بوعلام بن حورة
2009-06-03, 15:15
كََشْفُ الهُُمُومِ عَنْ كُلِّ مَغْمُومٍ
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا ِِإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.....
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } (سورة آل عمران: 102)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كثيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (سورة النساء: 1)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }(سورة الأحزاب:70،71)
أما بعد....
فإن أصدق الحديث كتاب الله – تعالى- وخير الهدي هدي محمد r وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد... ،
فهذه رسالة إلى كل مَنْ اُبْتُلِى ببلاء في جسده أو في ماله أو في ولده.
إلى من أصابته الكربة بفقد الأحبة.
إلى كل محزون ومكروب.
إلى كل مريض أو فقير معدوم.
إلى كل مهموم ومغموم.
حبيبي في الله....
أهدي إليك هذه الكلمات لأمسح بها دمعك، وأخفف بها عنك حزنك وهمك، فهي بمثابة التسلية والعزاء لكل محزون مصاب، تشرح صدره وتجلب صبره وتهون خطبه وتخفف أمره، ويلحظ بها ثوابه على الصبر وأجره.
وقبل أن نشرع في الموضوع هناك بعض الأمور ينبغي أن نقف عليها كتعريف البلاء والحكمة منه، وأنواع الابتلاء، ومن هم أهل الابتلاء الحقيقي ؟ ثم مشاهد من الابتلاء.
وأخيراً حقائق يجب الوقوف عليها وهي مقصود الرسالة، أسأل الله أن يجعلها سبباً لرفع الهموم والغموم عن كل محزون أو مكروب ...... اللهم آمين
أولاًً: تـعـريف الـبـلاء:
البلية والبلوى والبلاء كلها واحد، والجمع: البلايا
وبلاه:جرّبه واختبره وبلاه الله: اختبره
والبلاء يكون بالخير والشر
قال القرطبي – رحمه الله – في الجامع لأحكام القرآن (1/387) قال أبو الهيثم:
البلاء يكون حسناً ويكون سيئاً وأصله المحنة، والله U يبلو عبده بالصنيع الجميل ليمتحن شكره، ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره فقيل للحسن بلاء، وللسيئ بلاء. أهـ (حكاه الهروى)
وعلى هذا فالابتلاء يكون تارة بالخير وتارة بالشر
كما قال تعالى:{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }(الأعراف: 168)
أي: اختبرناهم بالرخاء والشدة والرغبة والرهبة وبالعافية وبالمرض.
قال ابن جرير- رحمه الله – في تفسيره (9/104) عن هذه الآية:
أي:واختبرناهم بالرخاء في العيش،والخفض في الدنيا، والدعة والسعة في الرزق،وهي الحسنات التي ذكرها جل ثناؤه، ويعنى بالسيئات الشدة في العيش والشظف فيه، والمصائب والرزايا في الأموال {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }يقول: ليرجعوا إلى طاعة ربهم، وينيبوا إليه ويتوبوا عن معاصيه. أهـ
وقال ابن كثير – رحمه الله – في تفسير هذه الآية:
أي: اختبرناهم بالرخاء والشدة، والرغبة والرهبة، والعافية والبلاء .
وجاء في كتاب الشكر لابن أبى الدنيا صـ132، وعدة الصابرين لابن القيم صـ161 عن عبد الملك بن أبجر – رحمه الله -:
ما من الناس إلا ومبتلى بعافية لينظر كيف شكره، أو بلية لينظر كيف صبره.
وقال تعالى: { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}(الأنبياء: 35).
فالله يبتلى عبده بالنعمة والصنع الجميل ليمتحن شكره ويبتليه بالبلوى التي يكرهها من مرض أو محنة أو عاهة أو هم أو غم أو نقمة وذلك ليمتحن صبره
جاء في تفسير ابن جرير الطبري (17/25) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال في هذه الآية: نبتليكم بالشدة والرخاء،والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة.
وذكر ابن جرير أيضاً عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما – أنه قال:
نبتليكم بالرخاء والشدة وكلاهما بلاء
وذكر أيضاً الطبري في تفسيره (17/25)عن ابن زيد – رحمه الله – أنه قال:
نبلوهم بما يحبون وبما يكرهون، نختبرهم بذلك كيف شكرهم فيما يحبون؟
وكيف صبرهم فيما يكرهون؟
قال الأصفهاني – رحمه الله – في هذه الآية:
إنه اختبار الله تعالى للعباد، تارة بالمسار ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا
مضارات المحنة والمنحة جميعاً بلاء، فالمحنة مقتضية للصبر، والمنحة مقتضية للشكر، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر، مضارات المنحة أعظم البلاءين. أهـ
والمؤمن إذا ابتلي بالنعمة فشكر، أو ابتلي بالنقمة فصبر، فهو على خير كبير
فقد أخرج الإمام مسلم من حديث صهيب بن سنان قال: قال رسول الله r:
" عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خير له ".
يقول ابن كثير – رحمه الله – (4/544) في تفسير قوله تعالى:
{ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ{15} وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ{16} كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} ( الفجر:15ـ17)
يقول الله تعالى منكراً على الإنسان في اعتقاده إذا وسَّع الله تعالى عليه في الرزق ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك إكرام له من الله وليس كذلك، بل هو ابتلاء وامتحان، كما قال تعالى:
{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ{55} نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ}( المؤمنون:55ـ56)
وكذلك في الجانب الآخر، إذا ابتلاه وامتحنه وضيق عليه في الرزق، يعتقد أن ذلك من الله إهانة له
قال الله تعالى: { كَلَّا } أي ليس الأمر كما زعم، لا في هذا و لا في هذا
فإن الله تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب، وإنما المدارُ في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين، إذا كان غنياً بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيراً بأن يصبر. أ هـ
_ الحكمة من البلاء _
والحكمة من البلاء تظهر في قوله تعالى: { الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(العنكبوت 1 – 3).
قال أحد السلف:
الناس ماداموا في عافية فهم مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم، فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه.
وجاء في كتاب جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى للغرناطى (2/139):
قال بعضهم:" لولا حوادث الأيام لم يعرف صبر الكرام ولا جزع اللئام ".
الـبـلاء أمـر حـتـمي لابـد:
فالبلاء سنة كونية من سنن الله U قال تعالى:
{ إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (الإنسان: 2)
فالواضح وضوح الشمس أن الإنسان في هذه الدار غرض للنوائب ورمية للحوادث، فإن سلم في نفسه (أي: من الموت) أصيب في أعضائه، وإن عوفي في أعضائه امتُحن بفقد أحبائه، وإن قدرت له السلامة من ذلك، فالهرم من ورائه . (جنة الرضا:3 / 5).
وقد دلت الأدلة على أن المصائب والآلام والأمراض ملازمة للبشر، وأنه لابد لهم منها لتحقيق العبودية لله، قال تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأموال وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(البقرة 155 /157). والمصيبة تشمل كل ما يسوء المرء.
وأخرج ابن أبى شيبة في مصنفه عن عمر t:
أنه انقطع شِسْع نعله فاسترجع – أي أنه قال: إنا لله وإنا إليه راجعون
وقال كل ما ساءك فهو مصيبة.
جاء في النهاية (2 / 472):
ـ والشِسع هو أحد سيور النعل، وهو الذي يدخل بين الإصبعين .
وقال ابن كثير رحمه الله – في تفسيره (2/155)في قوله تعالى:
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كثيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور } (آل عمران: 186 )
أي: لابد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه، أو ولده أو أهله،ويبتلى المؤمن على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء . أ هـ
قال تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ}(سورة البلد:4)
قال سعيد ابن أبى الحسن – رحمه الله – في تفسير هذه الآية:
يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة (تفسير ابن جرير:30 /197)
وقال سبحانه وتعالى:{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}(سورة الحديد:20).
فإذا تيقنت أن الدنيا حقيرة عند خالقها، وأنه لابد فيها من الأكدار والمنغصات ، حملك هذا الصبر على ما تلقاه فيها وتوطين النفس على ذلك.
ومن أمثال العرب: من حدث نفسه بطول البقاء فليوطن نفسه على المصائب. (جنة الرضا:3/ 29).
وقال أبو جعفر بن خاتمة – رحمه الله -:
هو الدهر لا يبقى على عائذ به
فمن شاء عيشاً يصطبر لنوائبه
فمن لم يصب في نفسه فمصابه
بفقد أمــانيه وفقد حبــائبه
(جنّة الرضا:3/6)
وقال على بن محمد الدباغ – رحمه الله -:
إن طال عمرك فجعت بأحبابك،وإن قصر فجعت بنفسك (جنة الرضا:3/6).
وقال أبو فراس:
المرء بين مصائب لا تنقضي
حتى يوارى جسمه في رمْسه
فمؤجَّل يلقى الردى في أهله
ومعجل يلقى الردى في نفسه
(أدب الدنيا والدين صـ463)
وقال أبو الحسن التهامي – رحمه الله – في ذم الدنيا:
طبعت على كدر وأنت تريدها
صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طبـاعها
متطلّب في الماء جذوة نار
وإذا رجوت المستحيل فإنما
تبنى الرجاء على شفيرٍ هار
(وفيات الأعيان (3/83)
ـ القذى: ما يقع في العين وما ترمي به، والجمع أقذاء وقُذِىّ . (لسان العرب ص 3562).
_ أنـــواع الابـتــلاء _
وأنواع الابتلاءات عديدة: إما في النفس أو المال أو الأهل أو الدين وغير ذلك قال الله تعالى:
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأموال وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (البقرة:155)
قال القرطبي- رحمه الله- كما في الجامع لأحكام القرآن (2/173):
بين الله تعالى أن البلاء يكون: { بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ } أي: خوف العدو والفزع في القتال،
قال ابن عباس وقال الشافعي: هو خوف الله U.
{ وَالْجُوعِ }يعني: المجاعة بالجدب والقحط. في قول ابن عباس.
وقال الشافعي: هو الجوع في شهر رمضان.
{ وَنَقْصٍ مِنَ الأموال }بسبب الانشغال بقتال الكفار.
وقيل بالجوائح المتلفة وقال الشافعي: بالزكاة المفروضة.
{وَالْأَنْفُسِ }قال ابن عباس: بالقتل والموت في الجهاد، وقال الشافعي: يعنى بالأمراض.
{وَالثَّمَرَاتِ }قال الشافعي: المراد موت الأولاد، ولد الرجل ثمره قلبه.
وقال ابن عباس: والمراد قله النبات وانقطاع البركات.
قوله تعالى: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}أي: بالثواب على الصبر، والصبر أصله الحبس وثوابه غير مقدر .
فائدة
البلاء قد يكون نعمة أو قد يكون نقمة
فقد يكون البلاء نعمة في حق البعض ونقمة في حق آخرين، ونستطيع أن نتعرف على كل منهما بالنظر لحال المبتلى، وما هو عليه من صلاح
فإن كان المبتلى صالحاً قائماً بكتاب الله وسنة رسول الله r ، فهذا البلاء علامة على محبة الله لهذا العبد.
كما قال النبي r في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن محمود بن لبيد:
"إن الله U إذا أحبّ قوماً ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع ".
والبلاء ينزل عليه لرفع درجاته
فقد أخرج ابن حبان والحاكم عن أبى هريرةtأن النبي r قال:
"إن الرجل ليكون له المنزلة عند الله فما يبلغها بعمل، فلا يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها". (صحيح الجامع:1625)
ـ أما إذا كان المبتلى مُعْرِضاً عن كتاب الله وسنة رسول الله r فما يصاب من مصيبة أو تحل به بليه إلا لفسقه، فقد قال الله U في أصحاب القرية التي كانت حاضرة البحر:
{كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}(الأعراف: 163)
وقال تعالى:{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}(النحل: 112)
ـ وهناك نوع ثالث وهو رجل خلط عملاً صالحاً بآخر سيئاً، فهو رجل على خير ولكن وقع في الذنوب وأسرف على نفسه؛ فلمحبة الله تعالى لهذا العبد، فأنه يعجل له العقوبة في الدنيا فيبتليه بأنواع البلايا حتى يلقى الله وما عليه خطيئة قال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ }
(الشورى: 30)
أخرج الترمذي بسند صحيح من حديث أنس tأن النبيrقال:
" إذا أراد الله بعبده الخير، عجل له العقوبة في الدنيا ".
