المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ما هو مستقبل اللغة العربية؟


عبدو441
2013-04-19, 11:24
ا جابات عمرها 85 عامًا..
العدد 178 / إجابات عمرها 85 عامًا.. ما هو مستقبل اللغة العربية؟
بقلم : د . محمد الصاوي - الإسكندرية :

الكلام عن تدني الأداء اللغوي كلام مكرور، والشكوى من ضعف التلاميذ شكوى مملولة. وكما هي العادة في بلادنا العربية فإن أي شخص يستطيع أن (يفتي) في قضايا التعليم. ولكنا نحاول أن نرتقي بمستوى التأملات، من خلال استحضار آراء سابقينا وخبراتهم. لعلنا نزيد وعينا بمفهوم التخطيط اللغوي وأبعاده.
فقبل أكثر من ثمانية عقود قدمت مجلة الهلال عدة أسئلة، وجهتها إلى عدد من شخصيات ذلك الزمان، فيما يشبه (أسلوب دلفي). وكانت هذه الأسئلة على النحو الآتي:
«ما مستقبل اللغة العربية في نظركم؟ وما عسى أن يكون تأثير التمدين الأوروبي والروح الغربية فيها؟ وما يكون تأثير التطور السياسي الحاضر في الأقطار العربية؟ وهل يعم انتشارها في المدارس العالية وغير العالية، وتعلم بها جميع العلوم؟ وهل تتغلب على اللهجات العامية المختلفة وتوحدها، وما خير الوسائل لإحيائها؟». وقد نُشرت إجابات متعددة عن هذه الأسئلة في كتاب صدر سنة 1923.
وبالرغم من مرور هذه السنين الطوال، وبالرغم من انقلاب المعادلة اللغوية في مؤسسات التعليم عندنا مؤخرًا، فإنا لا نجد غضاضة في أن نستعيد طرفًا مما قاله الناس آنذاك؛ لنضع بعض الأفكار أمام المخططين اللغويين، إنْ كان في بلادنا العربية مخططون لغويون.




سئل مصطفى صادق الرافعي (ت1937) عن خير الوسائل في إحياء لغة العرب، فكان من جوابه الموجز ما معناه: خير الوسائل في إحياء العربية: أن يتطور أداء المجامع العربية، لتكون على نمط المجامع الأوروبية، في عملها، وفي تأثيرها. وإصلاح تعليم العربية ليكون على نهج جامع بين الفن والأدب واللغة والبلاغة. وتعليم العلوم كلها بالعربية، وتعريب ما ليس فيها من ذلك ونشره، ونشر الكتب العربية القيمة. وأن تعنى وسائل الإعلام بلغتها؛ لأن فساد البيئة اللغوية كفساد الهواء يُشيع الوباء. وأن يكون حفظ القرآن أو معظمه أمرًا واجبًا، مع تعليم الأداء القرآني على وجه الإتقان؛ فالقرآن في التربية اللغوية أساسٌ متين، بغيره يتداعى البناء كله. (فتاوى كبار الكتاب والأدباء، ص27-28).
وتنم إجابات الرافعي عن وعيه بقضايا معقدة، منها أن المدرسة ليست المكان الوحيد لتلقي المعرفة، وأن مؤسسات التعليم النظامي ليست المسئول الوحيد عن صياغة لغة الناس ارتقاءً أو انحدارًا. وكان الرجل واعيًا بأن تعليم اللغات الأجنبية شأن مختلف عن التعليم باللغات الأجنبية. كما كان يستشعر قصورًا سيبدو لاحقًا في أداء المجامع اللغوية العربية. وكان مدركًا لتأثير البيئة اللغوية التي تصنعها الوسائط الإعلامية، على بساطتها وقلتها في أيامه، مقارنة بالانفجار الإعلامي في أيامنا. كما نبه إلى دور صناعة النشر في التخطيط اللغوي، بجانب تعريب التعليم، وتعريب العلوم. ونبه إلى أن اللغة نظام كلي يجمع نظم الأدب والفن والبلاغة والقواعد والمعجم. فلذلك رأى أن يكون منهج تعليم اللغة منهجًا كليًا جامعًا.
