slomerck
2009-04-13, 10:44
من قديم الزمن و طاعون "الموت الأحمر" يبيد اليابس و الأخضر في هذه البلاد ،.. إذ ما من وباء كان ليماثل شراسته و بشاعته أبدا، ..لقد كان يتجسد بالدماء، أما علامته فقد كانت إحمرار الدم !.. ويصاحب هجومه الشرس آلام شديدة ودوار مفاجئ يعقبه نزيف حاد،.. أما البقع القرمزية التي يخلفها على الجسم وخاصة تلك التي تنطبع على وجه الضحية فقد كانت بمثابة الوباء اللعين الذي يحول دون وصول الاسعاف اللازم إليه أو حتى من إشفاق أصحابه عليه، بيد أن هذه النوبة المرضية بأكملها من نموها و تطورها حتى انتهاءها لا تتعدى زهاء أحداث نصف ساعة من الزمن!
و بالرغم من هذا الرعب الذي كان يبثه الموت الأحمر في النفوس إلا أن أمير البلاد، "بروسبيرو"، لم يكن ليعبأ به، فعندما فتك هذا الطاعون البغيض بنصف سكان أراضيه الأثيرة دعا إلى مجلسه أكثر من ألف صديق من بين فرسان قصره الأصحاء ونساءه الفاتنات، واختلى بنفسه بعيدًا مع هؤلاء المدعوين في إحدى اكثر كنائسه الحصينة فخامة و دقة بناء وأوسعها إذ كان هذا الذوق الغريب والمهيب نِتاج إبداع الأمير نفسه! لقد كانت الكنيسة محاطة بالكامل بجدار منيع شديد الارتفاع وتحرسها بوابات حديدية عملاقة.
وفور دخول رجال البلاط إلى الكنيسة أحضروا الأفران التي تتأجج بالنيران والمطارق الضخمة شديدة البأس وقاموا بلحام الأقفال سعيا إلى إحباط أدنى وسيلة للدخول إليها أو الخروج منها لأي سبب كان.
كما تم توفير جميع المؤن الضرورية داخل الكنيسة، حيث سيتسنى لرجال البلاط و حاشية الأمير الآن تحدى العدوى بهذه التدابير الوقائية، أما العالم الخارجي فيمنكه الاعتناء بنفسه!
ذلك أن مجرد الحزن على أولئك القابعين في الخارج أو التفكير بحالهم لا يعدو كونه سذاجة فادحة، والفضل في هذا يعود أساسا إلى الأمير حيث قام بتدبير جميع وسائل الراحة والترفيه من خدم وراقصات البالية وعازفي الموسيقى و الغانيات والشراب، وجميع هذه المحافل كانت بمأمن في الداخل أما في الخارج فقد كان يقبع "الموت الأحمر".
وعندما دنت عزلة الأمير في داخل كنيسته من شهرها الخامس أو السادس قام باستضافة أصدقاءه الألف لحضور حفل تنكري لم يسبق له مثيل.
لقد كان هذا الحفل مسرحا مثيرًا للحواس، لكن في البداية اسمحوا لي أن أخذكم في جولة داخل القاعات التي أُحيت فيها هذه الحفلة،.. لقد كنُّ سبع قاعات أو بالأحرى جناحًا إمبراطوريًا ضخمًا،.. إن أجنحة كهذه في العديد من القصور تشكل أفقًا طويلاً وممتدا تترامى على جدرانه الأبواب على كلا الجهتين من دون أن تتيح لأي شيء بإعاقة منظر النطاق. بيد أن الأمر في هذا القصر بالذات يختلف تمامًا عما هو مألوف وهو ما يمكن توقعه من حب الدوق للغرائب والنوادر، لقد كانت هذه الغرف موزعة بطريقة غير متناسقة مطلقةً العنان للبصر بمعانقتها بشدة مرة بعد مرة لينتهي بها المطاف باستدارة حادة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار بحيث تتوسط كل جدار نافذة طوقية طويلة وضيقة تطل على ممر مغلق يتتبع التفافات الجناح..
لقد كانت هذه النوافذ مصنوعة من زجاج تتباين ألوانه طبقا للون الزخرفة السائد في الغرفة التي تفتح بداخلها هذه النافذة..
فخذ عندك مثلا..
كانت الغرفة في أقصى الشمال تتشح باللون الأزرق الزاهي وكذا كانت نوافذها زرقاء مشرقة..
أما في الغرفة الثانية فقد كانت حليها وأقمشتها تزدان باللون الأرجواني ، لذلك كان اللون الأرجواني منعكسا على ألواح نوافذها الزجاجية..
الغرفة الثالثة كانت خضراء نظرة وكذلك كانت نوافذها البابية..
أما الغرفة الرابعة فقد كان أثاثها يشع بلون أزرق بهيج ...
الغرفة الخامسة بيضاء كنور الشمس.. والسادسة بلون أزهار البنفسج..
