المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هدى والعاصفة ((قصة ))


روان علي شريف
2009-04-04, 20:28
إنها الثامنة صباحا، لم يعد يفصل أيوب على مكتبه إلا بضعة أمتار،لحظتها تعترض سبيله فتاة في مقتبل العمر، لم يعتد على رؤيتها من قبل، فتبادرهمستفسرة.
_ صباح الخير...أهذا مكتب تسجيل المتربصين؟
يحملق فيها أيوب بشيء منالتعجب، متفحصا وجهها الملائكي المبتسم ذو العينين الكبيرتين السوداويتين. ربعةالقد، دقيقة الخصر، ساحرة حقا و فاتنة مثيرة، تذكره بأمل...أمل خطيبته وبينما هوعلى حاله، يسترجع لذكريات أليمة لسنين خلت تعاود الفتاة سؤالها.
_سيدي أين مكاتبالادارة؟
حينها يستفيق من غفوته و يرد عليها في ذهول قائلا :
آه...أسعدتصباحا...الإدارة...الإدارة لم تفتح بعد، لكن مصالحنا في الخدمة آنسة...؟
- هدى...هدى غفران من هيئة الطيران، متدربة سنة أولى.
- تشرفنا...أيوب، أيوب صبريسنين مهارة بمصلحة الإشارة...
يتجاذبان الحديث، فتطلعه بأنها من مدينة مجاورة،وقد آتت بغية التدرج في ميدان تخصصها،وقد شجعتها شخصيته المتفتحة فتستأذن منهلمهاتفة ذويها من مكتبه.
_ألو..أنا هدى.نعم وصلت بخير.
وبعد أن أعلنت عنوصولها تأخذ مجلسها بمكتبه و ما هي آلا دقائق و تفتح الإدارة أبوابها و قد يكونا قدتعرفا على بعضاهما البعض.
فرح أيوب بصداقتها التي توطدت من أول لقاء، أنستهمتاعب السنين آلتي مضت و أرجعت له البسمة المفقودة و تمنى أن تكون بداية لعهدجديد.
_ سعيد بمعرفتك آنسة. لو احتجت الى أي مساعدة أنا هنا.
تبتسم هدى لأيوبو تشكره على الخدمة التي قدمها لها و تبلغه بأنه كان لطيفا معها و تستأذنبالانصراف.
_شكرا على الخدمة.قد كنت لطيفا ، لو احتجت لشيء تأكد بأني لا أعرفأحذا من سواك بهذه المدينة .شكرا والى الملتقى.
يجلس أيوب على الكرسي تائها،حالما غير مبال بما يدور حوله، مذا أصابه؟ قد كانت هدى في تصوره توأما لأمل ويتساءل كيف استطاعت بمرورها الخاطف أن تفعل به ما تفعله العواصف أثناءلاجتياح.
_ ماذا أصابني وكأنني أعرفها من قبل .سبحان الله انها تشبه تماماالمرحومة أمل.
ها هي العاصفة تعصف بكيانه فتجتاحه فيحس بشيء غريب ينتابه و ينبعثلهيبه من أحشائه، لم يحس بهذا الإحساس منذ عشر سنوات، لقد ملأ حياته بالعمل و النوملا غير. و ها هو اليوم يفكر بشيء أخر، قلبا لا ينازعه فيه أحد، مثل مكتبه هذا، قلبايغمره بالدفء و يملأ حياته بالأمل و الإخلاص ، ويمرر شريط حياته خلال السنواتالعشر، وبسرعة فائقة إذ ليس في حياته شيء يذكر اللهم إلا الأيام التي قضاها بمستشفىسيدي الشحمي للمجاذيب نتيجة لصدمة تعرض لها من جراء حزنه العميق على أمل و هي توارىالتراب.
ومرت بعد ذالك سنين كان لا بد لها أن تمر.. وحدثت خلالها أحداث كان لابد لها أن تحدث دون أن يحس بطعم الحياة إلي أن جاءت هدى و معها العاصفة، وما أن مريوم حتى يزيد تعلقه بها، وكلما صادفها تحييه و تبتسم.
تبتسم له كرجل و يتعلق بهاكوطن ، يريد أن يقول لها أشياء و يحكى لها هموما، يريد أن يرتمي في أحضانها لكنيرتبك و يخونه لسانه و تغيب عنه الكلمات، من أين سيبدأ؟ مدا سيقول؟ كيف سيحدثها عنعواطفه؟
كيف يتمكن من مجاملتها و توطيد العلاقة أكثر بينهما؟ و يكتفي بمساءلتهاعن أحوالها وعن أشياء هامشية.
