salimo123
2013-06-23, 23:22
الشيخ محمد بن عبد الوهاب: داعية وليس نبيّاً
الجذور الفكرية والعقدية لمنهج التكفير في السعودية
قراءة في كتاب (كشف الشبهات) للشيخ محمد بن عبد الوهاب
حسن بن فرحان المالكي
http://www.alhejazi.net/images/almaliki_210.jpg
ظهر في زمن الشيخ محمد وبعده من أتباعه من يغالي في الشيخ غلواً كبيراً، ويتعصب لكل ما كتبه في رسائله وفتاواه؛ بل وحكمه على الأحاديث، وآرائه في الأمم والدول والأفراد وغير ذلك. ثم غلا هؤلاء حتى تركوا جزءاً كبيراً من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، التي كانت في ذم (الغلو في الصالحين)، فالغلو في الصالحين من المحاور الرئيسة التي كان الشيخ رحمه الله ينقدها، فأصبحت هذه المسألة المحورية من أساسيات العقيدة عند الغلاة من أتباع الشيخ محمد(1).
وساعد في غلوهم غلو الطرف الآخر؛ فأدى هذا الغلو من الخصوم لغلو مضاد من بعض أتباع الشيخ الذين اعتبروا كل من خَطَّأ الشيخ خصماً للدعوة الإصلاحية، ومن خصوم العقيدة السلفية، وقد يبالغ بعضهم ويجعل هذا من خصوم الإسلام!. إن خصوم الشيخ وغلوهم في تكفيره وتبديعه؛ ساعد التيار المغالي في أتباع الشيخ وتلاميذه بالظهور، والنطق باسم الدعوة، واحتكار الدفاع عن العقيدة السلفية، والغلو في ذم المخالفين، مع الغلو في الدفاع عن أخطاء الشيخ، فأصبح ما دعى إليه الشيخ مهجوراً من الخصوم والأتباع، على حد سواء إلا من رحم ربك(2)، وهذا ظاهر في زمننا هذا، فلا تكاد تجد إلا غلواً في الشيخ أو غلواً ضده. وعلامة المغالي ضد الشيخ أنه لا يقبل إلا وصفه بكل سوء، كما أنه من علامة المغالي فيه أنه لا يقبل نقد الشيخ، ويستعظم تخطئته، وكأن تخطئته من علامات الردة عن الإسلام، فمن وجدتموه يعترف بأن الشيخ قد أخطأ أو عنده استعداد لقبول هذا فهو معتدل، ومن رفض الحديث في الموضوع فهو من الغلاة.
وقد تشوهت صورتنا ـ نحن طلبة العلم في المملكة- بأننا لا نعترف بأخطاء الشيخ، وأننا نعده معصوماً ولا نقبل النقاش في تخطئته والرد على ما أخطأ فيه، وأنه أصبح عندنا كأحد الأنبياء، وغير ذلك من الاتهامات التي يساعد على انتشارها بعض الغلو الموجود عندنا في الشيخ. فمن هنا جاءت هذه المراجعة لكتاب مشهور من كتب الشيخ محمد واسمه (كشف الشبهات) انطلاقاً من عدة أمور:
الأمر الأول: أن أي منجز بشري يحتاج من وقت لآخر للمراجعة والنقد، ولا عيب في هذا لا شرعاً ولا عقلاً.
الأمر الثاني: أن بعض الأخطاء التي وقع فيها الشيخ وخاصة في التكفير؛ قد أوقعت كثيراً من طلبة العلم فيها تقليداً أو مغالاة، داخل المملكة وخارجها.
الأمر الثالث: إحجام كل طلبة العلم في المملكة تقريباً عن بيان تلك الأخطاء؛ فأصبح بيانها (فرض عين) على كل طالب علم قادر.
الأمر الرابع: من حق كل طالب علم في المملكة أن يذب تهمة الغلو عن نفسه، وعن أبناء بلده فكثير من الناس يعرضون عن الأخوة الدعاة القادمين من المملكة؛ بحجة أنهم يكفرون المسلمين وأنهم يتمحورون حول الشيخ محمد بن عبد الوهاب لا حول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ هذا معنى ما قرأته في بعض الكتب التي تنتقد غلونا في الشيخ، وهذا أيضاً معنى ما سمعته من بعض الأخوة الذين خرجوا للدعوة خارج المملكة نقلاً عن تصورات بعض المسلمين، وقد اشتكى هؤلاء الدعاة من الصدود والإعراض من الناس، وهذا الصدود والإعراض نتحمل جزءاً كبيراً من مسئوليته، وإن حاولنا أن نتغافل عن هذه المسئولية أو ننكرها.
إنني وجدت الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله - على فضله وأثره الدعوي الذي لا ينكره منصف - قد وقع في أخطاء أصبحت سنة متبعة عند بعض طلبة العلم؛ الذين أصبحوا يطلقون التكفير في حق علماء ودول وطلاب علم؛ بناءً على ما قرره الشيخ محمد في بعض كتبه ورسائله، وأصبح الواحد من هؤلاء يحتج بأن الشيخ كان يرى كفر هؤلاء العلماء، وكفر هؤلاء الحكام ؛ وكفر من هذه صفته…الخ. والتمسك بكلام الشيخ في هذا الأمور تمسك بالخطأ، والخطأ لا يجوز التقليد فيه. لكن بعض طلبة العلم لم يتنبه على مواضع هذا الخطأ، ويتهم العلماء المعتدلين بمجاملة غيرهم من العلماء والحكام في العالم الإسلامي، لأنهم لا يكفرونهم! بل وصل ببعضهم إلى تكفير العلماء والحكام جملة، سواء في هذه البلاد أو علماء وحكام المسلمين(3) عامةً.
لماذا كشف الشبهات؟!
ركزت على كتاب كشف الشبهات ـ نموذجاًـ مما كتبه الشيخ؛ لأن هذا الكتاب على صغره يتميز بالوضوح، وتلقين الحجج والبراهين، ولوضوح الأفكار فيه، ولانتشاره الواسع بين كثير من طلبة العلم وأثره الواضح فيهم.
الأمر الآخر: أن هذه القراءة هدفها بيان الملحوظات والأخطاء، فهي تراعي أبرز الملحوظات المحورية التي تفسر انتشار التكفير في بعض كتب الشيخ وبعض كتب من بعده من علماء الدعوة. فكانت وظيفة هذا العمل أن أكشف (سر) وجود هذا التكفير وهذا السر كان عبارة عن (شبه من أدلة) من الشيخ.. وكانت نتيجة استدلال بضعيف أو القطع في أمور ظنية أو استدلال غير صحيح من دليل ثابت أو نحو هذا.
الملحوظات على كتاب كشف الشبهات (4):
الملحوظة الأولى:
يقول الشيخ في الاستهلال ص5: (اعلم رحمك الله أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة وهو دين الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده فأولهم نوح عليه السلام، أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً...). أقول: هذا الكلام أوله صحيح لكن آخره فيه نظر؛ فإن الله أرسل نوحاً إلى قومه ليدعوهم لعبادة الله وترك الشرك؛ فقد كانوا يعبدون هذه الأصنام؛ وليس فعلهم مجرد (غلو في الصالحين)؛ فهذه اللفظة واسعة وتحتمل ـ غالباً ـ الخطأ والبدعة عند إطلاقها، وقد يصل الغلو إلى الكفر وهو النادر، فتقبيل اليد قد يعتبر من الغلو والتبرك بالصالحين قد يعتبر غلواً… لكن هذا ونحوه يعد من الأخطاء أو البدع وليست شركاً، وإن تجوزنا في إطلاق الشرك على هذه الأفعال فهو شرك أصغر؛ وليس من الشرك الأكبر المخرج من الملة. والشيخ محمد رحمه الله قال الكلام السابق ليدلل أن دعوته هي امتداد لدعوة الرسل؛ الذين بعثوا أو كأنهم لم يبعثوا إلا إلى قوم يغلون في الصالحين فقط! أو أكبر أخطائهم الغلو في الصالحين! وهذا غير صحيح فقد كانوا يشركون بالله ويعبدون الأصنام وفي هذا كفاية، لكن لأن الشيخ محمد كان خصومه يردون عليه بأن هؤلاء الذين تقاتلهم وتكفرهم أناس مسلمون؛ وقد يوجد عند عوامهم أو علمائهم غلو في الصالحين لكن هذا لا يبرر لك تكفيرهم ولا قتالهم، لما كانت هذه حجة خصومه استحضر هذا المعنى وكرره كثيراً في كتبه.
يجب أن يعرف القارئ الكريم أنني مع الشيخ رحمه الله في إنكار البدع والخرافات والأخطاء والممارسات التي يفعلها البعض كالغلو في الصالحين وتعظيم القبور والتمسح بها وما يصاحب ذلك من دعاء أو ذبح أو استشفاع أو توسل و..الخ. ولكن إنكاري لهذه البدع والخرافات وربما الشركيات في بعضها لا يجعلني أحكم على مرتكبها بالشرك والخروج من ملة الإسلام سواءً كان جاهلاً أو عالماً لأن الجاهل يمنعنا جهله من تكفيره، والعالم يمنعنا تأويله من تكفيره أيضاً. نعم قد يقال فلان ضال، فلان مبتدع، فلان منحرف.. فهذه التهمة خطرها يسير، إنما أن نقول: فلان كافر كفراً أكبر خارج عن ملة الإسلام! فهذه عظيمة من العظائم يترتب عليها أحكام ومظالم؛ فلا يجوز أن نتهم أحداً بالكفر إلا بدليل ظاهر لنا فيه من الله برهان؛ خاصة وأن الشيخ يريد بإطلاق الكفر الكفر الأكبر المخرج من الملة! فهذه نقطة من نقاط الافتراق الكبرى، وهي نقطة عظيمة بلا شك، لكن لا يجوز لأحد أن يرتب على نقدي للتكفير تسويغاً لهؤلاء؛ الذين يعتقدون تلك الاعتقادات، أو يمارسون تلك الشناعات، عند قبور الأنبياء والصالحين والصحابة وغيرهم.