أما الغرفة السابعة والأخيرة فقد غُطيت بعناية فائقة بأقمشة النجود المخملية الداكنة التي كانت تتدلى من أعلى سقف الغرفة لتعانق الجدران ومن ثم تسقط على هيئة لفافات ثقيلة على سجادة كثيفة مصنوعة من اللون والمواد ذاتها.. الا أن لون النوافذ في هذه الغرفة-فقط- أخفق في الانسجام مع زخارفها،.. لقد كانت قرمزية كلون الدم الأحمر القاني، وبالرغم مما تتمتع به هذه الغرف السبع من أجواء احتفالية ووسط كل تلك الحلي والمصاغ الذهبية والمجوهرات المنتشرة هنا وهناك والمتدلية من أسقفها إلا أن أياً منها لم يكن بداخلها شمعدان أو مصباح مضيء، لقد كان المكان يفتقر لأدنى مصدر للضوء، ولكن في ممرات الجناح وقبالة كل نافذة كان هناك مشعل يسلط أشعته المتوهجة عبر الألواح الزجاجية الملونة ليضيء الغرفة بوهجه الساطع..
لقد شكلت هذه الأجواء المتداخلة العديد من المظاهر المبهرجة والرائعة، ولكن وهج النار في الغرفة الغربية أو الخلفية كان شنيعا إلى أبعد الحدود،.. فقد كان ينسدل على الستائر الداكنة عبر الألواح المتشحة بلون الدم وهو أمر بعث في نفوس أولئك الذين دخلوها نظرة موحشةً جدًا، لذلك لم يكن بداخلها سوى عدد بسيط جدا ممن كانت لديهم الجسارة الكافية ليضعوا بداخل فناءها قدما.
وقبالة الحائط الشرقي لهذه الغرفة أيضا تنتصب ساعة عملاقة مصنوعة من خشب الأبنوس، ..يهتز بندولها جيئةً وذهابًا محدثًا دويا مملاً ورتيبًا وثقيلاً ،.. وما أن يكمل عقرب دقائقها دورته الزمنية وتتأهب هي لتطلق نغماتها حتى يند عن رئتيها النحاسيتين صوتٌ واضحٌ وقوي، موسيقي وعميق، الا انه يتسم بنغمة غريبةٍ جدًا، نغمة تجعل عازفي الأوركسترا يتوقفون رغما عنهم عن عزف مقطوعاتهم الشجية لبرهة من الزمن مع انقضاء كل ساعة زمنية لينصتوا بإمعان إلى ذلك الصوت الأمر الذي يدفع الراقصين كذلك إلى التوقف بسبب ذلك الاضطراب القصير الذي قاطع نفوسهم المرحة الطروب في حين أن الساعة لا تزال مستمرة في مخاضها الموسيقي، في هذه اللحظة بالذات تنمو ملامح الشحوب على محيى أكثر المحتفلين استهتارًا، أما أولئك العجائز والرصينين فقد جعلوا أياديهم تحلّق فوق جباههم كما لو كانوا مستغرقين في حلم غامض أو تأمل مشوش، ولكن ما أن تتوقف الأصداء بالكامل حتى تخترق ضحكة خفيفة جموع الحاضرين ويتبادل بعدها العازفون النظرات فيما بينهم ويرسمون الابتسامات على شفاههم كما لو كانوا يسخرون من جبنهم الأحمق ونوبة الارتباك التي ألمت بهم، وهنا يهمس الواحد منهم للآخر واعدًا إياه بأن الدقات القادمة يجب أن لا تحرك فيهم مثل هذه المشاعر ثانية، وهكذا يمر الوقت سريعا وتنقضي معه ستون دقيقة أي ما يعادل ثلاثة آلاف وستمائة ثانية من الوقت الذي مضى لتمطر الساعة المكان بدقاتها المدوية محدثة بذلك نفس الإرباك و الرجفة الفظيعة والتأمل المضطرب السابق.
ولكن بالرغم من هذه الأجواء المشحونة بالتوتر إلا أن الحفلة كانت تعج بألوان المرح الصاخب المجنون، فالمحتفلون يعلمون أن للدوق غريب الأطوار أذواقا عجيبة وحسًا مرهفًا جدًا في انتقاء التأثيرات اللونية والصوتية، وهو من أولئك الذين لا يستسيغون الأعمال الزخرفية المجردة، فمخططاته تتسم بالجرأة ومفاهيمه في الحياة تتوهج ببريق وحشي، وقد حدا هذا الأمر بالبعض منهم إلى الاعتقاد بأن الخبال قد مس الأمير، إلا أن أتباعه المقربين المخلصين لا يرون فيه ذلك رغم الضرورة المستمرة الأكيدة للاستماع إليه ورؤيته أو حتى لمسه للتأكد من أنه بكامل قواه العقلية.