وفي مسند الإمام أحمد يقول النبي r:
"فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض وما عليه من خطيئة".
والمرء يبتلى على قدر دينه
فالبلاء درجات أشده للأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل من عباد الله الصالحين
فقد أخرج ابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي والألباني عن ابن سعيد الخدرىt قال:دخلت على النبي وهو يوعك ،فوضعت يدي عليه فوجدت حرة بين يدي،فوق اللحاف..فقلت. يا رسول الله ما أشدها عليك ! قال: "إنا كذلك.يُضَعَّفُ لنا البلاء و يُضَعَّفُ لنا الأجر" قلت: يا رسول الله ! أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، قلت: يا رسول الله! ثم من ؟ قال: ثم الصالحون0 إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يُحَوِّها0وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء (العطاء) ".
وعن ابن ماجة وابن أبى الدنيا في المرض والكفارات والحاكم عن أبى سعيد الخدريt:
أنه دخل على رسول الله r وهو موعوك عليه قطيفة، فوضع يده فوق القطيفة فقال:ما أشد حماك يا رسول الله !! قال: إنا كذلك يشدد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر! ثم قال: يا رسول الله من أشد الناس بلاء ؟ قال: الأنبياء، قال: ثم من ؟ قال العلماء؟ قال: ثم من ؟ قال الصالحون، كان أحدهم يبتلى بالقمل حتى يقتله، ويبتلى أحدهم بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يلبسها، ولأحدهم أشد فرحاً بالبلاء من أحدكم بالعطاء" (صحيح الجامع:995).
وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والحـاكم وصححه ووافقه الذهبي والألبـاني
عن مصعب بن سعد عن أبيه قال:
قلت: يا رسول الله ، أي الناس أشد بلاء ؟قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صُلْبَاً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة"
والسر في ذلك أن البلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعمة الله عليه أكثر كان بلاؤه أشد، ومن ثم ضُعفَ حد الحر على العبد.
وقيل لأمهات المؤمنين: { مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}(الاحزاب:30).
قال ابن الجوزي- رحمه الله -:
وفي الحديث دلالة على أن القوى يحمل ما حمل، والضعيف يرفق به، فالبلايا على مقادير الرجال وهم درجات:-
- منهم من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه البلاء.
- وأعلى من ذلك درجة من يرى أن هذا تصرف المالك في ملكه فيسلم ولا يعترض
- وأرفع منه من شغلته المحبة عن طلب رفع البلاء.
- وأنهى المراتب من يتلذذ به لأنه من اختياره نشأ (اختيار الله) . أهـ بتصرف
قال الشيخ الألباني – حفظه الله تعالى – في صحيحه عقب هذه الأحاديث ما نصه:
وفي هذه الأحاديث دلالة صريحة على أن المؤمن كلما كان أقوى إيماناً،ازداد ابتلاء وامتحاناً، والعكس بالعكس، ففيها رد على ضعفاء العقول والأحلام الذين يظنون أن المؤمن إذا أصيب ببلاء: كالحبس أو الطرد أو الإقالة من الوظيفة ونحوها أن ذلك دليل على أن المؤمن غير مرضي عند الله تعالى !! وهو ظن باطل فهذا رسول الله r وهو أفضل البشر،كان أشد الناس حتى الأنبياء بلاء، فالبلاء غالباً دليل خير، وليس نذير شر.
كما يدل ذلك أيضاً حديث:
"إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" (رواه الترمذي وهو صحيح)
وقال الشيخ: وهذا الحديث يدل على أمر زائد على ما سبق، وهو أن البلاء إنما يكون خيراً، وأن صاحبه يكون محبوباً عند الله تعالى، إذا صبر على بلاء الله تعالى، ورضي بقضاء الله U .أ هـ
وقال ابن تميمة – رحمه الله -:
فمن ابتلاه الله بالمر: بالبأساء والضراء والبأس وقدر عليه رزقه([1] (http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftn1))، فليس ذلك إهانة له، بل هو ابتلاء وامتحان، فإن أطاع الله في ذلك كان سعيداً، وإن عصاه في ذلك كان شقياً، كما كان مثل ذلك سبباً للسعادة في حق الأنبياء والمؤمنين، وكان شقاء وسبباً للشقاء في حق الكفار والفجار.
(قاعدة في المحبة صـ167)
يقول ابن القيم – رحمه الله –:
إن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء (الأمراض) التي لو بقيت فيه أهلكته أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة، ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه.
كما قال النبي r :
"والذي نفسي بيده لا يقضى الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له".
فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته ـ سبحانه وتعالى ـ ولهذا كان أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأقرب إليهم فالأقرب، يبتلى المرء حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء، وإن كان في دينه رقه خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشى على وجه الأرض وليس عليه خطيئة. أ هـ
ومن هنا نعلم أن قضاء الله تعالى كله خير، وفي قضائه من الحكمة التي تعجز عن إدراكها البشر، يقول ابن القيم – رحمه الله – كما في شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليلصـ432:ولو ذهبنا نذكر ما يطلع عليه أمثالنا من حكمة الله في خلقه وأمره؛ لزاد ذلك على عشرة آلاف موضع، مع قصور أذهاننا، ونقص عقولنا ومعارفنا، وتلاشيها وتلاشى علوم الخلائق جميعهم في علم الله كتلاشي ضوء السراج في عين الشمس. وهذا تقريب وإلا فالأمر فوق ذلك. أ هـ
من هم أهل البلاء الحقيقي ؟
يقول ابن القيم كما في عدة الصابرين صـ81:
فإن البلاء في الحقيقة ليس إلا الذنوب وعواقبها، والعافية المطلقة هي الطاعات وعواقبها
فأهل البلاء هم أهل المعصية وأن عوفيت أبدانهم، وأهل العافية هم أهل الطاعة وإن مرضت أبدانهم.
فإن أهل البلاء المبتلون بمعاصي الله والإعراض والغفلة عنه وهذا من أعظم البلاء . أ هـ بتصرف
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيـبا
كاسفاً باله قليل الرجاء
_مشاهد من الابتلاء_
رحم الله ابن القيم حيث ذكر في كتابه الفوائد:
إنه إذا جرى على العبد قدر يكرهه فإن له فيه ستة مشاهد يمكن إيجازها فيما يأتي:
1ـ مشهد التوحيد:
وجملته أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وإن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنه بقدر الله، وما شاء الله فعل.
2ـ مشهد العبودية:
وخلاصته أنك عبد لله تجرى عليك أحكام سيدك ومولاك، ولا تملك إلا السمع والطاعة والخضوع والإنابة والاستسلام والإذعان والانقياد لله رب العالمين.
3ـ مشهد الحكمة:
وغايته أن الله U أحكم الحاكمين، وكل شيء عنده بحكمة بالغة، وأنت قد تجهل الحكمة من وراء ذلك، وقد تغفل عن الخير واليسر الذي يأتي قبله وبعده ولله در من قال: "أن لله عطايا في صورة بلايا " وقد يبتلي الله U العبد الصالح ببلاء ثم ابتلاء ثم مصيبة ثم يخرجه من ذلك كله على أوسع ما في الدنيا من مال وسلطان وعز وجاه، فيكون قد نال من حكمة البلاء من التدريب والرضا، والتعلق بالله U والدارالآخرة واحتقار الدنيا وما فيها مما يجعله في حماية من أن تفتنه الدنيا عندما تأتيه.
ومثال ذلك: نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ ابتلاه الله بكراهية إخوته له، ثم إلقاؤه في البئر، ثم يباع في السوق، ثم يعمل في بيت عزيز مصر، ثم محنة امرأة العزيز، والنسوة اللاتي قطعن أيديهن، ثم يخرج من السجن فيولى خزائن الأرض يتصرف فيها كيف يشاء بأمر الله U.قال تعالى:
{ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } (يوسف 56)
4ـ مشهد الرحمة:
وفحواه أن الله U أرحم بنا من رحمة الأم بولدها فهو ـ سبحانه وتعالى ـ أرحم الراحمين
قال تعالى:{ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
(فاطر: 2)
ومن رحمته أن البلاء جاءك في هذا الوقت بالذات، وأتى كما كان ولم يكن أشد مما كان، وأنه لم يكن في دينك، فكل مصيبة تهون عدا المصيبة في الدين التي تؤدى إلى جهنم وبئس المصير.
5ـ مشهد الصبر:
ومضمونه أن الله U ابتلانا ليرى مدى صبرنا، وليميز الصادق من الكاذب، والمخلص من المنافق، والطيب من الخبيث قال تعالى: { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}(آل عمران: 179)
6ـ مشهد الرضا:
وجملته أن قدر الله U يجرى على عباده، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط، وأن الصبر مع الرضا، والصبر مع الشكر والحمد أعلى مراتب الصبر، وهو الصبر المأجور بغير حساب.
فإذا ابتلي العبد المؤمن اقتضى إيمانه أن يريد ما أراد الله تعالى، ويرضى بما يقدر، إذ لو لم يكن كذلك كان خارجاً عن حقيقة العبودية .
جملة من الحقائق يجب الوقوف عليها
الحقيقة الأولى: أن المؤمن في الدنيا دائما في بلاء إلى أن يلقى اللهU:
ففي الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن البراء بن عازب t:
أن النبي r قال عنالمؤمن):عندما ينزل في القبر) فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينهرانه ويجلسانه فيقولان له: من ربك ؟ ما دينك ؟ من نبيك ؟
وهي أخر فتنة تعرض على المؤمن ..... " الحديث
وهذا دليل على أن المؤمن دائماً معرض للفتن والاختبارات والابتلاءات إلى أن يموت .
فقد أخرج البخاري عن أبى قتادة بن ربعي الأنصارى t:
أنه كان يحدث أن رسول الله r مر عليه بجنازة فقال: "مستريح ومستراح منه " قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه ؟ قال: " العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب".
وموت المؤمن راحة له من غموم دار الدنيا وهمومها وآلامها كما في الحديث:
"إذا حُضِرَ المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: أخرجي راضية مرضياً عنك إلى روح الله وريحان ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضاً حتى يأتون به باب السماء فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جائتكم من الأرض، فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحاً به من أحدكم بغائبه يقدم عليه فيسألونه ماذا فعل فلان ؟ ماذا فعل فلان ؟ فيقولون:دعوه فإنه كان في غم الدنيا.
وصدق النبي r قال كما في صحيح مسلم:
"الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"
فإذا علم المؤمن هذه الحقيقة يهون عليه كثيراً من وقع المصاب وألم الغم ونكد الهم؛ لأنه يعلم أنه أمر لابد منه فهو من طبيعة هذه الحياة.
وأخرج الإمام مسلم عن أبى هريرة t قال رسول الله r :
"مثل المؤمنكمثل الزرع، لا تزال الرياح تُفِيئُه،ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تُسْتَحْصَد.
الأَرْز:بفتح الهمزة وإسكان الراء وبعدها زاي هي شجرة الصنوبر.
