سعودي17
2009-05-28, 23:00
:dj_17:
المطلب الاول : مكا نة المسجد في الاسلام
لقد وضع الله للناس أول بيت من بيوته في الأرض وأشرفها، وهو المسجد الحرام ليقام فيه دينه.
كما قال تعالى: ((إنَّ أولَ بيَتٍ وُضِعَ لِلناس للذي بِبَكةَ مُبَارَكاً وَهدى لعَالَمينَ)) [آل عمران: 96].
والبيت الأول الذي هو المسجد الحرام، هو المكان الذي جعله الله تعالى قبلة لجميع أهل الإسلام، الذي ختم الله به الأديان، ولا يقبل من أحد ديناً سواه.
فقد جعل الله أفضل المساجد وأقدمها في الأرض، قِبلةً لأفضل الأمم وخير الأديان، فالمسلمون في كل المساجد، يتجهون بصلاتهم إلى ذلك المسجد، فهو بالنسبة للمساجد، كالإمام بالنسبة للمصلين.
ومما يدل على مكانة المسجد وعظم منزلته عند الله، أنه سبحانه هو الذي فضل المساجد، ورغب في بنائها وعمارتها، حساً ومعنى، وجعل أصل وظائفها ذكره، وإقام الصلاة له، وهى أهم أركان عبادته بعد الشهادتين، اللتين هما أصل عبادته وذكره.
كما قال تعالى: ((فِي بُيُوتٍ أذِنَ الله أنْ ترفع وَيُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ يُسَبِحُّ لَهُ فِيهَا بِالغدُوِّ والآصال رِجَالٌ لا تلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلا بيع عَنْ ذِكر الله وإقَامِ الصلاةِ وإيتَاءِ الزًكَاةِ يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار)) [النور: 36ـ38].
ويؤخذ من كون المساجد لله، أنه تعالى هو الذي يشرع فيها ما يريد، سواء كان ذلك يتعلق ببنائها وكيفيته، أم يتعلق بما يجب فيها، وما يندب، وما يباح، وما يكره، وما يحرم، فليس لأحد من الخلق أن يتدخل في شؤون المساجد إلا بما أذن الله، ومن تدخل فيها بما لم يأذن به الله، فقد تعدى حدوده.
ومما يدل على مكانة المسجد عند الله، أن عُمَّارَه مادياً ومعنوياً هم صفوة خلقه، من الأنبياء والمُرسلين، وأتباعهم من عباده المؤمنين، فقد كان بانِيَ الكعبة أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل.
وقال تعالى في عمار سائر المساجد: (إنمَا يَعْمُرُ مَسَاجِد الله مَن آمَنَ بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وأقَامَ الصَّلاةَ وآتى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخش إلا الله فَعَسَى أولَئِك أنْ يَكُونوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة: 18].
ووعد سبحانه وتعالى من بنى له بيتاً في الأرض- أي بنى مسجداً لله تعالى- أن يبني له بيتاً في الجنة، كما في حديث عثمان بن عفان رضى اللهّ عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من بنى مسجدا لله بنى الله له في الجنة مثله). [صحيح البخاري(1/172) وصحيح مسلم (4/)2287 واللفظ له، وانظر شرح السنة للبغوي (2/346)].
ومما يدل على مكانة المساجد، شهود الملائكة لها، والأمر بتـنـزيهها من الروائح الكريهة، لئلا تتأذى بها الملائكة والمصلون، كما في حديث جابر رضي الله عنه، قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل البصل والكراث فغلبتنا الحاجة، فأكلنا منها، فقال: (من أكل من هذه الشجرة المنتنة، فلا يقْربنَّ مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس" [صحيح البخاري (1/292) وصحيح مسلم، واللفظ له (1/394)].
فالمساجد بيوت الله، لا يعمل فيها إلا بما أذن الله، وأهل المساجد هم المؤمنون من عباد الله.
إن مكانة المسجد في الإسلام، تظهر بجلاء، من كون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستقر به المقام عندما وصل إلى حَيّ بني عمرو بن عوف في قباء، حتى بدأ ببناء مسجد قباء، وهو أول مسجد بني في المدينة، وأول مسجد بني لعموم الناس كما ذكر ابن كثير، رحمه الله. [في تاريخه الكبير: البداية والنهاية (3/209)].