واحتفاءً بهذه المناسبة العظيمة قام الدوق بنفسه بالإشراف على القسم الأكبر من هذه الزخارف الحية المتحركة في الغرف السبع، كما أنه هو شخصيًا وجّه جميع المحتفلين على تقمص شخصياتهم التنكرية حسب ذوقه الخاص، حيث شدد على أهمية ظهورهم بشكل مشوه، لقد كان المكان مشوبًا بالكثير من الألوان الوهاجة والتألق المثير، بالنشوة والخيال، بمثل تلك المناظر التي شوهد معظمها في مسرحية "هيرناني"، هناك زخارف من الأرابيسك لها تفرعات وعلامات غير متناسقة، كما أن هناك أزياء تنكرية غريبة جدًا وشاذة كتلك الملابس التي يرتديها المجانين، لقد كانت الحفلة تعج بالكثير من المحتفلين الأنيقين، العديد من المستهترين، وغيرهم من غريبي الأطوار وبضعة من هواة البشاعة وليس بقليل من ذلك أولئك الذين قد تكون صورهم مدعاة للقرف والاشمئزاز. في الحقيقة..
كانت هناك أشكالا متعددة من الأطياف تهيم بداخل الغرف السبع جيئةً وذهابا، لقد كان الحالمون يتلوون داخل هذه الغرف وخارجها، يسلبون منها ألوانها المتداخلة حتى أن موسيقى الأوركسترا الصاخبة كانت لتبدو كصدى وقع أقدامهم. وعما قريب تزفر الساعة المنتصبة في غرفة الأقمشة المخملية بدقاتها المعتادة، عندها، وللحظة قصيرة، يسكن الجميع، ويخيم صمت عميق على الجميع ما عدا صوت الساعة، وينتصب الحالمون كجثث هامدة، ولكن لا تلبث أصداء الرنين طويلا حتى تذبل...إنه شيء لا يطاق... وما أن تخمد هذه الأصداء حتى يتبع رحيلها ضحكة يمتزج فيها القهر مع الوداعة، في هذه الأثناء تصدح الموسيقى بصداها عاليا وتنتعش أرواح الهائمين الحالمين وهم يجوبون الغرف جيئة وذهابا بمرح أكثر من ذي قبل لتتلون أجسادهم بألوان النوافذ ووهج المشاعل، في هذه الأثناء تخلو الغرفة في أقصى الجهة الغربية من مرتاديها الذين خاطروا بأرواحهم لدخولها، لقد بدأ الليل بإسدال ستاره المعتم على الغرفة، كما أن هناك ضوءً متورداً ينبثق من خلال الزجاج الملطخ بلون الدم، والأقمشة المخملية تبدو مفزعة جدا وسط هذه العتمة، كما أن أولئك الذين وضعوا أقدامهم على السجادة داكنة اللون أحسوا بتلك الجلجلة المكتومة التي تحدثها ساعة الأبنوس والتي حملت في ثنياتها رهبة مثيرة أكثر من أي شيء التقطته مسامعهم أثناء انغماسهم في ملذات الغرف البعيدة و مسراتها المجنونة .
بيد أن الحال في الغرف الأخرى كان مغايرا تماما، فجميعها يعج بالمحتفلين ودبيب الحياة ينتشر في جميع أوصالها، ولا يزال المرح يغمر المكان، حتى إذا ما مضى وقت طويل تبدأ بعده الساعة بترديد أصداء منتصف الليل، عندها تحبس الموسيقى أنفاسها حسبما ذكرت آنفا، ويهدأ نشاط الراقصين ويخيم على المكان سكون مضطرب في كل شيء كالسابق، ولكن في هذه المرة سيصدر جرس الساعة اثني عشرة دقة، وهكذا بدأ العد لتتزاحم معه الكثير من الأفكار ويمتد معه الاستغراق في التأمل وسط أولئك المعربدين، وهكذا قبل أن تغرق آخر أصداء الدقة الأخيرة في صمت عميق كان هناك العديد من المحتشدين الذين ما أن أحسوا بالراحة حتى انتبهوا لوجود شخص مقنع لم يلفت انتباه أي منهم من ذي قبل، وبدأت إشاعة ظهور هذا الزائر الجديد بالانتشار في جميع الأروقة، ولم يحدث أزيز المحتفلين وهمهمتهم بهذه الإشاعة شعورا بالاشمئزاز فحسب بل ورعبا مخيفا أيضا.
في خضم هذه المفارقة المجتمعة للأوهام التي قمت برسم معالمها يمكن القول بأن ما من مظهر عادي قد يثير مثل هذه الأحاسيس..
بل إن الحقيقة عارية أمام لا محدودية حرية التنكر في هذه الليلة، بَيْدَ أن الشخص المشبوه قد فاق " هيروديد هيرود" وتعدى كثيرا حدود الوقار التنكري لشخص الأمير نفسه، لقد انتابت قلوب أكثر الحاضرين تهورا عاطفة كاسحة لا يمكن مجابهتها بأشد الأعصاب برودة، حتى أن أولئك البائسين تماما ممن يعتبرون الحياة والموت دعابتان متشابهتان يؤمنون بوجود أمور لا تحتمل المزاح.
وبالفعل طاف على الجميع شعور عميق بأن ملابس الغريب ومغزاه من هذا التنكر لا ينمان عن خفة ظل ولا أدب ظاهر، فهذا الشكل البشري الطويل والهزيل مكفن من رأسه إلى أخمص قدميه بأكفان المقابر، أما القناع الذي يواري خلفه صفحة وجهه فقد صُنع بطريقة تشبه ملامح جثة متيبسة يصعب على أدق الفحوص اكتشاف الخدعة التي عملت بها، ومع ذلك كان بإمكان المعربدين الحانقين في الجوار تحمل هذا النوع من الدعابات وإن لم يستسيغوها لولا تمادي هذا المهرج المتنكر في طريقة تنكره إلى درجة أنهم شبهوه بأحد أنواع الموت الأحمر، فقد كان رداءه يعتصر دما، أما حاجبه الواسع وجميع ملامح وجهه كانت تمطر رعباً قرمزيا.
لقد لاحظ الجميع ما آل إليه حال الأمير "بروسبيرو" من اضطراب عندما ألقى بناظريه على هذه الصورة الطيفية وهي تتحرك ببطء وهيبة وتخطوا بشموخ جيئة وذهابا بين الراقصين وكأنها تؤدي دورها ببراعة تامة، ففي اللحظة الأولى انتابته قشعريرة قوية ساقتها الرهبة والتقزز، أما في اللحظة التالية فقد استشاط غضبا وزمجر بصوته الأجش موجها سؤاله إلى خدمه الواقفين بقربه :
-" من ذا الذي يجرا؟ .. من ذا الذي يجرأ على إهانتنا بهذه المزحة الكافرة؟ امسكوا به، واخلعوا عنه قناعه لنتعرف على هذا الذي سنعلقه من على شرفات الكنيسة عند شروق الشمس".
لقد كان الأمير "بروسبيرو" في الغرفة الزرقاء عندما أطلق تلك الصيحات التي دوى صداها بعنف ووضوح جميع أرجاء الغرف السبع، ولا عجب في ذلك فالجميع يشهد بشجاعة الأمير وغلظته، إذ بمجرد أن لوح بيده في الهواء حتى حبست الموسيقى أنفاسها.
وقف الأمير في الغرفة الزرقاء وإلى جانبه مجموعة من أفراد حاشيته وقد كسا الشحوب وجوههم، في البداية وأثناء ما كان الأمير يتكلم هرعت جماعته بحركة خفيفة تجاه الشخص الدخيل الذي كان في هذه اللحظة أيضا قريبا من قبضتهم وهو يهم بخطى حثيثة وثابتة ليدنو من الأمير، ولكن كان لتلك الهيبة الغامضة التي فرضتها تلك الإشاعة بتخيلاتها المجنونة على الجميع لم تتح لأي منهم المجال لأن يحرك ساكنا للامساك به أوللقبض عليه، وهكذا وبدون أي اعتراض عبر المتنكر فناء شخص الأمير ذاته.
وبينما كانت الجموع الغفيرة تندفع كموجة ممتدة من أواسط الغرف إلى جدرانها كان الدخيل يشق طريقه دون عناء وبنفس الخطى المهيبة والمدروسة التي ميزته منذ البداية مارًا عبر الغرفة الزرقاء إلى الأرجوانية ومن الأرجوانية إلى الخضراء ومن الخضراء إلى البرتقالية وعبر هذه الغرفة إلى البيضاء وحتى من هناك إلى البنفسجية قبل أن تكون هناك حركة حازمة لاعتقاله، عندئذ جن جنون الأمير بروسبيرو وهو يرى عار الجبن وقد لحق به في تلك اللحظة لينطلق مسرعا كسهم أفلت من قوسه عبر الغرف الست، ولكن تلك الرهبة القاتلة التي ألمت بالجميع لم تسعف أحدا منهم على اللحاق بصاحبهم، حينها استل الأمير خنجره المغمود عاليا ودنى سريعا بمقدار ثلاثة أقدام أو أربعة من الشخص الدخيل، ولكن عندما وصل هذا الأخير إلى آخر أتون الغرفة المخملية استدار فجأة ليواجه الشخص الذي يطارده... هناك..انطلقت صرخة شديدة سقط إثرها الخنجر اللامع على السجادة الداكنة التي ما لبثت هي الأخرى حتى خر عليها الأمير" بروسبيرو" فاقدا الحياة!
واستجمع المحتفلون قواهم البائسة وألقوا بأجسادهم دفعة واحدة داخل الغرفة السوداء وهموا بإحكام قبضتهم على المتنكر الذي مازال هيكله الفارع والنحيل منتصبا بلا حراك تحت ظل ساعة الأبنوس، إلا أنهم صعقوا جميعا عندما رؤى الأكفان والجثة- حالها حال القناع الذي تنازعون بينهم بعنف- ليتبينوا في نهاية المطاف أن ما من جسد ملموس بداخلها!
