طالب حسنات
2009-06-06, 13:36
الى كل الاخوة والأخوات كل من هو عازم على مسابقة الماجستار حبذا لو تأملت قليلا في هذا العرض المتواضع الذي قد ينفعك في أخذ فكرة عن تحليل النص الأدبي الذي لابد منه يوم المسابقة..
توطئة :
تقومُ هذه الدراسة على تتبّع أهمّية المنهجيّة في الحصول على المعرفة الحقيقية، وحضور القارئ كركنٍ أساسي لفهم حركة الإنسان والثقافة والأدب، واعتماد النص كمدخل دراسي.
بداية ، فإنّ مصطلح منهجيّة ليس طارئاً على العقلية العربية؛ فلقد وردت عند العرب في تراثهم، فذكرها ابن منظور في " لسان العرب" مادة نهج ، فقال : نَهَجَ: نَهْجٌ : طريق بَيّنٌ واضح، وهو النّهجُ ، ومَنَهجُ الطريق وضحه، والمنهاج: كالمَنْهجُ، وفي التنزيل: "لكلٍ جعلنا منكم شِرعة ومِنهاج)ً" . والمِنهاج : الطّريقُ الواضحُ، وَنهجْتُ الطريقَ: سلكتُه، والنهج: الطريق المستقيم"
والمنهجية هي الطريقة الواضحة التي يجب على الباحث والدارس أن يسلكها في بحثه، وهي مجموعة التقنيات والوسائل التي تساعده في الحصول على المعرفة.
إن اهتمام العرب والمسلمين بمناهج العلوم من الأمور المعروفة لدى الدارسين، بحيث شهد بذلك الدارسون العرب والمستشرقون ، وإن كثرة الدراسات والمؤلفات عند المؤلفين العرب القدماء في هذا الباب لتؤكد على ذلك ، فقلما نجد عالماً لم يخض في أهمية العلم، وأسلوب المعلم والمتعلم ، وربط الدراسات النظرية بالعملية. فلقد أورد الغزالي تجربته في الحصول على غاية العلوم وأسرارها، في كتابه القيّم "المنقذ من الضلال". وذكر ابن جماعة في كتابه" تذكرة السامع والمتكلم" الطريق الأمثل التي على المعلم أن يسلكه في طريقة توصيله لعلمه، وكذا آداب المتعلم في أسلوب تحصيل المعرفة.
كما ركز العرب في مؤلفاتهم على أهمية فهم المقروء، فلقد سئل أبو تمام : لما تقول من الشعر ما لا يفهم؟فأجاب : لم لا تفهم ما يقال؟.
وشهد العصر الحديث ثورة علمية كبيرة، وكان لدراسة النص وفهمه، أكبرُ الأثر في تقدم الإنسان وحصوله على هذه الكنوز العلمية والمعرفية، فاتخذ الباحثون والدارسون المنهجية العلمية
وسيلة البحث في دراسة النص الأدبي، وجعلوا منها الطريق الأمثل في اكتشاف حقيقة الأشياء ، عبر فهم النص أولاً، والدخول في عمق الحياة ثانياً.
والسؤال الذي يطرح نفسه، هل بدأنا نحن الدارسين العرب بالتعرف على منهجية العلوم؟ أم لا زلنا نبحث عن الطريق؟ .
وهل هناك علاقة بين فشل مشروعنا العربي النهضوي الحالي وغياب منهجية دراسة النصّ الأدبي؟ نعترف بداية أننا أصبنا –نحن العرب –بعقم في أسلوب حياتنا منذ بدية العصر الحديث حتى وقتنا الحاضر. فبدلاً من البحث عن منهجية توصلنا إلى التعرف على الواقع السلبي الذي نعيشه، والاستفادة من مناهج الآخرين ومعارفهم ؛ أصبحنا نعيش غياب الواقع، وانكماشه وانعدامه. وضبابية الرؤية المستقبلية . وأمسينا فريقين: فريقاً يعيش الماضي ويتقوقع فيه ، وآخر يعيش حاضر غيره ويتزمل به.
من هنا تكمن أهمية استخدام منهجية الدراسة الأدبية، فما زال كثير من الدارسين يتصورون أن الدراسات العلمية هي التي تحتاج إلى مناهج. أما الدراسات الانسانية والاجتماعية والأدبية ، فلا تحتاج للمنهجية، لذلك غاب القارئ المبدع واصيب النص الادبي بانتكاسة.
وعلى الرغم من وجود إضاءات في منهجية دراسة الأدب العربي بدأت تشق طريقها حديثاً، إلا أن هناك من الدارسين من حبس نفسه في دراساته النظرية. فلم يمزج بين معرفته للمناهج الأدبية الحديثة ، وتطبيقها على النصوص ، وتوصيلها إلى طلابه ، ومنهم من لم يستطع أن يوفق بين الأصالة المعاصرة وبين إرث الأمة وحضارتها وبين متطلبات الحياة الحديثة، إضافة إلى ضعف معرفة المناهج الدراسية، وقلة المحصول في معرفة المناهج الحديثة لدى طلابنا في المدارس والجامعات.
لم تعد معرفة النص مجرد أداة للمعرفة ، بل أصبح النص كما يقول علي حرب: " ميداناً معرفياً مستقلاً أي مجالاً لإنتاج معرفة تجعلنا نعيد النظر فيما كنا نعرفه عن النص والمعرفة في آن من هنا فهو يستأثر الآن باهتمام الباحثين ، وينشغل به أهل الفكر على اختلاف ميادين علمهم ومجالات اختصاصهم . "
أمّا القفز فوق الخطاب وعالم النص والخروج عن فهم النص ، فقد أوصلنا إلى حافة الانهيار، فأصبحنا نتلاعب بالألفاظ والمصطلحات ، وانقلبت المفاهيم والمعايير. فغدا الحق باطلاً، والباطل حقاً، والمنكر معروفاً والمعروف منكراً. بل أكثر من ذلك بدأنا نرى الظلام نوراً والنور ظلاماً بسبب غياب منهجية القراءة السليمة ، والعزوف عن فهم المعارف والعلوم. وبدلاً من العيش في منابع الحق والحقيقة، أمسينا جثثاً هامدة أفراداً وجماعات ، وبدلاً من التمسك بمناهج العلم والأخذ بأسباب القوة. رضينا بمعيشة الذل والهوان تحت حراب الأعداء.
ومن الأسس التي يقوم عليها هذا المنهج ما يلي :
شمولية النص :
إن دراسة النص أصبحت شموليةً . وهذا يعني أن دراسة النص لم تعد منغلقة على نفسها ، وإنما بدأت تدخل في حسابها مكتسبات العلوم الأخرى، التي تهتم بالاتصال الإنساني، من معرفة أحكام شرعية وفقهية ومجالات التاريخ وعلم النفس ، وعلم الاجتماع وعلم النفس المعرفي، وغيرها. فمعرفة النصُ أصبحت صناعة متكاملة تحتاج لدراستها فهم أنماط الحياة البشرية ، فالنص بهذا المفهوم يصبح مدخلاً لفهم الحياة ، ويؤسس طريقاً واضحاً لحياة الأفراد والجماعات.
"ولذا فإن لغة علم النص لا تتوقف عند كلمات النص ، وما يمتلكه مستويات الدرس اللغوي من أصوات وصرف ونحو ودلالة فحسب . وإنما يحاول النفاذ إلى ما وراء النص الجاهز من عوامل معرفية ونفسية واجتماعية ، ومن عمليات عقلية، كان النص حصيلة لتفاعلها جميعاً ".
وهذا يؤكد أن أهمية النص تكمن فيما يؤثره في القارئ ، وما يخلقه من تثوير داخلي في نفسه ، كذلك وما يحدثه في نفسه من نقلة نوعية في التفكير، ومن السطحية في التعامل مع الأشياء ، إلى عمق الرؤية ورحابة الحياة.
وإن قراءة النص قراءة منهجية تعني صياغة جديدة لإنسان متطور، لا يقبل العيش داخل الرقع الصغيرة، والانضواء تحت سلطة التقزيم والانكسار والترهل والهزيمة، بل يجعل من فهم النصوص عالماً متجدداً يساهم في خلق واقع متغير وثابت ، وبمقدار الدخول في عالم النص نستطيع زحزحة المشكلة التي نعيشها ونعني بها غياب الإنسان العربي عن صناعة الأحداث العربية والعالمية والتأثير فيها .
