تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : مجموعة مقالات حول مقاصد الشريعة الإسلامية للدكتور فارس العزاوي


الأستاذة 19
2013-07-16, 14:49
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...

أما بعد:
فقد شغل موضوع المقاصد في الآونة الأخيرة مساحة واسعة في كتابات العلماء والباحثين بشتى اتجاهاتهم العلمية، مما يدل على صحوة علمية في هذا المجال وتجاوز لحالة السبات التي أصابت القرون المتأخرة بسبب سيادة منطق التقليد والتبعية في أخذ الأحكام مجردة عن الدليل.

وهي حالة حرص العلماء من المحققين على علاجها وإعادتها إلى أصولها الصحيحة، والنظر المقاصدي بالرغم من كونه لم ينضج إلا في فترة متأخرة ـ وهي القرن الثامن الهجري ـ من خلال كتابات شيخ الإسلام ابن تيمية في جانبها التطبيقي والإمام الشاطبي في جانبها التنظيري، إلا أن كتابات المتقدمين لم تخل من إشارات إلى هذا العلم كما هو الحال في كتابات إمام الحرمين الجويني والغزالي والعز بن عبد السلام ـ رحم الله الجميع ـ، كما أن الغالب على كتب الأصوليين بحثها لمقاصد الشريعة في ثنايا كلامهم في باب القياس.

وعلى الرغم من أهمية هذا العلم في جوانب مختلفة وأهمها الكشف عن مقاصد الشارع في وضعه للشريعة، وإعانة العلماء المجتهدين في استنباط الأحكام وبيان عللها، إلا أن الغالب على كتب الأصول بحث مسائل التعليل في باب القياس مقتصرة على النظر التجزيئي، بمعنى معرفة العلة في الأصل الذي انبنى عليه الحكم وتعديته في الفرع عند تحقق هذه العلة فيه، فكان النظر في التعليل جزئياً دون تجاوزه إلى النظر الكلي، بالإضافة إلى انشغال الأصوليين بالمباحث اللفظية والحرفية على حساب النظر المقاصدي، والمنهج الشرعي يقتضي الجمع بين الأخذ بظواهر النصوص واعتبار مقاصدها.

وهذا ما دفع العلماء من المحققين إلى بيان محاسن الشريعة، وإظهار خصائصها، وتجلية الحكم والمصالح التي تسعى إلى تحقيقها، منطلقين في ذلك من النصوص الشرعية المحكمة. وبناء على ما تقدم كان لزاماً على طلبة العلم والدعاة التعرف على مقاصد الشريعة الإسلامية ومنهج العلماء في التصنيف فيها وبيان قواعدها وأقسامها وضوابطها، ولذلك عمدنا إلى وضع ( مدخل إلى علم المقاصد ) تسهيلاً لهذا العلم وترغيباً فيه ـ وخاصة لطلبة العلم والدعاة ـ.

وقد قسمت الموضوع إلى المباحث التالية:
ـ تمهيد في خصائص الشريعة الإسلامية.
ـ في المفاهيم المقاصدية.
ـ ضوابط المقاصد وأقسامها.
ـ بين المقاصد والمصالح المرسلة.

سائلاً الله القدير أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه، وأن ينفع به، وأسأله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، ويجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، مقتدين بمن سلف من هذه الأمة، سائرين على نهجهم وطريقهم، والله من وراء القصد، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

تمهيد
في خصائص الشريعة الإسلامية
تعريف الشريعة:
الشريعة في اللغة: فعيلة بمعنى مفعولة الموضع الذي ينحدر إلى الماء منه، فهي مورد الشاربة التي يشرعها الناس ـ أي يردها ـ فيشربون منها ويستقون، قال الليث: وبها سمي ما شرع الله للعباد شريعة من الصوم والصلاة والحج والنكاح وغيره، قال الزبيدي: هي ما شرع الله لعباده كالشرع بالفتح، وحقيقتها وضع ما يتعرف منه العباد أحكام عقائدهم وأفعالهم وأقوالهم وما يترتب عليه صلاحهم[1]، قال ابن عاشور: " والشريعة: الدين والملة المتبعة مشتقة من الشرع وهو: جعل طريق للسير، وسمي النهج شرعاً تسمية بالمصدر. وسميت شريعة الماء الذي يرده الناس شريعة لذلك، قال الراغب: استعير اسم الشريعة للطريقة الإلهية تشبيهاً بشريعة الماء، قلت: ووجه الشبه ما في الماء من المنافع وهي الري والتطهير "[2].

أما الشريعة في الاصطلاح فهي: ما شرع الله لعباده من الدين، أي من الأحكام المختلفة. وسميت هذه الأحكام شريعة لاستقامتها ولشبهها بمورد الماء لأن بها حياة النفوس والعقول كما أن في مورد الماء حياة الأبدان. والشريعة الدين والملة بمعنى واحد، وهو ما شرعه الله لعباده من أحكام، ولكن هذه الأحكام تسمى شريعة باعتبار وضعها وبيانها واستقامتها، وتسمى ديناً باعتبار الخضوع لها وعبادة الله بها، وتسمى ملة باعتبار إملائها على الناس[3].

ومنهم من عرفها بقوله: " والشريعة هي النظم التي شرعها الله أو شرع أصولها ليأخذ الإنسان بها نفسه في علاقته بربه، وعلاقته بأخيه المسلم، وعلاقته بأخيه الإنسان، وعلاقته بالكون، وعلاقته بالحياة "[4]، وهو بهذا التعريف يريدها في مقابل العقيدة، والأول أعم، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " الشرعة هي الشريعة، قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [5]، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [6]. والمنهاج هو الطريق، قال تعالى: {وَأَلَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [7]. فالشرعة بمنزلة الشريعة للنهر، والمنهاج هو الطريق الذي سلك فيه، والغاية المقصودة هي حقيقة الدين "[8].

وقال معترضاً على من يقصر الشريعة على الأحكام الفقهية العملية دون الأمور العقدية: " والتحقيق أن الشريعة التي بعث الله بها محمداً - صلى الله عليه وسلم - جامعة لمصالح الدنيا والآخرة.. لكن قد يغير أيضاً لفظ الشريعة عند أكثر الناس، فالملوك والعامة عندهم أن الشرع والشريعة اسم لحكم الحاكم، ومعلوم أن القضاء فرع من فروع الشريعة، وإلا فإن فالشريعة جامعة لكل ولاية وعمل فيه صلاح الدين والدنيا، والشريعة إنما هي كتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه سلف الأمة في العقائد والأصول والعبادات والأعمال والسياسات والأحكام، والولايات والعطيات "[9].

أما الشريعة الإسلامية فهي: الأحكام التي شرعها الله تعالى وأنزلها على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليبلغها للناس جميعاً، سواء كانت هذه الأحكام في القرآن أو في السنة، باعتبارهما وحياً من عند الله تعالى[10].

أهمية الشريعة:
قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [11]، قال ابن عاشور: " قد بلغت هذه الجملة من الإيجاز مبلغاً عظيماً إذ أفادت أن شريعة الإسلام أفضل من شريعة موسى وأنها شريعة عظيمة، وأن الرسول متمكن منها لا يزعزعه شيء عن الدأب في بيانها والدعوة إليها. ولذلك فرع عليه بأمره باتباعها بقوله: فاتبعها، أي دم على اتباعها، فالأمر لطلب الدوام "[12].

والأصل أن الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر لكافة الأمة إلا ما دل الدليل على التخصيص، قال ابن القيم تحت عنوان: بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد: " فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - أتم دلالة وأصدقها.

وهي نوره الذي به أبصر المبصرون وهداه الذي به اهتدى المهتدون وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهي قرة العين وحياة القلوب ولذة الأرواح، فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام للعالم وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة "[13].

خصائص الشريعة:
لقد ختمت الشرائع الإلهية بالشريعة الإسلامية التي أنزلت على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمر بتبليغها إلى الناس كافة، ووجه جعلها خاتمة للشرائع الإلهية كمال هذه الشريعة، وتمامها، ووفائها بجميع حاجات البشر في كل مكان وزمان[14]، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [15]، قال الأستاذ سيد قطب ـ رحمه الله ـ: " إن قول الله سبحانه لهذه الأمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}..

يتضمن توحيد المصدر الذي تتلقى منه هذه الأمة منهج حياتها ونظام مجتمعها، وشرائع ارتباطاتها ومصالحها إلى يوم القيامة، كما يتضمن استقرار هذا الدين بكل جزئياته الاعتقادية والتعبدية والتشريعية، فلا تعديل فيها ولا تغيير؛ فقد اكتمل هذا الدين وتم وانتهى أمره.. إن هذه الآية تقرر ـ بما لا مجال للجدال فيه ـ أنه دين خالد، وشريعة خالدة. وأن هذه الصورة التي رضيها الله للمسلمين ديناً هي الصورة الأخيرة.. إنها شريعة ذلك الزمان وشريعة كل زمان؛ وليس لكل زمان شريعة، ولا لكل عصر دين.. إنما هي الرسالة الأخيرة للبشر، قد اكتملت وتمت، ورضيها الله للناس ديناً. فمن شاء أن يبدل، أو يحور، أو يغير أو يطور ! إلى آخر هذه التعبيرات التي تلاك في هذا الزمان، فليبتغ غير الإسلام ديناً.. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} "[16].

والشريعة بما أنها خاتمة الشرائع الإلهية فإن لها خصائص عامة تميزها عن غيرها، وفهمها يساعد على إدراك مقاصدها ومعرفة دقائقها وأسرارها، ويمكننا بيان بعضها:
أولاً: مراعاتها للمصالح:
أحكام الشريعة الإسلامية شاملة لجميع المصالح الدنيوية والأخروية والفردية والجماعية، فالشريعة لا تعرف الدنيا بدون الآخرة ولا الآخرة بدون الدنيا، ولا تعرف الجماعة بدون فرد ولا فرداً بدون جماعة، فالفرد جزء وعضو، والجماعة كل وجسد فكل من الفرد والجماعة في حاجة إلى الآخر، فالشريعة تسلك مسلك الموازنة بين مصالحهما[17]، ولا نعلم أن أحداً خالف في أن جميع أحكام الله تعالى متكفلة بمصالح العباد في الدارين، وأن مقاصد الشريعة ليست سوى تحقيق السعادة الحقيقية لهم، بل قد تم إجماع الفقهاء على ذلك، كما ذكره الآمدي[18] وغيره[19].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما "[20]، وقال ابن القيم: " الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها "[21]. والأدلة على مراعاة الشريعة مصالح العباد كثيرة من الكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [22]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [23]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [24]، ومن السنة قوله عليه الصلاة والسلام: " الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان "[25]، وقوله عليه الصلاة والسلام: " لا ضرر ولا ضرار "[26].

ثانياً: عموم الشريعة:
ومقتضاها أن الشريعة عامة لجميع المكلفين، بمعنى لا يختص الخطاب بحكم من أحكامها بمكلف دون آخر ما دام شرط التكليف موجوداً، ولا يستثنى من الدخول تحت أحكامها أي مكلف ويدل على ذلك عدة أمور، منها النصوص المتضافرة، كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [27]، وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [28]، فهذه النصوص تدل على أن البعثة عامة لا خاصة لأنه لو كان بعض الناس مختصاً بما لم يخص غيره لم يكن مرسلاً للناس جميعاً، ومنها أن الأحكام إذا كانت موضوعة لمصالح العباد، فالعباد بالنسبة إلى ما تقتضيه من المصالح سواء، لأنهم مطبوعون بطابع النوع الإنساني المتحد في ضرورياته وحاجياته، وما يكمل ذلك، فلو وضعت على الخصوص، لم تكن موضوعة لمصالح العباد بإطلاق، ولا يستثنى من ذلك إلا ما خصه الدليل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو ما خص به بعض أصحابه[29].

وإذا كان الخطاب في بعض جوانبه موجهاً إلى المؤمنين، كالخطاب الذي يبدأ ب ( يا أيها الذين آمنوا ) فهذا إنما خص المؤمنين من باب التشريف لا التخصيص، كما حقق ذلك كثير من أهل العلم ومنهم الشوكاني، إذ قال ـ رحمه الله ـ: " إن المسلمين والمؤمنين خصصوا من باب خطاب التشريف لا خطاب التخصيص "[30]، وهذا الذي نص عليه كثير من أهل العلم في مسألة خطاب الكفار بفروع الشريعة، والتحقيق فيها دخولهم في الخطاب، فيدل ذلك على عموم الشريعة وخطابها للناس كافة.

ثالثاً: موافقتها للعقل:
جاءت أحكام الشريعة الإسلامية موافقة للعقل غير مناقضة له، ولأجل ذلك ذهب العلماء إلى أنه لا يجوز وقوع التناقض بين الشريعة والعقل[31]، قال ابن القيم: " إن ما علم بصريح العقل الذي لا يخالف فيه العقلاء لا يتصور أن يعارضه الشرع البتة، ولا يأتي بخلافه.. ونحن نعلم قطعاً أن الرسل لا يخبرون بمحال العقول، وإن أخبروا بمحارات العقول، فلا يخبرون بما يحيله العقل، وإن أخبروا بما يحار فيه العقل ولا يستقل بمعرفته "[32].

والحق أن العقل البشري وإن كانت عنده القدرة على إدراك المصالح والحكم التي جاءت بها الشريعة إلا أن إدراكه ليس دقيقاً، ولذلك لا يمكن أن يستقل بالحكم دون الشريعة[33]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والعقل الصريح دائماً موافق للرسول لا يخالفه قط، فإن الميزان مع الكتاب، والله قد أنزل الكتاب بالحق والميزان، لكن قد تقصر عقول الناس عن معرفة تفصيل ما جاء به، فيأتيهم الرسول بما عجزوا عن معرفته وحاروا فيه، لا بما يعلمون بعقولهم بطلانه، فالرسل صلوات الله وسلامه عليهم تخبر بمحارات العقول لا تخبر بمحالات العقول "[34].

رابعاً: إمكانية تعليل أحكامها:
يمثل التعليل الأساس للتفكير التشريعي، إذ هو في الحقيقة استجلاء لمراد الشارع من الحكم، وطريق كاشف عن طابع معقولية الأحكام من جهة أن الله ذكر السبب الموجب للحكم[35]. وهذا طريق قد سلكه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم والعلماء من بعهدهم، فقد انطلقوا في فهمهم للشريعة وفقههم لها معتمدين على التعليل وحكمة المشروعية والمصلحة العامة، مستندين على النصوص المتوافرة من الكتاب والسنة الدالة على مسلك التعليل للأحكام[36]، وهي أكثر من تحصر في هذا الموضع، وحسبنا ذكر البعض منها، كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [37]، وقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [38]، وقوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [39]، وقوله: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [40]، وكقوله عليه الصلاة والسلام: " من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء "[41].

خامساً: جمعها بين الثبات والمرونة في أحكامها:
جمعت الشريعة في أحكامها بين نوعين: نوع ثابت لا يعتريه تغيير ولا تبديل باعتبار الأزمنة أو الأمكنة، ونوع يخضع لظروف الزمان والمكان والأحوال وتغيير الأعراف، والعادات التي تعتبر المصلحة تابعة لها مع المحافظة على مبادئ الشرع وقواعده[42].

قال ابن القيم: " الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.

والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالاً، كمقادير التعزيرات، وأجناسها، وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة، فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة، وعزم على التعزير بتحريق البيوت على المتخلف عن حضور الجماعة لولا ما منعه من تعدي العقوبة إلى غير من يستحقها من النساء والذرية، وغزر بحرمان النصيب المستحق من السلب، وأخبر عن تعزير مانع الزكاة بأخذ شطر ماله، وغزر بالعقوبات المالية في عدة مواضع "[43].

ومن الحقائق المسلمة أن الشريعة الإسلامية قد وسعت العالم الإسلامي كله، على تنافي أطرافه، وتعدد أجناسه، وتنوع بيئاته الحضارية، وتجدد مشكلاته الزمنية، وأنها ـ بمصادرها ونصوصها وقواعدها ـ لم تقف مغلولة اليدين أمام وقائع الحياة المتغيرة، منذ عهد الصحابة فمن بعدهم، وهذا دليل على أن الله أودعها مرونة تتسع لمواجهة كل جديد وعلاجه، وهذه الخاصية ـ أي المرونة ـ قد أحاطت بها عوامل متعددة جعلتها خصيصة لازمة لها لا تنفك عنها بحكم جعلها الشريعة الخاتمة، ومن أهم هذه العوامل ما يلمسه الدارس لهذه الشريعة من اتساع منطقة العفو أو الفراغ التي تركتها النصوص قصداً، لاجتهاد المجتهدين في الأمة ليملؤوها بما هو أصلح لهم، وأليق بزمانهم وحالهم، مراعين بذلك المقاصد العامة للشريعة، مهتدين بروحها ومحكمات نصوصها.

ـــــــــــــــــــــــ
[1] القاموس المحيط، الفيروزآبادي، ج1ص946، لسان العرب، ابن منظور، ج8ص175، تاج العروس، الزبيدي، ج1ص63.
[2] تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، ج25ص348.
[3] نظرات في الشريعة، عبد الكريم زيدان، ص60.
[4] الإسلام عقيدة وشريعة، محمود شلتوت، ص22.
[5] المائدة، آية 48.
[6] الجاثية، آية 18.
[7] الجن، آية 16.
[8] مجموع الفتاوى، ج11ص218.
[9] المرجع السابق، ج19ص308. وانظر أيضاً : مقاصد الشريعة عند ابن تيمية، يوسف البدوي، ص53.
[10] نظرات في الشريعة، مرجع سابق، ص61.
[11] الجاثية، آية 18.
[12] تفسير التحرير والتنوير، مرجع سابق، ج25ص348.
[13] إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم، ج3ص3.
[14] نظرات في الشريعة، مرجع سابق، ص13.
[15] المائدة، آية 3.
[16] في ظلال القرآن، سيد قطب، ج2ص833.
[17] المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، يوسف حامد العالم، ص46.
[18] قال ـ رحمه الله ـ في الإحكام في أصول الأحكام ج3ص357 : " وذلك لأن الأحكام إنما شرعت لمقاصد العباد، أما إنها مشروعة لمقاصد وحكم؛ فيدل عليه الإجماع والمعقول ".
[19] ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، د. محمد سعيد رمضان البوطي، ص69.
[20] مجموع الفتاوى، مرجع سابق، ج20ص48.
[21] إعلام الموقعين عن رب العالمين، مرجع سابق، ج3ص3.
[22] الأنبياء، آية 107.
[23] النحل، آية 90.
[24] الأنفال، آية 24.
[25] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، رقم 58.
[26] أخرجه مالك في الموطأ، رقم 1429، والحاكم في المستدرك، رقم 2345، والبيهقي في السنن، رقم 11116، والدارقطني في السنن، رقم 83، وصححه الشيخ الألباني في الإرواء، ج3ص408، رقم 896.
[27] الأنبياء، آية 107.
[28] الأعراف، آية 158.
[29] المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص42.
[30] إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، محمد بن علي الشوكاني، ج1ص222.
[31] مقاصد الشريعة الإسلامية، د. عبد الله النعيم ود. جمال الدين الشريف، ص11.
[32] الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، ابن قيم الجوزية، ج3ص829.
[33] مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص12.
[34] مجموع الفتاوى، مرجع سابق، ج17ص444.
[35] بين علمي أصول الفقه والمقاصد، الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة، ص43.
[36] موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر، تحرير الأستاذ الدكتور عبد الحليم عويس، ج1ص111.
[37] البقرة، آية 179.
[38] الحج، آية 39.
[39] المائدة، آية 32.
[40] المائدة، آية 8.
[41] أخرجه البخاري، كتاب الصوم، رقم 1905.
[42] المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص44.
[43] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، ابن القيم، ج1ص330.



رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/6102/#ixzz2ZDTvW8sW

الأستاذة 19
2013-07-16, 17:36
أهمية المقاصد:
تتجلى أهمية معرفة مقاصد الشريعة في عدة أمور، منها[1]:
- بيان الإطار العام للشريعة، والتصور الكامل للإسلام، وتوضيح الصورة الشاملة للتعاليم والأحكام، لتتكون النظرة الكلية الإجمالية للفروع، وبذلك يعرف الإنسان ما يدخل في الشريعة وما لا يدخل فيها.

- إبراز علل التشريع وحكمه وأغراضه ومراميه الجزئية والكلية العامة والخاصة في شتى مجالات الحياة وفي مختلف أبواب الشريعة.

- إبراز أهداف الدعوة الإسلامية التي ترمي إلى تحقيق مصالح الناس، ودفع المفاسد عنهم، وذلك يرشد إلى الوسائل والسبل التي تحقق السعادة في الدنيا والفوز برضوان الله في الآخرة.

- فهم النصوص وتفسيرها بشكل صحيح عند تطبيقها على الوقائع واستنباط الأحكام منها.

- تعين على ترجيح ما يحقق المقاصد ويتفق مع أهدافها في جلب المنافع ودفع المفاسد.

- التوفيق بين خاصيتي الأخذ بظاهر النص، والالتفات إلى روحه ومدلوله على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص، ولا العكس، لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض.

- تأكيد خصائص صلاحية الشريعة ودوامها وواقعيتها ومرونتها وقدرتها على التحقق والتفاعل مع مختلف البيئات والظروف والأطوار.

- التقليل من الاختلاف والنزاع الفقهي والتعصب المذهبي، وذلك باعتماد علم المقاصد في عملية بناء الحكم، وتنسيق الآراء المختلفة، ودرء التعارض بينها.

- إدراك علماء الشريعة الإسلامية أن نصوصها وأحكامها معقولة المعنى، ومبنية على النظر والاستدلال، فالمسلم وإن كان يتلقى التكاليف بروح القناعة واليقين بأحقيتها، ويطبقها وهو تملؤه الثقة بخيريتها، إلا أن ذلك لا يمنع من التماس الحكمة من تشريعها.

قال ابن عاشور موضحاً أهمية المقاصد فيما عنون له: احتياج الفقيه إلى معرفة مقاصد الشريعة: "إن تصرف المجتهدين بفقههم في الشريعة يقع على خمسة أنحاء:
النحوالأول: فهم أقوالها، واستفادة مدلولات تلك الأقوال، بحسب الاستعمال اللغوي، وبحسب النقل الشرعي بالقواعد اللفظية التي بها عمل الاستدلال الفقهي. وقد تكفل بمعظمه علم أصول الفقه.

النحو الثاني: البحث عما يعارض الأدلة التي لاحت للمجتهد، والتي استكمل إعمال نظره في استفادة مدلولاتها، ليستيقن أن تلك الأدلة سالمة مما يبطل ويقضي عليها بالإلغاء والتنقيح. فإذا استيقن أن الدليل سالم عن المعارض أعمله، وإذا ألفى له معارضاً نظر في كيفية العمل بالدليلين معاً، أو رجحان أحدهما على الآخر.

النحو الثالث: قياس ما لم يرد حكمه في أقوال الشارع على حكم ما ورد حكمه فيه بعد أن يعرف علل التشريعات الثابتة بطريق من طرق مسالك العلة المبينة في أصول الفقه.

النحو الرابع: إعطاء حكم لفعل أو حادث حدث للناس لا يعرف حكمه فيما لاح للمجتهدين من أدلة الشريعة، ولا له نظير يقاس عليه.

النحو الخامس: تلقي بعض أحكام الشريعة الثابتة عنده تلقي من لم يعرف علل أحكامها ولا حكمة الشريعة في تشريعها. فهو يتهم نفسه بالقصور عن إدراك حكمة الشارع منها، ويستضعف علمه في جنب سعة الشريعة، فيسمي هذا النوع بالتعبدي.

فالفقيه بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة في هذه الأنحاء كلها"[2] .

تعريف المقاصد:
المقاصد في اللغة جمع مقصد، مشتق من الفعل قصد يقصد قصداً، وأصل (ق ص د) ومواقعها في كلام العرب الاعتزام والتوجه والنهود والنهوض نحو الشيء على اعتدال كان ذلك أو جور، هذا أصله في الحقيقة وإن كان قد يخص في بعض المواضع بقصد الاستقامة دون الميل، والقصد يطلق ويراد به عدة معاني، ومنها: إتيان الشيء، استقامة الطريق، الاعتماد والأم، العدل، الكسر في أي وجه كان[3].

وأما في الاصطلاح فإننا نجد أن العلماء لم يحددوا معنى القصد أو المقصد اصطلاحاً على الرغم من أنهم نصوا على جملة من المقاصد في مصنفاتهم، وذكروا بعضاً من تقسيماتها: كذكرهم للكليات المقاصدية الخمس (حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال)، وذكر المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية وبعض الحكم والأسرار والعلل[4]، كما أنهم عبروا عن المقاصد بألفاظ مختلفة وتعابير متباينة على الرغم من كونها دالة عليها وهذا يفهم من سياقها، فقد عبر بعضهم عنها بالحكمة المقصودة بالشريعة من الشارع، وبعضهم أطلق عليها لفظ المصلحة، وجاء البعض الآخر بلفظ نفي الضرر ورفعه وقطعه، ومنهم من عبر عنها بلفظ دفع المشقة ورفعها أو رفع الحرج والضيق وتقرير التيسير والتخفيف، وتارة يسمونها الكليات الخمس الكبرى كما أشرنا إليها سابقاً، وتارة أخرى بالعلل وغير ذلك[5].

وقد رجح بعض أهل العلم من المعاصرين أن أول من عني ببيان معنى المقاصد اصطلاحاً هو العلامة محمد الطاهر ابن عاشور في كتابه (مقاصد الشريعة الإسلامية)[6]، وسنسوق بعضاً من التعاريف التي وضعها العلماء للمقاصد حتى يتسنى لنا إدراك معناها ومفهومها لأن المفاهيم مفاتيح للفهم ولها تأثيرها في البناء المعرفي[7]:
- عرف المقاصد الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بقوله: " مقاصد التشريع العامة هي: المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة. فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضاً معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها "[8].

- وعرفها الأستاذ علال الفاسي بقوله: " بأنها الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها "[9].

- وعرفها الأستاذ يوسف حامد العالم بقوله: "هي المصالح التي تعود إلى العباد في دنياهم وأخراهم، سواء أكان تحصيلها عن طريق جلب المنافع أو عن طريق دفع المضار"[10].

- وعرفها الدكتور يوسف القرضاوي بقوله: "الغايات التي تهدف إليها النصوص من الأوامر والنواهي والإباحات، وتسعى الأحكام الجزئية إلى تحقيقها في حياة المكلفين، أفراداً وأسراً وجماعات وأمة "[11].

- وعرفها الدكتور أحمد الريسوني بقوله: "هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد"[12].

- وعرفها الدكتور نور الدين بن مختار الخادمي بقوله: " المقاصد هي المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية، والمترتبة عليها، سواء أكانت تلك المعاني حكماً جزئية أم مصالح كلية أم سمات إجمالية، وهي تتجمع ضمن هدف واحد هو تقرير عبودية الله ومصلحة الإنسان في الدارين "[13].

- وعرفها الدكتور عبد الرحمن إبراهيم الكيلاني بقوله: " المعاني الغائية، التي اتجهت إرادة الشارع إلى تحقيقها عن طريق أحكامه "[14].

وظاهر من التعاريف السابقة أن هناك اتفاقاً بين العلماء على كون المقاصد دائرة مع المصالح والغايات والحكم التي قصد الشارع تحقيقها عند وضعه الشريعة، وهذا شامل للمقاصد العامة والخاصة وسيأتي مزيد بيان في مباحث لاحقة حول هذا الأمر.

