المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جحا العربي


عبد الحليم القليعي
2009-03-26, 13:51
د . محمد رجب النجار



الباب الأول
شخصيّة جحا بين الواقع
التاريخي والرمز الفني

عبد الحليم القليعي
2009-03-26, 14:05
جحا العربي في ضوء
المصادر العربية

في ضوء غلبة الرمز الفني للنموذج الجحوي
في الأدب العربي B غاب عن بال الكثير من الدارس c
أن جحا العربي شخصية حقيقية ذات واقع تاريخي B
وأن نسبه ينتهي به إلى قبيلة فزارة العربية... إذ
ولد في العقد السادس من القرن الأول الهجري
وقضى الشطر الأكبر من حياته في الكوفة... وبذلك
تخبرنا كتب التراث العربي B وبخاصة كتب الأدب
والأخبار والتراجم والسير... وقد أشارت إلى اسمه B
وما يشتهر به من نوادر وحكايات B هو صاحبها...
وعلى الرغم B من اضطراب أخباره أحيانا في تلك
ا 3صادر إلا أنها تجمع في النهاية على وجوده
»التاريخي « بسمته وملامحه ا 3عروفة بيننا. وفي
ضوء تلك الأخبار وما نسب إليه من نوادر وأقوال
نحاول أن نجمع بينها في نسيج واحد يكشف عن
حقيقة تلك الشخصية B ونصيبها من الواقع
التاريخي والفني معا.
وعنايتنا بالواقع التاريخي لجحا B أو بالأحرى
للنموذج الجحوي قد لا تجد من يؤيدها من دارسي
الفولكلور B الذين يحتفون عادة بالرمز الفني ودلالاته
ووظائفه الحيوية أكثر من احتفائهم بالواقع التاريخي للشخصية B ما دامت
قد تحولت إلى uوذج فني B ورمز قومي B يحمل في أعطافه جانبا من
جوانب التعبير عن الجماعة B وقد اتخذ أسلوبا €يزا في الإبداع الأدبي
الشعبي هو أسلوب الحكاية ا 3رحة... التي عرفت في كتب التراث باسم
»النوادر « غير أن عنايتنا هنا بالواقع التاريخي جاءت لأكثر من سبب B فالوقوف
عند تاريخ هذه الشخصية-ما دامت حقيقية-يشكل حلقة من حلقات تطورها
إلى uوذج فني قومي B ويحسم في الوقت نفسه B ذلك الخلق أو الاضطراب
الذي يلحق بالنموذج الجحوي وأصالته في تراثنا العربي عامة B ومأثوراتنا
الشعبية خاصة... وما يترتب على ذلك من نتائج تساعدنا في تحليل البواعث
التي أدت إلى uو هذه الشخصية وتطورها إلى رمز فني B ولسوف نرى عند
التناول التاريخي بعض الحقائق الأدبية والفنية التي اقترنت بهذا النموذج B
وصارت معلما مشتركا ب c النموذج العربي وب c النماذج الجحوية اللاحقة...
وبخاصة النموذج c التركي وا 3صري. فضلا عن أن هذا التناول سوف
يتيح لنا-إلى حد ما-إمكانية تتبع النوادر ا 3نسوبة إلى النموذج الجحوي
بعامة B ودراستها ومعرفة أصولها B ومن ثم مقارنتها B والوقوف على مدى ما
أصابها من حذف أو تغيير أو إضافة... في ضوء ا 3زاج القومي الذي
أبدعها ورددها تراثا شفهيا أو مدونا لأجيال متعاقبة وقرون متطاولة.
و €ا هو جدير بالذكر أن »ابن الند «š ا 3توفى سنة ٣٨٥ ه ٩٨٧ م B صاحب
الفهرست (الذي انتهى من تأليفه سنة ٣٧٧ ه) يذكر لنا كتابا قائما بذاته
اسمه »كتاب نوادر جحا B« وقد وضعه في أول قائمة كتيب النوادر ضمن
»أسماء قوم من ا 3غفل Bc ألف في نوادرهم الكتب B ولا يعلم مؤلفها ١) « ). وإذا
كان ابن الند š قد صنف نوادره ضمن نوادر الحمقى وا 3غفل c فالذي يعنينا
هنا أن نوادر جحا العربي قد باتت في القرن الرابع الهجري من الشهرة
والذيوع B بحيث وجدت من يحفل جمعها وتدوينها وتصنيفها B ويأتي ابن
الند š نفسه ليضع هذا الكتاب B في صدر قائمة كتب النوادر التي أشار
إليها B €ا يؤكد مدى شيوعها وذيوعها آنذاك.