_كيف حالك آنسة، والدراسة هل تمكنت من التأقلم معالمدينة؟
_ الحمد لله أحس وكأنني بين أهلي.
يكلمها عن ا لشتاء و لياليهالمظلمة و عن كل شيء إلا عن عواطفها نحوه.
و تمضى كالعاصفة مخلفة ما تخلفه أيعاصفة أثناء الاجتياح و يصبح كالقشة بقلب الدوامة و يتكرر المشهد مرات على مدى أشهردون أن يبوح لها عن مكنوناته خوفا من فقدان صداقتها و يتسأل :
_ ماذا لوعرفت؟
و أخيرا يهتدي لمصارحتها كتابيا لعله يفق عقدته ويرتاح. أثناء اليومالموالي ينتظرها كالمعتاد بالرواق بكل عزم و ما هي إلا لحظات حتى تلوح في الأفقعلامات هبوب العاصفة، فتوقد الحريقة في دمه و تبعث القشعريرة اللذيذة في جسده لكنهأصر على الصمود حتى يسلمها الظرف.
عند التقاءها به تبتسم له كالمعتادوتسأله.
- ما بك يا أيوب؟
- لا شيء انه خطاب لك بمناسبة عيد رأسالسنة؟
تستلم منه الظرف وهي في منتهى السعادة.
_ لكن لم تحل بعد السنةالجديد.
_ بهذا كنت أود ان لا يسبقني أحد.
تنفجر بالضحك لأنها لفست اعترافاضمنيا لحبه لها.
_ شكرا لك .هذا من شيم الكبار.
تهنئه بدورها بالمناسبة، وتمضى للمدرج تغمرها الغبطة.
تمر أيام اعطلة احتفال السنة الجديدة ثقيلة فيغيابها، و ينتظر الرد لكنه لم يأت.
وعندما التقاها مع استأناف الدراسة لم تتغيرالأمور تبقى التحية و الابتسامة ترافقها كأن شيئا لم يحدث وهو الذي كان يزعم أنه أذاب جبل الجليد بتهاني السنة الجديدة.
كان كلما التقى بها يحس وكانه التقىبعاصفة في طريقها للدمار ، و تتوالى الخطابات دون رد،
رغم تسليمها المباشريفتسأل .
_انه لأمر غريب لماذا هذا السكوت؟ هل السكوت من علامات الرضا؟ فلمتستلم الخطابات بابتسامة عريضة دون رد؟ هل هي بلهاء حتى لهذا الحد؟ هل تفعل ذالك منباب الرأفة؟بعد تفكير عميق يقرر أيوب المواجهة و ينتظرها كالمعتاد و هو يردد :
_سأستوقف العاصفة، سأركبها إن لم تحملني فلتكسرني...
و بينما هو على حاله،فيستمع قرع أقدام وراءه فيلتفت فيتفاجأ بسؤالها.
- أيوب ما بك؟ هل أنتمريض؟
_ لماذا هل يبدو لك ذلك؟
_ سمعتك تخا طب نفسك.
- لا أنا بخير، أنافي انتظارك أريد أن..
_ تريد ماذا ؟ هيا تكلم.
_أريد عزمك يوم الاثنين لنزورالمتحف معا، فما رأيك؟
و بدون تردد تبتسم و ترد قائلة
- موافقة، لكن ليسالاثنين لأنني سأمتحن.ان أردت الخميس على العاشرة.. اتفقنا؟
- بالطبعاتفقنا.
لم تسع أيوب الأرض من الفرحة، لقد أتستطاع توقيف العاصفة و ها هو يوجههاللوجهة التي أختارها.
مرت الأيام الفاصلة على أيوب ببطء وحين حل اليوم الموعودغابت هدى وتساءل أيوب.
_هل أصابها مكروه؟ لماذا غابت ؟ هل غيرت رأيها؟ ما الذيجرى؟..
وينقضيان يومين كاملين، و حين يلتقي بها يستفسر ها عن سبب تأخرها فتجيبهبكلام مبهم،
حيث قالت :
- لنبقى أصدقاء و باسم الاختلاف تستمرالحياة.