وكذلك عندما واصل سيره إلى قلب المدينة (المسماة آنذاك بيثرب) كان أول ما قام به تخصيص أرض لبناء مسجده، ثم الشروع في بنائه.
قلت: إن اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد أول قدومه المدينة، يدل على مكانة المسجد وأهميته في الإسلام، وأنه من مؤسسات الإسلام التي لا يستغني عنه المسلمون، لكن الذي يدل على مكانة المسجد، أكثر هو كون الرسول صلى الله عليه وسلم اكتفى ببنائه، للصلاة وغيرها من الشعائر التعبدية، وللوظائف الأخرى المتعلقة بسياسة الدولة بأكملها، كما سيأتي، فإن ذلك يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قصد أن لا يفرق بين أداء الشعائر التعبدية، وغيرها من سياسة الدولة، ليُعَرِّفَ أمتَه أن الدين شامل لإقامة كل خير في هذه الأرض، وليس خاصاً بنوع معين من أنواع العبادة التي تؤدى للّه تعالى، ولولم يكن هذا المعنى مقصودا له صلى الله عليه وسلم، ولو كان المسجد خاصاً بأداء الشعائر الدينية المشهورة عند الناس، ولا يصلح إلا لها، لسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تخصيص مكان آخر لإدارة شئون الدولة فيه، وما الذي يعجزه عن ذلك، والأنصار يتسابقون بكل ما يملكون من أرض ليضعوها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم والمهاجرون يتسابقون في عمل ما يريد من بناء وغيره.
ولعل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك كان بأمر من ربه الذي يعلم أنه سيأتي بعد نبيه صلى الله عليه وسلم، من أمته من يدعو إلى التفريق بين الدين والدنيا، والعبادة والسياسة، بين ما لله للّه وما لقيصر لقيصر، أراد أن يكتب جواباً عملياً في صفحات التاريخ للعلمانيين الذين يريدون أن يعتدوا على حكم الله، فيجعلونه ملكاً لهم ليرضوا أهواءهم، ويستعبدوا عباد الله من دونه، لغياب حكمه الذي فرضه على عباده.
هذا هو الأساس الأول الذي أقام الرسول صلى الله عليه وسلم دولته عليه.
المطلب الثاني: : دور المسجد في العملية التربوية
إن المسجد، وهو ذو المكانة العظيمة في الإسلام، لم يكن المقصود من بنائه المباهاة والزخرفة والتشييد، ونقش جدرانه بالكتابة بماء الذهب، وفرشه بالسجاد الغالي، وتزيين سقوفه بقناديل الضياء، وزخرفة أبوابه التي تفتح في أوقات الصلاة، ليؤدي فيه كبار السن ركعات الفريضة، فإذا رأوا صغيراً وقف في الصف أو جال في المسجد أو صرخ يسأل عن أمه طردوه وأخافوه، وإذا أدوا صلاتهم أقفلوا الأبواب في وجوه قاصدي المسجد، لم يكن المسجد كذلك.
وإنما كان بناء مسجد الرسول، صلى الله عليه وسلم بجريد النخل واللبن وجانبا بابه بالحجارة، وكان الرجل إذا رفع يديه نال سقفه وكان فرشه الرمل والحصى، وكان كما سبق مأوى للمحتاجين والمرضى، والمسافرين، لا يرد عنه أحد قصده. [لا أريد من سوق هذه الصفات لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أقول: إنه لا يجوز أن تبني المساجد إلا كذلك، وإنما أريد أن أنبه على أمور:
الأمر الأول: عدم المغالاة في تشييد المساجد تشييداً يقصد به المباهاة، لأن ذلك منهي عنه، وهو من عمل أهل الكتاب
الأمر الثاني: عدم التشدد في ادعاء حفظ المساجد من العبث والتلوث، حتى يمنع ما كان مشروعاً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك منع الصبيان من دخول المساجد، اعتماداً على حديث ضعيف
الأمر الثالث: العودة بالمسجد إلى بساطته وقوة تأثيره في النفوس بالإيمان والعمل الصالح، فذلك خير من الزخرفة والمباهاة بالتشييد والمظاهر، مع عدم وجود الأثر الذي تبني المساجد من أجله.