ويرى أحد الدارس c ا 3عاصرين ( ٢) أن هذا الكتاب B ر �ا كان عونا للآبي
(ا 3توفى سنة ٤٢٢ ه) صاحب نثر الدرر B وللميداني (ا 3توفى سنة ٥١٨ ه)
صاحب مجمع الأمثال B مستدلا على ذلك من وجود تشابه ب c كتابيهما في
انتخاب بعض النوادر وترتيبها B €ا يدل في نظره على أن الآبي وا 3يداني B
قد استقيا مادتهما عن جحا من مصدر واحد... غير أن هذا الاحتمال
ضئيل B ما دام ا 3صدر الأصلي مفقودا من ناحية B ولعل اقرب الاحتمالات
لتفسير ذلك التشابه-أن ا 3يداني نفسه B ر �ا كان قد استقى مادته من نثر
الدرر للأبي B ثم أضاف إليها ما سمعه في عصره من نوادر وأمثال B كان
جحا العربي بطلها.
وقبل أن uضي في ترجمتنا لجحا العربي B فانه من الأهمية �كان أن
نشير باد � ذي بدء إلى أصالة النموذج الجحوي العربي B وأصالة نوادره في
ضوء ما ذكرته كتب التراث حتى القرن السادس الهجري.
ومن ثم تتأكد أسبقيته-تاريخيا-على نظيره جحا الأتراك ا 3عروف بنصر
الدين خوجه B الذي لم يكن قد ظهر إلى الوجود بعد B وبذلك تكون مصادر
التراث العربي قد حسمت نهائيا ذلك الخلق أو الاضطراب ب c شخصيت Bc
وهو خلط-قد وصل بنا إلى حد إنكار وجود شخصية جحا العربي B أو
اعتبارها-في أحسن الأحوال-شخصية خرافية أو وهمية لا أصل لها B وهو
أمر مجاف للحقيقة والواقع معا...
عندما يشرع باحث B في الترجمة لحياة جحا العرب-وغايته تأصيل تلك
الشخصية من الناحية التاريخية-فسوف يجد نفسه ملزما بأن يتخذ منهجا
مغايرا-نوعا ما- 3ا ألفناه في التراجم ومن ثم فسوف نسمح لأنفسنا B بأن
نترجم لجحا ترجمة تتبع التسلسل الزماني للمصادر نفسها التي استقينا
منها مادة البحث العلمية B وغايتنا من وراء ذلك أن نتتبع التسلسل التاريخي-
قبل ا 3وضوعي أحيانا-لنمو هذه الشخصية وتطورها في وجدان الأمة العربية
تاريخيا وفنيا على السواء.
وفي ضوء ما ذكرت تلك ا 3صادر B فان أول خيط ب c أيدينا ’كن أن
نأخذ به هو ما أورده الجاحظ (ا 3توفى سنة ٢٥٥ ه = ٨٦٨ م) في كتابه
»القول في البغال « من نادرة بطلها جحا ( ٣) B دون أن يترجم له €ا يدل على
أن جحا كان معروفا في أوائل القرن الثالث الهجري. ومن ثم لم يكن
الجاحظ في حاجة للترجمة له B بالرغم من أن اسم جحا لم يتردد بعد ذلك
فيما ب c أيدينا من كتبه B أو لعله ترجم له-كما سنرى-في بعض ما ضاع من
كتبه. و €ا هو جدير بالذكر أن شارل بلا-عند تحقيقه لهذا الكتاب-كاد
يشك في نسبة هذا الكتاب إلى الجاحظ B بسبب تلك النادرة التي حاول أن
يعزوها أول الأمر إلى النساخ B لكنه عاد فرجح وجود جحا العرب اعتمادا
على رواية ابن الند š التي سبقت الإشارة إليها ( ٤).