ولقد انطلق الرافعي في كلامه هذا من أن «هذه اللغة العربية تمتاز على اللغات كافة بارتباطها إلى الأصلين العظيمين الخالدين: القرآن والحديث، وهما على وجه واحد أول الدهر وآخر الدهر، وإليهما مناط العقائد في العالم الإسلامي كله.. وليس يخفى أن الكيان الإنساني قائم على القوى الأدبية، وأصل هذه القوى في العالم الإسلامي هو القرآن، وهو كذلك أصبح من وجوه كثيرة كأنه أصل اللغة. فمادام كل انقلاب اجتماعي فينا لا يأتي على هذا الأصل فهو لن يأتي على تلك اللغة، وإذا كان الحي لا يبنى إلا من داخله فهو لا يهدم إلا من داخله» (ص24-25).
لقد كان الرافعي واعيًا بأن «اللغة» أخطرُ وأكبرُ وأعقدُ من أن تكون عمل اللغويين وحدهم. فقال دون مواربة: «لكل لغة قوية وجهًا سياسيًا، كما أن لكل سياسة قوية وجهًا لغويًا.. فالشعوب قائمة على الاختلاف والتنازع. وهنا موضع الضعف والقوة. فإنْ نهض أهل العربية.. فتلك نهضة العربية نفسها، وإن ضعفوا فذلك ضعفها» (ص26). وهذا النظر المدقق يذكرنا بأن اللغة العربية كانت قد صارت لغة عمل في الأمم المتحدة في أعقاب نصر 1973. واليوم - بعد الانتكاسات والتنازلات- تتعالى الهمسات مطالبة بإلغاء اللغة العربية في المنظمة الدولية، تحت ذريعة ضغط النفقات!
وبرغم كون اللغة العربية إحدى لغات الأمم المتحدة، فإنه من الملاحظ أخيرًا أن بعض وثائق الأمم المتحدة تتاح فقط بالإنجليزية والفرنسية والإسبانية. وحتى إصدارات اليونسكو لم تعد النسخة العربية تتاح منها جميعًا. ربما كانت الأسباب التجارية وراء عدم إصدار الترجمات العربية لإصدارات اليونسكو، لكن المحصلة تصب في صالح اللغات الأجنبية؛ لأن القارئ سيجد نفسه مضطرا إلى الاستعانة بالطبعات الأجنبية. وهكذا تتأكد مقولة أن اللغات تحيا بالاستعمال، وتذوي بالإهمال. (راجع: «حكايات دبلوماسية»، فتحي الجويلي، 2007، 295-296)
وأما شاعر القطرين «مطران» (ت1949) فقد كتب جوابا عن السؤال عينه «لا تنس أن (...) الاستمرار في تعلم اللغة الفصحى وتعليمها والاهتمام بتسهيلها وتقريبها وتعميمها هو أنها لغة القرآن الشريف، وكفى بهذا بيانا لقوم مبصرين» (ص15)، كان ذاك جواب شاعر وكاتب ومترجم.
لقد رأى مطران أن على الحكومات والوجهاء واجبًا في رعاية المدارس، من أجل النهوض بلغة العرب. ثم هو يوصي - على نحو جدير بالإعجاب- بمشروع للمعجم العربي، من شأنه أن يسهم في النهضة اللغوية، فاشترط وجود «معجم صحيح شامل مضبوط بالشكل الكامل، جامع للأصيل والمولد والحديث، بعلائم معينة، يقره عقد نظيم من العلماء الأعلام، المُجمع على كفاءتهم وتبريزهم في الأقاليم العربية على اختلافها، يجعل مقرهم مصر، ويكون ذلك المعجم وما إليه شغلهم الأكبر وعملهم الأظهر». وبلغة ميسرة يمكن أن نوضح أن مطران دعا إلى أن يتولى وضع المعجم العربي فريق عمل، واشترط أن يكون أعضاء الفريق متفرغين له، وأن يستعملوا في المعجم الرموز والاختصارات، التي توضح الأصيل والمولد والحديث من الكلمات، مع النص على استعمالاتها.
