Ranouch Runaway
2012-12-15, 07:52
ليست هي المرة اﻷولى التي يتوجَّه فيها إلى الطبيب، فهو وإن كان ﻻ يُحبُّ زيارة اﻷطباء وﻻ يروقه تعليماتهم، وﻻ يستمر على اﻷدوية التي يعطونها حتى تنتهي الجرعة، بل بمجرد نشاطه يتركُ العﻼج، لكنه تردَّد على المشْفَى كثيرًا، كما يتردَّد عليه كلُّ الناس، لذا فهو يعرف جيدًا أن أول ما يبدأ به الطبيب، هو اﻷمور الروتينية: اسمك، عمرك، المهنة... إلخ.
جلس على الكرسي، وقد بلغ به الجَهد كلَّ مَبلغ، السُّعال ﻻ يتركه يتنفس بسهولة، وضع منديﻼً ورقيًّا في يده، ثم جعله على فمه وأنفه؛ حتى يخفف به حِدَّة سعاله.
السﻼم عليكم يا دكتور.
وعليكم السﻼم، ألف سﻼمة، تفضَّل.
اﻻسم؟
أجاب كالعادة: (أمل اليزيدي).
السنُّ؟
أَحَسَّ كأن شيئًا غريبًا اجتاح كلَّ جسمه حتى ألهاه عن الحُمَّى والزكام اللذين أتيا به إلى هنا، وفجأةً، أغمض عينيه وأخذ نَفََسًا عميقًا، وهو يتمتم:كم عمري؟! نعم! كم عمري؟!
تعجَّب الطبيب - الذي كان ممسكًا بقلمه؛ ليكتبَ المعلومات في الورقة التي بين يديه - من عدم سرعة اﻹجابة، كما هو عند الناس، وهمَّ بالضحك لتلعثُم المريض في جواب سؤال عن سنِّه، ثم إنه انتبه إلى أنَّ هيئة المريض تدلُّ على أنه ليس بأُمِّي، وﻻ معتوه، فرمى ببصره نحوه وهو ممسك بالقلم، فإذا بالمريض قد أسندَ ظهره إلى كرسيه، ورفع بصره إلى سقف الغرفة، كأنما هو عند طبيب نفساني يبثُّه شكواه، ويحكي له عن أزمة نفسيَّة يمرُّ بها.
تَمتمَ الرجل في داخله مرةً أخرى – وهو على حاله في جلسته -: كم عمري؟! تُرى كم عمري؟*
فوق عشر سنوات، وأنا ألهو كما يلهو الصبيان، ليس يعنيني من أمر الحياة إﻻ ما يعني كلَّ اﻷطفال من الحرص على اللعب، والفرح بلذيذ مطعوم وأنيق ملبوس.
ثم جاء الشباب وفورته وصَخبه ومُجونه وشهواته، فضاعت سنون أخرى كتلك السالفة وأكثر، ما سَلِمَ منها إﻻ "أفاويق" كنت أحرص فيها على القراءة اﻷدبية، وأنظم الشعر، وأكتب المقالة والقصة، انتبهت، فإذا أنا لم أستثمر مرحلة الصِّبا فيما ينفع، وها أنا في فورة الشباب أتابع تفاهات المباريات والمسلسﻼت، طرحتُ اللهو وأقبلتُ على القراءة واﻷدب، وأمّلت أن أصبح شيئًا: أن أغيِّر في مﻼمح الدنيا، كما تُغيِّر هي في مﻼمحي، أن أزيدَ فيها كما تنقص من عمري؛ آمنت أنه ﻻ بدَّ للمرء من هدف يسعى إليه وغاية يصبو نحوها؛ ما قيمة الحياة إذا عشناها دون أن تشعر بنا وبوجودنا؟!
صارت أمنيتي أن أصبح أديبًا كبيرًا، وشاعرًا مجيدًا، ومفكِّرًا مشهورًا.
حاولتُ أن أراسلَ بعض المجﻼَّت بأعمالي لكنه لم يُقدَّر أن ينشرَ لي شيء، آه! شعرتُ بالحسرة، هل أنا مخدوع في نفسي؟! هل أنا متميِّزٌ في اﻷدب حقًّا، فيمكنني احترافه يومًا ما؟ أم أنا مجرد هاوٍ، فليبحث في نفسه عن عمل يتقنه، واﻷدب ﻻ يزيد أن يكون من هواياته؟!