وإذا ما تجاوزنا إشارة ابن الند š ا 3توفى سنة ٣٨٥ ه B فان الخيط
التالي الذي uسك به B يتمثل في إشارة الجوهري ا 3توفى سنة ٣٩٣ ه B في
قاموسه »الصحاح « عندما ذكر »أن أبا الغصن كنية جحا ٥) « ) وكانت تلك
الإشارة أول وأقدم خيط تحت يدنا يشير إلى كنيته... بالرغم من أن محقق
الصحاح ينفي-توهما-وجود علاقة ب c جحا صاحب النوادر B وب c جحا
صاحب الكنية التي ذكرها الجوهري... وهو نفى لا سند له كما سيتضح
بعد ذلك. وما نكاد uضي قدما حتى نستطيع أن نلتقط خيطا آخر B ورد
في مخطوط »نثر الدرر «في المحاضرات »للآبي ا 3توفى سنة ٤٢٢ ه حيث
يذكر « حكى الجاحظ أن اسمه نوح B وكنيته أبو الغصن B وأنه أربي على
ا 3ائة B وفيه يقول عمر ابن أبي ربيعة:
دلهت عقلي D وتلعبت بي
حتى كأني من جنوني جحا
ثم أدرك-جحا-أبا جعفر B ونزل الكوفة ( ٦).
ويروي الآبي بعد ذلك مجموعة من النوادر التي نسبت إليه. و €ا هو
جدير بالذكر أن الآبي B قد صنفها ب c نوادر الحمقى وا 3غفل Bc وهذا يعني
في رأيه أن جحا كان واحدا من الحمقى... غير أن الذي يعنينا B في ضوء
هذا اﻟﻤﺨطوط-ا 3علومة التاريخية التي تجعلنا نرجح أن جحا ولد في النصف
الثاني من القرن الأول الهجري-ما دام قد أربى على ا 3ائة وأدرك أبا جعفر
ا 3نصور-وهذا يعني-من ناحية أخرى B أنه عاش في أواخر الدولة الأموية B
ثم أدرك سقوطها اثر الصراع العسكري (الدموي) الذي نشب ب c الأموي c
والعباسي Bc وأنه نزل الكوفة أيام أبي جعفر. كما يعنينا أيضا من رواية
الآبي تلك الصفة التي اشتهر بها جحا في رأي معاصريه B وجاءت على
لسان عمر بن أبي ربيعة B عندما ضرب به ا 3ثل في الجنون B وأن الآخرين
يتلعبون به أو يتلاعبون معه... على اعتبار أن الجنون هنا لا يعني زوال
العقل B بل فساد التفكير.-كالحمق (اما-وهذا ما يؤكده الآبي نفسه كما
ذكرت-ودلالة تلك الصفة هنا تأتي على غاية الأهمية B إذ أن الجنون أو
الحمق يعني سقوط التكليف عن صاحبه وبخاصة التكليف الاجتماعي
الذي يثقل كاهلنا دائما-ومن ا 3عروف أن سقوط التكليف إذا شاع عن شخص
ما B يجعل من أقواله-مهما كانت صريحة أو جارحة أو حادة-مادة ثرة لا تنفد
للفكاهة والسخرية B دون أن تعرضه للعقاب ا 3ادي أو حتى للجزاء الاجتماعي
وحينئذ يكون �قدوره أن يقول ما يشاء 3ن يشاء B دون خوف أو تردد. وتلك
السمة-كما سنرى-تشكل واحدة من أهم سمات الشخصية الجحوية B من
الناحيت c التاريخية والفنية على السواء. وما دام الآبي قد ترجم لجحا في
معرض حديثه عن حمقى العرب ومغفليهم من ا 3عاصرين لجحا (وما أكثرهم
في هذه الفترة B الأمر الذي يستحق دراسة قائمة بذاتها B عن تلك الظاهرة
في كتب التراث وبيان دلالاتها). فذلك يعني أن العرب قد وسموا جحاهم
بالحمق B وأن شهرته طارت في الآفاق B أبان حياته B حتى ليضرب به ا 3ثل
في الحمق... وراح بعضهم يسخر منة أو يستهز � بأقواله B كما جاء في بيت
ابن أبي ربيعة وكما جاء فيما انتخب له الآبي نفسه من نوادر بلغت خمسا
وأربع c نادرة B غير أنه في ضوء هذه النوادر نفسها نستطيع أن نضيف
ملمح c آخرين من ملامحه B أحدهما أن جحا ليس أحمق أو ابله كما وسمه
الأبي... بل انه متحامق متباله كذلك B وشتان ما ب c الصفت c. فإذا كانت
الأولى تشير إلى غباء صاحبها فان الأخرى تؤكد ذكاءه. أما ا 3لمح الآخر