وتيقن الجميع الآن من وجود الموت الأحمر بينهم، فقد تسلل إليهم كلص تحت ستار الليل، واخذ يلقي بالمعربدين المحتفلين الواحد تلوى الآخر في القاعات المضرجة بالدماء وكل منهم يسقط أرضا يموت على تلك الحالة المزرية لسقوطه أرضا. ومع آخر ألوان المرح تلفظ الساعة أنفاسها الأخيرة وتخمد ألسنة المشاعل ويسدل الظلام اغلفته الموحشة ويعم الخراب والهلاك في كل صوب ويبسط الموت الأحمر سلطة لاحدود لها على كل شيء.
منقولة
و بالرغم من هذا الرعب الذي كان يبثه الموت الأحمر في النفوس إلا أن أمير البلاد، "بروسبيرو"، لم يكن ليعبأ به، فعندما فتك هذا الطاعون البغيض بنصف سكان أراضيه الأثيرة دعا إلى مجلسه أكثر من ألف صديق من بين فرسان قصره الأصحاء ونساءه الفاتنات، واختلى بنفسه بعيدًا مع هؤلاء المدعوين في إحدى اكثر كنائسه الحصينة فخامة و دقة بناء وأوسعها إذ كان هذا الذوق الغريب والمهيب نِتاج إبداع الأمير نفسه! لقد كانت الكنيسة محاطة بالكامل بجدار منيع شديد الارتفاع وتحرسها بوابات حديدية عملاقة.
وفور دخول رجال البلاط إلى الكنيسة أحضروا الأفران التي تتأجج بالنيران والمطارق الضخمة شديدة البأس وقاموا بلحام الأقفال سعيا إلى إحباط أدنى وسيلة للدخول إليها أو الخروج منها لأي سبب كان.
كما تم توفير جميع المؤن الضرورية داخل الكنيسة، حيث سيتسنى لرجال البلاط و حاشية الأمير الآن تحدى العدوى بهذه التدابير الوقائية، أما العالم الخارجي فيمنكه الاعتناء بنفسه!
ذلك أن مجرد الحزن على أولئك القابعين في الخارج أو التفكير بحالهم لا يعدو كونه سذاجة فادحة، والفضل في هذا يعود أساسا إلى الأمير حيث قام بتدبير جميع وسائل الراحة والترفيه من خدم وراقصات البالية وعازفي الموسيقى و الغانيات والشراب، وجميع هذه المحافل كانت بمأمن في الداخل أما في الخارج فقد كان يقبع "الموت الأحمر".
وعندما دنت عزلة الأمير في داخل كنيسته من شهرها الخامس أو السادس قام باستضافة أصدقاءه الألف لحضور حفل تنكري لم يسبق له مثيل.
لقد كان هذا الحفل مسرحا مثيرًا للحواس، لكن في البداية اسمحوا لي أن أخذكم في جولة داخل القاعات التي أُحيت فيها هذه الحفلة،.. لقد كنُّ سبع قاعات أو بالأحرى جناحًا إمبراطوريًا ضخمًا،.. إن أجنحة كهذه في العديد من القصور تشكل أفقًا طويلاً وممتدا تترامى على جدرانه الأبواب على كلا الجهتين من دون أن تتيح لأي شيء بإعاقة منظر النطاق. بيد أن الأمر في هذا القصر بالذات يختلف تمامًا عما هو مألوف وهو ما يمكن توقعه من حب الدوق للغرائب والنوادر، لقد كانت هذه الغرف موزعة بطريقة غير متناسقة مطلقةً العنان للبصر بمعانقتها بشدة مرة بعد مرة لينتهي بها المطاف باستدارة حادة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار بحيث تتوسط كل جدار نافذة طوقية طويلة وضيقة تطل على ممر مغلق يتتبع التفافات الجناح..
لقد كانت هذه النوافذ مصنوعة من زجاج تتباين ألوانه طبقا للون الزخرفة السائد في الغرفة التي تفتح بداخلها هذه النافذة..
فخذ عندك مثلا..
كانت الغرفة في أقصى الشمال تتشح باللون الأزرق الزاهي وكذا كانت نوافذها زرقاء مشرقة..
أما في الغرفة الثانية فقد كانت حليها وأقمشتها تزدان باللون الأرجواني ، لذلك كان اللون الأرجواني منعكسا على ألواح نوافذها الزجاجية..
الغرفة الثالثة كانت خضراء نظرة وكذلك كانت نوافذها البابية..
أما الغرفة الرابعة فقد كان أثاثها يشع بلون أزرق بهيج ...
الغرفة الخامسة بيضاء كنور الشمس.. والسادسة بلون أزهار البنفسج..
أما الغرفة السابعة والأخيرة فقد غُطيت بعناية فائقة بأقمشة النجود المخملية الداكنة التي كانت تتدلى من أعلى سقف الغرفة لتعانق الجدران ومن ثم تسقط على هيئة لفافات ثقيلة على سجادة كثيفة مصنوعة من اللون والمواد ذاتها.. الا أن لون النوافذ في هذه الغرفة-فقط- أخفق في الانسجام مع زخارفها،.. لقد كانت قرمزية كلون الدم الأحمر القاني، وبالرغم مما تتمتع به هذه الغرف السبع من أجواء احتفالية ووسط كل تلك الحلي والمصاغ الذهبية والمجوهرات المنتشرة هنا وهناك والمتدلية من أسقفها إلا أن أياً منها لم يكن بداخلها شمعدان أو مصباح مضيء، لقد كان المكان يفتقر لأدنى مصدر للضوء، ولكن في ممرات الجناح وقبالة كل نافذة كان هناك مشعل يسلط أشعته المتوهجة عبر الألواح الزجاجية الملونة ليضيء الغرفة بوهجه الساطع..