نعود ونقول: كان الشيخ يُواجه من خصومه، بأن من تقاتلهم وتكفرهم مسلمون يصلون ويصومون ويحجون فكان الرد منه على هذه الشبهة - وهي شبهة قوية- حاضرة في ذهن الشيخ عند تأليفه الكتب أو كتابته الرسائل؛ فبالغ في تأكيده من باب ردة الفعل، كما هو ظاهر في العبارة السابقة، وتكرر عرضه لمحاسن كفار قريش وأصحاب مسيلمة والمنافقين في عهد النبوة والغلاة الذين قيل أن الإمام علياً حرقهم، فتكرر من الشيخ تفضيلهم على المسلمين في عصره من علماء وعامة! حتى يبرهن أنه لم يقاتل إلا أناساً أقل فضلاً من كفار قريش والمنافقين وأصحاب مسيلمة! وهذا خطأ بلا شك، مع ما في مقارناته التي يكتبها بين هؤلاء وهؤلاء من أقيسة تهمل فوارق كبيرة، فلذلك تجد استهلاله السابق ينبئ عن قلقله من الشبهة القوية التي كان الخصوم يواجهونه بها. وكان الأولى أن تكون عبارته كالتالي: (..أولهم نوح عليه السلام الذي أرسله الله إلى قومه الذين كانوا يعبدون الأصنام، وعبادة الأصنام هذه كانت بداياتها غلو في الصالحين حتى وصل هذا الغلو ـ مع طول الأمد - للعبادة المحضة لغير الله، فأنا أدعوكم بتجنب الغلو في الصالحين، حتى لا تصلوا لما وصل إليه هؤلاء المغالون؛ فأنا أخشى أن يصل الأمر بكم أو بذريتكم إلى عبادة هؤلاء الصالحين كالبدوي وعبد القادر الجيلاني والشاذلي وغيرهم...). أقول : لو كانت عبارته هكذا أو نحو هذا لكان أصح وأفضل وأبعد عن الغلو المضاد أو اعتساف الاستدلالات، فتنبه لهذا.
الملحوظة الثانية:
وقوله أيضاً في استهلاله ص5-6: (وآخر الرسل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين، أرسله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله..)!. أقول: هكذا يرسم الشيخ سامحه الله صورة جميلة وغير صحيحة عن كفار قريش ليبني على ذلك تكفير مسلمين (يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله..!!)، وهذا قياس مع الفارق الكبير كما سبق شرح ذلك وسيأتي. ثم ذكر الصفة التي من أجلها قاتل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الكفار وقاتل محمد بن عبد الوهاب المسلمين فقال: (لكنهم ـ يعني كفار قريش - يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله!) يعني فجاز قتالهم ويجوز لنا نحن قتالهم للسبب نفسه (5)!.
سبحان الله، كفار قريش الذين لا يقولون (لا إله إلا الله) ولا يؤمنون بيوم القيامة ولا البعث ولا جنة ولا نار ولا يؤمنون بنبي ويعبدون الأصنام ويقتلون ويظلمون ويشربون الخمور ويزنون ويأكلون الربا ويرتكبون المحرمات مثلهم مثل المسلمين المصلين الصائمين الحاجين المزكين المتصدقين المجتنبين للمحرمات والفاعلين مكارم الأخلاق (أفنجعل المسلمين كالمجرمين، مالكم كيف تحكمون)؟!
لا، ليسوا سواء، المسلمون ليسوا كالكفار حتى وإن تأول علماؤهم وجهل عوامهم فالتأويل والجهل باب واسع لكن لا يساوى فيه من يقوم بأركان الإسلام مع من ينكرها. ولا يتساوى من يؤمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نبياً ورسولاً ومن يكذبه ويظنه ساحراً أو كاهناً، ولا يتساوى من يتوسل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتبرك بالصالحين ـ وإن أخطأ- مع من يرجم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقتل الصالحين. لا يتساوى من يؤمن باليوم الآخر والجنة والنار مع من يقول (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا..). لا يتساوى من قال: (لا إله إلا الله) مع من قال: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً). لا، لا يتساوى من آمن ومن كفر؛ من صدق الرسل ومن كذبهم، من آمن بالبعث ومن كفر به. لا يتساوى من طلب شفاعة الأنبياء والصالحين ممن يطلب شفاعة الجماد. لا يتساوى ممن يطلب شفاعة الأنبياء وهو يعرف أنهم عبيد الله ممن يطلب شفاعة الأصنام ويجعلهم مشاركين لله في الألوهية.
لا يا شيخنا ـ رحمك الله - هناك فرق كبير بين هؤلاء وهؤلاء. وأقول للأخوة المختلفين معي في هذه المسألة:
معظم علماء المسلمين في عهد الشيخ محمد وفي أيامنا هذه يقولون بجواز التبرك بالصالحين (6) والتوسل بهم، فهل نحن اليوم نكفر جميع هؤلاء؟! أم نخطئهم فقط؟! بل ليت التخطئة بدليل وبرهان. إن قلتم: نحن نكفرهم ردَّ عليكم العلماء المعاصرون داخل المملكة وخارجها واتهموكم بالغلو في الدين وتكفير المسلمين! وإن قلتم: لا، نحن لا نكفرهم رددتم على الشيخ محمد بن عبد الوهاب تكفيره لهم لأنه كان يكفر علماء وعوام مثل علماء زماننا وعوامهم تماماً، ولن يخرج مقلدو الشيخ من هذه الإلزامات، وإن تكلفوا التفريق بين المسلمين (من العلماء والعوام) الذين كانوا في عهد الشيخ محمد وبين المسلمين (من العلماء والعوام) اليوم؛ كان التفريق بين كفار قريش وبين هؤلاء العلماء والعوام أكثر وضوحاً وظهوراً!.
نعم، لأن كل ما أنكره الشيخ محمد رحمه الله على علماء عصره من التوسل بالصالحين أو التبرك بهم أو الاستشفاع بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو زيارة القبور أو ترك الإنكار العلني على العوام والحكام.. الخ، لا زال إلى اليوم في علماء مصر والشام والحجاز واليمن والعراق والمغرب.. الخ فضلاً عن عوامهم. فأنتم إذا كفرتم هؤلاء لزمكم الرد على علمائنا الذين لا يكفرونهم، فإذا بلغ علماءنا ردكم ولم يكفروهم لزمكم تكفير علمائنا؛ لأن من قواعد الدعوة السلفية في كتابات كثير من علماء الدعوة أن (من شك في كفر الكافر فهو كافر)!.
الملحوظة الثالثة:
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص7: (وإلا فهؤلاء المشركون ـ يعني كفار قريش- يشهدون أن الله هو الخالق وحده، لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحي إلا هو، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيها، كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره..) ثم سرد الآيات في ذلك. أقول: هنا أيضاً رسم صورة زاهية للمشركين؛ ولم يذكر تكذيبهم بالبعث، ولا اعتقادهم أن الذي يهلكهم هو الدهر، ولا اعتقادهم انهم يمطرون بنوء كذا وكذا، ولا أكلهم الربا، وقتلهم النفس، ودفنهم البنات ولا غير ذلك من المظالم والجرائم؛ ولا وصفهم للنبي صلى الله عليه وآله سلم بأقبح الأوصاف وتكذيبهم له، وتعذيبهم المسلمين وقتلهم المستضعفين. فالشيخ محمد أخذ الآيات التي تدل على إيمانهم على وجه الجملة بأن الله هو الخالق الرازق.. مع أن هذه الاعترافات التي اعترف بها المشركون؛ قد أجاب عنها بعض العلماء؛ وذكروا أن المشركين إنما اعترفوا بها من باب (الإفحام والانقطاع)، وليس من باب الاقتناع، ولو كانوا صادقين في اعترافهم؛ لأتوا بلوازم هذا الاعتراف؛ فلذلك يأمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذكّرهم بلوازم هذا الاعتراف كما في قوله تعالى: (فقل: أفلا تتقون) (قل: أفلا تذكرون)؟!… الخ.
فكأن الله عز وجل يوبخهم بأنهم كاذبون، وأنهم لا يؤمنون بالله عز وجل خالقاً ورازقاً، كما لا يستطيعون في الوقت نفسه أن يقولوا أن الأصنام هي التي خلقت السماوات والأرض!! فبقوا بين الاعتراف بالقول (انقطاعاً) وممارسة ما يخالفه واقعاً، وهذا الجواب الذي أجاب به بعض العلماء إن كان ضعيفاً فأضعف منه الزعم بأن كفار قريش أفضل من المسلمين في عصر الشيخ.
والحاصل: أنه لا يجوز للشيخ رحمه الله ولا لغيره أن يذكر فضائل الكفار ويهمل أخطاءهم، بينما يختار أخطاء المسلمين وينسى فضائلهم! ولا يجوز أن نختار الآيات التي قد نوهم بها العوام ـ ولو دون قصد - بأن فيها ثناء على الكفار، ونترك الآيات التي تذمهم وتبين كفرهم وظلمهم وتكذيبهم بالبعث... الخ. لا يجوز أن نقوم بكل هذا حتى نسوغ به قتالنا للمسلمين الركع السجود؛ بزعمنا أنهم مثل الكفار تماماً الذين (يصلون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله..)؟! وأننا نقوم بعمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه! فهذا غير صحيح، والاعتراف بالخطأ خير من التمادي في الباطل، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ومن رضي المعصية كان كمن شهدها وشارك فيها أو قريب من ذلك، فلنتق الله ولا تخدعنا القوة والكثرة عن ديننا، ولا نغتر بكثرة المناصرين في الباطل، فإن هؤلاء لا يملكون جنة ولا ناراً، ولعل الشيخ الآن أحوج إلى استغفارنا من حاجته إلى نصرة الأخطاء التي وقع فيها، لكننا نغتر بالكثرة والغوغاء.
ثم على هذا المنهج العجيب في المقارنة بين (فضائل الكفار) و(أخطاء المسلمين)! يمكننا أن نقول: كيف نقاتل اليهود؟! وهم يصدقون في القول، ويحترمون العدالة، ويوزعون الأموال بالسوية، ويؤمنون بالله، ويحترمون المقدسات، ويحترمون حرية الرأي،..الخ! ونترك قتال المسلمين الذين يظلمون؟! ويتعاملون بالربا؟ ويكذبون؟ ويخلفون المواعيد؟ ويخونون في الأمانات؟ والذين يجيزون التوسل و يتبركون بالصالحين؟.. الخ. وهكذا فإن ذكرنا محاسن موجودة عند اليهود؛ وتناسينا مساوئهم وعكسنا القضية في حق المسلمين؛ تصبح المسألة ملتبسة، وأصبح قتال المسلمين أولى من قتال اليهود المحتلين(7)!.