"فنحن نبحث عن قارئ يشتغل على النصوص مساءلة واستنطاقاً ، أو حفراً أو تنقيباً أو تحليلاً وتفكيكاً، وإلى قارئ يدرك بأن النص بات يشكل منطقة من مناطق عمل الفكر. وهذا ما يجعل منه حقلاً يتكشف فحصه والاشتغال فيه عن إمكان للوجود والفكر معاً. ومعنى الإمكان هنا ان استكشاف النص يؤول إلى إعادة ترتيب علاقتنا بوجودنا ومقولاتنا بالحقيقة والذات والعقل والمعنى والمؤلف والقارئ."
*الاستفادة من الدراسة البنيوية :
تعتبر البنيوية ثورة في المناهج الحديثة في الدراسات الأدبية . بل نستطيع أن نقول إنها انقلاب في التفكير الإنساني، ونظرة جديدة لفهم الإنسان ، والأدب، والحياة. ليس من خلال طرحها أسلوباً صارماً للتحليل المتأسس في علم الألسنية" Linguistics"، بل كونها أيضاً "فلسفة ورؤية قادرة على تجديد كل إحساسنا بمعنى الحياة ، ففي سنة 1963 كتب رولاند بارت "Roland Barthes " ، قائلاً بأن البنيوية تسلط الضوء على العملية الإنسانية الصحيحة التي يعطي البشر من خلالها معنى للأشياء. هكذا يمكن أن يكون الإنسان الجديد بالنسبة للبحث البنيوي.
وهناك من الدارسين من يحاول هدمها ولكن هناك من الدارسين الذين عمدوا إلى تطويرها، أمثال ليفي ستراوس" Levi Straws " في كتابه المثولوجيا ، ومقدمة في التحليل البنيوي وغريماس" Greimes" في كتابه " دلالات الالفاظ البنيوية" ، وتودورف " Todorov" في شاعرية النثر " ومقدمة في أدب الفانتازيا". واصبح ما يعرف الآن بمصطلح ما بعد البنيوية . هذه هي الأوضاع التي نتكلم عنها في الغرب ولا سيما في فرنسا . ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو، هل ما زلنا نحن العرب نحتاج إلى البنيوية وغيرها؟
وأعتقد أننا لم ندرس البنيوية بشكل كاف حتى نحكم عليها، وعلى مدى صلاحية هذا المنهج وأهميته لدراسة أدبنا . سيما ونحن نعرف أن أكثر الدارسين العرب في المدارس والجامعات لا يستخدمون المناهج الحديثة في دراساتهم.
وأعتقد أن موجة رفض المناهج الحديثة تعد المشكلة الكبرى التي تواجه ثقافتنا ودراستنا الأدبية خاصة والتربوية عامة ، فلقد انقسم الدارسون إلى ثلاث فئات : فئة ترفض كل ما هو جديد من مناهج دراسية نقدية وتربوية، وهم الأكثرية ، وفئة أخرى أخذت تطبق المناهج الحديثة ، دون نظرة إلى خصوصية الثقافة العربية والإسلامية . وقسم آخر أخذ يشق طريقه بصعوبة لاستيعاب المناهج الحديثة ولا سيما البنيوية والسيميائية، والاستفادة منها في خلق إنسان عربي جديد ، يرفض الانزواء والانطواء والتقوقع والهزيمة .
وأعتقد أن الصنف الأخير هو ما نحتاجه ونبحث عنه في مدارسنا وجامعاتنا العربية، ونعني بذلك أولئك الذين يؤمنون بالمنهجية طريقة لفهم الحياة ، ضمن استيعاب خصوصية التراث لهذه الأمة ، إضافة إلى العمل على تعميق الانتماء والهوية لها.
إن المنهجية البنيوية لدراسة النص الأدبي هي المدخل الأساسي لاستيعاب الحياة المعاصرة ، وتكوين رؤى ثاقبة لفهمها، كما يقول كمال أبو ديب: " إن هدف هذه المهنجية أنها تعمل على تغيير الفكر العربي في معاينته للثقافة والإنسان والشعر، وإلى نقله من فكر تطغى عليه الجزئية والسطحية والشخصانية إلى فكر يترعرع في مناخ الرؤية المعقدة المتقصية، والموضوعية والشمولية والجذرية في آن، أي إن هذه المنهجية رفضية نقضية، لأن الزمن لم يعد زمن القبول بالرقع الصغيرة "
وعن دور هذا المنهج في الحياة والوجود يقول: "البنيوية ليست مجرد فلسفة نظرية ، ولكنها طريقة في التصور والفهم ، ومنهج في معاينة الحياة والوجود ، لهذا فهي تثوير جذري للفكر وعلاقته بالعالم"(8).
يقول الشاعر طرفة بن العبد في معلقته:
ألا أيهُّذا الزاجري أحضُر الوَغى
فإنْ كنْتَ لا تَستطيعُ دفعَ منيتّي
ولولا ثلاثُ هنّ من عيِشَة الفتى
فَمنّ سَبقي العازلات بِشَربةٍ
وكرّي إذا نادى المُضافُ محنّبا
وتقصيرُ يَوم الُدّجنِ والُدجّنُ مُعجِبُ
وأن أشهد اللذاتّ هل أنت مخلدي
فَدعنى أبادْرها بما مَلكتْ يدي
وَجدِّكَ لم أَحفلَ متى قام عُوّدي
كُميْتٍ متى ما تُعل بالماءِ تزُبدِ
كَسيدِ الغَضى نبّهتَهُ المتورّدِ
ببِهكنَةٍ تحت الطّراف المعمّد
إنّ الدراسة عير المنهجية لهذه المعلقة، جعل أكثر الدراسين ينظرون إلى الشاعر طرفة بن العبد على أنه مجرد شاعر عابثٍ لاه، لا يهتم بقبيلته، وفي ذلك يقول الدكتور سعد دعيبس عن هذا الشاعر في هذا المقطع: "فالإنسان عنده عرض لا مبرر لوجوده، وزائد دائماً عن الحاجة، ولذلك فإن العبث هو الكلمة النهائية في رواية الإنسان، إنها وجهة نظر فردية ممعنة في فرديتها لا تبالي إلا بالأنا، ولا تهتم إلاّ بالفعل الوجودي لها، وليذهب المجتمع بعد ذلك إلى الجحيم".
ومثل ذلك ما قاله الدكتور مصطفى ناصف: "يقف الشاعر طرفة بن العبد موقف التحدي من الشعور الديني السائد بين الناس، ولكن هذا التحدي يحمل طابع المآساة، طابع العجز والقدرة طابع الإنسان المحدود، والعقل غير الحدود".
أما الدراسة المنهجية فتقول: تتكون هذه المفردات الشعرية في هذا المقطع مما يلي: المنية حتمية، وعدم الخوف، وحضور المعارك، والاقبال على الحياة. فثلاثية حياة الشاعر هي: المرأة، والخمر والفروسية، المرأة استعمل معها تقصير اليوم الماطر، وشرب الخمر ضرورة حياتية في الجاهلية، أما الفروسية فهي الأساس في حياته فاستعمل معها الكر دون الفر، وأنه الذئب المتوثب دائماً للأنقضاض على فريسته.
إن الدراسة المتعمقة للنص ترينا الشاعر فارساً ومدفعاً عن قبيلته التي تعرف بأسه وقتاله، فهو الفتى الذي يلبي نداء قبيلته حينما يدعو داعي الحرب.
وفي ذلك يقول:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم اتبلّد
إنه الفتى المدافع عن قبيلته دون كسل أو تبلد، ثم يكمل معرفاً على شخصيته قائلاً:
أنا الرجلُ الضربُ الذي تَعرفونني
فاليتُ لا ينفك كشحي بطانهً
حُسام إذا ما قُمتُ منتصراً به
أخي ثقةٍ لا ينثني عن ضريبةٍ
إذا ابتدر القومُ السلاحُ وجدتني
خَاشّ كرأس الحّية المتوقّدِ
لعضب رقيق الشفرتين مهند
كفى العودُ منهُ ليس بمعضَدِ
إذا قيل مهلاً قال حاجزه قدي
منيعاً إذا بلّت بقائمة يدي
تقودنا الدراسة في هذا المقطع إلى أن المفردات الشعرية لهذا الشاعر هي: الرجل الضرب والمعروف لدى القبيلة والسريع الحركة بالمعارف كرأس الحية المتوقدة، صاحب السيف القاطع المنتقم والقاتل لأعداء القبيلة، والمنيع الذي لا يقُهر ولا يُغلب.