فيتمثل في استدعاء الخلفاء والقواد له للتسلية والترفيه من خلال التندر
عليه-الأمر الذي يزيد في شهرته في نظر اﻟﻤﺠتمع الشعبي على الأقل-ولنا
أن نرى صحة ذلك من خلال هذه النادرة التي نسبها الأبي ولم ترد منسوبة
لغير جحا في أي مصدر آخر B وأعني بها النادرة التي تثبت أو تروي قصة
لقائه با 3هدي B الخليفة العباسي B عندما أراد »أن يعبث بجحا وكان في
مجلسه B فدعا بالنطع والسيف B فلما أقعده في النطع وقام السياف على
رأسه B وهز سيفه B رفع جحا رأسه إليه وقال:-إحذر أن تصيب محاجمي
بالسيف B فإني قد احتجمت B فضحك ا 3هدي وأجازه ( ٧). إلا أن النادرة التي
تستحق الانتباه B وتؤكد شهرته من ناحية هي تلك التي تروى قصة لقائه من
ناحية أخرى بالقائد العسكري أبي مسلم الخرساني B الذي قضى على
الأموي Bc وقد سمع بجحا فاستدعاه... يقول الآبي:-أو بالأحرى تقول النادرة:
3» ا قدم أبو مسلم العراق B قال ليقط c بن موسى: أحب أن أرى جحا B
فتوجه يقط c إليه فدعاه B وقال: تهيأ حتى تدخل على أبي مسلم B وإياك أن
تتعلق بشيء دون أن تستأذن فإني أخشاه عليك.. قال نعم B فلما كان من
الغد جلس أبو مسلم ووجه يقط c إليه B فدعاه B وأدخل على أبي مسلم وهو
في صدر اﻟﻤﺠلس B ويقط c إلى جنبه B وليس معهما أحد B فسلم ثم قال: يا
يقط c أيكما أبو مسلم B فضحك أبو مسلم B ووضع يده على فمه B ولم يكن
قبل ذلك ضاحكا ٨) « ) وا 3تأمل لهذه النادرة سوف يلمح أمرين لهما ما
بعدهما B أولهما خشية جحا من دعوة هذا القائد له دون سبب جوهري B
وما ’كن أن يسفر عنه مثل هذا اللقاء. والآخر ما عهد عن أبي مسلم من
بطش وجبروت B لولا أن تحامق جحا B ففات الأمر على أبي مسلم على وفرة
ذكائه B حتى ليضحك (!) ولم يكن قبل ذلك ضاحكا كما تقول النادرة.
مثلما تردد اسم جحا في بعض مؤلفات القرن الثالث والرابع والخامس
للهجرة فانه قد تردد أيضا في بعض مؤلفاته القرن السادس وانه لا يزال
ذائع الصيت B حتى لنجد B ا 3يداني (توفي في سنة ٥١٨ ه) في »مجمع الأمثال «
يدون-فيما يدون-من أمثال عربية في الحمق هذا ا 3ثل..:- »أحمق من جحا ٩)« )
ثم يترجم له في جملة واحدة B وقد جاء فيها أن »جحا رجل من فزارة ١٠) « )
ولعل هذا أقدم مصدر ب c أيدينا يشير إلى هذه الحقيقة وهي أن جحا من
قبيلة فزارة العربية B وأن كنيته أبو الغصن B ويصفه بالأحمق B ثم يأخذ في
سرد بعض النوادر التي تؤكد خلة الحماقة فيه B »فمن حمقه أن عيسى بن
موسى الهاشمي مر به وهو يحفر بظهر الكوفة موضعا B فقال له: مالك يا
أبا الغصن? قال: إني قد دفنت في هذه الصحراء دراهم B ولست أهتدي إلى
مكانها B فقال عيسى: كان يجب أن تجعل عليها علامة B قال: قد فعلت B قال:
ماذا? قال: سحابة في السماء كانت تظلها B ولست أرى العلامة «. ومن
حمقه أيضا-على حد تعبير ا 3يداني- »أنه خرج من منزله يوما بغلس B فعثر
في دهليز منزله بقتيل B فضجر به B وجره إلى بئر منزله فألقاه فيها: فعثر
به أبوه فأخرجه وغيبه وخنق كبشا حتى قتله وألقاه في البئر B ثم إن أهل
القتيل طافوا في سكك الكوفة يبحثون عنه B فتلقاهم جحا B فقال: في دارنا
رجل مقتول فانظروا أهو صاحبكم B فعدلوا إلى منزله وأنزلوه في البئر B
فلما رأى الكبش ناداهم وقال: يا هؤلاء B هل كان لصاحبكم قرون? فضحكوا
ومروا. ( «(١١ وقالوا مجنون B كما قال الآبي نفسه في روايته..