استسلمتُ للوظيفة الروتينية بعد تَخرُّجي، وظيفة لم أحبَّها يومًا ما؛ ولكني بقيتُ فيها إلى يومي هذا من أجل لقمة العيش، تمرُّ اﻷيام وراء اﻷيام، وهي تُؤذِنُ بضياع أحﻼمي واستسﻼمي لﻸمر الواقع، أديب هاوٍ وشاعر مُتكلِّف، ومرارة اليأس تقتلني؛ تخرَّج أصدقائي في الدراسة في كليات الطب والهندسة والشرطة، وأصبحوا اليوم أطباء مشهورين ومهندسين ناجحين وضباطًا مرموقين، وأنا في مكاني لم أحترف ما أحب، ولم أحب ما أحترف!
فجأة تحوَّل خطُّ سير حياتي مائة درجة؛ ذات مرة ألقى واعظ خطبة الجمعة عن قِصَرِ الدنيا وبقاء اﻵخرة، فدخلت كلماته في قلبي وسكنت الشغاف وأحاطت بعقلي، فانقلب أمري كله رأس على عقب.
ألقى الطبيب بالقلم من يده واسترخى في كرسيه، وتملَّكه العجب؛ لكنه لم ينطق بكلمة، وكأنما هو يسمع كﻼم الرجل الذي يقوله في داخله.
رأيت الدنيا على حقيقتها: قصيرة، قليلة، ﻻ تساوي شيئًا بجوار اﻵخرة، ما قيمة الشهرة والمجد في سنوات معدودة ﻻ يُعرف متى تنتهي؟!
صار همِّي إرضاء خالقي، إن الجنة هي الحلم الكبير، واﻷمل الحقيقي الذي ينبغي أن يسعى إليه كلُّ مؤمن بوجود خالقه، وإﻻ فﻼ معنى ﻹيمانه، هجرتُ لذَّاتي وشهواتي وعاداتي السيئة، لقد ولدتُ من جديد وابتدأتُ عُمرًا آخر، عرفت لذةَ الصﻼة والخشوع فيها، وسعادة قيام الليل ومناجاة خالقي في وقت السَّحر، عشتُ مع القرآن بقلبي وعقلي، فأحسست بنعيم الحياة ولذة العيش مع كلِّ ما كان يصيبني من متاعب وآﻻم، هذه هي حياتي الحقَّة.
من هنا فقط ينبغي أن يُبتدأ حساب سنوات عُمري، نسيت أحﻼمي القديمة تقريبًا، أظنُّها كانت أحﻼمًا أرضية رخيصة، قوامها أن أصبحَ مشهورًا يُشار إليه بالبَنان في وسائل اﻹعﻼم ودنيا الثقافة، ومثل هذه النية كيف تنفع صاحبها يوم القيامة؟! وكيف يكون له من الثواب اﻷخروي نصيب وهو لم يرد إﻻ الشهرة والسمعة؟!
لكن همَّتي التوَّاقة لم تستجب للسكون والهدوء أبدًا، أرادتْ أن تكسوَ أحﻼمي الماضية لباسًا شرعيًّا، فإذا بها تقول لي: ﻻبدَّ أن تترك في اﻷمة أثرًا يبقى بعدك، ﻻ بدَّ أن تقف حَجَر عثرة في وجه الملحدين والعلمانيين، ﻻ بدَّ أن أخلف من الكتب ما تنتفع به اﻷجيال القادمة، أن يكون لي دور في قضايا اﻷمة، ﻻبدَّ أن أكون من العلماء.
عكفتُ على القراءة الشرعية فيما لدي من وقت فراغ بعد وقت وظيفتي، وشرعت في تصنيف بعض الكتب، لكني دومًا كنت بين أهل العلوم الشرعية مجرد هاوٍ ولست بالمتقِن المحترف، لم تصبح كتبي بالكتب المؤثِّرة، وفاتتني اﻷدوار الحيوية في اﻷمة، فإنها ﻻ تكون إﻻ للعلماء المبرزين أو أصحاب المناصب العلمية، ولست من هؤﻻء وﻻ أولئك، قادني الحنين إلى اﻷدب إلى الرجوع لممارسة كتاباتي اﻷدبية، لكن قد فاتني القطار فيها، كما فاتني قطار العلم الشرعي، وها هي سنوات عُمري تبخَّرت أمام عينيَّ دون أن أصل إلى شيءٍ مما كنت أصبو إليه.