نشأة وتطور علم المقاصد:
عند حديثنا عن نشأة وتطور علم المقاصد فإننا نشير إلى المرحلة التاريخية التي أضحت فيها المقاصد قواعد وأسساً تستند عليها، وأصبحت علماً قائماً بذاته له دلالاته وحقائقه ومناهجه، وإلا فإن أساس هذا العلم ونشأته كانت مع نزول الوحي ووضع الشريعة، وعلى الرغم من أهمية علم المقاصد وتأكيد نصوص الشريعة عليه كتاباً وسنة، إلا أنه لم يأخذ مداه في الفضاء الفقهي والفكري الإسلامي - كغيره من العلوم وخاصة أصول الفقه - وإن وجد اهتماماً لدى ثلة من العلماء الذين تناولوا موضوعه بصورة نظرية، حيث ظلت قضية المقاصد أحد الأبعاد الغائبة عن الدراسات الإسلامية أزمنة طويلة، ويقف في مقدمة أسباب هذا الغياب هيمنة النظر الكلامي المجرد والاختلاف في التعليل والغائية[15] ، ولعلنا في إشارة سريعة بحاجة إلى استقراء المراحل التي مر بها هذا العلم، وتقديم نبذة مختصرة عن كتابات علماء المقاصد[16]:
- على الرغم من أن هناك إسهامات تقدمت في هذا الباب تمثل طليعة الكتابات في باب المقاصد كإسهام الحكيم الترمذي في كتبه التي أظهر فيها اهتمامه بالمقاصد ككتاب: الصلاة ومقاصدها، وكتابه علل الشريعة، وإسهام أبي بكر القفال الشاشي في كتابه محاسن الشريعة، وغيرهما من العلماء، إلا أن إسهام إمام الحرمين أبي المعالي الجويني (ت 478هـ) يمثل منطلقاً حقيقياً في باب المقاصد من خلال كتابه (البرهان في أصول الفقه) حيث خصص جزءاً من كتابه للحديث عن المقاصد وعنون له بقوله: في تقاسيم العلل والأصول التي بها تظهر المقاصد ويكشف عن المصالح. قال السبكي: " وضع إمام الحرمين في أصول الفقه كتاب البرهان على أسلوب غريب لم يقتد فيه بأحد "[17]، وقد تضمن كتاب البرهان شواهد على عناية الجويني بالأصول وبالمقاصد الشرعية[18] .

- ثم جاء من بعده تلميذه الغزالي (ت 505هـ)، حيث تعددت كتبه، وتميزت إسهاماته، وأظهر تصورات جديدة في علمي الأصول والمقاصد، يمكن تلمسها بصورة خاصة في كتبه: شفاء الغليل، والمنخول، والمستصفى الذي يمثل أنضج كتبه وأكثرها وضوحاً، ولعل من أبرز ما قدمه الغزالي في باب المقاصد حديثه عن المصالح التي جعلها ثلاث مراتب: ضرورية، وحاجية، وتحسينية.

- ثم يأتي جهد الإمام العز بن عبد السلام (ت 660هـ) ليضيف بعداً آخر لعلم المقاصد من خلال كتابه المميز: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، فقد وضعه على أسلوب بديع جعل جماع القواعد الشرعية محصوراً في جلب المصالح ودرء المفاسد[19]، حتى كاد كتابه يكون خاصاً في مقاصد الشريعة سواء باعتبار كلامه الصريح في مقاصد الأحكام، أو باعتبار أن الكلام في المصالح والمفاسد إنما هو كلام عن المقاصد الشرعية[20].

- ثم أتى تلميذه الإمام شهاب الدين القرافي (ت 685هـ)، فقد اقتفى طريق شيخه في ضبط القواعد وتحرير المقاصد في جملة من كتبه، وبخاصة كتابه: الفروق، الذي مثل بياناً لأصول الشريعة في ضوء ما سماه بأسرار الشرع وحكمه، ومن إضافاته تمييزه بين المقامات المختلفة للتصرفات النبوية[21].

- أما شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ) فلا يخلو كلامه عن الشريعة وأحكامها وبيان مقاصدها، وكان يكثر من بيان تعليل الأحكام وإظهار مقاصدها الشرعية، فالشريعة عنده " جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما "[22]، ولابن تيمية استدراك على الأصوليين في حصرهم لمقاصد الشريعة الخمسة المعروفة إذ يقول: " وقوم من الخائضين في أصول الفقه وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة إذا تكلموا في المناسبة، وأن ترتيب الشارع للأحكام على الأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم، ورأوا أن المصلحة نوعان أخروية، ودنيوية، جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم، وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدين الظاهر، وأعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، وأحوال القلوب وأعمالها، كمحبة الله، وخشيته، وإخلاص الدين له، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، ودعائه، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة‏‏ وكذلك فيما شرعه الشارع من الوفاء بالعهود وصلة الأرحام، وحقوق المماليك والجيران، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى عنه، حفظًا للأحوال السنية، وتهذيب الأخلاق‏ ويتبين أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح‏ "[23].

- ثم جاء من بعده تلميذه ابن القيم (ت 751هـ) ليؤكد نهج شيخه وامتداد مدرسته المقاصدية، ومن أبرز كتبه في هذا الباب كتاب: إعلام الموقعين عن رب العالمين، إذ يقول فيه: " الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل "[24]، وقال في موضع آخر مبيناً مكانة القرآن الكريم وما فيه من تعليلات وأحكام: " وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة وحصول الشرور في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال ترتب الجزاء على الشرط والمعلول على العلة والمسبب على السبب وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع "[25] .

- أما الإمام الشاطبي (ت 790ه-) فيعد شيخ علم المقاصد، حيث صنف فيه كتابه: الموافقات، تناول فيه موضوع المقاصد باستفاضة وعمق في القسم الثاني من الكتاب: تحت عنوان (كتاب المقاصد)، وصاغه بأسلوب أصولي فذ، لا يوجد في غيره من المصنفات التي سبقته، وإن من مظاهر الإبداع والتجديد التي أضافها الشاطبي إلى علم المقاصد، إيراده لكثير من القواعد العامة التي تعبر عن معان تشريعية مقاصدية، أي أنه صاغ المقاصد على شكل قواعد، بحيث تشكل المعالم الأساسية التي راعاها الشارع في تشريعه[26]، قال الشاطبي مبيناً الغاية من وضع الشريعة: " وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً... والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء.. فإن الله تعالى يقول في بعثه الرسل، وهو الأصل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [27]، ويقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [28] ، وقال في أصل الخلقة: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [29]، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [30]، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [31].

وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى؛ كقوله بعد آية الوضوء: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ} [32] . وقال في الصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [33] ، وفي الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [34]، وقال في القبلة: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [35]، وفي الجهاد: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [36]، وفي القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [37]، وفي التقرير على التوحيد: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [38]، والمقصود التنبيه. وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيداً للعلم، فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة "[39].

قال ابن عاشور: " والرجل الفذ الذي أفرد هذا الفن بالتدوين هو: أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي المالكي، إذ عني بإبراز القسم الثاني من كتابه المسمى عنوان التعريف بأصول التكليف في أصول الفقه، وعنون ذلك القسم ب كتاب المقاصد. ولكنه تطوح في مسائله إلى تطويلات وخلط، وغفل عن مهمات من المقاصد، بحيث لم يحصل منه الغرض المقصود، على أنه أفاد جد الإفادة. فأنا أقتفي آثاره "[40].

- وعلى الرغم من عظم الإسهام الذي قدمه الشاطبي في علم المقاصد، إلا أنه يصدق عليه ما قاله مالك بن نبي في ابن خلدون من أنه جاء متأخراً عن أوانه أو سابقاً عليه فلم تنطبع أفكاره في العقل المسلم، وكذلك لم تنطبع أفكار الشاطبي في العقل المسلم الذي كان يعيش بداية انحطاطه يومذاك، فظلت أفكاره مجهولة، وبعده أصيبت العلوم الإسلامية عامة والمقاصد خاصة بجمود كبير، وبما يشبه الغيبة في الإبداع والتجديد والاستمرار[41]، حتى اكتشفها علماء مصلحون معاصرون: الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا والدكتور عبد الله دراز في المشرق، والعلامتان محمد الطاهر ابن عاشور وعلال الفاسي في المغرب، فأشادوا بها وكتبوا حولها - خصوصاً المغاربة منهم - كتابات حللت وأصلت وأضافت المزيد.

ثم بنى على ذلك التراث علماء وباحثون معاصرون في دراسات جادة منها: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية للدكتور يوسف العالم، ونظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي للدكتور أحمد الريسوني، ونظرية المقاصد عند الإمام محمد الطاهر ابن عاشور للدكتور إسماعيل حسني[42] .

طرق إثبات المقاصد:
يصطلح على تسمية هذا المبحث بمسالك الكشف عن المقاصد، أو سبل إثبات المقاصد، أو طرق كشف وتعيين المقاصد، وغيرها، وقد عنون الشاطبي لهذا المبحث بقوله: (فصل: بيان الجهات التي يعرف بها مقاصد الشارع)[43]، وعنون لها ابن عاشور بقوله: (طرق إثبات المقاصد الشرعية)[44]، ويحسن بنا في هذا الموضع أن نسوق كلام العلامة ابن عاشور في مقاصده فقد بين باستفاضة طرق إثبات المقاصد ولخص كلام الشاطبي في هذا المبحث، فكل من كتب فيه يعتبر عالة على ما قاله، قال - رحمه الله -: " الطريق الأول: وهو أعظمها، استقراء الشريعة في تصرفاتها، وهو على نوعين: أعظمهما: استقراء الأحكام المعروفة عللها، الآئل إلى استقراء تلك العلل المثبتة بطرق مسالك العلة[45]، فإن باستقراء العلل حصول العلم بمقاصد الشريعة بسهولة، لأننا إذا استقرينا عللاً كثيرة متماثلة في كونها ضابطاً لحكمة متحدة أمكن أن نستخلص منها حكمة واحدة، فنجزم بأنها مقصد شرعي، كما يستنتج من استقراء الجزئيات تحصيل مفهوم كلي حسب قواعد المنطق. مثاله: أننا إذا علمنا علة النهي عن المزابنة[46] الثابتة بمسلك الإيماء[47] في قول رسول الله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح لمن سأله عن بيع التمر بالرطب: (أينقص الرطب إذا جف ؟ قال: نعم، قال: فلا إذن).

فحصل لنا أن علة تحريم المزابنة، هي: الجهل بمقدار أحد العوضين، وهو الرطب منهما المبيع باليابس. وإذا علمنا النهي عن بيع الجزاف بالمكيل، وعلمنا أن علته جهل أحد العوضين بطريق استنباط العلة. وإذا علمنا إباحة القيام بالغبن، وعلمنا أن علته نفي الخديعة بين الأمة بنص قول الرسول عليه السلام للرجل - الذي قال له: إني أخدع في البيوع -: (إذا بايعت فقل لا خلابة). إذا علمنا هذه العلل كلها استخلصنا منها مقصداً واحداً، وهو: إبطال الغرر في المعاوضات. فلم يبق خلاف في أن كل تعاوض اشتمل على خطر أو غرر في ثمن، أو مثمن أو آجل فهو تعاوض باطل. ومثال آخر: وهو أننا نعلم النهي عن أن يخطب المسلم على خطبة مسلم آخر، والنهي عن أن يسوم على سومه، ونعلم أن علة ذلك هو ما في ذلك من الوحشة التي تنشأ عن السعي في الحرمان من منفعة مبتغاة، فنستخلص من ذلك مقصداً هو: دوام الأخوة بين المسلمين، فنستخدم ذلك المقصد لإثبات الجزم بانتفاء حرمة الخطبة بعد الخطبة والسوم بعد السوم، إذا كان الخاطب الأول والسائم الأول قد أعرضا عما رغبا فيه. النوع الثاني من هذا الطريق: استقراء أدلة أحكام اشتركت في علة، بحيث يحصل لنا اليقين بأن تلك العلة مقصد مراد للشارع. مثاله: النهي عن بيع الطعام قبل قبضه، علته طلب رواج الطعام في الأسواق.

والنهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئة إذا حمل على إطلاقه عند الجمهور، علته أن لا يبقى الطعام في الذمة فيفوت رواجه. والنهي عن الاحتكار في الطعام لحديث مسلم عن معمر مرفوعاً: (من احتكر طعاماً فهو خاطئ)، علته إقلال الطعام من الأسواق. فبهذا الاستقراء يحصل العلم بأن رواج الطعام وتيسير تناوله مقصد من مقاصد الشريعة. فنعمد إلى هذا المقصد فنجعله أصلاً ونقول: إن الرواج إنما يكون بصور من المعاوضات، والإقلال إنما يكون بصور من المعاوضات، إذ الناس لا يتركون التبايع.

فما عدا المعاوضات لا يخشى معه عدم رواج الطعام. ولذلك قلنا: تجوز الشركة والتولية[48] والإقالة[49] في الطعام قبل قبضه. ومن هذا القبيل كثرة الأمر بعتق الرقاب الذي دلنا على أن من مقاصد الشريعة حصول الحرية. الطريق الثاني: أدلة القرآن الواضحة الدلالة التي يضعف احتمال أن يكون المراد منها غير ما هو ظاهرها بحسب الاستعمال العربي، بحيث لا يشك في المراد منها إلا من شاء أن يدخل على نفسه شكاً لا يعتد به. ألا ترى أنا نجزم بأن معنى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}: أن الله أوجبه.

ولو قال أحد: إن ظاهر هذا اللفظ أن الصيام مكتوب في الورق لجاء خطأً من القول. فالقرآن لكونه متواتر اللفظ قطعيه يحصل اليقين بنسبة ما يحتوي عليه إلى الشارع تعالى، ولكنه لكونه ظني الدلالة يحتاج إلى دلالة واضحة يضعف تطرق احتمال معنى ثان إليها. فإذا انضم إلى قطعية المتن قوة ظن الدلالة تسنى لنا أخذ مقصد شرعي منه يرفع الخلاف عند الجدل في الفقه، مثل ما يؤخذ من قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، وقوله: {أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، وقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. ففي كل آية من هذه الآيات تصريح بمقصد شرعي أو تنبيه على مقصد.

الطريق الثالث: السنة المتواترة. وهذا الطريق لا يوجد له مثال إلا في حالين: الحال الأول: المتواتر المعنوي الحاصل من مشاهدة عموم الصحابة عملاً من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيحصل لهم علم بتشريع في ذلك يستوي فيه جميع المشاهدين. وإلى هذا الحال يرجع قسم المعلوم من الدين بالضرورة، وقسم العمل الشرعي القريب من المعلوم ضرورة، مثل مشروعية الصدقة الجارية المعبر عن بعضها بالحبس.

وهذا العمل هو الذي عناه مالك حين بلغه: أن شريحاً يقول بعدم انعقاد الحبس[50]، ويقول أن لا حبس عن فرائض الله. فقال مالك: (رحم الله شريحاً تكلم ببلاده - يعني الكوفة - ولم يرد المدينة، فيرى آثار الأكابر من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين بعدهم وما حبسوا من أموالهم [ لا يطعن فيها طاعن ]، وهذه صدقات رسول الله سبعة حوائط. وينبغي للمرء أن لا يتكلم إلا فيما أحاط به خبرة) اه-. وأمثلة هذا العمل في العبادات كثيرة، ككون خطبة العيدين بعد الصلاة.

الحال الثاني: تواتر عملي، يحصل لآحاد الصحابة من تكرر مشاهدة أعمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحيث يستخلص من مجموعها مقصداً شرعياً.

ففي صحيح البخاري: عن الأزرق بن قيس قال: (كنا على شاطئ نهر بالأهواز، قد نضب عنه الماء. فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس، فقام يصلى وخلى فرسه، فانطلقت الفرس. فترك صلاته وتبعها حتى أدركها فأخذها، ثم جاء فقضى صلاته. وفينا رجل له رأي فأقبل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ ترك صلاته من أجل فرس. فأقبل فقال: ما عنفني أحد منذ فارقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: إن منزلي متراخ، فلو صليت وتركت الفرس لما آت أهلي إلى الليل.

وذكر أنه صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأي من تيسيره). فمشاهدته أفعال رسول الله عليه السلام المتعددة استخلص منها أن من مقاصد الشرع التيسير. فرأي أن قطع الصلاة من أجل إدراك فرسه ثم العود إلى استئناف صلاته أولى من استمراره على صلاته مع تجشم مشقة الرجوع إلى أهله راجلاً. فهذا المقصد بالنسبة إلى أبي برزة مظنون ظناً قريباً من القطع، ولكنه بالنسبة إلى غيره - الذين يروي إليهم خبره - مقصد محتمل، لأنه يتلقى منه على وجه التقليد وحسن الظن به. ولقد جاء الشاطبي في آخر كتاب المقاصد من تأليفه الموافقات بكلام أرى من المهم إثبات خلاصته باختصار، قال: (بماذا يعرف ما هو مقصود للشارع مما ليس مقصوداً له ؟ والجواب: أن النظر بحسب التقسيم العقلي ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يقال: إن مقصد الشارع غائب عنا حتى يأتينا النص الذي يعرفنا به. وحاصل على هذا الوجه الحمل على الظاهر مطلقاً. وهو رأي الظاهرية الذين يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص.

الثاني: دعوى أن مقصد الشارع ليس في هذه الظواهر ولا ما يفهم منها، وإنما المقصود أمر آخر وراءه.

ويطرد ذلك في جميع الشريعة حتى لا يبقى في ظاهرها متمسك تعرف منه مقاصد الشارع. وهذا رأي كل قاصد لإبطال الشريعة وهم الباطنية.

الثالث: أن يقال باعتبار الأمرين جميعاً، على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص ولا العكس، لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض. وهذا الذي أمه أكثر العلماء[51].

فنقول: إن مقصد الشارع يعرف من جهات:

إحداها: مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي. فإن الأمر كان أمراً لاقتضائه الفعل، فوقوع الفعل عنده مقصود للشارع، وكذلك النهي في اقتضاء الكف.

الثانية: اعتبار علل الأمر والنهي كالنكاح لمصلحة التناسل، والبيع لمصلحة الانتفاع بالمبيع.

الثالثة: أن للشارع في شرع الأحكام مقاصد أصلية ومقاصد تابعة. فمنها منصوص عليه، ومنها مشار إليه، ومنها ما استقرئ من المنصوص. فاستدللنا بذلك على أن كل ما لم ينص عليه مما ذلك شأنه هو مقصود للشارع). انتهى حاصل كلامه "[52]، وقد أضاف إلى هذه الطرق طريقة السلف في رجوعهم إلى مقاصد الشريعة مع ضبطها بغيرها، حيث قال: " وهذا المبحث يتنزل منزلة طريق من طرق إثبات المقاصد الشرعية، ولكني لم أعده في عدادها من حيث إني لم أجد حجة في كل قول من أقوال السلف، إذ بعضها غير مصرح صاحبه بأنه راعى في كلامه المقصد، وبعضها فيه التصريح أو ما يقاربه، ولكنه لا يعد بمفرده حجة لأن قصاراه أنه رأي من صاحبه في فهم مقصد الشريعة.

ولكن مناط الحجة لنا بأقوالهم أنها دالة على أن مقاصد الشريعة على الجملة واجبة الاعتبار، وأن أقوالهم أيضاً لما تكاثرت قد أنبأتنا بأنهم كانوا يتقصون بالاستقراء مقاصد الشريعة من التشريع"[53]، أما الدكتور يوسف القرضاوي فقد بين الوصول إلى المقاصد من خلال أكثر من طريقة[54] - ولم يأت إلا على ذكر طريقتين -:
أولاً: تتبع النصوص التي جاءت بتعليلات في القرآن والسنة، لنعرف منها مقاصد الإسلام وأهدافه.

ثانياً: استقراء الأحكام الجزئية، وتتبعها والتأمل فيها، وضم بعضها إلى بعض من أجل الوصول إلى مقصد كلي أو مقاصد كلية، قصدها الشارع الحكيم من تشريع هذه الأحكام[55] .

علاقة المقاصد بغيرها من المصطلحات ذات الصلة:
أولاً: علاقة المقاصد بالعلة:
قد تقدم معنا مفهوم العلة وأن لها معنيين عند الأصوليين، وكلاهما له ارتباطه الوثيق في تعليل الأحكام، وخاصة المعنى الأول - أعني الوصف الظاهر المنضبط الذي يتعلق الحكم به -، والمقاصد علاقتها بالعلة وثيقة، كون التعليل ظاهراً بيناً في الكثير من الآيات والأحاديث النبوية، ومن ذلك قوله تعالى معللاً إيجاد العباد: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [56] ، وقوله معللاً إرسال الرسل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [57]، وعلل - سبحانه - تشريع القصاص بحفظ النفوس بقوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [58]، كما علل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أموراً كثيرة نصاً وإيماء، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " كنت قد نهيتكم عن لحوم الأضاحي من أجل الدافة، فكلوا وادخروا "[59]، ومع ظهور قضية التعليل - كما في الأمثلة المتقدمة وغيرها مما لم يذكر - فإن هناك اختلافاً بين العلماء في إثباتها، وخلاصته:
- إن الأصل عدم التعليل، حتى يقوم الدليل عليه.

- إن الأصل التعليل بكل وصف صالح لإضافة الحكم عليه، حتى يوجد مانع عن البعض.

- إن الأصل التعليل بوصف، ولكن لا بد من دليل يميز الصالح من الأوصاف للتعليل وغير الصالح.

- إن الأصل في النصوص التعبد دون التعليل[60] .

ولسنا بصدد تفصيل القول في قبول أو رد هذه الأقوال، أو ترجيح الراجح منها، ولكن يكفي القول في مسألة التعليل: إن جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم ذهبوا: إلى أن أحكام الشرع معللة بجلب المصالح للعبد دنيوية أو أخروية، ودرء المفاسد عنه بكل أنواعها، سواء منها ما كان معقول المعنى، وما لم يكن كذلك، ولم يخالف في هذا إلا الظاهرية، وحتى هؤلاء عند التحقيق وتحرير موضع النزاع معهم بدقة، يؤول الخلاف معهم إلى اللفظ[61]، وقد وصف شيخ الإسلام ابن تيمية منكر التعليل بقوله: " قد أنكر ما جاءت به الشرائع من المصالح والمفاسد والمعروف والمنكر[62]، وأنكر ما في الشريعة من المناسبات بين الأحكام وعللها، وأنكر خاصة الفقه في الدين الذي هو معرفة حكمة الشريعة ومقاصدها ومحاسنها "[63]، وطالما أن المقاصد دائرة مع الحكم والغايات فإن علاقتها بالعلل وثيقة، كون التعليل مرتبطاً ببيان الغاية من التشريع، فلا وجه للفصل والتفريق بينهما.

ثانياً: علاقة المقاصد بالمصلحة:
اختلط مفهوم المقصد بالمصلحة في الاستعمال، فيذكر أحدهما بمعنى الآخر ولذلك عقد ابن عاشور فصلاً للتعريف بالمصلحة[64]، فعرف المصلحة بقوله: " وصف للفعل يحصل به الصلاح، أي النفع منه دائماً أو غالباً للجمهور أو للآحاد "[65]، وهو قريب من تعريف الشاطبي الذي استنبطه ابن عاشور في كتابه بقوله: " وعرفها[66] الشاطبي في مواضع من كتابه عنوان التعريف - بما يتحصل منه بعد تهذيبه - أنها ما يؤثر صلاحاً أو منفعة للناس عمومية أو خصوصية، وملاءمة قارة في النفوس في قيام الحياة "[67]، وأضاف قائلاً: " إن المصالح كثيرة متفاوتة الآثار قوة وضعفاً في صلاح أحوال الأمة أو الجماعة، وأنها أيضاً متفاوتة بحسب العوارض العارضة والحافة بها من معضدات لآثارها أو مبطلات لتلك الآثار كلاً أو بعضاً. وإنما يعتبر منها ما نتحقق أنه مقصود للشريعة، لأن المصالح كثيرة منبثة "[68].


وعرفها الغزالي بقوله: " أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة "[69]، وقد بين الغزالي مقصوده من هذا التعريف بقوله: " ولسنا نعني به ذلك فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة "[70]، وعرفها ابن قدامة بمثل تعريف الغزالي بقوله: " المصلحة هي جلب المنفعة أو دفع المضرة "[71]، وعرفها الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي تعريفاً جيداً بقوله: " المصلحة هي الوصف الذي يكون في ترتيب الحكم عليه جلب منفعة للناس أو درء مفسدة عنهم "[72]، وعرفها الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي بقوله: " والمصلحة فيما اصطلح عليه علماء الشريعة الإسلامية يمكن أن تعرف بما يلي (المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده، من حفظ دينهم، ونفوسهم، وعقولهم، ونسلهم، وأموالهم، طبق ترتيب معين فيما بينها) "[73].


وارتباط الشرع بالمصلحة أمر ظاهر لا ينكر، كون الشريعة معللة بالمصالح التي تراعي مقاصد العباد في العاجل والآجل، قال ابن القيم مبيناً ارتباط الشريعة بالمصالح ورعايتها لها تحت عنوان: بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد: " هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتى به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ومصالح كلها وحكمة كلها "[74] ، وإذا كانت الشريعة تراعي مصالح العباد فإنها - بلا شك - تقصد هذه المصالح وتهدف إلى تحصيلها، فالشارع أراد هذه المصالح وقصدها بتشريعه الأحكام، وهي تعود على المكلف وتؤول إليه[75] ، ومما تقدم ندرك أن المقاصد علاقتها بالمصلحة علاقة وثيقة بل هي تمثل أساساً نظرياً لها تنبني عليه، وقد أقر فقهاء الإسلام على مر العصور بأن الشريعة مصلحة والمصلحة شريعة، فهي حاضرة في الأصول والقواعد التشريعية[76].

ثالثاً: علاقة المقاصد بالحكمة:
الحكمة عند الأصوليين: هي ما يترتب على ربط الحكم بعلته أو بسببه من جلب مصلحة أو دفع مضرة، أو تقليلها[77]، ولفظ (الحكمة) أكثر ما يستعمله الأصوليون لبيان المعنى المقصود من تشريع الحكم، وما يترتب عليه من جلب نفع أو دفع مضرة، كتحصيل مصلحة حفظ الأنساب بتحريم الزنى، وإيجاب الحد على الزاني، وكدفع المشقة بتشريع القصر والفطر للمسافر، والحفاظ على النفس الإنسانية من الاعتداء أو الإهدار بتشريع القصاص، وغير ذلك، وهو ما صرح به الطوفي بقوله: والحكمة غاية الحكم المطلوبة بشرعه[78].

وطالما أن المقاصد دائرة مع الحكم والغايات من التشريع، فالحكمة وفق المعنى المتقدم تتطابق مع المقصد الشرعي الذي أراده الحكم. قال ابن القيم عند قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [79]: " والحكمة هي العلم النافع والعمل الصالح، وسمي حكمة لأن العلم والعمل قد تعلقا بمتعلقهما، وأوصلا إلى غايتهما، وكذلك لا يكون الكلام حكمة حتى يكون موصلاً إلى الغايات المحمودة والمطالب النافعة، فإذا كان المتكلم به لم يقصد مصلحة المخاطبين ولا هداهم ولا إيصالهم إلى سعادتهم ودلالتهم على أسبابها وموانعها، ولا كان ذلك هو الغاية المقصودة المطلوبة، ولا تكلم لأجلها، ولا أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجلها، ولا نصب الثواب والعقاب لأجلها لم يكن حكيماً ولا كلامه حكمة "[80]، فكلام ابن القيم - رحمه الله - ظاهر في بيان معنى الحكمة، وربطها بمقاصد المتكلم - وهو الشارع سبحانه -، لتعبر عن مراده في وضع الشريعة، وهذا يثبت أن الشريعة لم توضع عبثاً ولا سدى، وأنها موضوعة كما قال الشاطبي في موافقاته: "لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً"[81]، وهذا يجعل لفظ الحكمة متطابقاً مع لفظ المقصد.