الملحوظة الرابعة:
ويقول الشيخ ص9: (فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا – يقصد بأن الله هو الخالق الرازق-.. ولم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، عرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو (توحيد العبادة)، الذي يسميه المشركون! في زماننا (الاعتقاد) !!) اهـ. أقول: سامح الله الشيخ محمد ففي هذا النص تكفير صريح لعلماء المسلمين في زمانه!. ثم إن المسلمين لا يعبدون إلا الله بخلاف هؤلاء المشركين؛ الذين يسجدون للأصنام؛ وإذا لم يكن هذا واضحاً؛ فلن نستطيع التفريق بين أمور أخرى أشد التباساً، ومن تلك الأمور الملتبسة اتهام بعض العلماء للشيخ محمد وأصحابه بأنهم خوارج؛ لأنهم عندهم ممن يكفرون المسلمين ويستبيحون دماءهم، أنهم يخرجون من قبل المشرق، وأن سيماهم التحليق و... الخ. فإذا كانت التسوية بين الخوارج والوهابية ظلماً؛ فالتسوية بين كفار قريش والمسلمين أكثر ظلماً، وأبعد عن الحق، وإن كان الشيخ معذوراً في تفضيل كفار قريش على علماء زمانه؛ فالذي يجعل علماء الدعوة من الخوارج أولى بالعذر؛ لأن الخوارج مع هذا مسلمون على الراجح، ولم يكفرهم الصحابة بينما كفار قريش لا يشك أحد في كفرهم.
الملحوظة الخامسة:
قوله ص9 في وصف محاسن كفار قريش وغيرهم: (كانوا يدعون الله سبحانه ليلاً ونهاراً! ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم إلى الله ليستغفروا له، أو يدعو رجلاً صالحاً مثل اللات! أو نبياً مثل عيسى وعرفت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قاتلهم على هذا الشرك! ودعاهم إلى إخلاص العبادة... فقاتلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكون الدعاء كله لله والنذر كله والذبح كله لله والاستغاثة كلها بالله وجميع العبادات لله...الخ) أهـ. أقول: الكفار لم يكونوا يدعون الله ليلاً ونهاراً! وإنما كانوا يذكرون هبل واللات ومناة، ولو كانوا يدعون الله ليلاً ونهاراً لما نهى الله نبيه عن (عبادة الذي يدعون) كما في قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله..)(8)، وقال تعالى واصفاً حال الكفار ساعة الموت: (حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا: أين ما كنتم تدعون من دون الله..)(9)؟! وقال (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم..) (10)، وقال عن الكفار: (قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين ندعو من دونك..) (11) وغير ذلك كثير من الآيات التي لم أشأ تتبعها، وهي تخبر عنهم بخلاف ما أخبر الشيخ، بأن أكثر دعاؤهم هو للأصنام وليس كما يقول الشيخ من أنهم (يدعون الله ليلاً ونهاراً)! إضافة إلى أنهم لم يكونوا يدعون الله بإخلاص إلا في الشدائد.
ولو كانوا يدعون الله ليلاً ونهاراً - كما وصفهم الشيخ - لغبطهم عليه زهاد الصحابة! فهذه صورة من الصور الكثيرة الجميلة التي يمدح فيها الشيخ كفار قريش، ليس حباً فيهم؛ ولكن ليقارن بينهم وبين مسلمي عصره؛ ثم ليبني على تلك المقارنة الناقصة تفضيلهم على المسلمين، ثم البناء على هذا كله تكفير المسلمين وقتالهم (12). والذي يجب أن يصحح هنا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قاتل الكفار، لأمور كثيرة أهمها الشرك الأكبر بالله وإخراج المسلمين من ديارهم وإنكارهم النبوة وارتكابهم المظالم.. الخ. فتعليل الشيخ محمد ناقص وهذا النقص في التعليل أدى إلى قتال مسلمين (يصلون و يحجون و يذكرون الله)!. ثم لم يرد في القرآن الكريم أن علة قتال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للكفار حتى يكون الذبح كله لله والنذر كله لله والاستغاثة كلها بالله.. فقط. وإنما الأسباب الكبرى الرئيسة هي : الشرك الأكبر وإنكار النبوة وإخراج المسلمين من ديارهم..الخ. فالشيخ يذكر أسباباً صغيرة مشتبهة لم تذكر في النصوص وليست متحققة ولا يُدرى أهي سبب في القتال أم لا؟! ويترك الأسباب الكبرى المتفق عليها والمنصوص عليها في القرآن الكريم بأنها هي سبب قتال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للكفار.
الملحوظة السابعة:
ثم يواصل ص11 بقوله: (لم يريدوا أن الله هو الخالق الرازق المدبر فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك، وإنما يعنون بالله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد!) أهـ. أقول: هذا أيضاً فيه تكفير صريح للمسلمين في زمانه فالسيد يطلقها كثير من الناس في القرون المتأخرة إلى اليوم على أهل البيت، وإطلاقها ليس كفراً ولا حراماً، نعم قد يكون مكروهاً، والحديث الوارد في النهي فيه نزاع قوي، وإن كان أهل نجد أو الحجاز يطلقون السيد على الذي يتبركون به ويطلبون منه الدعاء فهذه بدعة قد تكون كبرى وقد تكون صغرى بحسب الحالة لكنها ليست كفراً، ثم ليس صحيحاً على إطلاقه ما ذكره الشيخ من أن المشركين كلهم كانوا يعلمون أن الله هو الخالق الرازق.. فهذا متحقق في بعض الكفار لا كلهم؛ فالدهريون مثلاً لا يؤمنون بهذا بنص القرآن الكريم.
الملحوظة الثامنة:
قوله ص11: (فأتاهم النبي (صلى الله عليه وسلم) يدعوهم إلى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها..) أ.هـ. أقول: لكن مجرد التلفظ بها ينجيهم من التكفير والقتل بينما من يقولها من معاصري الشيخ لا تعصمهم من تكفير ولا قتال ، فالمنافقون في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) يقولون الشهادتين بألسنتهم، وكان النبي (ص) يعرف ذلك في كثير منهم؛ ومع ذلك عصمت دماءهم وأموالهم، أما المعاصرون للشيخ من المسلمين فلم تعصم دماءهم و أموالهم لا الشهادتان ولا أركان الإسلام.. مع صدقهم في ذلك.
الملحوظة التاسعة:
ويقول ص12: (فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفرة، بل يظن (يعني المدعي للإسلام) أن ذلك (يعني تفسيرها) هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني)؟! أهـ. أقول: هذا غير صحيح؛ فليس هناك مسلم واحد يقول إن معنى (لا إله لا الله) هو التلفظ بها دون اعتقاد القلب لذلك. والمسلمون جميعهم علماؤهم وعوامهم، يمقتون في المسلم أن يقول ما لا يعتقد، بل حتى العوام يسمون هذا (نفاقاً)، وهم يذمون من يخالف قوله فعله، بل حتى الكفار يذمون من يخالف قوله فعله.. فكيف يظن الشيخ هذا الكلام - سامحه الله ـ أن المسلمين في عصره يقولون بجواز أن نشهد الشهادتين بلا اعتقاد لمعانيها، فنقول (لا إله إلا الله) ونعبد غيره، (ونقول: محمد رسول الله) ونعتقد كذبه؟! فالمسلمون في عهد الشيخ مثل المسلمين اليوم في البلاد الإسلامية، فهل يجوز لنا أن نقول اليوم: إنهم يقولون: (نقول: الشهادتين باللفظ فقط وسننجو حتى وإن اعتقدنا خلافها)؟! نعم لهم شبه وأدلة يستجيزون بها التوسل والاستشفاع والاستغاثة ونحو ذلك، وهذا خطأ بلا شك عندنا في ذلك، لكن هم عندهم شك، بل هم لا يرون هذا متناقضاً مع الشهادتين، ولهم في ذلك مؤلفات وأدلة وشبهات وتأويلات، مثل تأويلاتنا وشبهاتنا؛ في تكفير المسلمين ومدح كفار قريش وتفضيلهم على المسلمين!! وهم يصرون على عقائدهم مثل إصرارنا؛ ويتهمون ناصحيهم بالعمل لصالح الوهابية، مثلما نتهم ناصحينا بالقبورية والعمل لصالح الصوفية والشيعة، وستبقى نظرية المؤامرة والتشكيك في نيات الآخرين حاضرة في حواراتنا، ما دام الغلو والغلو المضاد لهما حضورهما في هذه الحوارات ولن يقطع هذا إلا المباهلة. ثم كيف يجعلهم ممن (يدعي الإسلام)؟! يعني وليسوا مسلمين!! وهذا تكفير آخر فتنبه!!
الملحوظة العاشرة:
ثم يقول ص13: (والحاذق منهم – يعني ممن يدعي الإسلام من علماء المسلمين!- يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق إلا الله)! ثم يتبع هذا بقاصمة وهي (فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله)؟!. أقول: سبق الجواب بأن علماء المسلمين في زمانه لا يفسرون الشهادتين كما ذكر هنا ـ فيما أعلم - نعم لهم تأويل بأن التبرك والتوسل لا يناقضها وهذا شيء آخر. لكن أن يأتي عالم ويزعم أن (لا إله إلا الله) ليس معناها إلا (لا خالق إلا الله ولا رازق إلا الله) مع جواز صرف العبادة لغيره فلا أظن عالماً عاقلاً يقول هذا، ومن زعم هذا فعليه الدليل والبرهان.
الملحوظة الحادية عشرة:
ذكر ص15،16: أن أعداء التوحيد قد يكون عندهم علم وحجج وفصاحة … وهذا إقرار منه بأنه يتحدث عن معارضيه من علماء عصره في نجد والحجاز والشام(13) .. معهم علم وفصاحة وقبل هذا ينفي أنهم لا يعرفون معنى لا إله إلا الله!
الملحوظة الثانية عشرة:
ويقول ص17: (والعامي من الموحدين يغلب ألفاً من علماء هؤلاء المشركين)! أقول: هذا تكفير واضح لعدد كبير من العلماء ويستحيل في العادة أن يوجد مثل هذا العدد من العلماء الكفار في بلد واحد؛ فاعرف هذا فإنه مهم وهو من أدلة من يتهم الشيخ بتكفير من لم يتبعه!! والشيخ وأتباعه يقولون : معاذ الله أن نكفر المسلمين لكن هذا المسلم عند الشيخ له شروط طويلة يختلف فيها مع العلماء قبل العوام ولا تكاد تنطبق إلا على من يقلده ويتبعه – كما سيأتي مدعماً في الأمثلة القادمة- فالخلاف يكاد يكون لفظياً فقط!!.
