مامون احمد
2007-04-10, 01:44
مداد العلماء
ودم الشهداء
لم يخطر ببالي ذات يوم، لا بخاطر سريع، أو متأني، أن أقف أمام رحلة من العلم والدعوة والعذاب والسجن، رحلة طويلة، تفرقت بين الوجود وبين الواجب، بين الحرص على الأمانة التي رفضت السموات والأرض حملها، وحملها الإنسان الجاهل.
مثل هذا الأمر المتداخل والمتشابك، والمعقد إلى أقصى درجات التعقيد والصعوبة، ليس من اختصاصي ولا من قدراتي، وأنا اعترف بذلك مسبقا، اعتراف القاصر المقصر، ولكني بالجانب الآخر، اعلم بان الأمور الواضحة الجلية، المصانة من العبث والتأويل والتفسير، الذي قد يخضع لمبادئ يبتكرها من وصل إلى مرحلة يستطيع من خلالها الادعاء بأنه يملك الحق في ابتكار قواعد تلزم الناس وتلغي المصان، بحجة التيسير والتسهيل والوسطية، هذا الجانب، ادعي وبكل ثقة وإيمان، أنني استطيع – كمسلم بسيط – أن اعرف وجه الحق فيه، وكذلك الوجه المخالف للحق الذي تعلمناه وأدركناه من خلال السيرة النبوية، ومن خلال تعاليم القرآن الكريم، وسيرة السلف الصالح، ومن خلال فطرة الحق التي ربينا ونشأنا عليها كمسلمين.
ولم أكن بحاجة إلى مثل هذه المقدمة البسيطة، لولا علمي بشدة حساسية الموضوع المناط بشخص الشيخ يوسف القرضاوي، والذي يمثل – بشخصه المعروف وعلمه الغزير- علما من أعلام الفقه والاجتهاد، وشيخا يتبعه ويرى فيه كم كبير من العالم الإسلامي رجلا لا يمكن إخضاع مقولاته للرفض والقبول، وللنقاش والتحليل، أو حتى للتفكيك والإحالة إلى أراء أخرى.
وهذا عيب من عيوب العقل، وداء يستبد بالفكر ويطيح بالنقد، بل ويلغي بشكل ما، خطأ انتهاء مفهوم العصمة بعد انقطاع الوحي وختم الرسالات السماوية، بسيدنا محمد عليه أفضل السلام واجل الصلاة.
وكما تعودت التنويه بمقالاتي السابقة، بان ما اكتبه، لا يدخل ولا يتدخل بالنوايا، فهي متروكة للعالم الخبير بها، وإنما أتحدث واكتب من خلال قاعدة الحكم بالظاهر قولا وعملا، وعليه، فانا لا أرى أي وجه حق لمنتقد قد يأتي ليدعي بأسلوب ما، أو طريقة ما، باني انبش في نوايا الشيخ أو سريرته.
ولست أرى انه من الإنصاف العودة للآيات القرآنية والأحاديث النبوية لتبيان وتأكيد مكانة العلم والعلماء في الشريعة، أو الإفاضة في رسم خطوات المفهوم الشرعي لطبيعة العلم وطبيعة العالم، لان الكتب التي تحدثت بهذا الموضوع وأسهبت في التفاصيل، تملأ المكتبات وتتزاحم فوق الرفوف.
ولكني أود أن أقف أمام تصريح الشيخ يوسف القرضاوي، وقفة تأمل واستغراب واستيضاح، بل وقفة ذهول واندهاش، ووقفة تساؤل تتعلق بشخصي وبشخص والدي اللذان اقتلعا من قلب حيفا قسرا وجبرا وقهرا، ليعيشا في مخيم منزوع من ذاكرة الكرامة والإنسانية، ليغادرا منه إلى القبر، بلوعة الموت الذي اختطفهما قبل أن يتمكنا من رؤية الياسمينة التي كانت تتعربش جدار البيت ونوافذه في حيفا.
يقول الشيخ يوسف القرضاوي، " ردا على سؤال بمؤتمر صحفي عما إذا كانت لديه رسالة إلى القمة-: "هناك اتجاهات في القمة، بعض الناس (دول عربية) قامت بالتطبيع مع إسرائيل، وبعضها ترفض الفكرة.. لن نطبع، ولا نقبل التطبيع ما دام الاحتلال قائما".
