هشام 12
2013-08-21, 20:42
فهم والدتي للسياسة وتحليلها للأحداث
كلما وجدت قصاصة ورق عليها خط عربي رفعتها إلى صدرها ووضعتها في “كمها” أو علقتها على أقرب مسمار في الجدار. والدتي امرأة أمّية وتقدس العلم وحامليه، هي من خاصة العامة، تنطق همزة القطع “عينا”، ولا تحفظ من كتاب الله تعالى إلا “الحمد” و”قل هو” كما تسميهما. تعرف بالبديهة والظل مواقيت الصلاة وإن لم تلامس معصمها ساعة قط، لم تلج أي كتّاب في طفولتها ولم تكن من مريدي المدرسة الكلونيالية الفرونكوفيلية، إلا أنها خريجة رحم الشعب، ولدت من “خشم” أم ذات راحتين يابستين ومرنتين كقطعتى فلين، متجعدة الخدين والصدغ والجبين، قدماها مشققتان كتراب صلصال أو طمي نهر جاف، ذات فحولة لا متناهية، قاهرة الزمن، تزجي الصفوف وترصها لمقاومة العوز والعجز، لم تمت إلا وهي واقفة كنخلة أصيلة دون أن تثير أي انتباه، كانت الطبيعة تهابها وتغار من صمودها وتحسدها على رعونتها.
والدتي لا تقرأ ولا تكتب، لكنها تتقن فن الاستماع، فتنصت بنظرها الحاد، ثقافتها أحداث عاشتها وهزات صقلت ذاكرتها، فهي لا تفهم السياسة بالمصطلح الأكاديمي، بل تراها “بوليتيك” المرادفة للكذب، فالسياسة عندها هي الحكمة وحسن التدبير والمعاملة الطيبة، فتقول عن المرأة “الساجية” سياسية، ولتقضي حوائجها تأتي تحت الريح.
والدتي لما بلغت عتيا وأقعدتها الشيخوخة صارت مدمنة على مشاهدة ما يبث من برامج دينية و”الأنباء المصورة” كما تسميها، تعرف الشيوخ ورجال بعض القنوات بأسمائهم كما تتداخل لديها الملامح أحيانا وتلتبس عليها الأسماء والوجوه.
والدتي متسامحة، وتسامحها موروث ثقافي وسلوك بنكهة رجولية من مكامن الشهامة ومناهل مروءة، كما أنها تغالي في هذا الجانب وتشترط على من يلتمس التسامح الاعتذار، فإن فعل تعطيه “مقرونها” كدليل على صفاء سريرتها وطيب قلبها وعمق صفحها، لا تكظم غيظها، وتبدي غضبها كلما شاهدت ما يجري من أحداث في أرض الكنانة وتقول دون أن تلوك كلماتها: “دعوة الشهداء”.
شهداء تربطهم بها قرابة كقرب حبل الوريد، قرابة روحية، قرابة زوجية، قرابة مصاهرة، قرابة قداسة وباختصار قرابة قرابة.
والدتي لا تشمت بأحد ولا تتشفى، بالنسبة لها هذه الأحداث مسرحية ذات فصول أبطالها يجيدون التمثيل، فهي متعودة على مشاهدتهم، فعلوا الأفاعيل وقالوا الأقاويل بهتانا وافتراء، نعتوا الشهداء بأقذر النعوت وأقبح الصفات، أبواق الفرقة والفتن، عرابو المآسي، ركبوا أمواج الثورة لما هدأت على الشواطئ وتكسرت فوق الصخور، يريدون الترويج لثورة لم تتشكل ولم تحدد ملامحها ولا أهدافها، متأرجحة بين “الأخونة” و”الفرعنة”، يريدون تصديرها عبر حلقات الميادين والغرف المكيفة ومخافر المخابرات.
ثورة “المرسيسي” التي لم تقنع والدتى فهي من عادتها أنها لا تمضي على بياض بجرة قلم، بل تبصم بالإبهام على الوثائق المحررة، فكل شيء عندها يجب أن يلامس جسدها لأنها عاشت الثورة الحقة واكتوت بجمرها.
