تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : إشكالات العولمة والتحدي الحضاري بين الإسلام والغرب


barbaruse
2009-04-02, 10:25
إشكالات العولمة والتحدي الحضاري بين الإسلام والغرب

( موقف المفكرين العرب من العولمة )


للأستاذ الدكتور محمد إبراهيم الفيومي

إن العصر الذي نعيش فيه هو بلا شك عصر العولمة الثقافية، عصر احتدم فيه الصراع بينها وبين الثقافة العربية والإسلامية، ولا ينبغي أن نرفضه، وننأى عنه، أو أن نقاومه ونصطدم به، بل علينا أن نعمق رؤيتنا فيه حتى يمكننا أن نتعرف على الجوانب الإيجابية والسلبية منه. فعالم اليوم هو عالم التفاعل مع العصر الحاضر،عصر تبادل المعرفة والمعلومات، واكتساب الخبرة في العلوم الحديثة والتكنولوجيا المتطورة. وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تعايش العرب مع العصر الذي يعيشون فيه، يأخذون من العولمة الثقافية ما ينفعهم، ويطور مجتمعاتهم، وينمي قدراتهم المادية والبشرية .

جاء توجس العرب من العولمة بعد أن وطدت الولايات المتحدة أقدامها في إنشاء نظام اقتصادي عالمي جديد، ويليه نظام جديد للتجارة العالمية (الجات)، ثم نظام إعلامي جديد، شرع المنظرون الأمريكيون من الفلاسفة والمفكرين في التحدث بكل جدية واهتمام عن وضع نظام ثقافي عالمي جديد، الغرض منه السعي نحو توحيد الثقافات وتقريب شقة الخلافات بين الحضارات .

لذلك نرى أن المفكرين العرب مختلفون في تحديد موقفهم تجاه العولمة، والواضح أن بينهم خلافات سياسية وأيديولوجية وعقائدية وفكرية عميقة في تحديد موقفهم من ظاهرة العولمة وانعكاساتها على الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات العربية. ولقد انقسم المفكرون العرب حول العولمة إلى أربع فئات، لكل منها وجهة نظر تختلف اختلافًا بيِّنًا عن الأخرى في تنظيرها للعولمة .

*الفئة الأولى من المفكرين العرب: الرافضون الذين يرون أن العولمة تعبر عن أعلى مراحل الاستعمار التي أفرزتها الثورة التكنولوجية والمعلوماتية، وتهيمن على رأسمالية السوق، وتحكمها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية وشركاتهم العلمية والصناعية والتكنولوجية الضخمة متعددة الجنسية عابرة المحيطات، فعلى هذا تكون العولمة في مفهوم هؤلاء المفكرين ما هي إلا أداة سياسية إمبريالية استعمارية هدفها إذلال الشعوب، ومع خصوصيات ثقافاتهم، وحجم تراثها وأصالتها ومعتقداتها، والإضرار بهويتها القومية. كل هذا يؤدي طوعًا أو كرهًا إلى سيادة الدول الغربية على الدول النامية اقتصاديًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، ومن ثم يخشى هؤلاء المفكرون أن تدور تلك الدول في فلك الإمبريالية الأوربية والأمريكية، وترزح ثانية تحت ظل الاستعمار في ثوبه الجديد .

*الفئة الثانية من المفكرين العرب: الذين يرحبون بالعولمة، ويسعون وراءها ويشجعون تواجدها في الدول العربية. وهؤلاء لهم منطقهم وتنظيرهم الخاص بهم في رؤيتهم للعولمة. فهم يرون أن هذا العالم الذي نعيش فيه في وقتنا الحاضر، لا شك أنه غير عالم الأمس. ففي عالم اليوم يعيش الناس في عصر العلوم الحديثة، والتكنولوجيا المتقدمة، وعلوم الاتصالات الكونية، والمعلوماتية المعرفية ،وشبكات الرسائل الإلكترونية (الإنترنت) . وهو ما يعرف بعصر ما بعد الحداثة.