وروى الحافظ أبو عبد الله الحاكم في تاريخه (لم يطبع بعد) عن سعيد بن المسيب
–رحمه الله- فقال: دخلنا مقابر المدينة مع علىٍّ بن أبى طـالب tفقام على قبر فـاطمة
-عليهما السلام – وانصرف الناس: فقال:
لكل اجتماع من خليلين فرقة
وإن بقـائي بعدكم لقليـل
وإن افتقادى واحداً بعد واحد
دليل على أن لا يدوم خليل
أرى علل الدنيـا علىّ كثيرة
وصاحبها حتى الممات عليل
الحقيقة الثانية: أن الدنيا دار ابتلاء واختبار:
فالدنيا دار امتحان وابتلاء واختبار، وليس فيها لذة على الحقيقة إلا وهي مشوبة بالكدر، فما يظن في الدنيا أنه شراب فهو سراب،وعمارتها وإن حسنت صورتها خراب، وجمعها فهو للذهاب، والعجب كل العجب ممن يده في سلة الأفاعي كيف ينكر اللسع، وأعجب منه من يطلب من المطبوع على الضر النفع. قال بعضهم:
جبلت على كدر وأنت تريدها
صفواً من الآلام والأكدار
قال أبو الفرج ابن الجوزي- رحمه الله -: رأيت جمهور الناس ينزعجون لنزول البلاء، انزعاجاًً يزيد على الحد، كأنهم ما علموا أن الدنيا على ذا وضعت. وهل ينتظر الصحيح إلا السقم، والكبير إلا الهرم، والموجود سوى العدم. كما قال القائل:
على ذا مضى الناس اجتماع وفرقة
وميت ومولود وبشر وأحزان
وذلك أن طبيعة الحياة الدنيا، وطبيعة البشر فيها، تجعلان من المستحيل أن يخلو المرء فيها من كوارث تصيبه، وشدائد تحل بساحته، فكم يخفق له عمل أو يخيب له أمل، أو يموت له حبيب، أو يمرض له بدن، أو يفقد منه مال...أو....أو... إلى آخر ما يفيض به نهر الحياة..
فالدنيا جبلت على النقص والبلوى، فإن أضحكت يوماً أبكت أياماً، وإن سرت شهراً أحزنت دهراً.
فالدنيا لا تخلو من بلية ولا تصفو من محنة ورزية
كما قال أبو فراس:
المرء رهن مصائب ما تنقضي
حتى يوسد جسمه في رمسه
فمؤجل يلقى الردى في غـيره
ومعجل يلقى الردى في نفسه
فما رأينا ولا سمعنا عن أحد لم يصب في هذه الدنيا مصيبة، ولم ينج أحد من الهم والحزن والغم والكرب، لا من الأنبياء والمرسلين ولا من الأولياء والصالحين، ولا من سار على طريقهم واقتفي آثارهم.
فها هو نبي الله نوح –عليه السلام – قال الله تعالى عنه:{ فَنَجَّيْنَاهُ وَأهلهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}(الأنبياء: 76)وقال تعالى أيضاً: { وَنَجَّيْنَاهُ وَأهلهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}(الصافات:76)،
وهذا نبي الله أيوب قال تعالى عنه: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}(الأنبياء: 83)
ولقد لبث بلاؤه ثمان عشرة سنة
ونبي الله يونس قال تعالى عنه: { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}(الأنبياء: 87-88)
ونبي الله موسى، قال تعالى عنه:{ فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}(طه: 40)
وقال تعالى عنه هو وأخيه هارون: { وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} (الصافات: 115).
وكذلك سائر الأنبياء والمرسلين - صلى الله تعالى عليهم جمعياً وعلى خاتمهم نبينا محمدr -أصيبوا بالهم والكرب من تكذيب الكافرين لهم وإيذائهم، وجاهدوا في الله وصبروا
قال الله تعالى عنهم: { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ}(الأنعام: 34)
وقال تعالى أيضاً:{ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}
(آل عمران: 184)
فرحم الله من اهتدى بهم واقتفي آثارهم وأحسن اتباع النبي محمد r وأطاعه كما أمر الله U فمن رحمه الله تعالى وفضله ومنه أنه قال في كتابه الكريم: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفي بِاللَّهِ عَلِيماً}
(النساء: 69-70).
كما قال أبو الفرج بن الجوزي- رحمه الله-:
ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تُعْتَوَر فيها الأمراض والأكدار، ولم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار، فآدم يعانى المحن إلى أن خرج من الدنيا، ونوح بكى ثلاثمائة عام، وإبراهيم يكابد النار وذبح الولد، ويعقوب بكى حتى ذهب بصره، وموسى يقاسى فرعون ويلقى من قومه المحن، وعيسى بن مريم لا مأوى له، إلا البراري في العيش الضنك، ومحمد r وعليهم أجمعين يصابر الفقر، وقتل عمه حمزة، وهو من أحب أقاربه إليه، ونفور قومه عنه ....
قال أبو العتاهية:
من يعش يكبر ومن يكبر يمت
والمنايا لا تبالي من أتت
نـحـن فـي دار بـلاء وأذى
وشقـاء وعنـاء وعنت
منـزلٌ مـا يثبـت الـمرء به
سالماً إلا قليلاً إن ثـبت
وذكر ابن الجوزي في صيد الخاطر وتحت عنوان: كم من حكمة في الحرمان أنه قال
- رحمه الله-: نزلت بي شدة، وأكثرت من الدعاء أطلب الفرج والراحة، وتأخرت الإجابة فانزعجت النفس وقلقت 0فصحت بها: ويلك تأملي أمرك، أمملوكة أنت أم حرة مالكة؟ أمدبِّرة أم مُدبَّرة؟ أما علمت أن الدنيا دار ابتلاء واختبار، فإذا طلبت أغراضك ولم تصبري على ما ينافي مرادك فأين الابتلاء ؟ وهل الابتلاء إلا الإعراض، وعكس المقاصد0 فافهمي معنى التكليف، وقد هان عليك ما عز، وسهل ما استصعب، فلما تدبرت ما قلته، سكنت بعض السكون0
فقلت لها: وعندي جواب ثان، وهو أنك تقتضين الحق بأغراضك، ولا تقتضين نفسك بالواجب له وهذا عين الجهل، وإنما كان ينبغي أن يكون الأمر بالعكس؛ لأنك مملوكة والمملوك العاقل يطالب نفسه بأداء حق المالك، ويعلم أنه لا يجب على المالك تبليغه ما يهوى0فسكنت أكثر من ذلك السكون0
فقلت لها: وعندي جواب ثالث، وهو أنك استبطأت الإجابة، وأنت سددت طرقها بالمعاصي، فلو قد فتحت الطريق أسرعت، كأنك ما علمت أن سبب الراحة التقوى أوماسمعت قوله تعالى:
{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}(الطلاق: 2 -3)
وقال تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أمرهِ يُسْراً}(الطلاق: 4)
أومافهمت أن العكس بالعكس؟ آه من سكر غفلة صار أقوى من كل سكر في وجه مياه المراد يمنعها من الوصول إلى زرع الأماني0فعرفت النفس أن هذا حق فاطمأنت.
فقلت:وعندي جواب رابع، وهو أنك تطلبين ما لا تعلمين عاقبته، وربما كان فيه ضررك0
فمثلك كمثل طفل محموم، يطلب الحلوى، والمدبر لك أعلم بالمصالح0
وكيف وقد قال تعالى: { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}(البقرة: 216)
فلما بان الصواب للنفس في هذه الأجوبة زادت طمأنينتها
فقلت لها: وعندي جواب خامس، وهو أن المطلوب ينقص من أجرك ويحط من مرتبتك، فمنع الحق لك ما هذا سبيله عطاء منه لك0 ولو أنك طلبت ما يصلح آخرتك كان أولى لك، فأولى لك أن تفهمي ما قد شرحت0فقالت:لقد سرحت في رياض ما شرحت، فهمت إذ فهمت0
الحقيقة الثالثة: وهي أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا مسافر والسفر كله مشقة:
قال الإمام ابن القيم – رحمه الله - كما في الفوائد صـ 270:
الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، و ليس لهم حطّ عن رحالهم إلا في الجنة أو النار، والعاقل يعلم أن السفر مبنىّ على المشقة وركوب الأخطار. و من المحال عادة أن يطلب فيه نعيم ولذة وراحة، إنما ذلك بعد انتهاء السفر، و من المعلوم أن كل وطأة قدم أو كل آن من أنات السفر غير واقفة، ولا المكلف واقف، وقد ثبت أنه مسافر على الحال التي يجب أن يكون المسافر عليها من تهيئة الزاد الموصل، وإذا نزل أو نام أو استراح فعلى قدم الاستعداد للسير.
قل متاع الدنيا قليل
ومع هذا السفر الذي لا يخلو من المشقة، فإننا على يقين من أن الدنيا بكل ما فيها متاع زائل.
قال تعالى:{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}(الحديد: 20)
وقال الله تعالى:{ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخرة خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}(النساء: 77)
فالاستمتاع بالدنيا قليل، ومتعتك بها قليل من قليل، و ثواب الآخرة خير وأفضل لمن اتقى المعاصي وأقبل على الطاعات. فالله تعالى مثل لنا الدنيا كزرع أعجب الزراع نباته ينمو شيئاً فشيئاً حتى يكتمل ثم يهيج فتراه مصفراً جاهزاً للحصاد فهو موقوت الأجل ينتهي عاجلاً ويبلغ أجله قريباً ثم يكون حطاماً و ينتهي شريط الحياة بمشهد الحطام ويا لها من نهاية بالحياة الدنيا جميعها
فما هي إلا حطام أو كظل وسراب
روى الترمذي و ابن ماجة بإسناد حسن أن رسول اللهr:
قال: "مالي وللدنيا ؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح و تركها".
أحلام نوم، أو كظلٍّ زائل
إن اللبيب بمثلها لا يخدع
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
أشبه الأشياء بالدنيا الظل، تحسب له حقيقة ثابتة وهو في تقلص وانقباض، تتبعه لتدركه فلا تلحقه، وأشبه الأشياء بالدنيا: { كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(النور: 39)
وأشبه الأشياء بالدنيا المنام يرى فيه العبد ما يحب وما يكره، فإذا استيقظ علم أن ذلك لا حقيقة له.
قال بعضهم:
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها
على أنهم فيها عراة و جُوَّعُ
أراهـا و إن كـانت تحب فإنها
سحابةُ صيفٍ عن قليل تقشع
فالمؤمن هو الذي يعلم أنه مسافر إلى الله، وأن كل ما هو من حطام الدنيا فسوف يتركه لا محالة. إما بالفقر أو بالموت، كما قال تعالى:{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}
(الأنعام: 94)
أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال:
أخذ رسول اللهr بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".
و كان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، و خذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. (صحيح الجامع:4579).
قال جماعة من العلماء في تفسير هذا الحديث:
لا تركن إلى الدنيا، ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، و لا بالاعتناء بها، ولا تغتر بها، فإنها غرارة خداعة، ولا تتعلق إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها إلا بما يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله، و بالله فاستعن.
وأخرج ابن ماجة و الطبراني في الكبير والحاكم عن سهل بن سعد الساعدي قال:
جاء رجل إلى النبي r فقال: يا رسول الله، دلني عل عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس، فقال: "ازهد في الدنيا، يحبك الله، و ازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس".
(صحيح الجامع:922)
وأخرج الترمذى عن سهل بن سعد قال: قال رسول اللهr:
"لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافراً منها شربة ماء".
(صحيح الجامع:5292)
وأخرج ابن ماجة عن أبى هريرة t قال: قال رسول اللهr:
"الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلما".(صحيح الجامع:3414)
وأخرج الإمام مسلم و أحمد والترمذي عن عبد الله بن الشخيرt قال:
أتيت رسول الله r وهو يقرأ:" ألهاكم التكاثر" قال: "يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا ابن ادم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟".
(صحيح الجامع:8132).
وأخرج مسلم عن أبى سعيد الخضري tقال: قال رسول اللهr:
"إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعلمون؟ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء".
فالدنيا فانية زائلة، و كل ما فيها يتغير ويحول ويفنى ويزول، لأنها إلى الآخرة طريق وهي مزرعة للآخرة على التحقيق، إنها ألم يخفيه أمل، و أمل يحققه بإذن الله عمل، وعمل يقطعه الأجل، وعندها يجزى كل أمريء بما فعل، إنها الدنيا كلما حلت أوحلت، وكلما كست أوكست، وكلما دنت أودنت، وكم من ملك رفعت له علامات، فلما علا مات.
هي الأيـام لا يبقى عزيز
وساعات السرور بها قليلة
إذا نشر الضياء عليكم نجم
وأشرق فارتقب يوماً أفوله
إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرت يوماً أحزنت شهوراً، وإن متعت كثيراً منعت طويلاً،
لا يبقى لها حبور و لا يدوم فيها ثبور.