أما صلة الصغار بالمسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبتت في أحاديث صحيحة في مناسبات شتى، نذكر طرفاً منها، من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يؤم الناس في المسجد، كما روى أبو قتادة، رضي الله عنه، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبي العاص بن الربيع، فإذا قام حملها، وإذا سجد وضعها" [مسلم (1/385)].
ومن ذلك أن النساء المصليات كن يحضرن صلاة الجماعة بأطفالهن، فيبكون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم الناس، فيخفف صلاته شفقة بالأطفال وأمهاتهم، كما روى ذلك أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه) [صحيح البخاري (1/250) وصحيح مسلم (1/343)]
ومن ذلك أن حسناً وحسيناً رضي الله عنهما، كانا يدخلان المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، وكان أحدهما يجلس على رقبته، وهو ساجد، فيطيل السجدة من أجله، حتى يدعه وينزل، كما في حديث عبد الله بن شداد، عن أبيه، رضي الله عنهما قال: "خرج علينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حسناً - أو حسيناً - فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كبر للصلاة فصلى، فسجد بين ظهراني صلاة سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي، فإذا الصبي على ظهر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها، حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك" قال: (كل لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله، حتى يقضي حاجته..) [أحمد (3/493) والنسائي (2/229)
إن تردد الصغير إلى المسجد وتنشئته على ذلك، تجعله يألفه ويرتبط به، وارتباطه بالمسجد ليكون من رواده مصلحة عظمى، لا يجوز التفريط فيها، بحجة مفسدة تلويث المسجد، أو التشويش على المصلين، والمصلحة العظمى تقدم على المفسدة التي هي أخف، لا سيما وقد قدمت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. [والمفسدة المتوقعة من حضور الصغار المسجد، يمكن التحرز منها أو التخفيف،
أما بالنسبة لمساهمة المسجد في العمليةالتربوية فهي كبيرة من بينها :
=: انتشار العلوم وغرس التربية الإيمانية
إن وجود المسجد على الهيئة التي أراد الله أن تكون له، كما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين، يكون من أهم آثاره انتشار العلم بين المصلين وغيرهم، لأن المصلي الذي يعتاد المساجد المعمورة بالعبادة والتعليم والذكر وقراءة القران، لا تمضي عليه فترة من عمره إلا وقد تعلم الكثير من أمور دينه ودنياه، في الكتاب والسنَّة والتفسير والفقه وغيرها.
هذا إذا كان مجرد مستمع في حلقات الدروس التي تعقد في المسجد، أما إذا كان طالباً ملازماً للحلقات، وبيده كتابه وقلمه وورقه يقرأ، ويستمع لشرح شيخه، ويكتب الفوائد التي يسمعها منه، فإنه بعد فترة من الزمن يكون مثل شيخه معلماً، له طلابه الذين يتحلقون حوله، وهكذا تصبح الحلقة الواحدة بعد مضي سنوات، حلقات في المسجد الذي تعلموا فيه أو في غيره، لأن كل واحد في الحلقة يصبح شيخاً لحلقة، وهذا هو سر كثرة العلماء المتبحرين في القرون الأولى، الذين صاروا أئمة في كل فن من فنون المعرفة.
=التعارف والأخوة الإسلامية
إن التعارف قاعدة من قواعد الآداب الإسلامية، بل هو الحاجات القريبة من ضرورات المعاملات بين الناس، فالجار قد يحتاج إلى جاره، ولا يمكن أن يتعامل معه إلا إذا تعارفا، وكل واحد من الناس قد يحتاج إلى غيره، فكيف يتعامل معه بدون تعارف بينهما؟
:= تخريج الأكفاء القائمين بأمور الأمة
إن المسجد الذي يؤسس على تقوى ورضوان من الله، يقوم تعليمه وتربيته أساساً على الإيمان وقصد رضوان الله، فهو لذلك يخرج المؤمن العالم القوي الأمين، الذي إذا تخصص في أي مجال من مجالات الحياة، لم يفقد تلك الصفات التي تجعله أهلاً لأن يتولى أي وظيفة تخصص فيها، وأن يقوم بها خير قيام، لوجود أسس شروط الكفاءة، وهي: الإيمان، والتقوى، والقوة، والأمانة، والفقه في الدين، ويكتسب بعد ذلك أو معه، العلم والخبرة في عمله، فيحوز نورا على نور.