ومن أهم خصائصه: أنه لا يسمح بانغلاق الشعوب على نفسها، أو التقوقع داخل حدودها، أو الانكفاء على ماضيها، أو اجتزاء تراثها لتصبح سجينة له. ومن ثم ترى هذه الفئة من المفكرين العرب المحدثين أن العولمة تفرض تحديات كبرى على الأمم والشعوب لم تكن لها وجود من قبل، فانهيار الاتحاد السوفيتي، وانتصار الرأسمالية الأمريكية، وانبثاق النظام الاقتصادي العالمي الجديد وما تبعه من إقامة منظمة التجارة الدولية ( الجات)، والتعامل مع المصارف الدولية للنقد والتجارة، كل هذا فرض تحديات لم يكن لها سابق في مواجهتها، لذا لزم التعامل معها، والإفادة الإيجابية منها. فقطار التنمية الدولية يتحرك بسرعة فائقة مذهلة، وعلى الدول النامية القفز فيه، وأخذ مكان فيه. ولن ينتظر قطار العولمة المترددين من شعوب العالم الثالث الذين عجزوا عن اللحاق به. فالنهاية المنتظرة لتلك الشعوب التهميش وما يصاحبه من تخلف اقتصادي وثقافي وعلمي وتكنولوجي.

*الفئة الثالثة من المفكرين العرب: يمثلون التيار الحيادي الذي يدعو إلى إيجاد شكل مناسب من أشكال العولمة يتفق ومصالح وطموحات الدول العربية، فهى فئة وسطية توفيقية، تأخذ من العولمة ما يتفق مع مصالحها القومية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية . وبالمثل فإنها ترفض مالا يتفق مع تلك المصالح، فهي تقبل ما يساعد شعوبها على التطور والنمو في مختلف ميادين الحياة. فالعولمة الغربية في نظر هذه الفئة من المفكرين العرب لا تقبل كلها ولا ترفض جلها، إنها تتخير ما يناسب الأمة العربية ولا يؤدي إلى تخلفها عن ركب التطور والنمو، فهي ليست رافضة كل الرفض للعولمة بمفهومها الغربي ، كما رفضها المفكرون العرب من الفئة الأولى التي ترى العولمة ما هي إلا نظام استعماري من وضع دول غربية استعمارية رأسمالية إمبريالية، ومن واجب الأمة العربية رفضها والابتعاد عن التعامل معها. ولا هي رافضة بالمثل العولمة التي يتصورها المفكرون العرب من الفئة الثانية الذين يهرولون إلى الدعوة للعولمة الغربية، وإبراز محاسنها، وتشجيع الدول العربية إلى الأخذ بها دون مراعاة لمصالح الدول العربية والحفاظ على هويتها الثقافية .

*الفئة الرابعة من المفكرين العرب: تمثل تيار العولمة المحايد محايدة إيجابية، رؤيته برجماتية نفعية أداتية، وهدفه السعي إلى إيجاد شكل وسطي من أشكال العولمة باعتبارها ظاهرة تاريخية ينبغي على الدول العربية التعامل معها بحذر وفطنة، بحيث لا نأخذ من العولمة بمفهومها الغربي كل شيء، وبالمثل لا نترك كل شيء. فهي فئة تدعو إلى الوسطية بين التحيز الكامل والرفض الكامل للعولمة. ولذا فهم يرحبون بعولمة يفقد العرب فيها استقلالهم السياسي، وحريتهم الاقتصادية، ودون هيمنة من الثقافة الغربية أو إحساس بالتفوق العنصري أو الاستعلاء الحضاري، فالعولمة التي يدعو إليها هؤلاء المفكرون هي عولمة تؤكد السيادة الفكرية العربية،وترسخ الهوية الثقافية العربية توخيًا لإشاعة قيم التسامح الفكري وترسيخ الهوية الثقافية العربية .

*الفئة الخامسة من المفكرين الإسلاميين العرب: يرفضون أي شكل من أشكال العولمة في صورتها الحالية، ويدعون إلى عولمة إسلامية تقوي عرى المسلمين، وتحافظ على دينهم ومعتقداتهم وتراثهم، وترفع من شأنهم. فالمفكرون الإسلاميون يرفضون التسلطية الثقافية في العولمة، ويقاومون أي نموذج للثقافة الواحدة يضعه الغرب المسيحي والذي لا يصلح لكل الأديان والمذاهب. والكثير من هؤلاء المفكرين يرون أن الإسلام يدعو إلى العولمة ولكنها عولمة يستفيد منها مختلف الدول الإسلامية اقتصاديًّا وثقافيًّا دون التنازل عن المعتقدات والتقاليد والقيم الإسلامية.