فلا بد أن نعلم بأن النعم زائرة وأنها لا محالة زائلة، وأن السرور بها إذا أقبلت مشوب بالحذر بفراقها إذا أدبرت، وأنها لا تفرح بإقبالها فرحاً حتى تعقب بفراقها ترحاً، فعلى قدر السرور يكون الحزن.
والمفروح به اليوم هو المحزون عليه غداً، ومن بلغ غاية ما يحب فليتوقع غاية ما يكره، ومن علم أن كل نائبة إلى انقضاء حسن عزاؤه عند نزول البلاء
{ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الفتح: 23).
بل إن المؤمن يعلم أن الدنيا مزرعة للآخرة، وأن ما يزرعه هنا فسوف يحصده هناك،
ولذا قال تعالى: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } (البقرة: 197).
وقـفـة :
حضر أحد الرؤساء صلاة الجمعة، وبه مرض لا يحتمل معه تطويل الخطبة،ثم صعد الخطيب المنبر، فقال: الحمد لله رب العالمين، وصلواته على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد: فإن الدنيا دار ممر، والآخرة دار مقر، فخذوا لمقركم من ممركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفي عليه أسراركم وأخرجوا الدنيا من قلوبكم، قبل أن تخرج منها أبداًنكم،
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
فما أبلغ هذه الخطبة وأفصحها وأوجزها، فممر الدنيا والله قصير وأغنى الأغنياء فيها فقير، فعلى الإنسان أن يستيقظ من رقدة الغفلة وينتبه من السكرة، ويقلع حب الدنيا من قلبه، فإن العبد إذا أغمض عينه وتولى، تمنى الإقالة، فيقال له: كلا.
أخرج الطيالسي و البيهقي في الشعب بسند صحيح عن جابر قال: قال رسول اللهr:
"قال لي جبريل: يا محمد عش ما شئت ، فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت، فإنك ملاقيه" . (صحيح الجامع:4355)
فحين يصل المؤمن إلى تلك الحقيقة الكبرى ويوقن أنه موقوف بين يدي الله – جل و علا – في يوم مقداره خمسون ألف سنة ، فإن الدنيا لو سجدت بين يديه لركضها برجليه طامعاً في ساعة واحدة يناجي فيها ربه لعل الله أن يكتب له بها النجاة من تلك النار التي أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى احمرت. وألف عام حتى اسودت، فهي الآن سوداء قاتمة.
فيعلم المؤمن أن كل نعيم دون الجنة سراب، وكل عذاب دون النار عافية.
فمن بذل وسعه في التفكير التام ، و علم أن هذه الدار رحلة فجمع للسفر رَحْلَه.
ويعلم أن مبدأ السفر من ظهور الآباء إلى بطون الأمهات، ثم إلى الدنيا، ثم إلى القبر، ثم إلى الحشر ثم إلى دار الإقامة الأبدية، فدار الإقامة هي دار السلام من جميع الآفات. وهي دار الخلود.
وليعلم أن مقدار السير في الدنيا يسير ويقطع بالأنفاس، ويسير بالإنسان سير السفينة لا يحس بسيرها و هو جالس فيها، وكما قال الشاعر:
إنمـا هذه الحيـــاة متـاع
فالغويّ الشقيّ من يصطفيها
ما مضى فات و المؤمل غيب
ولك السـاعة التي أنت فيها
ولا بد له في سفره من زاد، و لا زاد إلى الآخرة إلا التقوى، فلا بد من تعب الإنسان و الحرص على العمل الصالح ليجمع زاده لئلا يقول وقت السير: رب ارجعون. فيقال: كلا.
فلينتبه الغافل من كسل مسيره، فإن الله تعالى يريه في قطع مسافة سفر آيات يرسلها تخويفاً لعباده. لئلا يميلوا عن طريقهم المستقيم، و نهجهم القويم، فمن مالت به راحلته عن طريق الاستقامة فرأي ما يخاف منه، فليرغب إلى الله بالرجوع إليه مما ارتكبه من السبل فيتوب من معصيته و يبكي من قسوته.
ولقد قال بعض السلف:
احذروا دار الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت، فإنهما يفرقون بين المرء وزوجه، والدنيا تفرق بين العبد وربه، فالكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والحازم من بادر بالعمل قبل حلول الأجل، والمسلم من استسلم للقضاء والقدر.
الحقيقة الرابعة: يخبرنا عنها ابن القيم - رحمه الله- كما في عدة الصابرين صـ 90 حيث يقول: لابد أن يعلم المرء أن الله سبحانه خلقه لبقاء لا فناء له، ولعز لا ذل معه وأمن لا خوف فيه، وغناء لا فقر معه، ولذة لا ألم معها، وكمال لا نقص فيه، وامتحنه في هذه الدار بالبقاء الذي يسرع إليه بالفناء، والعز الذي يقارنه الذل ويعقبه الذل، والأمن الذي معه الخوف و بعده الخوف.
وكذلك الغناء واللذة والفرح والسرور والنعيم الذي هنا مشوب بضده؛ لأنه يتعقبه ضده وهوسريع الزوال، فغلط أكثر الخلق في هذا المقام إذ طلبوا النعيم والبقاء والعز والملك والجاه في غير محله ففاتهم في محله، وأكثرهم لم يظفر بما طلب من ذلك، و الذي ظفر به إنما هو متاع قليل والزوال قريب فإنه سريع الزوال عنه، و الرسل - صلوات الله و سلامه عليهم - إنما جاءوا بالدعوة إلى النعيم المقيم والملك الكبير، فمن أجابهم حصل له ألذ ما في الدنيا وأطيبه، فكان عيشه فيها أطيب من عيش الملك فمن دونهم. أهـ
فمن صبر على مكاره الدنيا و بلائها عوّضه الله خيراً منها جنة نعيمها مقيم وملك لا يبلى ولا يزول. فمن صبر على مرارة الدنيا نال حلاوة الآخرة.
وصدق النبي r حيث قال كما في صحيح مسلم من حديث أنس tأن النبيr قال:
"حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات" . ( أحمد والترمذي و هو في صحيح الجامع:3147)
فصبراً يا أهل البلاء فغمسة في الجنة تنسى كل شقاء وهم وبلاء، وغمسة في النار عياذاً بالله تنسى كل لذة ونعيم.
أخرج مسلم عن أنس بن مالك t قال: قال رسول الله r:
"يؤت بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في جهنم صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول: لا والله يارب، و يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول: لا والله، ما مر بي بؤسٌ قط، و لا رأيت شدة قط".
ـ والصَبغة – بفتح الصاد – أي يغمس غمسة (شرح صحيح مسلم:17/155)
فتأمل كيف أنست الأول شدة العذاب ما مضى عليه من النعيم في الدنيا، و كيف أن الثاني قد نسى ما مرّ به من شدائد و مصائب لما ذاق طعم الجنة.
فسوف تنسى– أخي المبتلى - كل ما كنت تعانيه من آلام و أسقام إذا دخلت دار السلام.
يقول ابن القيم – رحمه الله – كما في إغاثة اللهفان (2/175):
ومن رحمته سبحانه بعباده أن نغّص عليهم الدنيا وكدرها، لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا إليها، ويرغبوا في النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم.
الحقيقة الخامسة: فليعلم أهل البلاء أن الراحة الحقيقة و النعيم المقيم ليس في هذه الدار إنما هو في جنة العزيز الغفار:
فمن يتأمل في كتاب الله يعلم أن أهل الجنّة كانوا أهل حزن في الدنيا، وكان يصيبهم الوصب والنصب واللغوب، قال تعالى عنهم: { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} (فاطر: 34-35).
كانوا معرضين للهموم و الأحزان، فالحزن بسبب نقص الطعام و الشراب واللذات وقلة التنعم، ونقص الجمال والأجساد والرزق فهموم الدنيا كثيرة، لذلك أبدلهم الله دار المقامة التي فيها الدوام والبقاء والخلود حيث الصحة التي ليس معها مرض، والشباب الذي لا يتسرب إليه العجز والشيخوخة، والنعيم الذي لا يخالطه بؤس أبداً.
فقد أخرج الإمام مسلم عن أبي سعيد و أبي هريرة - رضي الله عنهما- أن رسول الله r قال: " إذا دخل أهل الجنّة الجنّة ينادي منادٍ: إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبداً "
وأخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة tقال: قال رسول اللهr:
" من يدخل الجنّة ينعم، ولا يبأس، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه".
وأخرج البخاري و مسلم عن أبي هريرة t قال: قال رسول اللهr:
" قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، واقرؤوا إن شئتم: { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(السجدة: 17)
أول زمرة يدخلون الجنّة على صورة القمر ليلة البدر
فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله:
" أول زمرة يدخلون الجنّة على صورة القمر ليلة البدر. ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة: لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يتمخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الأُلُوَّةُ – عود الطيب – أزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء "
وفي رواية للبخاري و مسلم:" آنيتهم فيها الذهب، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحُسْنِ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة و عشية "
آخر أهل الجنّة دخولاً الجنة
أخرج البخاري و مسلم عن ابن مسعود t قال: قال رسول الله r:
" إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنّة دخولاً الجنّة: رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله U له: اذهب فادخل الجنّة، فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع، فيقول يارب وجدتها ملأى، فيقول الله U له: اذهب فادخل الجنّة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا، فيقول: أتسخر بي، أوتضحك بي وأنت الملك ؟ قال: فلقد رأيت رسول الله r ضحك حتى بدت نواجذه فكان يقول:
" ذلك أدني أهل الجنّة منزلة "
أدنى أهل الجنة منزلة
وأخرج الإمام مسلم عن المغيرة بن شعبة t عن رسول الله r قال:
" سأل موسى r ربه، ما أدنى أهل الجنّة منزلة ؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أُدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنّة. فيقول: أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم(1) فيقول له: أترضي أن يكون مثل مُلْك مَلِك من ملوك الدنيا ؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله،فيقول في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك، فيقول: رضيت رب، قال رب فأعلاهم منزلة ؟ قال: أولئك الذين أردت(2)، غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر ".
ـ أخذاتهم: حظهم من النعيم و الرضوان
ـ أردت: اصطفيت واخترت
خيمة من لؤلؤة مجوفة للمؤمن
أخرج البخاري و مسلم عن أبي موسى t أن النبي rقال:
" إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوَّفة طولها في السماء ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضها "
ـ " الميل ": ستة آلاف ذراع.
أفضل نعيم أهل الجنة هو النظر إلى وجه الله الكريم.
فقد أخرج الإمام مسلم عن صهيب t أن رسول الله r قال:
" إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله - تبارك و تعالى -: تريدون شيئاً أزيدكم ؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنّة وتنجِّنا من النار. فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم "
ثم يحل عليهم الرضوان من الرحمن
فقد أخرج البخاري و مسلم عن أبي سعيد الخدري tأن رسول الله r قال:
" إن الله U يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك فيقول: هل رضيتم ؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط من أحد من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً"
فلنصبر على بلاء الدنيا حتى نفوز بهذا النعيم المقيم، جنّة عرضها السموات والأرض بناؤها لبنة من ذهب، و لبنة من فضة وملاطها المسك الأزفز، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه، فيها غرف يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصيام وصلى والناس نيام. فاللهم ارزقنا الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين
وبعد...
فهذا آخر ما تيسر جمعه في هذه الرسالة
نسأل الله أن يكتب لها القبول وأن يتقبلها منا بقبول حسن، كما أسأله سبحانه أن ينفع بها مؤلفها وقارئها ومن أعان علي إخراجها ونشرها......إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وما كان فيها من صواب فمن الله وحده، وما كان من سهو أو خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وهذا بشأن أي عمل بشري يعتريه الخطأ والصواب، فإن كان صواباً فادع لي بالقبول والتوفيق، وإن كان ثم خطأ فاستغفر لي
وإن وجدت العيب فسد الخللا
جل من لا عيب فيه وعلا
فاللهم اجعل عملي كله صالحاً ولوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه نصيب
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،
هذا والله تعالى أعلى وأعلم .........
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك
[1] (http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftnref1))) قدر عليه رزقه: أي ضيق عليه رزقه .