ومن خلال بنية الضمائر نلحظ الشاعر يستعمل الضمير أنا في مخاطبة الضمير أنتم (القبيلة) لوصف ذاته، فهو الرجل الضرب، والسريع في المعارك وقاتل الأعداء والذئب المفترس في ساحات الوغى والسريع الحركة كرأس الحية المتوقدة صيفاً، والفارس الذي لا يهزم في المعارك.
وللتعبيرعن ذاته ومحاربته مع قومه نرى الشاعر يذكر لهم من صفاته القتالية التي يعرفونها فيه.
وبهذا يصبح فهم القصيدة والنص مقاربة لفهم العالم ، فهذه الدراسة تحاول الربط بين النقد الأدبي المعاصر بجذوره التاريخية عبر تأصيلها ، والخروج من منطق التنظير الى منطق التطبيق
إن حاجتنا لفهم البنيوية والاستفادة من هذه التجربة الخلاقة ضرورة ملحة لدراساتنا الأدبية، لأن البنيوية محاولة جادة لاستيعاب النص الأدبي بشكله المعمق بعيداً عن الارتجالية والمزاجية.
وإذا كان النشاط البنيوي يعني تفكيك وإعادة تركيب موضع ما. من هنا فقد نظر البعض إليه بأنه غير مفيد وغير هام، وهذا غير صحيح. فعبر هذه المنهجية نستطيع توضيحها، ورؤية ما لم نكن نراه في السابق أي معرفة أشياء لم نكن نعرفها.
إن التحليل البنيوي المتميز يسمح حقاً بتحقيق ذلك، خصوصا إذا استعمل هذا المنهج مدرس متخصص واعٍ، يدرك حقيقة الأدب وكنهه، ويرى فيه مدخلا لفهم الحياة، وإيجاد بنية جديدة عميقة، بعيدة عن السطحية والتلفيق الذي يلجأ إليه الدارسون في أغلب دراساتهم الإنسانية والأدبية.
يقول الشاعر إبراهيم طوقان في قصيدة له بعنوان "يا رجال البلاد":
لا تلمني فكم رأيت دموعاً
قد سقى الأرض بائعوها بكاءً
وطني مُبتلى بعصبة دلالين
في ثياب تريك عزاً ولكن
كاذبات ضحكت ممن بكاها
لعنتهم سهولها ورُباها
لا يتقون فيه الله
حشوها الذلُّ والرياءُ سداها
ففي الوقت الذي يمجد به المؤرخون والدارسون زعامة البلاد في تلك الفترة، نرى الدراسة المنهجية لهذا المقطع من هذا النص، تعطينا وصفاً مغايراً. فالمفردات المعجمية لرجال البلاد: هم أصحاب الدموع الكاذبة، والمعلونون من الأرض سهلاً وجبلاً، وعصبة الدلاين، المساومون على بيع الأرض، الذين لا يخشون الله ولا يخافونه والمظهرون العزّة، وداخلهم الذل والرياء.
ففي مثل هذه الدراسة تصبح قراءة النص إعادة خلق للواقع، ومساهمة فاعلة في تشخيصه بعيداً عن الزيف والخنوع والاستسلام.
ومن خلال بنية الضمائر نلحظ الشاعر إنه يستخدم خطاب الأنا مع الضمير أنت، وهو الإنسان الحر الأبي الذي يرفض الضيم والتطبيل والتزمير. واستطاع الشاعر عبر تشكيل الضمير أنا من تصوير هموم الجماعة (الشعب والأمة). إنه الإنسان المقهور الرافض لكل أساليب الكذب والخداع والرضوخ.
كما أن هذه المنهجية تعطي الباحث الأداة المنهجية التي تساعده في الكشف عن الأحداث، وتعددية الظواهر السطحية من بنى فكرية وتنظيم اجتماعي واقتصادي.صحيح بأن هذه المنهجية لا يمكن لها أن تقدم لنا كل شيء. ومن الواضح كذلك أنني لم أر بأن التناول البنيوي للأدب هو التناول الوحيد، غير أنه سيكون مؤسفاً حقاً لو أننا اندفعنا وراء شعارات سهلة، ومفاهيم خاطئة لقذف البنيوية والمناهج المختلفة خارج التاريخ، وعلينا أن نفكر جدياً بدراستها، وماذا يمكن أن تقدم لنا؟
ولقد استفدت من هذه المنهجية في أطروحتي للدكتوراه والتي هي بعنوان الحروب الصليبية من خلال الشعر ، في الغترة ما بين 492 هـ - 648 هـ ، واعتمدت على الدواوين الشعرية كأساس دراسي ، وقمت بتحليلها ودراستها دراسةً داخليةً منهجيةً ، وتتبعت فيها الظواهر الشعرية من خلال هذه الدراسة، مقارناً ذلك مع المصادر الأدبية والتاريخية في تلك المرحلة.
وقمت منذ أكثر من عشر سنين بتطبيق هذا المنهج في تدريسي لطلابي في الجامعة، إضافة لإعدادي أبحاثاً علمية متفرقة ستنشر قريباً.
لقد توصلت الألسنية إلى درجة من التعقيد مماثلة تلك التي تلقاها علوم الطبيعة، وبذلك استحقت اسم العلم بعد أن باتت، قادرة على بناء نماذج متلاحمة وناجعة لموضوع دراستها، وكما يقول روجيه غارودي: " فقد توصلت الألسنية قبل سائر العلوم الإنسانية الأخرى إلى بلوغ دقة تشابه دقة علوم الطبيعية فقد حازت على موضوعية حقيقية، ومن خلال الانثرويولوجيا البنائية" (16).
وإذا كان هناك من المهتمين بالبنيوية قد ركزوا على الجانب اللغوي الداخلي مثل دي سوسير، "فإن غولدمان قد اتفق مع بارت في أن دراسة البنية الداخلية أولاً، مع ضرورة دراسة الحياة الانفعالية للمؤلف، ولكنه يتجاوزها بالتأكيد على اندماج الأثر الأدبي ومؤلفه في بنية أوسع هي البنية الاجتماعية والذهنية الثقافية، وهكذا فإن عملية الفهم أو الدراسة الظواهرية للنص تكون مجردة من أي نص إذا لم توّد إلى عملية التفسير أو الدراسة التكوينية للنص"(17).
فقد كان دي سوسير يرى بأن اللغة:"عبارة عن نظام من العلاقات ترتبط فيما بينها بعلاقات عضوية من التوافق والاختلاف تبدأ من الكلام إلى الجملة إلى الكلمة، وحتى تنتهي إلى السمة المميزة لأصغر وحدة مرتبة في اللغة مثل الجهر والهمس والشدّة وغيرها".
وهكذا نادى رولان بارت قائلاً: " علينا أن نكتشف عالم اللغة، على نحو ما نستكشف الآن عالم الفضاء، وربما أصبح هذان الكشفان أهم سمة يتميز بها عصرنا".
وهكذا فقد كونت الالسنية البنيوية مجالاً معرفياً قائماً بنفسه، حيث حققت مجموعة من الشروط العلمية التي تصنفها مع العلوم الدقيقة "ولإن من خصائص اللغة الإنسانية الإبداع أو القدرة الإبداعية أي قدرة اللغة الإنسانية غير المحدودة، ونعني بها الطاقة أو القدرة التي تجعل أبناء اللغة الواحدة قادرين على إنتاج وفهم عدد كبير بل غير محدود من الجمل التي لم يسمعوها قط، ولم ينطق بها أحد من قبل".
الاستفادة من الدراسة السيمولوجية
[FONT=Arial]والسيمولوجية تعني علم الرموز والإشارات، وترى بأن الأحداث والظواهر والأشياء ليس لها وظيفة ثقافية بقدر ما لها من معنى والأشياء التي لا معنى لها، إنما هي بطبيعتها ظواهر اجتماعية أفضل أسلوب لفهم أسلوب البنى المشتركة التي عن طريقها يؤلف المعنى ذاته.