لحظتها أحس أيوب بأن شيئا ما قد حصل، و قد كانت مفاجأته كبيرة يوم أنرآها ذات مساء تركب سيارة فاخرة فيتبع آثارها حتى تدخل بصحبة رجل طاعن في السن منذوى البطون المنتفخة لأحد النوادي الليلية، فيسترق النظرر خلسة من وراء الزجاج،فيراها تشعل سيجارة (مارلبورو) و يصفق مرافقها للنادل ليطلبا شيئا...
قال الرجلللنادل وهو يضحك.
_ نفذ طلبات السيدات أولا يا غبي .
_رد النادل بخشية : العفو سيدي، ماذا تطلب الآنسة؟
_ كوكا كولا باردة .
وتو جه بسؤاله الىالرجل.وأنت سيدي؟
_ أحسن ما عندكم من أنواع النبيذ.

و أستيقض أيوب منأحلامه، حينما لمس بأنها كانت تخفى عنه أشياء، و كانت رسائله تقبل سوى من باب العطفلا غير وأيقن بأن الحب أخد و عطاء، و هذ ما لم يلمسه فيها.انه الواقع الذي لم يردأن يعترف به، فيتسأل للمرة الأولى في حياته.
_ ما هو الواقع ؟ و من صنعه ؟ ولماذا حين يتجسد تتبدد الأحلام؟

الهزيمة لم تترك لأيوب منفذا سوى الهرب منالواقع، فيطلب تحويله من عمله لتمنراست بحثا عن الهدوء و نسيان الواقع المر. و تشاءالصدف و هو في طريقه للمطار أن يرى هدى تتأبط صديقا جديدا و حين تدير رأسها تتلاقىالنظرات، فيعاوده مشهد أمل و هي تودعه الوداع الأخير، و هي تنزف دما على سريرالمستشفى لتغادر هذا العالم، لكن هدى لتمتطى سيارة فاخرة من نوع ( الشبح ) لثرى أخرلتنطلق بها إلى الجحيم الراقي، انه لعالم سحري لا مكانة فيه للبسطاء و لا للظعفاء،بنيت مبادئه على المال و القوة.
تشده الحيرة و يتساءل :
_ما دام هذا العالمالسحري من صنع الأثرياء، فلماذا يقحم فيه البسطاء ليكونوا من أول ضحاياه ؟ فما دخلهدى به ؟ ألم تعد من عجينتى ؟ هل أدخلت إليه مرغمة أم طواعية ؟ هل للبؤس دخل فيذالك ؟
عالمهم هذا كل شيء يباع و يشترى فيه، هذا لعجيب حقا أحمر بأنواره هدوئهغضب، لياليه صخب تدب فيه الحركة إلا ليلا انه عالما للخفافيش.
يصل أيوب المطاركالطير الجريح، مكسور الجناحان، فيفكر في شراء جريدة لعلها تكون له خير أنيس و قدلفتت انتباهه إحداها بشعارها الجريء ( الرأي قبل شجاعة الشجعان ) فيقتنيها بغيةالبحث عن ( شجاعة الشجعان ) التي تنقصه .
وهو على متن الطائرة في طريقه للجنوبالكبير راح يكلم نفسه بصوت خافت :
_عندما مشيت وراء هذا الاسم
لم أكن أعرفأنني العابر الذي شرب و اكتوى
من الحسن نبيذا من اللهبو جعلت منه شهيدا،فارق أرضه
و صار بطلا رمزيا للنسيان يجر ملحمته الكبرى...
وبعد سفر دام أربعساعات، تحط الطائرة بمطار (أقنار) يلتحق أيوب بمنصب عمله الجديد، تاركا همومهللباهية عاشقة البحر لعلها تحكيها للأجيال ، و يطوى صفحة كئيبة ليفتح أخرى ناصعةالبياض حيث يذوب في صمت الهقار ، و يجعل من إقامته المحاذية لقمة ( الأسكريم ) معبدا له و يملئ أوقات فراغه بالصلوات و التأمل في فساحة الكون ، و عظمة الخالق فيالإبداع ،ويتخذ من الطبيعة العذراء عشيقة له لأنها أحن و أوفى من بنى البشر. و منحين لآخر تهب الرياح الموسمية و تصاحبها العواصف و حين تهدأ، تظهر للوجود كثبانرملية شكلت، فتزيد من روعة المكان و تزيد من إيمان أيوب بربه و عظمته، فيرتمي فينسوك بين أحضان العالم الروحاني تاركا العالم المادي للماديين، انه الشوق الذي لايعرف له مسكنا، عالم ملائكي الجناح، مثالي الطقوس فيه العبادة الأبدية، و التي هيأقوى من العواصف حتى و إن حلت واحدة، يستقبلها بثبات و تهليلاذ يقول دائما :
_ ذا الطريق المحتوم المرموز بك أيتها العا صفة، غيرك ما كان للقدر لزوم، لولاكما كان السبيل إلى هدى الدمية الصامتة، البرق و الصاعقة...))