حُقّ للشاعر أن يحلم وأن نحلم معه يوم قال: «قد قرب اليوم الذي يستطاع فيه وجود الكل أو الجل من الاصطلاحات العربية أو المعربة بإحكام ومهارة، لتلقين ضروب العلوم بلسان الضاد. ويسرني جدًا تقرير ما أراه من التقدم الحثيث في هذه السبيل». ولكن أين حُلمه مما آلت إليه لغة الضاد؟
وربما كان من أوضح التصورات لعملية التخطيط اللغوي ما عبر به «عيسى إسكندر المعلوف» إذ أجاب بقوله: «حصرتُ ارتقاء اللغة بسلم ذات ثماني درجات هي الدولة، والأمة، والمدرسة، والصحافة، والمطبعة، والتأليف، والمجمع العلمي، والمكتبة. فهي كافلة بإحياء اللغة تدريجًا لا طفرة» (ص23). فهذا السلم الثماني أو منظومة التخطيط اللغوي كفيل بإحياء لغة العرب، إذا توافر لدى الخبراء ولدى أولي الأمر من يمسك بالخيوط في حكمة، ومن يوجهها في بصيرة، ومن يؤلف بينها في تناغم، ومن يتفرغ لها في إخلاص.
وكانت إشارات محمد كرد علي خاطفة، لكنه أضاف إلى دور المدارس في إنهاض العربية أدوارًا مهمة للإعلام و«التمثيل». وكانت منه نظرة حكيمة، استشرفت تعاظم فنون الدراما، في الوسائط الإعلامية الجديدة، من سينما وفضائيات. ولو نشأت فنون التمثيل لدينا على التزام العربية الفصيحة لكانت الحال اليوم غير الحال. ولكن الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالِم، فإذا أدبرت عرفها كل جاهل.
التخطيط اللغوي جزء من خطة مجتمع
إن انهيار أركان المجتمع يؤذن بانهيار لغوي. وليس بمستبعد أن تفسد استعمالات اللغة بفساد الإدارة والثقافة والاقتصاد. فإذا «تحول الشعراء –على حد تعبير جبران- إلى ناظمين، والفلاسفة إلى كلاميين، والأطباء إلى دجالين، والفلكيون إلى منجمين، عندها يتحول الكتّاب إلى كَتَبَة، وساعتها قل على العربية السلام».
ولو عاش جبران وشاهد انقلاب المعادلة اللغوية في معاهد التعليم لأعاد قولته التي قالها قبل أكثر من ثمانية عقود: «الشاب الذي تناول لقمة من العلم في مدرسة أمريكية قد تحول بالطبع إلى معتمد أمريكي، والشاب الذي تجرع رشفة من العلم في مدرسة يسوعية صار سفيرًا لفرنسا، والشاب الذي لبس قميصا من نسيج مدرسة روسية أصبح ممثلا لروسيا».
العولمة وتهميش اللغة العربية
«في ظل العولمة وثورة المعلومات، تتعرض اللغة العربية لحركة تهميش نشطة، بفعل الضغوط الهائلة الناجمة عن طغيان اللغة الإنجليزية على الصعيد السياسي والاقتصادي والتكنولوجي والمعلوماتي. وتشارك العربية –في ذلك- معظم لغات العالم، إلا أنها تواجه تحديات إضافية نتيجة الحملة الضارية التي تشنها العولمة ضد الإسلام، وبالتالي ضد العربية؛ نظرًا إلى شدة الارتباط بينهما» (نبيل علي، 2001، 238) ويضاف إلى ما ذُكر من ضغوط «الضغوط التربوية» المتمثلة في عجمة اللسان الذي يتخذ لغة لتعليم المقررات الدراسية.
