المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نظرات في تاريخ المذاهب الإسلامية


barbaruse
2009-04-02, 10:55
نظراتفي تاريخ المذاهب الإسلامية

الشيخ العلامة المحدث

أبو أويس محمد بن الأمين بوخبزة التطواني

نظرات في تاريخ المذاهب الإسلامية

وأصول مذهب مالك


بِسْمِ الْلَّه الرَّحْمَنِ الْرَّحِيم



إن الحمد لله نحمدهونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلامضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنمحمداً عبده ورسوله.




إخواني الأساتذة والطلبة إن الإسلام جاء بسعادة الدارين ،وهو نظام إلهي كامل بشهادة الله له ،أتم به النعمة ورضيه لنا دينا، وأخبر أنه لا يقبل غيره، ومن انتحل سواه فهو خاسر، فقال عز من قائل {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِينَ}[ المائدة:4]. وقال تعالى{ إِنَّ الْدِينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلاَم} [آل عمران 19] وقال سبحانه :{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلُ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين}.[آل عمران: 84].
وأكد النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء عن الله في هذا في أحاديث من أَسْيَرِها قوله صلى الله عليه وسلم :«لقد تركتكم على مثل المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك» .وقال النبي صلى الله عليه وسلم :« قد جئتكم بها بيضاء نقية لو كان موسى حيا ما وَسِعَهُ إلا اتباعي» ، وكان المسلمون في العصور الأولىالمشهود لها بالخير في قوله :« خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم». وهؤلاء الصحابة والتابعون على أحسن الهدي، والطريقة المثلى، متمسكين بالأصلينوالوحيين، كتاب الله تعالى وسنة رسوله، يرجع عامتهم إلى فقهائهم المُسَمَّين القراءلاقتصارهم على كتاب الله ،لأنهم يعرفون بسليقتهم دلالاته متفقهين في مقاصده بماتلقوه من بيان رسول اللهصلى الله عليه وسلم المنزل عليه - القولي والعملي-. فقد كان صلى الله عليه وسلم الرجل القرآني والنموذج الرباني ، يتجلى في أقواله وأفعاله التطبيقُ الكامل لتعاليم القرآن، ولهذالما سئلت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن خلقهقالت:« كان خلقه القرآن» ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي ، تفرق أصحابه في الأمصار ، وكل حَدَّث بما عنده،واتبع أهل كل بلد من كان عندهم من الصحابة لا يخالفونهم إلا لدليل وهذا قليل ، فكانفقه عبد الله بن عمرعند أهل المدينة وما إليها ، وفقه ابن مسعودعند أهلالكوفة ، وفقه ابن عباسعند أهلمكة. وفقه عبد الله بن عمرو بن العاصعند أهل مصر، والأخوة الإسلامية سائدة بينهم على أكمل صورة وأتم وجه، والأخلاق الإيمانيةتحكم تصرفاتهم فلا تعصب، ولا قطيعة رُغم ما جرى من الفتن السياسية التي كان يغذيهاأهل النفاق الموتورون مدفوعين بعناصر أجنبية ، وأحقاد يهودية ، وقد قال علي رضي الله عنه عنقتلى الجمل و صفين و النهروان :«إخواننا بغوا علينا»، وأمر أن لا يُتبع مُدبرهم، ولايجهز على جريحهم، ولا تُسْبَى ذراريهم لأنهم مسلمون، ثم خلف من بعد هؤلاء خلف أطلتمعهم البدع برؤوسها، وتحرك أهل الأهواء ، فظهر الخوارج ، والشيعة، والقدرية،والمرجئة. هذه الأربعة هي أصول الفرق والنِّحل المبتدعة ، وهذه الأولى هي التي ظهرتباكراً في العصر الأول ، وشمر أهل الحق عن ساعد الجد في مقاومة الباطلوملاحقته،وكان من جراء ذلك أن دُوِّنت السُّنة ، وظهرت العناية بالرواة ونقدهم ، واتجهالفقهاء المجتهدون إلى تحرير القواعد والتأصيل، فامتاز منهم الأربعة المشهورون ،هذاترتيبهم حسب الأقدمية:
أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زُوطى الكوفي، المولود سنة 80هـ ،والمتوفى ببغداد سنة 150هـ ،وقبره بالأعظمية شهير.
ومالك بن أنس الأصْبَحِياليمني الأصل، المولود سنة93هـ ،والمتوفى بالمدينة سنة 179هـ، وقبره ببقيع الغرقدمعروف بالمدينة، يليه تلميذه:
محمد بن إدريس الشافعي القرشي، المولود بغزة فلسطينسنة150هـ ،والمتوفى بمصر سنة204هـ، وضريحه بمصر القاهرة مشهور ، يليه تلميذه:
أحمدبن محمد بن حنبل الشيباني، المولود ببغداد سنة 164هـ ،والمتوفى بها سنة241هـ، ويقالبأن قبره تحيفه نهر دجلة.