فتح المريض عينيه، فإذا بالطبيب يحدِّق فيه باستغراب شديد.
عفوًا عفوًا يا سيدي! يبدو أنني سرحت بعيدًا.
كنت تسألني عن عُمري، هاك هويتي، فاكتب السن منها!
منقول
جلس على الكرسي، وقد بلغ به الجَهد كلَّ مَبلغ، السُّعال ﻻ يتركه يتنفس بسهولة، وضع منديﻼً ورقيًّا في يده، ثم جعله على فمه وأنفه؛ حتى يخفف به حِدَّة سعاله.
السﻼم عليكم يا دكتور.
وعليكم السﻼم، ألف سﻼمة، تفضَّل.
اﻻسم؟
أجاب كالعادة: (أمل اليزيدي).
السنُّ؟
أَحَسَّ كأن شيئًا غريبًا اجتاح كلَّ جسمه حتى ألهاه عن الحُمَّى والزكام اللذين أتيا به إلى هنا، وفجأةً، أغمض عينيه وأخذ نَفََسًا عميقًا، وهو يتمتم:كم عمري؟! نعم! كم عمري؟!
تعجَّب الطبيب - الذي كان ممسكًا بقلمه؛ ليكتبَ المعلومات في الورقة التي بين يديه - من عدم سرعة اﻹجابة، كما هو عند الناس، وهمَّ بالضحك لتلعثُم المريض في جواب سؤال عن سنِّه، ثم إنه انتبه إلى أنَّ هيئة المريض تدلُّ على أنه ليس بأُمِّي، وﻻ معتوه، فرمى ببصره نحوه وهو ممسك بالقلم، فإذا بالمريض قد أسندَ ظهره إلى كرسيه، ورفع بصره إلى سقف الغرفة، كأنما هو عند طبيب نفساني يبثُّه شكواه، ويحكي له عن أزمة نفسيَّة يمرُّ بها.
تَمتمَ الرجل في داخله مرةً أخرى – وهو على حاله في جلسته -: كم عمري؟! تُرى كم عمري؟*
فوق عشر سنوات، وأنا ألهو كما يلهو الصبيان، ليس يعنيني من أمر الحياة إﻻ ما يعني كلَّ اﻷطفال من الحرص على اللعب، والفرح بلذيذ مطعوم وأنيق ملبوس.
ثم جاء الشباب وفورته وصَخبه ومُجونه وشهواته، فضاعت سنون أخرى كتلك السالفة وأكثر، ما سَلِمَ منها إﻻ "أفاويق" كنت أحرص فيها على القراءة اﻷدبية، وأنظم الشعر، وأكتب المقالة والقصة، انتبهت، فإذا أنا لم أستثمر مرحلة الصِّبا فيما ينفع، وها أنا في فورة الشباب أتابع تفاهات المباريات والمسلسﻼت، طرحتُ اللهو وأقبلتُ على القراءة واﻷدب، وأمّلت أن أصبح شيئًا: أن أغيِّر في مﻼمح الدنيا، كما تُغيِّر هي في مﻼمحي، أن أزيدَ فيها كما تنقص من عمري؛ آمنت أنه ﻻ بدَّ للمرء من هدف يسعى إليه وغاية يصبو نحوها؛ ما قيمة الحياة إذا عشناها دون أن تشعر بنا وبوجودنا؟!
صارت أمنيتي أن أصبح أديبًا كبيرًا، وشاعرًا مجيدًا، ومفكِّرًا مشهورًا.
حاولتُ أن أراسلَ بعض المجﻼَّت بأعمالي لكنه لم يُقدَّر أن ينشرَ لي شيء، آه! شعرتُ بالحسرة، هل أنا مخدوع في نفسي؟! هل أنا متميِّزٌ في اﻷدب حقًّا، فيمكنني احترافه يومًا ما؟ أم أنا مجرد هاوٍ، فليبحث في نفسه عن عمل يتقنه، واﻷدب ﻻ يزيد أن يكون من هواياته؟!