وتحترق الأيام في تسلسل ممل و رهيب، و تبقى الذكريات عالقة بالأذهان شاهدةعلى المآسي و الأحزان. يختفي أيوب عن الأنظار و من على مسرح الأحداث، كأن الأرضابتلعته و تسأل هدى عن سبب اختفائه المفاجئ و تسأل نفسها هل أصابه مكروها؟لماذااختفى فينقبض قلبها و يمتلكها الحزن، و تتذكر آخر جملة أسمعتها إياه (لنبقىأصدقاء و باسم الاختلاف تستمر الحياة ) و تتساءل مجددا ( هل كانت هذه الأحرف كافيةلاختفائه ؟)) إنها لم تره مند أن صادفته للمرة الأخيرة قرب المطار، وهى تغادر ملهى (ليالي الأنس ) رفقة سرحان حينها تلاقت النظرات دون أن ينطق كليهما بكلمة، أحس أيوبحينئذ بغربة و هي تتجاهله و قد فعلت دلك عن قصد، لقد كانت مرغمة أنه سر لا يعلمهسواها، كان سرحان رأس الخيط الذي تمسكت به ليدخلها لإمبراطورية الصمت، لتدخلها منأبوابها الضيقة، لم ترد التضحية بمجهود سبعة أشهر من العمل الدءوب في لحظة ضعف، خفققلبها عند رؤية أيوب، أرادت أن تستوقفه و تستفسر عن و جهته في هذا الظلام الحالك،لكنها تراجعت و كانت عاطفة الواجب أقوى من أي عاطفة، و راحت راكبة سيارة ( الشبح ) ليقلع سرحان بسرعة جنونية تسبق الريح، و يبقى أيوب مصلوبا مذهولا بمكانه من هول مارأى، كان قلبه يتقطع حسرة، و ها هو طوفان الأسى و الشك يجتاحه ليجرفه إلى حيث لايدرى.
تمر أسابيع و يطول غياب أيوب و يصبح مقلقا. لم تتمالك هدى نفسها و تلجأذات يوم إلى مصلحة الإشارة للاستفسار عنه بغية معرفة أخباره، قيل لها بأنه حول إلىتمنراست نزولا عند رغبته لاعتبارات صحية، لم تعد صحته تحتمل الأجواء الرطبة والملوثة للمدينة، لقد ترك المصلحة مند شهرين تقريبا، شكرت محدثها و تذكرت يوم تلاقىنظراتهما و قالت في نفسها (( لقد كان يوم اختفائه...)) و خرجت للشارع طلبت سيارةأجرة فركبتها و أعلنت عن وجهتها ((اجهة البحر، ساحة المغرب العربي.)) انزوت فيمقعدها في صمت و انشغلت في تفكير عميق استنتجت بأن أيوب لم يكن سوى الهرب منالواقع، و الذي صنعه لنفسه فمن سمة الجزائري التأويل و عدم الرضا بالهزيمة، فمنطبيعة دمه الساخن أنه يثور لأتفه الأمور فكل شيئ لديه مقدس أحيانا يرتكب حماقاتباسم الشرف و الشرف بريء منه و نادر ما يستسلم و يقبل بالهزيمة و يختفي، فأيوبيعتبر من القلة القليلة التي تفضل الانسحاب و الاختفاء،لقد كان حكيما في قراره ممازاد إعجاب هدى و تعلقها به أكثر، تنهدت بعمق كا دت أن تنفجر و تمتمت و قالت :
(( آه لو يدرى...آه لو يعرف الحقيقة)).حقيقة مادا؟ حقيقة العاصفة التي عصفت بهو اجتاحته أم حقيقة دمه الساخن الذي لا يسمح له بالهزيمة و رغم دالك سمح له بالهربو الاختفاء؟
تتوقف الطاكسى، تنزل هدى و تجوب ساحة المغرب العربي الذي يغطيهاالضباب بخطى ثقيلة قاصدة قاعة الشاي (( غر ناطة )) أين وجدت أنور مسئولها المباشرفي انتظارها جالسا بعيدا عن الأنظار، لقد جرت العادة أن يلتقيا في مثل هده الأمكنةكلما دعت الضرورة لذالك، جاءت لتقدم له آخر المستجدات و آخر التقارير عن العمليةالكبيرة لقد استطاعت بذكائها الحاد أن تحصل على أدق المعلومات من سرحان دون أن تدفعشيئا، و دون أن يتفطن لطبيعة عملها انه مغرما بها.