والحال في داخل الحدود ليست بأقل سوءًا؛ فقد جاءتنا من وراء البحار فكرة «القطيعة مع التراث»، وهي شعار كثير من دعاة مايسمى ب «الحداثة» والغاية هي قطع الصلة بالماضي ورموزه البارزة، وأولها الدين واللغة والتاريخ، ويجعل من هذه القطيعة شرطًا لانطلاق العقل دون عوائق!!.. واللافت أن هذا المبدأ يراد لنا أن نطبقه نحن وحدنا دون سوانا؛ فالذين ينافسوننا حضاريا في المنطقة، وفلاسفتهم ومنظِّروهم وراء هذه المبادئ مهما تعددت الواجهات. هؤلاء المنافسون هم أحرص الناس على ماضيهم، وهم أكثر الناس اعتزازًا به، سواء في مظاهره المادية أو المعنوية. ولم يمنعهم ذلك من أن يحققوا تقدمًا علميًا وسياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا (يوثق ذلك دراسة صفا محمود عبدالعال (2002) بعنوان: «التعليم العلمي والتكنولوجي في إسرائيل»، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة).. وهم خلال ذلك التقدم لا يفرطون في ذرة من تراثهم وماضيهم، بما في ذلك اللغة التي نجحوا في إحيائها من الشتات والموات (أحمد درويش، 2006، ص 10)
ونقل عن باحث صهيوني قوله: «من منا يذكر كتابا واحدًا في الجغرافيا فيه اسم جبل باللغة العربية؟ إن الأسماء العربية لا وجود لها» (السابق، ص 39) فإن اغتصاب اللغة مقدمة ضرورية لاغتصاب حقوق أهلها، وضياع الحقوق نتيجة حتمية للتفريط في اللغة. لذلك أجد من اللائق أن أثبت هنا نص الأبيات التي أوردها أحمد درويش عن شاعر من صقلية (الفقيدة) تقول:
«ضع شعبا في السلاسل
جردهم من ملابسهم
سد أفواههم.. لكنهم مازالوا أحرارا
خذ منهم أعمالهم.. وجوازات سفرهم
والموائد التي يأكلون عليها
والأسرِّة التي ينامون عليها
لكنهم مازالوا أغنياء
إن الشعب يفتقر ويُستعبد
عندما يسلب اللسان
الذي تركه له الأجداد
وعندها يضيع إلى الأبد».
ولعل «أنطون الجميل» قد اطلع على هذه القصيدة؛ فقد رأى اللغة عنوانا للكرامة الوطنية والتحرر، وقال نصًا: «إن الشعب الذي يقع في الأسر إذا عرف أن يحتفظ بلغته فكأن مفتاح سجنه في يده، يفلت منه متى شاء» (فتاوى كبار الكتاب والأدباء ص48).
وفي أجواء الحرب العالمية الأولى واتفاقية «سايكس/ بيكو« تشاءم «جبر ضومط» إذ بيّن أن «تعزز الغربيين وامتداد سلطتهم ونفوذ نفوذهم.. يفضي إلى إقبال المغلوبين على آداب الغالبين ولغتهم، وإهمال آدابهم ولغتهم الوطنية نوعًا. وعلى نسبة شدة تسلط الغربيين ونفوذ نفوذهم تتراجع اللغة العربية والروح العربي..».
وأما المستشرق لامنس اليسوعي (ت 1937) فقد نبه إلى الرابطة بين السلطة السياسية الحصيفة والنهضة اللغوية، إذ قال: «إني أثق بمستقبل حسن للغة العربية، على شرط أن يتولى الحكم في البلاد العربية رجال ذوو نظر بعيد، وأفكار واسعة، ووطنية رحبة، يقتنعون بأن مستقبل لغتهم يتوقف على اتحادها وثيقًا بالمدنية الغربية». والرجل في ذلك يتسق مع سيرته ووظيفته؛ إذ هو معني بخدمة الثقافة الأوروبية في المقام الأول. فهو من أجل ذلك يصادم فكرة التعليم باللغة العربية.
وفي أسلوب غوغائي وغير علمي بالمرة قال لامنس: «ليس عندي أدنى شك في أنه إذا جُعل التعليم العالي باللغة العربية تنعزل البلاد العربية شيئًا فشيئًا عن الحركة العامة؛ إذ تصبح اللغة الوطنية حاجزًا منيعًا دون مواصلة التقدم» (ص8) ومن المؤسف أن آراء لامنس شكلت مرتكزًا لمعظم الدارسين الغربيين بعده، وصار مقلدوهم بيننا يرددون الآراء عينها. ولم يخفف من غلو لامنس وشيعته آراءُ مخالفيه من المستشرقين في أيامه، من أمثال «وليم ورل» الذي صاغ موقفه في قوله: «للغة العربية لين ومرونة يمكنانها من التكيف وفقًا لمقتضيات هذا العصر. وليس (هناك) من يشك في أنه متى سنحت لها الظروف تستطيع أن تبلغ درجة من الدقة والرقي، تمكنها من التعبير عن أسمى الأغراض العلمية. ويجوز إذ ذاك للجامعات الشرقية أن تعلم العلوم باللغة العربية، كما تعلم في هولندا والدانمرك مثلا باللغتين الهولندية والدانمركية والألمانية، كما يتعلمها الغربيون أنفسهم» (ص11).