أغلقوا الأبواب وقالوا “هيت لك” وتلبسوا بالفعل المخل على الفريق الوطني حين “قد قميصه من دبر”، والساذجات من الصعيد والجيزة “قطعن أيديهن” لما خرج عليهن بزينته ومفعول ما رأين من جاذبية ورشاقة الأفناك وهم يداعبون الكرة، مستمتعين ممتعين بميدان أم درمان الخالد.
ولا عجب إن قالوا عن رئيسهم الذي انقلبوا عليه، وقد يتهمونه أنه من “بلطجية” الأنصار الذين ناصروا “الخضر”، وقد تصدقهم جماهير الميادين وتكون حجة التهمة والادعاء ثم النطق بحكم القضاء.
والدتي التي قضت سبعين حجة وبضع سنين، ماتزال منتصبة كجذع الصبارة تقاوم العواصف بفهمها المتواضع، أما أنا فلا أجدني إلا مرغما على تصديقها وهذا طبيعي، فأضم صوتي إلى صوتها وأقرّ أن دعوة الشهداء تلاحقهم فعلا وإلى الأبد، وتبّا لهم إذ يبدأون الخطاب بالبسملة ويبطنونه بالتثليث ويختمونه بلعنة الفراعنة.
الأستاذ رحماني أحمد: عين تموشنت
يا أستاذ أحمد أنت تكتب عن أمي، رحمها الله، من خلال أمك وكل أمهات الجزائريين الأسوياء الذين ليست لهم مشاكل مع بلدهم ودينهم وهويتهم وشعبهم وأمنهم.
أمي، رحمها الله، بالإضافة إلى صفات أمك التي ذكرتها، كانت ڤوالة وحافظة للأمثال والمآثر الشعبية، فكانت تقول لي مثلا: تحواسك في البلدان رياسة.. ومعريفتك للرجال كنوز.. خلطاتك للنساء نجاسة.. سواء شابة أو عجوز.
.................................................. .................................................. ................................يكتبها: سعد بوعقبة
كلما وجدت قصاصة ورق عليها خط عربي رفعتها إلى صدرها ووضعتها في “كمها” أو علقتها على أقرب مسمار في الجدار. والدتي امرأة أمّية وتقدس العلم وحامليه، هي من خاصة العامة، تنطق همزة القطع “عينا”، ولا تحفظ من كتاب الله تعالى إلا “الحمد” و”قل هو” كما تسميهما. تعرف بالبديهة والظل مواقيت الصلاة وإن لم تلامس معصمها ساعة قط، لم تلج أي كتّاب في طفولتها ولم تكن من مريدي المدرسة الكلونيالية الفرونكوفيلية، إلا أنها خريجة رحم الشعب، ولدت من “خشم” أم ذات راحتين يابستين ومرنتين كقطعتى فلين، متجعدة الخدين والصدغ والجبين، قدماها مشققتان كتراب صلصال أو طمي نهر جاف، ذات فحولة لا متناهية، قاهرة الزمن، تزجي الصفوف وترصها لمقاومة العوز والعجز، لم تمت إلا وهي واقفة كنخلة أصيلة دون أن تثير أي انتباه، كانت الطبيعة تهابها وتغار من صمودها وتحسدها على رعونتها.
والدتي لا تقرأ ولا تكتب، لكنها تتقن فن الاستماع، فتنصت بنظرها الحاد، ثقافتها أحداث عاشتها وهزات صقلت ذاكرتها، فهي لا تفهم السياسة بالمصطلح الأكاديمي، بل تراها “بوليتيك” المرادفة للكذب، فالسياسة عندها هي الحكمة وحسن التدبير والمعاملة الطيبة، فتقول عن المرأة “الساجية” سياسية، ولتقضي حوائجها تأتي تحت الريح.
والدتي لما بلغت عتيا وأقعدتها الشيخوخة صارت مدمنة على مشاهدة ما يبث من برامج دينية و”الأنباء المصورة” كما تسميها، تعرف الشيوخ ورجال بعض القنوات بأسمائهم كما تتداخل لديها الملامح أحيانا وتلتبس عليها الأسماء والوجوه.