وتابع قائلا: "نحن لا نقبل التطبيع مع إسرائيل إلا إذا قامت دولة فلسطينية حقيقية تملك سماءها وحدودها وحق الدفاع عن نفسها، وفي هذه الحالة فقط قد نفكر في الاعتراف بإسرائيل إذا كانت هناك ضرورة".
واعتبر "أن الدولة الفلسطينية التي رسمت معالمها إسرائيل تبقى دولة وهمية، وبالاسم فقط؛ لأنها تخدم مصالح إسرائيل والاحتلال الصهيوني".
وهذا النص منقول بطريقة النسخ واللصق حتى لا يكون هناك التباس بالأمر، من موقع الشيخ ذاته، " بتاريخ 29 مارس 2007.
مع الاعتذار الشديد على نقلي مسمى الاحتلال بالاسم الذي يدعيه لنفسه، وهذه هي المرة الأولى مذ أدركت معنى التسمية، وبعد أن آليت على نفسي عدم التلفظ أو كتابة اسم مصطنع ومهجن ليحل محل كلمة الاستعمار أو فلسطين، لكنها الضرورة التي ساقني إليها الشيخ رغما عني، حتى لا اتهم بتبديل النص لو حذفت الكلمة الغريبة لأضع مكانها الاحتلال.
ومن هنا ابدأ، فالشيخ يعلن، وبطريقة أهل السياسة، بأنه من الممكن الاعتراف بالاحتلال بدولة ضمن حزمة من شروط، ويضيف إذا كانت هناك ضرورة.
فأي ضرورة شرعية أو فقهية، وطنية أو قومية، تجعل الشيخ يصبح قاب قوسين أو أدنى من الاعتراف بالباطل والظلم والاستعمار؟ وأي ضرورة، حسب رأيه تجعله يتحدث بلسان من قتلوا وهجروا وشردوا؟ أو من أودعوا السجن وهم بريعان العمر وظلوا فيه إلى أن خرجوا محمولين على الأكتاف نحو المقابر؟
من ملكه هذا الحق؟ وكيف استطاع أن يتحدث بلحظة عابرة عن زمن لا تتسع الكتب ولا الصفحات عن احتوائه؟
أيها الشيخ الفاضل:-
سأحدثك عن أشياء لم تعرفها، لم تعهدها، ولا يمكن لك أو لغيرك أن يملك خيالا لتصورها أو تخيلها، سأحدثك عن أشياء لم يعرفها البشر، ولم يعاني منها لا حيوان ولا جماد، تلك الأشياء التي تخص أبي وأمي وأخوتي وأخواتي، ومن كان مثلهم في تلك اللحظات، ومن كان في زمنهم الخارج من حدود الزمن.
رحل والديّ من حيفا، بل اقتلعا من حيفا، وسارا وعلى أيديهما طفلين، وسط الأرض المقفرة، سارا والدموع تملأ قلبيهما قبل عينهما، واللوعة والأسى والحرقة والاهانة، تجللهما، تفتك بهما، تدخل في أعماقهما دخول الذل أعماق سيد سيق إلى سوق العبيد، ووصلا إلى حافة مدينة طول كرم، هناك القيا بمتاعهما، صرة ملابس صغيرة، وبعض أرغفة من خبز متعفن، وشوك يتوزع في الأقدام.
افترشا الأرض، مع غيرهم، وبدأ الجميع بالبكاء، البكاء المر والحارق، تذكر الجميع، غايات الزيتون وببارات الليمون، بطريقة توخز العقل وتطيح بالإدراك، وما هي سوى أيام، أيام فقط، حتى تحولوا إلى عبيد عند الغير.
تحول والدي من بحار، يسافر مع السفن، يجوب الآفاق، إلى حمّال في شارع مدينة لم تعرفه ولم يعرفها، يحمل أغراض الناس ليوصلها إلى البيوت، كعبد بسيط بسيط، وحين كانت تلفحه الذكرى كان يبكي، ينتحب، مثل أرملة أرهقها الزمن وأضناها الظلم.
كنت أشاهده وهو ينتحب، وكنت أجثو عند قدميه الطاهرين، اقبلهما وأفتش بمساحتهما عن كم الألم والعذاب.