وهم اللحاق بالغرب
نقل أحمد درويش عن صمويل هانتنجتون القول: «إن شعوب العالم غير الغربية لا يمكن لها أن تدخل في النسيج الحضاري للغرب، حتى وإن استهلكت البضائع الغربية، وشاهدت الأفلام الأمريكية، واستمعت إلى الموسيقى الغربية. فروح أي حضارة هي اللغة والدين، والقيم والتقاليد والعادات. وحضارة الغرب تتميز بكونها وريثة الحضارات اليونانية والمسيحية الغربية، والأصول اللاتينية للغات شعوبها، والفصل بين الدين والدولة، وسيادة القانون، والتعددية في ظل المجتمع المدني والهياكل النيابية، والحرية الفردية» (أحمد درويش، 2006، ص 28).
اللغة واكتساب المعرفة
عملية التعليم والتعلم عملية ذات طبيعة لغوية. فعمل المعلم عمل لغوي في جوهره، وعملية التعلم نفسها لا تحدث في غياب اللغة. ولكن العرب دون سائر الأمم انشغلوا ومازالوا منشغلين بالسؤال عن أية لغة تكون لغة التعليم والتعلم. و«لا يقف دور اللغة في تلقي العلم أو توصيله عند مجرد دور الأداة الناقلة أو القناة الموصلة، تعبُر خلالها المعلومة إرسالاً أو استقبالاً، وإنما يمتد دور اللغة ليشكل ضفيرة قوية مع المعرفة ومع الهوية، تتبادل فيما بينها وسائل التغذية والتنمية، فتقوى اللغة بقوة العلم المتشكل من خلالها... وفي الوقت نفسه يقوى العلم خلال انتشاره وتمكنه في النفوس عندما يتحرك في هذه النفوس باللغة التي يألفها، وتتصل به اتصال الوجود، وتتكون فيها مع تكوّن الحواس» (السابق، 97).
ونُقل عن البيروني –من عظماء المترجمين- قوله: «إلى لسان العرب نُقلت العلوم في أقطار العالم؛ فازدانت وحلَّت في الأفئدة». وعلق أحمد درويش بقوله: «وعبارة البيروني ذات مغزى عميق؛ فصبُّ العلم في اللغة الأم يحقق هدفين رئيسيين، أولهما أن تزدان اللغة وتتألق وتصبح حيوية جذابة، وثانيهما أن يحل العلم المنقول بها في الأفئدة، فيستقر في النفوس والعقول، تعمقًا وأخذًا وعطاء، ولا يظل قشورًا ورطانات» (السابق، 100).
يتلقى الأطفال الذين يتعلمون بلغة غير لغتهم الأم رسالتين مفادهما أنه لا يمكنهم النجاح على المستوى الفكري باستخدام لغتهم الأم، وأن لغتهم الأم غير مفيدة. وقد راقبت وحدة بحث تابعة لجامعة جورج مايسن في فيرجينيا النتائج التي تم التوصل إليها في ثلاث وعشرين مدرسة ابتدائية، في خمس عشرة ولاية منذ عام 1985. فأظهر المسح أنه بعد أحد عشر عامًا من التدريس، ما يزال هناك رابط مباشر بين النتائج الأكاديمية والوقت المخصص للتعلم باللغة الأم. (مجلة التربية اليوم، عدد 6، 2003، ص ص 4-6).
وفي الحديث عن لغة التعليم يغيب عن المتجادلين أن العربية لغة دولية، وليست لغة قبيلة أفريقية منزوية في أعماق الأحراش أو بين سراديب الجبال. فعدد الناطقين بالعربية أكبر من عدد الناطقين بالروسية أو البرتغالية أو الألمانية (إحصائية اليونسكو سنة 2000).