جلست و الحزن باديا عليها حتىخيل لأنور بأن أمرها قد يكون انكشف لكنها تطمئنه و تنبئه بأنها سوى مرهقة، و أنالعملية ستتم الليلة تحت جناح الظلام، كما هو مخطط لها و بعد موافاته بالشروحاتالأزمة تنصحه باستقدام قوة إضافية و تنهض لمغادرة المكان.
هنا تنتهي مهمةالمفتشة هدى التي استقدمت من مدينة مجاورة خصيصا لهذه المهمة، لبست لباس الشرعيةكطالبة للسماح لها بالإقامة بين الطلبة دون أن تلفت الانتباه و باشرت المهمة التيأوكلت لها في سرية تامة لتقودها مجريات الأحداث إلى عالم الملاهي و الوسط المتعفنالذي سكنته الخفافيش و الذي ظن أيوب ذات ليلة أنه ابتلعها، لقد استطاعت سحب البساطمن تحت الأرجل، و لم تبق لها ألا سويعات لتوجيه ضربة قاضية لهذا الإخطبوط الفتاكالذي لا يرحم، لقد استطاعت استنطاق الصمت و هز عرش الإمبراطورية التي اعتمدت علىالمال و القوة.
تصل لإقامتها فترتمي سريرها في نوم عميق، حيث رأت فيما يرىالنائم بأنها طارت في الأفق تقودها حمامة بيضاء عبرت الصحراء و استقر بها المقامبمدينة حمراء تحيط بها بساتين خضراء، حينما استفاقت من نومها كانت الساعة تشير إلىالثالثة زوالا. فالتحقت فورا بمكتب عميد مصالح الأمن القضائي، كما هو متفق عليه فيأعقاب كل عملية فأستقبلها بابتسامة عريضة و حفاوة كبيرة لم تشهدها من قبل، بسطأمامها جريدة مسائية، حيث كتب على صدرها بالبند العريض ما يليّ ّّألقت مصالح الشرطةالقضائية البارحة القبض على مجموعة من الأفراد ينتمون إلى شبكة تهريب دوليةبالمدينة، حيث كانت البضاعة المهربة مخبأة بزورق مهمل كان راسيا بجانب رصيف ميناءالمسافرين، و قد تبين فيما بعد أن الشبكة تنشط على الشريط الحدودي، و تعتبر شبكةعالمية من حيث الوسائل و التنظيم، و الفظل يعود في دلك إلى المفتشة هدى غفران والفريق المنتمية أليه بقيادة الظابط أنور، و لا تزال لحد الساعة هذه القضية تستقطبالرأي العام المحلى)).
حين أتمت قراءة الخبر، أحتفضت بالجريدة و كمكافأة لها قالعميد الشرطة ّقررت مديرية الأمن مكافآتك بأسبوعين عطلة مدفوعة التكاليف و لك اختيارالمكان الذي تودين قضائها به.)) لحظتها خطر ببالها أيوب و بدون إطالة تردّ :
ّ- تمنراست...يقال بأنها مدينة سياحية و هده فرصة للتعرف عليها و على أناسها الطيبينّ.
ّ- هذا مدهش، لم أكن أتوقع هدا الاختيار خاصة و نحن على أبواب الحر، ليكن ماأردت، فسنقوم بجميع الإجراءات.ّ
في صباح اليوم الموالي حزمت أمتعتها و تسلمتتذاكر الطائرة و الإقامة و تلتحق بمدينتها لتمكث يومان بين أسرتها و من هناك تعرجعلى المطار لتطير لتمنراست للالتحاق بأيوب، و بعد سفر ممل و شاق تحط بمطار ّأقنارّأين يعم الهدوء و السكينة كأنه الهدوء الذي يسبق العاصفة.