=انتشار الدعوة الإسلامية في المجتمع الإسلامي وخارجه
إن علماء المساجد وطلابها لا يستقر لهم قرار، ولا تطمئن نفوسهم إلا إذا بلَّغوا ما تعلموه من دين الله إلى الناس، وإنهم ليسرون كل السرور بأن يروا رجلاً اهتدى على أيديهم، لأنهم يعلمون معنى قول الله تعالى: ((قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين)) [يوسف:108].
=: القضاء على الفواحش أو انحسارها في المجتمع الإسلامي
عندما يكون للمسجد مكانته في المجتمع الإسلامي، لا يتخلف المسلمون عن حضور صلاة الجماعة، يتمكن الإيمان من قلوبهم فيحبون الإيمان ويحبون الله ورسوله، ويحبون العمل الصالح، ويكرهون الكفر والفسوق والعصيان، وتنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر والبغي، ويصبحون لا يريدون إلا ما يريده الله منهم شرعاً، وكل من أراد منهم غير ما أراد الله، أو أراد يرتكب ما لايرضاه الله، وقفوه عند حده، وأطروه على الحق أطراً.
= اقتداء الجيل اللاحق بالجيل السابق في الصلاح
أن الأفراد يقتدون بالأفراد، وكذلك الأجيال تقتدي بالأجيال: عند ما يبرز الخير في رجل، تجد من له به صلة يقتدي به، إذا لم يوجد مانع أقوى، وعندما يبرز الشر في رجل، تجد من له به صلة يقتدي به في الشر، إذا لم يوجد مانع أقوى كذلك، وهكذا الجيل اللاحق يقتدي بالجيل السابق في الخير أو الشر.
=اعتزاز المسلمين بدينهم
، فيكون المسجد عنده هو منطلق السياسة العامة والدعوة إلى الجهاد، وعقد الرايات وتجهيز الكتائب وتخريج الأكفاء، إنهم عند ذلك يكونون في غاية الاعتزاز بدينهم، وفي غاية التوكل على ربهم، يقولون كما قال الله تعالى: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من لمسلمين) [فصلت:33].
المطلب الاول : مكا نة المسجد في الاسلام
لقد وضع الله للناس أول بيت من بيوته في الأرض وأشرفها، وهو المسجد الحرام ليقام فيه دينه.
كما قال تعالى: ((إنَّ أولَ بيَتٍ وُضِعَ لِلناس للذي بِبَكةَ مُبَارَكاً وَهدى لعَالَمينَ)) [آل عمران: 96].
والبيت الأول الذي هو المسجد الحرام، هو المكان الذي جعله الله تعالى قبلة لجميع أهل الإسلام، الذي ختم الله به الأديان، ولا يقبل من أحد ديناً سواه.
فقد جعل الله أفضل المساجد وأقدمها في الأرض، قِبلةً لأفضل الأمم وخير الأديان، فالمسلمون في كل المساجد، يتجهون بصلاتهم إلى ذلك المسجد، فهو بالنسبة للمساجد، كالإمام بالنسبة للمصلين.
ومما يدل على مكانة المسجد وعظم منزلته عند الله، أنه سبحانه هو الذي فضل المساجد، ورغب في بنائها وعمارتها، حساً ومعنى، وجعل أصل وظائفها ذكره، وإقام الصلاة له، وهى أهم أركان عبادته بعد الشهادتين، اللتين هما أصل عبادته وذكره.
كما قال تعالى: ((فِي بُيُوتٍ أذِنَ الله أنْ ترفع وَيُذكَرَ فِيهَا اسمُهُ يُسَبِحُّ لَهُ فِيهَا بِالغدُوِّ والآصال رِجَالٌ لا تلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلا بيع عَنْ ذِكر الله وإقَامِ الصلاةِ وإيتَاءِ الزًكَاةِ يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار)) [النور: 36ـ38].
ويؤخذ من كون المساجد لله، أنه تعالى هو الذي يشرع فيها ما يريد، سواء كان ذلك يتعلق ببنائها وكيفيته، أم يتعلق بما يجب فيها، وما يندب، وما يباح، وما يكره، وما يحرم، فليس لأحد من الخلق أن يتدخل في شؤون المساجد إلا بما أذن الله، ومن تدخل فيها بما لم يأذن به الله، فقد تعدى حدوده.