والدتي متسامحة، وتسامحها موروث ثقافي وسلوك بنكهة رجولية من مكامن الشهامة ومناهل مروءة، كما أنها تغالي في هذا الجانب وتشترط على من يلتمس التسامح الاعتذار، فإن فعل تعطيه “مقرونها” كدليل على صفاء سريرتها وطيب قلبها وعمق صفحها، لا تكظم غيظها، وتبدي غضبها كلما شاهدت ما يجري من أحداث في أرض الكنانة وتقول دون أن تلوك كلماتها: “دعوة الشهداء”.
شهداء تربطهم بها قرابة كقرب حبل الوريد، قرابة روحية، قرابة زوجية، قرابة مصاهرة، قرابة قداسة وباختصار قرابة قرابة.
والدتي لا تشمت بأحد ولا تتشفى، بالنسبة لها هذه الأحداث مسرحية ذات فصول أبطالها يجيدون التمثيل، فهي متعودة على مشاهدتهم، فعلوا الأفاعيل وقالوا الأقاويل بهتانا وافتراء، نعتوا الشهداء بأقذر النعوت وأقبح الصفات، أبواق الفرقة والفتن، عرابو المآسي، ركبوا أمواج الثورة لما هدأت على الشواطئ وتكسرت فوق الصخور، يريدون الترويج لثورة لم تتشكل ولم تحدد ملامحها ولا أهدافها، متأرجحة بين “الأخونة” و”الفرعنة”، يريدون تصديرها عبر حلقات الميادين والغرف المكيفة ومخافر المخابرات.
ثورة “المرسيسي” التي لم تقنع والدتى فهي من عادتها أنها لا تمضي على بياض بجرة قلم، بل تبصم بالإبهام على الوثائق المحررة، فكل شيء عندها يجب أن يلامس جسدها لأنها عاشت الثورة الحقة واكتوت بجمرها.
أغلقوا الأبواب وقالوا “هيت لك” وتلبسوا بالفعل المخل على الفريق الوطني حين “قد قميصه من دبر”، والساذجات من الصعيد والجيزة “قطعن أيديهن” لما خرج عليهن بزينته ومفعول ما رأين من جاذبية ورشاقة الأفناك وهم يداعبون الكرة، مستمتعين ممتعين بميدان أم درمان الخالد.
ولا عجب إن قالوا عن رئيسهم الذي انقلبوا عليه، وقد يتهمونه أنه من “بلطجية” الأنصار الذين ناصروا “الخضر”، وقد تصدقهم جماهير الميادين وتكون حجة التهمة والادعاء ثم النطق بحكم القضاء.
والدتي التي قضت سبعين حجة وبضع سنين، ماتزال منتصبة كجذع الصبارة تقاوم العواصف بفهمها المتواضع، أما أنا فلا أجدني إلا مرغما على تصديقها وهذا طبيعي، فأضم صوتي إلى صوتها وأقرّ أن دعوة الشهداء تلاحقهم فعلا وإلى الأبد، وتبّا لهم إذ يبدأون الخطاب بالبسملة ويبطنونه بالتثليث ويختمونه بلعنة الفراعنة.
الأستاذ رحماني أحمد: عين تموشنت
يا أستاذ أحمد أنت تكتب عن أمي، رحمها الله، من خلال أمك وكل أمهات الجزائريين الأسوياء الذين ليست لهم مشاكل مع بلدهم ودينهم وهويتهم وشعبهم وأمنهم.
أمي، رحمها الله، بالإضافة إلى صفات أمك التي ذكرتها، كانت ڤوالة وحافظة للأمثال والمآثر الشعبية، فكانت تقول لي مثلا: تحواسك في البلدان رياسة.. ومعريفتك للرجال كنوز.. خلطاتك للنساء نجاسة.. سواء شابة أو عجوز.
.................................................. .................................................. ................................يكتبها: سعد بوعقبة