تخليةوتحلية
2013-08-30, 12:31
بسم الله الرحمن الرحيم
كلمات ذهبية أحوج ما يحتاج إليها أهل التفرد والاتباع في زمن شاع فيه الكذب والتلون و كثر فيه أهل الابتداع
قال شيخ الإسلام أبوعبدالله ابن القيم ـ رحمه الله ـ في (مدارج السالكين)(2/262 ـ 264)
(( قَالَ الْجُنَيْدُ :" الصَّادِقُ يَتَقَلَّبُ فِي الْيَوْمِ أَرْبَعِينَ مَرَّةً ، وَالْمُرَائِي يَثْبُتُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً ."
وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ. وَقَدْ يَسْبِقُ إِلَى الذِّهْنِ خِلَافُهُ، وَأَنَّ الْكَاذِبَ مُتَلَوِّنٌ. لِأَنَّ الْكَذِبَ أَلْوَانٌ، فَهُوَ يَتَلَوَّنُ بِتَلَوُّنِهِ. وَالصَّادِقُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. فَإِنَّ الصِّدْقَ وَاحِدٌ فِي نَفْسِهِ، وَصَاحِبُهُ لَا يَتَلَوَّنُ وَلَا يَتَغَيَّرُ.
لَكِنَّ مُرَادَ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ صَحِيحٌ غَيْرُ هَذَا. فَإِنَّ الْمُعَارَضَاتِ وَالْوَارِدَاتِ الَّتِي تَرِدُ عَلَى الصَّادِقِ لَا تَرِدُ عَلَى الْكَاذِبِ الْمُرَائِي. بَلْ هُوَ فَارِغٌ مِنْهَا. فَإِنَّهُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ مَوَارِدُ الصَّادِقِينَ عَلَى الْكَاذِبِينَ الْمُرَائِينَ. وَلَا يُعَارِضُهُمُ الشَّيْطَانُ. كَمَا يُعَارِضُ الصَّادِقِينَ. فَإِنَّهُ لَا أَرَبَ لَهُ فِي خَرِبَةٍ لَا شَيْءَ فِيهَا.
وَهَذِهِ الْوَارِدَاتُ تُوجِبُ تَقَلُّبَ الصَّادِقِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهَا وَتَنَوُّعِهَا. فَلَا تَرَاهُ إِلَّا هَارِبًا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ وَمِنْ عَمَلٍ إِلَى عَمَلٍ. وَمِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَمِنْ سَبَبٍ إِلَى سَبَبٍ. لِأَنَّهُ يَخَافُ فِي كُلِّ حَالٍ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا. وَمَكَانٍ وَسَبَبٍ: أَنْ يَقْطَعَهُ عَنْ مَطْلُوبِهِ. فَهُوَ لَا يُسَاكِنُ حَالَةً وَلَا شَيْئًا دُونَ مَطْلُوبِهِ. فَهُوَ كَالْجَوَّالِ فِي الْآفَاقِ فِي طَلَبِ الْغِنَى الَّذِي يَفُوقُ بِهِ الْأَغْنِيَاءَ.
وَالْأَحْوَالُ وَالْأَسْبَابُ تَتَقَلَّبُ بِهِ، وَتُقِيمُهُ وَتُقْعِدُهُ، وَتُحَرِّكُهُ وَتُسَكِّنُهُ، حَتَّى يَجِدَ فِيهَا مَا يُعِينُهُ عَلَى مَطْلُوبِهِ. وَهَذَا عَزِيزٌ فِيهَا. فَقَلْبُهُ فِي تَقَلُّبٍ، وَحَرَكَةٍ شَدِيدَةٍ بِحَسَبِ سَعَةِ مَطْلُوبِهِ. وَعَظْمَتِهِ وَهِمَّتِهِ أَعْلَى مِنْ أَنْ يَقِفَ دُونَ مَطْلَبِهِ عَلَى رَسْمٍ أَوْ حَالٍ، أَوْ يُسَاكِنَ شَيْئًا غَيْرَهُ. فَهُوَ كَالْمُحِبِّ الصَّادِقِ، الَّذِي هِمَّتُهُ التَّفْتِيشُ عَلَى مَحْبُوبِهِ. وَكَذَا حَالُ الصَّادِقِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَحَالُ الصَّادِقِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا. فَكُلُّ صَادِقٍ فِي طَلَبِ شَيْءٍ لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ قَرَارٌ. وَلَا يَدُومُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الصَّادِقَ مَطْلُوبُهُ رِضَا رَبِّهِ، وَتَنْفِيذُ أَوَامِرِهِ، وَتَتَبُّعُ مَحَابِّهِ. فَهُوَ مُتَقَلِّبٌ فِيهَا يَسِيرُ مَعَهَا أَيْنَ تَوَجَّهَتْ رَكَائِبُهَا. وَيَسْتَقِلُّ مَعَهَا أَيْنَ اسْتَقَلَّتْ مَضَارِبُهَا فَبَيْنَا هُوَ فِي صَلَاةٍ إِذْ رَأَيْتُهُ فِي ذِكْرٍ ثُمَّ فِي غَزْوٍ، ثُمَّ فِي حَجٍّ. ثُمَّ فِي إِحْسَانٍ لِلْخَلْقِ بِالتَّعْلِيمِ وَغَيْرِهِ، مِنْ أَنْوَاعِ النَّفْعِ. ثُمَّ فِي أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ. أَوْ فِي قِيَامٍ بِسَبَبٍ فِي عِمَارَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، ثُمَّ فِي عِيَادَةِ مَرِيضٍ، أَوْ تَشْيِيعِ جِنَازَةٍ. أَوْ نَصْرِ مَظْلُومٍ - إِنْ أَمْكَنَ - إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرْبِ وَالْمَنَافِعِ.
فَهُوَ فِي تَفَرُّقٍ دَائِمٍ لِلَّهِ، وَجَمْعِيَّةٍ عَلَى اللَّهِ. لَا يَمْلِكُهُ رَسْمٌ وَلَا عَادَةٌ وَلَا وَضْعٌ. وَلَا يَتَقَيَّدُ بِقَيْدٍ وَلَا إِشَارَةٍ. وَلَا بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ يُصَلِّي فِيهِ لَا يُصَلِّي فِي غَيْرِهِ. وَزِيٍّ مُعَيَّنٍ لَا يَلْبَسُ سِوَاهُ. وَعِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهَا، مَعَ فَضْلِ غَيْرِهَا عَلَيْهَا، أَوْ هِيَ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهَا فِي الدَّرَجَةِ. وَبُعْدُ مَا بَيْنَهُمَا كَبُعْدِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
فَإِنَّ الْبَلَاءَ وَالْآفَاتِ وَالرِّيَاءَ وَالتَّصَنُّعَ، وَعِبَادَةَ النَّفْسِ، وَإِيثَارَ مُرَادِهَا، وَالْإِشَارَةَ إِلَيْهَا: كُلُّهَا فِي هَذِهِ الْأَوْضَاعِ، وَالرُّسُومَ وَالْقُيُودَ، الَّتِي حَبَسَتْ أَرْبَابَهَا عَنِ السَّيْرِ إِلَى قُلُوبِهِمْ. فَضْلًا عَنِ السَّيْرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَإِذَا خَرَجَ أَحَدُهُمْ عَنْ رَسْمِهِ وَوَضْعِهِ وَزِيِّهِ وَقَيْدِهِ وَإِشَارَتِهِ - وَلَوْ إِلَى أَفْضَلَ مِنْهُ - اسْتَهْجَنَ ذَلِكَ. وَرَآهُ نَقْصًا، وَسُقُوطًا مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وَانْحِطَاطًا لِرُتْبَتِهِ عِنْدَهُمْ. وَهُوَ قَدِ انْحَطَّ وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ.
وَقَدْ يُحِسُّ أَحَدُهُمْ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَحَالِهِ. وَلَا تَدَعُهُ رُسُومُهُ وَأَوْضَاعُهُ وَزِيُّهُ وَقُيُودُهُ: أَنْ يَسْعَى فِي تَرْمِيمِ ذَلِكَ وَإِصْلَاحِهِ. وَهَذَا شَأْنُ الْكَذَّابِ الْمُرَائِي الَّذِي يُبْدِي لِلنَّاسِ خِلَافَ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْ بَاطِنِهِ، الْعَامِلِ عَلَى عِمَارَةِ نَفْسِهِ وَمَرْتَبَتِهِ. وَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ بِعَيْنِهِ . وَلَوْ كَانَ عَامِلًا عَلَى مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ، وَعَلَى الصِّدْقِ مَعَ اللَّهِ: لَأَثْقَلَتْهُ تِلْكَ الْقُيُودُ. وَحَبَسَتْهُ تِلْكَ الرُّسُومُ. وَلَرَأَى الْوُقُوفَ عِنْدَهَا وَمَعَهَا عَيْنَ الِانْقِطَاعِ عَنِ اللَّهِ لَا إِلَيْهِ. وَلَمَا بَالَى أَيَّ ثَوْبٍ لَبِسَ، وَلَا أَيَّ عَمَلٍ عَمِلَ، إِذَا كَانَ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْعَبْدِ.