على أي حال من خلال مواقف المفكرين العرب نستطيع القول: إن مفهوم العولمة يعد من أكثر المفاهيم المتداولة غموضًا في العشرين عامًا الأخيرة، تختلف فيه الآراء، وتتشعب فيه التفسيرات، وتتضارب فيه التفسيرات، وتتضارب فيه الاجتهادات. ولاشك أن هذا يرجع إلى حداثة استخدام المصطلح، وخاصة أن هذا المصطلح تندرج فيه عمليات مختلفة في نظم متشعبة منها : الاقتصاد والتجارة والمصارف والإعلام والثقافة والاجتماع . تلك النظم التي غالبًا ما يلح الغرب في تطبيقها كثيرًا ما تغلف بأهداف سياسية، وأغراض نفعية، يستفيد منها على حساب الدول النامية.

فالعولمة في مفهومها المستعمل حاليًّا التي وضعته الدول الغربية تعني هيمنة النظام العالمي على مختلف شعوب العالم، لتحل محل سيادة الدولة الوطنية على مقدرات مجتمعها كما كان الحال من قبل على مر التاريخ الإنساني، فالعولمة - كنظام عالمي جديد - تتجه نحو تحرير الاقتصاد والتجارة والمصارف والإعلام والثقافة والاجتماع من قبضة الدولة وسيطرتها على مؤسسات المجتمع ليدور في فلك العالمية والكونية بدلاً من فلك المحلية والوطنية والقومية .

ورغم انقسام المفكرين العرب حول العولمة فإن هناك قاسمًا مشتركًا يوحد بينهم وهو عدة محاذير من سيطرة العولمة وهيمنتها على الدول النامية :

*المحذور الأول : أن تؤدي الهيمنة إلى تنازل الدولة الوطنية عن حقوقها السياسية القومية تحت تأثير ضغط الدول الغربية عليها.

*المحذور الثاني : أن تؤدي الهيمنة إلى رضوخ الدولة الوطنية لما تمليه عليها الدول الغربية اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا .

*المحذور الثالث : أن تؤدي الهيمنة إلى استغلال الثروات الوطنية البشرية منها والمادية للدول النامية والإضرار بخطط التنمية بها .

*المحذور الرابع : أن تؤدي الهيمنة إلى الإخلال بالعقائد والتقاليد والقيم السلوكية للمجتمعات النامية؛ وذلك بهدف إحلال الحضارة الغربية محل الحضارة القومية .

*المحذور الخامس : أن تؤدي الهيمنة إلى سيطرة نموذج الثقافة الغربية لإحلاله محل الحضارة القومية، ويكون من نتيجة ذلك أن تتخلى الدول النامية عن الضوابط الثقافية التقليدية والتراثية والقيمية التي ورثتها منذ أجيال بعيدة .

ونحن في عرضنا لتلك المحاذير الخمسة من العولمة لا ندعو إلى الإعراض عنها أو مقاومتها، ولا نقصد بأي حال من الأحوال رفضها، أو الإعراض عنها أو الإقلال من شأنها أو من النفع الذي قد يعود منها، ولكننا نحرص كل الحرص على أن تتعامل الدول العربية مع العولمة بكثير من العقلانية والواقعية وإجراء الدراسات العميقة بشأنها، آخذة في الاعتبار وفي حساباتها تلك المحاذير حتى تصبح العولمة عاملاً إيجابيًّا في معاونة الأمة العربية على التطور والنمو والارتقاء، لا عاملاً يؤدي سلبًا إلى الهيمنة عليها، أو السيطرة على مقدراتها، أو تنازلها عن حقوقها القومية .

والذي زاد من حدة هذه المحاذير هو الكاتب الأمريكي فرانسيس فوكاياما في كتابه " نهاية التاريخ وآخر البشر" الذي أكد على أن العولمة طريق يؤدي إلى الهيمنة والتبعية .

ولكني أرى إذا كنا من أنصار ما نطلق عليه حوار الفكر، وحرية الرأي، ونقاوم ما نسميه فرض الأمر الواقع على الأمة العربية، فحتمية العولمة لا تعني قبول كل ما يضعه الغرب من أنظمة اقتصادية وثقافية واجتماعية أو غيرها، بل على المفكرين العرب أن يقوموا بدراسة عميقة لكل ما يقدمه الغرب تحت مظلة العولمة، نأخذ منها ما ينفعنا، ونترك ما يضر مجتمعاتنا العربية .

ونحن في كل هذا ندعو إلى حوار بناء وإيجابي مع المنظرين للعولمة ليس من أجل خلق صراع معهم، ولا استخفاف بآرائهم أو الإنقاص منها، ولكن لتوضيح الاستراتيجية التي بنيت عليها العولمة ومدى استفادة الدول النامية منها على المدى القريب والبعيد. ولنكن صرحاء في كل هذا .