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا ِِإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.....
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } (سورة آل عمران: 102)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كثيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (سورة النساء: 1)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }(سورة الأحزاب:70،71)
أما بعد....
فإن أصدق الحديث كتاب الله – تعالى- وخير الهدي هدي محمد r وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد... ،
فهذه رسالة إلى كل مَنْ اُبْتُلِى ببلاء في جسده أو في ماله أو في ولده.
إلى من أصابته الكربة بفقد الأحبة.
إلى كل محزون ومكروب.
إلى كل مريض أو فقير معدوم.
إلى كل مهموم ومغموم.
حبيبي في الله....
أهدي إليك هذه الكلمات لأمسح بها دمعك، وأخفف بها عنك حزنك وهمك، فهي بمثابة التسلية والعزاء لكل محزون مصاب، تشرح صدره وتجلب صبره وتهون خطبه وتخفف أمره، ويلحظ بها ثوابه على الصبر وأجره.
وقبل أن نشرع في الموضوع هناك بعض الأمور ينبغي أن نقف عليها كتعريف البلاء والحكمة منه، وأنواع الابتلاء، ومن هم أهل الابتلاء الحقيقي ؟ ثم مشاهد من الابتلاء.
وأخيراً حقائق يجب الوقوف عليها وهي مقصود الرسالة، أسأل الله أن يجعلها سبباً لرفع الهموم والغموم عن كل محزون أو مكروب ...... اللهم آمين
أولاًً: تـعـريف الـبـلاء:
البلية والبلوى والبلاء كلها واحد، والجمع: البلايا
وبلاه:جرّبه واختبره وبلاه الله: اختبره
والبلاء يكون بالخير والشر
قال القرطبي – رحمه الله – في الجامع لأحكام القرآن (1/387) قال أبو الهيثم:
البلاء يكون حسناً ويكون سيئاً وأصله المحنة، والله U يبلو عبده بالصنيع الجميل ليمتحن شكره، ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره فقيل للحسن بلاء، وللسيئ بلاء. أهـ (حكاه الهروى)
وعلى هذا فالابتلاء يكون تارة بالخير وتارة بالشر
كما قال تعالى:{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }(الأعراف: 168)
أي: اختبرناهم بالرخاء والشدة والرغبة والرهبة وبالعافية وبالمرض.
قال ابن جرير- رحمه الله – في تفسيره (9/104) عن هذه الآية:
أي:واختبرناهم بالرخاء في العيش،والخفض في الدنيا، والدعة والسعة في الرزق،وهي الحسنات التي ذكرها جل ثناؤه، ويعنى بالسيئات الشدة في العيش والشظف فيه، والمصائب والرزايا في الأموال {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }يقول: ليرجعوا إلى طاعة ربهم، وينيبوا إليه ويتوبوا عن معاصيه. أهـ
وقال ابن كثير – رحمه الله – في تفسير هذه الآية:
أي: اختبرناهم بالرخاء والشدة، والرغبة والرهبة، والعافية والبلاء .
وجاء في كتاب الشكر لابن أبى الدنيا صـ132، وعدة الصابرين لابن القيم صـ161 عن عبد الملك بن أبجر – رحمه الله -:
ما من الناس إلا ومبتلى بعافية لينظر كيف شكره، أو بلية لينظر كيف صبره.
وقال تعالى: { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}(الأنبياء: 35).
فالله يبتلى عبده بالنعمة والصنع الجميل ليمتحن شكره ويبتليه بالبلوى التي يكرهها من مرض أو محنة أو عاهة أو هم أو غم أو نقمة وذلك ليمتحن صبره
جاء في تفسير ابن جرير الطبري (17/25) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال في هذه الآية: نبتليكم بالشدة والرخاء،والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة.
وذكر ابن جرير أيضاً عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما – أنه قال:
نبتليكم بالرخاء والشدة وكلاهما بلاء
وذكر أيضاً الطبري في تفسيره (17/25)عن ابن زيد – رحمه الله – أنه قال:
نبلوهم بما يحبون وبما يكرهون، نختبرهم بذلك كيف شكرهم فيما يحبون؟
وكيف صبرهم فيما يكرهون؟
قال الأصفهاني – رحمه الله – في هذه الآية:
إنه اختبار الله تعالى للعباد، تارة بالمسار ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا
مضارات المحنة والمنحة جميعاً بلاء، فالمحنة مقتضية للصبر، والمنحة مقتضية للشكر، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر، مضارات المنحة أعظم البلاءين. أهـ
والمؤمن إذا ابتلي بالنعمة فشكر، أو ابتلي بالنقمة فصبر، فهو على خير كبير
فقد أخرج الإمام مسلم من حديث صهيب بن سنان قال: قال رسول الله r:
" عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خير له ".
يقول ابن كثير – رحمه الله – (4/544) في تفسير قوله تعالى:
{ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ{15} وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ{16} كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} ( الفجر:15ـ17)
يقول الله تعالى منكراً على الإنسان في اعتقاده إذا وسَّع الله تعالى عليه في الرزق ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك إكرام له من الله وليس كذلك، بل هو ابتلاء وامتحان، كما قال تعالى:
{ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ{55} نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ}( المؤمنون:55ـ56)
وكذلك في الجانب الآخر، إذا ابتلاه وامتحنه وضيق عليه في الرزق، يعتقد أن ذلك من الله إهانة له
قال الله تعالى: { كَلَّا } أي ليس الأمر كما زعم، لا في هذا و لا في هذا
فإن الله تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب، وإنما المدارُ في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين، إذا كان غنياً بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيراً بأن يصبر. أ هـ
_ الحكمة من البلاء _
والحكمة من البلاء تظهر في قوله تعالى: { الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(العنكبوت 1 – 3).
قال أحد السلف:
الناس ماداموا في عافية فهم مستورون، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم، فصار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه.
وجاء في كتاب جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى للغرناطى (2/139):
قال بعضهم:" لولا حوادث الأيام لم يعرف صبر الكرام ولا جزع اللئام ".
الـبـلاء أمـر حـتـمي لابـد:
فالبلاء سنة كونية من سنن الله U قال تعالى:
{ إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (الإنسان: 2)
فالواضح وضوح الشمس أن الإنسان في هذه الدار غرض للنوائب ورمية للحوادث، فإن سلم في نفسه (أي: من الموت) أصيب في أعضائه، وإن عوفي في أعضائه امتُحن بفقد أحبائه، وإن قدرت له السلامة من ذلك، فالهرم من ورائه . (جنة الرضا:3 / 5).
وقد دلت الأدلة على أن المصائب والآلام والأمراض ملازمة للبشر، وأنه لابد لهم منها لتحقيق العبودية لله، قال تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأموال وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(البقرة 155 /157). والمصيبة تشمل كل ما يسوء المرء.
وأخرج ابن أبى شيبة في مصنفه عن عمر t:
أنه انقطع شِسْع نعله فاسترجع – أي أنه قال: إنا لله وإنا إليه راجعون
وقال كل ما ساءك فهو مصيبة.
جاء في النهاية (2 / 472):
ـ والشِسع هو أحد سيور النعل، وهو الذي يدخل بين الإصبعين .
وقال ابن كثير رحمه الله – في تفسيره (2/155)في قوله تعالى:
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كثيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور } (آل عمران: 186 )
أي: لابد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه، أو ولده أو أهله،ويبتلى المؤمن على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء . أ هـ
قال تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ}(سورة البلد:4)
قال سعيد ابن أبى الحسن – رحمه الله – في تفسير هذه الآية:
يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة (تفسير ابن جرير:30 /197)
وقال سبحانه وتعالى:{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}(سورة الحديد:20).
فإذا تيقنت أن الدنيا حقيرة عند خالقها، وأنه لابد فيها من الأكدار والمنغصات ، حملك هذا الصبر على ما تلقاه فيها وتوطين النفس على ذلك.
ومن أمثال العرب: من حدث نفسه بطول البقاء فليوطن نفسه على المصائب. (جنة الرضا:3/ 29).
وقال أبو جعفر بن خاتمة – رحمه الله -:
هو الدهر لا يبقى على عائذ به
فمن شاء عيشاً يصطبر لنوائبه
فمن لم يصب في نفسه فمصابه
بفقد أمــانيه وفقد حبــائبه
(جنّة الرضا:3/6)
وقال على بن محمد الدباغ – رحمه الله -:
إن طال عمرك فجعت بأحبابك،وإن قصر فجعت بنفسك (جنة الرضا:3/6).
وقال أبو فراس:
المرء بين مصائب لا تنقضي
حتى يوارى جسمه في رمْسه
فمؤجَّل يلقى الردى في أهله
ومعجل يلقى الردى في نفسه
(أدب الدنيا والدين صـ463)
وقال أبو الحسن التهامي – رحمه الله – في ذم الدنيا:
طبعت على كدر وأنت تريدها
صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طبـاعها
متطلّب في الماء جذوة نار
وإذا رجوت المستحيل فإنما
تبنى الرجاء على شفيرٍ هار
(وفيات الأعيان (3/83)
ـ القذى: ما يقع في العين وما ترمي به، والجمع أقذاء وقُذِىّ . (لسان العرب ص 3562).
_ أنـــواع الابـتــلاء _
وأنواع الابتلاءات عديدة: إما في النفس أو المال أو الأهل أو الدين وغير ذلك قال الله تعالى:
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأموال وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (البقرة:155)
قال القرطبي- رحمه الله- كما في الجامع لأحكام القرآن (2/173):
بين الله تعالى أن البلاء يكون: { بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ } أي: خوف العدو والفزع في القتال،
قال ابن عباس وقال الشافعي: هو خوف الله U.
{ وَالْجُوعِ }يعني: المجاعة بالجدب والقحط. في قول ابن عباس.
وقال الشافعي: هو الجوع في شهر رمضان.
{ وَنَقْصٍ مِنَ الأموال }بسبب الانشغال بقتال الكفار.
وقيل بالجوائح المتلفة وقال الشافعي: بالزكاة المفروضة.
{وَالْأَنْفُسِ }قال ابن عباس: بالقتل والموت في الجهاد، وقال الشافعي: يعنى بالأمراض.
{وَالثَّمَرَاتِ }قال الشافعي: المراد موت الأولاد، ولد الرجل ثمره قلبه.
وقال ابن عباس: والمراد قله النبات وانقطاع البركات.
قوله تعالى: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}أي: بالثواب على الصبر، والصبر أصله الحبس وثوابه غير مقدر .
فائدة
البلاء قد يكون نعمة أو قد يكون نقمة
فقد يكون البلاء نعمة في حق البعض ونقمة في حق آخرين، ونستطيع أن نتعرف على كل منهما بالنظر لحال المبتلى، وما هو عليه من صلاح
فإن كان المبتلى صالحاً قائماً بكتاب الله وسنة رسول الله r ، فهذا البلاء علامة على محبة الله لهذا العبد.
كما قال النبي r في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن محمود بن لبيد:
"إن الله U إذا أحبّ قوماً ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع ".
والبلاء ينزل عليه لرفع درجاته
فقد أخرج ابن حبان والحاكم عن أبى هريرةtأن النبي r قال:
"إن الرجل ليكون له المنزلة عند الله فما يبلغها بعمل، فلا يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها". (صحيح الجامع:1625)
ـ أما إذا كان المبتلى مُعْرِضاً عن كتاب الله وسنة رسول الله r فما يصاب من مصيبة أو تحل به بليه إلا لفسقه، فقد قال الله U في أصحاب القرية التي كانت حاضرة البحر:
{كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}(الأعراف: 163)
وقال تعالى:{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}(النحل: 112)
ـ وهناك نوع ثالث وهو رجل خلط عملاً صالحاً بآخر سيئاً، فهو رجل على خير ولكن وقع في الذنوب وأسرف على نفسه؛ فلمحبة الله تعالى لهذا العبد، فأنه يعجل له العقوبة في الدنيا فيبتليه بأنواع البلايا حتى يلقى الله وما عليه خطيئة قال تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ }
(الشورى: 30)
أخرج الترمذي بسند صحيح من حديث أنس tأن النبيrقال:
" إذا أراد الله بعبده الخير، عجل له العقوبة في الدنيا ".