الملحوظة الثالثة عشرة:
ويقول ص19: (وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جواباً لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا...)!!.أهـ. أقول: يا ترى من هم هؤلاء المشركون الذين يغوصون في أدلة الكتاب والسنة مع فصاحة وعلم وحجج…؟! أليسوا علماء مختلفين معه في دعوى كفر مخالفيه من علماء وعوام؟ لا ريب أن هذا فيه تكفير صريح للمخالفين له ممن نسميهم (خصوم الدعوة) أو (أعداء التوحيد) أو (أعداء الإسلام)!! وهذا ظلم، لأن الشيخ كان يرد على مسلمين ولم يكن يرد على كفار ولا مشركين، وهذه رسائله وكتبه ليس فيها تسمية لمشرك ولا كافر وإنما فيها تسمية لعلماء المسلمين في عصره كابن فيروز، ومربد التميمي، وابني سحيم سليمان وعبد الله، وعبد الله بن عبد اللطيف، ومحمد بن سليمان المدني، وعبد الله بن داود الزبيري، والحداد الحضرمي، وسليمان بن عبد الوهاب، وابن عفالق، والقاضي طالب الحميضي، وأحمد بن يحي، وصالح بن عبد الله، وابن مطلق، وغيرهم من العلماء الذين يطلق عليهم (المشركون في زماننا)!! و قد استمر علماء الدعوة بعده في تكفير أو تبديع يكاد يصل للتكفير لعدد آخر من علماء المسلمين ـ أخطأوا ولم يكفروا- في عهد الدولة السعودية الثانية كابن سلوم وعثمان بن سند وابن منصور وابن حميد وأحمد بن دحلان المكي وداود بن جرجيس وغيرهم. وفي القرن الرابع عشر الهجري استمر تكفيرنا وتبديعنا لعلماء معاصرين ـ أخطأوا ولم يكفروا - كالكوثري، والدجوي، وشلتوت، وأبي زهرة، والغزالي، والقرضاوي، والطنطاوي، والبوطي، والغماري، والكبيسي، وغيرهم، ولو نستطيع لقلنا عنهم (المشركون في زماننا) وقد قيل!
ومن المؤسف أنه لا يوقف تكفيرنا وتبديعنا للآخرين إلا السلطة أو العجز، ولولاهما لما أبقينا أحداً إلا وصمناه بكفر أو بدعة مكفرة! مع أن الواجب أن يكون هذا التورع عن التكفير والتبديع من العلماء لا من الحكام، ولا وقت العجز، لأن العلماء يعرفون عظمة حق المسلم وتحريم دمه وماله وعرضه، فهي آخر ما أوصى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع، فهذه الخطبة التي بثها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مائة ألف من المسلمين؛ يحفظها بألفاظها العلماء لا الحكام، فكان الأولى والأجدر بهم حفظ ورعاية هذه الوصية النبوية الكبرى.
الملحوظة الرابعة عشرة:
قوله ص12 مخاطباً أحد العلماء المختلفين معه: (وما ذكرتَ لي أيها المشرك!! من القرآن أو كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) لا أعرف معناه)! أقول: يا ترى من هذا المشرك الذي يستدل على الشيخ بالقرآن والسنة؟! أي مشرك هذا؟! ثم هذا تكفير للمعين فتنبه.
الملحوظة الخامسة عشرة:
ويقول ص23: (فإن أعداء الله (هكذا!) لهم اعترافات كثيرة يصدون بها الناس منها قولهم نحن لا نشرك بالله بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عليه السلام لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن عبد القادر أو غيره ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم فجاوبه بما تقدم وهو أن الذين قاتلهم رسول الله (ص) مقرون بما ذكرت ومقرون أن أوثانهم لا تدبر شيئاً وإنما أرادوا الجاه والشفاعة…) أهـ. أقول: هذا يدل على أن الشيخ يرى تكفير هؤلاء الذين يقولون القول السابق، وأنه يعتبرهم مشركين شركاً أكبر؛ كشرك كفار قريش وهذا عين التكفير، وأكبر أحوالهم أن يكونوا مبتدعين فقط، والمبتدع لا يجوز تكفيره فضلاً عن قتله، وكل المبتدعين المقتولين عبر التاريخ إنما كانوا مقتولين لظروف سياسية بحتة؛ يدركها من درس التاريخ(14).
الملحوظة السادسة عشر:
قوله ص24: (فإنه إذا أقر ـ يعني المخالف للشيخ - أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله!! وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة ولكن أرادوا أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكره (من صلاتهم وصلاحهم بخلاف الكفار) فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الصالحين ومنهم من يدعو الأولياء...) أهـ. أقول: الكفار لا يؤمنون ببعض الربوبية، ولا بالألوهية كلها، وهم يعبدون الأصنام ذاتها، ولم يقتصروا على الطلب (طلب الشفاعة فقط)، بل قولهم قالوه انقطاعاً لا اعتقاداً، أو أنه قول بعضهم فقط، لأنه ثبت عن بعضهم على الأقل أنهم يقولون بالدهر ولا يؤمنون بالبعث. أما المسلمون فإنهم لا يسجدون لأحد غير الله، ولا يعبدون إلا الله، وقد يجهل بعضهم أو يتأول بأن الصالحين من الأحياء والأموات، يجوز التوسل بهم وطلب شفاعتهم عند الله، وأنهم إن دعوا لهم فإنهم ينفعونهم بإذن الله لا استقلالاً عن إرادة الله (15) وهذا يختلف كثيراً عن هؤلاء الكفار. والحاصل أن التشابه بين الكفار والمسلمين المعاصرين ـ إن سلمنا به - أبعد بكثير من التشابه بين الخوارج واتباع الشيخ، فالتشابه بينهم من التكفير والتحليق واستحلال الدماء... الخ أكبر وأظهر. وحجة الخوارج على علي رضي الله عنه هي قريبة من حجة الوهابية على مخالفيهم، فالخوارج قالوا بوجوب صرف الحكم كله لله (لا حكم إلا لله)!! وهي كلمة حق أريد بها باطل مثلما ظن الوهابية من قولهم (لا ذبح إلا لله ولا توسل إلا بالله ولا استغاثة إلا بالله.. الخ). فهذا حق من حيث الأصل لكن قد تكون هناك صور في التطبيق تخرج عن هذا الإطلاق؛ وأقل الأحوال أن تكون هناك ممارسات خاطئة للإطلاقات السابقة، يفعلها البعض بتأويل أو جهل، فهذه الممارسة لا يكفر صاحبها إلا بعد ارتفاع موانع التكفير وقيام الحجة.
الملحوظة السابعة عشر:
قال ص26: (فإن قال ـ يعني المخالف للشيخ - الكفار يريدون منهم (من الأصنام) وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر لا أريد إلا منه والصالحون ليس لهم من الأمر شيء ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم فالجواب: أن هذا قول الكفار سواءً بسواء!!)! اهـ. أقول: الذي يقول الكلام السابق لا يكفر؛ لأنه متأول أو جاهل، وكونه يتفق مع الكفار في جزئية يسيرة لا يعني مساواته بالكفار أو أن لهما الحكم نفسه (16). بمعنى لو أقسم أحد بغير الله، فقد شارك الكفار في جزئية يسيرة، لكن لا يكفر بسببها، فالشيخ غفل عن مثل هذه الدقائق؛ فوقع في تكفير المسلمين، فتركيز الشيخ على آية (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)، التي هي - فيما يظهر - حكاية عن انقطاعهم واعتذارهم الذي لا يصاحبه صدق نية، وإغفاله لبقية الآيات في وصف الكفار وعقائدهم، فيه نقص في استيفاء مواطن اختلاف الكفار عن المسلمين. ثم طلب الشفاعة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والصالحين مع اعتقاد أنهم جميعاً عبيد الله، وأنهم لا يعطون شيئاً إلا بإذن الله، هذا كله ليس كالسجود للأصنام، وإن كان خطأً أو بدعة صغرى أو كبرى، ولذلك يستطيع مخالف الشيخ أن يلزمه تكفير شارب الخمر، لأنه لا يشربها إلا وهو يحبها والمحبة عبادة، وصرف شيء من المحبة لغير الله شرك وهكذا..
وإن قلتم: نحن لا نعترض على محبة الصالحين وإنما نعترض على عبادتهم. قيل لكم: هؤلاء لا يعبدونهم وأنتم تسمون توسلهم بالصالحين عبادة وهم لا يقرون لكم بأن هذه عبادة ولهم أدلة في ذلك ـ على ضعفها - لكنها تمنع من تكفيرهم فهذا هو التأويل الذي ذكر العلماء أنه يمنع من التكفير. فإن قلتم: التوسل عبادة. قالوا: ما دليلكم على ذلك؟ فإن قلتم: لم يفعله السلف؟ قالوا: قد فعله عمر بن الخطاب بالعباس بن عبد المطلب. فإن قلتم: عمر توسل بالحي لا بالميت. قالوا: وهل تجوز عبادة الحي؟ إن قلتم: لا؟ قالوا: فلماذا تسمون (التوسل) عبادة؟! هذا دليل على أنكم تسمون الأشياء بغير اسمها. فإن قلتم: التوسل بالميت عبادة بخلاف الحي. قالوا لكم: ما دليلكم على التفريق؟ فإن قلتم: دليلنا فعل الصحابة فإنهم فعلوا هذا ولم يفعلوا ذلك. قالوا لكم: - على التسليم لكم - فإنهم قد يتركون أمراً ولا يكون محرماً فضلاً عن كونه كفراً مخرجاً من الملة؟! ثم عندنا أدلة في توسل بعضهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ميتاً، كما في حديث عثمان بن حنيف المشهور. فإن قلتم: هذا عندنا ضعيف. قالوا لكم: وأكثر الأحاديث التي تستدلون بها هي عندنا ضعيفة، بل هي ضعيفة عند التحقيق، مثل حديث تقريب الذباب وحديث شرك آدم وحواء، وغيرها من الأحاديث الضعيفة والموضوعة الموجودة في كتبكم. فإن قلتم: الأولى تجنب التوسل للشبهة والاختلاف. قالوا لكم: أولى من ذلك تجنب تكفير المسلمين وتفضيل كفار قريش عليهم لأن الأصل المتيقن هو الإسلام لا الشرك، فلا نترك المتيقن للمظنون. فإن قلتم: التشديد لا بد منه ليهتدي المسلمون لدين الله ويحذروا تلك البدع والخرافات. قالوا لكم: والرد عليكم لا بد منه ليحذر طلاب العلم من الوقوع في تكفير المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم. فإن قلتم: تعالوا للتحاكم لكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وترك التقليد. قالوا لكم: مرحباً وأهلاً فقد قلنا لكم هذا من زمن طويل وأنتم ترفضون، و تستعدون علينا السلطات، ولم تنتهوا عن تكفير الأبرياء حتى كفر بعضكم بعضاً، و تظالمتم فعرفتم عندئذ مقدار ظلمكم لنا في الماضي، وتعرفتم على بعض ما كنا نستدل به في براءتنا من الكفر، لأنكم ذكرتم أدلة في الرد على من يكفركم كنا نكررها في الرد على تكفيركم لنا، فاعتدالكم في الأزمنة الأخيرة للأسف كان لمصلحة أنفسكم و حمايتها لا حماية جانب الشريعة .