وهذا الموضوع يندرج أيضًا ضمن موضوع التحدي بين الإسلام والغرب بكل مشاكله وقضاياه .

وكنا نرى أن مسألة العلاقة بينهما - كما تبدو - دائما كأنها تعبر عن سوء فهم كبير يغلفها ضباب كثيف لأنها لم تطرح من بابها الصحيح على مائدة البحث العلمي ، كما أن دراستها لم ترتكز على أسس التفاهم المشترك التي كان ينبغي أن تنهض عليها، الأمر الذي ترتب عليه ضياع الحقيقة وعدم وصولنا إلى نتائج مجدية أو حاسمة.

لذلك كان يساورنا معتقد مفاده: أن ثمة طريقًا آخر، أو طريقة أخرى أكثر فائدة بالنسبة لنا جميعًا من ذلك اللغط وذلك الضجيج الذي تبثه أجهزة الإعلام هنا وهناك، ولا يلبث أن يتكشف عن سراب .

ولا نظن أن الطريق إلى التاريخ، هو أسلوب العنتريات والمواجهات المكشوف في ظل اختلال كامل في موازين القوى، ليس ذلك هو الذي يقودنا إلى دخول حلبة التاريخ .

لذلك ومن أجل توضيح الصورة القاتمة بين مثقفي العرب والاستشراق نرى علنيًّا معالجة سوء التفاهم المشترك، وهو ما يسمى تصفية الجو الفكري والثقافي بين الجانبين من الضلال الثقافي الذى تغص به حلبة الصراع، ولن تتحقق تلك التصفية إلا إذا كان للجانب الآخر حق الكلام موضحًا موقفه.

إن النزاهة العلمية تقتضي منا إثبات الرأي، والرأي الآخر، لكي تتضح قيم التفاهم المشترك حول هذا الصراع الدائر، فنحن لا نخشى آراء الآخرين، ولا حتى انتقاداتهم فلدينا من الثقة الكافية بأنفسنا لخوض الصراع الفكري حول أهم القضايا التي تخص ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وهي كما تبدو لنا في عدة استفهامات تعكس في الوقت نفسه قضايا التحدي بيننا وبين الاستشراق. ومن قضايا التحدي :

أولاً - تنابز الإعلام الغربي بالإسلام والعرب :

درج الإعلام الغربي والأمريكي على تصوير الإسلام في صورة مارد لو خرج من قمقمه لهدد التقدم والحضارة والمدنية .

إذ العربي في نظر الغرب جاهل بطبيعته، والمسلم متعصب بطبيعته، في حين أن المسيحي متسامح بطبيعته، ولا يمكننا أن نتسامح لأننا لسنا أوربيين.

وهذه الأحكام المسبقة تحولت إلى صفات ثبوتية نهائية تلصق بالآخرين غصبًا عنهم، ولافكاك لهم منها، وبالتالي فهي تهدد المجتمع دائمًا بالنزيف الداخلي أو شبح الحرب الأهلية .

وتلك هي العقبة التي تراكم عليها ثوابت التحدي الحضاري، وذلك من اصطناع العرقية الغربية، وبقية لوثة استعمارية لم يتخلص الغرب منها ثم حملتها أكاديمية الاستشراق، ولا صلة لمثقفي العرب في وقف البث الهجائي الموجه لعالم الإسلام وخاصة أنها قضايا وليدة نزوات الغرب العصبية، وتلك أولى مهام تصفية الجو الثقافي، فهل يتحمل الغرب تبعة إيقاف ذلك النزيف الطافح ؟

إذا كانت التكنولوجيا صنعت تاريخًا للحضارة - حضارة الأدوات - فإن الحكمة هي التي سمت بالمفهوم الإنساني أن تسجل تاريخها السامي باستقرار السلام بين الشعوب . إن التاريخ لا يعطي نفسه بسهولة، ولن يدخله من أراد دخوله في ظل اختلال كامل في موازين القوى، متخذًا أسلوب المواجهات المكشوفة، والأسلحة الفتاكة المدمرة، والذين يندفعون وراء هذا الأسلوب بشكل مباشر أو غير مباشر يبغون تكسير أنفسهم، هذا هو الصراع الحضاري، أما أسلوب الحكمة مهما كان طويلاً وشاقًّا فهو دائمًا طريق السلامة والأبقى، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها كما ورد في الأثر الإسلامي .