ومما يدل على مكانة المسجد عند الله، أن عُمَّارَه مادياً ومعنوياً هم صفوة خلقه، من الأنبياء والمُرسلين، وأتباعهم من عباده المؤمنين، فقد كان بانِيَ الكعبة أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل.
وقال تعالى في عمار سائر المساجد: (إنمَا يَعْمُرُ مَسَاجِد الله مَن آمَنَ بالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وأقَامَ الصَّلاةَ وآتى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخش إلا الله فَعَسَى أولَئِك أنْ يَكُونوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة: 18].
ووعد سبحانه وتعالى من بنى له بيتاً في الأرض- أي بنى مسجداً لله تعالى- أن يبني له بيتاً في الجنة، كما في حديث عثمان بن عفان رضى اللهّ عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من بنى مسجدا لله بنى الله له في الجنة مثله). [صحيح البخاري(1/172) وصحيح مسلم (4/)2287 واللفظ له، وانظر شرح السنة للبغوي (2/346)].
ومما يدل على مكانة المساجد، شهود الملائكة لها، والأمر بتـنـزيهها من الروائح الكريهة، لئلا تتأذى بها الملائكة والمصلون، كما في حديث جابر رضي الله عنه، قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل البصل والكراث فغلبتنا الحاجة، فأكلنا منها، فقال: (من أكل من هذه الشجرة المنتنة، فلا يقْربنَّ مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس" [صحيح البخاري (1/292) وصحيح مسلم، واللفظ له (1/394)].
فالمساجد بيوت الله، لا يعمل فيها إلا بما أذن الله، وأهل المساجد هم المؤمنون من عباد الله.
إن مكانة المسجد في الإسلام، تظهر بجلاء، من كون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستقر به المقام عندما وصل إلى حَيّ بني عمرو بن عوف في قباء، حتى بدأ ببناء مسجد قباء، وهو أول مسجد بني في المدينة، وأول مسجد بني لعموم الناس كما ذكر ابن كثير، رحمه الله. [في تاريخه الكبير: البداية والنهاية (3/209)].
وكذلك عندما واصل سيره إلى قلب المدينة (المسماة آنذاك بيثرب) كان أول ما قام به تخصيص أرض لبناء مسجده، ثم الشروع في بنائه.
قلت: إن اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد أول قدومه المدينة، يدل على مكانة المسجد وأهميته في الإسلام، وأنه من مؤسسات الإسلام التي لا يستغني عنه المسلمون، لكن الذي يدل على مكانة المسجد، أكثر هو كون الرسول صلى الله عليه وسلم اكتفى ببنائه، للصلاة وغيرها من الشعائر التعبدية، وللوظائف الأخرى المتعلقة بسياسة الدولة بأكملها، كما سيأتي، فإن ذلك يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قصد أن لا يفرق بين أداء الشعائر التعبدية، وغيرها من سياسة الدولة، ليُعَرِّفَ أمتَه أن الدين شامل لإقامة كل خير في هذه الأرض، وليس خاصاً بنوع معين من أنواع العبادة التي تؤدى للّه تعالى، ولولم يكن هذا المعنى مقصودا له صلى الله عليه وسلم، ولو كان المسجد خاصاً بأداء الشعائر الدينية المشهورة عند الناس، ولا يصلح إلا لها، لسارع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تخصيص مكان آخر لإدارة شئون الدولة فيه، وما الذي يعجزه عن ذلك، والأنصار يتسابقون بكل ما يملكون من أرض ليضعوها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم والمهاجرون يتسابقون في عمل ما يريد من بناء وغيره.
ولعل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك كان بأمر من ربه الذي يعلم أنه سيأتي بعد نبيه صلى الله عليه وسلم، من أمته من يدعو إلى التفريق بين الدين والدنيا، والعبادة والسياسة، بين ما لله للّه وما لقيصر لقيصر، أراد أن يكتب جواباً عملياً في صفحات التاريخ للعلمانيين الذين يريدون أن يعتدوا على حكم الله، فيجعلونه ملكاً لهم ليرضوا أهواءهم، ويستعبدوا عباد الله من دونه، لغياب حكمه الذي فرضه على عباده.