أما دي سوسير فيعرف السيمولوجية: "بأنها العلم الذي يدرس حياة العلامات في كنف الحياة الاجتماعية، من خلال عدم الفصل بين مادة التعبير ومعنى التعبير، وهي تقترب من المحتويات، وتحاول الابتعاد شيء فشيئاً عن الدلالات"(21).
أما رولان بارت فيرى بأن السيمولوجية "هي ذلك العمل الذي يصفي اللسان، ويطهر اللسانيات، وينقي الخطأ- مما يعلق به أي- الرغبات والمخاوف والإغراءات والعواطف والإحتجاجات والإعتذارات والإعتداءات والنغمات، وكل ما تنطوي عليه اللغة الحية".
في علم السيمولوجيا ابتعاد عن السلطة وقيودها ولهذا نراه يقول : " كلما كان هذا التدريس حرّاً، فإن الخطاب عليه أن يتحرر من كل رغبة في السيطرة. إنها تقوم ضد السلطة في أشكالها المتعددة "
وننتقل إلى دراسة نص آخر للشاعر نزار قباني بعنوان : قارئة الفنجان:
فَحبيبةُ قلبك يا ولَدي
والقصر كبيرُ يا ولدي
وأميرةُ قلبك نائمة
من يَطلُب يدها من يدنو
من حاول حَلَّ ضفائِرها
نائمةُ في قَصر مَرصودْ
وكلابُ تحرسُهُ وجنودْ
من يَدخُل حجرتها مَفْقُودْ
من سُور حَديقتها مَفقْودْ
يَا ولدي مفقوْدٌ مَفقْودْ
في هذا النص الشعري، يستحضر الشاعر قارئة فنجان، ليجعل منها الذات المحاورة والمشخصة لواقعه ومستقبله، كعادة شعراء العرب القدماء في ايقاف الأصحاب، ليبثوا لهم آمالهم وآلامهم.
إن المفردات الشعرية لهذه المحبوبة هي: حبيبة قلب الشاعر، والنائمة في القصر المرصود، والقصر كبير، وحراسه الكلاب والجنود،ومصير الداخل لحجرتها مفقود، وكذا الطالب ليدها والذي يدنو من سور حديقتها، والمحاول الاقتراب منها مفقود.
فأي امرأة جميلة هذه التي تحرسها الكلاب والجنود، والنوم ملازم لها؟ ولا يستطيع أحد الاقتراب منها أو مجرد المطالبة بها، فمصيره الفقدان في عالم القتل والتعذيب.
هناك من يقف عند حدود الدراسة السطحية فتصبح عنده مجرد امرأة جميلة، وصورة للحب والعشق، لكن الدراسة المتعمقة تجعل من هذه المرأة صورة للسياسة والقهر.
إنها رسم للحرية ولهذا يستخدم الشاعر مفردات سياسية واضحة: الأسوار الحصينة والحراس كلاب وجنود، والفقدان لكل من يقترب منها، أنها مفردات الخوف والاذلال واليأس والحرمان، الذي يعيشه الشاعر وكل الأحرار.
وتصبح صورة للصراع بين الإنسان الثائر، وبين السلطان الجائر، بين الإنسان المقهور والمطالب لحريته ووجوده، وبين المتسلطين على الرقاب المانعين للنهوض والكرامة، إنهّ صراع بين عالمين: عالم الأحرار وعالم العبيد، والخير والشر.
ومع كل هذا الحب المستحيل بين الشاعر والمرأة دراسة سطحية، وبين الشاعر والسياسة والحرية دراسة معمقة، يُصرّ الشاعر على السير والابحار والسفر والترحال والحروب والقتال، حتى الوصول إلى المبتغى، مع علمه بشدة المعاناة والمصير.
ونقف مع الشاعر محمود درويش في ديوانه "أحد عشر كوكباً" وفي قصيدته من أنا... بعد ليل الغريبة الذي يقول فيها:
كنت أمشي إلى الذات في الآخرين، وها أنذا
أخسرُ الذات والآخرين، حصاني على ساحل الأطلس اختفى
وحصاني على ساحل المتوسط يُغمد رُمح الصليبيّ فيَّ
من أنا .... بعد ليل الغريبة؟
الشاعر محمود درويش يجعل من نفسه السائل والمجيب، فمفردات المرحلة كما تظهر عند الشاعر: خسارة الذات والآخرين، وحصان الأطلسي اختفى، وحصان المتوسط هو الرمح القاتل، والذي يغمده الاعداء فينا. فقوة العرب أصبحت السيف الذي يقتل به العرب أنفسهم.إنّه وصف للمرحلة العربية المتردية.
وهكذا يصبح الضمير أنا مجسداً لواقع نحن الجماعية، واقع الأنا المهزومة والمقهورة، واقع الانحسار والاحباط بعد ليل الغريبة "مؤتمر مدريد للسلام. عام 1991"، ويظهر ذلك جلياً في كل قصائد ديوان "أحد عشر كوكباً". من ذلك قصيدة بعنوان الكمنجات:
الكمنجان تبكي مع الغجر الذاهبين إلى الأندلس
الكمنجات تبكي على العرب الخارجين إلى الأندلس
الكمنجات تبكي على زمن ضائع لا يعود
الكمنجات تبكي على وطن ضائع قد يعود
يصبح العرب في نظر الشاعر في هذا المقطع أجساماً محنطة، ومجموعة من الغجر الذاهبين إلى الأندلس، نقيض العرب الفاتحين. إنه زمن الخسران والسقوط والانهزام، وزمن النذالة والضياع، ضياع الإنسان والأرض.
وفي ذلك يقول الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف:
"والغاية من التحليل النصي محاولة فهم النص وتفسيره من خلال مكوناته، عبر الدخول إلى عالم النص، وإضاءتها وكشف أسرارها اللغوية، وتفسير نظام بنائها، وطريقة ترتيبها، وإدراك العلاقات فيها، وبيان الوجوه الممكنة للنص. بعيداً عن رؤية الأشياء التي ليس لها سند في النص وبعيداً عن الاحلام، وبعيداً عن شرح المفردات، وتحويل البيت من الشعر إلى النثر".
وهكذا فإنه لا يستطيع أحد أن يدرس نصاً من غير أن يرجع إلى نسق داخلي، والقواعد التي أنتجتها، وعملت على بنائها، وهنا تأتي أهمية البحث عن البنية بالنسبة إلى الدارس والباحث.
"لقد قاد العمل السيميائي النص إلى أن يتساوى مع البحث ليس اعتباره موضوعاً حسابياً ولكنه حقلاً منهجياً تتابع فيه العبارة والتعبير، سواءً أكان حديثاً بشكل مطلق أو من الأعمال القديمة" .
ولا ريب أن من الدوافع التي دعت إلى تعاظم الاهتمام بالسيمياء، " تشعب الموضوعات التي يتناولها هذا العلم مثل: علامات الحيوانات والموسيقى واللغات، وقواعد الكتابة والايدلوجيات. إن الاقبال على السيمياء هو نتيجة حاجة الفروع المذكورة لأدوات قادرة على وصفٍ وتفسيرٍ يتمتعان بدرجة رفيعة من الدقة" .
وسيمولوجية الأدب تنطلق "من اعتبار العمل الأدبي نتاجاً رمزياً معقد التركيب له وجوده الصلب والمتميز، مما لا يسيغ لمؤرخ الأدب أن يلحقه بالتاريخ ولا لعالم الاجتماع بالمجتمع، ولا لعالم النفس بعلم النفس، ولا للعالم النفساني بالتحليل، ولا لعالم اللغة بالألسنية….للنتاج الأدبي صلة أكيدة بكل من هذه العلوم"، كما أن العمل الأدبي مركب تركيباً مزجياً متعدد المستويات والدلالات والأبعاد".
ويلحظ الدارس أن هناك تنوعاً في مصطلح السيمولوجيه من مثل: السيمولوجيا والسيمياء والسيميائية وهذا التنوع يعود إلى أن هذا المصطلح جديد، ولم يستقر الباحثون على تسمية واحدة.
ولكن دراسة الأدب بعيداً عن المنهجية جعل الدراسات الأدبية خاصة والإنسانية عامة مجالاً للتأليف غير المنظم والشرح البسيط، وجعل من حركة القارئ أداة تلقين بعيداً عن التحليل المبدع.