وفي مسند الإمام أحمد يقول النبي r:
"فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض وما عليه من خطيئة".
والمرء يبتلى على قدر دينه
فالبلاء درجات أشده للأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل من عباد الله الصالحين
فقد أخرج ابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي والألباني عن ابن سعيد الخدرىt قال:دخلت على النبي وهو يوعك ،فوضعت يدي عليه فوجدت حرة بين يدي،فوق اللحاف..فقلت. يا رسول الله ما أشدها عليك ! قال: "إنا كذلك.يُضَعَّفُ لنا البلاء و يُضَعَّفُ لنا الأجر" قلت: يا رسول الله ! أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، قلت: يا رسول الله! ثم من ؟ قال: ثم الصالحون0 إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يُحَوِّها0وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء (العطاء) ".
وعن ابن ماجة وابن أبى الدنيا في المرض والكفارات والحاكم عن أبى سعيد الخدريt:
أنه دخل على رسول الله r وهو موعوك عليه قطيفة، فوضع يده فوق القطيفة فقال:ما أشد حماك يا رسول الله !! قال: إنا كذلك يشدد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر! ثم قال: يا رسول الله من أشد الناس بلاء ؟ قال: الأنبياء، قال: ثم من ؟ قال العلماء؟ قال: ثم من ؟ قال الصالحون، كان أحدهم يبتلى بالقمل حتى يقتله، ويبتلى أحدهم بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يلبسها، ولأحدهم أشد فرحاً بالبلاء من أحدكم بالعطاء" (صحيح الجامع:995).
وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والحـاكم وصححه ووافقه الذهبي والألبـاني
عن مصعب بن سعد عن أبيه قال:
قلت: يا رسول الله ، أي الناس أشد بلاء ؟قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صُلْبَاً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة"
والسر في ذلك أن البلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعمة الله عليه أكثر كان بلاؤه أشد، ومن ثم ضُعفَ حد الحر على العبد.
وقيل لأمهات المؤمنين: { مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}(الاحزاب:30).
قال ابن الجوزي- رحمه الله -:
وفي الحديث دلالة على أن القوى يحمل ما حمل، والضعيف يرفق به، فالبلايا على مقادير الرجال وهم درجات:-
- منهم من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه البلاء.
- وأعلى من ذلك درجة من يرى أن هذا تصرف المالك في ملكه فيسلم ولا يعترض
- وأرفع منه من شغلته المحبة عن طلب رفع البلاء.
- وأنهى المراتب من يتلذذ به لأنه من اختياره نشأ (اختيار الله) . أهـ بتصرف
قال الشيخ الألباني – حفظه الله تعالى – في صحيحه عقب هذه الأحاديث ما نصه:
وفي هذه الأحاديث دلالة صريحة على أن المؤمن كلما كان أقوى إيماناً،ازداد ابتلاء وامتحاناً، والعكس بالعكس، ففيها رد على ضعفاء العقول والأحلام الذين يظنون أن المؤمن إذا أصيب ببلاء: كالحبس أو الطرد أو الإقالة من الوظيفة ونحوها أن ذلك دليل على أن المؤمن غير مرضي عند الله تعالى !! وهو ظن باطل فهذا رسول الله r وهو أفضل البشر،كان أشد الناس حتى الأنبياء بلاء، فالبلاء غالباً دليل خير، وليس نذير شر.
كما يدل ذلك أيضاً حديث:
"إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" (رواه الترمذي وهو صحيح)
وقال الشيخ: وهذا الحديث يدل على أمر زائد على ما سبق، وهو أن البلاء إنما يكون خيراً، وأن صاحبه يكون محبوباً عند الله تعالى، إذا صبر على بلاء الله تعالى، ورضي بقضاء الله U .أ هـ
وقال ابن تميمة – رحمه الله -:
فمن ابتلاه الله بالمر: بالبأساء والضراء والبأس وقدر عليه رزقه([1] (http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftn1))، فليس ذلك إهانة له، بل هو ابتلاء وامتحان، فإن أطاع الله في ذلك كان سعيداً، وإن عصاه في ذلك كان شقياً، كما كان مثل ذلك سبباً للسعادة في حق الأنبياء والمؤمنين، وكان شقاء وسبباً للشقاء في حق الكفار والفجار.
(قاعدة في المحبة صـ167)
يقول ابن القيم – رحمه الله –:
إن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء (الأمراض) التي لو بقيت فيه أهلكته أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة، ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه.
كما قال النبي r :
"والذي نفسي بيده لا يقضى الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له".
فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته ـ سبحانه وتعالى ـ ولهذا كان أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأقرب إليهم فالأقرب، يبتلى المرء حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء، وإن كان في دينه رقه خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشى على وجه الأرض وليس عليه خطيئة. أ هـ
ومن هنا نعلم أن قضاء الله تعالى كله خير، وفي قضائه من الحكمة التي تعجز عن إدراكها البشر، يقول ابن القيم – رحمه الله – كما في شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليلصـ432:ولو ذهبنا نذكر ما يطلع عليه أمثالنا من حكمة الله في خلقه وأمره؛ لزاد ذلك على عشرة آلاف موضع، مع قصور أذهاننا، ونقص عقولنا ومعارفنا، وتلاشيها وتلاشى علوم الخلائق جميعهم في علم الله كتلاشي ضوء السراج في عين الشمس. وهذا تقريب وإلا فالأمر فوق ذلك. أ هـ
من هم أهل البلاء الحقيقي ؟
يقول ابن القيم كما في عدة الصابرين صـ81:
فإن البلاء في الحقيقة ليس إلا الذنوب وعواقبها، والعافية المطلقة هي الطاعات وعواقبها
فأهل البلاء هم أهل المعصية وأن عوفيت أبدانهم، وأهل العافية هم أهل الطاعة وإن مرضت أبدانهم.
فإن أهل البلاء المبتلون بمعاصي الله والإعراض والغفلة عنه وهذا من أعظم البلاء . أ هـ بتصرف
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيـبا
كاسفاً باله قليل الرجاء
_مشاهد من الابتلاء_
رحم الله ابن القيم حيث ذكر في كتابه الفوائد:
إنه إذا جرى على العبد قدر يكرهه فإن له فيه ستة مشاهد يمكن إيجازها فيما يأتي:
1ـ مشهد التوحيد:
وجملته أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وإن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنه بقدر الله، وما شاء الله فعل.
2ـ مشهد العبودية:
وخلاصته أنك عبد لله تجرى عليك أحكام سيدك ومولاك، ولا تملك إلا السمع والطاعة والخضوع والإنابة والاستسلام والإذعان والانقياد لله رب العالمين.
3ـ مشهد الحكمة:
وغايته أن الله U أحكم الحاكمين، وكل شيء عنده بحكمة بالغة، وأنت قد تجهل الحكمة من وراء ذلك، وقد تغفل عن الخير واليسر الذي يأتي قبله وبعده ولله در من قال: "أن لله عطايا في صورة بلايا " وقد يبتلي الله U العبد الصالح ببلاء ثم ابتلاء ثم مصيبة ثم يخرجه من ذلك كله على أوسع ما في الدنيا من مال وسلطان وعز وجاه، فيكون قد نال من حكمة البلاء من التدريب والرضا، والتعلق بالله U والدارالآخرة واحتقار الدنيا وما فيها مما يجعله في حماية من أن تفتنه الدنيا عندما تأتيه.
ومثال ذلك: نبي الله يوسف ـ عليه السلام ـ ابتلاه الله بكراهية إخوته له، ثم إلقاؤه في البئر، ثم يباع في السوق، ثم يعمل في بيت عزيز مصر، ثم محنة امرأة العزيز، والنسوة اللاتي قطعن أيديهن، ثم يخرج من السجن فيولى خزائن الأرض يتصرف فيها كيف يشاء بأمر الله U.قال تعالى:
{ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } (يوسف 56)
4ـ مشهد الرحمة:
وفحواه أن الله U أرحم بنا من رحمة الأم بولدها فهو ـ سبحانه وتعالى ـ أرحم الراحمين
قال تعالى:{ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
(فاطر: 2)
ومن رحمته أن البلاء جاءك في هذا الوقت بالذات، وأتى كما كان ولم يكن أشد مما كان، وأنه لم يكن في دينك، فكل مصيبة تهون عدا المصيبة في الدين التي تؤدى إلى جهنم وبئس المصير.
5ـ مشهد الصبر:
ومضمونه أن الله U ابتلانا ليرى مدى صبرنا، وليميز الصادق من الكاذب، والمخلص من المنافق، والطيب من الخبيث قال تعالى: { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}(آل عمران: 179)
6ـ مشهد الرضا:
وجملته أن قدر الله U يجرى على عباده، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط، وأن الصبر مع الرضا، والصبر مع الشكر والحمد أعلى مراتب الصبر، وهو الصبر المأجور بغير حساب.
فإذا ابتلي العبد المؤمن اقتضى إيمانه أن يريد ما أراد الله تعالى، ويرضى بما يقدر، إذ لو لم يكن كذلك كان خارجاً عن حقيقة العبودية .
جملة من الحقائق يجب الوقوف عليها
الحقيقة الأولى: أن المؤمن في الدنيا دائما في بلاء إلى أن يلقى اللهU:
ففي الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن البراء بن عازب t:
أن النبي r قال عنالمؤمن):عندما ينزل في القبر) فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينهرانه ويجلسانه فيقولان له: من ربك ؟ ما دينك ؟ من نبيك ؟
وهي أخر فتنة تعرض على المؤمن ..... " الحديث
وهذا دليل على أن المؤمن دائماً معرض للفتن والاختبارات والابتلاءات إلى أن يموت .
فقد أخرج البخاري عن أبى قتادة بن ربعي الأنصارى t:
أنه كان يحدث أن رسول الله r مر عليه بجنازة فقال: "مستريح ومستراح منه " قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه ؟ قال: " العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب".
وموت المؤمن راحة له من غموم دار الدنيا وهمومها وآلامها كما في الحديث:
"إذا حُضِرَ المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: أخرجي راضية مرضياً عنك إلى روح الله وريحان ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضاً حتى يأتون به باب السماء فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جائتكم من الأرض، فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحاً به من أحدكم بغائبه يقدم عليه فيسألونه ماذا فعل فلان ؟ ماذا فعل فلان ؟ فيقولون:دعوه فإنه كان في غم الدنيا.
وصدق النبي r قال كما في صحيح مسلم:
"الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"
فإذا علم المؤمن هذه الحقيقة يهون عليه كثيراً من وقع المصاب وألم الغم ونكد الهم؛ لأنه يعلم أنه أمر لابد منه فهو من طبيعة هذه الحياة.
وأخرج الإمام مسلم عن أبى هريرة t قال رسول الله r :
"مثل المؤمنكمثل الزرع، لا تزال الرياح تُفِيئُه،ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تُسْتَحْصَد.
الأَرْز:بفتح الهمزة وإسكان الراء وبعدها زاي هي شجرة الصنوبر.