عالميًا أوصت منظمة الصحة العالمية –وهي تراجع الحالة الصحية في العالم العربي- باستخدام اللغة العربية في تعليم الطب؛ إذ رصدت أن العالم العربي متفرد في تعليم الأطباء بلغة غير لغة المرضى وهيئة التمريض.
وفي مصر أوصت المجالس القومية المتخصصة في تقرير صدر في 2004 بضرورة تعريب التعليم العالي، وجاء في التقرير: «إن قضية التعريب لم تعد نابعة من الحمية القومية أو المحافظة على الهوية الثقافية فحسب،بل صارت ضرورة لا غنى عنها، لصقل أدوات التفكير، وتنمية القدرات الذهنية، والملكات الإبداعية». نقلاً عن (أحمد درويش، 2006، 117) وأما عن تجارب الآخرين، فقد مثَّل التمكنُ من اللغة العبرية، والترجمةُ إليها، أحدَ التوجهات الرئيسة التي حكمت مسيرة العلم والتقنية في إسرائيل (صفا عبدالعال، 2002، 32-33).
وقد يحق لكل شخص - فردًا- أن يختار اللغة التي يرغب أن يتلقى بها دراساته، وله أن يختار العلوم التي يدرسها. لكن اختيارات الأفراد شأن مختلف عن صناعة السياسات العامة؛ فصانعو السياسات التربوية لا يحق لهم القفز فوق هوية المجتمع والتيار العام لثقافة أغلبية عناصره. وقد يكون مقبولا في ظل المتغيرات العالمية أن يمول شخصٌ أو هيئة مؤسسةً تعليمية تقدم مقررات باللغة الأجنبية. لكن أن تتبنى الدولة نفسها تحويل مدارسها الرسمية إلى مدارس تقدم المقررات باللغة الأجنبية فهذا تحويل رسمي لمسار الثقافة. ولا أقول إنه عملية تخطيط لغوي، وإنما هي فوضى لغوية، وانشطار لا يملك أحد التحكم في تفاعلاته.
وإن من المبادئ التوجيهية لليونسكو إزاء اللغة والتعليم في القرن الحادي والعشرين:
1- اليونسكو تؤيد تدريس اللغة الأم وسيلة لتحسين نوعية التعليم.
2- اليونسكو تؤيد التعليم المتعدد اللغات في المجتمعات المتسمة بالتنوع اللغوي.
3- اليونسكو تؤيد تعليم اللغات بغية التفاهم بين الجماعات السكانية. (عن: لندا كينج، 2003، ص ص 30-33).
ومما يسهل من مهام التخطيط اللغوي أنه لا توجد في أية دولة عربية مشكلة لغوية تضارع التعدد اللغوي في إندونيسيا، حيث توجد 700 لغة. كما لا توجد مشكلة تعدد اللغات الرسمية، كما هي الحال في الهند (19 لغة رسمية). لكن الواقع اللغوي العربي يواجه عمليات إزاحة لصالح اللغة الإنجليزية، وهي اللغة التي تشجع التعليمَ بها الحكوماتُ والأهالي، في سعيهم لتأمين مستقبل وظيفي لأولادهم. ونحن نتغافل أحيانًا عن أن معرفة اللغات الأجنبية وحدها لا توجِد فرصَ العمل، ما لم تتوافر الظروف الاقتصادية الموضوعية الموجدة للوظائف.
التخطيطي اللغوي والتعليم
إن «أساس كل نهضة قومية يجب أن يكون في المدرسة الابتدائية، حيث ينبغي تعليم لغة البلاد وتاريخها» (أنطون الجميل).