ويرى انطوان طعمه بأن سيمولوجيا "الأدب تعتبر نفسها علماً "ف%u
توطئة :
تقومُ هذه الدراسة على تتبّع أهمّية المنهجيّة في الحصول على المعرفة الحقيقية، وحضور القارئ كركنٍ أساسي لفهم حركة الإنسان والثقافة والأدب، واعتماد النص كمدخل دراسي.
بداية ، فإنّ مصطلح منهجيّة ليس طارئاً على العقلية العربية؛ فلقد وردت عند العرب في تراثهم، فذكرها ابن منظور في " لسان العرب" مادة نهج ، فقال : نَهَجَ: نَهْجٌ : طريق بَيّنٌ واضح، وهو النّهجُ ، ومَنَهجُ الطريق وضحه، والمنهاج: كالمَنْهجُ، وفي التنزيل: "لكلٍ جعلنا منكم شِرعة ومِنهاج)ً" . والمِنهاج : الطّريقُ الواضحُ، وَنهجْتُ الطريقَ: سلكتُه، والنهج: الطريق المستقيم"
والمنهجية هي الطريقة الواضحة التي يجب على الباحث والدارس أن يسلكها في بحثه، وهي مجموعة التقنيات والوسائل التي تساعده في الحصول على المعرفة.
إن اهتمام العرب والمسلمين بمناهج العلوم من الأمور المعروفة لدى الدارسين، بحيث شهد بذلك الدارسون العرب والمستشرقون ، وإن كثرة الدراسات والمؤلفات عند المؤلفين العرب القدماء في هذا الباب لتؤكد على ذلك ، فقلما نجد عالماً لم يخض في أهمية العلم، وأسلوب المعلم والمتعلم ، وربط الدراسات النظرية بالعملية. فلقد أورد الغزالي تجربته في الحصول على غاية العلوم وأسرارها، في كتابه القيّم "المنقذ من الضلال". وذكر ابن جماعة في كتابه" تذكرة السامع والمتكلم" الطريق الأمثل التي على المعلم أن يسلكه في طريقة توصيله لعلمه، وكذا آداب المتعلم في أسلوب تحصيل المعرفة.
كما ركز العرب في مؤلفاتهم على أهمية فهم المقروء، فلقد سئل أبو تمام : لما تقول من الشعر ما لا يفهم؟فأجاب : لم لا تفهم ما يقال؟.
وشهد العصر الحديث ثورة علمية كبيرة، وكان لدراسة النص وفهمه، أكبرُ الأثر في تقدم الإنسان وحصوله على هذه الكنوز العلمية والمعرفية، فاتخذ الباحثون والدارسون المنهجية العلمية
وسيلة البحث في دراسة النص الأدبي، وجعلوا منها الطريق الأمثل في اكتشاف حقيقة الأشياء ، عبر فهم النص أولاً، والدخول في عمق الحياة ثانياً.
والسؤال الذي يطرح نفسه، هل بدأنا نحن الدارسين العرب بالتعرف على منهجية العلوم؟ أم لا زلنا نبحث عن الطريق؟ .
وهل هناك علاقة بين فشل مشروعنا العربي النهضوي الحالي وغياب منهجية دراسة النصّ الأدبي؟ نعترف بداية أننا أصبنا –نحن العرب –بعقم في أسلوب حياتنا منذ بدية العصر الحديث حتى وقتنا الحاضر. فبدلاً من البحث عن منهجية توصلنا إلى التعرف على الواقع السلبي الذي نعيشه، والاستفادة من مناهج الآخرين ومعارفهم ؛ أصبحنا نعيش غياب الواقع، وانكماشه وانعدامه. وضبابية الرؤية المستقبلية . وأمسينا فريقين: فريقاً يعيش الماضي ويتقوقع فيه ، وآخر يعيش حاضر غيره ويتزمل به.
من هنا تكمن أهمية استخدام منهجية الدراسة الأدبية، فما زال كثير من الدارسين يتصورون أن الدراسات العلمية هي التي تحتاج إلى مناهج. أما الدراسات الانسانية والاجتماعية والأدبية ، فلا تحتاج للمنهجية، لذلك غاب القارئ المبدع واصيب النص الادبي بانتكاسة.
وعلى الرغم من وجود إضاءات في منهجية دراسة الأدب العربي بدأت تشق طريقها حديثاً، إلا أن هناك من الدارسين من حبس نفسه في دراساته النظرية. فلم يمزج بين معرفته للمناهج الأدبية الحديثة ، وتطبيقها على النصوص ، وتوصيلها إلى طلابه ، ومنهم من لم يستطع أن يوفق بين الأصالة المعاصرة وبين إرث الأمة وحضارتها وبين متطلبات الحياة الحديثة، إضافة إلى ضعف معرفة المناهج الدراسية، وقلة المحصول في معرفة المناهج الحديثة لدى طلابنا في المدارس والجامعات.
لم تعد معرفة النص مجرد أداة للمعرفة ، بل أصبح النص كما يقول علي حرب: " ميداناً معرفياً مستقلاً أي مجالاً لإنتاج معرفة تجعلنا نعيد النظر فيما كنا نعرفه عن النص والمعرفة في آن من هنا فهو يستأثر الآن باهتمام الباحثين ، وينشغل به أهل الفكر على اختلاف ميادين علمهم ومجالات اختصاصهم . "
أمّا القفز فوق الخطاب وعالم النص والخروج عن فهم النص ، فقد أوصلنا إلى حافة الانهيار، فأصبحنا نتلاعب بالألفاظ والمصطلحات ، وانقلبت المفاهيم والمعايير. فغدا الحق باطلاً، والباطل حقاً، والمنكر معروفاً والمعروف منكراً. بل أكثر من ذلك بدأنا نرى الظلام نوراً والنور ظلاماً بسبب غياب منهجية القراءة السليمة ، والعزوف عن فهم المعارف والعلوم. وبدلاً من العيش في منابع الحق والحقيقة، أمسينا جثثاً هامدة أفراداً وجماعات ، وبدلاً من التمسك بمناهج العلم والأخذ بأسباب القوة. رضينا بمعيشة الذل والهوان تحت حراب الأعداء.
ومن الأسس التي يقوم عليها هذا المنهج ما يلي :
شمولية النص :
إن دراسة النص أصبحت شموليةً . وهذا يعني أن دراسة النص لم تعد منغلقة على نفسها ، وإنما بدأت تدخل في حسابها مكتسبات العلوم الأخرى، التي تهتم بالاتصال الإنساني، من معرفة أحكام شرعية وفقهية ومجالات التاريخ وعلم النفس ، وعلم الاجتماع وعلم النفس المعرفي، وغيرها. فمعرفة النصُ أصبحت صناعة متكاملة تحتاج لدراستها فهم أنماط الحياة البشرية ، فالنص بهذا المفهوم يصبح مدخلاً لفهم الحياة ، ويؤسس طريقاً واضحاً لحياة الأفراد والجماعات.
"ولذا فإن لغة علم النص لا تتوقف عند كلمات النص ، وما يمتلكه مستويات الدرس اللغوي من أصوات وصرف ونحو ودلالة فحسب . وإنما يحاول النفاذ إلى ما وراء النص الجاهز من عوامل معرفية ونفسية واجتماعية ، ومن عمليات عقلية، كان النص حصيلة لتفاعلها جميعاً ".
وهذا يؤكد أن أهمية النص تكمن فيما يؤثره في القارئ ، وما يخلقه من تثوير داخلي في نفسه ، كذلك وما يحدثه في نفسه من نقلة نوعية في التفكير، ومن السطحية في التعامل مع الأشياء ، إلى عمق الرؤية ورحابة الحياة.
وإن قراءة النص قراءة منهجية تعني صياغة جديدة لإنسان متطور، لا يقبل العيش داخل الرقع الصغيرة، والانضواء تحت سلطة التقزيم والانكسار والترهل والهزيمة، بل يجعل من فهم النصوص عالماً متجدداً يساهم في خلق واقع متغير وثابت ، وبمقدار الدخول في عالم النص نستطيع زحزحة المشكلة التي نعيشها ونعني بها غياب الإنسان العربي عن صناعة الأحداث العربية والعالمية والتأثير فيها .