ثانيًا - التهيؤ النفسي في قبول النقد والنقد الذاتي :

إذا كانت لنا وجهة نظر في الغرب وأدواته من الاستشراق فلماذا لا نحاول أن نعرف رأيهم في الموضوع وما هي ردودهم علينا وحججهم في الدفاع عن أنفسهم ؟

إن النزاهة العلمية تقتضي منا إثبات الرأي والرأي المضاد لكي تتضح جوانب المناقشة الصراعية التي فرضها الغرب على الشعوب النامية، وينبغي أن نمتلك الثقة الكافية بأنفسنا لخوض هذا الصراع الفكري حول أهم القضايا التي تخص ماضينا وحاضرنا، لقد آن الأوان أن نرتفع من مرحلة الصراع الفكري إلى مرحلة الحوار الحضاري، وآن أن ننتقل من الموقف الدفاعي والتغني بالذات أو الهجومي المتطرف إلى موقف المسؤولية العقلية والنضج الثقافي.

ثالثًا: عدم تكافؤ مستوى الخطابين الإسلامي والغربي :

إن معركة الخطابات التي تتناظر مع الرجم بالصواريخ ليست على مستوى الكفاية الثقافية بين الجهتين لأن الغرب أقوى من المسلمين، وليس بالضرورة أن تكون الحكمة الصائبة في جانب الأقوى الغالب إنما يلازمه التخويف والزجر والردع وفرض السيطرة الظالمة وفقدان الحكمة .

ولهذا السبب يبدو على الخطابات الإسلامية طابع الغضب والاحتجاج والاتهام والتشكيك، شأن المغلوب لا الغالب، والمدروس لا الدارس، أما خطابات الغرب فتبدو باردة هادئة متزنة، وأحيانًا متغطرسة ومتعجرفة شأن الغالب فهو المسيطر ليس فقط اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا، أو سياسيًّا وعسكريًّا وإنما منهجيًّا ومعرفيًّا .

رابعًا : تبادل عدم الفهم لثقافة الآخر :

إن الخطابات الغربية الصادرة عن الغرب ليست شيئًا واحدًا كما نتوهم أو كما يشاع أحيانًا في بيئاتنا الثقافية العربية أو الإسلامية، فالغرب ليس كتلة واحدة صماء، وإنما هو مشكل من عدة تيارات ثقافية وفكرية وحساسيات عرقية وسياسات تستبيح حق الشعوب، وسيطرة شائهة الوجه على موازين القوى .

وبالتالي فموقفه ليس واحدًا من الإسلام أو العرب، فالخلاف المنهجي يرشح دائمًا بموقف نفسي ، أو قل إنه مرتبط دائمًا بموقف نفسي، من الموضوع المدروس، سلبًا أو إيجابًا، فإذا ماقلنا على سبيل المثال بأن تخلف العربي يعود إلى عوامل تاريخية واجتماعية واقتصادية، فإن ذلك يعني أنه قابل للتغير، بخلاف القول بالتركيبة الذهنية للعرب، فإن ذلك يعني أنه خاصة أزلية لا فكاك منها، هكذا نجد أنه تترتب على الرؤيتين نتائج خطيرة.

كذلك فإن خطابات المثقفين العرب إزاء الاستشراق ليست كتلة واحدة منسجمة، وإنما هي مشكَّلة من عدة اتجاهات متغايرة ومتنوعة، بل ومتناقضة فليسوا كلهم أعداء للمنهجية العلمية والتفكير المنطقي كما يزعم الرأي العام الغربي أو الأوساط المهيمنة فيه، وإنما ينقسمون آراء شتى واتجاهات مختلفة مثلهم في ذلك مثل بقية البشر، فهم ليسوا من صنف والآخرون من صنف آخر، فالإنسان محكوم بالتاريخ والظروف الاجتماعية والاقتصادية، وليس محكومًا بصفات وراثية أو عرقية ثابتة .

وسبب عدم تلاقي الغرب بالشرق حضاريًّا هو :

أن الكثير من المثقفين لم يطلعوا بشكل كافٍ على الثورة المنهجية التي حصلت في الغرب نفسه، كذلك في المقابل لم تفد المنهجية الغربية الجديدة جديدًا في مواقف بعض المستشرقين – وهو ليس بالقليل – في دراستهم للإسلام والعرب، فهل هذا يسمى قصورًا أو تقصيرًا ؟

خامسًا - تأجيل البحث عن حقيقة الصراع الحضاري :