هذه المذاهب الأربعة المنسوبة لأهل السنة هي التي كُتب لهاالبقاء إلى الآن، وقد كان معها وقبلها مذاهب فقهية كثيرة اندثرت : كمذهب سفيانالثوري بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة ، وعبد الرحمن الأوزاعي بالشام والأندلس،ومحمد بن جرير الطبري وأبي ثور ببغداد ، وداود بن علي الأصفهاني الظاهري بكثير منالأمصار، وهذا الأخير كان هو الرابع بدل الحنبلي كما قال المقدسي في "أحسن التقاسيمفي معرفة الأقاليم" ، وهو من أهل القرن الرابع، وكان الحنابلة يسمَّون أهل الحديثيومئذ، بل إن المذهب الظاهري عُدَّ هو الخامس، واستمر كذلك إلى القرن الثامن كما في " ديباج ابن فرحون " ،ومعلوم أنه كان له نفوذ وظهور بالأندلس وبالمغرب على الخصوصأيام الدولة الموحدية، لأن هذه الدولة كانت ظاهرية،فكانت تؤيد هذا المذهب وتناصره،ثم دَرَسَ ولم يبق إلا الأربعة إلى مذاهب أخرى من أهل البدع بقي منها إلى الآن :الشيعة الإمامية الاثناعشرية الجعفرية الروافض، و الإباضية من الخوارج ، و الزيدية ، أماالإسماعيلية فطوائفها تزعم الانتماء إلى الإسلام، وهم كثيرون : كالنصيرية بسوريا، والبُهرة بالهند و النزارية الأغاخانية بالهند وباكستان، و المَكارمة باليمنوهم موجودون مع الأسف حتى بالمدينة إلى الآن،ويسمون بالنَّخاولة، ولهم حي هناك بالقربمن قباء ، ولهم مستشفيات ومدارس،وهم ينطوون على أفكار وعقائد خبيثة لا تتمشى معالإسلام أبداً، فالحق أنهم خارجون عن الإسلام . وأقدم المذاهب السُّنية : الحنفي: هوأوسعها انتشارا إلى الآن بالعراق ومصر والروم( يعني الترك) والهند والسند و بلخ وبخارى و فرغانة وغيرها من بلاد العجم، وله وجود بشمال إفريقية إلى الآن في الجزائر،وفي تونس، وفي ليبيا بقلة ، ما عدا المغرب، فإنه لا يوجد فيه حنفية إلا المالكية،لأن الحنفية كان وجودهم تابعا للحكم العثماني التركي ،وهؤلاء العثمانيونالأتراك لم يحتلوا المغرب، ولم يدخلوه فاتحين ، فلهذا بقي المغرب بمنجى من هذا،ولم يكن فيهإلا مذهب مالك. أما مذهب مالك فكان بالعراق قديما ومصر وشمال إفريقية والأندلسقديما، ومن أسلم من دول إفريقية( كالسنغال، ومالي، ونيجريا، والنيجر، وبعض الأقلياتهناك أغلبهم مالكية ، وغلب الشافعي بمصر والشام والحجاز قديما ، وزاحم الحنفية فيكثير من الأمصار لا سيما في بلاد العجم، فلهذا كانت تقوم محاربات، ومواجهات داميةبينهم ، أما الحنبلي فكان وما زال انتشاره محدوداً إلا في الحجاز ونجد، وله وجودبالشام ومصر
ومما يجدر ذكره : أن هذه المذاهب في الفروع يتقسمها في أصول الدين التيهي أهم من الفروع مذهبا الأشاعرة ، و الماتريدية ، إلا الحنابلة فهم سلفيون ، ومنتتبع أطوار هذه المذاهب وتاريخ نشأتها وأسباب انتشارها وبقائها، علم أنها في الغالبلم تنتشر تدينا وطلبا للحق، وإنما بقاؤها وانتشارها بقوة السلطان ، وقد قال أبومحمد بن حزم رحمه الله:« مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرئاسة والسلطان: الحنفيبالمشرق، والمالكي بالأندلس» ، وهذا الكلام صحيح، فإن هارون الرشيد هذا الخليفةالعباسي، ولَّى لأول عهده أبا يوسف القاضي تلميذ أبي حنيفة القضاء، وكان هارونالرشيد لا يولي القضاء إلا من أشار به، وهذا حنفي وأكبر تلاميذ أبي حنيفة ، وعلىهذا فلم يولََّ القضاء في ذلك الوقت وما بعده إلا الأحناف ، وهكذا ساد المذهب الحنفيالعراق, و خرسان, و الشام ومصر وإفريقية، نفسُ الشيء تماما وقع بالغرب الإسلامي، كماأن يحيى بن يحيى الليثي الصنهاجي المغربي الأصل تمكن من الحَكَم الأموي فيالأندلس،فكان يحيى لا يولي القضاء إلا مالكيا،"نفس العملية"،فلهذا أقبل الناس علىدراسة مذهب مالك، وهذا بطبيعة الحال شيء ينافي الإخلاص، ففشا مذهب مالك بالأندلس، وأخمل ذكر غيره من المذاهب، بل محا بعضها كالأوزاعية ، وأصدر الحَكَم مرسومايتوعد فيه من يخرج عن مذهب مالك - ، نقل ابن خلدون عبارته فقال:« ومن خرج عن مذهبمالك فلا يلومن إلا نفسه».وهذا الشيء لا يزال موجودا إلى الآن، ومعلوم أن في المغربالمذهب الرسمي -كما يقال- مذهب مالك، وفي تعيين القضاة في الأحوال الشخصية التي هي ما بقي من مذهب مالك فقط ،ويوصى بأن لا يخرج القضاة عما في مدونة الأحوال الشخصية ،وما لم يكنفي المدونة فالحكم فيه بالمشهور والراجح من مذهب مالك، وما جرى به العمل من مذهبه، ولا يخرج القضاة عن هذا أبدا.
