى أحببته لأجلك


محبتي و تقديري


أخي الغالي ....

كلنا (أطيافٌ ) نمر حذو المرايا ( متنكرين ) . و كل منا (بسبب ) أو لـ (غاية ) ..
ف البعض وراء الأشفاق مهرولين. و ( البعض ) لا يسعى (إلأ ) لمعطف من ظلّ قنديل ، و .. وسادة من حصير . و ( أنا ) من ذا النوع الأخير ...

فقد جرّبتُ المواقع الأدبية من سنين . و لي من الأصدقاء الشعراء و الكتاب ما لا يُحصى . وقد كتبتُ حتى صرتُ لقلمي عجوز .و ما فكرتُ في لحظة أنْ أسعى وراء شيء لا أهواه ... ( فـ المداد ) ليس إلاّ لأخفف من عبأ الزمان شيئا .. ( لا غير ) ...

فهنيئا لي بصديق مثلك و أعتز بك . و هنيئا لك بـ ما تصبو إليه بحول الله تعالى ...
و لك مني القارئ الوفي ( و الناقد الجريئ :) ) ...

حفظك المولى يا رائع ....

فاطمة بنت الأحمدي
2013-10-30, 19:27
قطعة ممتعة وتحليل عميق
سرد (تفاصيل الشخصية) تفجيري مفاجَئي // جميل جدًّا



لو تخلصت من "القوائم" بعد اكتمال النسج ربما يكون أفضل
فعمود الاتكاء واضح حدّ التشوه

احترامي