إنه من الصعب إجراء مناقشة رزينة وهادئة حول حقيقة التحدي الحضاري في ظل صراع ثقافي وسياسي وعسكري محتدم بين الطرفين إلى درجة أنه يصعب قول أي شىء بهدوء، أو بموضوعية واتزان، وبالتالي فالبحث عن الحقيقة يبدو عملية شائكة ومحفوفة بالأخطار، وبالتالي فإن تأجيل البحث عن حقيقة الصراع بحجة أن هذا الصراع يعني تأجيله إلى ما لا نهاية، ويعني أيضًا تأجيل البحث العلمي في الساحة العربية إلى ما لا نهاية، وهذا ولاشك يفيد أن التوصل إلى خطاب عربي إسلامي ذكي ومرن ومنفتح، عملية ليست سهلة على الإطلاق ضمن هذه الظروف بالذات، ظروف مجتمعات مضطربة خائفة، يطحنها الجوع، تجمعات مهددة بالنزيف الداخلي والحروب الأهلية .

سادسًا - هل يدرس الاستشراق "الشرق" وفق مفاهيم الغرب أو الشرق أو ماذا ؟ :

يرى الغرب أنه منذ أربعة قرون قام ببلورة المفاهيم الأساسية للبحث، وفي الغرب وحده، تبلورت مفاهيم التاريخ والتجريب والتنمية والتقدم ، أي كل ما يشكل الميراث الفكري للإنسان الحديث ويرى الغرب أن الشرق لم يساهم في الميراث الحديث، طيلة تلك الفترة، وتلك مفخرة يحسبها الغرب لنفسه، لذلك يرى الغرب أن من أغرب الغرائب أن يطلبوا – أي أهل الثقافات المدروسة من الغرب – التراجع عن مفاهيمه وتصوراته ومنهجياته عندما يدرس حضارات الشرق لمجرد إرضاء الشرق، والأشد غرابة كما يرى الاستشراق: أن يطلب منه تبني مفاهيم الشرق وتصوراته في عملية الدراسة، لاريب في أن هذه المفاهيم والتصورات ذات قيمة تاريخية عظيمة بل وعظيمة جدًّا ولكنها أصبحت الآن من قبل التطور للفكر البشري، جزءًا لا يتجزأ من التراث البشري العام وهي ذات قيمة تاريخية، فالواقع يجبرنا على الاعتراف بأننا لا نجد للشرق المعاصر أي مساهمة في بلورة المفاهيم الحديثة والأفكار الأساسية والتأويلات الحديثة للتاريخ والحياة، إنه لم يساهم طيلة القرون الأخيرة بأي شيء منها، ونحن لا نزال ننتظر منه أن ينهض ويقول لنا العكس ويكذب رأينا.

ولكن مادام الشرق في نظر الاستشراق لم ينجح حتى الآن في كسر هذه العقدة، عقدة الظنون والاشتباه والضغينة تجاهه والتي تسيء إلى تعاونه الصادق مع الغرب فسوف يظل الخلاف قائمًا، لكننا نرى أن الشرق ليس بهذه الصورة القاتمة إنما الشرق علم وثقافة ومنهج، وإذا كنا مقبلين على طريق عمل مشترك ومتقابلين على ورقة تحمل صيغة ثقافية مشتركة، فعلينا متآزرين أن نتفق على قواعد منهجية يقوم عليها الحوار المشترك وتكون مرجعية معيارية دون التلويح بالتنابز والإثارة .

لقد كان الاستشراق أولاً أحد الجوانب المتفرعة من عصر التنوير ثم الوضعية والمادية التاريخية الأوربية وهو يحمل رؤيته الأوربية إلى خارج نطاق الغرب للحضارة والتاريخ والسياسة والدين، وللمجتمع والبشر، وقد اعتبر في البداية كعلم واحد متكامل ثم سرعان ما انقسم إلى فروع وتخصصات مستقلة بعضها عن بعض ومتعلقة بمختلف الحضارات الخاصة بالشرق الأفريقي والأسيوي، كل هذه التخصصات راحت تحمل اسم التسمية العامة:" الاستشراق " وأصبحت هذه التسمية هي القاسم المشترك بينها .

غير أن الاستشراق اتهم من قبل الشرق بأنه المساعد والحليف للتغلغل الاستعماري الأوربي في أرض الإسلام، وحاكم الشرق على أصوله ومقاصده ومناهجه ونتائجه، وتلك مرحلة خلت حكم فيها الشرق وحاكمه واستبد بآرائه وكان وفق مناهجه هو، فكيف يطلب من الشرق أن يسلم قيادته مرة ثانية، بل وعليه أن يعلن وصاية الغرب على نفسه ؟ .