فَكَلَامُ أَبِي الْقَاسِمِ الْجُنَيْدِ حَقٌّ، كَلَامُ رَاسِخٍ فِي الصِّدْقِ، عَالِمٍ بِتَفَاصِيلِهِ وَآفَاتِهِ، وَمَوَاضِعِ اشْتِبَاهِهِ بِالْكَذِبِ.
وَأَيْضًا فَحِمْلُ الصِّدْقِ كَحِمْلِ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي. لَا يُطِيقُهُ إِلَّا أَصْحَابُ الْعَزَائِمِ. فَهُمْ يَتَقَلَّبُونَ تَحْتَهُ تَقَلُّبَ الْحَامِلِ بِحِمْلِهِ الثَّقِيلِ ، وَالرِّيَاءُ وَالْكَذِبُ خَفِيفٌ كَالرِّيشَةِ لَا يَجِدُ لَهُ صَاحِبُهُ ثِقَلًا أَلْبَتَّةَ ، فَهُوَ حَامِلٌ لَهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ اتَّفَقَ، بِلَا تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ وَلَا كُلْفَةٍ. فَهُوَ لَا يَتَقَلَّبُ تَحْتَ حِمْلِهِ وَلَا يَجِدُ ثِقَلَهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَشَمُّ رَائِحَةَ الصِّدْقِ عَبْدٌ دَاهَنَ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ. )) ا.هـ
لله در الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ ، فكلامه وشرحه هذا يكتب بماء العينين ، ولا يعبر عن هذه الكلمات الذهبية بأحسن وألطف بما عبر به ، فزيادة توضيحها وبيانها يخفي معناها ويستر رونقها ، ويزيدها جفاء وخفاء .
والحمد لله رب العالمين
كلمات ذهبية أحوج ما يحتاج إليها أهل التفرد والاتباع في زمن شاع فيه الكذب والتلون و كثر فيه أهل الابتداع
قال شيخ الإسلام أبوعبدالله ابن القيم ـ رحمه الله ـ في (مدارج السالكين)(2/262 ـ 264)
(( قَالَ الْجُنَيْدُ :" الصَّادِقُ يَتَقَلَّبُ فِي الْيَوْمِ أَرْبَعِينَ مَرَّةً ، وَالْمُرَائِي يَثْبُتُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً ."
وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ. وَقَدْ يَسْبِقُ إِلَى الذِّهْنِ خِلَافُهُ، وَأَنَّ الْكَاذِبَ مُتَلَوِّنٌ. لِأَنَّ الْكَذِبَ أَلْوَانٌ، فَهُوَ يَتَلَوَّنُ بِتَلَوُّنِهِ. وَالصَّادِقُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. فَإِنَّ الصِّدْقَ وَاحِدٌ فِي نَفْسِهِ، وَصَاحِبُهُ لَا يَتَلَوَّنُ وَلَا يَتَغَيَّرُ.
لَكِنَّ مُرَادَ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ صَحِيحٌ غَيْرُ هَذَا. فَإِنَّ الْمُعَارَضَاتِ وَالْوَارِدَاتِ الَّتِي تَرِدُ عَلَى الصَّادِقِ لَا تَرِدُ عَلَى الْكَاذِبِ الْمُرَائِي. بَلْ هُوَ فَارِغٌ مِنْهَا. فَإِنَّهُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ مَوَارِدُ الصَّادِقِينَ عَلَى الْكَاذِبِينَ الْمُرَائِينَ. وَلَا يُعَارِضُهُمُ الشَّيْطَانُ. كَمَا يُعَارِضُ الصَّادِقِينَ. فَإِنَّهُ لَا أَرَبَ لَهُ فِي خَرِبَةٍ لَا شَيْءَ فِيهَا.