وكان بيتنا، أو ما يسمى بالبيت اصطلاحا، لغياب الألفاظ التي تحويها اللغة من تعريف أو وصف لمثل هذا الشيء، خال من بيت الخلاء، وكان بيت الخلاء يبعد عن البيت مسافة طويلة، فهو مقام بمنطقة تتوسط المخيم، حتى يستطيع الكل استخدامه، وحين كانت أمي أو أختي تضطر لقضاء حاجتها، كان عليها، أن توقظ والدي، ليرافقها، ويقف قريبا من بيت الخلاء، فهو بغير باب، بغير ماء، بغير إضاءة، كان والدي يقف، وهو مغلولا بالقهر والكبت والاهانة، ينتظر حتى تنقضي الحاجة.
وكم من مرة أيقظناه في كل ليلة؟
أنت لم تجرب ذلك، لم تعرف ذلك، وكذلك ملايين الملايين ا، ولكني عرفته، عشته، وكنت في كل مرة، أرى وجه والدي وهو يفتح للحزن والعذاب أبوابا.
وكانت -أمي رحمها الله- تضع قطعة من قماش على رأسها، وفوقها وعاء من صفيح يغطيه الصدأ، لتجوب الشوارع والأرصفة بحثا عن قطع خشب أو أحذية متهرئة، لتعود وعرقها يتجدول لتوقد نارا من اجل الطعام أو من اجل غسيل ما يسمى بالملابس.
كانت تحدثني عن حيفا وهي تبكي، بكاء الشاطئ الذي لا يزال يحن لأنفاسها المباركة، وكانت تشيع جثة السعادة والحبور، في كل يوم، وظلت كذلك إلى أن فتك بها مرض هز كيانها كله، وحين أنزلتها للقبر، وكشفت عن وجهها لأراها للمرة الأخيرة، أحسست بكم العذاب والألم اللذان لم يستطع الموت بكل ما فيه من عزم أن يخفيهما، نظرت إليها وبكيت، أجهشت بالبكاء، وسقطت فوقها.
رفعني الناس من القبر، تماما كما ترفع شيئا غير محسوس أو ملموس، وحين أهالوا التراب عليها، تذكرت حيفا، حيفا التي لم يستطع جسد أمي أو أبي أن يمتزج بترابها.
غادر الجميع، وظللت وحدي، المس شاهد قبرها وابكي، كنت حزينا إلى حد أني أحزنت الحزن، وكنت يتيما إلى حد أن اليتم نفسه لم يعرف ذاته إلا حين عرفني.
تاريخ كامل من العذاب والقهر والألم، عاشه والدي، عاشته أمي، عاشه الناس كلهم، دون أن يأتي عالم من ظهر الغيب ليمسح من عذاب الناس المقهورين ولو هنيهة واحدة.
أخي محمد، يقال – بشهادة المخيم كله – انه كان فتى يشبه الفتيان الخارجين من الأحلام، من الأساطير، كان جميلا، قوي البنية، تتقاسمه الوسامة والملاحة، وكان – كما يقال- يقف على فاصل زمن له وليس عليه.
أخي محمد، هاجمه المرض، وتمكنت منه الحرارة، اندفعت أمي وهي حاسرة الرأس تسابق الرياح، تبحث عن والدي، وحين عادا إلى المنزل، كان محمد يتصبب عرقا، ويفقد التنفس، والجيران كلهم، يقفون عاجزين.
قال والدي – رحمه الله –
حملته على ظهري وسرت، نحو المشفى، كنت أحس حرارة جسده تكوي جسدي، كان يتلوى، يتألم، يخرج صرصرة غير مفهومة، كان من حلاوة الروح يحاول أن يعض كتفي ،وفجأة برد الجسد، واختفت الصرصرة، منيت نفسي بإغماءة، نقلته من ظهري إلى صدري، ووصلت المشفى.
ابنك ميت.
عدت للبيت، احمل جثته على صدري، صرخت أمك صراخا هز الكون وخلع القلوب، شقت صدرها، عفرت رأسها وذاتها بتراب الأرض، بكيت، وبكى الجميع، حين قذفت بنفسها فوق الجثة، تشدها نحوها، تستجديها الخروج من الموت، من العدم، كانت على فاصل صغير من المس والجنون.
حملها الناس بعيدا، وبدأنا نستعد لغسله من اجل الدفن، لكن البيت كله كان خاليا من فلقة صابون، خجلت، جللت بالحياء والاهانة، قفزت نحو بقالة " أبو الفرح "، لكنه رفض إعطائي ولو دينا فلقة صابون لأغسل جسد ولدي الذي يستعد للنزول إلى القبر.