وروى الحافظ أبو عبد الله الحاكم في تاريخه (لم يطبع بعد) عن سعيد بن المسيب
–رحمه الله- فقال: دخلنا مقابر المدينة مع علىٍّ بن أبى طـالب tفقام على قبر فـاطمة
-عليهما السلام – وانصرف الناس: فقال:
لكل اجتماع من خليلين فرقة
وإن بقـائي بعدكم لقليـل
وإن افتقادى واحداً بعد واحد
دليل على أن لا يدوم خليل
أرى علل الدنيـا علىّ كثيرة
وصاحبها حتى الممات عليل
الحقيقة الثانية: أن الدنيا دار ابتلاء واختبار:
فالدنيا دار امتحان وابتلاء واختبار، وليس فيها لذة على الحقيقة إلا وهي مشوبة بالكدر، فما يظن في الدنيا أنه شراب فهو سراب،وعمارتها وإن حسنت صورتها خراب، وجمعها فهو للذهاب، والعجب كل العجب ممن يده في سلة الأفاعي كيف ينكر اللسع، وأعجب منه من يطلب من المطبوع على الضر النفع. قال بعضهم:
جبلت على كدر وأنت تريدها
صفواً من الآلام والأكدار
قال أبو الفرج ابن الجوزي- رحمه الله -: رأيت جمهور الناس ينزعجون لنزول البلاء، انزعاجاًً يزيد على الحد، كأنهم ما علموا أن الدنيا على ذا وضعت. وهل ينتظر الصحيح إلا السقم، والكبير إلا الهرم، والموجود سوى العدم. كما قال القائل:
على ذا مضى الناس اجتماع وفرقة
وميت ومولود وبشر وأحزان
وذلك أن طبيعة الحياة الدنيا، وطبيعة البشر فيها، تجعلان من المستحيل أن يخلو المرء فيها من كوارث تصيبه، وشدائد تحل بساحته، فكم يخفق له عمل أو يخيب له أمل، أو يموت له حبيب، أو يمرض له بدن، أو يفقد منه مال...أو....أو... إلى آخر ما يفيض به نهر الحياة..
فالدنيا جبلت على النقص والبلوى، فإن أضحكت يوماً أبكت أياماً، وإن سرت شهراً أحزنت دهراً.
فالدنيا لا تخلو من بلية ولا تصفو من محنة ورزية
كما قال أبو فراس:
المرء رهن مصائب ما تنقضي
حتى يوسد جسمه في رمسه
فمؤجل يلقى الردى في غـيره
ومعجل يلقى الردى في نفسه
فما رأينا ولا سمعنا عن أحد لم يصب في هذه الدنيا مصيبة، ولم ينج أحد من الهم والحزن والغم والكرب، لا من الأنبياء والمرسلين ولا من الأولياء والصالحين، ولا من سار على طريقهم واقتفي آثارهم.
فها هو نبي الله نوح –عليه السلام – قال الله تعالى عنه:{ فَنَجَّيْنَاهُ وَأهلهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}(الأنبياء: 76)وقال تعالى أيضاً: { وَنَجَّيْنَاهُ وَأهلهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}(الصافات:76)،
وهذا نبي الله أيوب قال تعالى عنه: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}(الأنبياء: 83)
ولقد لبث بلاؤه ثمان عشرة سنة
ونبي الله يونس قال تعالى عنه: { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}(الأنبياء: 87-88)
ونبي الله موسى، قال تعالى عنه:{ فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}(طه: 40)
وقال تعالى عنه هو وأخيه هارون: { وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} (الصافات: 115).
وكذلك سائر الأنبياء والمرسلين - صلى الله تعالى عليهم جمعياً وعلى خاتمهم نبينا محمدr -أصيبوا بالهم والكرب من تكذيب الكافرين لهم وإيذائهم، وجاهدوا في الله وصبروا
قال الله تعالى عنهم: { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ}(الأنعام: 34)
وقال تعالى أيضاً:{ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}
(آل عمران: 184)
فرحم الله من اهتدى بهم واقتفي آثارهم وأحسن اتباع النبي محمد r وأطاعه كما أمر الله U فمن رحمه الله تعالى وفضله ومنه أنه قال في كتابه الكريم: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفي بِاللَّهِ عَلِيماً}
(النساء: 69-70).
كما قال أبو الفرج بن الجوزي- رحمه الله-:
ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تُعْتَوَر فيها الأمراض والأكدار، ولم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار، فآدم يعانى المحن إلى أن خرج من الدنيا، ونوح بكى ثلاثمائة عام، وإبراهيم يكابد النار وذبح الولد، ويعقوب بكى حتى ذهب بصره، وموسى يقاسى فرعون ويلقى من قومه المحن، وعيسى بن مريم لا مأوى له، إلا البراري في العيش الضنك، ومحمد r وعليهم أجمعين يصابر الفقر، وقتل عمه حمزة، وهو من أحب أقاربه إليه، ونفور قومه عنه ....
قال أبو العتاهية:
من يعش يكبر ومن يكبر يمت
والمنايا لا تبالي من أتت
نـحـن فـي دار بـلاء وأذى
وشقـاء وعنـاء وعنت
منـزلٌ مـا يثبـت الـمرء به
سالماً إلا قليلاً إن ثـبت
وذكر ابن الجوزي في صيد الخاطر وتحت عنوان: كم من حكمة في الحرمان أنه قال
- رحمه الله-: نزلت بي شدة، وأكثرت من الدعاء أطلب الفرج والراحة، وتأخرت الإجابة فانزعجت النفس وقلقت 0فصحت بها: ويلك تأملي أمرك، أمملوكة أنت أم حرة مالكة؟ أمدبِّرة أم مُدبَّرة؟ أما علمت أن الدنيا دار ابتلاء واختبار، فإذا طلبت أغراضك ولم تصبري على ما ينافي مرادك فأين الابتلاء ؟ وهل الابتلاء إلا الإعراض، وعكس المقاصد0 فافهمي معنى التكليف، وقد هان عليك ما عز، وسهل ما استصعب، فلما تدبرت ما قلته، سكنت بعض السكون0
فقلت لها: وعندي جواب ثان، وهو أنك تقتضين الحق بأغراضك، ولا تقتضين نفسك بالواجب له وهذا عين الجهل، وإنما كان ينبغي أن يكون الأمر بالعكس؛ لأنك مملوكة والمملوك العاقل يطالب نفسه بأداء حق المالك، ويعلم أنه لا يجب على المالك تبليغه ما يهوى0فسكنت أكثر من ذلك السكون0
فقلت لها: وعندي جواب ثالث، وهو أنك استبطأت الإجابة، وأنت سددت طرقها بالمعاصي، فلو قد فتحت الطريق أسرعت، كأنك ما علمت أن سبب الراحة التقوى أوماسمعت قوله تعالى:
{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}(الطلاق: 2 -3)
وقال تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أمرهِ يُسْراً}(الطلاق: 4)
أومافهمت أن العكس بالعكس؟ آه من سكر غفلة صار أقوى من كل سكر في وجه مياه المراد يمنعها من الوصول إلى زرع الأماني0فعرفت النفس أن هذا حق فاطمأنت.
فقلت:وعندي جواب رابع، وهو أنك تطلبين ما لا تعلمين عاقبته، وربما كان فيه ضررك0
فمثلك كمثل طفل محموم، يطلب الحلوى، والمدبر لك أعلم بالمصالح0
وكيف وقد قال تعالى: { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}(البقرة: 216)
فلما بان الصواب للنفس في هذه الأجوبة زادت طمأنينتها
فقلت لها: وعندي جواب خامس، وهو أن المطلوب ينقص من أجرك ويحط من مرتبتك، فمنع الحق لك ما هذا سبيله عطاء منه لك0 ولو أنك طلبت ما يصلح آخرتك كان أولى لك، فأولى لك أن تفهمي ما قد شرحت0فقالت:لقد سرحت في رياض ما شرحت، فهمت إذ فهمت0
الحقيقة الثالثة: وهي أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا مسافر والسفر كله مشقة:
قال الإمام ابن القيم – رحمه الله - كما في الفوائد صـ 270:
الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، و ليس لهم حطّ عن رحالهم إلا في الجنة أو النار، والعاقل يعلم أن السفر مبنىّ على المشقة وركوب الأخطار. و من المحال عادة أن يطلب فيه نعيم ولذة وراحة، إنما ذلك بعد انتهاء السفر، و من المعلوم أن كل وطأة قدم أو كل آن من أنات السفر غير واقفة، ولا المكلف واقف، وقد ثبت أنه مسافر على الحال التي يجب أن يكون المسافر عليها من تهيئة الزاد الموصل، وإذا نزل أو نام أو استراح فعلى قدم الاستعداد للسير.
قل متاع الدنيا قليل
ومع هذا السفر الذي لا يخلو من المشقة، فإننا على يقين من أن الدنيا بكل ما فيها متاع زائل.
قال تعالى:{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}(الحديد: 20)
وقال الله تعالى:{ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخرة خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}(النساء: 77)
فالاستمتاع بالدنيا قليل، ومتعتك بها قليل من قليل، و ثواب الآخرة خير وأفضل لمن اتقى المعاصي وأقبل على الطاعات. فالله تعالى مثل لنا الدنيا كزرع أعجب الزراع نباته ينمو شيئاً فشيئاً حتى يكتمل ثم يهيج فتراه مصفراً جاهزاً للحصاد فهو موقوت الأجل ينتهي عاجلاً ويبلغ أجله قريباً ثم يكون حطاماً و ينتهي شريط الحياة بمشهد الحطام ويا لها من نهاية بالحياة الدنيا جميعها
فما هي إلا حطام أو كظل وسراب
روى الترمذي و ابن ماجة بإسناد حسن أن رسول اللهr:
قال: "مالي وللدنيا ؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح و تركها".
أحلام نوم، أو كظلٍّ زائل
إن اللبيب بمثلها لا يخدع
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ:
أشبه الأشياء بالدنيا الظل، تحسب له حقيقة ثابتة وهو في تقلص وانقباض، تتبعه لتدركه فلا تلحقه، وأشبه الأشياء بالدنيا: { كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(النور: 39)
وأشبه الأشياء بالدنيا المنام يرى فيه العبد ما يحب وما يكره، فإذا استيقظ علم أن ذلك لا حقيقة له.
قال بعضهم:
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها
على أنهم فيها عراة و جُوَّعُ
أراهـا و إن كـانت تحب فإنها
سحابةُ صيفٍ عن قليل تقشع
فالمؤمن هو الذي يعلم أنه مسافر إلى الله، وأن كل ما هو من حطام الدنيا فسوف يتركه لا محالة. إما بالفقر أو بالموت، كما قال تعالى:{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}
(الأنعام: 94)
أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال:
أخذ رسول اللهr بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".
و كان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، و خذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. (صحيح الجامع:4579).
قال جماعة من العلماء في تفسير هذا الحديث:
لا تركن إلى الدنيا، ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، و لا بالاعتناء بها، ولا تغتر بها، فإنها غرارة خداعة، ولا تتعلق إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها إلا بما يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله، و بالله فاستعن.
وأخرج ابن ماجة و الطبراني في الكبير والحاكم عن سهل بن سعد الساعدي قال:
جاء رجل إلى النبي r فقال: يا رسول الله، دلني عل عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس، فقال: "ازهد في الدنيا، يحبك الله، و ازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس".
(صحيح الجامع:922)
وأخرج الترمذى عن سهل بن سعد قال: قال رسول اللهr:
"لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافراً منها شربة ماء".
(صحيح الجامع:5292)
وأخرج ابن ماجة عن أبى هريرة t قال: قال رسول اللهr:
"الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلما".(صحيح الجامع:3414)
وأخرج الإمام مسلم و أحمد والترمذي عن عبد الله بن الشخيرt قال:
أتيت رسول الله r وهو يقرأ:" ألهاكم التكاثر" قال: "يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا ابن ادم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟".
(صحيح الجامع:8132).
وأخرج مسلم عن أبى سعيد الخضري tقال: قال رسول اللهr:
"إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعلمون؟ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء".
فالدنيا فانية زائلة، و كل ما فيها يتغير ويحول ويفنى ويزول، لأنها إلى الآخرة طريق وهي مزرعة للآخرة على التحقيق، إنها ألم يخفيه أمل، و أمل يحققه بإذن الله عمل، وعمل يقطعه الأجل، وعندها يجزى كل أمريء بما فعل، إنها الدنيا كلما حلت أوحلت، وكلما كست أوكست، وكلما دنت أودنت، وكم من ملك رفعت له علامات، فلما علا مات.
هي الأيـام لا يبقى عزيز
وساعات السرور بها قليلة
إذا نشر الضياء عليكم نجم
وأشرق فارتقب يوماً أفوله
إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرت يوماً أحزنت شهوراً، وإن متعت كثيراً منعت طويلاً،
لا يبقى لها حبور و لا يدوم فيها ثبور.