وَهَذِهِ الْوَارِدَاتُ تُوجِبُ تَقَلُّبَ الصَّادِقِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهَا وَتَنَوُّعِهَا. فَلَا تَرَاهُ إِلَّا هَارِبًا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ وَمِنْ عَمَلٍ إِلَى عَمَلٍ. وَمِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَمِنْ سَبَبٍ إِلَى سَبَبٍ. لِأَنَّهُ يَخَافُ فِي كُلِّ حَالٍ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا. وَمَكَانٍ وَسَبَبٍ: أَنْ يَقْطَعَهُ عَنْ مَطْلُوبِهِ. فَهُوَ لَا يُسَاكِنُ حَالَةً وَلَا شَيْئًا دُونَ مَطْلُوبِهِ. فَهُوَ كَالْجَوَّالِ فِي الْآفَاقِ فِي طَلَبِ الْغِنَى الَّذِي يَفُوقُ بِهِ الْأَغْنِيَاءَ.
وَالْأَحْوَالُ وَالْأَسْبَابُ تَتَقَلَّبُ بِهِ، وَتُقِيمُهُ وَتُقْعِدُهُ، وَتُحَرِّكُهُ وَتُسَكِّنُهُ، حَتَّى يَجِدَ فِيهَا مَا يُعِينُهُ عَلَى مَطْلُوبِهِ. وَهَذَا عَزِيزٌ فِيهَا. فَقَلْبُهُ فِي تَقَلُّبٍ، وَحَرَكَةٍ شَدِيدَةٍ بِحَسَبِ سَعَةِ مَطْلُوبِهِ. وَعَظْمَتِهِ وَهِمَّتِهِ أَعْلَى مِنْ أَنْ يَقِفَ دُونَ مَطْلَبِهِ عَلَى رَسْمٍ أَوْ حَالٍ، أَوْ يُسَاكِنَ شَيْئًا غَيْرَهُ. فَهُوَ كَالْمُحِبِّ الصَّادِقِ، الَّذِي هِمَّتُهُ التَّفْتِيشُ عَلَى مَحْبُوبِهِ. وَكَذَا حَالُ الصَّادِقِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَحَالُ الصَّادِقِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا. فَكُلُّ صَادِقٍ فِي طَلَبِ شَيْءٍ لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ قَرَارٌ. وَلَا يَدُومُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الصَّادِقَ مَطْلُوبُهُ رِضَا رَبِّهِ، وَتَنْفِيذُ أَوَامِرِهِ، وَتَتَبُّعُ مَحَابِّهِ. فَهُوَ مُتَقَلِّبٌ فِيهَا يَسِيرُ مَعَهَا أَيْنَ تَوَجَّهَتْ رَكَائِبُهَا. وَيَسْتَقِلُّ مَعَهَا أَيْنَ اسْتَقَلَّتْ مَضَارِبُهَا فَبَيْنَا هُوَ فِي صَلَاةٍ إِذْ رَأَيْتُهُ فِي ذِكْرٍ ثُمَّ فِي غَزْوٍ، ثُمَّ فِي حَجٍّ. ثُمَّ فِي إِحْسَانٍ لِلْخَلْقِ بِالتَّعْلِيمِ وَغَيْرِهِ، مِنْ أَنْوَاعِ النَّفْعِ. ثُمَّ فِي أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ. أَوْ فِي قِيَامٍ بِسَبَبٍ فِي عِمَارَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، ثُمَّ فِي عِيَادَةِ مَرِيضٍ، أَوْ تَشْيِيعِ جِنَازَةٍ. أَوْ نَصْرِ مَظْلُومٍ - إِنْ أَمْكَنَ - إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرْبِ وَالْمَنَافِعِ.