وهكذا ظلت هذهالمذاهب بين جزر ومد حسب قوة السلطان وأهواء الحكام، والناس على دين ملوكهم -كما قيلقديما-، ولما حكم العبيديون مصر، وهؤلاء روافض شيعة باطنيون، فرضُوا فيها مذهب الرفض،وعانى منه المسلمون الأمَرَّين، إلى أن أذهبه الله على يد صلاح الدين الأيوبي ، وكانأشعرياً متعصباً شافعياً، فقوى هذان المذهبان بسبب ذلك، ( يعني المذهب الشافعيوالأشعري ) ، ثم لما توارد على حكم الشام ومصر المماليك، ( المماليك البحريةوالبرجية) وأغلبهم جهلة، وإنما كانوا أناساً عسكريين شُجعانا، تنافسوا في بناءالمدارس لفقهاء المذاهب حسب ميولهم وأهوائهم، فكثرت في عواصم العالم الإسلامي، وأهممدنه،ووقفوا عليها الأوقاف الغنية، فكانت من أسباب ظهور التعصب المذهبي, واستفحالشأنه، إلى أن أصبح مَرَضًا مُزمنا لم يَنفع فيه علاج ، وزاد من تمكنه ورسوخه: انحيازُ كبار الفقهاء والأئمة إلى ما اختاروه من المذاهب على حساب الحق، فكثُرتالمناظرات، إلى أن أفضت إلى منازعات ومواجهات، أريقت فيها دماء، وانتهكت أعراض،وخربت بلدان ،كما تراه مبسوطا في البداية والنهاية لابن كثير، والمنتظم لابنالجوزي، وأنشأ الظاهر بيبرس (هذا ملك مملوكي مشهور بمصر والشام)، القضاء والفتوىعلى المذاهب الأربعة ، وهو أول من عين الفقهاء والقضاة على المذاهب الأربعة ، وهذاالتقليد لا زال حيا إلى الآن فكان لكل مذهب قاضٍ ومُفْتٍ ، وظل الأمر كذلك إلى الآن.
وكان من أثر هذا الخلاف وتأييده:
اختلافُ المصلين حتى في صلواتهم، فجعلوا في مساجدالعواصم الكبرى محاريب أربعة، حتى في بيت الله الحرام بمكة الذي هو رمز التوحيد،وقبلة المسلمين الموحّدة ، كانت هذه المقامات - كما يسمونها- قائمة إلى عهد قريبحيث أبطلها الملك عبد العزيز آل سعود لما احتل مكة المكرمة . وبسبب تعدد القضاةوالمدارس، تنكر الناس للحق، وتمالأ الفقهاء على إقرار الأمر الواقع ، وقَصَروانشاطهم عليه، حتى من يشتغل منهم بالقرآن والحديث والآثار، فإنما يتناولها من زاويةنُصرة المذهب ، وترى هذا جلياً فيما تركوا من مؤلفات يبذل الواحد منهم قُصَارى جهدهفي تأويل ما يخالف مذهبه، وربما اضطُر إلى دفعه بالصدر ،أو محاولة الطعن في صحته ،ويعبر عن مخالفيه بـ"الخصوم" و تجد في كتب الحنفية والشافعية: "قال خصومنا"، و"هذامذهب الخصوم" ، و"أصحابنا" طبعا هم أهل مذهبهم:"قال أصحابنا،"و"هذا عندأصحابنا"،فهؤلاء مسلمون ودعوتهم واحدة ،وكلمتهم لا إله إلا الله ،ورسولهم واحد،والقرآن كتابهم واحد، يقولون هذا الكلام ؟ أهؤلاء علماء ؟!!!. ومع مرور الزمن، وتجددالمغريات، أصبح هذا عداءً مستحكِماً، وضلالا مبينا، يستغرب الواقف عليه صدورَه منمسلم، فكيف بإمام يتعاطى القضاء والفتوى ، فهذا الكرخي الحنفي يقول : كل آية أو حديثيخالف مذهبنا، فهو مؤول أو منسوخ ، وفتواهم بجواز زواج الحنفي بالشافعية قياسا علىالذمية مشهورة، يعني أن الحنفية يقولون في فتاويهم: إن الحنفي يجوز له أن يتزوجبالشافعية قياساً على اليهودية والنصرانية، وكذلك الشافعي يجوز له عند الضرورة أنيتزوج الحنفية قياساً على الذمية، ناهيك بما اشتهر عنهم من تحريم الإقتداء بالمخالف، وبطلان صلاته ،هذا قول شُهِرَ عندهم ( يعني أن الشافعي لا يصلي خلف الحنفي،والحنفي لا يقتدي بالمالكي ولا بالشافعي، ومن فعل بطلت صلاته وتجب عليه إعادتها).ولا تظن أن هذا كان قديماً، فما زال منه إلى الآن رُغم استيلاء الاستعمار علىالعالم الإسلامي وإقصائه للشريعة عن الحياة،وما الضجة التي أثارتها الحنفية بالشامضد الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله، لما كتب في تعليقه على "مختصر مسلم للمنذري"على حديث نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، وأنه - عليه السلام- سيحكم بالكتاب والسنة لا بالإنجيل، ولابمذهب أبي حنيفة، وقصد الشيخ ناصر الدين بهذا :الردَّ على غُلاة متعصبة الأحنافومنهم الحَصْكَفِي في الدر المختار ، القائلين بأن عيسى عليه السلام،لما ينزل في آخر الزمانإلى الأرض فسيحكم بمذهب أبي حنيفة، بعد أن يستخرج كتبه المحفوظة في صندوق ببحرجَيحون، في هَذَيان يستحي العاقل من حكايته ، ومعلوم أن فقهاء هذه المذاهب كَتَبوافي ترجيح بعضها على بعض ما يقضى منه العجب ، فهذا إمام الحرمين عبد الملك الجويني ،وهو من شيوخ الغَزَّالي ، يؤلف "مغيث الخلق، في ترجيح القول الأحق" صرَّح فيه بوجوبإتباع مذهب الشافعي فقط ،وأنه وحده الصواب ، فرد عليه زاهد الكوثري ، ( وهذا متعصبشُعوبي وأنا أعرفه ، هلك منذ عقود في القاهرة وأصله تركي، كان مضرب المثل في التعصبوالشعوبية وكراهية العرب، وهو عالم كبير، ولكن ما شاء الله كان مبتلى بهذا الداءفلهذا لما قيل له بعد ذلك أما كان لك أن تتأدب وهذا إمام الحرمين، ومن