المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : النازلةُ حاضنةُ الأهواءِ


01 algeroi
2013-09-04, 13:54
مقال جديد للشيخ أبو زيد العتيبي حفظه الله



سلسلة درك البصيرة للنجاة من الفتن الخطيرة (23)

النازلةُ حاضنةُ الأهواءِ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المصطفى الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين .

أما بعد:

فإن القلوب فيها كمائن مختفية ، ودسائس مختبئة ، كالأرض تجمع في باطنها أصنافاً من البذور، فإذا نزل عليها الماء انبتت الزروع والأشجار من جنس كل بذرة ، وكذلك القلب فيه من بذور الشكوك والشبه والشهوات أصنافاً، تهيجها المحن والنوازل، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " وَكَمَائِنُ الْقُلُوبِ تَظْهَرُ عِنْدَ الْمِحَنِ " (مجموع الفتاوى:20/9) .

فتتولد الأهواء من هذا اللقاح بين المخبآت القلبية، والنوازل القدرية، ثم تكون النازلة كالحاضنة التي تقوم على تربية الصغير، تقوده وتسوسه، وتغذيه وتنميه .

وكمائن القلوب على نوعين : ( شهوات ) ، و ( شبهات ) . وقد ينفرد المفتون بواحد منهما وقد يجتمعان في قلبه - غياً وضلالاً - .

وتأثير النازلة في تهييج الشهوات ، والشبهات ينبني على ضعف الإيمان بسبب المزاحم منها للعلم والعمل القلبي فلا يبقى في قلب العبد إلا إيمانا هزيلاً ، لا يثبت عند المحنة .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :" وَهَذَا حَالُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِنَا أَوْ أَكْثَرِهِمْ إذَا اُبْتُلُوا بِالْمِحَنِ الَّتِي يَتَضَعْضَعُ فِيهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ يَنْقُصُ إيمَانُهُمْ كَثِيرًا وَيُنَافِقُ أَكْثَرُهُمْ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُظْهِرُ الرِّدَّةَ إذَا كَانَ الْعَدُوُّ غَالِبًا ؛ وَقَدْ رَأَيْنَا وَرَأَى غَيْرُنَا مِنْ هَذَا مَا فِيهِ عِبْرَةٌ . وَإِذَا كَانَتْ الْعَافِيَةُ أَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ .
وَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِالرَّسُولِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَكِنْ إيمَانًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الْمِحْنَةِ . وَلِهَذَا يَكْثُرُ فِي هَؤُلَاءِ تَرْكُ الْفَرَائِضِ وَانْتِهَاكُ الْمَحَارِمِ . وَهَؤُلَاءِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا : { آمَنَّا } فَقِيلَ لَهُمْ : { قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } " (مجموع الفتاوى : 7/281) .

و اعلم أن النازلة وإن كان الواقع ظرفاً – زمانياً أو مكانياً – لأحداثها إلا أن القلب هو المقصود منها ، والمستهدف بمجرياتها ، فالنازلة في الحقيقة نازلة على القلوب ، وإن تعلقت بالبدن والمكان – واقعاً – وكانت لهما بعض أحكامها .

وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ }[العنكبوت : 1 – 3 ] .

فالنازلة لا تكتفي بتهييج الهوى وبعثه في القلب . بل تقوم أحداثها ومجرياتها بتغذيته ومده بما يبقيه ويقويه ، فهي ( حاضنة للهوى ) .

حقيقة حضانة النازلة للأهواء : إن من خلال توالي أحداث النازلة ، وتكرر مشاهدها ، وتداخل أحكامها ، وتأخر انجلائها ، وتراكم ظلماتها تنمو بذرة الفتنة في قلب المفتون ، كأنما تنضج على نار هادئة ، لأن أخبار الفتنة ومشاهدها تنفذ إلى القلوب مهيجة عواطفها ، ومحركة لأهوائها ، فإذا وافقتها بعض المتشابهات ، واقترن بها زلل بعض المعظمين في قلب المفتون فسيسفر مخاضها عن مولود جديد في قائمة الأفكار والأهواء .

فإذا غذي هذا الفكر الوليد بأخبار ومشاهد القنوات الإخبارية ، وأحكام منابر التهييج العاطفية فستستوفي النازلة مدة حضانتها مخلفة (مقالة بدعية) يجتمع حولها جماعة من المفتونين يرفعون لواءها ويتخندقون للذب عنها معلنين حرباً كلامية على كل من خالفهم في صورة جدل ومراء مذموم .

وطريق النجاة من الفتنة يكون بتحقيق الإيمان القلبي - الذي يدفع ويرفع الشبهات والشهوات – علماً وعملاً ، فالعلم يمنع الشبهة ، والعمل يمنع الشهوة .

وجماع ذلك ( طمأنينة القلب ) بإيمانه ، وانتفاء ريبه ، كما قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } [الحجرات : 15 ] .

قال شيخ الإسلام – رحمه الله - : " فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ رَيْبٌ عِنْدَ الْمِحَنِ الَّتِي تُقَلْقِلُ الْإِيمَانَ فِي الْقُلُوبِ وَالرَّيْبُ يَكُونُ فِي عِلْمِ الْقَلْبِ وَفِي عَمَلِ الْقَلْبِ ؛ بِخِلَافِ الشَّكِّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْعِلْمِ وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ بِالْيَقِينِ إلَّا مَنْ اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ عِلْمًا وَعَمَلًا ؛ وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحَقِّ ؛ وَلَكِنَّ الْمُصِيبَةَ أَوْ الْخَوْفَ أَوْرَثَهُ جَزَعًا عَظِيمًا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ يَقِينٍ . قَالَ تَعَالَى : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } " (مجموع الفتاوى : 7/281) .

وقال ابن كثير – رحمه الله - : " وقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } أي: إنما المؤمنون الكُمَّل { الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } أي: لم يشكوا ولا تزلزلوا، بل ثبتوا على حال واحدة، وهي التصديق المحض، { وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي: وبذلوا مهجهم ، ونفائس أموالهم في طاعة الله ورضوانه، { أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } أي: في قولهم إذا قالوا: "إنهم مؤمنون"، لا كبعض الأعراب الذين ليس معهم من الدين إلا الكلمة الظاهرة " (تفسير القرآن: 7/390) .

ففي الصدق المورث لعلم القلب وعمله ، والمثمر لطمأنينته تكون النجاة من الفتنة والله العاصم .