ـــــــــــــــــ
[1] انظر : مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص36، علم المقاصد الشرعية، د. نور الدين بن مختار الخادمي، ص51، الاجتهاد المقاصدي، د. نور الدين بن مختار الخادمي، ج1 ص85، الأسس العامة لفهم النص الشرعي، د. عبد المجيد السوسوة، ص42، منهج التيسير المعاصر، عبد الله بن إبراهيم الطويل، ص24.
[2] مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر ابن عاشور، ص40.
[3] انظر باب ( قصد ) في تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي، ج 9، ص35، لسان العرب لابن منظور، ج3، ص353.
[4] علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، 15.
[5] الاجتهاد المقاصدي، مرجع سابق، ج1 ص48.
[6] بين علمي أصول الفقه و المقاصد، مرجع سابق، ص120.
[7] المفاهيم مفاتيح الفهم ومرايا الحضارة د. سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، مقال منشور في موقع إسلام أون لاين.
[8] مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر ابن عاشور، ص165.
[9] قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، د. عبد الرحمن إبراهيم الكيلاني، ص46.
[10] المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص79.
[11] دراسة في فقه مقاصد الشريعة، د. يوسف القرضاوي، ص20.
[12] علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص16.
[13] الاجتهاد المقاصدي، مرجع سابق، ص52، علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص17.
[14] قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، مرجع سابق، ص47.
[15] من التعليل إلى المقاصد القرآنية العليا الحاكمة، د. طه جابر العلواني، إسلامية المعرفة، العدد 46-47.
[16] انظر للتوسع : مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص47، وعلم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص53، وبين علمي أصول الفقه والمقاصد، مرجع سابق، ص81.
[17] بين علمي أصول الفقه والمقاصد، مرجع سابق، ص84 نقلاً عن طبقات الشافعية للسبكي، ج5 ص192.
[18] المرجع السابق، ص85.
[19] المرجع السابق، ص89.
[20] مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص48.
[21] المرجع السابق، ص49.
[22] مجموع الفتاوى، مرجع سابق، ج20 ص48.
[23] المرجع السابق، ج32 ص234.
[24] إعلام الموقعين عن رب العالمين، مرجع سابق، ج3 ص3.
[25] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن القيم، ص16.
[26] قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، مرجع سابق، ص14.
[27] النساء، آية 165.
[28] الأنبياء، آية 107.
[29] هود، آية 7.
[30] الذاريات، آية 56.
[31] الملك، آية 2.
[32] المائدة، آية 6.
[33] البقرة، آية 183.
[34] العنكبوت، آية 45.
[35] البقرة، آية 150.
[36] الحج، آية 39.
[37] البقرة، آية 179.
[38] الأعراف 172.
[39] الموافقات في أصول الشريعة، أبو إسحاق الشاطبي، ص200.
[40] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص28.
[41] مقاصد الشريعة، مجموعة مؤلفين، تحرير عبد الجبار الرفاعي، ص199.
[42] من التعليل إلى المقاصد القرآنية العليا الحاكمة، مرجع سابق.
[43] الموافقات، مرجع سابق، ص442.
[44] علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص67.
[45] العلة عند الأصوليين يراد بها معنيان : الأول : الوصف الظاهر المنضبط المناسب الذي جعله الشارع موجباً للحكم ومعرفاً له، ومثاله : الزنى الذي جعله علة للرجم أو الجلد، والقتل العمد الذي جعله علة مناسبة للقصاص، وعقد النكاح الذي جعله الشارع علة لحل الاستمتاع، فهذه جميعها أوصاف ظاهرة غير خفية. كذلك فهي أوصاف منضبطة، أي أنها غير مضطربة، بحيث لم تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان، ولذا لم تجعل المشقة علة الفطر والتخفيف على المسافر بالقصر في رمضان، وإنما أناطه بالسفر، كونه منضبطاً ظاهراً. أما أن تلك الأوصاف مناسبة فمعناها : أن من شأن ترتب الحكم عليها أن تفضي إلى تحقيق مصلحة مقصودة للشارع. وأما أنها موجبة للحكم : فذاك لأنها تستدعي ما أناط الشارع بها من أحكام، وربط وجود الحكم بها، بحيث يدور الحكم معها وجوداً وعدماً، كالسرقة التي توجب حكم قطع اليد، والزنى الذي يوجب حكم الرجم إن كان محصناً، أو الجلد إن كان بكراً، والقتل العمد الذي يوجب القصاص. وأما المعنى الثاني للعلة : فهو المعنى المناسب لتشريع الحكم. وهو ما عبر عنه ( الشاطبي ) بقوله في تعريفه للعلة : " هي الحكم والمصالح التي تعلقت بها الأوامر أو الإباحة، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي. فالمشقة علة في إباحة القصر والفطر في السفر؛ فالعلة هي المصلحة نفسها أو المفسدة نفسها مظنتها ظاهرة كانت أو غير ظاهرة، منضبطة أو غير منضبطة.
انظر : قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، مرجع سابق، ص49. وللتوسع في معنى العلة : يراجع البحر المحيط للزركشي، ج4ص111.
أما مسالك العلة فهي الطرق التي تدل على كون الوصف علة، وهي متعددة ذكر منها الفتوحي : الإجماع، والنص، والمناسبة، والشبه، والدوران. وأضاف إليها الرازي : الإيماء، والتأثير، والسبر والتقسيم، والطرد، وتنقيح المناط.
انظر : شرح الكوكب المنير، الفتوحي، ج4ص115، والمحصول، الرازي، ج5، ص137.
[46] المزابنة : هي بيع الرطب بما كان يابساً. انظر : المجموع شرح النووي، ج10 ص585، ومغني المحتاج للخطيب الشربيني، ج2 ص504.
[47] الإيماء : هو دلالة النص على التعليل بالقرينة، لا بصراحة اللفظ. أو هو الذي يدل على العلية بالالتزام، لأنه يفهمها من جهة المعنى لا اللفظ.
انظر : البحر المحيط للزركشي، ج4، ص197، والموسوعة الفقهية، ج7 ص242.
[48] التولية : هي نقل جميع المبيع إلى المولى بمثل الثمن المثلي أو عين المتقوم القيمي بلفظ : وليتك أو ما يقوم مقامه. انظر : الموسوعة الفقهية، ج14ص196.
[49] الإقالة : هي رفع العقد، وإلغاء حكمه وآثاره بتراضي الطرفين. انظر الموسوعة الفقهية، ج5 ص324.
[50] وهي الأوقاف، والوقف : هو تحبيس الأصل وتسبيل المنافع.
[51] وهناك اتجاه رابع وهو اتجاه المتوسعين في المقاصد بغلو كبير إلى حد إهدار دلالات النصوص المحكمة وتجاوز ضروريات الدين ومبادئ الشريعة وأحكامها المؤكدة، وذلك بافتراضه لمصالح ومقاصد من خارج النصوص وتقديمها على نصوص الشريعة إذا تعارضت ولو كان النص قطعياً، كالذي يبيح الربا تحت مبرر المصلحة؛ مفسراً إياه في ضوء مقاصد التشريع، وهو في حقيقته تعسف في تفسير النصوص، وبناء المقاصد على مصالح موهومة.
انظر : الأسس العامة لفهم النص الشرعي، مرجع سابق، ص50.
[52] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص56.
[53] المرجع السابق، ص66.
[54] دراسة في فقه مقاصد الشريعة، مرجع سابق، ص24.
[55] وهاتان الطريقتان قد دل عليهما كلام ابن عاشور المتقدم، وهو الذي دل عليه كلام الشاطبي في آخر كتاب المقاصد من الموافقات حين ختمه بطرق معرفة مقاصد الشريعة.
[56] الذاريات، آية 56.
[57] النساء، آية 165.
[58] المائدة، آية 32.
[59] أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي، رقم 1971، والدافة : هم من يطرأ من المحتاجين.
[60] مقاصد الشريعة، د. طه جابر العلواني، ضمن كتاب : مقاصد الشريعة، مجموعة مؤلفين، تحرير عبد الجبار الرفاعي، ص69.
[61] المرجع السابق، ص76.
[62] يقصد التمييز بين المصالح والمفاسد والمعروف والمنكر.
[63] مجموع الفتاوى، مرجع سابق، ج11 ص354.
[64] بين علمي أصول الفقه والمقاصد، مرجع سابق، ص132.
[65] مقاصد الشريعة الإسلامية، ص200. وهناك من انتقد تعريف ابن عاشور للمصلحة، وهو الدكتور محمد المختار السلامي بقوله : " ابن عاشور وضع المصلحة في إطار الفعل الإنساني. ولذا أخرج الذوات وأعراضها من ضابط المصلحة والمفسدة. إلا أنه جعل الوصف يتميز بأنه يحصل به الصلاح. والصلاح والمصلحة مادة واحدة. فأفضى تعريفه إلى أنه لا تفهم المصلحة إلا بفهم الصلاح. ولا يفهم الصلاح إلا بإدراك حد المصلحة. وهو دور مفسد للتعريف وكأنه استشعر هذه الصعوبة ففسر الصلاح بالمنفعة. فالمنفعة لفظ مساو للصلاح"، وهذا الذي دفع بعض الباحثين إلى القول : " إن المصلحة هو موضع الصلاح. وإذا تبين أن المصالح التي تعتبرها الشريعة هي المواضع المعنوية التي يحصل فيها الإنسان صلاحه، علمنا أن وظيفتها الأساسية وظيفة أخلاقية صريحة. إذ حد الصلاح أنه قيمة أخلاقية، بل هو رأس القيم الأخلاقية، وحد الأخلاق أنها تبحث في الصلاح ". انظر : مظاهر التجديد في المبحث المقاصدي، إبراهيم الكيلاني، ضمن كتاب : خطاب التجديد الإسلامي، مجموعة مؤلفين، ص258. ولا غرابة في هذا القول فإن النصوص قد أكدت عليه، وبينت المقصد من البعثة والتشريع، كما صح عن نبينا عليه الصلاة والسلام قوله : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ".
[66] أي المصلحة.
[67] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص200.
[68] المرجع السابق، ص230.
[69] المستصفى، الغزالي، ج2ص481.
[70] المرجع السابق.
[71] روضة الناظر، ابن قدامة، ص169.
[72] أصول مذهب الإمام أحمد، د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، ص459.
[73] ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص27.
[74] إعلام الموقعين، مرجع سابق، ج3 ص3.
[75] علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص23.
[76] مظاهر التجديد في المبحث المقاصدي، مرجع سابق، ص251.
[77] الموسوعة الفقهية، ج18 ص67.
[78] قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، مرجع سابق، ص48.
[79] البقرة، آية 269.
[80] شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ابن القيم، ص190.
[81] الموافقات، مرجع سابق، ص200.


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/6155/#ixzz2ZECIKUJX

الأستاذة 19
2013-07-16, 17:39
ضوابط المقاصد وأقسامها

ضوابط المقاصد:
إن المرجع في التعرف على المقاصد وتعيينها هو الوقوف على الأدلة الشرعية التفصيلية وعللها أو على حكمة التشريع التي قصد إليه الشارع[1] ، وقد تم بيانه سابقاً في مبحث طرق إثبات المقاصد، وحتى يتسنى لنا الوقوف على المقاصد الحقيقية علينا أن نقف على الأمور الضابطة لها، وقد وضع ابن عاشور في مقاصده أربعة ضوابط للمقاصد بقوله:
"المقاصد الشرعية نوعان: معان حقيقية، ومعان عرفية عامة.. فأما المعاني الحقيقية فهي التي لها تحقق في نفسها بحيث تدرك العقول السليمة ملاءمتها للمصلحة أو منافرتها لها، أي تكون جالبة نفعاً عاماً أو ضراً عاماً، إدراكاً مستقلاً عن التوقف على معرفة عادة أو قانون،كإدراك كون العدل نافعاً، وكون الاعتداء على النفوس ضاراً، وكون الأخذ على يد الظالم نافعاً لصلاح المجتمع.. وأما المعاني العرفية فهي المجربات التي ألفتها نفوس الجماهير، واستحسنتها استحساناً ناشئاً عن تجربة ملاءمتها لصلاح الجمهور، كإدراك كون الإحسان معنى ينبغي تعامل الأمة به، وكإدراك كون عقوبة الجاني رادعة إياه عن العود إلى مثل جنايته، ورادعة غيره عن الإجرام، وكون ضد ذينك يؤثر ضد أثرهما[2] ، وإدراك كون القذارة تقتضي التطهر.

وقد اشترطت لهذين النوعين: الثبوت، والظهور، والانضباط، والاطراد.

فالمراد بالثبوت: أن تكون تلك المعاني مجزوماً بتحققها أو مظنوناً ظناً قريباً من الجزم.

والمراد بالظهور: الاتضاح، بحيث لا يختلف الفقهاء في تشخيص المعنى، ولا يلتبس على معظمهم بمشابهه، مثل حفظ النسب الذي هو المقصد من مشروعية النكاح فهو معنى ظاهر ولا يلتبس بحفظه الذي يحصل بالمخادنة أو بالإلاطة، وهي إلصاق المرأة البغي الحمل الذي تعلقه برجل معين ممن ضاجعوها.

والمراد بالانضباط: أن يكون للمعنى حد معتبر لا يتجاوزه ولا يقصر عنه، بحيث يكون القدر الصالح منه لأن يعتبر مقصداً شرعياً قدراً غير مشكك، مثل حفظ العقل إلى القدر الذي يخرج به العاقل عن تصرفات العقلاء الذي هو المقصد من مشروعية التعزير بالضرب عند الإسكار.

والمراد بالاطراد: أن لا يكون المعنى مختلفاً باختلاف أحوال الأقطار والقبائل والأعصار، مثل وصف الإسلام، والقدرة على الإنفاق في تحقيق مقصد الملاءَمة للمعاشرة المسماة بالكفاءة المشروطة في النكاح في قول مالك وجماعة من الفقهاء "[3].

النظر في المقاصد:
لكون مقاصد الشريعة نوعًا دقيقًا من أنواع العلم، فإنها تحتاجُ إلى نظرٍ دقيقٍ يتناسب معها يستطيع معرفة مراد الشارع من وضعه للشريعة، وإدراك غايات التشريع والأحكام الموضوعة للمكلفين، ولذلك: "ليس كل مُكلَّفٍ بحاجةٍ إلى معرفة مقاصد الشريعة.. فحقُّ العامِّي أن يتلقَّى الشريعة بدون معرفة المقصد؛ لأنه لا يحسن ضبطه ولا تنزيله. ثم يتوسَّع للناس في تعريفهم المقاصد بمقدار ازدياد حظِّهم من العلوم الشرعية، لئلا يضعوا ما يُلقنون من المقاصد في غير مواضعه، فيعود بعكس المراد. وحق العالم فهم المقاصد"[4] .

وإذا كانت بعض معاني الشريعة ظاهرة بينة، والمصلحة فيها قطعية لا خلاف فيها بين العلماء مهما اختلفت الظروف والأحوال والأزمنة والأمكنة - كسائر القطعيات في الشريعة، فإن هناك من المعاني ما يتردد بين كونه صلاحاً تارة وفساداً تارة أخرى، وهذا معناه: اختلال صفة الاطّراد فيها، فهذه لا تصلح لاعتبارها مقاصد شرعية على الإطلاق، ولا لعدم اعتبارها كذلك؛ بل المقصد الشرعي فيها أن توكل إلى نظر علماء الأمة وولاة الأمور الأمناء على مصالحها من أهل الحل والعقد، لتعيين الوصف الجدير بالاعتبار في أحد الأحوال دون غيره صلاحاً أو فساداً[5].

وهذا الأصل مُقرَّر في النصوص الشرعية، مُتَّفقٌ عليه بين العلماء المعتبرين، ومن أبرز الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[6] ، وقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[7].

فالنظر المقاصدي في غاية من الأهمية تجعل الفقيه قادراً على فهم النص واكتمال دلالاته به، ولا يستقيم الفهم للنص بمجرد الوقوف على ظاهره والجمود عند حرفيته وتفسيره بذلك دون ربطه بالمقاصد العامة للتشريع وعلل الأحكام[8] ، وهذا لا يتيسر إلا للعلماء.

أقسام المقاصد:
بالنظر إلى أهمية المقاصد الشرعية فقد حظيت بعناية العلماء من حيث تقسيمها وبيان مراتبها، والهدف من هذا التقسيم أنه يعين على النظر الأولوي والموازنة بين المصالح والمفاسد من جهة، وبين مراتب المصالح أو المفاسد في ذاتها من جهة أخرى، وهذا دفع باتجاه تقسيم المقاصد باعتبارات مختلفة[9]:
- من حيث الوضع إلى مقاصد الشارع ومقاصد المكلف.
- ومن حيث العموم والخصوص إلى مقاصد عامة ومقاصد كلية ومقاصد خاصة ومقاصد جزئية.
- ومن حيث اعتبار حظ المكلف وعدمه إلى مقاصد أصلية ومقاصد تابعة.
- ومن حيث القطع والظن إلى مقاصد قطعية ومقاصد ظنية ومقاصد وهمية.
- ومن حيث الحاجة والأهمية إلى مقاصد ضرورية وحاجية وتحسينية.
وسنستعرض هذه الأقسام بصورة موجزة، مع التنبيه على أن هذه الأقسام قد يتداخل بعضها في بعض:

أولاً: أقسام المقاصد من حيث الوضع:
مقاصد الشارع:
وهي المقاصد التي قصدها الشارع بوضعه الشريعة، وهي تتمثل إجمالاً في جلب المصالح ودرء المفاسد في الدارين[10] ، وقد قدم الشاطبي كتاب المقاصد بقوله: " وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا"[11] ، وحصر - رحمه الله - مقصد الشارع في أربعة أنواع:
الأول: قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء.
الثاني: قصد الشارع في وضع الشريعة للأفهام.
الثالث: قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها.
الرابع: قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة[12] .
وقد جرى على هذا التقسيم ابن عاشور في مقاصده[13] ، وسيأتي الحديث عن مضامينها عند ذكر المقاصد الضرورية وقسيميها.

مقاصد المكلف:
وهي المقاصد التي يقصدها المكلف في سائر تصرفاته، اعتقاداً وقولاً وعملاً[14] ، وتكون معتبرة في التصرفات من العبادات والعادات، وهي التي تفرق بين ما هو عادة وما هو عبادة، وفي العبادات بين ما هو واجب وغير واجب، وفي العادات بين الواجب والمندوب، والمباح والمكروه والمحرم، والصحيح والفاسد، وغير ذلك من الأحكام، هذا من جهة ومن جهة أخرى قصد المكلف لا بد أن يكون موافقاً لقصد الشارع من التكليف، وهذا ظاهر من جهة أن المكلف خلق لعبادة الله تعالى، وذلك راجع إلى العمل على وفق القصد من وضع الشريعة - وهذا محصول العبادة - [15] ، والخروج من داعية الهوى إلى حسن الامتثال للخالق، فالمقصد الشرعي من وضع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبداً لله اختياراً، كما هو عبد لله اضطراراً[16].

ثانياً: أقسام المقاصد من حيث العموم والخصوص:
مقاصد كلية:
وهي المقاصد الضرورية[17] التي لا بد منها لقيام نظام العالم وصلاحه بحيث لا يبقى النوع الإنساني مستقيم الحال بدونه، وقد حصر العلماء هذا النوع في خمسة وهو حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال[18].

مقاصد جزئية:
وهي ما يقصده الشارع من كل حكم شرعي[19] ، وما فيه من علل وحكم وأسرار، ويدخل فيها مقاصد الفروع الفقهية المبثوثة في كتب الفقه والقواعد، وما وضعه العلماء من تصانيف في محاسن الشريعة[20] .

مقاصد عامة:
وهي المقاصد التي تلاحظ في جميع أو أغلب أبواب الشريعة ومجالاتها، بحيث لا تختص ملاحظتها في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغاياتها الكبرى[21].

مقاصد خاصة:
وهي المقاصد المتعلقة بباب معين أو أبواب متجانسة من الشريعة كأبواب المعاملات[22] ، وقد اهتم بهذا النوع من المقاصد العلامة ابن عاشور في مقاصده، وقد وصفها بقوله: " وهي الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة، أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة، كي لا يعود سعيهم في مصالحهم الخاصة بإبطال ما أسس لهم من تحصيل مصالحهم العامة، إبطالاً عن غفلة أو عن استزلال هوى وباطل شهوة. ويدخل في ذلك كل حكمة روعيت في تشريع أحكام تصرفات الناس"[23].

ثالثاً: أقسام المقاصد من حيث اعتبار حظ المكلف وعدمه:
مقاصد أصلية:
هي المقاصد التي لا حظ فيها للمكلف، وهي الضروريات الخمس في كل ملة، التي بها القيام بمصالح عامة مطلقة، وهي على ضربين: عينية وكفائية، فأما العينية فهي واجبة على كل مكلف في نفسه، فهو مأمور بحفظ دينه، ونفسه، وعقله، ونسله، وماله.

ويدل على ذلك: أنه لو فرض اختيار العبد خلاف هذه الأمور لحجر عليه، ولحيل بينه وبين اختياره، فمن هنا صار فيه مسلوب الحظ، محكوماً عليه في نفسه، وأما الكفائية فهي القيام بالمصالح العامة على العموم لجميع المكلفين، لتستقيم الأحوال العامة التي لا تقوم الخاصة إلا بها.

إلا أن هذا القسم مكمل للأول، فهو لاحق به في كونه ضرورياً، إذ لا يقوم العيني إلا بالكفائي؛ وذلك أن الكفائي قيام بمصالح عامة لجميع الخلق، فالمأمور لم يؤمر إذا ذاك بخاصة نفسه فقط - وإلا صار عينياً - بل بإقامة الوجود[24].

ويدلك على أن هذا المطلوب معرًى من الحظ شرعاً: أن القائمين به في ظاهر الأمر ممنوعون من استجلاب الحظوظ لأنفسهم بما قاموا به من ذلك، فلا يجوز لوال أن يأخذ أجرة ممن تولاهم على ولايته عليهم. ولذلك امتنعت الرشا والهدايا المقصود بها نفس الولاية؛ لأن استجلاب المصلحة هنا مؤد إلى مفسدة عامة تضاد حكمة الشريعة في نصب هذه الولايات، وعلى هذا المسلك يجري العدل في جميع الأنام، ويصلح النظام، وعلى خلافه يجري الجور في الأحكام، وهدم قواعد الإسلام[25].

مقاصد تابعة:
وهي المقاصد التي روعي فيها حظ المكلف، فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جبل عليه من نيل الشهوات، والاستمتاع بالمباحات، وسد الخلات. وذلك أن حكمة الحكيم الخبير حكمت أن قيام الدين والدنيا إنما يصلح ويستمر بدواع من قبل الإنسان تحمله على اكتساب ما يحتاج إليه هو وغيره، فخلق له شهوة الطعام والشراب إذا مسه الجوع والعطش، ليحركه ذلك الباعث إلى التسبب في سد هذه الخلة بما أمكنه. فمن هذه الجهة صارت المقاصد التابعة خادمة للمقاصد الأصلية ومكملة لها[26].

رابعاً: أقسام المقاصد من حيث القطع والظن:
مقاصد قطعية:
وهي التي تواترت عليها وتكررت أدلة القرآن والسنة، ومثالها: مقصد التيسير الذي وردت به آيات كثيرة وأحاديث متعددة، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[27]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الدين يُسْر، ولن يُشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه))[28]، ومثله مقصد الأمن، وحفظ الأعراض، وصيانة الأموال، وإقرار العدل، وغيرها[29].

مقاصد ظنية:
وهذه المقاصد دون المقاصد القطعية، وتحصيلها سهل من استقراء غير كبير لتصرفات الشريعة، لأن ذلك الاستقراء يعطي علماً باصطلاح الشارع وما يراعيه في التشريع[30] ، وقد وضع العز بن عبد السلام قاعدة ترشد إلى طريق معرفة المقاصد الظنية في مبحث ما خالف القياس من المعاوضات في قواعده بعد ذكر المثال الحادي والعشرين، فقال: "إن من عاشر إنساناً من الفضلاء الحكماء العقلاء، وفهم ما يؤثره ويكرهه في كل ورد وصدر، ثم سنحت له مصلحة أو مفسدة لم يعرف قوله فيها، فإنه يعرف بمجموع ما عهده من طريقته وألفه من عادته أنه يؤثر تلك المصلحة ويكره تلك المفسدة"[31].

وقد ذكر ابن عاشور أمثلة للمقاصد الظنية وجعلها متفاوتة الدرجة ظهوراً وخفاء، فقال - رحمه الله: "واعلم أن مراتب الظنون في فهم مقاصد الشريعة متفاوتة بحسب تفاوت الاستقراء المستند إلى مقدار ما بين يدي الناظر من الأدلة، وبحسب خفاء الدلالة وقوتها. فإن دلالة تحريم الخمر على كون مقصد الشريعة حفظ العقول عن الفساد العارض دلالة واضحة. ولذلك لم يكد يختلف المجتهدون في تحريم ما يصل بالشارب إلى حد الإسكار.

وأما دلالة تحريم الخمر على أن مقصد الشريعة سد ذريعة إفساد العقل، حتى نأخذ من ذلك المقصد تحريم القليل من الخمر، وتحريم النبيذ الذي لا يغلب إفضاؤه إلى الإسكار، فتلك دلالة خفية. ولذلك اختلف العلماء في مساواة تحريم الأنبذة لتحريم الخمر، وفي مساواة تحريم شرب قليل الخمر. فمن غلب ظنه بذلك سوى بينهما في التحريم وإقامة الحد والتجريح به؛ ومن جعل بينهما فرقاً، لم يسو بينهما في تلك الأمور"[32].

مقاصد وهمية:
وهي التي يتخيل ويتوهم أنها صلاح وخير ومنفعة، وهي في الحقيقة خلاف ذلك، ولا شك أن هذا النوع من المقاصد مردود وباطل[33] ، ولعل أبرز أمثلتها: توهم المقاصد المرجوة من إباحة الربا.

خامساً: أقسام المقاصد من حيث الحاجة والأهمية:
يعتبر الغزالي أول من قسم مراتب المقاصد والمصالح والكليات الشرعية إلى مراتبها الثلاث المعروفة: الضرورية، والحاجية، والتحسينية، قال - رحمه الله: "المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى ما هي في رتبة الضرورات، وإلى ما هي في رتبة الحاجات، وإلى ما يتعلق بالتحسينات والتزيينات"[34].

وهذا التقسيم يعتبر تقسيماً منطقياً لا يستغني عنه مجتهد في الحكم على وقائع الحياة، والموازنة بين الأشياء عندما تتعارض، فالضروريات مقدمة على الحاجيات والتحسينات، والحاجيات مقدمة على التحسينات، ولكل مرتبة حكمها[35].

وهذا القسم بأنواعه الثلاثة عني ببحثه العلماء، وتتبعوا تصاريف الشريعة في أحكامها فيه، فوجدوها دائرة حول هذه الأنواع لا تكاد تفوت شيئاً منها ما وجدت السبيل إلى تحصيله؛ حيث لا يُعارِضُ ذلك مُعارِضٌ في جلب مصلحةٍ أعظم، أو في درءِ مفسدةٍ كبرى[36].

أولاً: مقاصد ضرورية:
وهي المقاصد التي لا بُدَّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا اختَلَّت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين[37].

وقد حصر الغزالي[38] ، والشاطبي[39] ، وابن عاشور[40] ، وغيرهم هذه المقاصد في خمس، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.

ولكن حصرها في هذه الخمس قد تمت مراجعته، والنظر فيه، وعدم التسليم به من قِبَلِ العلماء، وهناك محاولات متعددة قديماً وحديثاً لإعادة النظر فيه، وقد ترددت ما بين إضافة عناصر أخرى إليه، وما بين إعادة النظر في التقسيم أصلاً:
- فأولى المحاولات في مراجعة هذا التقسيم للمقاصد الضرورية جاء عن طريق القرافي، حيث أضاف حفظ العرض إلى المقاصد الخمسة المتقدمة[41] ، وقد وافقه في ذلك كل من السبكي في جمع الجوامع، والشوكاني[42] ، ومن المعاصرين الدكتور يوسف القرضاوي[43] ، وقد انتقد إضافة العرض إلى المقاصد الضرورية كلٌّ من العلاَّمة ابن عاشور[44] ، والدكتور أحمد الريسوني[45].

