رشيد جميل
2013-03-07, 15:45
خلقنا لمهمة واحدة هي الحلم
رشيد جميل
لا أحد رآه ينزل في الليل المهيمن، ولا أحد رأى عجلة الحافلة تغطس في الوحل المقدس، لكن أحدا ما كان له أن يجهل، بعد مرور بضعة أيام، أن الرجل الصموت أتى من جنوب العاصمة وأن ميلاده إحدى القرى اللامتناهية في أعالي الوادي، عند سفح الجبل العنيف، حيث اللغة الدارجة المتخلفة مسيطرة عن الوضع والفكر، مُزيحة الفصحى الى مكان مجهول، وحيث الجذام والمرض نادر الوجود، متكفلة بذلك طبيعة الوادي والجبل، غير أن المؤكد أن الرجل الرمادي يمم وجهه شطر المعبد، ومشى إلى نهاية الشارع دون أن يبتعد (ربما دون شعور منه) عن الحفر التي كانت تضمخ حذاءه، ثم مشى طائشا مبلل الثياب، إلى غاية الحرم الدائري الذي يعلوه نمر أو فرس قد من حجر، يعتليه فارس مشكوك فيه، كان من قبل في لون الرماد وأصبح الآن في لون النار، إن هذا الحرم معبد افترسته السيارات القديمة ودنسته العمارات المحيطة، ولم يعد ربه يتلقى عطاء الرجال، وجلس الغريب عند قاعدة التمثال، أيقظته الشمس في كبد السماء، فلاحظ، غير مندهش بأن ملابسه قد جفَّت، أغمض عينيه الباهتتين ونام، ليس تحت تأثير وهج الجسم وإنما بقرار من الإرادة كان يعلم أن هذا المعبد هو المكان الذي ينشده مخططه الذي لا ينهزم، وكان يعلم أن الأشجار المصفوفة في قوالب لم تفلح في أن تخنق، في أسافل الشارع، خرائب معبد آخر مماثل، أحرقت آلهته وماتت، كما كان يعلم أن واجبه الآن هو أن ينام، وعند منتصف الليل، أيقظه صراخ طائر بوم متعذر المواساة، ونبهته آثار أقدام متجهة الى الأفق، وبضع كتب وقلم، إلى أن الجالسين في الناحية قد تجسسوا على نومه باحترام فالتمسوا حماية علمية أو خافوا سحره، شعُر ببرودة الخوف فبحث في الرفوف عن كتاب ليدفن نفسه فيه ويتوارى فيه بأوراق مجهولة.
لم يكن المخطط الذي يقوده مستحيلا، وإن كان غير طبيعي، كان يريد أن يحلم رجلا، يريد أن يحلمه باكتمال بالغ الدقة فيفرضه على الواقع، لقد استنفذ هذا المشروع الساحر كل فضاء روحه، بحيث لو سأله أحد عن اسمه أو عن ملمح ما من حياته السالفة لما حار جوابا، وكان المعبد المهجور والمبدد ملائما له لأنه يشكل الحد الأدنى من العالم المرئي، كما كانت جيرة الطلبة ملائمة نظرا لأن هؤلاء كانوا يتحملون تأمين حاجاته الزهيدة، من أوراق وأقلام، فكان "بيت من الشعر" و"قصة" و"فصل من كتاب" جزيتهم غذاء كافيا لعقله، المكرس لمهمة وحيدة - خلقت له وخلق لها - هي النوم والحلم.
في البدء، كانت الأحلام وردية ثم غدت عمائمية، وبعد قليل غدت ذات طبيعة فلسفية جدلية، لقد رأى الغريب نفسه في مركز مربع شبيه بالمعبد الذي التهمته النيران أسراب من تلاميذ صموتين كانوا يملأون المقاعد، وكانت وجوههم تتدلى على مسافة قرون أو على ارتفاع كوكب، بيد أنها كانت واضحة تماما.
رشيد جميل
لا أحد رآه ينزل في الليل المهيمن، ولا أحد رأى عجلة الحافلة تغطس في الوحل المقدس، لكن أحدا ما كان له أن يجهل، بعد مرور بضعة أيام، أن الرجل الصموت أتى من جنوب العاصمة وأن ميلاده إحدى القرى اللامتناهية في أعالي الوادي، عند سفح الجبل العنيف، حيث اللغة الدارجة المتخلفة مسيطرة عن الوضع والفكر، مُزيحة الفصحى الى مكان مجهول، وحيث الجذام والمرض نادر الوجود، متكفلة بذلك طبيعة الوادي والجبل، غير أن المؤكد أن الرجل الرمادي يمم وجهه شطر المعبد، ومشى إلى نهاية الشارع دون أن يبتعد (ربما دون شعور منه) عن الحفر التي كانت تضمخ حذاءه، ثم مشى طائشا مبلل الثياب، إلى غاية الحرم الدائري الذي يعلوه نمر أو فرس قد من حجر، يعتليه فارس مشكوك فيه، كان من قبل في لون الرماد وأصبح الآن في لون النار، إن هذا الحرم معبد افترسته السيارات القديمة ودنسته العمارات المحيطة، ولم يعد ربه يتلقى عطاء الرجال، وجلس الغريب عند قاعدة التمثال، أيقظته الشمس في كبد السماء، فلاحظ، غير مندهش بأن ملابسه قد جفَّت، أغمض عينيه الباهتتين ونام، ليس تحت تأثير وهج الجسم وإنما بقرار من الإرادة كان يعلم أن هذا المعبد هو المكان الذي ينشده مخططه الذي لا ينهزم، وكان يعلم أن الأشجار المصفوفة في قوالب لم تفلح في أن تخنق، في أسافل الشارع، خرائب معبد آخر مماثل، أحرقت آلهته وماتت، كما كان يعلم أن واجبه الآن هو أن ينام، وعند منتصف الليل، أيقظه صراخ طائر بوم متعذر المواساة، ونبهته آثار أقدام متجهة الى الأفق، وبضع كتب وقلم، إلى أن الجالسين في الناحية قد تجسسوا على نومه باحترام فالتمسوا حماية علمية أو خافوا سحره، شعُر ببرودة الخوف فبحث في الرفوف عن كتاب ليدفن نفسه فيه ويتوارى فيه بأوراق مجهولة.
لم يكن المخطط الذي يقوده مستحيلا، وإن كان غير طبيعي، كان يريد أن يحلم رجلا، يريد أن يحلمه باكتمال بالغ الدقة فيفرضه على الواقع، لقد استنفذ هذا المشروع الساحر كل فضاء روحه، بحيث لو سأله أحد عن اسمه أو عن ملمح ما من حياته السالفة لما حار جوابا، وكان المعبد المهجور والمبدد ملائما له لأنه يشكل الحد الأدنى من العالم المرئي، كما كانت جيرة الطلبة ملائمة نظرا لأن هؤلاء كانوا يتحملون تأمين حاجاته الزهيدة، من أوراق وأقلام، فكان "بيت من الشعر" و"قصة" و"فصل من كتاب" جزيتهم غذاء كافيا لعقله، المكرس لمهمة وحيدة - خلقت له وخلق لها - هي النوم والحلم.
في البدء، كانت الأحلام وردية ثم غدت عمائمية، وبعد قليل غدت ذات طبيعة فلسفية جدلية، لقد رأى الغريب نفسه في مركز مربع شبيه بالمعبد الذي التهمته النيران أسراب من تلاميذ صموتين كانوا يملأون المقاعد، وكانت وجوههم تتدلى على مسافة قرون أو على ارتفاع كوكب، بيد أنها كانت واضحة تماما.