هذا هو الأساس الأول الذي أقام الرسول صلى الله عليه وسلم دولته عليه.
المطلب الثاني: : دور المسجد في العملية التربوية
إن المسجد، وهو ذو المكانة العظيمة في الإسلام، لم يكن المقصود من بنائه المباهاة والزخرفة والتشييد، ونقش جدرانه بالكتابة بماء الذهب، وفرشه بالسجاد الغالي، وتزيين سقوفه بقناديل الضياء، وزخرفة أبوابه التي تفتح في أوقات الصلاة، ليؤدي فيه كبار السن ركعات الفريضة، فإذا رأوا صغيراً وقف في الصف أو جال في المسجد أو صرخ يسأل عن أمه طردوه وأخافوه، وإذا أدوا صلاتهم أقفلوا الأبواب في وجوه قاصدي المسجد، لم يكن المسجد كذلك.
وإنما كان بناء مسجد الرسول، صلى الله عليه وسلم بجريد النخل واللبن وجانبا بابه بالحجارة، وكان الرجل إذا رفع يديه نال سقفه وكان فرشه الرمل والحصى، وكان كما سبق مأوى للمحتاجين والمرضى، والمسافرين، لا يرد عنه أحد قصده. [لا أريد من سوق هذه الصفات لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أقول: إنه لا يجوز أن تبني المساجد إلا كذلك، وإنما أريد أن أنبه على أمور:
الأمر الأول: عدم المغالاة في تشييد المساجد تشييداً يقصد به المباهاة، لأن ذلك منهي عنه، وهو من عمل أهل الكتاب
الأمر الثاني: عدم التشدد في ادعاء حفظ المساجد من العبث والتلوث، حتى يمنع ما كان مشروعاً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك منع الصبيان من دخول المساجد، اعتماداً على حديث ضعيف
الأمر الثالث: العودة بالمسجد إلى بساطته وقوة تأثيره في النفوس بالإيمان والعمل الصالح، فذلك خير من الزخرفة والمباهاة بالتشييد والمظاهر، مع عدم وجود الأثر الذي تبني المساجد من أجله.
أما صلة الصغار بالمسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ثبتت في أحاديث صحيحة في مناسبات شتى، نذكر طرفاً منها، من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يؤم الناس في المسجد، كما روى أبو قتادة، رضي الله عنه، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبي العاص بن الربيع، فإذا قام حملها، وإذا سجد وضعها" [مسلم (1/385)].
ومن ذلك أن النساء المصليات كن يحضرن صلاة الجماعة بأطفالهن، فيبكون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم الناس، فيخفف صلاته شفقة بالأطفال وأمهاتهم، كما روى ذلك أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه) [صحيح البخاري (1/250) وصحيح مسلم (1/343)]
ومن ذلك أن حسناً وحسيناً رضي الله عنهما، كانا يدخلان المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، وكان أحدهما يجلس على رقبته، وهو ساجد، فيطيل السجدة من أجله، حتى يدعه وينزل، كما في حديث عبد الله بن شداد، عن أبيه، رضي الله عنهما قال: "خرج علينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حسناً - أو حسيناً - فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كبر للصلاة فصلى، فسجد بين ظهراني صلاة سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي، فإذا الصبي على ظهر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها، حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك" قال: (كل لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله، حتى يقضي حاجته..) [أحمد (3/493) والنسائي (2/229)
إن تردد الصغير إلى المسجد وتنشئته على ذلك، تجعله يألفه ويرتبط به، وارتباطه بالمسجد ليكون من رواده مصلحة عظمى، لا يجوز التفريط فيها، بحجة مفسدة تلويث المسجد، أو التشويش على المصلين، والمصلحة العظمى تقدم على المفسدة التي هي أخف، لا سيما وقد قدمت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. [والمفسدة المتوقعة من حضور الصغار المسجد، يمكن التحرز منها أو التخفيف،
أما بالنسبة لمساهمة المسجد في العمليةالتربوية فهي كبيرة من بينها :
=: انتشار العلوم وغرس التربية الإيمانية
إن وجود المسجد على الهيئة التي أراد الله أن تكون له، كما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين، يكون من أهم آثاره انتشار العلم بين المصلين وغيرهم، لأن المصلي الذي يعتاد المساجد المعمورة بالعبادة والتعليم والذكر وقراءة القران، لا تمضي عليه فترة من عمره إلا وقد تعلم الكثير من أمور دينه ودنياه، في الكتاب والسنَّة والتفسير والفقه وغيرها.