"فنحن نبحث عن قارئ يشتغل على النصوص مساءلة واستنطاقاً ، أو حفراً أو تنقيباً أو تحليلاً وتفكيكاً، وإلى قارئ يدرك بأن النص بات يشكل منطقة من مناطق عمل الفكر. وهذا ما يجعل منه حقلاً يتكشف فحصه والاشتغال فيه عن إمكان للوجود والفكر معاً. ومعنى الإمكان هنا ان استكشاف النص يؤول إلى إعادة ترتيب علاقتنا بوجودنا ومقولاتنا بالحقيقة والذات والعقل والمعنى والمؤلف والقارئ."
*الاستفادة من الدراسة البنيوية :
تعتبر البنيوية ثورة في المناهج الحديثة في الدراسات الأدبية . بل نستطيع أن نقول إنها انقلاب في التفكير الإنساني، ونظرة جديدة لفهم الإنسان ، والأدب، والحياة. ليس من خلال طرحها أسلوباً صارماً للتحليل المتأسس في علم الألسنية" Linguistics"، بل كونها أيضاً "فلسفة ورؤية قادرة على تجديد كل إحساسنا بمعنى الحياة ، ففي سنة 1963 كتب رولاند بارت "Roland Barthes " ، قائلاً بأن البنيوية تسلط الضوء على العملية الإنسانية الصحيحة التي يعطي البشر من خلالها معنى للأشياء. هكذا يمكن أن يكون الإنسان الجديد بالنسبة للبحث البنيوي.
وهناك من الدارسين من يحاول هدمها ولكن هناك من الدارسين الذين عمدوا إلى تطويرها، أمثال ليفي ستراوس" Levi Straws " في كتابه المثولوجيا ، ومقدمة في التحليل البنيوي وغريماس" Greimes" في كتابه " دلالات الالفاظ البنيوية" ، وتودورف " Todorov" في شاعرية النثر " ومقدمة في أدب الفانتازيا". واصبح ما يعرف الآن بمصطلح ما بعد البنيوية . هذه هي الأوضاع التي نتكلم عنها في الغرب ولا سيما في فرنسا . ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو، هل ما زلنا نحن العرب نحتاج إلى البنيوية وغيرها؟
وأعتقد أننا لم ندرس البنيوية بشكل كاف حتى نحكم عليها، وعلى مدى صلاحية هذا المنهج وأهميته لدراسة أدبنا . سيما ونحن نعرف أن أكثر الدارسين العرب في المدارس والجامعات لا يستخدمون المناهج الحديثة في دراساتهم.
وأعتقد أن موجة رفض المناهج الحديثة تعد المشكلة الكبرى التي تواجه ثقافتنا ودراستنا الأدبية خاصة والتربوية عامة ، فلقد انقسم الدارسون إلى ثلاث فئات : فئة ترفض كل ما هو جديد من مناهج دراسية نقدية وتربوية، وهم الأكثرية ، وفئة أخرى أخذت تطبق المناهج الحديثة ، دون نظرة إلى خصوصية الثقافة العربية والإسلامية . وقسم آخر أخذ يشق طريقه بصعوبة لاستيعاب المناهج الحديثة ولا سيما البنيوية والسيميائية، والاستفادة منها في خلق إنسان عربي جديد ، يرفض الانزواء والانطواء والتقوقع والهزيمة .
وأعتقد أن الصنف الأخير هو ما نحتاجه ونبحث عنه في مدارسنا وجامعاتنا العربية، ونعني بذلك أولئك الذين يؤمنون بالمنهجية طريقة لفهم الحياة ، ضمن استيعاب خصوصية التراث لهذه الأمة ، إضافة إلى العمل على تعميق الانتماء والهوية لها.
إن المنهجية البنيوية لدراسة النص الأدبي هي المدخل الأساسي لاستيعاب الحياة المعاصرة ، وتكوين رؤى ثاقبة لفهمها، كما يقول كمال أبو ديب: " إن هدف هذه المهنجية أنها تعمل على تغيير الفكر العربي في معاينته للثقافة والإنسان والشعر، وإلى نقله من فكر تطغى عليه الجزئية والسطحية والشخصانية إلى فكر يترعرع في مناخ الرؤية المعقدة المتقصية، والموضوعية والشمولية والجذرية في آن، أي إن هذه المنهجية رفضية نقضية، لأن الزمن لم يعد زمن القبول بالرقع الصغيرة "
وعن دور هذا المنهج في الحياة والوجود يقول: "البنيوية ليست مجرد فلسفة نظرية ، ولكنها طريقة في التصور والفهم ، ومنهج في معاينة الحياة والوجود ، لهذا فهي تثوير جذري للفكر وعلاقته بالعالم"(8).
يقول الشاعر طرفة بن العبد في معلقته:
ألا أيهُّذا الزاجري أحضُر الوَغى
فإنْ كنْتَ لا تَستطيعُ دفعَ منيتّي
ولولا ثلاثُ هنّ من عيِشَة الفتى
فَمنّ سَبقي العازلات بِشَربةٍ
وكرّي إذا نادى المُضافُ محنّبا
وتقصيرُ يَوم الُدّجنِ والُدجّنُ مُعجِبُ
وأن أشهد اللذاتّ هل أنت مخلدي
فَدعنى أبادْرها بما مَلكتْ يدي
وَجدِّكَ لم أَحفلَ متى قام عُوّدي
كُميْتٍ متى ما تُعل بالماءِ تزُبدِ
كَسيدِ الغَضى نبّهتَهُ المتورّدِ
ببِهكنَةٍ تحت الطّراف المعمّد
إنّ الدراسة عير المنهجية لهذه المعلقة، جعل أكثر الدراسين ينظرون إلى الشاعر طرفة بن العبد على أنه مجرد شاعر عابثٍ لاه، لا يهتم بقبيلته، وفي ذلك يقول الدكتور سعد دعيبس عن هذا الشاعر في هذا المقطع: "فالإنسان عنده عرض لا مبرر لوجوده، وزائد دائماً عن الحاجة، ولذلك فإن العبث هو الكلمة النهائية في رواية الإنسان، إنها وجهة نظر فردية ممعنة في فرديتها لا تبالي إلا بالأنا، ولا تهتم إلاّ بالفعل الوجودي لها، وليذهب المجتمع بعد ذلك إلى الجحيم".
ومثل ذلك ما قاله الدكتور مصطفى ناصف: "يقف الشاعر طرفة بن العبد موقف التحدي من الشعور الديني السائد بين الناس، ولكن هذا التحدي يحمل طابع المآساة، طابع العجز والقدرة طابع الإنسان المحدود، والعقل غير الحدود".
أما الدراسة المنهجية فتقول: تتكون هذه المفردات الشعرية في هذا المقطع مما يلي: المنية حتمية، وعدم الخوف، وحضور المعارك، والاقبال على الحياة. فثلاثية حياة الشاعر هي: المرأة، والخمر والفروسية، المرأة استعمل معها تقصير اليوم الماطر، وشرب الخمر ضرورة حياتية في الجاهلية، أما الفروسية فهي الأساس في حياته فاستعمل معها الكر دون الفر، وأنه الذئب المتوثب دائماً للأنقضاض على فريسته.
إن الدراسة المتعمقة للنص ترينا الشاعر فارساً ومدفعاً عن قبيلته التي تعرف بأسه وقتاله، فهو الفتى الذي يلبي نداء قبيلته حينما يدعو داعي الحرب.
وفي ذلك يقول:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم اتبلّد
إنه الفتى المدافع عن قبيلته دون كسل أو تبلد، ثم يكمل معرفاً على شخصيته قائلاً:
أنا الرجلُ الضربُ الذي تَعرفونني
فاليتُ لا ينفك كشحي بطانهً
حُسام إذا ما قُمتُ منتصراً به
أخي ثقةٍ لا ينثني عن ضريبةٍ
إذا ابتدر القومُ السلاحُ وجدتني
خَاشّ كرأس الحّية المتوقّدِ
لعضب رقيق الشفرتين مهند
كفى العودُ منهُ ليس بمعضَدِ
إذا قيل مهلاً قال حاجزه قدي
منيعاً إذا بلّت بقائمة يدي
تقودنا الدراسة في هذا المقطع إلى أن المفردات الشعرية لهذا الشاعر هي: الرجل الضرب والمعروف لدى القبيلة والسريع الحركة بالمعارف كرأس الحية المتوقدة، صاحب السيف القاطع المنتقم والقاتل لأعداء القبيلة، والمنيع الذي لا يقُهر ولا يُغلب.