في الطرف الأخر منالمدينة جلس أيوب بإقامته على الكرسي بالقرب من النافدة كالمعتاد، فادا بالرياحتشتد سرعتها و تصبح غربية الاتجاه فيخيم عليه الحزن، لأنه كلما عصفت من هذا الاتجاهإلا و جاءت بالعواصف فيطلق العنان لمخيلته ليجوب العرق الكبير و الصحراء بأكملها فيثوان معدودة ليجد نفسه بحي الصديقية، ثم حي الصخور و يعرج على واجهة البحر و نوارسه البيضاء فتطل عليه من أعلى جبل المرجاجو ّسنتا كروز ّالشامخ في و جه الدهر منذرحيل الأسبان، و بينما هو على حاله إذ يشعر بيد تلمس كتفه في حنان فيدير رأسه، فادابفتاة واقفة فوق رأسه فخيل له للوهلة الأولى بأنه يحلم و بأنه ملاك على صفة أملخطيبته المتوفاة نزل إليه من السماء أتت به العاصفة لينقده مما هو عليه، و قبل أنيتفوه بأي كلمة تبادره قائلة ّلقد تعبت من البحث عنك، أخيرا دلوني على إقامتكزملائك بالمصلحة، وجدت الباب مفتوحا، طرقت عدة مرات لكن لم يجبن أحد فدخلت، حطتحقائبها، ومدت له بيدها مصافحة و قالت ّألا تأمر لي بالجلوس ؟ ّقال ّاجلسي أيتهاالعاصفة ّفابتسمت بابتسامتها المعهودة و قالت كلاما مبهما كعادتها ّتجرد طواعية منسيفك أنا العاطفة ّبعد صمت رهيب دام دقائق أمطرها بأسئلة مست بشرفها و جرحت كرامتهاانتفضت و صرخت في وجهه ثائرة . فتحت حقيبتها و رمت له ببطاقتها المهنية و الجريدةالمسائية التي نشرت تفاصيل القضية التي أسالت وديانا من الحبر .
بعد ما تعرف علىالحقيقة تجسد أمامه الواقع و تساءل ما هو الواقع؟ و من صنعه؟ و لماذا حين يتجسدتتبدد الأحلام؟ و هذه المرة يجيب على نفسه فيستنتج بأن الواقع هو الحقيقة المطلقةصنعته الظروف و حين يتجسد قد تتبدد الأوهام و تتجسد الأحلام جحضت عيناه و اغرورقتبالدموع . نهض من مكانه احتراما و إجلالا لها و تأسف عما صدر منه و طلب منهاالغفران و قال ّالآن أنى لا أرضى بلذة العيش إلا بجوارك و لا أرضى بنور السعادة إلافي ابتسامتك الهادئة المرتسمة على شفتيك . أفضل يوم أقضيه بجانبك على جميع ملذاتالدنيا و مسرات الوجود فأنت رائعة، ذكية، وطنية، قوية و رحيمة، أنت الوفاء و الشرف،أنت العفة نفسها، خذي سيفي أيتها العاصفة, أنت العاطفة، و أنا في هذا النور الساطعتحملني أجنحة السعادة تنتشلني من ظلمتي و عزلتي إني...ّ
فتقاطعه و تقول ّلا تكمللمست ذلك من خلال رسالتك التي لا زلت احتفظ بها و كنت أحس بذلك، لكن عاطفة الواجبكانت تقف عائقا بيني و بينك و كانت الأقوى , لكن لا يمنعني ذلك من أن أحفظ لك ماكنت تكتبه من أشعار هيا أسمع ّيا نسمة البحر و نفحة الريحان و يا فراشة الربيع فوقالغدران. عودني غنجك تهجين الأحزان. و أكتظم أشواقي داخل الوجدان لأصطنع البسمة فوقالشفتان و أتحمل ما لا يتحمله أي إنسان لاكتسب عظمة ليوث وهران.. ّ
لحظتها يضمهالصدره كاد أن يخنقها و يرد عليها قائلا ّلكنك تجهلين ما كنت أود أن تسمعيه، و أنافي طريقي لهنا هيا أسمعي :
ّلقنني حبك فاتنتي كيف أن أكتم الأسرار و كيف أحتفضلك بأحلى التذكار و أشق طريقي بين اللهب و النار غريبا في طبعي لأنتحر مثلالأطيار...ّ
انقضت مهلة من الوقت و تهدأ العاصفة، يخرجان متعانقان في حرارة لامثيل لها يجلسان فوق ربوة قريبة يتأملان منظر غروب الشمس و تتراء لهما في الأفققافلة من الجمال، يركبها رجال من الطوارق و يسمعهم الريح من حين لأخر أنغام التنديالمتقطعة المنبعثة من هناك.