كبار العلماء،قال: (متعصب رُمي بمتعصب فاقتصصت منه) بـ" إحقاق الحق، ببيان الحق من مغيث الخلق " وهو مطبوع ، ذهب فيه إلى أن هذا كله باطل لا فائدة من ورائه، وأن الحق هو مذهب أبيحنيفة فقيه الملة، وسلقه- أي إمام الحرمين- بلسانه الحاد ، ولما احتج الأول بحديث: الأئمة من قريش، وهذا حديث صحيح ،وحديث: « قدموا قريش ولا تَّقَدَّموها » وهذا كذلكصحيح ، لكن كما هو معلوم أن هذه الأحاديث إنما هي في الخلافة العامة، واشتراطالقرشية في الخليفة. لم يتورع الكوثري مدفوعا بتعصب فريد عن الاحتجاج بحديث حاولتقويتَه هو ومحمود العيني قبله وهو مؤلف شرح البخاري «عمدة القاري» ،وكتبه كثيرة،وكان محتسب القاهرة، ومعاصرا للحافظ بن حجر، ولكن كان مضرب المثل في التعصبلمذهبه،ويكفي أن تسمعوا أنه حاول أن يصحح هذا الحديث، وبمجرد ما يسمع الإنسان هذاالحديث يعرفُ أنه موضوع، وكَذِب مختلق،وهو قوله :« سيكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفةهو سراج أمتي، ويكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس، أضر على أمتي منإبليس، » . والكل مما عمِلت أيديهم ،ولعن الله مَن وَضَعه، هذا المسخ والهذيان ينسبإلى علماء كبار!!، ومحمد بن إدريس يعنون به الشافعي،وكَتَبَ المالكية بدورهم في ترجيح مذهبهم تآليف من أقدمها "الذب عن مذهب مالك" لابن أبي زيدالقيرواني وهو مخطوط ، وابن اللباد وكتابه صغير طبع بتونس، و"الانتصار لمذهبمالك" لابن الفخار القرطبي وهذا مخطوط موجود اكتشف مؤخراً،و"تهذيب المسالك في نصرةمذهب مالك" للفندلاوي وهو بربري ذو أصل مغربي وكتابه مطبوع بالمغرب، وهذا القاضي عياض على فضله ورسوخقدمه في العلوم يعقد فصولا في ترجمة مالك من "ترتيب المدارك"، في ترجيح مذهبه ، منقرأها بإنصاف وتجرد وقع على تعصب ظاهر، وانحياز مكشوف ، وجاء أخيرا الراعي الغرناطي،وجمع مقاصد أولئك في "انتصار الفقير السالك لمذهب مالك" وهو كتاب كبير طبع فيمجلد، وفيه العجب العجاب أكثر ممن قبله ، وحتى مذهب أحمد بن حنبل لم ينج من آثارالتعصب، إلا أني لا أعلم كتبا خاصة في ترجيحه إلا فصولا في ترجمته كما في "مناقبأحمد" لابن الجوزي ، فيها فصول في ترجيه مذهب أحمد على غيره من المذاهب. وترىالمالكية يتواردون في ترجيح مذهبهم على حديث الترمذي: « يوشك أن يضرب الناس أكبادالإبل يطلبون العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة » ويعتقدون أنه صحيح،ويحتجون به في فضل مذهب الإمام مالك، والحديث موجود في جامع الترمذي وغيره، وفيمسند أحمد ،وهو ضعيف ، وينقلون عن "سفيان بن عيينة" - ،وعبد الرزاق بن هَمامالصنعاني صاحب "المصنف" أن المراد به مالك، ويدفعون قول مَن قال :إنه عبد العزيزالعُمري الزاهد ، على أن الحديث ضعيف كما قال الألباني في الضعيفة وهناك بيّن علته. وكنا نظن أن هذه النغمة النَّشاز من هذه المنظومة اختفت إلى الأبد لضعف أسبابها إلاأنها عادت للظهور ولإرضاء النوازع النفسية والسياسية، فمنذ عدة عقود ظهر بفاس الشيخمحمد بن عبد الكبير الكتاني وهو شيخ صوفي مشهور يدعو إلى إتباع السنة في الصلاةومنها وضع اليمنى على اليسرى وقام في وجهه فقهاء فاس خصوصا وأنه عدو للسلطان عبدالحفيظ بن الحسن الأول لما عقد الحماية مع الفرنسيين انقلب عليه الكتاني وأعلنعداوته وخرج عليه وخرج عبد الحفيظ على إثره فقبض عليه ورده إلى فاس وقتله ضربابالسياط، والسلطان عبد الحفيظ كان عالما وهو العالم الوحيد في سلاطين العلويين،وأوعز هذا إلى الفقيه الوزاني فألف رسالتين إحداهما للرد على المسناوي ، والثانيةللرد على المكي ابن عزوز التونسي ، وأبدى في الرسالتين من ضروب التعصب والانتصارللهوى ما جعله يصرح في مواضع من الرسالتين وهما مطبوعتان أن العمل بالكتاب والسنةحرام، وإن المخاطَب بهما غيرنا وهم المجتهدون، والاجتهاد انقطع منذ القرن الخامس،وبابه سُدَّ . وهذا كلام خطير لا يتفوه به مسلم عاقل ، لأن ظاهره أن الوحي لاغجملةً وتفصيلاً ، وقد قال قبلَه علي التسولي في" البهجة شرح التحفة"(1/20) إن المقلدلا يجوز له العمل بالحديث ولو قال إمامُه بصحته ، ونقل عن البُرْزُلي أن المقلدوالجاهل والعامي عندهم ألفاظ مترادفة إهـ، يعني معناها واحد وإذا عرفت أن الاجتهادانقطع، وبابه مسدود- كما زعموا- علمت أنهم حكموا على أنفسهم ابتداء من القرن الخامسبأنهم عامَّة و جهال ، وكفى الله المؤمنين القتالَ، ومنذ سنين قليلة طُبع بتطوانكتاب "الأبحاث السامية، في المحاكم الإسلامية" للفقيه محمد المرير التطواني ، وهودعوة إلى تقنين الفقه لقطع الطريق على المفتين اللاعبين والتسيب في الفتوى، والرغبةفي الإسراع بفض النزاعات والفصل في الدعاوي ، وهي فكرة سبقه إليها أبو سالم العياشيفي القرن الثاني عشر في رحلته لو وَجَدت آذانا صاغية، على أنها خطوة في الطريقالصحيح كما يقال فقط، لأن الحق أن المذاهب كلها فيها حق وباطل لاشك فيه، ولوأَلهَمَ اللهُ أهل الحل والعقد من المسلمين رُشدَهم، لَسَلكوا المحجة البيضاء كما أمر الله تعالى بالرجوع والرد إلى الله والرسولفي كتابه في[النساء:58].
«فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُتَأْوِيلاً».
وكما قال تعالى:« وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍفَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ».[الشورى:8].
ولَمَا وقعوا في الفُرقة والشتات وذهابالريح ،ومعروف في الآية القرآنية أن الخلاف سبب في ذهاب القوة والضعف، واختلالالأمر المفضي إلى ضَياع المجد، والاستقلال، وتسلط الأجنبي ، ولكن لابد من تحققالإنذار النبوي في نقض عُرى الإسلام عروة عروة، وأن أولها نقضا الحكم وآخرها الصلاة , ولكننا نؤمن أن المستقبل للإسلام ، ونعود إلى الموضوع فنقول: بأن الفقيه المُرِيردَافَع عن المذهب، وحاول الرد على ابن حزم وابن خلدون في سبب انتشار مذهب مالك فيالأندلس، ومن عجيب أمره أنه احتج في دفاعه بمرسوم الحَكَم الذي يتضمن تهديدَ مَنيخرج عن مذهب مالك بقوله :«من خرج مذهب مالك فلا يلومَن إلا نفسه» وهذه غفلة من الشيخ بأن يحتج بشيءهو ضدُّه، وجاء بعده الصديق الدكتور عمر بن عبد الكريم الجيدي خريج دار الحديثالحسنية ، فأبلَى البلاء الحَسَن في النضال عن المذهب وكَتَب مقالات، وألقىمحاضرات، جُمعت في كتابين ( مباحث في المذهب المالكي بالمغرب) و ( محاضرات في تاريخالمذهب المالكي في الغرب الإسلامي) وهما مطبوعان، حاوَل في الكتاب الأول تبرئةالمذهب من نَقِصتَين ماثلتين للعيان، وهما التعصب ، وخُلوُّ معظمِ كتب المذهب منالدليل ، ودفاعُه رَغم طوله كان - والحق يقال- دفاعاً بالصدر، ومغالطة. وإلا فكيفيمكن الدفعُ، وقد سبق له أن شرح أسباب ظهور المذهب وانتشاره، وأنه استأثر بالأمر فيالأندلس والمغرب، ولم يقبل معه غيره، حتى المذهب الظاهري الذي تعزز بالسلطان فيفترة من عُمره، وهي الدولة الموحدية، لم يستطع الصمودَ معه، وهذا بَقِي بن مخلدالإمام الرباني رضي الله عنه يتعرض للامتحان الشديد بتحريض الفقهاء للعامة عليه،حتى رَجَموا داره بالحجارة، ولولا أن قيض الله له الأمير، لهلك ،حيث سمع الأمير بهذا فاستدعاه، وقال له: ما هذه الكتب التي جئت بها قال مصنف ابن أبي شيبة،ومسند الإمامأحمد شيخه ،فأمره أن يقرأ عليه ،فلما قرأ عليه، قال له :هذه الكتب جيدة لا يجوز أنتخلو مكتبتنا منها، فأمر بانتساخها،وقال له: اذهب وانشُر علمك، فَذَهب إلى مسجدقرطبة وجَلَس يملي الحديث وهو محمي من الخليفة ، وهذا الإمام أبو بكر الطُّرطوشيشيخ ابن العربي المعافري القاضي يفر من الأندلس إلى مصر لمَّا هُدد بقطع يده لرفعهافي الانتقالات في الصلاة، وهي مشروحة في "نفح الطيب"، وهذا منذر بن سعيد ،وأبو محمدبن حزم ، وغيرهما كثير في وقائع وأحداث، لا يملك المنصفُ معها إلا أن يحكم ببلوغمالكية الأندلس الذروةَ في التعصب ، كما أن الدكتور الجيدي دفع مسألة عدم اهتمامالمالكية بالتأصيل والاستدلال بما لا يُجدي ، لأن القضية في متناوَل الأيدي لِمَنأرادها ، وقد زادت وضوحاً في السنين الأخيرة بعد أن قَذَفت المطابع بعدد لا يستهانبه من كتب المالكية، وفيها أمهات الكتب، فإذا بها لا تخرج عن سوابقها إلاَّ بما لايُسمن ولا يغني من جُوع ، وهذا بخلاف المذاهب الأخرى بما فيها المذهب الحنفي الذياشتُهِر بالقياس والرأي ، وذلك لأنها من حُسن حظها امتازت بكوكبة من المحدثينالنَّقَدة الذين خَدَموها بإخلاص، رَغم التعصب والانحياز الذي يكاد يكون من خصائصالمذهبية. والمالكية فقراء من هذه الناحية، والمحدثون النقاد منهم قليلون، فلهذا لاتكاد تجد فيهم مَن عُني بتخريج أحاديث كتاب مهم عندهم ، فهذه رسالة بن أبي زيد وهيمن المتون الشهيرة القديمة المقررة للدراسة والحفظ ،وشروحُها تناهز المائة، لا تكادتجد في شرُوحها مَن يتكفل بالاستدلال لعُشُر مسائلها، حتى جاء بالأمس القريب شيخُناأحمد بن الصديق الغماري الطنجي فشَرَحها بالدليل في كتابه " مسالك الدِلالة" وهوالأول من نوعه، وهذا رَجَز