ومن خلال بنية الضمائر نلحظ الشاعر يستعمل الضمير أنا في مخاطبة الضمير أنتم (القبيلة) لوصف ذاته، فهو الرجل الضرب، والسريع في المعارك وقاتل الأعداء والذئب المفترس في ساحات الوغى والسريع الحركة كرأس الحية المتوقدة صيفاً، والفارس الذي لا يهزم في المعارك.
وللتعبيرعن ذاته ومحاربته مع قومه نرى الشاعر يذكر لهم من صفاته القتالية التي يعرفونها فيه.
وبهذا يصبح فهم القصيدة والنص مقاربة لفهم العالم ، فهذه الدراسة تحاول الربط بين النقد الأدبي المعاصر بجذوره التاريخية عبر تأصيلها ، والخروج من منطق التنظير الى منطق التطبيق
إن حاجتنا لفهم البنيوية والاستفادة من هذه التجربة الخلاقة ضرورة ملحة لدراساتنا الأدبية، لأن البنيوية محاولة جادة لاستيعاب النص الأدبي بشكله المعمق بعيداً عن الارتجالية والمزاجية.
وإذا كان النشاط البنيوي يعني تفكيك وإعادة تركيب موضع ما. من هنا فقد نظر البعض إليه بأنه غير مفيد وغير هام، وهذا غير صحيح. فعبر هذه المنهجية نستطيع توضيحها، ورؤية ما لم نكن نراه في السابق أي معرفة أشياء لم نكن نعرفها.
إن التحليل البنيوي المتميز يسمح حقاً بتحقيق ذلك، خصوصا إذا استعمل هذا المنهج مدرس متخصص واعٍ، يدرك حقيقة الأدب وكنهه، ويرى فيه مدخلا لفهم الحياة، وإيجاد بنية جديدة عميقة، بعيدة عن السطحية والتلفيق الذي يلجأ إليه الدارسون في أغلب دراساتهم الإنسانية والأدبية.
يقول الشاعر إبراهيم طوقان في قصيدة له بعنوان "يا رجال البلاد":
لا تلمني فكم رأيت دموعاً
قد سقى الأرض بائعوها بكاءً
وطني مُبتلى بعصبة دلالين
في ثياب تريك عزاً ولكن
كاذبات ضحكت ممن بكاها
لعنتهم سهولها ورُباها
لا يتقون فيه الله
حشوها الذلُّ والرياءُ سداها
ففي الوقت الذي يمجد به المؤرخون والدارسون زعامة البلاد في تلك الفترة، نرى الدراسة المنهجية لهذا المقطع من هذا النص، تعطينا وصفاً مغايراً. فالمفردات المعجمية لرجال البلاد: هم أصحاب الدموع الكاذبة، والمعلونون من الأرض سهلاً وجبلاً، وعصبة الدلاين، المساومون على بيع الأرض، الذين لا يخشون الله ولا يخافونه والمظهرون العزّة، وداخلهم الذل والرياء.
ففي مثل هذه الدراسة تصبح قراءة النص إعادة خلق للواقع، ومساهمة فاعلة في تشخيصه بعيداً عن الزيف والخنوع والاستسلام.
ومن خلال بنية الضمائر نلحظ الشاعر إنه يستخدم خطاب الأنا مع الضمير أنت، وهو الإنسان الحر الأبي الذي يرفض الضيم والتطبيل والتزمير. واستطاع الشاعر عبر تشكيل الضمير أنا من تصوير هموم الجماعة (الشعب والأمة). إنه الإنسان المقهور الرافض لكل أساليب الكذب والخداع والرضوخ.
كما أن هذه المنهجية تعطي الباحث الأداة المنهجية التي تساعده في الكشف عن الأحداث، وتعددية الظواهر السطحية من بنى فكرية وتنظيم اجتماعي واقتصادي.صحيح بأن هذه المنهجية لا يمكن لها أن تقدم لنا كل شيء. ومن الواضح كذلك أنني لم أر بأن التناول البنيوي للأدب هو التناول الوحيد، غير أنه سيكون مؤسفاً حقاً لو أننا اندفعنا وراء شعارات سهلة، ومفاهيم خاطئة لقذف البنيوية والمناهج المختلفة خارج التاريخ، وعلينا أن نفكر جدياً بدراستها، وماذا يمكن أن تقدم لنا؟
ولقد استفدت من هذه المنهجية في أطروحتي للدكتوراه والتي هي بعنوان الحروب الصليبية من خلال الشعر ، في الغترة ما بين 492 هـ - 648 هـ ، واعتمدت على الدواوين الشعرية كأساس دراسي ، وقمت بتحليلها ودراستها دراسةً داخليةً منهجيةً ، وتتبعت فيها الظواهر الشعرية من خلال هذه الدراسة، مقارناً ذلك مع المصادر الأدبية والتاريخية في تلك المرحلة.
وقمت منذ أكثر من عشر سنين بتطبيق هذا المنهج في تدريسي لطلابي في الجامعة، إضافة لإعدادي أبحاثاً علمية متفرقة ستنشر قريباً.
لقد توصلت الألسنية إلى درجة من التعقيد مماثلة تلك التي تلقاها علوم الطبيعة، وبذلك استحقت اسم العلم بعد أن باتت، قادرة على بناء نماذج متلاحمة وناجعة لموضوع دراستها، وكما يقول روجيه غارودي: " فقد توصلت الألسنية قبل سائر العلوم الإنسانية الأخرى إلى بلوغ دقة تشابه دقة علوم الطبيعية فقد حازت على موضوعية حقيقية، ومن خلال الانثرويولوجيا البنائية" (16).
وإذا كان هناك من المهتمين بالبنيوية قد ركزوا على الجانب اللغوي الداخلي مثل دي سوسير، "فإن غولدمان قد اتفق مع بارت في أن دراسة البنية الداخلية أولاً، مع ضرورة دراسة الحياة الانفعالية للمؤلف، ولكنه يتجاوزها بالتأكيد على اندماج الأثر الأدبي ومؤلفه في بنية أوسع هي البنية الاجتماعية والذهنية الثقافية، وهكذا فإن عملية الفهم أو الدراسة الظواهرية للنص تكون مجردة من أي نص إذا لم توّد إلى عملية التفسير أو الدراسة التكوينية للنص"(17).
فقد كان دي سوسير يرى بأن اللغة:"عبارة عن نظام من العلاقات ترتبط فيما بينها بعلاقات عضوية من التوافق والاختلاف تبدأ من الكلام إلى الجملة إلى الكلمة، وحتى تنتهي إلى السمة المميزة لأصغر وحدة مرتبة في اللغة مثل الجهر والهمس والشدّة وغيرها".
وهكذا نادى رولان بارت قائلاً: " علينا أن نكتشف عالم اللغة، على نحو ما نستكشف الآن عالم الفضاء، وربما أصبح هذان الكشفان أهم سمة يتميز بها عصرنا".
وهكذا فقد كونت الالسنية البنيوية مجالاً معرفياً قائماً بنفسه، حيث حققت مجموعة من الشروط العلمية التي تصنفها مع العلوم الدقيقة "ولإن من خصائص اللغة الإنسانية الإبداع أو القدرة الإبداعية أي قدرة اللغة الإنسانية غير المحدودة، ونعني بها الطاقة أو القدرة التي تجعل أبناء اللغة الواحدة قادرين على إنتاج وفهم عدد كبير بل غير محدود من الجمل التي لم يسمعوها قط، ولم ينطق بها أحد من قبل".
الاستفادة من الدراسة السيمولوجية
[FONT=Arial]والسيمولوجية تعني علم الرموز والإشارات، وترى بأن الأحداث والظواهر والأشياء ليس لها وظيفة ثقافية بقدر ما لها من معنى والأشياء التي لا معنى لها، إنما هي بطبيعتها ظواهر اجتماعية أفضل أسلوب لفهم أسلوب البنى المشتركة التي عن طريقها يؤلف المعنى ذاته.