- أما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد استدرَكَ على الأصوليين حصرهم للمقاصد الضرورية، بقوله: "وقوم من الخائضين في أصول الفقه وتعليل الأحكام الشرعية بالأوصاف المناسبة إذا تكلموا في المناسبة، وأن ترتيب الشارع للأحكام على الأوصاف المناسبة يتضمن تحصيل مصالح العباد ودفع مضارهم، ورأوا أن المصلحة نوعان أخروية، ودنيوية، جعلوا الأخروية ما في سياسة النفس وتهذيب الأخلاق من الحكم، وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدين الظاهر، وأعرضوا عما في العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، وأحوال القلوب وأعمالها، كمحبة الله، وخشيته، وإخلاص الدين له، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، ودعائه، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة‏‏ وكذلك فيما شرعه الشارع من الوفاء بالعهود وصلة الأرحام، وحقوق المماليك والجيران، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى عنه، حفظًا للأحوال السنية، وتهذيب الأخلاق‏ ويتبين أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح "[46].

وقد جرى على منواله الدكتور يوسف القرضاوي، حيث قال: "وهناك مقاصد أو مصالح ضرورية لم تستوعبها هذه الخمس المذكورة. من ذلك: ما يتعلق بالقيم الاجتماعية، مثل الحرية، والمساواة، والإخاء، والتكافل، وحقوق الإنسان. ومن ذلك ما يتعلق بتكوين المجتمع والأمة والدولة.

ويبدو لي أن توجه الأصوليين قديماً كان إلى مصلحة الفرد المكلف: من ناحية دينه ونفسه ونسله وعقله وماله. ولم تتوجه عناية مماثلة للمجتمع، والأمة، والدولة، والعلاقات الإنسانية"[47].

- وأما محاولات العلماء المعاصرين فيمكن جعلها في أربعة اتجاهات[48]:
الاتجاه الأول: فقد ذهب ابن عاشور، وعلال الفاسي إلى القول بتوسيع دائرة المقاصد الشرعية، ومواكبة الاجتهاد فيها بما يوافق مقاصد الشارع، ويحقق مصالح الأمة، لكنهما لم يقولا بإعادة النظر في مبدأ الحصر الخماسي للمقاصد الضرورية.

أما ابن عاشور فقد أطال النفس في استخلاص وتأصيل مجموعة مقاصد شرعية، ذات دلالات وأبعاد مصلحية حضارية في حفظ نظام الشريعة ومصالح الأمة والإنسانية جمعاء، أهمها: حفظ الفطرة، والسماحة، والنظام، والمساواة، والحرية، وحقوق الناس. لكنه لم يُضْفِ عليها صفة الضرورية[49].

إذ قال: "فالمصالح الضرورية: هي التي تكون الأمة بمجموعها وآحادها في ضرورة إلى تحصيلها بحيث لا يستقيم النظام باختلالها، فإذا انخرمت تؤول حالة الأمة إلى فساد وتلاش. ولست أعني باختلال نظام الأمة هلاكها واضمحلالها؛ لأن هذا قد سلمت منه أعرق الأمم في الوثنيّة والهمجيّة، ولكني أعني أن تصير أحوال الأمة شبيهة بأحوال الأنعام بحيث لا تكون على الحالة التي أرادها الشارع منها"[50].

والحق أن تعريف إمام الزيتونة ينطبق على مجموع المقاصد الحاجية الصرفة، أو المنزلة منزلة الضرورية بالخصوص، فهي التي متى اختلت بإطلاق صارت حياة الأمة شبيهة بحياة الأنعام. أما المقاصد الضرورية الخمسة فلا؛ لأنها إذا انخرمت لا تقف أحوال البشرية عند حد معين من الفساد، بل تنجر إلى الفناء العام، وأما الأستاذ الفاسي فلم يختلف كلامه كثيرًا عن كلام ابن عاشور[51].

الاتجاه الثاني: اتفق أصحاب هذا الاتجاه على دعوى الزيادة على الضروريات الخمس، لكنهم اختلفوا في نظرتهم إليها، فمنهم من دعا إلى إعادة النظر في مبدأ الحصر الخماسي للمقاصد الضرورية، كالأستاذ أحمد الريسوني، ومنهم من سجل ما ظهر له من اعتراضات على هذا المبدأ، كالأستاذ طه عبد الرحمن، ومنهم من قدم محاولة نظرية تطبيقية لمراجعة ذلك المبدأ من أصله، كالأستاذ جمال الدين عطية.

أما الأستاذ الريسوني فقد اكتفى بالدعوة والتذكير بإعادة النظر في حصر الضروريات في الخمس المعروفة بدعوى أنها مسألة اجتهادية.. وأنها ذات هيبة، ولا ينبغي أن نحرم من منزلتها مقاصد أخرى لا تقل أهمية وشمولية عنها، وألمح إلى ما دعا إليه الأستاذ أحمد الخمليشي من جعل العدل وحقوق الفرد ضمن الضروريات من مقاصد الشريعة.

وأما الأستاذ طه عبد الرحمن فقد أورد اعتراضات منهجية مختلفة، عامة وخاصة على تقسيم القيم الشرعية وترتيبها بصفة عامة، وقد نص على ذلك في مقال له بعنوان: "مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة".

فهو يرى أن تقسيم الأصوليين للقيم إلى ثلاثة أقسام، وترتيبها على ثلاث درجات: ضرورية، وحاجية، وتحسينية، يخل بشرط التباين من شروط التقسيم؛ حيث إن القيم التي يتكون منها القسم الضروري، مثل: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، لا يستقل بهذا التقسيم، بل يشاركه فيها القسمان الآخران: الحاجي والتحسيني.

ومثاله: الأحكام الثلاثة المتعلقة بتحريم الزنا الذي يُعدُّ حكمًا يُحقِّقُ قيمةً ضرورية، وتحريم النظر إلى عورة المرأة الذي يُعدُّ حكمًا يُحقِّقُ قيمةً حاجية، وتحريم تبرُّج المرأة الذي يُعدُّ حكمًا يُحقِّقُ قيمةً تحسينية، تشترك كلها في حفظ النسل.

والحق أن الاعتراض العام على تقسيم القيم الشرعية وترتيبها اعتراضٌ غير صحيح؛ لأن اندراج الأحكام المتعلقة بالقيم الحاجية والتحسينية تحت الأجناس الخمسة لا يقدح في انفراد القيم الضرورية بهذه الأجناس؛ لأن القيم الضرورية الخمس هي القاعدة الأصلية، وكل ما سواها من القيم الحاجية والتحسينية تابع لها، وحائم حول حماها بالخدمة والتقوية والتجميل، وهو ما جعل قيمة تحريم النظر إلى عورة المرأة، وهي قيمة حاجية، أو قيمة تحريم تبرج المرأة، وهي قيمة تحسينية، كلاهما يدخل في قيمة حفظ النسل، وهي قيمة ضرورية.

وقِسْ على ذلك جميع القيم الحاجية أو التحسينية في علاقتها بالقيم الضرورية؛ لأن كل حاجي وتحسيني إنما هو خادم للأصل الضروري، ومؤنس به، ومحسن لصورته الخاصة، إما مقدمة له، أو مقارناً أو تابعاً.

أما د.جمال الدين عطية، فقد تناول مبدأ الحصر الخماسي بالمراجعة، وانتهى إلى القول: "ونحن من جانبنا نأخذ بعدم انحصار الكليات من حيث المبدأ ومن حيث التطبيق... حيث أضفنا العديد من المقاصد فبلغت أربعة وعشرين بدلا من خمسة... موزعة على أربعة مجالات، وهي: مجال الفرد، ومجال الأسرة، ومجال الأمة، ومجال الإنسانية".

وهذا التصنيف والتوزيع المقاصدي الذي نهجه الأستاذ عطية يعبر عن نظرة اجتهادية متقدمة في التنزيل المقاصدي على مختلف المجالات الحيوية المستهدفة بالخطاب الشرعي المفعم برعاية المصالح الإنسانية على جميع المستويات الخاصة والعامة. ولكنه يفتقر للدليل العلمي من جهة، ومن جهة أخرى فأنه ينضوي تحت المقاصد الضرورية الخمسة أو مكملاتها[52].

الاتجاه الثالث: يكمن في محاولة إعادة النظر في ترتيب الكليات الخمس، وهي دعوة ليست معاصرة فقد ذهب إليها الزركشي[53] ، حيث خالف ترتيب الغزالي لها، وقد أيد هذا النظر الدكتور علي جمعة محمد حيث رتب المقاصد الضرورية الخمسة بخلاف ترتيبها المعروف.

قال - حفظه الله: "والترتيب الذي نراه متوافقاً، وهذا الاحتياج كالآتي: حفظ النفس، ثم العقل، ثم الدين، ثم النسل، ثم المال. على حين أن القدامى رتبوها ترتيباً مخالفاً لذلك باعتبار أن مرادنا بالدين هنا: الشعائر التي تحتاج إلى النية، أو العبادة المحضة، أو محض التعبد.. وليس مقصودنا بالدين هنا: الإسلام، بل الإسلام في ذلك الاصطلاح أعم من الدين بهذا المفهوم، وبالتالي فهو يشمل هذه المقاصد الخمس، وحينئذ تحل مشكلات كثيرة"[54].

وقد بيَّنَ حُجَّتَهُ في ترجيح هذا الترتيب بقوله: "ترتيبُ الكُلِّيَّات الخمس على نحو ما قرَّرْناه: (النفس، العقل، الدين، النسل، المال)، هو ترتيبٌ منطقيٌّ، وله اعتبارٌ؛ حيث إنه يجبُ المحافظةُ أولاً على النفس التي تقومُ بها الأفعال، ثم على العقل الذي به التكليف، ثم نحافظُ على الدين الذي به العبادة، وقوام العالم، ثم نحافظ بعد ذلك على ما يترتب على حفظ الذات، والعقل، والدين، وهو: المحافظة على النسل الناتج من الإنسان، وما يتعلق، أو ما يندرج تحت هذا العنوان الكلي، من المحافظة على العرض، وحقوق الإنسان وكرامته.

ثم بعد ذلك نحافظ على قضية الملك، وهي التي بها عمارة الدنيا عند تداولها، ذلك المال الذي إذا ما تدوول، فإنه يمثل عصباً من أساسيات الحياة"[55].

والذي يظهر أن هذا الترتيب الذي ذهب إليه الدكتور علي جمعة لا يتنافى مع الترتيب المعروف طالما أنه حدد مفهومه للدين على وفق ما تقدم، ولا مشاحة في الاصطلاح إذا كان لا يتعارض مع النص الشرعي ومراد الشارع منه.

الاتجاه الرابع: يكمن في محاولة الدكتور طه جابر العلواني في إعادة النظر في التقسيم جملة وتفصيلاً، فقد ذهب إلى أن مقاصد الشريعة تتمثل في: التوحيد، والتزكية، والعمران، وجعلها المقاصد القرآنية الحاكمة العليا، ونظر لها في مؤلفاته المتعددة، وخاصة المتأخرة منها، ككتابه: التوحيد والتزكية والعمران محاولات في الكشف عن القيم والمقاصد القرآنية الحاكمة، وكتاب مقاصد الشريعة، وبحثه المنشور في مجلة إسلامية المعرفة تحت عنوان: من التعليل إلى المقاصد القرآنية العليا الحاكمة، يقول - حفظه الله: "فأعلى المقاصد الشرعية، وأسمى القيم الحاكمة ثلاثة هي: التوحيد، والتزكية، والعمران. وسائر القيم الأخرى الكلية منها والجزئية تنتهي إلى هذه القيم الثلاث التي لا يمكن أن ينفصل أي منها عن الآخرين: فالتوحيد غاية التزكية وهدفها، ووسيلتها في الوقت ذاته. والعمران ثمرة للتوحيد والتزكية معاً لا يوجد على حقيقته، وبشروطه بدونهما "[56].

وقال أيضًا واصفًا المقاصد الثلاث - التوحيد والتزكية والعمران: "إن هذه القيم الثلاث تمثل المقاصد العليا، والقيم الأساسية الكبرى، والمبادئ الأصلية، وهي في الوقت ذاته صالحة في كل زمان ومكان، لتكون مقياساً لسائر أنواع الفعل الإنساني، ولجميع الآثار المترتبة عليه في الدنيا والآخرة، توضح للإنسان ما في ذلك الفعل من صلاح أو فساد، وما يمكن أن يترتب عليه من استقامة أو انحراف، قدر ما ينسجم أو يختلف مع تلك المقاصد العليا الثلاثة، وهي: التوحيد، والتزكية، والعمران... وهذه المقاصد الثلاثة العليا تستدعي - بالضرورة - سائر المستويات الأخرى من المقاصد (كالعدل والحرية والمساواة) فهذا المستوى من القيم والمقاصد ضروري لتحقيق المقاصد العليا - التي يمكن إدراجها في المستوى الثاني الذي ذكرناه، وهو يستدعي المستوى الأخير الذي جرى تركيز الأصوليين والفقهاء عليه، حتى اعتبروا تلك الأمور هي مقاصد الشريعة، وصنفوها إلى الضروريات الإنسانية والحاجيات والتحسينيات؛ فهذه - الأمور - التي عدوها مقاصد للشريعة - لم تستطع أن تقدم أو تولد منظومة الأحكام التي نحتاجها لتغطية ومعالجة كل مستجدات الحياة التي سيتعلق بها الفعل الإنساني حتى يوم الدين، بل اكتفت بأن بينت لنا حكم الشريعة والتشريع، وفوائدها، التي تعود على ضرورياتنا وحاجياتنا وتحسينياتنا بالحفظ والتسديد والحماية.

فهي في وضعها الذي حددوه ابتداء من إمام الحرمين الجويني، ثم الغزالي، مروراً بالشاطبي، ثم ابن تيمية، وابن القيم، وإلى الشيخين علال الفاسي، وابن عاشور، تعتبر بمقام الحكم والمقاصد لدعم القياس وتوسيع آفاقه من ناحية، ولتعزيز ودعم دليل ( المصلحة ) من ناحية أخرى، وكذلك لتعزيز الإيمان والثقة برعاية الأحكام الشرعية لمصالح العباد، وبقيت الأحكام الشرعية التكليفية منها والوضعية تدور على محاور الأوامر والنواهي والمنطلقات اللغوية التي أدت إلى بناء وتدعيم الاتجاه الجزئي في النظر الفقهي"[57].

ولا شك تعتبر محاولة الدكتور طه العلواني خطوة جريئة وشجاعة في التنظير لعلم المقاصد من أجل إعطائه نظراً كلياً، وإخراجه من النظر التجزيئي الذي أشار إليه في كلامه أعلاه، وبغض النظر عن كون هذه المحاولة تمثل صورة أو وجهة أخرى للمقاصد الضرورية الخمسة المعروفة كما أشار إلى ذلك بعضهم[58].

فإنها تؤكد على كون التقسيم المألوف عند العلماء إنما يمثل اجتهاداً وصل إليه العلماء قديماً وجرى عليه المتأخرون، ولا يمنع من إعادة النظر فيه وصولاً إلى إدراك مقاصد الشارع من وضعه للشريعة، طالما أنه لا يصادم نصوصها، ولكل وجهة هو موليها.

أدلة اعتبار المقاصد الضرورية:
ودليل اعتبار هذه المقاصد ما قاله الشاطبي في موافقاته: " استقراء الشريعة، والنظر في أدلتها الكلية والجزئية، وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة، على حد الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص، بل بأدلة منضاف بعضها إلى بعض، مختلفة الأغراض، بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة على حد ما ثبت عند العامة جود حاتم، وشجاعة علي - رضي الله عنه، وما أشبه ذلك.

فلم يعتمد الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليلٍ مخصوصٍ، ولا على وجهٍ مخصوصٍ؛ بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات، والمطلقات والمقيدات، والجزئيات الخاصة، في أعيان مختلقة ووقائع مختلفة في كل باب من أبواب الفقه، وكل نوع من أنواعه، حتى ألفوا أدلة الشريعة كلها دائرة على الحفظ على تلك القواعد، هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من قرائن أحوال منقولة وغير منقولة"[59].

المقاصد الضرورية الخمسة:
نقصد بحفظ الضروريات الخمس - أو الكليات - حفظها بالنسبة لآحاد الأمة وبالنسبة لعموم الأمة بالأولى[60] ، وذلك يكون بأمرين:
الأول: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود.
الثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم[61] .

أولاً: حفظ الدين:
الحفاظ على مصلحة الدين من جانب الوجود - أي إبقاؤه على سبيل الدوام - يكون عن طريق: تشريع الإيمان، والنطق بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وما أشبه ذلك، وهذا الواجب الذي أوجبه الله على عباده بالرغم من أنه حق الله على عباده إلا أن مصالحه تعود على الأفراد والجماعة في الدنيا والآخرة، وهو أيضاً وسيلة لتحصيل جميع الفضائل الضرورية[62].

وأما الحفاظ عليه من جانب العدم فيكون عن طريق: تشريع الجهاد والترغيب فيه، وتحريم الردة وتشريع حد الردة، وتحريم البدعة وتشريع عقوبة الداعي إلى البدعة[63].

ثانيًا: حفظ النفس:
الحفاظ على النفس من جانب الوجود يكون عن طريق مراعاة حق الإنسان في الحياة، وحفظ حياته من التلف أفراداً وعموماً، ويكون كذلك عن طريق تشريع نظام الحلال والحرام، وهذا النظام يعتبر معياراً للنفع والضرر، ومرجع ذلك أن المصالح والمفاسد لا يستطيع العقل البشري أن يحيط بها إحاطة تامة، وإنما مرد ذلك إلى عالم الغيب والشهادة - سبحانه وتعالى -: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [64].

أما الحفاظ على النفس من جانب العدم فيكون عن طريق: تحريم القتل وتشريع القصاص، ومنع التمثيل والتشويه، ومعاقبة المحاربين وقطاع الطرق، وغير ذلك[65].

قال ابن عاشور: "وليس المراد حفظها[66] بالقصاص كما مثل به الفقهاء، بل نجد القصاص هو أضعف أنواع حفظ النفوس، لأنه تدارك بعض الفوات.

بل الحفظ أهمه حفظها عن التلف قبل وقوعه، مثل مقاومة الأمراض السارية. وقد منع عمر بن الخطاب الجيش من دخول الشام لأجل طاعون عمواس.

والمراد النفوس المحترمة في نظر الشريعة، وهي المعبر عنها بالمعصومة الدم.. ويلحق بحفظ النفوس من الإتلاف حفظ بعض أطراف الجسد من الإتلاف، وهي الأطراف التي ينزل إتلافها منزلة إتلاف النفس في انعدام المنفعة بتلك النفس. مثل الأطراف التي جعلت في إتلافها خطأ الدية كاملة "[67].

ثالثاً: حفظ العقل:
الحفاظ على العقل من جانب الوجود يكون عن طريق العلم ونشره وتعليمه، والنصوص الحاثة على العلم وفضله أكثر من أن تساق في هذا المقام، ولكن حسبنا قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [68] ، وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [69].

أما حفظه من جانب العدم فيكون بحفظه من أن يدخل عليه خلل يفضي إلى فساده، ودخول الخلل على عقل الفرد مفض إلى فساد جزئي، ودخوله على عقول الجماعات وعموم الأمة أعظم[70] .

قال القرضاوي: "وهناك بعض الملاحظات على استدلال الأصوليين على بعض الضروريات والكليات، مثل استدلالهم على حفظ العقل بتحريم الخمر وفرض العقوبة على شاربها. وأرى أن حفظ العقل يتم في الإسلام بوسائل وأمور كثيرة، منها: فرض طلب العلم على كل مسلم ومسلمة، والرحلة في طلب العلم، والاستمرار في طلب العلم من المهد إلى اللحد، وفرض كل علم تحتاج إليه الأمة في دينها أو دنياها فرض كفاية، وإنشاء العقلية العلمية التي تلتمس اليقين وترفض اتباع الظن أو اتباع الهوى، كما ترفض التقليد للآباء وللسادة الكبراء، أو لعوام الناس، شأن الإمعة، والدعوة إلى النظر والتفكر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء"[71] .

رابعاً: حفظ النسل:
الحفاظ على النسل من جانب الوجود يكون عن طريق تشريع الزواج والترغيب فيه، قال عليه الصلاة والسلام: " وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني "[72] .

أما الحفاظ عليه من جانب العدم فيكون عن طريق تحريم الزنى واللواط والقذف، وتشريع العقوبة عليها. قال ابن عاشور: "وأما حفظ الأنساب - ويعبر عنه بحفظ النسل - فقد أطلقه العلماء ولم يبينوا المقصود منه، ونحن نفصل القول فيه. وذلك أنه إن أريد به حفظ الأنساب أي النسل من التعطيل فظاهر عده من الضروري، لأن النسل هو خلفة أفراد النوع. فلو تعطل يؤول تعطيله إلى اضمحلال النوع وانتقاصه، كما قال لوط لقومه: {وتقطعون السبيل}[73] .

على أحد التفسيرين، فبهذا المعنى لا شبهة في عده من الكليات؛ لأنه يعادل حفظ النفوس، فيجب أن تحفظ ذكور الأمة من الاختصاء مثلاً، ومن ترك مباشرة النساء باطراد العزوبة ونحو ذلك. وأن تحفظ إناث الأمة من قطع أعضاء الأرحام التي بها الولادة، ومن تفشِّي إفساد الحمل في وقت العلوق، وقطع الثدي، فإنه يكثر الموتان في الأطفال بعسر الإرضاع الصناعي على كثيرٍ من النساء، وتعذُّره في البوادي"[74] .

خامساً: حفظ المال:
الحفاظ على المال من جانب الوجود يكون عن طريق تداول المال وإبعاده عن مواطن النزاع والخصومة والتضرر، والعدل فيه بوضعه موضعه الذي وجد من أجله[75] ، قال تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [76] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [77] ، وأما حفظه من جانب العدم فعن طريق تحريم السرقة والحرابة، وتشريع العقوبة عليهما.

ثانياً: مقاصد حاجية:
المقاصد الحاجية هي في المرتبة الثانية بعد المقاصد الضرورية، وقد عرفها العلماء بألفاظ مختلفة، ولكنها متفقة من حيث المعنى، وبعض أهل العلم وضع ضوابط للتفريق بينها وبين قسيميها - الضروري والتحسيني:
- فقد عرفها الشاطبي بقوله: "وأما الحاجيات، فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع، دخل على المكلفين - على الجملة - الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة"[78] .

- وعرفها ابن عاشور بقوله: "ولننتقل إلى صنف الحاجي، وهو ما تحتاج الأمة إليه لاقتناء مصالحها وانتظام أمورها على وجه حسن، بحيث لولا مراعاته لما فسد النظام، ولكنه كان على حالة غير منتظمة فلذلك كان لا يبلغ مبلغ الضروري"[79] .

- وعرفها الدكتور البوطي بقوله: "وأما الحاجيات: فهي تلك التي قد تتحقق من دونها الأمور الخمسة، ولكن مع الضيق، فشرعت لتحصين أركانها أو لحاجة الناس إلى رفع الضيق عن أنفسهم كي لا يقعوا في حرج قد يفوت عليهم المطلوب"[80] .

ضابط المقاصد الحاجية:
وضع العلامة ابن عاشور ضابطاً للمقاصد الحاجية يميزه عن غيره من المقاصد، حيث قال: "ويظهر أن معظم قسم المباح في المعاملات راجع إلى الحاجي"[81] .

أمثلة المقاصد الحاجية:
- فيما يتعلق بحفظ الدين: شرعت العبادات دعماً لأركانه، وشرعت الرخص[82] المخففة، كالنطق بكلمة الكفر لتجنب القتل، وكالفطر بالسفر، والرخص المناطة بالمرض.

- وفيما يتعلق بحفظ النفس: إباحة الصيد والتمتع بالطيبات، وهو ما زاد على أصل الغذاء.

- وفيما يتعلق بحفظ المال: التوسع في شرعة المعاملات، كالقراض[83] والسلم[84] والمساقاة[85] .

- وفيما يتعلق بحفظ النسب: شرعت المهور والطلاق، وشرط توفر الشهود على موجب حد الزنا[86] .

قال ابن عاشور: "والنكاح الشرعي من قبيل الحاجي، وحفظ الأنساب، بمعنى إلحاق الأولاد بآبائهم من الحاجي للأولاد وللآباء. فللأولاد للقيام عليهم فيما يحتاجون ولتربيتهم النافعة لهم، وللآباء لاعتزاز العشيرة وحفظ العائلة. وحفظ الأعراض - أي حفظ أعراض الناس من الاعتداء عليها - هو من الحاجي، لينكف الناس عن الأذى بأسهل وسائله وهو الكلام. ومن الحاجي ما هو تكملة للضروري، كسد بعض ذرائع الفساد، وكإقامة القضاة والوزعة والشرطة لتنفيذ الشريعة. ومن الحاجي ما يدخل في الكليات الخمسة المتقدمة في الضروري إلا أنه ليس بالغاً حد الضرورة. كما أشرنا إليه فيما مضى من الأمثلة. فبعض أحكام النكاح ليست من الضروري ولكنها من الحاجي مثل اشتراط الولي والشهرة.

وبعض أحكام البيوع ليست من الضروري، مثل بيوع الآجال المحظورة لأجل سد الذريعة، ومثل تحريم الربا، وأخذ الأجر على الضمان، وعلى بذل الشفاعة. فإن كثيراً من تلك الأحكام تكميلية لحفظ المال، وليست داخلة في أصل حفظ المال. وعناية الشريعة بالحاجي تقرب من عنايتها بالضروري. ولذلك رتبت الحد على تفويت بعض أنواعه، كحد القذف[87] "[88] .

ثالثاً: مقاصد تحسينية:
وتأتي في المرتبة الثالثة بعد الضروري والحاجي، وفيها تعريفات متعددة:
- فقد عرفها الغزالي بقوله: "الرتبة الثالثة: ما لا يرجع إلى ضرورة ولا إلى حاجة، ولكن يقع موقع التحسين والتزيين والتيسير للمزايا والمزائد، ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات"[89] .

وعرفها الشاطبي بقوله: "الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق"[90] .

- وعرفها ابن عاشور بقوله: "والمصالح التحسينية هي عندي ما كان بها كمال حال الأمة في نظامها حتى تعيش آمنة مطمئنة، ولها بهجة منظر المجتمع في مرأى بقية الأمم، حتى تكون الأمة الإسلامية مرغوباً في الاندماج فيها أو في التقرب منها. فإن لمحاسن العادات مدخلاً في ذلك سواء كانت عادات عامة كستر العورة، أم خاصة ببعض الأمم كخصال الفطرة وإعفاء اللحية. والحاصل أنها مما تراعى فيها المدارك الراقية البشرية"[91] .

- وعرفها الدكتور البوطي بقوله: "وأما التحسينات: فإن تركها لا يؤدي إلى ضيق، ولكن مراعاتها متفقة مع مبدأ الأخذ بما يليق، وتجنب ما لا يليق، ومتمشية مع مكارم الأخلاق ومحاسن العادات"[92] .
والتحسين نوعان: الأول: ما لا يقع على معارضة قاعدة شرعية كالمقصود من تحريم القاذورات، فإن نفرة الطباع عنها لخساستها مناسب لحرمة تناولها حثاً للناس على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات، والشيم، وكسلب العبد أهلية الشهادة وليس إلى سلب أهليته حاجة ولا ضرورة، لأنها لو قبلت في حال العدالة لكان ذلك كقبول فتواه وروايته، ولكنه مستحسن في العادة لتنقيص الرقيق عن هذا المنصب الشريف؛ لأن الشهادة بنفوذها على الغير صارت منصباً علياً، ومقاماً سامياً لا يليق بالرقيق. والثاني: ما يقع على معارضة قاعدة معتبرة كالكتابة فإنها وإن كانت مستحسنة؛ لأنها عون على حصول العتق وإزالة الرق عن البشرية المكرمة من بني آدم فهي من مكارم الأخلاق، وتتمَّات المصالح إلا أنها في الحقيقة بيع الرجل ماله بماله وذلك غير معقول[93].