الجذور الفكرية والعقدية لمنهج التكفير في السعودية
قراءة في كتاب (كشف الشبهات) للشيخ محمد بن عبد الوهاب
حسن بن فرحان المالكي
http://www.alhejazi.net/images/almaliki_210.jpg
ظهر في زمن الشيخ محمد وبعده من أتباعه من يغالي في الشيخ غلواً كبيراً، ويتعصب لكل ما كتبه في رسائله وفتاواه؛ بل وحكمه على الأحاديث، وآرائه في الأمم والدول والأفراد وغير ذلك. ثم غلا هؤلاء حتى تركوا جزءاً كبيراً من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، التي كانت في ذم (الغلو في الصالحين)، فالغلو في الصالحين من المحاور الرئيسة التي كان الشيخ رحمه الله ينقدها، فأصبحت هذه المسألة المحورية من أساسيات العقيدة عند الغلاة من أتباع الشيخ محمد(1).
وساعد في غلوهم غلو الطرف الآخر؛ فأدى هذا الغلو من الخصوم لغلو مضاد من بعض أتباع الشيخ الذين اعتبروا كل من خَطَّأ الشيخ خصماً للدعوة الإصلاحية، ومن خصوم العقيدة السلفية، وقد يبالغ بعضهم ويجعل هذا من خصوم الإسلام!. إن خصوم الشيخ وغلوهم في تكفيره وتبديعه؛ ساعد التيار المغالي في أتباع الشيخ وتلاميذه بالظهور، والنطق باسم الدعوة، واحتكار الدفاع عن العقيدة السلفية، والغلو في ذم المخالفين، مع الغلو في الدفاع عن أخطاء الشيخ، فأصبح ما دعى إليه الشيخ مهجوراً من الخصوم والأتباع، على حد سواء إلا من رحم ربك(2)، وهذا ظاهر في زمننا هذا، فلا تكاد تجد إلا غلواً في الشيخ أو غلواً ضده. وعلامة المغالي ضد الشيخ أنه لا يقبل إلا وصفه بكل سوء، كما أنه من علامة المغالي فيه أنه لا يقبل نقد الشيخ، ويستعظم تخطئته، وكأن تخطئته من علامات الردة عن الإسلام، فمن وجدتموه يعترف بأن الشيخ قد أخطأ أو عنده استعداد لقبول هذا فهو معتدل، ومن رفض الحديث في الموضوع فهو من الغلاة.
وقد تشوهت صورتنا ـ نحن طلبة العلم في المملكة- بأننا لا نعترف بأخطاء الشيخ، وأننا نعده معصوماً ولا نقبل النقاش في تخطئته والرد على ما أخطأ فيه، وأنه أصبح عندنا كأحد الأنبياء، وغير ذلك من الاتهامات التي يساعد على انتشارها بعض الغلو الموجود عندنا في الشيخ. فمن هنا جاءت هذه المراجعة لكتاب مشهور من كتب الشيخ محمد واسمه (كشف الشبهات) انطلاقاً من عدة أمور:
الأمر الأول: أن أي منجز بشري يحتاج من وقت لآخر للمراجعة والنقد، ولا عيب في هذا لا شرعاً ولا عقلاً.
الأمر الثاني: أن بعض الأخطاء التي وقع فيها الشيخ وخاصة في التكفير؛ قد أوقعت كثيراً من طلبة العلم فيها تقليداً أو مغالاة، داخل المملكة وخارجها.
الأمر الثالث: إحجام كل طلبة العلم في المملكة تقريباً عن بيان تلك الأخطاء؛ فأصبح بيانها (فرض عين) على كل طالب علم قادر.
الأمر الرابع: من حق كل طالب علم في المملكة أن يذب تهمة الغلو عن نفسه، وعن أبناء بلده فكثير من الناس يعرضون عن الأخوة الدعاة القادمين من المملكة؛ بحجة أنهم يكفرون المسلمين وأنهم يتمحورون حول الشيخ محمد بن عبد الوهاب لا حول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ هذا معنى ما قرأته في بعض الكتب التي تنتقد غلونا في الشيخ، وهذا أيضاً معنى ما سمعته من بعض الأخوة الذين خرجوا للدعوة خارج المملكة نقلاً عن تصورات بعض المسلمين، وقد اشتكى هؤلاء الدعاة من الصدود والإعراض من الناس، وهذا الصدود والإعراض نتحمل جزءاً كبيراً من مسئوليته، وإن حاولنا أن نتغافل عن هذه المسئولية أو ننكرها.
إنني وجدت الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله - على فضله وأثره الدعوي الذي لا ينكره منصف - قد وقع في أخطاء أصبحت سنة متبعة عند بعض طلبة العلم؛ الذين أصبحوا يطلقون التكفير في حق علماء ودول وطلاب علم؛ بناءً على ما قرره الشيخ محمد في بعض كتبه ورسائله، وأصبح الواحد من هؤلاء يحتج بأن الشيخ كان يرى كفر هؤلاء العلماء، وكفر هؤلاء الحكام ؛ وكفر من هذه صفته…الخ. والتمسك بكلام الشيخ في هذا الأمور تمسك بالخطأ، والخطأ لا يجوز التقليد فيه. لكن بعض طلبة العلم لم يتنبه على مواضع هذا الخطأ، ويتهم العلماء المعتدلين بمجاملة غيرهم من العلماء والحكام في العالم الإسلامي، لأنهم لا يكفرونهم! بل وصل ببعضهم إلى تكفير العلماء والحكام جملة، سواء في هذه البلاد أو علماء وحكام المسلمين(3) عامةً.
لماذا كشف الشبهات؟!
ركزت على كتاب كشف الشبهات ـ نموذجاًـ مما كتبه الشيخ؛ لأن هذا الكتاب على صغره يتميز بالوضوح، وتلقين الحجج والبراهين، ولوضوح الأفكار فيه، ولانتشاره الواسع بين كثير من طلبة العلم وأثره الواضح فيهم.
الأمر الآخر: أن هذه القراءة هدفها بيان الملحوظات والأخطاء، فهي تراعي أبرز الملحوظات المحورية التي تفسر انتشار التكفير في بعض كتب الشيخ وبعض كتب من بعده من علماء الدعوة. فكانت وظيفة هذا العمل أن أكشف (سر) وجود هذا التكفير وهذا السر كان عبارة عن (شبه من أدلة) من الشيخ.. وكانت نتيجة استدلال بضعيف أو القطع في أمور ظنية أو استدلال غير صحيح من دليل ثابت أو نحو هذا.
الملحوظات على كتاب كشف الشبهات (4):
الملحوظة الأولى:
يقول الشيخ في الاستهلال ص5: (اعلم رحمك الله أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة وهو دين الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده فأولهم نوح عليه السلام، أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً...). أقول: هذا الكلام أوله صحيح لكن آخره فيه نظر؛ فإن الله أرسل نوحاً إلى قومه ليدعوهم لعبادة الله وترك الشرك؛ فقد كانوا يعبدون هذه الأصنام؛ وليس فعلهم مجرد (غلو في الصالحين)؛ فهذه اللفظة واسعة وتحتمل ـ غالباً ـ الخطأ والبدعة عند إطلاقها، وقد يصل الغلو إلى الكفر وهو النادر، فتقبيل اليد قد يعتبر من الغلو والتبرك بالصالحين قد يعتبر غلواً… لكن هذا ونحوه يعد من الأخطاء أو البدع وليست شركاً، وإن تجوزنا في إطلاق الشرك على هذه الأفعال فهو شرك أصغر؛ وليس من الشرك الأكبر المخرج من الملة. والشيخ محمد رحمه الله قال الكلام السابق ليدلل أن دعوته هي امتداد لدعوة الرسل؛ الذين بعثوا أو كأنهم لم يبعثوا إلا إلى قوم يغلون في الصالحين فقط! أو أكبر أخطائهم الغلو في الصالحين! وهذا غير صحيح فقد كانوا يشركون بالله ويعبدون الأصنام وفي هذا كفاية، لكن لأن الشيخ محمد كان خصومه يردون عليه بأن هؤلاء الذين تقاتلهم وتكفرهم أناس مسلمون؛ وقد يوجد عند عوامهم أو علمائهم غلو في الصالحين لكن هذا لا يبرر لك تكفيرهم ولا قتالهم، لما كانت هذه حجة خصومه استحضر هذا المعنى وكرره كثيراً في كتبه.
يجب أن يعرف القارئ الكريم أنني مع الشيخ رحمه الله في إنكار البدع والخرافات والأخطاء والممارسات التي يفعلها البعض كالغلو في الصالحين وتعظيم القبور والتمسح بها وما يصاحب ذلك من دعاء أو ذبح أو استشفاع أو توسل و..الخ. ولكن إنكاري لهذه البدع والخرافات وربما الشركيات في بعضها لا يجعلني أحكم على مرتكبها بالشرك والخروج من ملة الإسلام سواءً كان جاهلاً أو عالماً لأن الجاهل يمنعنا جهله من تكفيره، والعالم يمنعنا تأويله من تكفيره أيضاً. نعم قد يقال فلان ضال، فلان مبتدع، فلان منحرف.. فهذه التهمة خطرها يسير، إنما أن نقول: فلان كافر كفراً أكبر خارج عن ملة الإسلام! فهذه عظيمة من العظائم يترتب عليها أحكام ومظالم؛ فلا يجوز أن نتهم أحداً بالكفر إلا بدليل ظاهر لنا فيه من الله برهان؛ خاصة وأن الشيخ يريد بإطلاق الكفر الكفر الأكبر المخرج من الملة! فهذه نقطة من نقاط الافتراق الكبرى، وهي نقطة عظيمة بلا شك، لكن لا يجوز لأحد أن يرتب على نقدي للتكفير تسويغاً لهؤلاء؛ الذين يعتقدون تلك الاعتقادات، أو يمارسون تلك الشناعات، عند قبور الأنبياء والصالحين والصحابة وغيرهم.