الحاجة "خميسه ابوسالم" عادت وهي تلوح بفلقة صابون، غسلناه، كفناه، حملناه، ودعناه، وأنزلناه القبر.
هكذا مات محمد، وهكذا مات بعده قاسم وباسم، وبعدهم ماتت خالدة وميسون وصفاء.
كلهم نهشهم المرض، واراهم من الوجود، فالمخيم مستنقع للداء، والفقر مستنقع للعجز.
أيها الشيخ الفاضل...
فلسطين ليست كومة من الحجارة، ولا قطعة من الأرض تخترقها الوديان والأنهار، بل هي عذابات الناس، الالامهم، قهرهم وذلهم، بكل ما فيه من تفاصيل وأحداث وأوجاع وهموم وفقر وموت وظلم، فلسطين أخي محمد وباسم وقاسم، وأختي ميسون وصفاء وخالدة، والوعاء الصفيحي الذي كانت أمي تحمله على رأسها وهو متخم بالأحذية البالية، فلسطين فلقة الصابون التي لم تجدها جثة أخي قبل نزولها إلى القبر، فلسطين أبي الذي تحول من رجل يستطيع أن يفك غلالات المدن والشواطئ إلى حمال يوصل أغراض "السادة" إلى البيوت، ليعود محملا بالذل والاهانة.
فلسطين هي الجيل الذي عانق الموت والفناء في كل هنيهة من هنيهات عمره.
وأنا ارفض أن أراك تدعي ما يؤهلك أن تتجاهل كل هذا، وعليك أن تستعد، شئت أم أبيت، للقاء أبي وأمي، وللقاء كل من ذاق عذابهم يوم القيامة، لتجيب الخالق جل شانه، عمن منحك الحق للتكلم عن عذاب أجيال في لحظة سهو أو غفلة.
اعرف يقينا بأنك عالم، واعرف انك مجتهد، ولكني أيضا وبالفطرة، ارفض أن أمنحك حقا للتنازل عن عذاب أهلي وأوجاعهم، وأنا أسألك اليوم، قبل أن تسأل يوم القيامة،
عمن منحك الحق للتنازل أو التفكير بالتنازل عن حقي وحق أهلي في حيفا.
مأمون احمد مصطفى
فلسطين- مخيم طول كرم
النرويج- 9-04-2007
ودم الشهداء
لم يخطر ببالي ذات يوم، لا بخاطر سريع، أو متأني، أن أقف أمام رحلة من العلم والدعوة والعذاب والسجن، رحلة طويلة، تفرقت بين الوجود وبين الواجب، بين الحرص على الأمانة التي رفضت السموات والأرض حملها، وحملها الإنسان الجاهل.
مثل هذا الأمر المتداخل والمتشابك، والمعقد إلى أقصى درجات التعقيد والصعوبة، ليس من اختصاصي ولا من قدراتي، وأنا اعترف بذلك مسبقا، اعتراف القاصر المقصر، ولكني بالجانب الآخر، اعلم بان الأمور الواضحة الجلية، المصانة من العبث والتأويل والتفسير، الذي قد يخضع لمبادئ يبتكرها من وصل إلى مرحلة يستطيع من خلالها الادعاء بأنه يملك الحق في ابتكار قواعد تلزم الناس وتلغي المصان، بحجة التيسير والتسهيل والوسطية، هذا الجانب، ادعي وبكل ثقة وإيمان، أنني استطيع – كمسلم بسيط – أن اعرف وجه الحق فيه، وكذلك الوجه المخالف للحق الذي تعلمناه وأدركناه من خلال السيرة النبوية، ومن خلال تعاليم القرآن الكريم، وسيرة السلف الصالح، ومن خلال فطرة الحق التي ربينا ونشأنا عليها كمسلمين.
ولم أكن بحاجة إلى مثل هذه المقدمة البسيطة، لولا علمي بشدة حساسية الموضوع المناط بشخص الشيخ يوسف القرضاوي، والذي يمثل – بشخصه المعروف وعلمه الغزير- علما من أعلام الفقه والاجتهاد، وشيخا يتبعه ويرى فيه كم كبير من العالم الإسلامي رجلا لا يمكن إخضاع مقولاته للرفض والقبول، وللنقاش والتحليل، أو حتى للتفكيك والإحالة إلى أراء أخرى.
وهذا عيب من عيوب العقل، وداء يستبد بالفكر ويطيح بالنقد، بل ويلغي بشكل ما، خطأ انتهاء مفهوم العصمة بعد انقطاع الوحي وختم الرسالات السماوية، بسيدنا محمد عليه أفضل السلام واجل الصلاة.