أمثلة المقاصد التحسينية:
- فيما يتعلَّق بحفظ الدين: شرعت أحكام النجاسات، والطهارات، وستر العورة، وما شابه ذلك.
- وفيما يتعلق بحفظ النفس: شرعت آداب الأكل والشراب، ومجانبة ما استخبث من الطعام، والابتعاد عن الإسراف والتقتير.
- وفيما يتعلق بحفظ المال: شرع المنع من بيع النجاسات، وفضل الماء والكلأ.
- وفيما يتعلق بحفظ النسب: شرعت أحكام الكفاءة في اختيار الزوجين، وآداب المعاشرة بينهما[94] .

أهمية ترتيب هذه المقاصد:
تبرز أهمية ترتيب المقاصد بالصورة المتقدمة: الضرورية ثم الحاجية ثم التحسينية فيما يلي:
أولاً: إن معرفة مقصد الشارع من الحكم الشرعي يعين على فهم النص على وجهه الصحيح، ومن ثم تساعد على حسن تنزيله على الوقائع سواء من جهة الاهتداء بفهم المقصد العام في تنزيل الحكم الكلي على الجزئيات، أو الترجيح بين ما ظاهره التعارض.

ثانياً: إن هذا التقسيم يحدد مراتب الأحكام الشرعية بحسب المقصود منها، فالضروريات مقدمة على الحاجيات، والحاجيات مقدمة على التحسينيات، والنازل مكمل للعالي، فلا يراعى الحكم النازل كالتحسيني مثلاً إذا عاد على الحاجي أو الضروري بالإخلال، أما الضروري فلا يجوز الإخلال به إلا إذا أخل بكلي أهم منه كالتضحية بالنفس في الجهاد للحفاظ على الدين[95] .

القواعد المنظمة للعلاقة بين المقاصد الثلاثة:
أولاً: المقاصد الضرورية في الشريعة أصل للحاجية والتحسينية:
بيان هذه القاعدة: أن مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على المقاصد الخمسة المتقدمة، فإذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود. وكذلك الأمور الأخروية لا قيام لها إلا بذلك. فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى، ولو عدم المكلف لعدم من يتدين. ولو عدم العقل لارتفع التدين، ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء، ولو عدم المال لم يبق عيش. وإذا ثبت هذا فالأمور الحاجية إنما هي حائمة حول هذا الحمى؛ إذ هي تتردد على الضروريات تكملها، بحيث ترتفع في القيام بها المشقات، وتميل بهم فيها إلى التوسط والاعتدال في الأمور، حتى تكون جارية على وجه لا يميل إلى إفراط ولا تفريط.

فإذا فُهِمَ هذا لم يرتّب العاقل في أن هذه المقاصد الحاجية فروع دائرة حول المقاصد الضرورية. وهكذا الحكم في التحسينية؛ لأنها تكمل ما هو حاجي أو ضروري. فإذا كملت ما هو ضروري فظاهر. وإذا أكملت ما هو حاجي فالحاجي مكمل للضروري، والمكمل للمكمل مكمل. فالتحسينية إذن كالفرع للأصل الضروري.

أمثلة هذه القاعدة:
- ما نص عليه الحنفية والشافعية من جواز التداوي بالنجاسات، إذا لم يجد المريض طاهراً يقوم مقام الدواء النجس؛ لأن ترك تناول النجاسات هو من المصالح التحسينية، وحفظ الإنسان وتحقيق سلامته من الآفات هو من الضروريات أو الحاجيات على أقل تقدير، والتحسينيات متأخرة في الرتبة والاعتبار عن الضروري والحاجي، وقد نبه العز على ذلك بقوله: إن حفظ الأرواح أكمل مصلحة من اجتناب النجاسات.

- ما اتفق عليه الفقهاء من جواز نظر الطبيب إلى العورة ولمسها للتداوي، وسند ذلك: الموازنة بين المفسدة الناشئة عن كشف العورة والمتعلقة بمرتبة التحسينيات، وبين المفسدة الناشئة عن عدم التداوي والمتعلقة بالضروريات إن كان يترتب عليها حفظ النفس أو الحاجيات إن ترتب على عدم التداوي الوقوع بالمشقة الحرج، وكلا المترتبتين مقدمة على المرتبة التحسينية.

ثانياً: اختلال الضروري بإطلاق يلزم منه اختلال الحاجي والتحسيني:
بيان هذه القاعدة: إذا ثبت أن الضروري هو الأصل المقصود، وأن ما سواه مبني عليه، كوصف من أوصافه، أو كفرع من فروعه لزم من اختلاله اختلال الباقيين؛ لأن الأصل إذا اختل اختلّ الفرع من باب أولى. وقد مثل الشاطبي على هذه القاعدة بقوله: إذا سقط عن المغمى عليه أو الحائض أصل الصلاة لم يمكن أن يبقى عليهما حكم القراءة فيها أو التكبير. ومن هنا يعرف مثلاً أن الصلاة إذا ارتفعت ارتفع ما هو تابع لها ومكمل، من القراءة والتكبير والدعاء وغير ذلك.

فلا يصح أن يقال: إن أصل الصلاة هو المرتفع، وأوصافها بخلاف ذلك. ولكن يبدو أن الشاطبي لم يدرك أن هذه الأمثلة التي ساقها لا تعلق لها بالحاجي ولا التحسيني، وإنما تعتبر من مكملات الضروري، وربما ساق الشاطبي هذه الأمثلة ليؤكد أن المكمل يختل باختلال مكمله، وكان عليه أن يسوق أمثلة تعتبر مكملة للضروريات كما أنها تعتبر في مرتبة الحاجيات أو التحسينيات.

أمثلة هذه القاعدة:
- إذا فرض سقوط فرض الصلاة عن المكلف كأن تكون حائضاً مثلاً، فإنه يسقط عنها كل مكمل لتلك الصلاة، سواء أكان حاجياً كالقصر والجمع بالنسبة للمسافر، أم تحسينياً كالطهارة وستر العورة.

- إذا ارتفع أصل البيع واعتبرناه ضرورياً سقط بسقوط هذا الأصل ما عداه من المعاملات الحاجية، كالسلم، والقراض، والاستصناع[96] ، وغيرها.

ثالثاً: لا يلزم من اختلال الحاجي والتحسيني اختلال الضروري بإطلاق:
بيان هذه القاعدة: أن الضروري مع غيره كالموصوف مع أوصافه. ومن المعلوم أن الموصوف لا يرتفع بارتفاع بعض أوصافه. إلا إذا كان الوصف المكمل ركناً أو شرطاً ذاتياً؛ فحينئذ يترتب على عدمه فوات الأصل. فينخرم الأصل بانخرام قاعدة من قواعده، كما في الركوع والسجود ونحوهما في الصلاة، فإن الصلاة تنخرم من أصلها بانخرام شيء منها بالنسبة إلى القادر عليها، وهذا لا نظر فيه.

أمثلة هذه القاعدة:
- الصلاة إذا بطل منها الذكر أو القراءة أو التكبير لا يبطل أصل الصلاة.

رابعاً: قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق اختلال الحاجي بوجه ما، وقد يلزم من اختلال الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجهٍ ما:
بيان هذه القاعدة من وجهين:
- أن كل واحدة من هذه المراتب لما كانت مختلفة في تأكد الاعتبار - فالضروريات آكدها ثم الحاجيات والتحسينيات - وكان مرتبطاً بعضها ببعض؛ صار الأخف كأنه حمى للآكد، والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه. فالمخل بما هو مكمَّل كالمخل بالمكمَّل من هذا الوجه، فالمتجرئ على الأخف بالإخلال به معرض للتجرؤ على ما سواه. فكذلك المتجرئ على الإخلال بها يتجرأ على الضروريات، فيكون في إبطال الكمالات بإطلاق إبطال الضروريات بوجهٍ ما.

مثال ذلك: لو تصوّر أن المكلف لا يأتي بمكملات الصلاة، من قراءة السورة الثانية، والمحافظة على الأذكار والسنة، واقتصر على ما هو فرض في الصلاة، لم يكن في صلاته ما يستحسن، وكانت إلى اللعب أقرب.

- أن كل حاجي وتحسيني إنما هو خادم للأصل الضروري، ومؤنس به، ومحسن لصورته الخاصة: إما مقدمة له، أو مقارناً، أو تابعاً. فهو يدور بالخدمة حواليه، فهو أحرى أن يتأدى به الضروري على أحسن حالاته.

مثال ذلك: الصلاة إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهُّبٍ لأمرٍ عظيمٍ، فإذا استقبل القبلة أشعَرَ التوجُّهُ بحضورِ المتوجه إليه، فإذا أحضر نيةَ التعبُّدِ أثمَرَ الخضوع والسكون، ثم يدخل فيها بزيادة السورة خدمةً لفرضٍ أم القرآن، وإذا كبر وسبح وتشهد فذلك كله تنبيه للقلب وإيقاظ له أن يغفل عما هو فيه من مناجاة ربه والوقوف بين يديه. فلو قدم قبلها نافلة كان ذلك تدريجاً للمصلي واستدعاء للحضور في الفريضة.

خامساً: إذا حوفظ على الضروري، فينبغي الحفاظ على الحاجي، وإذا حوفظ على الحاجي، فينبغي الحفاظ على التحسيني؛ إذ ثبت أن التحسيني يخدم الحاجي، وأن الحاجي يخدم الضروري، فإن الضروري هو المطلوب.

بيان هذه القاعدة: أن المحافظة على المقاصد الضرورية لا تكمل إلا بالمحافظة على المقاصد الحاجية والتحسينية أيضاً، أن الإخلال بأي من هاتين المرتبتين بإطلاق يفضي إلى الإخلال بالضروري ذاته.

وإذا كان لا بُدَّ للحاجيات والتحسينيات من أصل تستند إليه، فإن الضروريات هي أصل لهاتين المرتبتين، ولا يلزم كون كل من الحاجيات والتحسينات أنقص رتبة من الضروريات الاستهانة بأي من هاتين الرتبتين أو المسائل المتفرعة عنها؛ ذلك أن الإخلال بالمرتبة الأقل سبب إلى الإخلال بالمرتبة الأعلى. وهذه القاعدة بيانها كما قال الشاطبي: ظاهر مما تقدم، ولذلك فأمثلة القواعد المتقدمة صالحة للتمثيل لها[97] .
ــــــــــــــــــــــ
[1] بين علمي أصول الفقه والمقاصد، مرجع سابق، ص172.
[2] أي يفضي إلى استمرار الجاني في جنايته، وعدم ردع غيره عن التلبس بها.
[3] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص165.
[4] المرجع السابق، ص51.
[5] المرجع السابق، ص168.
[6] النساء، آية 83.
[7] الحجرات، آية 9.
[8] الأسس العامة لفهم النص الشرعي، مرجع سابق، ص43.
[9] في الاجتهاد التنزيلي، د. بشير بن مولود جحيش، ص77.
[10] الاجتهاد المقاصدي، مرجع سابق، ج1 ص53.
[11] الموافقات، مرجع سابق، 200.
[12] المرجع السابق، ص200.
[13] انظر : بين علمي أصول الفقه والمقاصد، مرجع سابق، ص137.
[14] الاجتهاد المقاصدي، مرجع سابق، ج1 ص53.
[15] الموافقات، مرجع سابق، ص401.
[16] المرجع السابق، ص301.
[17] وسيأتي تفصيلها مع قسيميها لاحقاً.
[18] مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص41.
[19] المرجع السابق، ص41.
[20] بين علمي أصول الفقه والمقاصد، مرجع سابق، ص143.
[21] الاجتهاد المقاصدي، مرجع سابق، ج1 ص54.
[22] مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص41، الاجتهاد المقاصدي، مرجع سابق، ج1 ص54.
[23] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص 402.
[24] الواجب الكفائي يعرفه بعض الأصوليين : هو ما كان نظر الشارع فيه إلى الفعل بغض النظر عن الفاعل. بمعنى أنه واجب على الجميع، ولكن يسقط هذا الواجب بفعل البعض. انظر : الوجيز في أصول التشريع الإسلامي، د. محمد حسن هيتو، ص63.
[25] الموافقات، مرجع سابق، ص306، بين علمي أصول الفقه والمقاصد، مرجع سابق، ص146.
[26] الموافقات، مرجع سابق، ص306.
[27] البقرة، آية 185.
[28] أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، رقم 39.
[29] بين علمي أصول الفقه والمقاصد، مرجع سابق، ص144، الاجتهاد المقاصدي، مرجع سابق، ج1 ص55، وانظر للتفصيل : مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص138.
[30] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص143.
[31] قواعد الأحكام في مصالح الأنام، عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، ج2 ص160.
[32] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص146.
[33] الاجتهاد المقاصدي، مرجع سابق، ج1ص55.
[34] المستصفى، مرجع سابق، ج2ص481.
[35] دراسة في فقه مقاصد الشريعة، مرجع سابق، ص29.
[36] بين علمي أصول الفقه والمقاصد، مرجع سابق، ص142.
[37] الموافقات، مرجع سابق، ص202.
[38] قال - رحمه الله : "ومقصود الشرع من الخلق خمسة : وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم". انظر : المستصفى، مرجع سابق، ج2ص482.
[39] قال - رحمه الله: "ومجموع الضروريات خمسة، وهي : حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل". انظر : الموافقات، مرجع سابق، ص203.
[40] قال - رحمه الله - مقرراً ما قاله من سبقه من العلماء: "وقد مثل الغزالي - في المستصفى - وابن الحاجب، والقرافي، والشاطبي هذا القسم الضروري بحفظ الدين والنفوس والعقول والأموال والأنساب". انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص233.
[41] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص234، وبين علمي أصول الفقه والمقاصد، مرجع سابق، ص140.
[42] انظر: في الاجتهاد التنزيلي، مرجع سابق، ص78.
[43] دراسة في فقه مقاصد الشريعة، مرجع سابق، ص27.
[44] قال - رحمه الله: "وأما حفظ العرض في الضروري فليس بصحيح. والصواب أنه من قبيل الحاجي. وإن الذي حمل بعض العلماء - مثل تاج الدين السبكي في جمع الجوامع - على عده في الضروري هو ما رأوه من ورود حد القذف في الشريعة. ونحن لا نلتزم الملازمة بين الضروري وبين ما في تفويته حد ". انظر : مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص240.
[45] قال - حفظه الله: "والحقيقة أن جعل العرض ضرورة سادسة توضع إلى جانب ضرورات : الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال، إنما هو نزول بمفهوم الضرورات، وبمستوى ضرورتها للحياة البشرية، كما أنه نزول عن المستوى الذي بلغه الإمام الغزالي في تحريره المركز والمنقح لهذه الضرورات الكبرى. فبينما جعل الضروري هو حفظ النسل نزل بعض المتأخرين إلى التعبير بالنسب، ثم إلى إضافة العرض، وهل حفظ الأنساب وصون الأعراض إلا خادم لحفظ النسل ؟ ". انظر : المقاصد الضرورية بين مبدأ الحصر ودعوى التغيير، عبد النور بزا، مجلة إسلامية المعرفة، العدد 45، 2007م.
[46] مجموع الفتاوى، ج32 ص234.
[47] دراسة في فقه مقاصد الشريعة، مرجع سابق، ص28.
[48] انظر : المقاصد الضرورية بين مبدأ الحصر ودعوى التغيير.
[49] المقاصد الضرورية بين مبدأ الحصر ودعوى التغيير، مرجع سابق.
[50] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص232.
[51] المقاصد الضرورية بين مبدأ الحصر ودعوى التغيير، مرجع سابق.
[52] انظر تفصيل ذلك في المرجع السابق.
[53] الزركشي رتب الكليات الخمس على النحو التالي : النفس، المال، النسل، الدين، العقل.
[54] المدخل إلى دراسة المذاهب الفقهية، د. علي جمعة محمد، ص316.
[55] المرجع السابق، ص317.
[56] التوحيد والتزكية والعمران : محاولات في الكشف عن القيم والمقاصد القرآنية الحاكمة، د. طه جابر العلواني، ص114.
[57] مقاصد الشريعة، د. طه جابر العلواني، مرجع سابق، ص82.
[58] انظر : المقاصد الضرورية بين مبدأ الحصر ودعوى التغيير، مرجع سابق.
[59] الموافقات، مرجع سابق، ص228.
[60] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص236.
[61] الموافقات، المرجع السابق، ص202.
[62] مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص56، علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص81، الموافقات، مرجع سابق، ص202.
[63] مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص58، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص110.
[64] الملك، آية 14.
[65] مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص63، علم المقاصد ا لشرعية، مرجع سابق، ص81.
[66] أي النفوس.
[67] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص236.
[68] الزمر، آية 9.
[69] طه، آية 114.
[70] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص238.
[71] دراسة في فقه مقاصد الشريعة، مرجع سابق، ص29.
[72] البخاري، كتاب النكاح، رقم 4776.
[73] العنكبوت، آية 29.
[74] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص239.
[75] مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص92.
[76] البقرة، آية 282.
[77] الفرقان، آية 67.
[78] الموافقات، مرجع سابق، ص203.
[79] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص241.
[80] ضوابط المصحلة في الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص111.
[81] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص241.
[82] الرخصة في الشرع : ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح. انظر : شرح الكوكب المنير، ج1ص478.
[83] القراض ويسمى المضاربة في لغة أهل العراق : هو أن يدفع مالاً إلى العامل ليتجر فيه والربح مشترك. انظر : مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج، الخطيب الشربيني، ج3 ص397.
[84] وهو أن يسلم عوضاً حاضراً، في عوض موصوف في الذمة إلى أجل، ويسمى سلماً، وسلفاً، يقال : أسلم، وأسلف، وسلف - بالتشديد -. انظر : المغني، موفق الدين ابن قدامة المقدسي، ج4 ص185.
[85] المساقاة : هي معاملة على تعهد شجر بجزء من ثمرته من السقي الذي هو أهم أعمالها. انظر : تحفة المحتاج في شرح المنهاج، أحمد بن علي بن حجر الهيتمي، ج6 ص106.
[86] ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص111.
[87] بناء على تصنيفه حفظ العرض في المقاصد الحاجية وليست الضرورية، وقد تقدم ذكر الخلاف فيه.
[88] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، ص241.
[89] المستصفى، مرجع سابق، ج2ص485.
[90] الموافقات، مرجع سابق، ص203.
[91] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص243.
[92] ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص111.
[93] المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص164.
[94] المرجع السابق، ص111.
[95] في الاجتهاد التنزيلي، مرجع سابق، ص83.
[96] الاستصناع في الاصطلاح عرفه بعض الحنفية بأنه : عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل. فإذا قال شخص لآخر من أهل الصنائع : اصنع لي الشيء الفلاني بكذا درهم، وقبل الصانع ذلك، انعقد استصناعاً عند الحنفية، وكذلك الحنابلة، حيث يستفاد من كلامهم أن الاستصناع : بيع سلعة ليست عنده على غير وجه السلم، فيرجع في هذا كله عندهم إلى البيع وشروطه عند الكلام عن البيع بالصنعة. أما المالكية والشافعية : فقد ألحقوه بالسلم، فيوخذ تعريفه وأحكامه من السلم. انظر : الموسوعة الفقهية، ج3 ص325.
[97] انظر : الموافقات، مرجع سابق، ص206-213، وقواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، مرجع سابق، ص205-232.


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/6265/#ixzz2ZECpiIZY

الأستاذة 19
2013-07-16, 17:52
مكملات المقاصد: هي جملة الأحكام التي تجعل المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية تامة وكاملة ومكتسبة على أحسن الوجوه وأفضلها[1].

أقسام المكملات:
أولاً: مكملات المقاصد الضرورية: وهي الأحكام التي تجعل المقاصد الضرورية تامة وكاملة ومكتسبة على أحسن الوجوه وأفضلها. ويدخل فيها: المقاصد الحاجية ومكملاتها، فإن الحاجيات كالتتمة للضروريات، وكذلك المقاصد التحسينية ومكملاتها، فإن التحسينيات كالتكملة للحاجيات، والمكمل للمكمل مكمل للأصل[2]، وغيرها.

أمثلتها:
- فيما يتعلق بحفظ الدين: إظهار شعائره وسننه ومستحباته ومظاهره المختلفة، تحريم البدعة، معاقبة الداعي إلى البدعة.
- فيما يتعلق بحفظ النفس: التماثل في القصاص.
- فيما يتعلق بحفظ العقل: تحريم شرب القليل من المسكر وإيجاب الحد فيه.
- فيما يتعلق بحفظ النسل: تحريم النظر إلى الأجنبية، وتحريم مسها والاختلاء بها.
- فيما يتعلق بحفظ المال: تحريم الربا، والإشهاد في البيع، والقيام بالرهن[3].

ثانياً: مكملات المقاصد الحاجية: وهي الأحكام التي تجعل المقاصد الحاجية تامة وكاملة ومكتسبة على أحسن الوجوه وأفضلها. ويدخل فيها: المقاصد التحسينية ومكملاتها، وغيرها[4].

أمثلتها[5]:
- الجمع بين الصلاتين في السفر والمرض.
- مراعاة الكفء ومهر المثل في الصغيرة.
- خيار البيع.
فهذا وأمثاله كالمكمل للمقاصد الحاجية؛ إذ لو لم يشرع لم يخل بأصل التوسعة والتخفيف[6].

ثالثاً: مكملات المقاصد التحسينية: وهي الأحكام التي تجعل المقاصد التحسينية تامة وكاملة ومكتسبة على أحسن الوجوه وأفضلها[7].
أمثلتها[8]:
- آداب الأحداث، ومندوبات الطهارة.
- الإنفاق من طيبات المكاسب.
- الاختيار في الضحايا والعقيقة.
- الاختيار في العتق.

شرط المكمل[9]:
كل تكملة فلها - من حيث هي تكملة - شرط، وهي: أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال. وذلك أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها، فلا يصح اشتراطها عند ذلك، وذلك لوجهين:
الأول: أن في إبطال الأصل إبطال التكملة؛ لأن التكملة مع ما كملته كالصفة مع الموصوف.

فإذا كان اعتبار الصفة يؤدي إلى ارتفاع الموصوف لزم من ذلك ارتفاع الصفة أيضاً.

الثاني: لو قدرنا أن المصلحة التكميلية تحصل مع فوات المصلحة الأصلية، لكان حصول الأصلية أولى لما بينهما من التفاوت.

وبيان ذلك بالمثال:
- أن حفظ النفوس مهم وكلي، وحفظ المروءات مستحسن، فحرمت النجاسات حفظاً للمروءات، وحمل أهلها على محاسن العادات، فإن دعت الضرورة إلى إحياء حفظ النفوس بتناول النجس، كان تناوله أولى[10].

- إقامة الجهاد مصلحة ضرورية لحفظ بيضة الأمة، وإقامته مع الولاة العدول مكمل لتلك المصلحة، وأجاز العلماء الجهاد مع ولاة الجور؛ لأن اشتراط العدول لإقامة الجهاد سيفوت أصلية الجهاد، ويفضي إلى تفويت مصالح الأمة وبيضتها، فلذلك يفوت المكمل وهو الجهاد مع العدول من أجل الحفاظ على أصل الجهاد[11].

محترزات المقاصد[12]:
تقدم معنا أن المقاصد المعتبرة ما يترتب عليها حفظ الكليات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وما هو ثابت وراءها ومكمل لها، وهناك ما هو خارج عن إطار هذه المقاصد المعتبرة - وإن كان هناك من يدعي أنه دائر في إطارها -، ويمكن توضيحه من خلال بيان المحترزات الخارجة عن هذه المقاصد، وهي تنقسم إلى نوعين:
الأول: ما يخالف في جوهره المقاصد الخمسة المذكورة، كالتحلل من قيود العبادات، والقصد إلى متعة الزنا، والاعتداء على النفس المحرمة بدون حق، وتعاطي المسكرات. فكل ذلك وإن شابه المصلحة من حيث كونه مشتملاً على بعض اللذائذ، ولكنه داخل في الحقيقة ضمن نطاق المفاسد. إذ هو مناقض للمقاصد الخمسة.

الثاني: ما لا يخالف في جوهره المقاصد الخمسة، ولكنه ينقلب بسبب سوء القصد إلى وسيلة لهدم تلك المقاصد أو الإخلال بها.

ومن أمثلة ذلك: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله "[13]، فظاهر الجهاد واحد، ولكنه يتردد بين المصلحة والمفسدة حسب اختلاف القصد، ومثل هذا سائر الطاعات والعبادات التي يحبطها الرياء، إذ هي بدلاً من أن تحرز لصاحبها الأجر تعرضه للعقوبة.

بين المقاصد والمصالح المرسلة:
تقدم معنا معنى المصلحة في مبحث علاقة المقاصد بالمصطلحات ذات الصلة، فيمكن الرجوع إليه في موضعه، وحسبنا في هذا الموضع أن نسوق معنى المصلحة المرسلة لكون علاقته بالمقاصد وثيقة، ثم نبين الخلاف في حجية هذا الأصل، وترجيح القول فيه مع بيان الأدلة في ذلك، ثم نبين وجه العلاقة بينه وبين مقاصد الشريعة.

أقسام المصالح من جهة اعتبارها وعدمه[14]:
المصالح من حيث شهادة الشرع لها بالاعتبار[15] أو الإلغاء أو السكوت عن الاعتبار والإلغاء تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: المصلحة المعتبرة:
وهي المصلحة التي اعتبرها الشارع وجاءت الأدلة بطلبها من الكتاب والسنة أو الإجماع أو القياس، ورتب عليها أحكاماً لتحقيقها ومراعاتها من أجل المحافظة على مقصود الشرع في جلب المصالح أو دفع المفاسد والمضار، وهذا القسم حجة لا إشكال في صحته، ويرجع حاصله إلى القياس وهو اقتباس الحكم من معقول النص أو الإجماع، ومثالها[16]: حفظ العقل، فإنه مصلحة اعتبرها الشارع، فرتب عليها تحريم الخمر حفظاً لها، فيقاس على الخمر في التحريم كل ما أسكر من مشروب أو مأكول، حفظاً لهذه المصلحة. وكذلك حفظ النفس، فإنه مصلحة اعتبرها الشارع، فرتب عليها وجوب القصاص في القتل بالمحدد، وجعل لانضباط ذلك أوصافاً، وهو أن يكون القتل عمداً عدواناً، فيقاس على القتل بالمحدد في وجوب القصاص، القتل بالمثقل، بجامع القتل العمد العدوان، حفظاً لمصلحة حفظ النفس.

الثاني: المصلحة الملغاة:
وهي المصلحة التي ألغاها الشارع فلم يعتبرها، وإن رآها العبد مصلحة في نظره، لأنها مصالح من حيث الظاهر، وتخفي وراءها أضراراً ومفاسد ومخاطر دينية واجتماعية وغيرها، وهذا القسم ليس بحجة، بل إن هذا النوع من المصلحة مما اتفق على إبطاله وامتناع التمسك به، إذ المصلحة لا تقتضي الحكم بنفسها على وجه يستقل العقل باعتبارها مصلحة مجردة عن عرضها على الشرع ليشهد لها أو يردها. فإذا كان الشرع يشهد بإلغائها فلا شك في إبطالها، لأن في اعتبارها مخالفة لنصوص الشرع بالمصلحة، وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصها.

ومثالها: ما حكاه الشاطبي عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السلاطين فسأله عن الوقاع في نهار رمضان، فقال: عليك صيام شهرين متتابعين. فلما خرج راجعه الفقهاء وقالوا له: القادر على إعتاق الرقبة كيف يعدل به إلى الصوم، والصوم وظيفة المعسرين، وهذا الملك يملك عبيداً غير محصورين؟ فقال لهم: لو قلت له عليك إعتاق رقبة لاستحقر ذلك وأعتق عبيداً مراراً، فلا يزجره إعتاق الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعين. فهذا المعنى مناسب، لأن الكفارة، مقصود الشارع منها الزجر، والملك لا يزجره الإعتاق ويزجره الصيام. وهذه الفتيا باطلة لأن العلماء بين قائلين: قائل بالتخيير، وقائل بالترتيب، فيقدم العتق على الصيام، فتقديم الصيام بالنسبة إلى الغني لا قائل به[17].