نعود ونقول: كان الشيخ يُواجه من خصومه، بأن من تقاتلهم وتكفرهم مسلمون يصلون ويصومون ويحجون فكان الرد منه على هذه الشبهة - وهي شبهة قوية- حاضرة في ذهن الشيخ عند تأليفه الكتب أو كتابته الرسائل؛ فبالغ في تأكيده من باب ردة الفعل، كما هو ظاهر في العبارة السابقة، وتكرر عرضه لمحاسن كفار قريش وأصحاب مسيلمة والمنافقين في عهد النبوة والغلاة الذين قيل أن الإمام علياً حرقهم، فتكرر من الشيخ تفضيلهم على المسلمين في عصره من علماء وعامة! حتى يبرهن أنه لم يقاتل إلا أناساً أقل فضلاً من كفار قريش والمنافقين وأصحاب مسيلمة! وهذا خطأ بلا شك، مع ما في مقارناته التي يكتبها بين هؤلاء وهؤلاء من أقيسة تهمل فوارق كبيرة، فلذلك تجد استهلاله السابق ينبئ عن قلقله من الشبهة القوية التي كان الخصوم يواجهونه بها. وكان الأولى أن تكون عبارته كالتالي: (..أولهم نوح عليه السلام الذي أرسله الله إلى قومه الذين كانوا يعبدون الأصنام، وعبادة الأصنام هذه كانت بداياتها غلو في الصالحين حتى وصل هذا الغلو ـ مع طول الأمد - للعبادة المحضة لغير الله، فأنا أدعوكم بتجنب الغلو في الصالحين، حتى لا تصلوا لما وصل إليه هؤلاء المغالون؛ فأنا أخشى أن يصل الأمر بكم أو بذريتكم إلى عبادة هؤلاء الصالحين كالبدوي وعبد القادر الجيلاني والشاذلي وغيرهم...). أقول : لو كانت عبارته هكذا أو نحو هذا لكان أصح وأفضل وأبعد عن الغلو المضاد أو اعتساف الاستدلالات، فتنبه لهذا.
الملحوظة الثانية:
وقوله أيضاً في استهلاله ص5-6: (وآخر الرسل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين، أرسله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله..)!. أقول: هكذا يرسم الشيخ سامحه الله صورة جميلة وغير صحيحة عن كفار قريش ليبني على ذلك تكفير مسلمين (يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله..!!)، وهذا قياس مع الفارق الكبير كما سبق شرح ذلك وسيأتي. ثم ذكر الصفة التي من أجلها قاتل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الكفار وقاتل محمد بن عبد الوهاب المسلمين فقال: (لكنهم ـ يعني كفار قريش - يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله!) يعني فجاز قتالهم ويجوز لنا نحن قتالهم للسبب نفسه (5)!.
سبحان الله، كفار قريش الذين لا يقولون (لا إله إلا الله) ولا يؤمنون بيوم القيامة ولا البعث ولا جنة ولا نار ولا يؤمنون بنبي ويعبدون الأصنام ويقتلون ويظلمون ويشربون الخمور ويزنون ويأكلون الربا ويرتكبون المحرمات مثلهم مثل المسلمين المصلين الصائمين الحاجين المزكين المتصدقين المجتنبين للمحرمات والفاعلين مكارم الأخلاق (أفنجعل المسلمين كالمجرمين، مالكم كيف تحكمون)؟!
لا، ليسوا سواء، المسلمون ليسوا كالكفار حتى وإن تأول علماؤهم وجهل عوامهم فالتأويل والجهل باب واسع لكن لا يساوى فيه من يقوم بأركان الإسلام مع من ينكرها. ولا يتساوى من يؤمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نبياً ورسولاً ومن يكذبه ويظنه ساحراً أو كاهناً، ولا يتساوى من يتوسل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتبرك بالصالحين ـ وإن أخطأ- مع من يرجم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقتل الصالحين. لا يتساوى من يؤمن باليوم الآخر والجنة والنار مع من يقول (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا..). لا يتساوى من قال: (لا إله إلا الله) مع من قال: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً). لا، لا يتساوى من آمن ومن كفر؛ من صدق الرسل ومن كذبهم، من آمن بالبعث ومن كفر به. لا يتساوى من طلب شفاعة الأنبياء والصالحين ممن يطلب شفاعة الجماد. لا يتساوى ممن يطلب شفاعة الأنبياء وهو يعرف أنهم عبيد الله ممن يطلب شفاعة الأصنام ويجعلهم مشاركين لله في الألوهية.
لا يا شيخنا ـ رحمك الله - هناك فرق كبير بين هؤلاء وهؤلاء. وأقول للأخوة المختلفين معي في هذه المسألة:
معظم علماء المسلمين في عهد الشيخ محمد وفي أيامنا هذه يقولون بجواز التبرك بالصالحين (6) والتوسل بهم، فهل نحن اليوم نكفر جميع هؤلاء؟! أم نخطئهم فقط؟! بل ليت التخطئة بدليل وبرهان. إن قلتم: نحن نكفرهم ردَّ عليكم العلماء المعاصرون داخل المملكة وخارجها واتهموكم بالغلو في الدين وتكفير المسلمين! وإن قلتم: لا، نحن لا نكفرهم رددتم على الشيخ محمد بن عبد الوهاب تكفيره لهم لأنه كان يكفر علماء وعوام مثل علماء زماننا وعوامهم تماماً، ولن يخرج مقلدو الشيخ من هذه الإلزامات، وإن تكلفوا التفريق بين المسلمين (من العلماء والعوام) الذين كانوا في عهد الشيخ محمد وبين المسلمين (من العلماء والعوام) اليوم؛ كان التفريق بين كفار قريش وبين هؤلاء العلماء والعوام أكثر وضوحاً وظهوراً!.
نعم، لأن كل ما أنكره الشيخ محمد رحمه الله على علماء عصره من التوسل بالصالحين أو التبرك بهم أو الاستشفاع بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو زيارة القبور أو ترك الإنكار العلني على العوام والحكام.. الخ، لا زال إلى اليوم في علماء مصر والشام والحجاز واليمن والعراق والمغرب.. الخ فضلاً عن عوامهم. فأنتم إذا كفرتم هؤلاء لزمكم الرد على علمائنا الذين لا يكفرونهم، فإذا بلغ علماءنا ردكم ولم يكفروهم لزمكم تكفير علمائنا؛ لأن من قواعد الدعوة السلفية في كتابات كثير من علماء الدعوة أن (من شك في كفر الكافر فهو كافر)!.
الملحوظة الثالثة:
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص7: (وإلا فهؤلاء المشركون ـ يعني كفار قريش- يشهدون أن الله هو الخالق وحده، لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحي إلا هو، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السماوات ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيها، كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره..) ثم سرد الآيات في ذلك. أقول: هنا أيضاً رسم صورة زاهية للمشركين؛ ولم يذكر تكذيبهم بالبعث، ولا اعتقادهم أن الذي يهلكهم هو الدهر، ولا اعتقادهم انهم يمطرون بنوء كذا وكذا، ولا أكلهم الربا، وقتلهم النفس، ودفنهم البنات ولا غير ذلك من المظالم والجرائم؛ ولا وصفهم للنبي صلى الله عليه وآله سلم بأقبح الأوصاف وتكذيبهم له، وتعذيبهم المسلمين وقتلهم المستضعفين. فالشيخ محمد أخذ الآيات التي تدل على إيمانهم على وجه الجملة بأن الله هو الخالق الرازق.. مع أن هذه الاعترافات التي اعترف بها المشركون؛ قد أجاب عنها بعض العلماء؛ وذكروا أن المشركين إنما اعترفوا بها من باب (الإفحام والانقطاع)، وليس من باب الاقتناع، ولو كانوا صادقين في اعترافهم؛ لأتوا بلوازم هذا الاعتراف؛ فلذلك يأمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يذكّرهم بلوازم هذا الاعتراف كما في قوله تعالى: (فقل: أفلا تتقون) (قل: أفلا تذكرون)؟!… الخ.
فكأن الله عز وجل يوبخهم بأنهم كاذبون، وأنهم لا يؤمنون بالله عز وجل خالقاً ورازقاً، كما لا يستطيعون في الوقت نفسه أن يقولوا أن الأصنام هي التي خلقت السماوات والأرض!! فبقوا بين الاعتراف بالقول (انقطاعاً) وممارسة ما يخالفه واقعاً، وهذا الجواب الذي أجاب به بعض العلماء إن كان ضعيفاً فأضعف منه الزعم بأن كفار قريش أفضل من المسلمين في عصر الشيخ.
والحاصل: أنه لا يجوز للشيخ رحمه الله ولا لغيره أن يذكر فضائل الكفار ويهمل أخطاءهم، بينما يختار أخطاء المسلمين وينسى فضائلهم! ولا يجوز أن نختار الآيات التي قد نوهم بها العوام ـ ولو دون قصد - بأن فيها ثناء على الكفار، ونترك الآيات التي تذمهم وتبين كفرهم وظلمهم وتكذيبهم بالبعث... الخ. لا يجوز أن نقوم بكل هذا حتى نسوغ به قتالنا للمسلمين الركع السجود؛ بزعمنا أنهم مثل الكفار تماماً الذين (يصلون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله..)؟! وأننا نقوم بعمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه! فهذا غير صحيح، والاعتراف بالخطأ خير من التمادي في الباطل، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ومن رضي المعصية كان كمن شهدها وشارك فيها أو قريب من ذلك، فلنتق الله ولا تخدعنا القوة والكثرة عن ديننا، ولا نغتر بكثرة المناصرين في الباطل، فإن هؤلاء لا يملكون جنة ولا ناراً، ولعل الشيخ الآن أحوج إلى استغفارنا من حاجته إلى نصرة الأخطاء التي وقع فيها، لكننا نغتر بالكثرة والغوغاء.
ثم على هذا المنهج العجيب في المقارنة بين (فضائل الكفار) و(أخطاء المسلمين)! يمكننا أن نقول: كيف نقاتل اليهود؟! وهم يصدقون في القول، ويحترمون العدالة، ويوزعون الأموال بالسوية، ويؤمنون بالله، ويحترمون المقدسات، ويحترمون حرية الرأي،..الخ! ونترك قتال المسلمين الذين يظلمون؟! ويتعاملون بالربا؟ ويكذبون؟ ويخلفون المواعيد؟ ويخونون في الأمانات؟ والذين يجيزون التوسل و يتبركون بالصالحين؟.. الخ. وهكذا فإن ذكرنا محاسن موجودة عند اليهود؛ وتناسينا مساوئهم وعكسنا القضية في حق المسلمين؛ تصبح المسألة ملتبسة، وأصبح قتال المسلمين أولى من قتال اليهود المحتلين(7)!.