وكان للمستشرق ريتشارد كوتهيل رأي في لغة التعليم، ذكره في أعقاب الحرب العالمية الأولى وصدور وعد بلفور، فقال: «لست أرى سببًا يمنع جعل العربية في كل تلك الأمصار لغة التعليم، في المدرسة وفي الكلية. بل يجب جعلها كذلك. على أنني أستثني فلسطين حين تصبح وطنًا لليهود؛ إذ تكون العبرانية لغة التعليم فيها. ولكني أطلب جعل تدريس العربية إجباريًا لأنها لغة مواطني اليهود في فلسطين، ولغة المدنية المحيطة بهم. وإنني ممن لا يستحسنون جعل اللغات الأوروبية لغات تدريس عامة، بل أنا ممن يقولون بتدريسها في الكليات وأندية العلم العليا». (فتاوى كبار الكتاب والأدباء ص 7) وبالتدقيق في كلامه نجده يميز بين لغة التدريس، وبين تدريس اللغات الأجنبية. فهو في هذا الوقت المبكر يؤمن بضرورة تعليم اللغة العربية ليهود فلسطين، على أن تكون العبرانية هي لغة التعليم لهؤلاء. وأما الطلاب العرب فلا يدرسون بغير العربية إلا في الكليات والمعاهد العليا.
وقد أكد هذا المستشرق على أن العروة الوثقى بين اللغة وبين تاريخ أهلها لا انفصام لها. وبتعبيره هو: «ليس من وسيلة لإشعال النور الذي سطع في الأيام الغابرة، وجعل الشعوب الناطقة بالضاد خلفًا صالحًا لأسلافهم العظام أفضل من درس تاريخ الآباء وآداب الأجداد».
وبالإضافة إلى ما تقدم أقول إن الكثير من المقترحات بشأن تطوير نظام الأبجدية والتهجئة العربية لم يكن له من هدف سوى مساعدة المستشرقين في تلافي مشكلاتهم هم مع الكتب العربية. مثل مقترح كتابة العربية بالحروف اللاتينية، واستخدام الأحرف الكبيرة capital لأسماء الأعلام العربية.
وإن بعض الآراء القديمة لا يمكننا اليوم أن نسلم بها؛ فلا نقبل أن يقال لنا إن الحروب الكبرى تؤدي إلى التقريب بين أبناء البلدان العربية، ولا نقبل أن يقال لنا ببساطة إن اللغة العربية ستخرج منتصرة بعد كل مواجهة ثقافية مع الأمم الأخرى.
التخطيط اللغوي في المجتمع
كان إبراهيم حلمي العمر، صاحب جريدة المفيد البغدادية، واعيًا بأبعاد التخطيط اللغوي، إذ عدَّد وسائل إحياء العربية، في بواكير القرن العشرين، على النحو الآتي:
1- إقامة مهرجان سنوي عام في إحدى العواصم العربية، لتكريم المبرزين في فنون القول.
2- توظيف أموال الأوقاف في إنشاء المدارس والجمعيات اللغوية.
3- جعل اللغة العربية اللغة الرسمية الوحيدة بغير منازع.
4- تنقية القديم من كتب النحو والصرف والبديع والبيان والأدب والمعاجم.
5- حجب الكتابات الركيكة والمتقعرة عن النشر.
6- الحد من انتشار الأعمال المكتوبة بالعامية.
7- ترقية فنون الموسيقى والغناء الفصيح.
8- إنشاء الجمعيات الأدبية في العواصم العربية.
وأنا هنا لا أحاول أن أقول إن أحدًا ممن ذكرتهم كان مخطئًا بإطلاق أو مصيبًا بإطلاق، وإنما أريد أن أؤكد أننا في احتياج شديد إلى أن نقرأ خبرات السابقين، وأن نتأملها طويلاً، وأن نستفيد منها إذا شئنا، وأن نصل الماضي القريب بالحاضر الماثل، وأن نكون على قدر الطوفان اللغوي الداهم، وأن نترفع عن حل مشكلاتنا بالمرافعات البلاغية، وألا ننشغل بمشاهدة الأشجار عن رؤية الغابة.

zeyyan
2013-04-19, 11:26
http://forum.sedty.com/imagehosting/155761_1310594580.gif
(http://best4all.eu5.org/)

إيمان المبدعة
2013-04-19, 12:45
بارك الله فيك

belamriabdelaziz
2013-05-06, 17:52
أحسنت صنعا وبارك الله فيك

ettahir
2013-05-10, 20:07
شكرا لك اخي الحبيب على الموضوع