هذا إذا كان مجرد مستمع في حلقات الدروس التي تعقد في المسجد، أما إذا كان طالباً ملازماً للحلقات، وبيده كتابه وقلمه وورقه يقرأ، ويستمع لشرح شيخه، ويكتب الفوائد التي يسمعها منه، فإنه بعد فترة من الزمن يكون مثل شيخه معلماً، له طلابه الذين يتحلقون حوله، وهكذا تصبح الحلقة الواحدة بعد مضي سنوات، حلقات في المسجد الذي تعلموا فيه أو في غيره، لأن كل واحد في الحلقة يصبح شيخاً لحلقة، وهذا هو سر كثرة العلماء المتبحرين في القرون الأولى، الذين صاروا أئمة في كل فن من فنون المعرفة.
=التعارف والأخوة الإسلامية
إن التعارف قاعدة من قواعد الآداب الإسلامية، بل هو الحاجات القريبة من ضرورات المعاملات بين الناس، فالجار قد يحتاج إلى جاره، ولا يمكن أن يتعامل معه إلا إذا تعارفا، وكل واحد من الناس قد يحتاج إلى غيره، فكيف يتعامل معه بدون تعارف بينهما؟
:= تخريج الأكفاء القائمين بأمور الأمة
إن المسجد الذي يؤسس على تقوى ورضوان من الله، يقوم تعليمه وتربيته أساساً على الإيمان وقصد رضوان الله، فهو لذلك يخرج المؤمن العالم القوي الأمين، الذي إذا تخصص في أي مجال من مجالات الحياة، لم يفقد تلك الصفات التي تجعله أهلاً لأن يتولى أي وظيفة تخصص فيها، وأن يقوم بها خير قيام، لوجود أسس شروط الكفاءة، وهي: الإيمان، والتقوى، والقوة، والأمانة، والفقه في الدين، ويكتسب بعد ذلك أو معه، العلم والخبرة في عمله، فيحوز نورا على نور.
=انتشار الدعوة الإسلامية في المجتمع الإسلامي وخارجه
إن علماء المساجد وطلابها لا يستقر لهم قرار، ولا تطمئن نفوسهم إلا إذا بلَّغوا ما تعلموه من دين الله إلى الناس، وإنهم ليسرون كل السرور بأن يروا رجلاً اهتدى على أيديهم، لأنهم يعلمون معنى قول الله تعالى: ((قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين)) [يوسف:108].
=: القضاء على الفواحش أو انحسارها في المجتمع الإسلامي
عندما يكون للمسجد مكانته في المجتمع الإسلامي، لا يتخلف المسلمون عن حضور صلاة الجماعة، يتمكن الإيمان من قلوبهم فيحبون الإيمان ويحبون الله ورسوله، ويحبون العمل الصالح، ويكرهون الكفر والفسوق والعصيان، وتنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر والبغي، ويصبحون لا يريدون إلا ما يريده الله منهم شرعاً، وكل من أراد منهم غير ما أراد الله، أو أراد يرتكب ما لايرضاه الله، وقفوه عند حده، وأطروه على الحق أطراً.
= اقتداء الجيل اللاحق بالجيل السابق في الصلاح
أن الأفراد يقتدون بالأفراد، وكذلك الأجيال تقتدي بالأجيال: عند ما يبرز الخير في رجل، تجد من له به صلة يقتدي به، إذا لم يوجد مانع أقوى، وعندما يبرز الشر في رجل، تجد من له به صلة يقتدي به في الشر، إذا لم يوجد مانع أقوى كذلك، وهكذا الجيل اللاحق يقتدي بالجيل السابق في الخير أو الشر.
=اعتزاز المسلمين بدينهم
، فيكون المسجد عنده هو منطلق السياسة العامة والدعوة إلى الجهاد، وعقد الرايات وتجهيز الكتائب وتخريج الأكفاء، إنهم عند ذلك يكونون في غاية الاعتزاز بدينهم، وفي غاية التوكل على ربهم، يقولون كما قال الله تعالى: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من لمسلمين) [فصلت:33].