الملحوظة الرابعة:
ويقول الشيخ ص9: (فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا – يقصد بأن الله هو الخالق الرازق-.. ولم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، عرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو (توحيد العبادة)، الذي يسميه المشركون! في زماننا (الاعتقاد) !!) اهـ. أقول: سامح الله الشيخ محمد ففي هذا النص تكفير صريح لعلماء المسلمين في زمانه!. ثم إن المسلمين لا يعبدون إلا الله بخلاف هؤلاء المشركين؛ الذين يسجدون للأصنام؛ وإذا لم يكن هذا واضحاً؛ فلن نستطيع التفريق بين أمور أخرى أشد التباساً، ومن تلك الأمور الملتبسة اتهام بعض العلماء للشيخ محمد وأصحابه بأنهم خوارج؛ لأنهم عندهم ممن يكفرون المسلمين ويستبيحون دماءهم، أنهم يخرجون من قبل المشرق، وأن سيماهم التحليق و... الخ. فإذا كانت التسوية بين الخوارج والوهابية ظلماً؛ فالتسوية بين كفار قريش والمسلمين أكثر ظلماً، وأبعد عن الحق، وإن كان الشيخ معذوراً في تفضيل كفار قريش على علماء زمانه؛ فالذي يجعل علماء الدعوة من الخوارج أولى بالعذر؛ لأن الخوارج مع هذا مسلمون على الراجح، ولم يكفرهم الصحابة بينما كفار قريش لا يشك أحد في كفرهم.
الملحوظة الخامسة:
قوله ص9 في وصف محاسن كفار قريش وغيرهم: (كانوا يدعون الله سبحانه ليلاً ونهاراً! ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم إلى الله ليستغفروا له، أو يدعو رجلاً صالحاً مثل اللات! أو نبياً مثل عيسى وعرفت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قاتلهم على هذا الشرك! ودعاهم إلى إخلاص العبادة... فقاتلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكون الدعاء كله لله والنذر كله والذبح كله لله والاستغاثة كلها بالله وجميع العبادات لله...الخ) أهـ. أقول: الكفار لم يكونوا يدعون الله ليلاً ونهاراً! وإنما كانوا يذكرون هبل واللات ومناة، ولو كانوا يدعون الله ليلاً ونهاراً لما نهى الله نبيه عن (عبادة الذي يدعون) كما في قوله تعالى: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله..)(8)، وقال تعالى واصفاً حال الكفار ساعة الموت: (حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا: أين ما كنتم تدعون من دون الله..)(9)؟! وقال (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم..) (10)، وقال عن الكفار: (قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين ندعو من دونك..) (11) وغير ذلك كثير من الآيات التي لم أشأ تتبعها، وهي تخبر عنهم بخلاف ما أخبر الشيخ، بأن أكثر دعاؤهم هو للأصنام وليس كما يقول الشيخ من أنهم (يدعون الله ليلاً ونهاراً)! إضافة إلى أنهم لم يكونوا يدعون الله بإخلاص إلا في الشدائد.
ولو كانوا يدعون الله ليلاً ونهاراً - كما وصفهم الشيخ - لغبطهم عليه زهاد الصحابة! فهذه صورة من الصور الكثيرة الجميلة التي يمدح فيها الشيخ كفار قريش، ليس حباً فيهم؛ ولكن ليقارن بينهم وبين مسلمي عصره؛ ثم ليبني على تلك المقارنة الناقصة تفضيلهم على المسلمين، ثم البناء على هذا كله تكفير المسلمين وقتالهم (12). والذي يجب أن يصحح هنا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قاتل الكفار، لأمور كثيرة أهمها الشرك الأكبر بالله وإخراج المسلمين من ديارهم وإنكارهم النبوة وارتكابهم المظالم.. الخ. فتعليل الشيخ محمد ناقص وهذا النقص في التعليل أدى إلى قتال مسلمين (يصلون و يحجون و يذكرون الله)!. ثم لم يرد في القرآن الكريم أن علة قتال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للكفار حتى يكون الذبح كله لله والنذر كله لله والاستغاثة كلها بالله.. فقط. وإنما الأسباب الكبرى الرئيسة هي : الشرك الأكبر وإنكار النبوة وإخراج المسلمين من ديارهم..الخ. فالشيخ يذكر أسباباً صغيرة مشتبهة لم تذكر في النصوص وليست متحققة ولا يُدرى أهي سبب في القتال أم لا؟! ويترك الأسباب الكبرى المتفق عليها والمنصوص عليها في القرآن الكريم بأنها هي سبب قتال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للكفار.
الملحوظة السابعة:
ثم يواصل ص11 بقوله: (لم يريدوا أن الله هو الخالق الرازق المدبر فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك، وإنما يعنون بالله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد!) أهـ. أقول: هذا أيضاً فيه تكفير صريح للمسلمين في زمانه فالسيد يطلقها كثير من الناس في القرون المتأخرة إلى اليوم على أهل البيت، وإطلاقها ليس كفراً ولا حراماً، نعم قد يكون مكروهاً، والحديث الوارد في النهي فيه نزاع قوي، وإن كان أهل نجد أو الحجاز يطلقون السيد على الذي يتبركون به ويطلبون منه الدعاء فهذه بدعة قد تكون كبرى وقد تكون صغرى بحسب الحالة لكنها ليست كفراً، ثم ليس صحيحاً على إطلاقه ما ذكره الشيخ من أن المشركين كلهم كانوا يعلمون أن الله هو الخالق الرازق.. فهذا متحقق في بعض الكفار لا كلهم؛ فالدهريون مثلاً لا يؤمنون بهذا بنص القرآن الكريم.
الملحوظة الثامنة:
قوله ص11: (فأتاهم النبي (صلى الله عليه وسلم) يدعوهم إلى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها..) أ.هـ. أقول: لكن مجرد التلفظ بها ينجيهم من التكفير والقتل بينما من يقولها من معاصري الشيخ لا تعصمهم من تكفير ولا قتال ، فالمنافقون في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) يقولون الشهادتين بألسنتهم، وكان النبي (ص) يعرف ذلك في كثير منهم؛ ومع ذلك عصمت دماءهم وأموالهم، أما المعاصرون للشيخ من المسلمين فلم تعصم دماءهم و أموالهم لا الشهادتان ولا أركان الإسلام.. مع صدقهم في ذلك.
الملحوظة التاسعة:
ويقول ص12: (فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفرة، بل يظن (يعني المدعي للإسلام) أن ذلك (يعني تفسيرها) هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني)؟! أهـ. أقول: هذا غير صحيح؛ فليس هناك مسلم واحد يقول إن معنى (لا إله لا الله) هو التلفظ بها دون اعتقاد القلب لذلك. والمسلمون جميعهم علماؤهم وعوامهم، يمقتون في المسلم أن يقول ما لا يعتقد، بل حتى العوام يسمون هذا (نفاقاً)، وهم يذمون من يخالف قوله فعله، بل حتى الكفار يذمون من يخالف قوله فعله.. فكيف يظن الشيخ هذا الكلام - سامحه الله ـ أن المسلمين في عصره يقولون بجواز أن نشهد الشهادتين بلا اعتقاد لمعانيها، فنقول (لا إله إلا الله) ونعبد غيره، (ونقول: محمد رسول الله) ونعتقد كذبه؟! فالمسلمون في عهد الشيخ مثل المسلمين اليوم في البلاد الإسلامية، فهل يجوز لنا أن نقول اليوم: إنهم يقولون: (نقول: الشهادتين باللفظ فقط وسننجو حتى وإن اعتقدنا خلافها)؟! نعم لهم شبه وأدلة يستجيزون بها التوسل والاستشفاع والاستغاثة ونحو ذلك، وهذا خطأ بلا شك عندنا في ذلك، لكن هم عندهم شك، بل هم لا يرون هذا متناقضاً مع الشهادتين، ولهم في ذلك مؤلفات وأدلة وشبهات وتأويلات، مثل تأويلاتنا وشبهاتنا؛ في تكفير المسلمين ومدح كفار قريش وتفضيلهم على المسلمين!! وهم يصرون على عقائدهم مثل إصرارنا؛ ويتهمون ناصحيهم بالعمل لصالح الوهابية، مثلما نتهم ناصحينا بالقبورية والعمل لصالح الصوفية والشيعة، وستبقى نظرية المؤامرة والتشكيك في نيات الآخرين حاضرة في حواراتنا، ما دام الغلو والغلو المضاد لهما حضورهما في هذه الحوارات ولن يقطع هذا إلا المباهلة. ثم كيف يجعلهم ممن (يدعي الإسلام)؟! يعني وليسوا مسلمين!! وهذا تكفير آخر فتنبه!!
الملحوظة العاشرة:
ثم يقول ص13: (والحاذق منهم – يعني ممن يدعي الإسلام من علماء المسلمين!- يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق إلا الله)! ثم يتبع هذا بقاصمة وهي (فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله)؟!. أقول: سبق الجواب بأن علماء المسلمين في زمانه لا يفسرون الشهادتين كما ذكر هنا ـ فيما أعلم - نعم لهم تأويل بأن التبرك والتوسل لا يناقضها وهذا شيء آخر. لكن أن يأتي عالم ويزعم أن (لا إله إلا الله) ليس معناها إلا (لا خالق إلا الله ولا رازق إلا الله) مع جواز صرف العبادة لغيره فلا أظن عالماً عاقلاً يقول هذا، ومن زعم هذا فعليه الدليل والبرهان.
الملحوظة الحادية عشرة:
ذكر ص15،16: أن أعداء التوحيد قد يكون عندهم علم وحجج وفصاحة … وهذا إقرار منه بأنه يتحدث عن معارضيه من علماء عصره في نجد والحجاز والشام(13) .. معهم علم وفصاحة وقبل هذا ينفي أنهم لا يعرفون معنى لا إله إلا الله!
الملحوظة الثانية عشرة:
ويقول ص17: (والعامي من الموحدين يغلب ألفاً من علماء هؤلاء المشركين)! أقول: هذا تكفير واضح لعدد كبير من العلماء ويستحيل في العادة أن يوجد مثل هذا العدد من العلماء الكفار في بلد واحد؛ فاعرف هذا فإنه مهم وهو من أدلة من يتهم الشيخ بتكفير من لم يتبعه!! والشيخ وأتباعه يقولون : معاذ الله أن نكفر المسلمين لكن هذا المسلم عند الشيخ له شروط طويلة يختلف فيها مع العلماء قبل العوام ولا تكاد تنطبق إلا على من يقلده ويتبعه – كما سيأتي مدعماً في الأمثلة القادمة- فالخلاف يكاد يكون لفظياً فقط!!.