ابن عاشر " المرشد المعين " وهو من المتون المدروسةوالمحفوظة عند صِغار الطلبة، وشروحُه بالعشرات، كلها خالية من الدليل والتعليل، حتىاعتنَى به الأستاذ أحمد الورايني من خريجي دار الحديث بالرباط فشَرَحه شرحاً جيداًسماه:" التمكين، لأدلة المرشد المعين"، وشَرَح عبد العزيز بن الصديق "العشماوية" بالدليل اعتمد فيه على شقيقه أحمد، وخَرَّج هذا أحاديث" بداية المجتهد" لابن رشدفأجاد وأفاد وطبع الآن. وهذا بقطع النظر عن صحة هذه الأدلة وسَلاَمتها من الطعن ،لأن المقصودَ هو الاستدلال لمسائل المذهب حسب أصوله، وهذا مختصر خليل المبيِّنلِمَا به الفتوى، ومعلوم شدة عناية المالكية به، وخدمتها له بمختلف الوجوه إلابالاستدلال والتأصيل، وقد تجاوزت شروحُه وحواشيه المائة ، إلا محاولات مُحتَشمة لاتقوم على رجليها، قام بها بعضُ الشناقطة أخيرا.وحدثني الأخ الدكتور توفيق الغلبزوري أنه لقي بالجزائر الدكتور وهبة الزحيلي فشكا إليه هذا ما لقيه من عنت في تصيد دلائل فقه مالك من كتب غيره عند تأليفه كتابه "الفقه الإسلامي وأدلته" المطبوع. وبالمقارنة نجد عند فقهاء المذاهبالأخرى دواوين حافلة بالتأصيل، والاستدلال والتعليل، بل حتى كثير من المتون الصغيرةلا تخلو من ذلك. والكلام في هذا الموضوع طويل الذيل. فلنكتف بهذا الإلماع،لِنَخْلُصَ للإشارة إلى أدلة مذهب مالك فنقول بادئ ذي بدء:
بإنها لا تبلُغ عندالآخرين ما بَلَغت عند المالكية الذين أَوصَلُوها إلى ستة عشر أو سبعةَ عشَردليلاً، وهي إنما عُرفت بالاستقراء، لا بنص الإمام، أو كبار أصحابه: كابن القاسم ،وأشهب ، وابن وهب ، والمغيرة . وإذا تأملها القارئ الواعي وَجَدها تنزل إلى النصفلتداخل بعضِها، وقد انفرد المذهب المالكي بعمل أهل المدينة، ونُوزع في ذلك مالكرحمه الله عَلَى أن الصواب فيه: أنه في غير ما يتناوله الاجتهادُ والرأي ، وإنما هوفيما سبيلُه التوقيف كالصاع والمد، ومَن وَقَف على نقد أبي محمد ابن حزم في كتابهالممتع: "الإحكام، في أصول الأحكام"، جزم بضعف هذا الأصل عن الوقوف أمام الوحيين،والإجماع، والقياس الجَلِي، وهذا ما أجمع عليه المسلمون من أهل السنة والجماعة حتىالظاهرية نفاة القياس، فإنهم إنما ينفون القياسَ الخفي . وقد عاب الناسُ غلوالمالكية في دَعوَى عمل أهل المدينة، بينما لم تتجاوز مسائل العمل عند الإمام فيالموطأ المائتين ونيفاً، وبلغ مجموعُها في أمهات المذهب نحوَ الأربعمائة ، ومنالواضح أن استكثار الإمام من هذه الأدلة، كان بسبب قلةَ حديثه ، فهذا الموطأ وهوالأصل الأول من أصول الحديث، لا تتجاوز أحاديثه المسندة الصحيحة خمسمائة ، ودَعك منالمبالغات، ومنها: زَعمُ المالكية: أن رواية عَتِيق للموطأ بَلََغت عشرةَ آلافحديث، وهذا العدد لا يكاد يُوجد في الحديث الصحيح جملة. وقد كان من عادة الرواةالأولين: أنهم يَعُدون الأسانيدَ، والطرقَ، والآثار الموقوفة، وفتاوي الصحابة،أحاديث ، وقد ظهر الآن من روايات الموطأ خمسة، أوسعُها روايةُ محمد بن الحسنالشيباني صاحب أبي حنيفة، وأحاديثها نحو الألف، وفيها ما ليس من حديث مالك على مافيها من الأحاديث الضعيفة وهذا أبو عمر بن عبد البر – وليس للمالكية مثلُه- شرحالموطأ ب"الاستذكار"، و"التمهيد"، معتمدا ثماني روايات على رأسها: رواية يحيى بن يحيىالسائدة بالأندلس، والمغرب، لم يَتجاوز حديثه ما قلنا، ومن الجدير بالذكر: أن عملأهل المدينة، فَتَح لمالكية الأندلس والمغرب فقط بابَ العمل وجريانِه، والاعتمادعليه، وتقديمه على الراجح والمشهور، جُمعت مسائله بالأندلس وهي كثيرة، نظمهاالفيلالي السجلماسي في أرجوزة "العمل المطلق" وهي مطبوعة في مجموع المتون الفاسية،ونظم عبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي عملَ أهل فاس في أرجوزة مشهورة ومشروحة بلغتمسائلها المئات، وسمعنا أن الفقيه أحمد الرهوني التطواني وهو شيخنا، جَمَع نحوسبعين مسألة جَرَى بها العمل بتطوان .
وهكذا وَلَجَ الناسُ هذا الباب للعبث بأحكامالشرع، مما حدا ببعض الغيورين إلى استنكارِ هذا العمل جملة وتفصيلا ، ومن الطريف أنأحد مشايخنا (الدكتور تقي الدين الهلالي ) كان يقول عن العمل المطلق: أي عن قيد الإيمان ، وعنالعمل الفاسي: بأنه العمل الفاسد بالدال، وبعضهم يطلق عليه العمل الفاسق ، وهم وإنزَعَموا أن لجريان العمل شروطاً خمسة ، فإن مَن تأملها وجدها نظرية لا تقبل التطبيقعلى ما جرى به العمل ، وقد جمع هذه الشروط محمد بن المدني كنون في قوله :