ومثالها أيضاً الربا فإن فيه مصلحة ظاهرية آنية للمقرض بالفائدة وللمستقرض بالاستفادة من المال، ومثل قتل المريض اليائس من الشفاء، وشرب المسكرات للنشوة، أو المخدرات للتأمل الخيالي والهرب من الواقع، ففي كل منها مصلحة، ولكنها تنطوي على الشر والفساد، وتخفي في طياتها الضرر والخراب، فنص الشارع على إلغاء المصلحة فيها وعدم اعتبارها[18]، ومثالها أيضاً ما يظن البعض من أن المصلحة تقضي بمساواة الأنثى للذكر في الميراث، إذا كانا أخوين شقيقين، فهذه مصلحة متوهمة ألغى الشارع اعتبارها بما شرعه من أن للذكر مثل حظ الأنثيين، قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}[19]، ولا خلاف بين الفقهاء أن المصالح الملغاة لا يصح بناء الأحكام عليها[20].

الثالث: وأما القسم الثالث من أقسام المصلحة، وهو ما لم يشهد له الشرع باعتبار ولا بإلغاء، بل سكتت عنه الشواهد الخاصة في الشرع ( أي النصوص المعينة ) التي تدل على أحد الأمرين: الاعتبار أو الإلغاء، وهو المصلحة المرسلة، وهذا القسم سنحاول تسليط الضوء عليه في هذا المبحث بصورة مستفيضة لمعرفة علاقته بالمقاصد الشرعية.

الطوفي ودليل المصلحة:
الطوفي: هو نجم الدين سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم المشهور بالطوفي، فقيه، أصولي، لغوي، من علماء الحنابلة، ولد سنة 657هـ- بقرية طوف - أو طوفا - بالعراق، وتوفي سنة 716هـ- بالخليل من أعمال فلسطين، له مؤلفات كثيرة: من أشهرها كتابه شرح مختصر الروضة، وشرحه للأربعين النووية[21]، وقد اشتهر عنه أمران الأول: اتهامه بالتشيع والرفض، وسبب ذلك ما نسب إليه من قصائد وأشعار في هجاء الشيخين - أبي بكر وعمر رضي الله عنهما - وقد ناقش هذه المسألة باستفاضة الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي في مقدمة تحقيقه لشرح مختصر الروضة، فقال: " هذه النقول التي وردت عن اتهام الطوفي بالتشيع والرفض في مصادر ترجمته، ونظرة فاحصة إليها يتضح أن نجم الدين الطوفي كان قد احتل منزلة سامية بين علماء القاهرة، جعلت أستاذه سعد الدين الحارثي يكرمه، وينزله في دروس، ويبدو أن الطوفي في هذه الفترة كان كثير الهموم العلمية، تشغله مسائل لم يصل في دراستها إلى مرحلة النضج، ويلهب الشك فكره في بعض الأمور، وكان يرى وقوف العلماء على أنماط ثابتة، ورسوم موروثة، فلا يعجبه هذا.

وهو ما يفسر ما وقع بينه وبين أستاذه الحارثي من كلام في الدروس، اقتضى أن يقوم عليه ابن أستاذه، واستطاع خصومه أن يجمعوا من البينات، من فلتات لسانه، وبعض شعره، وربما زادوا فيه إلى الحد الذي أدى إلى تعزيره وحبسه، والتشهير به، ثم نفيه، وقد ذكر ابن رجب عن المطري، حافظ المدينة ومؤرخها، أن الطوفي بعد سجنه نفي إلى الشام، فلم يمكنه الدخول إليها، لأنه كان قد هجا أهلها وسبهم، فخشي منهم، فسار إلى دمياط، فأقام بها مدة، ثم توجه إلى الصعيد، إلا أن الدلائل كلها تشير بعد ذلك إلى استقامة فكره، ونضوج علمه، فلم ير منه الناس ولم يسمعوا ما يشين كما تقدم نقله. وأما ما ذكر ابن رجب أنه من دسائسه الخبيثة، فليس فيه ما يقوم دليلاً على اتهامه، وهو يحكي عن قوم رأيهم في نتائج تأخر تدوين السنة، ولو كان رافضياً، لما تحدث عن رواية الصحابة لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالشيعة لا يقرون من الحديث إلا ما جاء عن أئمتهم.

وأما قوله عن اتهامه بالرفض: إنه يلوح في كثير من تصانيفه، فكلام بغير بينة، وقد عقد الدكتور مصطفى زيد فصلاً نفى فيه عن الطوفي تهمة التشيع، ودرس كتبه الموجودة، ونقل نصوصاً كثيرة تنفي عنه التشيع والرفض، بل تقول في الرافضة أعنف مما يقول أعداؤهم... ولم أجد في كتابه هذا: ( شرح مختصر الروضة ) ما يؤيد صراحة تشيع الطوفي، بل وجدت أنه يترضى عن الصحابة رضوان الله عليهم وبخاصة الشيخين، ويصرح في أماكن باعتقاده بما يعتقده أهل السنة والجماعة، ويرد على الشيعة وآرائهم، ويبين أن الحق بخلافها "[22].

الثاني: تقديمه للمصلحة على النص مطلقاً، وهذا هو مقتضى كلامه في شرحه لحديث: "لا ضرر ولا ضرار"، وخلاصة ما ذهب إليه: أنه قسم الأحكام الشرعية إلى قسمين: القسم الأول: أحكام العبادات والمقدرات ونحوها، وهذا مما لا مجال للعقل في فهم معناه على التفصيل. والمعول عليه في هذا هو النص والإجماع ونحوهما من أدلة الشرع. القسم الثاني: أحكام المعاملات والعادات والسياسات الدنيوية وشبهها، مما للعقل مجال في فهم معناه والمقصود به.

والمعول عليه في هذا، المصلحة، أي جلب النفع ودفع الضر، إذ المصلحة من أدلة الشرع، بل هي عنده أقوى الأدلة وأخصها، فهي الدليل الشرعي الأساسي في المعاملات وشبهها، مما شرعت فيها الأحكام لجلب النفع للناس ودفع الضر عنهم وفهم العقل معناها والمقصود بها[23]. وخلاصة أدلة الطوفي:
- ما ورد من النصوص الدالة على أن الشارع ما قصد من تشريعه الأحكام إلا تحقيق مصالح الناس، وأنه راعاها واهتم بها.
- استدلاله بحديث: " لا ضرر ولا ضرار "[24]، وعول كثيراً عليه، وذلك أنه نص خاص قاطع في نفي الضرر، فإذا دل نص على حكم وكان تطبيقه يستلزم ضرراً خصص النص بما عدا هذه الواقعة عملاً بالحديث المتقدم.
- أن أدلة الشرع وسائل لتحقيق مصالح الناس، ورعاية المصلحة من ذلك، وتقديمها على غيرها تقديم لراجح على مرجوح.
- وقال في سبب تقديمها على النصوص والإجماع:
أ- إن منكري الإجماع قالوا بالمصالح، فهي محل وفاق، والإجماع محل خلاف.
ب- إن النصوص مختلفة متعارضة، ورعاية المصلحة أمر حقيقي في نفسه لا يختلف.
ج- إنه ثبت في السنة معارضة النصوص بالمصالح.

والواقع: أن هذه الأدلة لا يقوى شيء منها على التدليل لما ذهب إليه، وهي فروض لا رصيد لها من الواقع، ونصوص الشارع كلها مصالح للعباد، ويستحيل أن يرد نص بأمر فيه ضرر عليهم أو مفسدة. واختلاف النصوص وتعارضها إنما هو في نظر المجتهد، لا في الحقيقة والواقع، ثم إن المصالح أكثر اختلافاً، لأنها تتغير حسب عقول الناس، وبيئاتهم، وظروفهم وأهوائهم[25].

وقد ذهب بعض الباحثين[26] إلى القول: إن ترجيح الطوفي للمصلحة على النص ليس مطلقاً، وإنما مراده بالنص النص الظني لا القطعي، وسندهم في ذلك عبارات الطوفي نفسه في شرحه على حديث: " لا ضرر ولا ضرار " المتقدم، قال الدكتور حسين حامد حسان: " الذي نراه أن النص الذي يسلم الطوفي إمكان التعارض بينه وبين المصلحة. وبالتالي تقديم الأخيرة عليه هو النص الظني. أما النص الذي حصلت فيه القطعية من كل جهة فإن الطوفي يمنع تخالفه مع المصلحة، فضلاً عن أن يقول بتقديم المصلحة عليه. وسندنا في هذا الرأي هو العبارات التي قدم بها الطوفي مذهبه، وهي في نظرنا تفيد - إذا أخذت مجتمعة - أن الطوفي لا يرى فرض التخالف بين المصلحة والنص القطعي واقعاً. ومن ثم وجب تفسير مذهبه في ضوء هذه الحقيقة "[27].

وبالرغم من الخلاف بين الباحثين حول نظرية الطوفي في المصلحة، ومهما تكن دوافعه فيما كتب، فإن إطلاقه القول بتقديم المصلحة على النص فيه مخالفة لإجماع العلماء على التسليم المطلق لنصوص الكتاب والسنة، وأن المصلحة والخير والنعمة فيها، وأنه حينما تتضح دلالة النص لا يجوز تركه إلى شيء آخر. والكلام في المصالح واعتبارها لا يرد إلا عند عدم النصوص[28].

ــــــــــــــــــــ
[1] علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص94.
[2] المرجع السابق، ص95، الموافقات، مرجع سابق، ص207.
[3] علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص95.
[4] المرجع السابق، ص96.
[5] المرجع السابق، ص96.
[6] الموافقات، مرجع سابق، ص204.
[7] علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص97.
[8] المرجع السابق، ص97.
[9] الموافقات، مرجع سابق، ص204.
[10] المرجع السابق، ص205.
[11] علم المقاصد الشرعية، مرجع سابق، ص99.
[12] ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص114.
[13] أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، رقم 7020.
[14] انظر : الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي، ج3 ص311، روضة الناظر، مرجع سابق، ص169، المستصفى، مرجع سابق، ج2ص478، البحر المحيط، مرجع سابق، ج5ص213، المحصول في أصول الفقه، الرازي، ج5ص163، الاعتصام، الشاطبي، ج2 ص113، ضوابط المصلحة، مرجع سابق، ص194، الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، د. محمد مصطفى الزحيلي، ص253، الجامع لمسائل أصول الفقه، د. عبد الكريم النملة، ص388، معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة، محمد بن حسين الجيزاني، ص242، مقاصد الشريعة عند ابن تيمية، يوسف البدوي، ص351، السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، د. يوسف القرضاوي، ص77، أضواء على الأصول العشرين للإمام حسن البنا، عصام أحمد البشير، ص96، العمل بالمصلحة، د. عبد العزيز الربيعة، ص86، بحث منشور في مجلة أضواء الشريعة، إصدار كلية الشريعة بالرياض، العدد العاشر، 1399هـ، المصلحة عند الحنابلة، سعد بن ناصر الشثري، ص275، بحث منشور في مجلة البحوث الإسلامية، إصدار رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، العدد 47.
[15] ذهب بعض أهل العلم إلى أن استخدام لفظ ( اعتبار ) يعد خطأ شائعاً من أخطاء الكتابة في عهد الآمدي، وصوابه لفظ ( عدّ )، إذ ليس من معاني ( اعتبر ) لفظ : عدّ، وهو ما جعل المعجم الوسيط يعدها مولدة. انظر : كل بدعة ضلالة، محمد المنتصر الريسوني، ص232.
[16] العمل بالمصلحة، مرجع سابق، ص92، المصلحة عند الحنابلة، مرجع سابق، ص293.
[17] الاعتصام، مرجع سابق، ج2ص113.
[18] الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، مرجع سابق، ص254.
[19] النساء، آية 11.
[20] نظرات في الشريعة، مرجع سابق، ص274.
[21] انظر تفصيل ترجمته في : الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، ابن حجر العسقلاني، ج2ص154، الأعلام، خير الدين الزركلي، ج3ص127، مقدمة الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي في تحقيقه شرح مختصر الروضة للطوفي، ج1ص21.
[22] مقدمة شرح مختصر الروضة، مرجع سابق، ج1ص35.
[23] العمل بالمصلحة، مرجع سابق، ص97.
[24] أخرجه مالك في الموطأ، رقم 1429، والحاكم في المستدرك، رقم 2345، والبيهقي في السنن، رقم 11116، والدارقطني في السنن، رقم 83، وصححه الشيخ الألباني في الإرواء، ج3ص408، رقم 896.
[25] أصول مذهب الإمام أحمد، مرجع سابق، ص491.
[26] منهم الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه : السياسة الشرعية، ص145، وعبد الرحمن يوسف القرضاوي في كتابه نظرية مقاصد الشريعة بين شيخ الإسلام ابن تيمية وجمهور الأصوليين، ص116.
[27] السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، مرجع سابق، ص146.
[28] أصول مذهب الإمام أحمد، مرجع سابق، ص493.



رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/6381/#ixzz2ZEElXYbj

الأستاذة 19
2013-07-16, 17:55
للمصلحة المرسلة عند العلماء إطلاقات أخر، فقد سماها بعضهم بالاستصلاح، والبعض الآخر بالمناسب المرسل، ومنهم من أطلق عليها لفظ الاستدلال، وهذه الإطلاقات على الرغم من كونها مترادفة باعتبار وحدة مقصودها وهو المصلحة المرسلة، إلا أن كلا منها نظر إليها من جهة معينة، فمن نظر إليها من جهة المصلحة المترتبة عليها عبر بالمصلحة المرسلة وهو الإطلاق الأشهر، ومن نظر إليها من جهة الوصف المناسب الذي يستوجب ترتيب الحكم عليه تحقيق تلك المصلحة عبر بالمناسب المرسل، ومن نظر إليها من جهة بناء الحكم على الوصف المناسب أو المصلحة عبر بالاستصلاح أو الاستدلال[1]، وقد عرفها العلماء عدة تعريفات متقاربة من حيث المعنى:
- فقد عرفها الغزالي بقوله: " ما لم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين"[2]، وهو نفس تعريف ابن قدامة[3].
- وعرفها الشاطبي بقوله: " ما سكتت عنه الشواهد الخاصة، فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه"[4].
- وعرفها الشنقيطي بقوله: " أن لا يشهد الشرع لاعتبار تلك المصلحة بدليل خاص ولا لإلغائها بدليل خاص"[5].
- وعرفها الدكتور البوطي بقوله: " كل منفعة داخلة في مقاصد الشارع دون أن يكون لها شاهد بالاعتبار أو الإلغاء "[6].
- وعرفها الدكتور عبد العزيز بن عبد الرحمن الربيعة بقوله: " هو استنباط الحكم في واقعة لا نص فيها ولا إجماع، بناء على مراعاة مصلحة مرسلة ( أي مطلقة ) بمعنى أنه لم يرد عن الشارع دليل معين على اعتبارها أو إلغائها "[7].

حجية المصالح المرسلة:
اتفق العلماء على أن المصالح المرسلة لا مدخل لها في العبادات والمقدرات، كالحدود والكفارات وفروض الإرث وشهور العدة بعد الموت أو الطلاق، وكل ما شرع محدداً واستأثر الشارع بعلم المصلحة فيما حدد به، أما العبادات فلكونها تعبدية في الأصل، ولا مدخل للعقل في إدراك المصلحة الجزئية لكل عبادة منها[8]، قال الشاطبي: " الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني. وأصل العادات الالتفات إلى المعاني. أما الأول فيدل عليه أمور: منها: الاستقراء؛ فإنا وجدنا الطهارة مخصوصة بالماء الطهور وإن أمكنت النظافة بغيره، وأن التيمم - وليست فيه نظافة حسية - يقوم مقام الطهارة بالماء المطهر. وهكذا سائر العبادات، كالصوم والحج وغيرهما.

ومنها: أنه لو كان المقصود التوسعة في وجوه التعبد بما حد وما لم يحد لنصب الشارع عليه دليلاً واضحاً كما نصب على التوسعة في وجوه العادات أدلة.

منها: أن وجوه التعبدات في أزمنة الفترات، لم يهتد إليها العقلاء اهتداءهم لوجوه معاني العادات. فقد رأيت الغالب فيهم الضلال فيها "[9]، وأما المقدرات فلأنها مثل أحكام العبادات، حيث استأثر الشارع بعلم المصلحة فيما حدد به، وحتى لو كان هناك سبيل لإدراك المصلحة والحكمة منها، لكن لا يمنع من القول إن الأصل فيها التعبد[10]، قال الطوفي: " أحكام العبادات والمقدرات التي لا مجال للعقل في فهم معانيها بالتفصيل، وهذه المعول عليه فيها نصوص القرآن والسنة وإجماع المجتهدين من الأمة... لأن العبادات حق للشرع خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كماً وكيفاً وزماناً ومكاناً إلا من جهته، فيأتي به العبد على ما رسم له"[11].

واختلف العلماء في حكم المصالح المرسلة - أي في بناء الأحكام عليها - فيما سوى العبادات والمقدرات، على ثلاثة مذاهب[12]:
الأول: المنع مطلقاً:
وذهب إليه بعض أهل العلم منهم أبو بكر الباقلاني[13]، والآمدي[14]، وابن الحاجب، وابن قدامة من الحنابلة، ونسبه الشوكاني إلى الجمهور[15]، وهو مذهب أكثر الشافعية، وفقهاء الحنفية، ومتأخري الحنابلة.

الثاني: الجواز مطلقاً[16]:
وذهب إليه مالك، وأحمد، والشافعي عند بعض العلماء دون البعض الآخر، وبعض الشافعية، ومعظم الحنفية، ومتقدمو الحنابلة وبعض المتأخرين منهم.

الثالث: جوازها بشروط:
وذهب إليه الغزالي[17] والبيضاوي إذا كانت المصلحة قطعية، كلية، ضرورية.

أدلة القائلين بالمنع:
الأول:أن الله - سبحانه - لم يترك الخلق سدى، من غير أن يشرع لهم كل ما يكفل تحقيق مصالحهم، بل شرع لهم ذلك، وذلك بالأحكام التي نص عليها في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبالأحكام التي هدى إليها أهل العلم فلم يختلفوا فيها، وهي الأحكام التي سندها الإجماع، وأرشدهم إلى أنهم إن تنازعوا في شيء مما ليس فيه حكم لله ولا لرسوله ولم يجمع أهل العلم على حكم فيه أن يردوه إلى حكم الله ورسوله، وذلك يكون بالقياس أو بأي طريق من طرق رده إلى حكم لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. وبهذا كفل الله لخلقه تحقيق مصالحهم، وأكمل لهم دينهم، وأتم عليهم نعمته، وامتن عليهم بذلك، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[18].

والقول بحجية المصلحة المرسلة يعني أن هناك مصالح للخلق باقية، لم يكفلها ما شرعه الله وما أرشد إلى سلوكه في حال التنازع فيما ليس فيه شرع الله، وهذا يتنافي مع إكمال الدين، وإتمام النعمة التي تفضل الله بها على عباده. فالقول باستناد الأحكام إلى المصالح المرسلة زائد لا حاجة إليه، وبهذا يتبين أنها ليست حجة في استنباط الأحكام[19].

والجواب عليه: أن المصلحة المرسلة وإن كانت مرسلة عن دليل معين خاص نص عليها، فإنها داخلة في إطار الدليل العام والمجمل، فالأدلة شاهدة على جنسها وإن لم تشهد على عينها.

الثاني: أن المصالح منقسمة إلى ما عهد من الشارع اعتبارها وإلى ما عهد منه إلغاؤها. والمصالح المرسلة مترددة بين هذين القسمين، وليس إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر، فامتنع الاحتجاج به دون شاهد بالاعتبار يعرف أنه من قبيل المعتبر دون الملغى. ثم إن في هذا مجالاً للأهواء والشهوات والأغراض، فقد يغلب على المرء هواه فيرى المفسدة مصلحة، والمضرة منفعة، وقد تخفى على العقل بعض وجوه الضرر والفساد، فيحكم على غير علم تام، فالإنسان مهما كمل، لا يأمن من أن يغلب هواه عليه، وأن يزين له السوء حسناً، والعقل مهما نضج، لا يأمن من أن تخفى عليه بعض وجوه النفع والضرر.

والجواب عليه من وجهين:
- أن هذه المصلحة وإن كانت مرسلة عن دليل معين من الشارع على اعتبارها، إلا أنها معتبرة منه على سبيل الجملة كما أوضحنا في الجواب على الدليل الأول، فكان إلحاقها بالمعتبر أولى من إلحاقها بالملغي.

- أن عدم الاحتجاج بالمصلحة المرسلة يعني إلحاقها بالمصالح الملغاة، وليس إلحاقها بها أولى من إلحاقها بالمصالح المعتبرة إذ هو ترجيح بلا مرجح[20].

الثالث: إن المعاني إذا حصرتها الأصول وضبطتها المنصوصات كانت منحصرة في ضبط الشرع. وإذا لم يشترط استنادها إلى الأصول لم تنضبط، واتسع الأمر، وصار الشرع مرجوعه إلى وجوه الرأي من الناس، من غير اعتماد واستناد إلى أصل شرعي، فيرى كل إنسان وجهاً، ويعتمد شيئاً سوى ما يراه ويعتمده صاحبه، ويصير إذا أهل الرأي في هذا بمنزلة الأنبياء، فيفعل كل إنسان ما يراه ويعتقده صلاحاً في المعنى الذي سنح له، فيصير ذلك ذريعة إلى إبطال الشريعة بالرأي وإن كان صاحبه يرى فيه المصلحة والمنفعة[21].

والجواب عليه: أن بناء الحكم على مجرد المصلحة المرسلة وعدم العلم بأن الشرع قد أثبت هذا الحكم حفظاً لهذه المصلحة، لا يعتبر وضعاً للشرع بالرأي، بل هو طريق من الطرق الشرعية التي أمر الله بالرد إليها عند التنازع. ثم إن الشارع حافظ على كل واحدة من المصالح بالحكم المناسب لحفظها ولا يلزم أنه ينص على حكم بعينه، والمجتهد في المصلحة المرسلة مأمور ببذل الجهد في اختيار الحكم الأنسب لحفظ المصلحة، وهي وظيفة أناطها الله بالعلماء وفق النظر في مقاصد التشريع وقواعده العامة[22].

الرابع: إن الحكم إذا ثبت لمصلحة اقتضته ثم عدمت المصلحة، فإما أن يقال: انعدم الحكم، وهذا يفضي إلى جعل الشريعة مختلفة الأزمان وذلك نسخ لها، وإما أن يقال: لم ينعدم، فهذا يفضي إلى ثبوت الحكم مع عدم علته الموجبة وهذا محال على اعتبار أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً[23].

والجواب عليه: أن الحكم المستنبط بدليل المصلحة المرسلة هو من قبيل الاجتهاد الذي يختلف الحكم فيه باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، فتغير الحكم فيه ليس معناه نسخ الشريعة، كما أن تغير الحكم يكون تبعاً لتغير علته، وتغير العلة منوط بتغير المصلحة، لأن الأحكام المبنية على مصلحة معينة تظل معتبرة ما بقيت هذه المصلحة، فإذا انتفت وجب أن يتغير الحكم تبعاً لها، وبناء الأحكام على المصالح الزمنية من أسباب تغيير الفتوى كما هو معلوم.

أدلة القائلين بالجواز:
الأول: ذكر السمعاني من أدلة مثبتي المصالح المرسلة قولهم: " أنا نعلم قطعاً أنه لا يجوز أن تخلو حادثة عن حكم الله تعالى، منسوب إلى شريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ببينة أنه لم يرد عن السلف الماضين أنهم أعروا وأخلوا واقعة عن بيان حكم فيها لله تعالى وتقدس، ونحن نعلم كثرة الفتاوى وازدحام الأحكام.

وقد استرسلوا في بث الأحكام استرسال واثق بانبساطها على جميع الوقائع، وقد تصدوا لإثباتها فيما وقع، وتشوفوا إلى إثباتها فيما سيقع، ولا يخفى على منصف أنهم ما كانوا يفتون فتوى من تنقسم الوقائع عنده إلى ما يعرى عن حكم وإلى ما لا يعرى عنه. وإذا عرفنا هذا فنقول: لو انحصرت مآخذ الأحكام في المنصوصات والمعاني المستثارة منها لما وسع القياس لكل ذلك؛ فإنا نعلم أن المنصوصات ومعانيها لا تنسحب على كل الوقائع؛ ولو لم يتمسك الماضون بمعان في وقائع لم يعهدوا أمثالها لكان يزيد وقوفهم في الأحكام على فتاويهم وجريانهم فيها "[24].

الثاني: إن وسائل الناس إلى مصالحهم الدنيوية المشروعة قد تتغير بتغير الزمان، ولا سبيل إلى حصرها. فإذا لم يعتبر منها إلا ما وقع له نظير في عهد التنزيل، ضاق بهم الأمر وحيل بينهم وبين التفكير في تيسير سبل العيش والتماس أفضل الوسائل للوصول إلى الأغراض الشريفة والمصالح المشروعة، وذلك إضرار عظيم بهم، فإن الوقائع تحدث، والحوادث تتجدد، والبيئات تتغير، والضرورات والحاجات تطرأ، وقد تطرأ للأمة اللاحقة طوارئ لم تطرأ للأمة السابقة، وقد تستوجب البيئة مراعاة مصالح ما كانت تستوجبها البيئة من قبل، وقد يؤدي تغير أخلاق الناس وذممهم وأحوالهم إلى أن يصير مفسدة ما كان مصلحة، فلو لم يفتح للمجتهدين باب التشريع بالاستصلاح، ضاقت الشريعة الإسلامية بمصالح العباد وقصرت عن حاجاتهم، فلا بد من التوسع في التشريع بمراعاة شواهد الشريعة العامة، وعدم الوقوف عند الشواهد الخاصة، وهذا من محاسن الشريعة، ومن أسباب مرونتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان[25].

الثالث: أن المصالح التي بنيت عليها أحكام المعاملات ونحوها معقولة، فقد شرع لنا ما يدرك العقل نفعه وحرم علينا ما يدرك العقل ضرره، فالحادثة التي لا حكم من الشارع فيها يكون حكم المجتهد فيها بناء على ما يدركه عقله فيها من نفع أو ضرر مبنياً على أساس معتبر من الشارع[26].

والجواب عليه من وجهين:
- أن العقل لا يدرك نفع جميع ما شرع الشارع، ولا يدرك قدر جميع ما نهى عنه الشارع، فقد شرع لنا كل أمر فيه مصلحة راجحة، ولو لم يدركها العقل، وحرم علينا كل ما فيه مضرة راجحة ولو لم يدرك العقل ضرره.

- أن نظر العقل واستحسانه ليس أساساً معتبراً من الشارع مطلقاً[27].

والجواب عليه: أن الشارع جعل للعقل مجالاً يسيح فيه بما حباه من قدرات وإمكانيات، يمكنه من خلالها إدراك محاسن الشريعة، واستنباط الأحكام الشرعية، وليس صحيحاً أن الشارع لم يعتبر نظر العقل مطلقاً، وإنما رد نظر العقل عند معارضته للنصوص الشرعية ومراد الشارع منها.

الرابع: عمل الصحابة - ومنهم الخلفاء الراشدون - والسلف الصالح بالمصلحة المرسلة فيما طرأ لهم من حوادث، ومراعاتهم المصالح وبناء الأحكام عليها فيما لم يقم دليل معين على اعتبارها[28]، وهذا عليه أمثلة كثيرة[29].