وكما تعودت التنويه بمقالاتي السابقة، بان ما اكتبه، لا يدخل ولا يتدخل بالنوايا، فهي متروكة للعالم الخبير بها، وإنما أتحدث واكتب من خلال قاعدة الحكم بالظاهر قولا وعملا، وعليه، فانا لا أرى أي وجه حق لمنتقد قد يأتي ليدعي بأسلوب ما، أو طريقة ما، باني انبش في نوايا الشيخ أو سريرته.
ولست أرى انه من الإنصاف العودة للآيات القرآنية والأحاديث النبوية لتبيان وتأكيد مكانة العلم والعلماء في الشريعة، أو الإفاضة في رسم خطوات المفهوم الشرعي لطبيعة العلم وطبيعة العالم، لان الكتب التي تحدثت بهذا الموضوع وأسهبت في التفاصيل، تملأ المكتبات وتتزاحم فوق الرفوف.
ولكني أود أن أقف أمام تصريح الشيخ يوسف القرضاوي، وقفة تأمل واستغراب واستيضاح، بل وقفة ذهول واندهاش، ووقفة تساؤل تتعلق بشخصي وبشخص والدي اللذان اقتلعا من قلب حيفا قسرا وجبرا وقهرا، ليعيشا في مخيم منزوع من ذاكرة الكرامة والإنسانية، ليغادرا منه إلى القبر، بلوعة الموت الذي اختطفهما قبل أن يتمكنا من رؤية الياسمينة التي كانت تتعربش جدار البيت ونوافذه في حيفا.
يقول الشيخ يوسف القرضاوي، " ردا على سؤال بمؤتمر صحفي عما إذا كانت لديه رسالة إلى القمة-: "هناك اتجاهات في القمة، بعض الناس (دول عربية) قامت بالتطبيع مع إسرائيل، وبعضها ترفض الفكرة.. لن نطبع، ولا نقبل التطبيع ما دام الاحتلال قائما".
وتابع قائلا: "نحن لا نقبل التطبيع مع إسرائيل إلا إذا قامت دولة فلسطينية حقيقية تملك سماءها وحدودها وحق الدفاع عن نفسها، وفي هذه الحالة فقط قد نفكر في الاعتراف بإسرائيل إذا كانت هناك ضرورة".
واعتبر "أن الدولة الفلسطينية التي رسمت معالمها إسرائيل تبقى دولة وهمية، وبالاسم فقط؛ لأنها تخدم مصالح إسرائيل والاحتلال الصهيوني".
وهذا النص منقول بطريقة النسخ واللصق حتى لا يكون هناك التباس بالأمر، من موقع الشيخ ذاته، " بتاريخ 29 مارس 2007.
مع الاعتذار الشديد على نقلي مسمى الاحتلال بالاسم الذي يدعيه لنفسه، وهذه هي المرة الأولى مذ أدركت معنى التسمية، وبعد أن آليت على نفسي عدم التلفظ أو كتابة اسم مصطنع ومهجن ليحل محل كلمة الاستعمار أو فلسطين، لكنها الضرورة التي ساقني إليها الشيخ رغما عني، حتى لا اتهم بتبديل النص لو حذفت الكلمة الغريبة لأضع مكانها الاحتلال.
ومن هنا ابدأ، فالشيخ يعلن، وبطريقة أهل السياسة، بأنه من الممكن الاعتراف بالاحتلال بدولة ضمن حزمة من شروط، ويضيف إذا كانت هناك ضرورة.
فأي ضرورة شرعية أو فقهية، وطنية أو قومية، تجعل الشيخ يصبح قاب قوسين أو أدنى من الاعتراف بالباطل والظلم والاستعمار؟ وأي ضرورة، حسب رأيه تجعله يتحدث بلسان من قتلوا وهجروا وشردوا؟ أو من أودعوا السجن وهم بريعان العمر وظلوا فيه إلى أن خرجوا محمولين على الأكتاف نحو المقابر؟
من ملكه هذا الحق؟ وكيف استطاع أن يتحدث بلحظة عابرة عن زمن لا تتسع الكتب ولا الصفحات عن احتوائه؟
أيها الشيخ الفاضل:-
سأحدثك عن أشياء لم تعرفها، لم تعهدها، ولا يمكن لك أو لغيرك أن يملك خيالا لتصورها أو تخيلها، سأحدثك عن أشياء لم يعرفها البشر، ولم يعاني منها لا حيوان ولا جماد، تلك الأشياء التي تخص أبي وأمي وأخوتي وأخواتي، ومن كان مثلهم في تلك اللحظات، ومن كان في زمنهم الخارج من حدود الزمن.