والشرطفي عملنا بـ (العملِ) *** صدورُه عن قُـدوة مؤهل
معـرفـة الزمان، والمكـان *** وجـودموجِبِ إلى الأوان



والملاحظ: أن كثيراً من المسائل التي جرى بها العمل مخالفةللشريعة والمذهب ، وهم يعلمون هذا، ويبررون بقاءَها والحكم بها وتقديمها بجريانالعمل بشروطه. وهذه أمثلة على سبيل المثال لا الحصر،
منها: ترك الحكم باللعان وهوحكم قرآني .
قال في أرجوزة العمل الفاسي :

واترُك لفاسقٍ وغيرِه اللعان ْ*** أو هُولفاسقٍ فقط بغيرِ ثان

وقال الزقاق في لاميته:
وترك لعان مطلقا أو لفاسق ...الخ،
وإذا أردنا تطبيق الشروط لم نجد إلا ثبوته إلى الآن ، ومكانه، هو فاس, أمَّامَتَى وقع هذا، ومَن أولُ مَن ألغاه فلا يُعرف بالتدقيق
ومنها: بعث الحكَمين للإصلاح بين الزوجين ، وهو أيضا حكم قرآني، قال تعالى:
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاق بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْيُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيما خَبِيراً } ً.[النساء:35]
وقد شن أبو بكر ابن العربي في أحكام القرآن، الغارة علىَالمالكية في هذا، وهذه عبارته بعد إيراده آية:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاق بَيْنِهِمَا...}
قال:( هي من الآيات الأصول في الشريعة، ولم نجِد لها في بلادنا أثراً... بل ليتهم يرسلون إليَّ الأمينة ، فلا كتابَ الله تعالى ائتمروا، ولا بالأقيسةاجتزَوْا، وقد نَدبْتُ إلى ذلك فما أَجابني إلى بَعْثِ الحكمين عند الشقاق إلا قاضٍواحد، ولا إلى القضاء باليمين مع الشاهد إلا قاضٍ آخر، فلما ولاَّني الله الأمرَأجريتُ السنة كما ينبغي، وأرسلتُ الحَكَمين، وقمْتُ في مسائل الشريعة كما علَّمنيالله سبحانه...إلخ .
وهذا نص جيد جداً، وهو غني عن التعليق ،وقد أفاد تورطَ مالكيةالأندلس في إلغاء الحكم بالشاهد واليمين أيضا رَغمَ رواية مالك لحديثه في الموطأ ،وقد سبق ابنَ العربي إلى التشنيع عليهم بذلك أبو عمر ابن عبد البر في "التمهيد" فيعبارة قاسية ، ثم هذا أيضا لا يقبل تطبيق شروط العمل إلا ما كان من الحُكم بالشاهدواليمين ، فقد سَمَّى ابن عبد البر أولَ مَن ألغاه وهو يحيى بن يحيى ولم يذكر لذلكسببا ، ومنها: ما عبر عنه صاحب العمليات بقوله:



والذِّكْرُ مَعَ قِرَاءَةِالأَحْزَابِ *** جَمَاعَةً شَاعـَتْ مَدَى أَحْقَـابِ
كَذَا المَثَانِي تَعْقُبُالمُعَقِبَات *** مَعَ رَفْعِكَ الأَيْدِي بِإِثْرِ الصَّلَوَاتْ