ويستغل الأستاذ العقاد هذه النادرة للتدليل على أن خلة الحماقة وراثية
في جحا حيث يقول..: »لعل الخبر الذي جاء عن أبيه في خلال الكلام عنه-
في النادرة السابقة-يفسر بالوراثة ما فيه من خلة الحماقة B لان جحا لم
’نع شيئا يزيل الشبهة في أمر القتيل بنقله من الدهليز إلى البئر وأن أباه
لم يصنع شيئا يزيل الشبهة بوضع الكبش في مكانه B وكان لكل منهما
مندوحة عما صنع لولا الحماقة في الأب وفتاه ١٢) « ).
وملاحظة الأستاذ العقاد قد تكون صحيحة إذا افترضنا صحة نسبة
هذه النادرة لجحا من الناحية التاريخية وهي لم تذكر في نثر الدرر للآبي
وان ذكرت بعد ذلك في كتاب »حياة الحيوان الكبرى للدميري فقط « وبرغم
أن هذه النادرة لم تصادفنا منسوبة لغير جحا... لكن النادرة طريفة الفعل...
وليس أروع من أن ننسبها لجحا... والأسرة الجحوية... جحا الذي وصفه
أهل القتيل بأنه »مجنون « وهي الصفة نفسها التي رددها من قبل عمر بن
أبي ربيعة فيما رواه الآبي.
وقبل أن نترك هذا ا 3صدر يجدر بنا أن uيز ب c صفت c نسبتا إلى
جحا وهما الحمق... والجنون B فكلتا الصفت c نسبتا إليه... وشاعتا �عنى
واحد في مجالس السمر.. ولكن الفرق ب c الصفت c دقيق ولا سيما إننا
سنلتقي بهما كثيرا B يقول ابن الجوزي..:-
»معنى الحمق هو (الغلط في الوسيلة والطريق إلى ا 3طلوب مع صحة
ا 3قصود. بخلاف الجنون فانه عبارة عن الخلل في الوسيلة وا 3قصود جميعا.
فالأحمق مقصودة صحيح B ولكن سلوكه الطريق فاسد... ويب c هذا ما
سنذكره عن بعض ا 3غفل Bc فمن ذلك أن طائرا طار من أمير فأمر أن يغلق
باب ا 3دينة B فمقصود هذا الرجل-أي الأمير-هو حفظ الطائر ومن الخلل
في الوسيلة هو الذي وسمه بالحمق ( ١٣ ).

عبد الحليم القليعي
2009-03-26, 14:07
على كل حال فمن ا 3ؤكد أن ا 3ؤلف c القدماء ابتداء من ابن الند š
(ا 3توفي سنة ٣٨٥ ه) حتى ابن الجوزي في آخر القرن السادس الهجري
يؤكدون لنا أن الصفة الغالبة عليه هي الحماقة وأن شهرته قد طارت في
الآفاق حتى ليضرب به ا 3ثل كما رأينا B ثم يدللون على ذلك �جموعة من
نوادره B يرون أنها تؤكد حماقته B بينما هي في حقيقة الأمر تؤكد تحامقه
كذلك... ذلك أن ا 3تعامل لأقواله وأفعاله-كما وردت في هذه النوادر-يراها
تشير إلى أنها صدرت من إنسان متعقل B واع B فطن اتخذ من الحماقة أو
التحامق أسلوبا في التعبير في مواقف غير متعقلة أساسا... ويؤكد هذا
الرأي الذي نذهب إليه أحد ا 3عاصرين لجحا نفسه. كما سنرى وشيكا في
رواية »ابن الجوزي « (ا 3توفي ببغداد سنة ٥٩٧ ه) حيث روى في كتابه
(أخبار الحمقى وا 3غفل c) عن مكي بن إبراهيم ( ١١٦ ه- ٢١٥ ه) انه يقول:
رأيت جحا رجلا كيسا ظريفا B وهذا الذي يقال عنه-في الحمق-مكذوب
عليه B وكان له جيران مخنثون ’ازحهم و ’ازحونه B فوضعوا عليه ( ١٤ ) بل إن
ابن الجوزي نفسه B يرى في جحا ذلك حيث يقول.. »روى عنه ما يدل على
فطنة وذكاء ( ١٥ ). لكنه يعود فيقول... « إلا أن الغالب عليه التغفيل ( ١٦ ) كما
يظن في الوقت نفسه »أن بعض من كان يعاديه وضع له حكايات والله أعلم
( «(١٧ ولم يستطع ابن الجوزي أن يجزم بشيء B وان كان قد ترجم له في
»أخبار الحمقى وا 3غفل «c في الباب الثامن الذي جاء تحت عنوان »أخبار
من ضرب ا 3ثل بحمقه وتغفيله « فقال »ومنهم جحا ويكنى أبا الغصن ١٨) « ).