الملحوظة الثالثة عشرة:
ويقول ص19: (وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر الله في كتابه جواباً لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا...)!!.أهـ. أقول: يا ترى من هم هؤلاء المشركون الذين يغوصون في أدلة الكتاب والسنة مع فصاحة وعلم وحجج…؟! أليسوا علماء مختلفين معه في دعوى كفر مخالفيه من علماء وعوام؟ لا ريب أن هذا فيه تكفير صريح للمخالفين له ممن نسميهم (خصوم الدعوة) أو (أعداء التوحيد) أو (أعداء الإسلام)!! وهذا ظلم، لأن الشيخ كان يرد على مسلمين ولم يكن يرد على كفار ولا مشركين، وهذه رسائله وكتبه ليس فيها تسمية لمشرك ولا كافر وإنما فيها تسمية لعلماء المسلمين في عصره كابن فيروز، ومربد التميمي، وابني سحيم سليمان وعبد الله، وعبد الله بن عبد اللطيف، ومحمد بن سليمان المدني، وعبد الله بن داود الزبيري، والحداد الحضرمي، وسليمان بن عبد الوهاب، وابن عفالق، والقاضي طالب الحميضي، وأحمد بن يحي، وصالح بن عبد الله، وابن مطلق، وغيرهم من العلماء الذين يطلق عليهم (المشركون في زماننا)!! و قد استمر علماء الدعوة بعده في تكفير أو تبديع يكاد يصل للتكفير لعدد آخر من علماء المسلمين ـ أخطأوا ولم يكفروا- في عهد الدولة السعودية الثانية كابن سلوم وعثمان بن سند وابن منصور وابن حميد وأحمد بن دحلان المكي وداود بن جرجيس وغيرهم. وفي القرن الرابع عشر الهجري استمر تكفيرنا وتبديعنا لعلماء معاصرين ـ أخطأوا ولم يكفروا - كالكوثري، والدجوي، وشلتوت، وأبي زهرة، والغزالي، والقرضاوي، والطنطاوي، والبوطي، والغماري، والكبيسي، وغيرهم، ولو نستطيع لقلنا عنهم (المشركون في زماننا) وقد قيل!
ومن المؤسف أنه لا يوقف تكفيرنا وتبديعنا للآخرين إلا السلطة أو العجز، ولولاهما لما أبقينا أحداً إلا وصمناه بكفر أو بدعة مكفرة! مع أن الواجب أن يكون هذا التورع عن التكفير والتبديع من العلماء لا من الحكام، ولا وقت العجز، لأن العلماء يعرفون عظمة حق المسلم وتحريم دمه وماله وعرضه، فهي آخر ما أوصى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع، فهذه الخطبة التي بثها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مائة ألف من المسلمين؛ يحفظها بألفاظها العلماء لا الحكام، فكان الأولى والأجدر بهم حفظ ورعاية هذه الوصية النبوية الكبرى.
الملحوظة الرابعة عشرة:
قوله ص12 مخاطباً أحد العلماء المختلفين معه: (وما ذكرتَ لي أيها المشرك!! من القرآن أو كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) لا أعرف معناه)! أقول: يا ترى من هذا المشرك الذي يستدل على الشيخ بالقرآن والسنة؟! أي مشرك هذا؟! ثم هذا تكفير للمعين فتنبه.
الملحوظة الخامسة عشرة:
ويقول ص23: (فإن أعداء الله (هكذا!) لهم اعترافات كثيرة يصدون بها الناس منها قولهم نحن لا نشرك بالله بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عليه السلام لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن عبد القادر أو غيره ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم فجاوبه بما تقدم وهو أن الذين قاتلهم رسول الله (ص) مقرون بما ذكرت ومقرون أن أوثانهم لا تدبر شيئاً وإنما أرادوا الجاه والشفاعة…) أهـ. أقول: هذا يدل على أن الشيخ يرى تكفير هؤلاء الذين يقولون القول السابق، وأنه يعتبرهم مشركين شركاً أكبر؛ كشرك كفار قريش وهذا عين التكفير، وأكبر أحوالهم أن يكونوا مبتدعين فقط، والمبتدع لا يجوز تكفيره فضلاً عن قتله، وكل المبتدعين المقتولين عبر التاريخ إنما كانوا مقتولين لظروف سياسية بحتة؛ يدركها من درس التاريخ(14).
الملحوظة السادسة عشر:
قوله ص24: (فإنه إذا أقر ـ يعني المخالف للشيخ - أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله!! وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة ولكن أرادوا أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكره (من صلاتهم وصلاحهم بخلاف الكفار) فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الصالحين ومنهم من يدعو الأولياء...) أهـ. أقول: الكفار لا يؤمنون ببعض الربوبية، ولا بالألوهية كلها، وهم يعبدون الأصنام ذاتها، ولم يقتصروا على الطلب (طلب الشفاعة فقط)، بل قولهم قالوه انقطاعاً لا اعتقاداً، أو أنه قول بعضهم فقط، لأنه ثبت عن بعضهم على الأقل أنهم يقولون بالدهر ولا يؤمنون بالبعث. أما المسلمون فإنهم لا يسجدون لأحد غير الله، ولا يعبدون إلا الله، وقد يجهل بعضهم أو يتأول بأن الصالحين من الأحياء والأموات، يجوز التوسل بهم وطلب شفاعتهم عند الله، وأنهم إن دعوا لهم فإنهم ينفعونهم بإذن الله لا استقلالاً عن إرادة الله (15) وهذا يختلف كثيراً عن هؤلاء الكفار. والحاصل أن التشابه بين الكفار والمسلمين المعاصرين ـ إن سلمنا به - أبعد بكثير من التشابه بين الخوارج واتباع الشيخ، فالتشابه بينهم من التكفير والتحليق واستحلال الدماء... الخ أكبر وأظهر. وحجة الخوارج على علي رضي الله عنه هي قريبة من حجة الوهابية على مخالفيهم، فالخوارج قالوا بوجوب صرف الحكم كله لله (لا حكم إلا لله)!! وهي كلمة حق أريد بها باطل مثلما ظن الوهابية من قولهم (لا ذبح إلا لله ولا توسل إلا بالله ولا استغاثة إلا بالله.. الخ). فهذا حق من حيث الأصل لكن قد تكون هناك صور في التطبيق تخرج عن هذا الإطلاق؛ وأقل الأحوال أن تكون هناك ممارسات خاطئة للإطلاقات السابقة، يفعلها البعض بتأويل أو جهل، فهذه الممارسة لا يكفر صاحبها إلا بعد ارتفاع موانع التكفير وقيام الحجة.
الملحوظة السابعة عشر:
قال ص26: (فإن قال ـ يعني المخالف للشيخ - الكفار يريدون منهم (من الأصنام) وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر لا أريد إلا منه والصالحون ليس لهم من الأمر شيء ولكن أقصدهم أرجو من الله شفاعتهم فالجواب: أن هذا قول الكفار سواءً بسواء!!)! اهـ. أقول: الذي يقول الكلام السابق لا يكفر؛ لأنه متأول أو جاهل، وكونه يتفق مع الكفار في جزئية يسيرة لا يعني مساواته بالكفار أو أن لهما الحكم نفسه (16). بمعنى لو أقسم أحد بغير الله، فقد شارك الكفار في جزئية يسيرة، لكن لا يكفر بسببها، فالشيخ غفل عن مثل هذه الدقائق؛ فوقع في تكفير المسلمين، فتركيز الشيخ على آية (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)، التي هي - فيما يظهر - حكاية عن انقطاعهم واعتذارهم الذي لا يصاحبه صدق نية، وإغفاله لبقية الآيات في وصف الكفار وعقائدهم، فيه نقص في استيفاء مواطن اختلاف الكفار عن المسلمين. ثم طلب الشفاعة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والصالحين مع اعتقاد أنهم جميعاً عبيد الله، وأنهم لا يعطون شيئاً إلا بإذن الله، هذا كله ليس كالسجود للأصنام، وإن كان خطأً أو بدعة صغرى أو كبرى، ولذلك يستطيع مخالف الشيخ أن يلزمه تكفير شارب الخمر، لأنه لا يشربها إلا وهو يحبها والمحبة عبادة، وصرف شيء من المحبة لغير الله شرك وهكذا..
وإن قلتم: نحن لا نعترض على محبة الصالحين وإنما نعترض على عبادتهم. قيل لكم: هؤلاء لا يعبدونهم وأنتم تسمون توسلهم بالصالحين عبادة وهم لا يقرون لكم بأن هذه عبادة ولهم أدلة في ذلك ـ على ضعفها - لكنها تمنع من تكفيرهم فهذا هو التأويل الذي ذكر العلماء أنه يمنع من التكفير. فإن قلتم: التوسل عبادة. قالوا: ما دليلكم على ذلك؟ فإن قلتم: لم يفعله السلف؟ قالوا: قد فعله عمر بن الخطاب بالعباس بن عبد المطلب. فإن قلتم: عمر توسل بالحي لا بالميت. قالوا: وهل تجوز عبادة الحي؟ إن قلتم: لا؟ قالوا: فلماذا تسمون (التوسل) عبادة؟! هذا دليل على أنكم تسمون الأشياء بغير اسمها. فإن قلتم: التوسل بالميت عبادة بخلاف الحي. قالوا لكم: ما دليلكم على التفريق؟ فإن قلتم: دليلنا فعل الصحابة فإنهم فعلوا هذا ولم يفعلوا ذلك. قالوا لكم: - على التسليم لكم - فإنهم قد يتركون أمراً ولا يكون محرماً فضلاً عن كونه كفراً مخرجاً من الملة؟! ثم عندنا أدلة في توسل بعضهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ميتاً، كما في حديث عثمان بن حنيف المشهور. فإن قلتم: هذا عندنا ضعيف. قالوا لكم: وأكثر الأحاديث التي تستدلون بها هي عندنا ضعيفة، بل هي ضعيفة عند التحقيق، مثل حديث تقريب الذباب وحديث شرك آدم وحواء، وغيرها من الأحاديث الضعيفة والموضوعة الموجودة في كتبكم. فإن قلتم: الأولى تجنب التوسل للشبهة والاختلاف. قالوا لكم: أولى من ذلك تجنب تكفير المسلمين وتفضيل كفار قريش عليهم لأن الأصل المتيقن هو الإسلام لا الشرك، فلا نترك المتيقن للمظنون. فإن قلتم: التشديد لا بد منه ليهتدي المسلمون لدين الله ويحذروا تلك البدع والخرافات. قالوا لكم: والرد عليكم لا بد منه ليحذر طلاب العلم من الوقوع في تكفير المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم. فإن قلتم: تعالوا للتحاكم لكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وترك التقليد. قالوا لكم: مرحباً وأهلاً فقد قلنا لكم هذا من زمن طويل وأنتم ترفضون، و تستعدون علينا السلطات، ولم تنتهوا عن تكفير الأبرياء حتى كفر بعضكم بعضاً، و تظالمتم فعرفتم عندئذ مقدار ظلمكم لنا في الماضي، وتعرفتم على بعض ما كنا نستدل به في براءتنا من الكفر، لأنكم ذكرتم أدلة في الرد على من يكفركم كنا نكررها في الرد على تكفيركم لنا، فاعتدالكم في الأزمنة الأخيرة للأسف كان لمصلحة أنفسكم و حمايتها لا حماية جانب الشريعة .