فَهُوَ فِي تَفَرُّقٍ دَائِمٍ لِلَّهِ، وَجَمْعِيَّةٍ عَلَى اللَّهِ. لَا يَمْلِكُهُ رَسْمٌ وَلَا عَادَةٌ وَلَا وَضْعٌ. وَلَا يَتَقَيَّدُ بِقَيْدٍ وَلَا إِشَارَةٍ. وَلَا بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ يُصَلِّي فِيهِ لَا يُصَلِّي فِي غَيْرِهِ. وَزِيٍّ مُعَيَّنٍ لَا يَلْبَسُ سِوَاهُ. وَعِبَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهَا، مَعَ فَضْلِ غَيْرِهَا عَلَيْهَا، أَوْ هِيَ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهَا فِي الدَّرَجَةِ. وَبُعْدُ مَا بَيْنَهُمَا كَبُعْدِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
فَإِنَّ الْبَلَاءَ وَالْآفَاتِ وَالرِّيَاءَ وَالتَّصَنُّعَ، وَعِبَادَةَ النَّفْسِ، وَإِيثَارَ مُرَادِهَا، وَالْإِشَارَةَ إِلَيْهَا: كُلُّهَا فِي هَذِهِ الْأَوْضَاعِ، وَالرُّسُومَ وَالْقُيُودَ، الَّتِي حَبَسَتْ أَرْبَابَهَا عَنِ السَّيْرِ إِلَى قُلُوبِهِمْ. فَضْلًا عَنِ السَّيْرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَإِذَا خَرَجَ أَحَدُهُمْ عَنْ رَسْمِهِ وَوَضْعِهِ وَزِيِّهِ وَقَيْدِهِ وَإِشَارَتِهِ - وَلَوْ إِلَى أَفْضَلَ مِنْهُ - اسْتَهْجَنَ ذَلِكَ. وَرَآهُ نَقْصًا، وَسُقُوطًا مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وَانْحِطَاطًا لِرُتْبَتِهِ عِنْدَهُمْ. وَهُوَ قَدِ انْحَطَّ وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ.
وَقَدْ يُحِسُّ أَحَدُهُمْ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَحَالِهِ. وَلَا تَدَعُهُ رُسُومُهُ وَأَوْضَاعُهُ وَزِيُّهُ وَقُيُودُهُ: أَنْ يَسْعَى فِي تَرْمِيمِ ذَلِكَ وَإِصْلَاحِهِ. وَهَذَا شَأْنُ الْكَذَّابِ الْمُرَائِي الَّذِي يُبْدِي لِلنَّاسِ خِلَافَ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْ بَاطِنِهِ، الْعَامِلِ عَلَى عِمَارَةِ نَفْسِهِ وَمَرْتَبَتِهِ. وَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ بِعَيْنِهِ . وَلَوْ كَانَ عَامِلًا عَلَى مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ، وَعَلَى الصِّدْقِ مَعَ اللَّهِ: لَأَثْقَلَتْهُ تِلْكَ الْقُيُودُ. وَحَبَسَتْهُ تِلْكَ الرُّسُومُ. وَلَرَأَى الْوُقُوفَ عِنْدَهَا وَمَعَهَا عَيْنَ الِانْقِطَاعِ عَنِ اللَّهِ لَا إِلَيْهِ. وَلَمَا بَالَى أَيَّ ثَوْبٍ لَبِسَ، وَلَا أَيَّ عَمَلٍ عَمِلَ، إِذَا كَانَ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ مِنَ الْعَبْدِ.
فَكَلَامُ أَبِي الْقَاسِمِ الْجُنَيْدِ حَقٌّ، كَلَامُ رَاسِخٍ فِي الصِّدْقِ، عَالِمٍ بِتَفَاصِيلِهِ وَآفَاتِهِ، وَمَوَاضِعِ اشْتِبَاهِهِ بِالْكَذِبِ.
وَأَيْضًا فَحِمْلُ الصِّدْقِ كَحِمْلِ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي. لَا يُطِيقُهُ إِلَّا أَصْحَابُ الْعَزَائِمِ. فَهُمْ يَتَقَلَّبُونَ تَحْتَهُ تَقَلُّبَ الْحَامِلِ بِحِمْلِهِ الثَّقِيلِ ، وَالرِّيَاءُ وَالْكَذِبُ خَفِيفٌ كَالرِّيشَةِ لَا يَجِدُ لَهُ صَاحِبُهُ ثِقَلًا أَلْبَتَّةَ ، فَهُوَ حَامِلٌ لَهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ اتَّفَقَ، بِلَا تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ وَلَا كُلْفَةٍ. فَهُوَ لَا يَتَقَلَّبُ تَحْتَ حِمْلِهِ وَلَا يَجِدُ ثِقَلَهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَشَمُّ رَائِحَةَ الصِّدْقِ عَبْدٌ دَاهَنَ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ. )) ا.هـ
لله در الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ ، فكلامه وشرحه هذا يكتب بماء العينين ، ولا يعبر عن هذه الكلمات الذهبية بأحسن وألطف بما عبر به ، فزيادة توضيحها وبيانها يخفي معناها ويستر رونقها ، ويزيدها جفاء وخفاء .
والحمد لله رب العالمين