إن الاستشراق من خلال تاريخه في نظر الشرق، متهم بأنه كان دائمًا إما المستكشف الطليعي الذي يسبق الاستعمار ويمهد له الطريق ، وإما الحليف والمستشار التقني للتاجر الأوربي، أو السياسي الأوربي، أو للمستغل الغربي، إنه أحد المسؤولين إن لم يكن المسؤول الأول، عن الشرور التي أصابت الشعوب الشرقية من جراء الاستعمار، غير أن المستشرقين يرون أن هذا الاتهام قد ضخم وبولغ فيه، أما اعتزازهم بالجانب الآخر وهو الاستكشاف العلمي للحضارات في التاريخ العام للبشرية وقيمة هذه المساهمة، فإن هذه المساهمة وهي من مفاخر الاستشراق ينظر إليها على أنها ساعدت أوربا على تغلغلها الاقتصادي والسياسي في الشرق الحديث من أجل استعباده واستغلاله، وهذا لا ينكر. ولكن الاستشراق يرى من العدل والإنصاف ألاَّ تعمم هذه الحالات أو الأحداث الخاصة حتى لا تشمل الإدانة كل بحوث الاستشراق، ومثل هذا التعميم وهو من أخطاء المنهج نتيجة خلط الأمور، إذ من الخطأ والمغالطة في نظر الاستشراق المعاصر أن يكون الباعث الوحيد والأساسي لاهتمام أوربا بالعالم الشرقي من النواحي التاريخية واللغوية والأدبية أو أنه كان مرتبطًا بالمخططات السياسية والاقتصادية للاستعمار .

ويعترف الاستشراق المعاصر بأخطاء الرعيل الأول من المستشرقين الذين أقاموا في كنف الاستعمار، لكنه يرى أنه إذا ما تجاوز الشرق هذا الموقف المغلوط ضد الاستشراق وارتفع إلى مستوى التطور التاريخي للبحث العلمي وابتعد عن الانخراط في المحاكمات الجدلية فسوف يصبح الجو الثقافي خالصًا من المغالطات الثقافية ويحقق المزيد من التقدم والتطور .

أما إذا وقف الطرفان عند عقدة الظنون والاشتباه والضغينة تجاه بعضهما فسوف يسوء الأمر منقلبًا .

سابعًا - تجديد مناهج الإسلاميين :

إن تأخر المجتمعات الشرقية منذ بضعة قرون بالقياس إلى المجتمعات الغربية قد أدى إلى عدم تمكنها، حتى وقت قريب، ومن إنتاج العلماء والباحثين القادرين على إنتاج البحث العلمي، أقصد عدم تمكنهم من الاستفادة من تقدم العلم التاريخي وتطبيقه على تاريخهم الخاص بالذات، ومن المعلوم أن تطبيق النقد التاريخي على كل الثقافات والشعوب شيء ضروري، ولا يمكن التراجع عنه لأنه يمثل حركة التاريخ.

إن دخول الزملاء المسلمين إلى ساحة البحث العلمي مؤخرًا سوف يتيح إعادة التوازن هذه، وسوف يعين على تقديم صورة مدروسة دراسة علمية واضحة عن تلك المجتمعات المعنية من الداخل لا من الخارج فقط .

ونأمل أن يتم ذلك بروح التعاون والأخوة الصادقة بينهم جميعًا وذلك هو الواجب الثقافي .

هناك فرق - ولابد أن يكون هناك فرق - بين الطريقة التي يدرس بها المسلم المعاصر تاريخه، والطريقة التي يدرس بها المستشرقون، وبعض هذه الاختلافات يعود إلى تعلق بعض المسلمين بالمناهج القديمة لثقافتهم فقط وبعضها الآخر يعود إلى تمسك بعض العلماء الغربيين بمناهج معادية لدراسة الدين، ورغم ذلك فإننا نجد أن هؤلاء العلماء قد اختاروا موضوع دراستهم وتوجيه أبحاثهم طبقًا لحاجيات البيئات الاجتماعية التي ينتمون إليها، وآن الأوان أن يقوم المفكرون الإسلاميون بعبء رسالتهم – وهو مشروع قومي ديني – بتوضيح أنفسهم وشعوبهم وكيفية مواكبة العصر أو ملاحقته .

ثامنًا - الدعوة إلى إنشاء علم الاستغراب :

يرى المستشرقون أن نقطة اللقاء بين المستشرقين والشرقيين تتركز حول تعلم المسلمين المناهج الحديثة في البحث العلمي وهم بذلك يكملون مناهج الاستشراق في البحث وقد يصححونها.