لقد شكلت هذه الأجواء المتداخلة العديد من المظاهر المبهرجة والرائعة، ولكن وهج النار في الغرفة الغربية أو الخلفية كان شنيعا إلى أبعد الحدود،.. فقد كان ينسدل على الستائر الداكنة عبر الألواح المتشحة بلون الدم وهو أمر بعث في نفوس أولئك الذين دخلوها نظرة موحشةً جدًا، لذلك لم يكن بداخلها سوى عدد بسيط جدا ممن كانت لديهم الجسارة الكافية ليضعوا بداخل فناءها قدما.
وقبالة الحائط الشرقي لهذه الغرفة أيضا تنتصب ساعة عملاقة مصنوعة من خشب الأبنوس، ..يهتز بندولها جيئةً وذهابًا محدثًا دويا مملاً ورتيبًا وثقيلاً ،.. وما أن يكمل عقرب دقائقها دورته الزمنية وتتأهب هي لتطلق نغماتها حتى يند عن رئتيها النحاسيتين صوتٌ واضحٌ وقوي، موسيقي وعميق، الا انه يتسم بنغمة غريبةٍ جدًا، نغمة تجعل عازفي الأوركسترا يتوقفون رغما عنهم عن عزف مقطوعاتهم الشجية لبرهة من الزمن مع انقضاء كل ساعة زمنية لينصتوا بإمعان إلى ذلك الصوت الأمر الذي يدفع الراقصين كذلك إلى التوقف بسبب ذلك الاضطراب القصير الذي قاطع نفوسهم المرحة الطروب في حين أن الساعة لا تزال مستمرة في مخاضها الموسيقي، في هذه اللحظة بالذات تنمو ملامح الشحوب على محيى أكثر المحتفلين استهتارًا، أما أولئك العجائز والرصينين فقد جعلوا أياديهم تحلّق فوق جباههم كما لو كانوا مستغرقين في حلم غامض أو تأمل مشوش، ولكن ما أن تتوقف الأصداء بالكامل حتى تخترق ضحكة خفيفة جموع الحاضرين ويتبادل بعدها العازفون النظرات فيما بينهم ويرسمون الابتسامات على شفاههم كما لو كانوا يسخرون من جبنهم الأحمق ونوبة الارتباك التي ألمت بهم، وهنا يهمس الواحد منهم للآخر واعدًا إياه بأن الدقات القادمة يجب أن لا تحرك فيهم مثل هذه المشاعر ثانية، وهكذا يمر الوقت سريعا وتنقضي معه ستون دقيقة أي ما يعادل ثلاثة آلاف وستمائة ثانية من الوقت الذي مضى لتمطر الساعة المكان بدقاتها المدوية محدثة بذلك نفس الإرباك و الرجفة الفظيعة والتأمل المضطرب السابق.
ولكن بالرغم من هذه الأجواء المشحونة بالتوتر إلا أن الحفلة كانت تعج بألوان المرح الصاخب المجنون، فالمحتفلون يعلمون أن للدوق غريب الأطوار أذواقا عجيبة وحسًا مرهفًا جدًا في انتقاء التأثيرات اللونية والصوتية، وهو من أولئك الذين لا يستسيغون الأعمال الزخرفية المجردة، فمخططاته تتسم بالجرأة ومفاهيمه في الحياة تتوهج ببريق وحشي، وقد حدا هذا الأمر بالبعض منهم إلى الاعتقاد بأن الخبال قد مس الأمير، إلا أن أتباعه المقربين المخلصين لا يرون فيه ذلك رغم الضرورة المستمرة الأكيدة للاستماع إليه ورؤيته أو حتى لمسه للتأكد من أنه بكامل قواه العقلية.
واحتفاءً بهذه المناسبة العظيمة قام الدوق بنفسه بالإشراف على القسم الأكبر من هذه الزخارف الحية المتحركة في الغرف السبع، كما أنه هو شخصيًا وجّه جميع المحتفلين على تقمص شخصياتهم التنكرية حسب ذوقه الخاص، حيث شدد على أهمية ظهورهم بشكل مشوه، لقد كان المكان مشوبًا بالكثير من الألوان الوهاجة والتألق المثير، بالنشوة والخيال، بمثل تلك المناظر التي شوهد معظمها في مسرحية "هيرناني"، هناك زخارف من الأرابيسك لها تفرعات وعلامات غير متناسقة، كما أن هناك أزياء تنكرية غريبة جدًا وشاذة كتلك الملابس التي يرتديها المجانين، لقد كانت الحفلة تعج بالكثير من المحتفلين الأنيقين، العديد من المستهترين، وغيرهم من غريبي الأطوار وبضعة من هواة البشاعة وليس بقليل من ذلك أولئك الذين قد تكون صورهم مدعاة للقرف والاشمئزاز. في الحقيقة..