أدلة الغزالي ومن وافقه:
ذهب الغزالي إلى أن المصلحة المرسلة تنقسم إلى: ما يقع في رتبة الضرورات، وإلى ما يقع في رتبة الحاجات، وإلى ما يقع موقع التحسين والتزيين، واختار أن ما يقع في رتبة الضرورات يحتج بالمصلحة فيه، ولكنه لم يجزم، حيث قال: أما الواقع في رتبة الضرورات، فلا يبعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد، وإن لم يشهد له أصل معين، ومثل بمسألة الترس[30]، ثم قال: فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين، وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف: أنها ضرورية، قطعية، كلية[31]. ثم أورد اعتراضات ورد عليها، ومن أقواها: أن هذه المصلحة تخالف النص، وأنتم تلغونها عند وجوده، ولا تخصصون النص بها، وبدا عليه التراجع عند هذا الاعتراض، حيث قال: لهذا نرى المسألة في محل الاجتهاد، ولا يبعد المنع من ذلك[32].

ومن أقوى الاعتراضات التي أجاب عنها، وذكر بأنها - المصلحة - ليست هي الحجة، وإنما الحجة في المقاصد العامة التي جاءت بها النصوص الكثيرة[33]: أنه كيف تقولون بذلك، وأنتم جعلتم المصالح من الأصول الموهومة، فقال: هذا من الأصول الموهومة، إذ من ظن أنه أصل خامس، فقد أخطأ، لأنا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع. فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنة والإجماع، وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع، فهي باطلة، ومن صار إليها، فقد شرع، كما أن من استحسن فقد شرع، وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصوداً بالكتاب والسنة والإجماع، فليس خارجاً من هذه الأصول[34].

أما وجه التفريق في قبول المصلحة المرسلة في الضرورات دون الحاجيات والتحسينيات فقد ذكر ابن قدامة أدلة ذلك في روضة الناظر، فقال - رحمه الله - مبيناً دليل قبول المصلحة في الضروريات دون قسيميها: " لأنا قد علمنا أن ذلك من مقاصد الشرع، وكون هذه المعاني مقصودة عرف بأدلة كثيرة، لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات "[35].

وأما أدلة عدم الاحتجاج بالمصلحة المرسلة فقد ذكر ابن قدامة ثلاثة أدلة، فقال: " فهذان الضربان لا نعلم خلافاً في أنه لا يجوز التمسك بهما من غير أصل فإنه لو جاز ذلك، كان وضعاً للشرع بالرأي، ولما احتجنا إلى بعثة الرسل، ولكان العامي يساوي العالم في ذلك، فإن كل أحد يعرف مصلحة نفسه "[36].

والجواب على أدلة هذا المذهب من وجهين[37]:
- أن الاستصلاح ليس وضعاً للشرع بالرأي، بل هو طريق من طرق الرد المشروعة، وعدم الحاجة إلى بعثة الرسل، وكذلك القول بتساوي العامي والعالم إذا قلنا بجواز الاستصلاح في الحاجيات والتحسينيات إنما يرد لو كانت المصلحة التي يستند إليها الحكم لا صلة لها بالأدلة الشرعية، وليس الأمر كذلك، بل لها صلة بها، حيث دلت على اعتبارها إجمالاً.

- أن الغزالي قال بجواز الاستصلاح في الضروريات وما هو مذكور من الأدلة هنا يمكن إيراده على جواز الاستصلاح في غيرها، فما كان جواباً له فهو جواب لنا، إذ لا فرق.

ومما يؤيد هذا أنه لم يفرق بين المصالح في هذه المراتب، بل ذكر أن كل مصلحة ترجع إلى حفظ مقصود شرعي، تسمى مصلحة مرسلة، بغض النظر عن كونها داخلة في مرتبة الضروريات، كما ذكر أن هذه المصلحة التي ترجع إلى حفظ مقصود شرعي، لا وجه للخلاف فيها، بل يجب القطع بكونها حجة، وفي هذا يقول: " وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصوداً بالكتاب والسنة والإجماع، فليس خارجاً من هذه الأصول، لكنه لا يسمى قياساً، بل مصلحة مرسلة... وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع، فلا وجه للخلاف في اتباعها بل يجب القطع بكونها حجة، وحيث ذكرنا خلافاً فذلك تعارض مصلحتين ومقصودين، وعند ذلك يجب ترجيح الأقوى "[38].

ومما يجدر بيانه في هذا المقام أن الغزالي اضطرب قوله في الاستصلاح وذلك أن كلامه في المستصفى اختلف عنه في شفاء الغليل والمنخول، وقد تصدى للرد عليه الدكتور البوطي في ضوابط المصلحة، وبين مظاهر الاضطراب في كلامه، فقال بعد تلخيصه كلام الغزالي في الاستصلاح من المستصفى: " هذه خلاصة كلامه عن الاستصلاح في المستصفى، وهو ينطوي على اضطراب نجمل بيانه فيما يلي:
لا معنى لجعله مراتب المصالح أساساً وميزاناً في حكم الاستصلاح، وحصر جوازه فيما كان داخلاً ضمن مرتبة الضروريات فقط، مع قوله فيما بعد بأن المصالح المرسلة داخلة ضمن مقاصد الشارع، وأنها - من أجل ذلك - لا وجه للخلاف فيها بل يجب القطع بكونها حجة. إذ ليس من فرق بين الضروريات والحاجيات والتحسينيات، في إمكان دخولها ضمن مقاصد الشارع، فكما تكون الضروريات داخلة فيها، فالحاجيات والتحسينيات كذلك، بدليل أن اسم المصالح المرسلة ليس مقتصراً على المصالح الضرورية..

وقد اختلفت تفسيرات الأصوليين ونقولهم لمذهب الغزالي في الاستصلاح تبعاً لما وقع من تخالف واضطراب.. فقال كثير من الأصوليين: إنه لا يقول بالاستصلاح إلا حيث استند إلى مصلحة ضرورية قطعية كلية.. كالعضد في شرحه على ابن الحاجب، والكمال بن الهمام في كتابه التحرير، وكثيرين غيرهم، بل منهم من اختار هذا الرأي وعول عليه كالبيضاوي في المنهاج والآمدي في الإحكام.

ولكن المحقق السبكي رحمه الله أخذ من مجموع ما قاله الغزالي أنه إنما شرط في المصلحة أن تكون قطعية كلية ضرورية، لإخراجها عن محل النزاع وبيان أن مثل هذه المصلحة يؤخذ بها اتفاقاً دون خلاف، ولبيان أن ما لم تتوفر فيه هذه الشروط فهو محل الخلاف والبحث. قال في جمع الجوامع: ( وليس منه - أي المناسب المرسل - مصلحة ضرورية كلية قطعية.

واشترطها الغزالي، للقطع بالقول به، لا لأصل القول به، قال: والظن القريب من القطع كالقطع ).. وهذا الفهم أقرب ما يمكن أن يتلاءم مع كلام الغزالي، وإلا فإنه لا مفر من التناقض الواضح فيه كما ذكرنا. ومما يؤكد سلامة هذا الفهم أن الغزالي رحمه الله، في كتابه شفاء الغليل لم يحصر اعتبار المصالح المرسلة بالمصالح الضرورية فقط، بل وسع دائرة اعتبارها وأدخل فيها الحاجيات أيضاً، حيث قال: ( أما الواقع من المناسبات في رتبة الضروريات أو الحاجيات كما فصلناها، فالذي نراه فيها أنه يجوز الاستمساك بها إن كان ملائماً لتصرفات الشرع، ولا يجوز الاستمساك بها إن كان غريباً لا يلائم القواعد )، أما اشتراط القطعية والكلية فلم يعرج عليه بحال.

أما في المنخول فلم يشترط لاعتبارها أي مرتبة من مراتب المصالح، وأطلق القول باعتبارها ما دامت ملائمة لأحكام الشارع ومقاصده. فقال: ( كل معنى مناسب للحكم يضطرد في أحكام الشارع لا يرده أصل مقطوع به، يقوم عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع فهوم مقول به، وإن لم يشهد له أصل معين ).

فالقدر المشترك فيما كتبه الغزالي عن الاستصلاح في كتبه الثلاثة، هو اعتبار المصالح المرسلة ما دامت داخلة في مقاصد الشارع ملائمة لتصرفاته. أما اشتراط الضرورية والقطعية والكلية، فهو شيء لم يرد إلا في كتابه المستصفى، ولا سبيل لفهم مجموع كلامه بشكل منسجم إلا باتباع ما قاله السبكي..."[39].

والذي يترجح للباحث في هذه المسألة هو القول بحجية المصلحة المرسلة سواء كانت المصلحة التي يراد بناء الحكم عليها واقعة في مرتبة الضروريات، أم في مرتبة الحاجيات، أم في مرتبة التحسينيات، ولكن ترجيحنا لهذا القول مبني على الشروط التالية:
أولاً: أن تكون المصلحة ملائمة لمقاصد الشرع بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله، ولا دليلاً من دلائله القطعية، بل تكون متفقة مع المصالح التي قصد الشرع إلى تحصيلها، بأن تكون من جنسها أو قريبة منها، ليست غريبة عنها، وإن لم يشهد دليل خاص باعتبارها.

ثانياً: أن ترجع إلى حفظ أمر ضروري، أو رفع حرج لازم في الدين. فأما مرجعها إلى حفظ الضروري، فهو من باب ما لا يتم الواجب إلا به، فهي إذن من الوسائل لا المقاصد. وأما رجوعها إلى رفع حرج لازم، فهو إما لاحق بالضروري، وإما من الحاجي، الذي مرده إلى التخفيف والتيسير.

ثالثاً: أن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها، فتكون معقولة في ذاتها، بحيث إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول، فلا مدخل لها في الأمور التعبدية كالعبادات والمقدرات، لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل في الأصل[40].

رابعاً: ألا تكون المصلحة في الأحكام التي لا تتغير، كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود، والمقدرات الشرعية، ويدخل في ذلك الأحكام المنصوص والمجمع عليها وما لا يجوز فيه الاجتهاد[41].

خامساً: أن تكون المصلحة حقيقية لا وهمية، وعامة لا خاصة، وهذا يعلم بالنظر والبحث والاستقراء[42].

سادساً: أن الذي يتولى تقدير المصلحة التي يبنى عليها الحكم فيما لا نص فيه ولا إجماع ولا يمكن الحكم فيه بالقياس جماعة من أهل الاجتهاد في الأمة، تتوافر فيهم العدالة والبصيرة النافذة بأحكام الشريعة ومصالح الدنيا[43].

قال الشنقيطي: " فالحاصل أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يتعلقون بالمصالح المرسلة التي لم يدل دليل على إلغائها، ولم تعارضها مفسدة راجحة أو مساوية. وأن جميع المذاهب يتعلق أهلها بالمصالح المرسلة، وإن زعموا التباعد منها. ومن تتبع وقائع الصحابة وفروع المذاهب علم صحة ذلك. ولكن التحقيق أن العمل بالمصلحة المرسلة أمر يجب فيه التحفظ وغاية الحذر حتى يتحقق صحة المصلحة وعدم معارضتها لمصلحة أرجح منها أو مفسدة أرجح منها أو مساوية لها، وعدم تأديتها إلى مفسدة في ثاني حال"[44].

وقال - رحمه الله - في مذكرته في أصول الفقه: " والحق أن أهل المذاهب كلهم يعملون بالمصلحة المرسلة وإن قرروا في أصولهم أنها غير حجة"[45].

وهذا الذي قرره القرافي في شرح التنقيح حيث قال: " وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا أو جمعوا أو فرقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهداً بالاعتبار لذلك المعنى الذي جمعوا أو فرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي إذا في جميع المذاهب"[46]، وقال الدكتور عبد الكريم زيدان: " المصالح المرسلة حجة شرعية صرح بذلك كثير من الفقهاء وبنوا كثيراً من فقههم عليها كما نجد ذلك في فقه الإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل. وقد نسب إلى الشافعية والحنفية القول بإنكار حجية المصلحة المرسلة واعتبارها من مصادر الأحكام في الشريعة الإسلامية، ولكننا نجد في فقههم اجتهادات قامت على أساس المصلحة. ومن العلماء من أخذ بالمصلحة بشروط تجعلها من قبيل الضرورات التي لا يختلف العلماء في الأخذ بها وبناء الأحكام عليها كالإمام الغزالي إذ اشترط فيها أن تكون ضرورية وقطعية وكلية.

ولكن الأدلة القوية ترجح القول بمشروعية الأخذ بالمصلحة المرسلة وبناء الأحكام عليها وأن أدلة المنكرين لها أدلة ضعيفة"[47]. وقال ابن عاشور مفصلاً القول في حجية المصالح المرسلة بكلام لا يوجد مثله في غير هذا الموضع: " ولا ينبغي التردد في صحة الاستناد إليها[48]، لأننا إذا كنا نقول بحجية القياس الذي هو إلحاق جزئي حادث لا يعرف له حكم في الشرع بجزئي ثابت حكمه في الشريعة للمماثلة بينهما في العلة المستنبطة، وهي مصلحة جزئية ظنية غالباً لقلة صور العلة المنصوصة، فلأن نقول بحجية قياس مصلحة كلية حادثة في الأمة لا يعرف لها حكم على كلية ثابت اعتبارها في الشريعة باستقراء أدلة الشريعة الذي هو قطعي أو ظني قريب من القطعي أولى بنا وأجدر بالقياس وأدخل في الاحتجاج الشرعي[49] وإني لأعجب فرط العجب من إمام الحرمين - على جلالة علمه ونفاذ فهمه - كيف تردد في هذا المقام[50].

وأما الغزالي، فأقبل وأدبر، فلحق مرة بطرف الوفاق لاعتبار المصالح المرسلة، ومرة بطرف رأي إمام الحرمين إذ تردد في مقدار المصلحة. وجلب كلام إمام الحرمين في كتاب البرهان وكلام الغزالي في المستصفى يطول. ثم إني أقفي على أثرهما فأقول: لا ينبغي الاختلاف بين العلماء بتصاريف الشريعة المحيطين بأدلتها في وجوب اعتبار مصالح هذه الأمة ومفاسد أحوالها عندما تنزل بها النوازل وتحدث لها النوائب. وإنه لا يترقب حتى يجد المصالح المثبتة أحكامها بالتعيين، أو الملحقة بأحكام نظائرها بالقياس. بل يجب عليه تحصيل المصالح غير المثبتة، ولا الملحقة بأحكام نظائرها بالقياس.

وكيف يخالف عالم في وجوب اعتبار جنسها على الجملة، وبدون دخول ي التفاصيل ابتداء، ثقة بأن الشارع قد اعتبر أجناس نظائرها التي ربما كان صلاح بعضها أضعف من صلاح بعض هذه الحوادث.

ثم لا أحسب أن عالماً يتردد - بعد التأمل - في أن قياس هذه الأجناس المحدثة على أجناس نظائرها الثابتة في زمن الشارع أو زمان المعتبرين من قدوة الأمة المجمعين على نظائرها - أولى وأجدر بالاعتبار من قياس جزئيات المصالح عامها وخاصها بعضها على بعض، لأن جزئيات المصالح قد يطرق الاحتمال:
1- إلى أدلة أصول أقيستها.
2- وإلى تعيين الأوصاف التي جعلت مشابهاتها فيها بسبب الإلحاق والقياس، وهي الأوصاف المسماة بالعلل.
3- وإلى صحة المشابهة فيها.

فهذه مطارق احتمالات ثلاثة، بخلاف أجناس المصالح. فإن أدلة اعتبارها حاصلة من استقراء الشريعة قطعاً أو ظناً قريباً من القطع، وأن أوصاف الحكمة قائمة بذواتها غير محتاجة إلى تشبيه فرع بأصل، وإنها واضحة للناظر فيها وضوحاً متفاوتاً لكنه غير محتاج إلى استنباط ولا إلى سلوك مسالكه. أفليست بهذه الامتيازات أجدر وأحق بأن تقاس على نظائر أجناسها الثابتة في الشريعة المستقراة من تصاريفها.

فإن كان بعض تلك المصالح مصالح محضة بحيث لا تعارضها مصالح أخرى ولا تخالطها مفاسد، فلا يحسن بأهل النظر في الشرع أن يختلفوا في تحصيلها.

وإن كانت تعارضها مصالح أخرى أو تخالطها مفاسد، فهي حينئذ يرجع بها إلى حكم تعارض المصالح والمفاسد المشروح في المبحث قبل هذا. وإنه مجال للاجتهاد بحسب قوة آثار المصالح المجتلبة وقوة ما يعارضها من المصالح والمفاسد، وبحسب تفاوت مراتب العلم بقوتها، فتلحق بنظائر أجناسها الثابت بالاستقراء كونها مقصودة للشارع في تحصيل الراجح وإهمال المرجوح، وفي اعتبار عموم الحاجة إلى التحصيل وخصوصها. ويشبه أن يكون المخالف في تحصيلها بدون تردد ملحقاً بنفاة القياس "[51].

أمثلة على المصالح المرسلة:
أولاً: اتفاق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جمع المصحف، وليس ثم نص على جمعه، وذلك بعد وقعة اليمامة، وقد تتبعه زيد بن ثابت - رضي الله عنه -، فقد روى البخاري في صحيحه من حديث زيد بن ثابت قوله: " أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة، وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن. قال أبو بكر: قلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر، قال زيد بن ثابت، وعمر عنده جالس لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتتبع القرآن فاجمعه.

فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب، وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم "[52].فهذا عمل لم ينقل فيه خلاف عن أحد من الصحابة.

ومثله أمر عثمان - رضي الله عنه - بجمع الناس على مصحف واحد، وإحراق ما سواه منعاً للخلاف بين المسلمين[53]. وكان سند اتفاقهم على هذا الأمر مجرد كونه خيراً، وإن لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يأمر به. وواضح من كلام زيد - رضي الله عنه - أنه لم ينضم إلى هذا السند أي دليل آخر كالإجماع مثلاً، وإنما حصل الإجماع السكوتي على ذلك بعد بداءة زيد - رضي الله عنه - بالكتابة والجمع، وهو لا يعد سنداً أو جزء سند لما اتفق عليه الثلاثة، لأنه جاء متأخراً عن اتفاقهم، وإنما الإجماع نفسه مستند إلى الخير الذي كان مناط اتفاقهم[54].

وقد يقول قائل: إن فعل أبي بكر وعمر هو قياس الجمع على أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابته بجامع الحفظ لكتاب الله تعالى، ولكن العبرة في المثال بالطريقة التي سلكها أبو بكر وعمر في الاجتهاد في أمر الجمع، وهما لم يستندا في ذلك إلا إلى مطلق الخيرية دون أن يخطر في بالهما قياس فرع على أصل، فقد نظروا إلى المسألة من حيث إنها استصلاح[55]، والدليل على ذلك ما قاله زيد عنهما - رضي الله عنهم -: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

ثانياً: عهد أبي بكر - رضي الله عنه - بالخلافة إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعهد لأحد من بعده، ولكنه لم ينه عن ذلك أيضاً. وقد كان سنده في ذلك أنه خشي إن هو قبض ولم يعهد بالخلافة إلى أحد يجمع شتات المسلمين ويوحد كلمتهم أن يعود الاختلاف بينهم بأخطر مما ظهر بينهم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي ذلك ما يجعل للعدو مطمعاً فيهم، فهي إذن مصلحة الحيطة في حفظ وحدة المسلمين وحماية شوكتهم، وهي داخلة في مقاصد التشريع وإن لم يرد بذلك نص أو دليل معين[56].

ثالثاً: إن الخلفاء قضوا بتضمين الصناع، قال علي - رضي الله عنه -: " لا يصلح الناس إلا ذاك "[57]، ووجه المصلحة فيه أن الناس لهم حاجة إلى الصناع، وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، والأغلب عليهم التفريط، وترك الحفظ، فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أحد أمرين: إما ترك الاستصناع بالكلية، وذلك شاق على الخلق، وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك بدعواهم الهلاك والضياع، فتضيع الأموال، ويقل الاحتراز، وتتطرق الخيانة، فكانت المصلحة التضمين.. وهو من باب ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة[58].

رابعاً: جواز قتل الجماعة بالواحد، وهو الذي أفتى به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، والمستند فيه المصلحة المرسلة؛ إذ لا نص على عين المسألة، وهو مذهب مالك والشافعي. ووجه المصلحة أن القتيل معصوم، وقد قتل عمداً، فإهداره إهدار لدم برئ، وتعطيل لحكم القصاص الثابت بالكتاب، وفتح لباب الجنايات دون تعرض للعقوبة الرادعة عنها. فإن قيل: هذا أمر ليس له أصل في الشرع وهو قتل غير القاتل. قلنا: ليس كذلك، بل لم يقتل إلا القاتل، وهم الجماعة من حيث الاجتماع عند مالك والشافعي،فهو مضاف إليهم تحقيقاً إضافته إلى الشخص الواحد، وإنما التعيين في تنزيل الأشخاص منزلة الشخص الواحد، وقد دعت إليه المصلحة فلم يكن مبتدعاً مع ما فيه من حفظ مقاصد الشرع في حقن الدماء[59].

خامساً: اتفاق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حد شارب الخمر ثمانين، وإنما مستندهم فيه الرجوع إلى المصالح والتمسك بالاستدلال المرسل، قال العلماء: لم يكن فيه في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حد مقدر، وإنما جرى الزجر فيه مجرى التعزير. ولما انتهى الأمر إلى أبي بكر - رضي الله عنه - قرره على طريق النظر بأربعين، ثم انتهى الأمر إلى عثمان - رضي الله عنه - فتتابع الناس فجمع الصحابة - رضي الله عنهم - فاستشارهم، فقال علي - رضي الله عنه - من سكر هذى، ومن هذى افترى، فأرى عليه حد المفتري.

ووجه إجراء المسألة على الاستدلال المرسل أن الصحابة أو الشرع يقيم الأسباب في بعض المواضع مقام المسببات، والمظنة مقام الحكمة... فرأوا الشرب ذريعة إلى الافتراء الذي تقتضيه كثرة الهذيان، فإنه أول سابق إلى السكران - قالوا - فهذا من أوضح الأدلة على إسناد الأحكام إلى المعاني التي لا أصول لها وهو مقطوع من الصحابة - رضي الله عنهم -[60].

ولقائل أن يقول: لماذا لا يكون هذا من قبيل القياس على حد القذف خصوصاً أن علياً - رضي الله عنه - قال في معرض الاستدلال عليه: من شرب سكر، ومن سكر هذى، ومن هذى افترى، فأرى عليه إذن حد المفتري؟ والجواب: أن بعض الأصوليين ألحقوا هذه المسألة بالقياس، والتحقيق أنه ليس كذلك، إذ القياس إنما هو تعدية حكم بعينه من محل النص إلى محل آخر بعلة هي الموجبة في محل النص، وهذا المعنى غير موجود في مسألتنا هذه، إذ لا يستقيم أن يقال: وجب ثمانون جلدة في القذف بعلة كذا، وتلك العلة بعينها موجودة في شرب الخمر فيجب ثمانون جلدة في شرب الخمر، ذلك أن موجب الثمانين في القذف كونه جناية على عرض الغير، وليس في شرب الخمر تعرض لعرض الغير، بحيث يتحقق من وجوده فيه حتى يعتبر بذلك علة جامعة[61].

سادساً: إن العلماء نقلوا الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع، كما أنهم اتفقوا أيضاً - أو كادوا أن يتفقوا - على أن القضاء بين الناس لا يحصل إلا لمن رقى في رتبة الاجتهاد، وهذا صحيح على الجملة، ولكن إذا فرض خلو الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس، وافتقروا إلى إمام يقدمونه لجريان الأحكام وتسكين ثورة الثائرين، والحياطة على دماء المسلمين وأموالهم، فلا بد من إقامة الأمثل ممن ليس بمجتهد، لأنا بين أمرين، إما أن يترك الناس فوضى، وهو عين الفساد والهرج، وإما أن يقدموه فيزول الفساد بتة، ولا يبقى إلا فوت الاجتهاد، والتقليد كاف بحسبه وإذا ثبت هذا فهو نظر مصلحي يشهد له وضع أصل الإمامة، وهو مقطوع به بحيث لا يفتقر في صحته وملاءمته إلى شاهد. هذا - وإن كان ظاهراً مخالفاً لما نقلوا من الإجماع في الحقيقة - إنما ينعقد على فرض أن لا يخلو الزمان من مجتهد، فصار مثل هذه المسألة مما لم ينص عليه، فصح الاعتماد فيه على المصلحة[62].

سابعاً: ومن أمثلة المصالح المرسلة في اجتهادات الفقهاء[63]:
- عند الحنفية:
قالوا بجواز حرق ما يغنمه المسلمون من العدو في القتال من متاع أو ضأن إذا عجزوا عن حمله، فيذبحون الضأن ويحرقون اللحم، وكذا يحرقون المتاع لئلا ينتفع به العدو، وقالوا بالحجر على الطبيب الجاهل والمفتي الماجن والمكاري المفلس.

- عند المالكية:
قالوا بجواز بيعة المفضول مع وجود الفاضل، وجواز فرض الضرائب على الأغنياء إذا خلا بيت المال - الخزانة العامة - من المال اللازم لمواجهة النفقات الضرورية للدولة كسد حاجات الجند، إلى أن يظهر مال في بيت المال يكفي لسد هذه النفقات. وأجازوا شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراحات للمصلحة، لأنه لا يشهد لعبهم - عادة - غيرهم، وإن لم يتوافر فيهم شرط البلوغ وهو من شروط قبول الشاهد. وأباحوا حبس المتهم وتعزيره توصلاً إلى إقراره. وأباحوا التصرف في مال الغير عند الحاجة وتعذر استئذانه بما يسمى الفضالة.

- عند الشافعية:
قالوا بجواز إتلاف الحيوانات التي يقاتل عليها الأعداء، وإتلاف شجرهم إذا كانت حاجة القتال والظفر بالأعداء والغلبة عليهم تستدعي ذلك .

- عند الحنابلة:
أفتى الإمام أحمد بن حنبل بنفي أهل الفساد إلى بلد يؤمن فيه من شرهم، كما أفتى بتخصيص الرجل أحد أولاده بهبة دون إخوانه لمصلحة معينة كأن يكون مريضاً لا مال له أو محتاجاً أو طالب علم، وقال فقهاء الحنابلة: إن لولي الأمر أن يجبر المحتكرين على بيع ما عندهم بثمن المثل عند ضرورة الناس إليه. كما أن لولي الأمر أن يجبر أصحاب الحرف والصناعات التي يحتاجها الناس على العمل باجر المثل إذا امتنعوا عن العمل بحرفهم وصناعاتهم. وقالوا: من احتاج إلى إجراء الماء في أرض غيره من غير ضرر عليه - أي على صاحب الأرض - فله أن يمرره ولو جبراً على صاحب الأرض، وهذا هو المنقول عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وأخذ به أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه وأخذ به فريق من الحنابلة. وهو الأولى والأرجح لأن التعسف في استعمال الحق منهي عنه في الشريعة الإسلامية.

أسباب الخلاف في حجية المصالح المرسلة:
الأول: ما نقله الدكتور التركي عن الغزالي في شفاء الغليل قوله: " وفي كلام الأصوليين أيضاً نوع اضطراب فيه، ومعظم الغموض في هذه القواعد منشؤه الاكتفاء بالتراجم والمعاقد دون التهذيب بالأمثلة "[64].

الثاني: أنهم لم يحددوا المقصود باعتبار الاستصلاح عند نقلهم الخلاف فيه، فهل المقصود اعتباره أصلاً مستقلاً من أصول الاجتهاد، أو المقصود اعتباره في جملة دلائل الاجتهاد الأخرى، ورده إليها، دون أن يأخذ صفة الاستقلال. فالذين مالوا إلى إنكاره، إنما قصدوا بذلك إنكار كونه أصلاً مستقلاً، وكلامهم بهذا القصد صحيح، لأن معظم الأئمة لا يراه دليلاً مستقلاً برأسه. والذين مالوا إلى الاحتجاج به، إنما أرادوا بذلك دخوله في دلائل الاجتهاد الأخرى، وكلامهم بهذا القصد صحيح، لأن عامة الأئمة يأخذون به على هذا الأساس[65].