استسلمتُ للوظيفة الروتينية بعد تَخرُّجي، وظيفة لم أحبَّها يومًا ما؛ ولكني بقيتُ فيها إلى يومي هذا من أجل لقمة العيش، تمرُّ اﻷيام وراء اﻷيام، وهي تُؤذِنُ بضياع أحﻼمي واستسﻼمي لﻸمر الواقع، أديب هاوٍ وشاعر مُتكلِّف، ومرارة اليأس تقتلني؛ تخرَّج أصدقائي في الدراسة في كليات الطب والهندسة والشرطة، وأصبحوا اليوم أطباء مشهورين ومهندسين ناجحين وضباطًا مرموقين، وأنا في مكاني لم أحترف ما أحب، ولم أحب ما أحترف!
فجأة تحوَّل خطُّ سير حياتي مائة درجة؛ ذات مرة ألقى واعظ خطبة الجمعة عن قِصَرِ الدنيا وبقاء اﻵخرة، فدخلت كلماته في قلبي وسكنت الشغاف وأحاطت بعقلي، فانقلب أمري كله رأس على عقب.
ألقى الطبيب بالقلم من يده واسترخى في كرسيه، وتملَّكه العجب؛ لكنه لم ينطق بكلمة، وكأنما هو يسمع كﻼم الرجل الذي يقوله في داخله.
رأيت الدنيا على حقيقتها: قصيرة، قليلة، ﻻ تساوي شيئًا بجوار اﻵخرة، ما قيمة الشهرة والمجد في سنوات معدودة ﻻ يُعرف متى تنتهي؟!
صار همِّي إرضاء خالقي، إن الجنة هي الحلم الكبير، واﻷمل الحقيقي الذي ينبغي أن يسعى إليه كلُّ مؤمن بوجود خالقه، وإﻻ فﻼ معنى ﻹيمانه، هجرتُ لذَّاتي وشهواتي وعاداتي السيئة، لقد ولدتُ من جديد وابتدأتُ عُمرًا آخر، عرفت لذةَ الصﻼة والخشوع فيها، وسعادة قيام الليل ومناجاة خالقي في وقت السَّحر، عشتُ مع القرآن بقلبي وعقلي، فأحسست بنعيم الحياة ولذة العيش مع كلِّ ما كان يصيبني من متاعب وآﻻم، هذه هي حياتي الحقَّة.
من هنا فقط ينبغي أن يُبتدأ حساب سنوات عُمري، نسيت أحﻼمي القديمة تقريبًا، أظنُّها كانت أحﻼمًا أرضية رخيصة، قوامها أن أصبحَ مشهورًا يُشار إليه بالبَنان في وسائل اﻹعﻼم ودنيا الثقافة، ومثل هذه النية كيف تنفع صاحبها يوم القيامة؟! وكيف يكون له من الثواب اﻷخروي نصيب وهو لم يرد إﻻ الشهرة والسمعة؟!
لكن همَّتي التوَّاقة لم تستجب للسكون والهدوء أبدًا، أرادتْ أن تكسوَ أحﻼمي الماضية لباسًا شرعيًّا، فإذا بها تقول لي: ﻻبدَّ أن تترك في اﻷمة أثرًا يبقى بعدك، ﻻ بدَّ أن تقف حَجَر عثرة في وجه الملحدين والعلمانيين، ﻻ بدَّ أن أخلف من الكتب ما تنتفع به اﻷجيال القادمة، أن يكون لي دور في قضايا اﻷمة، ﻻبدَّ أن أكون من العلماء.
عكفتُ على القراءة الشرعية فيما لدي من وقت فراغ بعد وقت وظيفتي، وشرعت في تصنيف بعض الكتب، لكني دومًا كنت بين أهل العلوم الشرعية مجرد هاوٍ ولست بالمتقِن المحترف، لم تصبح كتبي بالكتب المؤثِّرة، وفاتتني اﻷدوار الحيوية في اﻷمة، فإنها ﻻ تكون إﻻ للعلماء المبرزين أو أصحاب المناصب العلمية، ولست من هؤﻻء وﻻ أولئك، قادني الحنين إلى اﻷدب إلى الرجوع لممارسة كتاباتي اﻷدبية، لكن قد فاتني القطار فيها، كما فاتني قطار العلم الشرعي، وها هي سنوات عُمري تبخَّرت أمام عينيَّ دون أن أصل إلى شيءٍ مما كنت أصبو إليه.
فتح المريض عينيه، فإذا بالطبيب يحدِّق فيه باستغراب شديد.
عفوًا عفوًا يا سيدي! يبدو أنني سرحت بعيدًا.
كنت تسألني عن عُمري، هاك هويتي، فاكتب السن منها!
منقول