كانت هناك أشكالا متعددة من الأطياف تهيم بداخل الغرف السبع جيئةً وذهابا، لقد كان الحالمون يتلوون داخل هذه الغرف وخارجها، يسلبون منها ألوانها المتداخلة حتى أن موسيقى الأوركسترا الصاخبة كانت لتبدو كصدى وقع أقدامهم. وعما قريب تزفر الساعة المنتصبة في غرفة الأقمشة المخملية بدقاتها المعتادة، عندها، وللحظة قصيرة، يسكن الجميع، ويخيم صمت عميق على الجميع ما عدا صوت الساعة، وينتصب الحالمون كجثث هامدة، ولكن لا تلبث أصداء الرنين طويلا حتى تذبل...إنه شيء لا يطاق... وما أن تخمد هذه الأصداء حتى يتبع رحيلها ضحكة يمتزج فيها القهر مع الوداعة، في هذه الأثناء تصدح الموسيقى بصداها عاليا وتنتعش أرواح الهائمين الحالمين وهم يجوبون الغرف جيئة وذهابا بمرح أكثر من ذي قبل لتتلون أجسادهم بألوان النوافذ ووهج المشاعل، في هذه الأثناء تخلو الغرفة في أقصى الجهة الغربية من مرتاديها الذين خاطروا بأرواحهم لدخولها، لقد بدأ الليل بإسدال ستاره المعتم على الغرفة، كما أن هناك ضوءً متورداً ينبثق من خلال الزجاج الملطخ بلون الدم، والأقمشة المخملية تبدو مفزعة جدا وسط هذه العتمة، كما أن أولئك الذين وضعوا أقدامهم على السجادة داكنة اللون أحسوا بتلك الجلجلة المكتومة التي تحدثها ساعة الأبنوس والتي حملت في ثنياتها رهبة مثيرة أكثر من أي شيء التقطته مسامعهم أثناء انغماسهم في ملذات الغرف البعيدة و مسراتها المجنونة .
بيد أن الحال في الغرف الأخرى كان مغايرا تماما، فجميعها يعج بالمحتفلين ودبيب الحياة ينتشر في جميع أوصالها، ولا يزال المرح يغمر المكان، حتى إذا ما مضى وقت طويل تبدأ بعده الساعة بترديد أصداء منتصف الليل، عندها تحبس الموسيقى أنفاسها حسبما ذكرت آنفا، ويهدأ نشاط الراقصين ويخيم على المكان سكون مضطرب في كل شيء كالسابق، ولكن في هذه المرة سيصدر جرس الساعة اثني عشرة دقة، وهكذا بدأ العد لتتزاحم معه الكثير من الأفكار ويمتد معه الاستغراق في التأمل وسط أولئك المعربدين، وهكذا قبل أن تغرق آخر أصداء الدقة الأخيرة في صمت عميق كان هناك العديد من المحتشدين الذين ما أن أحسوا بالراحة حتى انتبهوا لوجود شخص مقنع لم يلفت انتباه أي منهم من ذي قبل، وبدأت إشاعة ظهور هذا الزائر الجديد بالانتشار في جميع الأروقة، ولم يحدث أزيز المحتفلين وهمهمتهم بهذه الإشاعة شعورا بالاشمئزاز فحسب بل ورعبا مخيفا أيضا.
في خضم هذه المفارقة المجتمعة للأوهام التي قمت برسم معالمها يمكن القول بأن ما من مظهر عادي قد يثير مثل هذه الأحاسيس..
بل إن الحقيقة عارية أمام لا محدودية حرية التنكر في هذه الليلة، بَيْدَ أن الشخص المشبوه قد فاق " هيروديد هيرود" وتعدى كثيرا حدود الوقار التنكري لشخص الأمير نفسه، لقد انتابت قلوب أكثر الحاضرين تهورا عاطفة كاسحة لا يمكن مجابهتها بأشد الأعصاب برودة، حتى أن أولئك البائسين تماما ممن يعتبرون الحياة والموت دعابتان متشابهتان يؤمنون بوجود أمور لا تحتمل المزاح.
وبالفعل طاف على الجميع شعور عميق بأن ملابس الغريب ومغزاه من هذا التنكر لا ينمان عن خفة ظل ولا أدب ظاهر، فهذا الشكل البشري الطويل والهزيل مكفن من رأسه إلى أخمص قدميه بأكفان المقابر، أما القناع الذي يواري خلفه صفحة وجهه فقد صُنع بطريقة تشبه ملامح جثة متيبسة يصعب على أدق الفحوص اكتشاف الخدعة التي عملت بها، ومع ذلك كان بإمكان المعربدين الحانقين في الجوار تحمل هذا النوع من الدعابات وإن لم يستسيغوها لولا تمادي هذا المهرج المتنكر في طريقة تنكره إلى درجة أنهم شبهوه بأحد أنواع الموت الأحمر، فقد كان رداءه يعتصر دما، أما حاجبه الواسع وجميع ملامح وجهه كانت تمطر رعباً قرمزيا.