رحل والديّ من حيفا، بل اقتلعا من حيفا، وسارا وعلى أيديهما طفلين، وسط الأرض المقفرة، سارا والدموع تملأ قلبيهما قبل عينهما، واللوعة والأسى والحرقة والاهانة، تجللهما، تفتك بهما، تدخل في أعماقهما دخول الذل أعماق سيد سيق إلى سوق العبيد، ووصلا إلى حافة مدينة طول كرم، هناك القيا بمتاعهما، صرة ملابس صغيرة، وبعض أرغفة من خبز متعفن، وشوك يتوزع في الأقدام.
افترشا الأرض، مع غيرهم، وبدأ الجميع بالبكاء، البكاء المر والحارق، تذكر الجميع، غايات الزيتون وببارات الليمون، بطريقة توخز العقل وتطيح بالإدراك، وما هي سوى أيام، أيام فقط، حتى تحولوا إلى عبيد عند الغير.
تحول والدي من بحار، يسافر مع السفن، يجوب الآفاق، إلى حمّال في شارع مدينة لم تعرفه ولم يعرفها، يحمل أغراض الناس ليوصلها إلى البيوت، كعبد بسيط بسيط، وحين كانت تلفحه الذكرى كان يبكي، ينتحب، مثل أرملة أرهقها الزمن وأضناها الظلم.
كنت أشاهده وهو ينتحب، وكنت أجثو عند قدميه الطاهرين، اقبلهما وأفتش بمساحتهما عن كم الألم والعذاب.
وكان بيتنا، أو ما يسمى بالبيت اصطلاحا، لغياب الألفاظ التي تحويها اللغة من تعريف أو وصف لمثل هذا الشيء، خال من بيت الخلاء، وكان بيت الخلاء يبعد عن البيت مسافة طويلة، فهو مقام بمنطقة تتوسط المخيم، حتى يستطيع الكل استخدامه، وحين كانت أمي أو أختي تضطر لقضاء حاجتها، كان عليها، أن توقظ والدي، ليرافقها، ويقف قريبا من بيت الخلاء، فهو بغير باب، بغير ماء، بغير إضاءة، كان والدي يقف، وهو مغلولا بالقهر والكبت والاهانة، ينتظر حتى تنقضي الحاجة.
وكم من مرة أيقظناه في كل ليلة؟
أنت لم تجرب ذلك، لم تعرف ذلك، وكذلك ملايين الملايين ا، ولكني عرفته، عشته، وكنت في كل مرة، أرى وجه والدي وهو يفتح للحزن والعذاب أبوابا.
وكانت -أمي رحمها الله- تضع قطعة من قماش على رأسها، وفوقها وعاء من صفيح يغطيه الصدأ، لتجوب الشوارع والأرصفة بحثا عن قطع خشب أو أحذية متهرئة، لتعود وعرقها يتجدول لتوقد نارا من اجل الطعام أو من اجل غسيل ما يسمى بالملابس.
كانت تحدثني عن حيفا وهي تبكي، بكاء الشاطئ الذي لا يزال يحن لأنفاسها المباركة، وكانت تشيع جثة السعادة والحبور، في كل يوم، وظلت كذلك إلى أن فتك بها مرض هز كيانها كله، وحين أنزلتها للقبر، وكشفت عن وجهها لأراها للمرة الأخيرة، أحسست بكم العذاب والألم اللذان لم يستطع الموت بكل ما فيه من عزم أن يخفيهما، نظرت إليها وبكيت، أجهشت بالبكاء، وسقطت فوقها.
رفعني الناس من القبر، تماما كما ترفع شيئا غير محسوس أو ملموس، وحين أهالوا التراب عليها، تذكرت حيفا، حيفا التي لم يستطع جسد أمي أو أبي أن يمتزج بترابها.
غادر الجميع، وظللت وحدي، المس شاهد قبرها وابكي، كنت حزينا إلى حد أني أحزنت الحزن، وكنت يتيما إلى حد أن اليتم نفسه لم يعرف ذاته إلا حين عرفني.