ويرى الإسلاميون أن نقطة الالتقاء بينهم تتركز حول عدم إقحام المناهج المعادية للدين، فإن استجاب الاستشراق لذلك كملت حلقات التلاقي.

وإذا كان الإسلاميون ينزعجون من تطفلنا على مجال دراستهم وأنهم أولى بذلك منا فإنه ينبغي أن يعرفوا أيضًا أن الاستشراق الأوربي هو الذي أخذ المبادرة في العصور الحديثة لدراسة تاريخهم الخاص، وأنه لولاه لكانوا عاجزين عن أن يقولوا عن ماضيهم بطريقتهم الخاصة.

فنحن لا نزال نمتلك حتى الآن المزية المتفوقة التالية: إننا قادرون على الاهتمام بتاريخ شعوب العالم وليس فقط بتاريخنا الخاص.

بمعنى آخر: فإننا نقدم لدراسة كل من هذه الشعوب حسًّا تاريخيًّا عامًّا ولا يستطيع الشرقيون أن يمتلكوا ما يوازيه ماداموا عاجزين عن توليد علماء الاستغراب، وهكذا يتقاذفون سهام النقد الجدلي عن قوس خاب باريه .

يطرح فرانسيسكو جبرائيل سؤالاً كثيرًا ما يردده الشرقيون على سمع المستشرقين وهو : على فرض أن لكم بعض الفضل في دراسة ماضينا، فماذا تفعلون بحاضرنا ؟

فحاضرنا يطرح عليكم همه ومشكلته منذ الآن فصاعدًا ويفتح بيننا وبينكم أزمة أنه يشكل أزمة، فهذا الشرق يريد أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه إنه يريد أن يخرج من هامشيته، وهذا الشرق المنبعث الآن يقف أمامكم بكل مشاكله وحاجياته، ورغبته العميقة في تذوق ملذات هذا العالم وأطايبه، وهي رغبة لم تشبع بعد كما حصل عندكم، فما هي نوعية اهتمامكم به؟ وما هي الوسيلة التي ستستخدمونها لدراسته ومساعدته بعد أن قضى على قمعكم البشع واستعماركم؟ وكيف يمكنكم أن تطمعوا بعد الآن في كتابة تاريخنا وتحليل مشاعرنا وآمالنا عن طريق منهجيتكم القديمة المصبوغة بالعرقية المركزية الأوربية ؟

ومن المعروف أن هذه المنهجية أو ذلك التصور هو الذي أتاح لكم أن تعتبروا أوربا محور التاريخ العالمي ومركزه، هذا مع العلم أنها قد أصبحت الآن في طريق الانحطاط العرقي تلك التي أخرجت قضية العلاقات الثقافية بين الإسلام والاستشراق عن الموضوعية إلى المناظرة والمساجلات الجدلية .

إن هذه التساؤلات والاحتجاجات الغاضبة تعكس أسلوب الهياج الصارخ والعواطف الغاضبة التي حكمت لغة حوار ذميم وقع فيه الطرفان، لكن بعد دخول المفكرين الإسلاميين حلبة البحث العلمي، وأصبحوا ذاتًا فاعلة على مسرح التاريخ، وليس فقط ذاتًا سلبية منفعلة تدار أمورها من الخارج تستطيع أن تناقش قضاياها والقضايا المشتركة بهدوء وتعقل .

يقول كلود كاهين: إني أعترف بأن المستشرقين كانوا قد ركزوا اهتمامهم أكثر مما يجب – وفي غالب الأحيان – على بعض الفترات التاريخية أكثر من غيرها، وهي الفترات التي بدت لهم أكثر إشعاعًا وإشراقًا من غيرها، وهكذا أهملوا فترات تاريخية أخرى أكثر حداثة من حيث الزمن، وهي لا تقل أهمية من أجل فهم العالم الحديث للشعوب العربية والإسلامية، إذا ما نظر إليها من وجهة نظر معينة أو من زاوية أخرى، ولا ينبغي أن تقع في التطرف المعاكس فلاتهتم إلا بالتاريخ الحديث وتهملالقديم، فلكي ننمي الوعي القومي لشعب ما، ولكي نساهم في انطلاق ثقافته الجديدة فإن أفضل وسيلة ليست بالضرورة استخدام تاريخه الحديث وإنما تاريخه القديم والمنسي .

وهذا التحدي يرتهن علاجه بالنظر في المناهج الجامعية وفتح أقسام علمية تتابع بعمق وبجدارة العلاقات الثقافية بين الإسلام والغرب .