الثالث: عدم التثبت من الآراء المسندة إلى مالك في القضايا التي مبناها الاستصلاح، والتي قيل عنه بسببها: أنه أفرط واسترسل في الأخذ بالمصالح المرسلة حتى لم يلتفت فيها إلى ضرورة ملاءمتها لأصول الشرع وتصرفاته، ولم يراع فيها أن تكون مصالح حقيقية عامة، مما جعل بعض الناس يتخذونها وسيلة إلى التشريع لتحقيق أهوائهم وللمصالح الخاصة، وهذا ما جعل بعض الأئمة يذهب إلى أنه لا يبنى التشريع عليها سداً للذريعة إلى الشر، وبعضهم يذهب إلى بناء التشريع عليها، ولكنه احتاط، فشرط أن تكون مصلحة عامة لا فردية، وأن تكون ظاهرة المناسبة والملاءمة، بمعنى أن تشريع الحكم بناء عليها، يتفق ومقاصد الشارع العامة من التشريع، ويدفع ضرراً أو يرفع حرجاً، وأن تكون مصلحة حقيقية، لا وهمية. وأهم هذه الآراء التي اشتهرت نسبتها إليه ما نسب إليه قوله: أنا أقتل ثلث الأمة لاستيفاء ثلثيها[66]، قال الشنقيطي في مذكرته راداً على من نسب هذا القول إلى الإمام مالك: "وما ذكره المؤلف رحمه الله من أن مالكاً رحمه الله أجاز قتل الثلث لإصلاح الثلثين ذكره الجويني وغيره عن مالك وهو غير صحيح ولم يروه عن مالك أحد من أصحابه ولم يقله مالك كما حققه العلامة محمد بن الحسن البناني في حاشيته على شرح عبد الباقي الزرقاني لمختصر خليل"[67].

الرابع: ما استفاض عن الشافعي من أنه ينكر الاستحسان، ويعتبره قولاً بالتشهي، وتشريعاً بالهوى والرأي المجرد، دون أن يستثني من ذلك بعبارة صريحة ما استند فيه المجتهد إلى مصلحة داخلة ضمن مقاصد الشرع، ملائمة لتصرفاته، فهذا جعل الكثير يظن أن الشافعي رحمه الله ينكر الاستصلاح من جهة إنكاره الاستحسان، للتقارب بينهما، ودقة الفرق بينهما. والجواب عليه: أن إنكار الشافعي للاستحسان لا يلزم منه إنكاره للاستصلاح، كما لا يلزم من عدم ذكره له بصريح العبارة عدم احتجاجه به، إذ أنه يرى أنه نوع من القياس وليس أصلاً مستقلاً برأسه[68].

ومما يدل على أن الاستصلاح حجة عند الشافعي وإن لم يكن دليلاً مستقلاً قوله فيما نقله عنه الجويني في البرهان: " إذا استندت المعاني إلى الأصول فالتمسك بها جائز، وليست الأصول وأحكامها حججاً، وإنما الحجج في المعنى. ثم المعنى لا يدل بنفسه حتى يثبت بطريق، وأعيان المعاني ليست منصوصة، وهي المتعلق، فقد خرجت المعاني عن ضبط النصوص، وهي متعلق النظر والاجتهاد، ولا حجة في انتصابها إلا تمسك الصحابة - رضي الله عنهم - بأمثالها، وما كانوا يطلبون الأصول في وجوه الرأي. فإن كان الاقتداء بهم فالمعاني كافية، وإن كان للتعلق بالأصول فيه غير دالة ومعانيها غير منصوصة "[69]. وعلق الجويني على كلام الشافعي - رحمه الله - قائلاً: " ومن تتبع كلام الشافعي لم يره متعلقاً بأصل ولكنه ينوط الأحكام بالمعاني المرسلة، فإن عدمها التفت إلى الأصول مشبهاً "[70].

وهذا الكلام قد يشكل على قارئه، إذ أنه يوحي إليه من أول وهلة أن الشافعي لا يرى الانضباط بالأصول في الأحكام التي ليس فيها اعتبار ولا إلغاء من الشارع، طالما أنها مرسلة، وهذا الظن لا يسلم به، فقد علق الجويني على كلام الشافعي بقوله: " قد ثبتت أصول معللة اتفق القايسون على عللها، فقال الشافعي: أتخذ تلك العلل معتصمي، وأجعل الاستدلالات قريبة منها، وإن لم تكن أعيانها، حتى كأنها مثلاً أصول، والاستدلال معتبر بها، واعتبار المعنى بالمعنى تقريباً أولى من اعتبار صورة بصورة بمعنى جامع؛ فإن متعلق الخصم من صورة الأصل معناها لا حكمها، فإذا قرب معنى المجتهد والمستدل فيما يجتهد إلى الشرع، ولم يرده أصل، كان استدلالاً مقبولاً"[71].

علاقة المصالح المرسلة بالمقاصد:
تظهر علاقة المصالح المرسلة بالمقاصد في عدة أمور:
أولاً: اندراجها في مقاصد الشريعة: فالمصالح المرسلة طالما أننا قد حققنا القول في حجيتها، وأن من شروطها ملائمتها لتصرفات الشارع بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله، ولا دليلاً من أدلته القطعية، فهي إذا داخلة في مقاصد التشريع.

ثانياً: أن جلب المصالح يمثل حفظ ورعاية مقاصد الشريعة من جانب الوجود، فالمصالح ضرورية ولا بد منها حتى تتحصل مقاصد الشريعة، فإيجاد المقاصد، وتثبيتها، ورعايتها، والعناية بها لا يتم إلا بحصول المصالح والمنافع.

ثالثاً: تمثل المقاصد، ورعايتها، والجري على سننها، وعدم مناقضتها عنصراً رئيساً، وشرطاً مهماً في اعتبار المصالح.

رابعاً: كما يشترط في المجتهد أن يكون ملماً بمقاصد الشريعة، فكذلك يشترط فيمن ينظر في المصالح ويزنها، ويعتمد عليها في اعتبارها، أن يكون من ذوي الاختصاص الذين اصطبغوا بهذه الشريعة، ونهلوا من معينها الصافي، وهذا هو ما يختص به العلماء، وهو حقيقة العمل بما جاءت به الرسل.

خامساً: جلب المصالح الحقيقية الموافقة لروح الشريعة يمثل جانباً مهماً في إبراز محاسن الشريعة، وجمالها، وسر خلودها، وترغيب الناس فيها، وفي المقابل فإن إهمال المصالح الحقيقية المضبوطة بضابط الشرع فيه هدر لهذه المقاصد وخرم لها، ومناقضة لمطلوب الشارع ومراده، مما قد يجلب العنت والمشقة، ويظهر الشريعة بمظهر تبدو فيه غير ملائمة وملبية لحاجات المكلفين ومصالحهم[72].

سادساً: تظهر علاقة المصالح المرسلة بالمقاصد في ضوء تقسيم العلماء للمصالح المرسلة إلى ثلاثة أقسام باعتبار قوتها في ذاتها، وهي: الضرورية، والحاجية، والتحسينية، وقد تقدم تفصيلها في ثنايا هذا البحث، فهذه الأنواع الثلاثة من المصالح هي نقطة انطلاق مبدأ المصالح المرسلة[73]، وليس معنى هذا انطباق المصالح المرسلة على المقاصد أو العكس، وإنما هي - أي المصالح - مندرجة فيها كما تقدم.

الخاتمة
وبعد: فإن إدراك مقاصد الشريعة، وإبراز عللها يؤكد صلاحيتها وقدرتها على التكيف والتفاعل مع مختلف الظروف، ولذلك اهتم العلماء ببيان خصائص الشريعة وذكر مزاياها، ومنها مراعاتها للمصالح، وعمومها، وموافقتها للعقل، وإمكانية تعليل أحكامها مع مرونتها. وبناء على ذلك فإن العالم ودارس الشريعة والمتخصص فيها ونحوهم لا يمكنهم الاستغناء عن دراسة المقاصد، وإبراز حكمة الشريعة، خاصة إذا علمنا أن جماهير العلماء متفقون على أن الشريعة معللة بالحكم والمصالح، وأن الشارع وضعها لمصالح العباد عاجلاً وآجلاً.

ولذلك فإننا بحاجة إلى التعرف على أهم نقاط البحث التي دار حولها موضوعه - وهو مقاصد الشريعة -، ويمكننا إجمالها فيما يلي:
- المقاصد في الاصطلاح عرفت تعريفات متعددة كلها متفقة على أنها دائرة مع المعاني والغايات الملحوظة في أحكام الشريعة من أجل تحقيق مصالح الخلق في الدارين.

- شهد علم المقاصد مراحل متعددة حتى وصل إلى صورته المعروفة، وقد انطلق العلماء في تقريره ووضع قواعده من النصوص الشرعية وفق منهجية معروفة في كتب الأصول من خلال مباحث التعليل، حيث اتبعوا عدة طرق في إثباتها وأهمها استقراء الشريعة في تصرفاتها، وقد تدرج حتى وصل إلى مرحلة نضجه على يد علماء كبار كشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام الشاطبي وغيرهما.

- علم المقاصد الشرعية لا يمكن اعتباره إلا وفق قواعد وضوابط وضعها العلماء استقراء واستنباطاً من تصرفات الشارع، وهي أربعة: الثبوت، والظهور، والانضباط، والاطراد.

- النظر المقاصدي مناط بالعلماء والمجتهدين؛ لأنه نوع دقيق من أنواع العلم، وحق العامي أن يتلقى الشريعة من العلماء دون بيان مقاصدها، ثم يتوسع للناس في تعريفهم المقاصد بمقدار ازدياد حظهم من علوم الشريعة.

- قسم العلماء المقاصد باعتبارات مختلفة، وكان الهدف من ذلك أنه يعين على النظر الأولوي، والموازنة بين المصالح والمفاسد من جهة، وبين مراتب المصالح أو المفاسد من جهة أخرى.

• فمن حيث الوضع قسمت إلى مقاصد الشارع، ومقاصد المكلف.
• ومن حيث العموم والخصوص قسمت إلى مقاصد عامة، ومقاصد خاصة، ومقاصد كلية، ومقاصد جزئية.
• ومن حيث اعتبار حظ المكلف وعدمه قسمت إلى مقاصد أصلية، ومقاصد تابعة.
• ومن حيث القطع والظن قسمت إلى مقاصد قطعية، ومقاصد ظنية، ومقاصد وهمية.
• ومن حيث الحاجة والأهمية قسمت إلى مقاصد ضرورية، ومقاصد حاجية، ومقاصد تحسينية.

- المصالح من حيث شهادة الشرع لها بالاعتبار أو الإلغاء أو السكوت عن الاعتبار والإلغاء تنقسم إلى ثلاثة أقسام: المصلحة المعتبرة، والمصلحة الملغاة، والمصلحة المرسلة: فأما المصلحة المعتبرة فهي المصلحة التي شهد الشارع لها بالاعتبار، وجاءت الأدلة بطلبها، ولذلك فإنها مندرجة في مقاصد الشارع قطعاً، وأما المصلحة الملغاة فهي المصلحة التي شهد الشارع لها بالإلغاء، ولذلك فإنها غير مندرجة في مقاصد الشارع قطعاً، وأما المصلحة المرسلة فهي المصلحة التي لم يشهد لها الشارع بالاعتبار أو الإلغاء، وقد اختلف أهل العلم في حكمها ومدى اعتبار الشارع لها، والذي يترجح ويظهر للباحث أنها معتبرة بحكم اندراجها في مقاصد الشرع، ولكن وفق شروط معينة أوضحها الباحث في ثنايا هذا البحث، وهذا الذي ترجح قد اتفق عليه جماهير العلماء على الرغم من اختلاف أنظارهم إليها بين اعتبارها دليلاً مستقلاً أو جعلها معنى من معاني القياس، والأمر لا يخرج عن كونه خلافاً لفظياً.

المراجع:
- الأسس العامة لفهم النص الشرعي، د. عبد المجيد السوسوه، دار الجامعات اليمنية، ط1، 1421هـ/2000م.
- أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط1، 1406هـ/1986م.
- أصول مذهب الإمام أحمد، د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط4، 1416هـ/1996م.
- أضواء على الأصول العشرين للإمام حسن البنا، عصام أحمد البشير، مكتبة المنار الإسلامية، ط1، 1410هـ/1990م.
- الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، ط15، 2002م.
- الإحكام في أصول الأحكام، علي بن محمد الآمدي، تعليق العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي، دار الصميعي، الرياض، ط1، 1424هـ/2003م.
- الاجتهاد المقاصدي، د. نور الدين بن مختار الخادمي، سلسلة كتاب الأمة، قطر، ط1، 1419هـ/1998م.
- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، محمد بن علي الشوكاني، تحقيق سامي بن العربي الأثري، دار الفضيلة، الرياض، ط1، 1421هـ/2000م.
- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، ط2، 1405هـ/1985م.
- الإسلام عقيدة وشريعة، محمود شلتوت، دار القلم، القاهرة، بدون تاريخ.
- الاعتصام، أبو إسحاق الشاطبي، دار الفكر، دمشق / مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، بدون تاريخ.
- إعلام الموقعين، ابن قيم الجوزية، مكتبة الكليات الأزهرية، مصر، 1388هـ/1968م.
- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، ابن قيم الجوزية، ابن قيم الجوزية، مكتبة المعارف، الرياض، ط2، 1408هـ/1988م.
- البحر المحيط في أصول الفقه، بدر الدين الزركشي، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، ط2، 1413هـ/1992م.
- البرهان في أصول الفقه، أبو المعالي الجويني، تحقيق د. عبد العظيم ديب، ط1، 1399هـ.
- بين علمي أصول الفقه والمقاصد، الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، 1425هـ/2004م.
- تاج العروس من جواهر القاموس، محمد مرتضى الزبيدي، دار الهداية، بدون تاريخ.
- تحفة المحتاج في شرح المنهاج، أحمد بن علي بن حجر الهيتمي، دار إحياء التراث العربي، بدون تاريخ.
- تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984م.
- التوحيد والتزكية والعمران، د. طه جابر العلواني، دار الهادي، بيروت، ط1، 1424هـ/2003م.
- تهذيب الموافقات، محمد حسين الجيزاني، دار ابن الجوزي، الرياض، ط1، 1421هـ.
- الجامع لمسائل أصول الفقه، د. عبد الكريم بن علي النملة، مكتبة الرشد، الرياض، ط2، 1421هـ/2000م.
- الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/1985م.
- خطاب التجديد الإسلامي، مجموعة مؤلفين، دار الفكر، دمشق، ط1، 1425هـ/2004م.
- دراسة في فقه مقاصد الشريعة، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1427هـ/2006م.
- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، ابن حجر العسقلاني، دار الجيل، بيروت، 1414هـ/1993م.
- روضة الناظر وجنة المناظر، ابن قدامة المقدسي، تحقيق د. عبد العزيز السعيد، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، ط2، 1399هـ.
- السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1421هـ/2000م.
- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ابن قيم الجوزية، دار المعرفة، بيروت، 1398هـ/1978م.
- شرح الكوكب المنير، ابن النجار الفتوحي، مكتبة العبيكان، الرياض، 1413هـ/1993م.
- شرح مختصر الروضة، نجم الدين الطوفي، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط3، 1419هـ/1998م.
- الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، ابن قيم الجوزية، دار العاصمة، الرياض، ط3، 1418هـ/1998م.
- ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط6، 1421هـ/2000م.
- علم المقاصد الشرعية، د. نور الدين بن مختار الخادمي، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 1421هـ/2001م.
- العمل بالمصلحة، د. عبد العزيز الربيعة، بحث منشور في مجلة أضواء الشريعة، إصدار كلية الشريعة بالرياض، العدد 10، 1399هـ.
- في الاجتهاد التنزيلي، د. بشير بن مولود جحيش، سلسلة كتاب الأمة، قطر، ط1، 1424هـ/2003م.
- في ظلال القرآن، سيد قطب، دار العلم، جدة، ط12، 1406هـ/1996م.
- القاموس المحيط، الفيروزآبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، بدون تاريخ.
- قواطع الأدلة في أصول الفقه، أبو المظفر السمعاني الشافعي، تحقق د. عبد الله بن حافظ الحكمي، مكتبة التوبة، الرياض، 1419هـ/1998م.
- قواعد الأحكام في مصالح الأنام، العز بن عبد السلام، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ.
- قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، د. عبد الرحمن الكيلاني، دار الفكر، دمشق، ط2، 1426هـ/2005م.
- كل بدعة ضلالة، محمد المنتصر الريسوني، مكتبة دار المنهاج، الرياض، ط3، 1428هـ.
- لسان العرب، ابن منظور، دار صادر، بيروت، ط1، بدون تاريخ.
- المجموع شرح المهذب، محي الدين النووي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1423هـ/2002م.
- مجموع الفتاوى، شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة المنورة، ط2، 1416هـ/195م.
- المحصول في أصول الفقه، فخر الدين الرازي، تحقيق د. طه جابر العلواني، مؤسسة الرسالة، بدون تاريخ.
- مدخل لدراسة الشريعة، د. يوسف القرضاوي، بدون تاريخ.
- المدخل إلى دراسة المذاهب الفقهية، د. علي جمعة محمد، دار السلام، القاهرة، ط2، 1428هـ/2007م.
- مذكرة في أصول الفقه، محمد الأمين الشنقيطي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط5، 2001م.
- المستصفى من علم الأصول، أبو حامد الغزالي، تحقيق د. حمزة زهير حافظ، المدينة المنورة، بدون تاريخ.
- المصالح المرسلة، محمد الأمين الشنقيطي، نشر الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، ط1، 1410هـ.
- المصلحة عند الحنابلة، سعد بن ناصر الشثري، مجلة البحوث الإسلامية، إصدار رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية، العدد 47.
- معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة، محمد بن حسين الجيزاني، دار ابن الجوزي، الرياض، ط3، 1422هـ.
- مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج، الخطيب الشربيني، دار الكتب العلمية، بدون تاريخ.
- المغني، موفق الدين ابن قدامة المقدسي، دار إحياء التراث العربي، بدون تاريخ.
- مقاصد الشريعة، مجموعة مؤلفين، تحرير عبد الجبار الرفاعي، دار الفكر المعاصر، بيروت /دار الفكر، دمشق، ط2، 1426هـ/2005م.
- مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر ابن عاشور، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، 1425هـ/2004م.
- مقاصد الشريعة الإسلامية، د. عبد الله النعيم، د. جمال الدين الشريف، معهد إسلام المعرفة، جامعة الجزيرة، السودان، ط1، 2005م.
- مقاصد الشريعة عند ابن تيمية، يوسف أحمد البدوي، دار النفائس، الأردن، ط1، 2000م.
- المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، د. يوسف حامد العالم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فرجينيا، ط2، 1415هـ/1994م.
- منتهى السول في علم الأصول، على بن محمد الآمدي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1424هـ/2003م.
- منهج التيسير المعاصر، عبد الله بن إبراهيم الطويل، دار الهدي النبوي، مصر / دار الفضيلة، السعودية، ط1، 1426هـ/2005م.
- الموافقات في أصول الشريعة، أبو إسحاق الشاطبي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1423هـ/2002م.
- موسوعة الفقه الإسلامي المعاصر، تحرير أ.د. عبد الحليم عويس، دار الوفاء، المنصورة / ابن حزم، بيروت، ط1، 1426هـ/2005م.
- الموسوعة الفقهية، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، دار ذات السلاسل، ط2، 1404هـ/1983م.
- نظرات في الشريعة، عبد الكريم زيدان، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1421هـ/2000م.
- نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء، محمد الروكي، نشر كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ط1، 1414هـ/1994م.
- نظرية مقاصد الشريعة بين شيخ الإسلام ابن تيمية وجمهور الأصوليين، عبد الرحمن يوسف القرضاوي، نشر جامعة القاهرة، بدون تاريخ.
- الوجيز في أصول التشريع الإسلامي، د. محمد حسن هيتو، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1421هـ/2000م.
- الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، د. محمد مصطفى الزحيلي، دار الخير، دمشق،ط1، 1423هـ/2003م.
- الوجيز في أصول الفقه، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، إعادة الطبعة الأولى، 1419هـ/1999م.
- مجلة إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الأعداد: 45- 46 – 47.
ــــــــــــــــــــــــ
[1] ضوابط المصلحة، مرجع سابق، ص287.
[2] المستصفى، مرجع سابق، ج2ص481.
[3] روضة الناظر، مرجع سابق، ص169.
[4] الاعتصام، مرجع سابق، ج2ص114.
[5] مذكرة في أصول الفقه، الشنقيطي، ص202.
[6] ضوابط المصلحة، مرجع سابق، ص288.
[7] العمل بالمصلحة، مرجع سابق، ص120.
[8] المرجع السابق، ص124، المصلحة عند الحنابلة، مرجع سابق، ص306.
[9] تهذيب الموافقات، محمد حسين الجيزاني، ص179، وللتوسع انظر : الموافقات، مرجع سابق، ص384.
[10] العمل بالمصلحة، مرجع سابق، ص125، المصلحة عن الحنابلة، مرجع سابق، ص306.
[11] العمل بالمصلحة، مرجع سابق، ص125.
[12] انظر : قواطع الأدلة في أصول الفقه، السمعاني، ج4ص491، نظرية التقعيد الفقهي، محمد الروكي، ص475، العمل بالمصلحة، مرجع سابق، ص127.
[13] انظر : قواطع الأدلة في أصول الفقه، مرجع سابق، ج4ص493. وسيأتي كلامه في الدليل الثالث من أدلة المانعين.
[14] قال في كتابه : منتهى السول في علم الأصول ص245 : " وقد اتفقت الشافعية والحنابلة وأكثر الفقهاء على امتناع التمسك بها إلا ما نقل عن مالك، مع إنكار أصحابه لذلك عنه، والحق في ذلك مذهب الجمهور؛ لأن ما لا يكون معتبراً في الشرع لا يكون دليلاً شرعياً ". وقال في الإحكام ج4ص195 : " وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك به، هو الحق ".
[15] إرشاد الفحول، مرجع سابق، ج2ص990.
[16] الإطلاق هنا ليس معناه العمل بالمصلحة المرسلة بدون ضوابط، وإنما القصد منه القول بحجية المصلحة المرسلة، وجواز بناء الأحكام عليها، وسيأتي بيان ذلك لاحقاً.
[17] المستصفى، ج2ص481.
[18] المائدة، آية 3.
[19] العمل بالمصلحة، مرجع سابق، ص141، المصلحة عند الحنابلة، مرجع سابق، ص315.
[20] نظرية التقعيد الفقهي، مرجع سابق، ص477، العمل بالمصلحة، مرجع سابق، ص143، المصلحة عند الحنابلة، مرجع سابق، ص316.
[21] قواطع الأدلة في أصول الفقه، مرجع سابق، ج4ص493.
[22] العمل بالمصلحة، مرجع سابق، ص145.
[23] نظرية التقعيد الفقهي، مرجع سابق، ص477.
[24] قواطع الأدلة في أصول الفقه، مرجع سابق، ج4ص494.
[25] نظرية التقعيد الفقهي، مرجع سابق، ص478، العمل بالمصلحة، مرجع سابق، ص137.
[26] العمل بالمصلحة، مرجع سابق، ص138، المصلحة عند الحنابلة، مرجع سابق، ص310.
[27] المصلحة عند الحنابلة، مرجع سابق، ص310.
[28] نظرية التقعيد الفقهي، مرجع سابق، ص478، العمل بالمصلحة، مرجع سابق، ص140، المصلحة عند الحنابلة، مرجع سابق، ص312.
[29] سيأتي بيانها لاحقاً.
[30] المستصفى، مرجع سابق، ج2ص487.
[31] المرجع السابق، ج2ص488.
[32] المرجع السابق، ج2ص493.
[33] المرجع السابق، ج2ص502.
[34] أصول مذهب الإمام أحمد، مرجع سابق، ص464، وقد لخص الدكتور عبد الله التركي كلام الغزالي تلخيصاً جيداً، ولهذا اعتمدنا عليه في النقل هنا.
[35] روضة الناظر، مرجع سابق، ص170.
[36] المرجع السابق، ص170.
[37] العمل بالمصلحة، مرجع سابق، ص 148.
[38] المستصفى، مرجع سابق، ج2ص503.
[39] ضوابط المصلحة، مرجع سابق، ص341-343.
[40] الاعتصام، مرجع سابق، ج2ص129، مدخل إلى دراسة الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص164، السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، مرجع سابق، ص91.
[41] معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة، مرجع سابق، ص246.
[42] المصلحة عند الحنابلة، مرجع سابق، ص320.
[43] العمل بالمصلحة، مرجع سابق، ص168.
[44] المصالح المرسلة، الشنقيطي، ص21.
[45] مذكرة في أصول الفقه، مرجع سابق، ص203.
[46] مدخل إلى دراسة الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص162، السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، مرجع سابق، ص90.
[47] نظرات في الشريعة، مرجع سابق، ص275.
[48] أي المصلحة المرسلة.
[49] كلام الشيخ ابن عاشور ـ رحمه الله ـ يدل على جعله المصلحة المرسلة نوعاً من أنواع القياس سماه قياس الجنس، بخلاف القياس المعروف في علم الأصول هو قياس العلة. انظر : بين علمي أصول الفقه والمقاصد، مرجع سابق، ص297.
[50] يشير رحمه الله إلى ما قاله إمام الحرمين الجويني في البرهان ص1113 : " فذهب القاضي، وطوائف من متكلمي الأصحاب إلى رد الاستدلال، وحصر المعنى فيما إلى أصل. وأفرط الإمام إمام دار الهجرة، مالك بن أنس في القول بالاستدلال.. وذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنهما إلى اعتماد الاستدلال، وإن لم يستند إلى حكم متفق عليه في أصل، ولكنه لا يستجيز النأي والبعد والإفراط، وإنما يسوغ تعليق الأحكام بمصالح يراها شبيهة بالمصالح المعتبرة وفاقاً، وبالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول، قارة في الشريعة ".
[51] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور، مرجع سابق، ص245-248.
[52] أخرجه البخاري، كتاب التفسير، رقم 4679.
[53] الاعتصام، مرجع سابق، ج2ص115، أصول مذهب الإمام أحمد، مرجع سابق، ص467.
[54] ضوابط المصلحة، مرجع سابق، ص309.
[55] المرجع السابق، ص309.
[56] المرجع السابق، ص309.
[57] أخرجه البيهقي في سننه، كتاب الإجارة، رقم 11444. وقد ضعفه الشيخ الألباني في إرواء الغليل ج5ص319، رقم 1496. وإذا ثبت ضعفه فلا يصح جعله مستنداً لأمثلة المصالح المرسلة، ولكنا سقناه هنا لشهرته عند العلماء.
[58] الاعتصام، مرجع سابق، ج2ص119.
[59] الاعتصام، مرجع سابق، ج2ص125، ضوابط المصلحة، مرجع سابق، ص311.
[60] الاعتصام، مرجع سابق، ج2ص118.
[61] ضوابط المصلحة، مرجع سابق، ص312.
[62] الاعتصام، مرجع سابق، ج2ص126.
[63] نظرات في الشريعة، مرجع سابق، ص276، الوجيز في أصول الفقه، د. وهبة الزحيلي، ص95.
[64] أصول مذهب الإمام أحمد، مرجع سابق، ص465.
[65] العمل بالمصلحة، مرجع سابق، ص156، ضوابط المصلحة، مرجع سابق، ص347.
[66] العمل بالمصلحة، مرجع سابق، ص156، ضوابط المصلحة، مرجع سابق، ص348، وانظر أقوال أخرى منسوبة إلى الإمام مالك في ضوابط المصلحة، ص294، 348.
[67] مذكرة في أصول الفقه، مرجع سابق، ص203.
[68] العمل بالمصلحة، مرجع سابق، ص157، ضوابط المصلحة، مرجع سابق، ص352.
[69] البرهان في أصول الفقه، الجويني، ص1117.
[70] المرجع السابق، ص1118.
[71] المرجع السابق، ص1121.
[72] مقاصد الشريعة عند ابن تيمية، مرجع سابق، ص359.
[73] أصول الفقه الإسلامي، د. وهبة الزحيلي، ص755.


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/6439/#ixzz2ZEGyJnJb