أما دي سوسير فيعرف السيمولوجية: "بأنها العلم الذي يدرس حياة العلامات في كنف الحياة الاجتماعية، من خلال عدم الفصل بين مادة التعبير ومعنى التعبير، وهي تقترب من المحتويات، وتحاول الابتعاد شيء فشيئاً عن الدلالات"(21).
أما رولان بارت فيرى بأن السيمولوجية "هي ذلك العمل الذي يصفي اللسان، ويطهر اللسانيات، وينقي الخطأ- مما يعلق به أي- الرغبات والمخاوف والإغراءات والعواطف والإحتجاجات والإعتذارات والإعتداءات والنغمات، وكل ما تنطوي عليه اللغة الحية".
في علم السيمولوجيا ابتعاد عن السلطة وقيودها ولهذا نراه يقول : " كلما كان هذا التدريس حرّاً، فإن الخطاب عليه أن يتحرر من كل رغبة في السيطرة. إنها تقوم ضد السلطة في أشكالها المتعددة "
وننتقل إلى دراسة نص آخر للشاعر نزار قباني بعنوان : قارئة الفنجان:
فَحبيبةُ قلبك يا ولَدي
والقصر كبيرُ يا ولدي
وأميرةُ قلبك نائمة
من يَطلُب يدها من يدنو
من حاول حَلَّ ضفائِرها
نائمةُ في قَصر مَرصودْ
وكلابُ تحرسُهُ وجنودْ
من يَدخُل حجرتها مَفْقُودْ
من سُور حَديقتها مَفقْودْ
يَا ولدي مفقوْدٌ مَفقْودْ
في هذا النص الشعري، يستحضر الشاعر قارئة فنجان، ليجعل منها الذات المحاورة والمشخصة لواقعه ومستقبله، كعادة شعراء العرب القدماء في ايقاف الأصحاب، ليبثوا لهم آمالهم وآلامهم.
إن المفردات الشعرية لهذه المحبوبة هي: حبيبة قلب الشاعر، والنائمة في القصر المرصود، والقصر كبير، وحراسه الكلاب والجنود،ومصير الداخل لحجرتها مفقود، وكذا الطالب ليدها والذي يدنو من سور حديقتها، والمحاول الاقتراب منها مفقود.
فأي امرأة جميلة هذه التي تحرسها الكلاب والجنود، والنوم ملازم لها؟ ولا يستطيع أحد الاقتراب منها أو مجرد المطالبة بها، فمصيره الفقدان في عالم القتل والتعذيب.
هناك من يقف عند حدود الدراسة السطحية فتصبح عنده مجرد امرأة جميلة، وصورة للحب والعشق، لكن الدراسة المتعمقة تجعل من هذه المرأة صورة للسياسة والقهر.
إنها رسم للحرية ولهذا يستخدم الشاعر مفردات سياسية واضحة: الأسوار الحصينة والحراس كلاب وجنود، والفقدان لكل من يقترب منها، أنها مفردات الخوف والاذلال واليأس والحرمان، الذي يعيشه الشاعر وكل الأحرار.
وتصبح صورة للصراع بين الإنسان الثائر، وبين السلطان الجائر، بين الإنسان المقهور والمطالب لحريته ووجوده، وبين المتسلطين على الرقاب المانعين للنهوض والكرامة، إنهّ صراع بين عالمين: عالم الأحرار وعالم العبيد، والخير والشر.
ومع كل هذا الحب المستحيل بين الشاعر والمرأة دراسة سطحية، وبين الشاعر والسياسة والحرية دراسة معمقة، يُصرّ الشاعر على السير والابحار والسفر والترحال والحروب والقتال، حتى الوصول إلى المبتغى، مع علمه بشدة المعاناة والمصير.
ونقف مع الشاعر محمود درويش في ديوانه "أحد عشر كوكباً" وفي قصيدته من أنا... بعد ليل الغريبة الذي يقول فيها:
كنت أمشي إلى الذات في الآخرين، وها أنذا
أخسرُ الذات والآخرين، حصاني على ساحل الأطلس اختفى
وحصاني على ساحل المتوسط يُغمد رُمح الصليبيّ فيَّ
من أنا .... بعد ليل الغريبة؟
الشاعر محمود درويش يجعل من نفسه السائل والمجيب، فمفردات المرحلة كما تظهر عند الشاعر: خسارة الذات والآخرين، وحصان الأطلسي اختفى، وحصان المتوسط هو الرمح القاتل، والذي يغمده الاعداء فينا. فقوة العرب أصبحت السيف الذي يقتل به العرب أنفسهم.إنّه وصف للمرحلة العربية المتردية.
وهكذا يصبح الضمير أنا مجسداً لواقع نحن الجماعية، واقع الأنا المهزومة والمقهورة، واقع الانحسار والاحباط بعد ليل الغريبة "مؤتمر مدريد للسلام. عام 1991"، ويظهر ذلك جلياً في كل قصائد ديوان "أحد عشر كوكباً". من ذلك قصيدة بعنوان الكمنجات:
الكمنجان تبكي مع الغجر الذاهبين إلى الأندلس
الكمنجات تبكي على العرب الخارجين إلى الأندلس
الكمنجات تبكي على زمن ضائع لا يعود
الكمنجات تبكي على وطن ضائع قد يعود
يصبح العرب في نظر الشاعر في هذا المقطع أجساماً محنطة، ومجموعة من الغجر الذاهبين إلى الأندلس، نقيض العرب الفاتحين. إنه زمن الخسران والسقوط والانهزام، وزمن النذالة والضياع، ضياع الإنسان والأرض.
وفي ذلك يقول الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف:
"والغاية من التحليل النصي محاولة فهم النص وتفسيره من خلال مكوناته، عبر الدخول إلى عالم النص، وإضاءتها وكشف أسرارها اللغوية، وتفسير نظام بنائها، وطريقة ترتيبها، وإدراك العلاقات فيها، وبيان الوجوه الممكنة للنص. بعيداً عن رؤية الأشياء التي ليس لها سند في النص وبعيداً عن الاحلام، وبعيداً عن شرح المفردات، وتحويل البيت من الشعر إلى النثر".
وهكذا فإنه لا يستطيع أحد أن يدرس نصاً من غير أن يرجع إلى نسق داخلي، والقواعد التي أنتجتها، وعملت على بنائها، وهنا تأتي أهمية البحث عن البنية بالنسبة إلى الدارس والباحث.
"لقد قاد العمل السيميائي النص إلى أن يتساوى مع البحث ليس اعتباره موضوعاً حسابياً ولكنه حقلاً منهجياً تتابع فيه العبارة والتعبير، سواءً أكان حديثاً بشكل مطلق أو من الأعمال القديمة" .
ولا ريب أن من الدوافع التي دعت إلى تعاظم الاهتمام بالسيمياء، " تشعب الموضوعات التي يتناولها هذا العلم مثل: علامات الحيوانات والموسيقى واللغات، وقواعد الكتابة والايدلوجيات. إن الاقبال على السيمياء هو نتيجة حاجة الفروع المذكورة لأدوات قادرة على وصفٍ وتفسيرٍ يتمتعان بدرجة رفيعة من الدقة" .
وسيمولوجية الأدب تنطلق "من اعتبار العمل الأدبي نتاجاً رمزياً معقد التركيب له وجوده الصلب والمتميز، مما لا يسيغ لمؤرخ الأدب أن يلحقه بالتاريخ ولا لعالم الاجتماع بالمجتمع، ولا لعالم النفس بعلم النفس، ولا للعالم النفساني بالتحليل، ولا لعالم اللغة بالألسنية….للنتاج الأدبي صلة أكيدة بكل من هذه العلوم"، كما أن العمل الأدبي مركب تركيباً مزجياً متعدد المستويات والدلالات والأبعاد".
ويلحظ الدارس أن هناك تنوعاً في مصطلح السيمولوجيه من مثل: السيمولوجيا والسيمياء والسيميائية وهذا التنوع يعود إلى أن هذا المصطلح جديد، ولم يستقر الباحثون على تسمية واحدة.
ولكن دراسة الأدب بعيداً عن المنهجية جعل الدراسات الأدبية خاصة والإنسانية عامة مجالاً للتأليف غير المنظم والشرح البسيط، وجعل من حركة القارئ أداة تلقين بعيداً عن التحليل المبدع.
ويرى انطوان طعمه بأن سيمولوجيا "الأدب تعتبر نفسها علماً "ف%u