فلا بد أن نعلم بأن النعم زائرة وأنها لا محالة زائلة، وأن السرور بها إذا أقبلت مشوب بالحذر بفراقها إذا أدبرت، وأنها لا تفرح بإقبالها فرحاً حتى تعقب بفراقها ترحاً، فعلى قدر السرور يكون الحزن.
والمفروح به اليوم هو المحزون عليه غداً، ومن بلغ غاية ما يحب فليتوقع غاية ما يكره، ومن علم أن كل نائبة إلى انقضاء حسن عزاؤه عند نزول البلاء
{ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الفتح: 23).
بل إن المؤمن يعلم أن الدنيا مزرعة للآخرة، وأن ما يزرعه هنا فسوف يحصده هناك،
ولذا قال تعالى: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } (البقرة: 197).
وقـفـة :
حضر أحد الرؤساء صلاة الجمعة، وبه مرض لا يحتمل معه تطويل الخطبة،ثم صعد الخطيب المنبر، فقال: الحمد لله رب العالمين، وصلواته على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد: فإن الدنيا دار ممر، والآخرة دار مقر، فخذوا لمقركم من ممركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفي عليه أسراركم وأخرجوا الدنيا من قلوبكم، قبل أن تخرج منها أبداًنكم،
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
فما أبلغ هذه الخطبة وأفصحها وأوجزها، فممر الدنيا والله قصير وأغنى الأغنياء فيها فقير، فعلى الإنسان أن يستيقظ من رقدة الغفلة وينتبه من السكرة، ويقلع حب الدنيا من قلبه، فإن العبد إذا أغمض عينه وتولى، تمنى الإقالة، فيقال له: كلا.
أخرج الطيالسي و البيهقي في الشعب بسند صحيح عن جابر قال: قال رسول اللهr:
"قال لي جبريل: يا محمد عش ما شئت ، فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت، فإنك ملاقيه" . (صحيح الجامع:4355)
فحين يصل المؤمن إلى تلك الحقيقة الكبرى ويوقن أنه موقوف بين يدي الله – جل و علا – في يوم مقداره خمسون ألف سنة ، فإن الدنيا لو سجدت بين يديه لركضها برجليه طامعاً في ساعة واحدة يناجي فيها ربه لعل الله أن يكتب له بها النجاة من تلك النار التي أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى احمرت. وألف عام حتى اسودت، فهي الآن سوداء قاتمة.
فيعلم المؤمن أن كل نعيم دون الجنة سراب، وكل عذاب دون النار عافية.
فمن بذل وسعه في التفكير التام ، و علم أن هذه الدار رحلة فجمع للسفر رَحْلَه.
ويعلم أن مبدأ السفر من ظهور الآباء إلى بطون الأمهات، ثم إلى الدنيا، ثم إلى القبر، ثم إلى الحشر ثم إلى دار الإقامة الأبدية، فدار الإقامة هي دار السلام من جميع الآفات. وهي دار الخلود.
وليعلم أن مقدار السير في الدنيا يسير ويقطع بالأنفاس، ويسير بالإنسان سير السفينة لا يحس بسيرها و هو جالس فيها، وكما قال الشاعر:
إنمـا هذه الحيـــاة متـاع
فالغويّ الشقيّ من يصطفيها
ما مضى فات و المؤمل غيب
ولك السـاعة التي أنت فيها
ولا بد له في سفره من زاد، و لا زاد إلى الآخرة إلا التقوى، فلا بد من تعب الإنسان و الحرص على العمل الصالح ليجمع زاده لئلا يقول وقت السير: رب ارجعون. فيقال: كلا.
فلينتبه الغافل من كسل مسيره، فإن الله تعالى يريه في قطع مسافة سفر آيات يرسلها تخويفاً لعباده. لئلا يميلوا عن طريقهم المستقيم، و نهجهم القويم، فمن مالت به راحلته عن طريق الاستقامة فرأي ما يخاف منه، فليرغب إلى الله بالرجوع إليه مما ارتكبه من السبل فيتوب من معصيته و يبكي من قسوته.
ولقد قال بعض السلف:
احذروا دار الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت، فإنهما يفرقون بين المرء وزوجه، والدنيا تفرق بين العبد وربه، فالكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والحازم من بادر بالعمل قبل حلول الأجل، والمسلم من استسلم للقضاء والقدر.
الحقيقة الرابعة: يخبرنا عنها ابن القيم - رحمه الله- كما في عدة الصابرين صـ 90 حيث يقول: لابد أن يعلم المرء أن الله سبحانه خلقه لبقاء لا فناء له، ولعز لا ذل معه وأمن لا خوف فيه، وغناء لا فقر معه، ولذة لا ألم معها، وكمال لا نقص فيه، وامتحنه في هذه الدار بالبقاء الذي يسرع إليه بالفناء، والعز الذي يقارنه الذل ويعقبه الذل، والأمن الذي معه الخوف و بعده الخوف.
وكذلك الغناء واللذة والفرح والسرور والنعيم الذي هنا مشوب بضده؛ لأنه يتعقبه ضده وهوسريع الزوال، فغلط أكثر الخلق في هذا المقام إذ طلبوا النعيم والبقاء والعز والملك والجاه في غير محله ففاتهم في محله، وأكثرهم لم يظفر بما طلب من ذلك، و الذي ظفر به إنما هو متاع قليل والزوال قريب فإنه سريع الزوال عنه، و الرسل - صلوات الله و سلامه عليهم - إنما جاءوا بالدعوة إلى النعيم المقيم والملك الكبير، فمن أجابهم حصل له ألذ ما في الدنيا وأطيبه، فكان عيشه فيها أطيب من عيش الملك فمن دونهم. أهـ
فمن صبر على مكاره الدنيا و بلائها عوّضه الله خيراً منها جنة نعيمها مقيم وملك لا يبلى ولا يزول. فمن صبر على مرارة الدنيا نال حلاوة الآخرة.
وصدق النبي r حيث قال كما في صحيح مسلم من حديث أنس tأن النبيr قال:
"حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات" . ( أحمد والترمذي و هو في صحيح الجامع:3147)
فصبراً يا أهل البلاء فغمسة في الجنة تنسى كل شقاء وهم وبلاء، وغمسة في النار عياذاً بالله تنسى كل لذة ونعيم.
أخرج مسلم عن أنس بن مالك t قال: قال رسول الله r:
"يؤت بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في جهنم صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول: لا والله يارب، و يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول: لا والله، ما مر بي بؤسٌ قط، و لا رأيت شدة قط".
ـ والصَبغة – بفتح الصاد – أي يغمس غمسة (شرح صحيح مسلم:17/155)
فتأمل كيف أنست الأول شدة العذاب ما مضى عليه من النعيم في الدنيا، و كيف أن الثاني قد نسى ما مرّ به من شدائد و مصائب لما ذاق طعم الجنة.
فسوف تنسى– أخي المبتلى - كل ما كنت تعانيه من آلام و أسقام إذا دخلت دار السلام.
يقول ابن القيم – رحمه الله – كما في إغاثة اللهفان (2/175):
ومن رحمته سبحانه بعباده أن نغّص عليهم الدنيا وكدرها، لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا إليها، ويرغبوا في النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم.
الحقيقة الخامسة: فليعلم أهل البلاء أن الراحة الحقيقة و النعيم المقيم ليس في هذه الدار إنما هو في جنة العزيز الغفار:
فمن يتأمل في كتاب الله يعلم أن أهل الجنّة كانوا أهل حزن في الدنيا، وكان يصيبهم الوصب والنصب واللغوب، قال تعالى عنهم: { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} (فاطر: 34-35).
كانوا معرضين للهموم و الأحزان، فالحزن بسبب نقص الطعام و الشراب واللذات وقلة التنعم، ونقص الجمال والأجساد والرزق فهموم الدنيا كثيرة، لذلك أبدلهم الله دار المقامة التي فيها الدوام والبقاء والخلود حيث الصحة التي ليس معها مرض، والشباب الذي لا يتسرب إليه العجز والشيخوخة، والنعيم الذي لا يخالطه بؤس أبداً.
فقد أخرج الإمام مسلم عن أبي سعيد و أبي هريرة - رضي الله عنهما- أن رسول الله r قال: " إذا دخل أهل الجنّة الجنّة ينادي منادٍ: إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبداً "
وأخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة tقال: قال رسول اللهr:
" من يدخل الجنّة ينعم، ولا يبأس، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه".
وأخرج البخاري و مسلم عن أبي هريرة t قال: قال رسول اللهr:
" قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، واقرؤوا إن شئتم: { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(السجدة: 17)
أول زمرة يدخلون الجنّة على صورة القمر ليلة البدر
فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله:
" أول زمرة يدخلون الجنّة على صورة القمر ليلة البدر. ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة: لا يبولون ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يتمخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الأُلُوَّةُ – عود الطيب – أزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء "
وفي رواية للبخاري و مسلم:" آنيتهم فيها الذهب، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحُسْنِ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة و عشية "
آخر أهل الجنّة دخولاً الجنة
أخرج البخاري و مسلم عن ابن مسعود t قال: قال رسول الله r:
" إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها وآخر أهل الجنّة دخولاً الجنّة: رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله U له: اذهب فادخل الجنّة، فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع، فيقول يارب وجدتها ملأى، فيقول الله U له: اذهب فادخل الجنّة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا، فيقول: أتسخر بي، أوتضحك بي وأنت الملك ؟ قال: فلقد رأيت رسول الله r ضحك حتى بدت نواجذه فكان يقول:
" ذلك أدني أهل الجنّة منزلة "
أدنى أهل الجنة منزلة
وأخرج الإمام مسلم عن المغيرة بن شعبة t عن رسول الله r قال:
" سأل موسى r ربه، ما أدنى أهل الجنّة منزلة ؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أُدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنّة. فيقول: أي رب كيف وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم(1) فيقول له: أترضي أن يكون مثل مُلْك مَلِك من ملوك الدنيا ؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله،فيقول في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك، فيقول: رضيت رب، قال رب فأعلاهم منزلة ؟ قال: أولئك الذين أردت(2)، غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر ".
ـ أخذاتهم: حظهم من النعيم و الرضوان
ـ أردت: اصطفيت واخترت
خيمة من لؤلؤة مجوفة للمؤمن
أخرج البخاري و مسلم عن أبي موسى t أن النبي rقال:
" إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوَّفة طولها في السماء ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضها "
ـ " الميل ": ستة آلاف ذراع.
أفضل نعيم أهل الجنة هو النظر إلى وجه الله الكريم.
فقد أخرج الإمام مسلم عن صهيب t أن رسول الله r قال:
" إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله - تبارك و تعالى -: تريدون شيئاً أزيدكم ؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنّة وتنجِّنا من النار. فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم "
ثم يحل عليهم الرضوان من الرحمن
فقد أخرج البخاري و مسلم عن أبي سعيد الخدري tأن رسول الله r قال:
" إن الله U يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك فيقول: هل رضيتم ؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط من أحد من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً"
فلنصبر على بلاء الدنيا حتى نفوز بهذا النعيم المقيم، جنّة عرضها السموات والأرض بناؤها لبنة من ذهب، و لبنة من فضة وملاطها المسك الأزفز، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه، فيها غرف يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصيام وصلى والناس نيام. فاللهم ارزقنا الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين
وبعد...
فهذا آخر ما تيسر جمعه في هذه الرسالة
نسأل الله أن يكتب لها القبول وأن يتقبلها منا بقبول حسن، كما أسأله سبحانه أن ينفع بها مؤلفها وقارئها ومن أعان علي إخراجها ونشرها......إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وما كان فيها من صواب فمن الله وحده، وما كان من سهو أو خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وهذا بشأن أي عمل بشري يعتريه الخطأ والصواب، فإن كان صواباً فادع لي بالقبول والتوفيق، وإن كان ثم خطأ فاستغفر لي
وإن وجدت العيب فسد الخللا
جل من لا عيب فيه وعلا
فاللهم اجعل عملي كله صالحاً ولوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه نصيب
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،
هذا والله تعالى أعلى وأعلم .........
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك
[1] (http://www.djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=27#_ftnref1))) قدر عليه رزقه: أي ضيق عليه رزقه .