لقد لاحظ الجميع ما آل إليه حال الأمير "بروسبيرو" من اضطراب عندما ألقى بناظريه على هذه الصورة الطيفية وهي تتحرك ببطء وهيبة وتخطوا بشموخ جيئة وذهابا بين الراقصين وكأنها تؤدي دورها ببراعة تامة، ففي اللحظة الأولى انتابته قشعريرة قوية ساقتها الرهبة والتقزز، أما في اللحظة التالية فقد استشاط غضبا وزمجر بصوته الأجش موجها سؤاله إلى خدمه الواقفين بقربه :
-" من ذا الذي يجرا؟ .. من ذا الذي يجرأ على إهانتنا بهذه المزحة الكافرة؟ امسكوا به، واخلعوا عنه قناعه لنتعرف على هذا الذي سنعلقه من على شرفات الكنيسة عند شروق الشمس".
لقد كان الأمير "بروسبيرو" في الغرفة الزرقاء عندما أطلق تلك الصيحات التي دوى صداها بعنف ووضوح جميع أرجاء الغرف السبع، ولا عجب في ذلك فالجميع يشهد بشجاعة الأمير وغلظته، إذ بمجرد أن لوح بيده في الهواء حتى حبست الموسيقى أنفاسها.
وقف الأمير في الغرفة الزرقاء وإلى جانبه مجموعة من أفراد حاشيته وقد كسا الشحوب وجوههم، في البداية وأثناء ما كان الأمير يتكلم هرعت جماعته بحركة خفيفة تجاه الشخص الدخيل الذي كان في هذه اللحظة أيضا قريبا من قبضتهم وهو يهم بخطى حثيثة وثابتة ليدنو من الأمير، ولكن كان لتلك الهيبة الغامضة التي فرضتها تلك الإشاعة بتخيلاتها المجنونة على الجميع لم تتح لأي منهم المجال لأن يحرك ساكنا للامساك به أوللقبض عليه، وهكذا وبدون أي اعتراض عبر المتنكر فناء شخص الأمير ذاته.
وبينما كانت الجموع الغفيرة تندفع كموجة ممتدة من أواسط الغرف إلى جدرانها كان الدخيل يشق طريقه دون عناء وبنفس الخطى المهيبة والمدروسة التي ميزته منذ البداية مارًا عبر الغرفة الزرقاء إلى الأرجوانية ومن الأرجوانية إلى الخضراء ومن الخضراء إلى البرتقالية وعبر هذه الغرفة إلى البيضاء وحتى من هناك إلى البنفسجية قبل أن تكون هناك حركة حازمة لاعتقاله، عندئذ جن جنون الأمير بروسبيرو وهو يرى عار الجبن وقد لحق به في تلك اللحظة لينطلق مسرعا كسهم أفلت من قوسه عبر الغرف الست، ولكن تلك الرهبة القاتلة التي ألمت بالجميع لم تسعف أحدا منهم على اللحاق بصاحبهم، حينها استل الأمير خنجره المغمود عاليا ودنى سريعا بمقدار ثلاثة أقدام أو أربعة من الشخص الدخيل، ولكن عندما وصل هذا الأخير إلى آخر أتون الغرفة المخملية استدار فجأة ليواجه الشخص الذي يطارده... هناك..انطلقت صرخة شديدة سقط إثرها الخنجر اللامع على السجادة الداكنة التي ما لبثت هي الأخرى حتى خر عليها الأمير" بروسبيرو" فاقدا الحياة!
واستجمع المحتفلون قواهم البائسة وألقوا بأجسادهم دفعة واحدة داخل الغرفة السوداء وهموا بإحكام قبضتهم على المتنكر الذي مازال هيكله الفارع والنحيل منتصبا بلا حراك تحت ظل ساعة الأبنوس، إلا أنهم صعقوا جميعا عندما رؤى الأكفان والجثة- حالها حال القناع الذي تنازعون بينهم بعنف- ليتبينوا في نهاية المطاف أن ما من جسد ملموس بداخلها!
وتيقن الجميع الآن من وجود الموت الأحمر بينهم، فقد تسلل إليهم كلص تحت ستار الليل، واخذ يلقي بالمعربدين المحتفلين الواحد تلوى الآخر في القاعات المضرجة بالدماء وكل منهم يسقط أرضا يموت على تلك الحالة المزرية لسقوطه أرضا. ومع آخر ألوان المرح تلفظ الساعة أنفاسها الأخيرة وتخمد ألسنة المشاعل ويسدل الظلام اغلفته الموحشة ويعم الخراب والهلاك في كل صوب ويبسط الموت الأحمر سلطة لاحدود لها على كل شيء.
منقولة