تاريخ كامل من العذاب والقهر والألم، عاشه والدي، عاشته أمي، عاشه الناس كلهم، دون أن يأتي عالم من ظهر الغيب ليمسح من عذاب الناس المقهورين ولو هنيهة واحدة.
أخي محمد، يقال – بشهادة المخيم كله – انه كان فتى يشبه الفتيان الخارجين من الأحلام، من الأساطير، كان جميلا، قوي البنية، تتقاسمه الوسامة والملاحة، وكان – كما يقال- يقف على فاصل زمن له وليس عليه.
أخي محمد، هاجمه المرض، وتمكنت منه الحرارة، اندفعت أمي وهي حاسرة الرأس تسابق الرياح، تبحث عن والدي، وحين عادا إلى المنزل، كان محمد يتصبب عرقا، ويفقد التنفس، والجيران كلهم، يقفون عاجزين.
قال والدي – رحمه الله –
حملته على ظهري وسرت، نحو المشفى، كنت أحس حرارة جسده تكوي جسدي، كان يتلوى، يتألم، يخرج صرصرة غير مفهومة، كان من حلاوة الروح يحاول أن يعض كتفي ،وفجأة برد الجسد، واختفت الصرصرة، منيت نفسي بإغماءة، نقلته من ظهري إلى صدري، ووصلت المشفى.
ابنك ميت.
عدت للبيت، احمل جثته على صدري، صرخت أمك صراخا هز الكون وخلع القلوب، شقت صدرها، عفرت رأسها وذاتها بتراب الأرض، بكيت، وبكى الجميع، حين قذفت بنفسها فوق الجثة، تشدها نحوها، تستجديها الخروج من الموت، من العدم، كانت على فاصل صغير من المس والجنون.
حملها الناس بعيدا، وبدأنا نستعد لغسله من اجل الدفن، لكن البيت كله كان خاليا من فلقة صابون، خجلت، جللت بالحياء والاهانة، قفزت نحو بقالة " أبو الفرح "، لكنه رفض إعطائي ولو دينا فلقة صابون لأغسل جسد ولدي الذي يستعد للنزول إلى القبر.
الحاجة "خميسه ابوسالم" عادت وهي تلوح بفلقة صابون، غسلناه، كفناه، حملناه، ودعناه، وأنزلناه القبر.
هكذا مات محمد، وهكذا مات بعده قاسم وباسم، وبعدهم ماتت خالدة وميسون وصفاء.
كلهم نهشهم المرض، واراهم من الوجود، فالمخيم مستنقع للداء، والفقر مستنقع للعجز.
أيها الشيخ الفاضل...
فلسطين ليست كومة من الحجارة، ولا قطعة من الأرض تخترقها الوديان والأنهار، بل هي عذابات الناس، الالامهم، قهرهم وذلهم، بكل ما فيه من تفاصيل وأحداث وأوجاع وهموم وفقر وموت وظلم، فلسطين أخي محمد وباسم وقاسم، وأختي ميسون وصفاء وخالدة، والوعاء الصفيحي الذي كانت أمي تحمله على رأسها وهو متخم بالأحذية البالية، فلسطين فلقة الصابون التي لم تجدها جثة أخي قبل نزولها إلى القبر، فلسطين أبي الذي تحول من رجل يستطيع أن يفك غلالات المدن والشواطئ إلى حمال يوصل أغراض "السادة" إلى البيوت، ليعود محملا بالذل والاهانة.
فلسطين هي الجيل الذي عانق الموت والفناء في كل هنيهة من هنيهات عمره.
وأنا ارفض أن أراك تدعي ما يؤهلك أن تتجاهل كل هذا، وعليك أن تستعد، شئت أم أبيت، للقاء أبي وأمي، وللقاء كل من ذاق عذابهم يوم القيامة، لتجيب الخالق جل شانه، عمن منحك الحق للتكلم عن عذاب أجيال في لحظة سهو أو غفلة.
اعرف يقينا بأنك عالم، واعرف انك مجتهد، ولكني أيضا وبالفطرة، ارفض أن أمنحك حقا للتنازل عن عذاب أهلي وأوجاعهم، وأنا أسألك اليوم، قبل أن تسأل يوم القيامة،
عمن منحك الحق للتنازل أو التفكير بالتنازل عن حقي وحق أهلي في حيفا.
مأمون احمد مصطفى
فلسطين- مخيم طول كرم
النرويج- 9-04-2007