ومذهب مالكوأصحابه في هذا معروف ، وهو إنكار هذا لكونه بدعةً ، فلا قراءة حزب، ولا تجمع، ولاقراءة بصوت واحد،ولا رفع الأيدي خلفَ الصلوات،هذا كله يشجُبه مالك و ينكره، بلويتهدد مَن يفعل هذا بالنفي والطرد من المساجد، هذا كلام تجده في شروح مختصر خليل ،ومالك رحمه الله شديد في باب الابتداع في الدين لا يعرف هوادة في ذلك ، ولكنَّالمتأخرين من المنتسبين إليه في الأندلس والمغرب، خالفوه في ذلك جهاراً، وفتحوا بابالابتداع في الدين، بقولهم بالبدعة الحسنة، وغلوهم في ذلك ، ولا يُعرف من شروطجَرَيان العمل في هذا إلا المكان والزمان على وجه التقريب، ومبتدع الحزب هو المهديابن تومرت زعيم الموحدين وهذا الرجل كان دجَّالا مشَعوِذا، ادَّعى المهدية وهو كاذب، وكم له من بِدَع جَرى بها العملُ كـ:(أَصْبَحُ ولله الحمد) في آذان الصبح، ولازالوا يقولونها إلى الآن ،والتهليل يوم الأحد ليلاً، ويومَ الخميس ليلا قبل صلاةالعشاء والصبح، ويَتَقاضَون على ذلك أجراً من الأحباس، وهذه بدَع . ومنها: قوله فيالعمل الفاسي:

والكَتْبِ بِالذَّهَبِ والتَّزْوِيقِ *** في الكُتْبِ وَالمَسْجِدِوَالتَّوْثِيقِ
تَحْلِيَةُ القَبْرِ وَكِسْوِةُ الحَرِير ْ *** لِلْصَّالِحِينَ،وَمَصَابِيحُ تُنِيرْ




وهذا تكفي حكايتُه عن التعليق عليه، ولو كان الإمام مالكحياً لَحَارَبَهم عَليها. ومنها: رفع الصوت بالذكر مع الجنازة ، وقد كَتَب فياستنكاره الفقيه الرهوني الوزاني رحمه الله "رسالة التحصن والمنعة" وهي مطبوعة ،ورد عليه المهدي الوزاني كعادته بِدَعوَى جَريان العمل ، وهو مخالف لعمل المسلمينقاطبة إلا المغاربة ، ومنها: بناء المساجد على القبور، وأن النفقة في ذلك مثابٌعليها كما أفتى بذلك المسناوي، رغمَ أنه يميل إلى الاجتهاد، ومع ذلك فإن البيئةوالتربية في الزاوية الدِلائية حيث كان صوفياً، وكان يتلمذ على الدلائيين، فهذهالآثار تسلطت عليه وأجبرته على فعل هذا المنكَر ، ومنها: جواز بيع الكتب في المساجدرغم دعاء النبيعليه الصلاة والسلام لمن فعل ذلك بقوله: « لا أربح الله تجارته» ,ومع ذلك يبيعونها،,ولَمَّا أنكرتُ هذا العمل بتطوان قبلَ أكثر من أربعين سنة، قيل لي بأن هذا مماجَرَى به العملُ في تطوان ، ومنها: بدع الجنائز، وهي كثيرة، تختلف من بَلَد إلىآخر، ولا سَنَد لها إلا جَريان هذا العمل . ومنها: جريان العمل بالتبقية في الجزاءوالكراء للرّباع والعَقار، وفيها من الظلم ما لا يخفىَ. ومنها: الإمساك قبل الفجربنصف ساعة أو ثلثها للتحري زَعَموا، مع مخالفته للأحاديث الحاضَّة على تأخير السحور , ومنها (النفَّار) و(الغيَّاط) في المساجد في رَمضان ، وهو عريق في الوثنية، لأنهشعار الهَندُوس البْرَاهْمة في الهند، وقد شدد النكيرَ عليهم فيذلك ابن الحاجالفاسي المالكي في "المدخل "، بل زادوا على هذا في فاس، فبنوا بُرجاً قرب القرويين أعلَى منصومعة القرويين (للنفَّار) و(الغيَّاط)، وهذه العاصمة العلمية للمغرب البَلَدالمبارك، ولو تتبعنا هذه المسائل لطال القولُ وتشعب ، وأنا أعتقد اعتقاداً جازماً،أن هذا العبث بالشريعة كان من الأسباب المباشرة في سُقوط الأندلس،قالها قبلي الشيخ رشيدرضا ، وتسلط النصارى على أهلها وإجلائهم عنها بعد تعذيبهم وإجبارهم على الدخول فيالنصرانية ، وأخبارهم في ذلك في التاريخ تُدمي القلب ، والله تعالى غيور، ولا بد أن ينتقم ممن ينتهك حرماته عمداً ويُغضِب الله بقوله وفعله، وقد قال تعالى: {فَلَمّا َآسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِين} . [الزخرف:55]


أما في المغرب فلما بَلَغ الحالُ إلى هذا الحد، تجلى انتقامُ الله تعالى في الاستعمارالذي أَلغَى هذا العملَ الضال، ونَسَخَه بِعَمل باريس الجاري به العملُ لا فيالمغرب فقط كما هو مشاهَد ومعلوم ، ولله الأمر من قبلُ ومن بعد .

ومن أراد زيادةتفصيل لهذه الأدلة التي بَنَى عليها الإمام مالك فلْيُراجَع:" الجواهر الثمينة، فيأدلة مذهب عالم المدينة"، للحسن المشاط المكي، وكتاب "أصول الفتوى والقضاء في المذهبالمالكي" لصديقنا الدكتور محمد رياض المراكشي، و"مباحث في تاريخ المذهب المالكي" ،و"محاضرات في تاريخه" كذلك لصديقنا الدكتور عمر الجيدي الغماري – رحمه الله- وعَفَاعنا وعنه ، وفي تاريخ المذاهب الأربعة ( نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الأربعة) لأحمد تيمور باشا- رحمه الله-

وبالله التوفيق

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.أهـ