ونستطيع من رواية ابن الجوزي B أن نخرج بعدة نتائج أهمها. أن ابن
الجوزي نفسيه قد شك في حماقة جحا وجنونه B ورأى فيه رجلا كيسا
ظريفا B واستدل على ذلك برأي أحد ا 3عاصرين لجحا نفسه B غير أنه لم
’تلك من القرائن ا 3ادية ما يجعله يجزم بأمر-سوى الرواية التي نسبها
3كي بن إبراهيم ومن ثم عاد فرجح جانب الحماقة والغفلة على الذكاء
والكياسة ولعل ما أوقعه في هذا التردد هو هذا الكم من النوادر الذي يسم
جحا بالحمق B أو بالأحرى إجماع معاصريه وخاصة ا 3يداني على ذلك B
حتى لنراه يحاول تعليل ذلك بالتشكيك-لأول مرة-في نسبة هذه النوادر
نفسها إليه-وأنها من وضع »من كان يعاديه « وهو آمر ذو دلالة في طريق
تحول شخصية جحا من واقع تاريخي إلى رمز فني كما سنرى وشيكا.
لم أ (كن. من العثور على بعض مؤلفات القرن الهجري التي يحتمل أن
يتردد فيها اسم جحا ومن ثم فسوف نتجاوز هذا القرن-وهو القرن الذي
شهد سقوط الخلافة العباسية وغرق بغداد في بحار الدم وغرق هذا الكم
الرهيب من كتب التراث في مياه دجلة-لننتقل إلى القرن الثامن B فان أول
ما نعثر عليه هو كتاب »عيون التواريخ « لابن شاكر الكتبي ا 3توفي سنة ٧٦٤
ه حيث عثرنا فيه على ترجمة لجحا العربي B فقد ذكر ابن شاكر ( ١٩ )
في »من توفي من الأعيان سنة ١٦٠ ه « ما يلي:
»وفيها توفى دج c أبو الغصن بن ثابت اليربوعي البصري ا 3عروف
بجحا B رأى أنس بن مالك B وروى عن أسلم مولى عمر ابن الخطاب B وهشام
بن عروة B وروى عنه أبن ا 3بارك B ومسلم ابن إبراهيم والأصمعي B وآخرون B
قال النسائي: ليس بثقة. قال الشيرازي في الألقاب: انه جحا B والذي يقال
فيه مكذوب عليه B وجدان فتى ظريفا B وله جيران مخنثون ’ازحونه ويزيدون
عليه B وقال ابن حبان: والدج Bc يتوهم أحداث أصحابنا أنه جحا B وليس
كذلك B ولكن وفاتهما في سنة ست c ومائة B وأما جحا فاسمه نوح B قال
الحافظ ابن عساكر: عاش أكثر من مائة سنة B وفيه يقول عمر بن أبى
ربيعة:
دلهت عقلي وتلعبت بي
حتى كأني من جنوني جحا
وفي ضوء رواية ابن شاكر-أو بالأحرى ما جمعه ابن شاكر من روايات B
نجد أنفسنا للمرة الأولى أمام شخصيت c تاريخيت c لجحا: إحداهما تترجم
لجحا المحدث الذي كان من رواة الأحاديث النبوية B والأخرى B عن جحا
صاحب النوادر.. ويحاول ابن شاكر أن يفصل ب c الشخصيت c مستفيدا
من رواية ابن حبان الذي حاول أن ينفي وجود علاقة ب c الشخصيت Bc إذ
يقول »والدج c يتوهم أحداث أصحابنا أنه جحا B وليس كذلك « ويعني
بأحداث عصره ا 3تأخرين. ويعزى سبب الخلط أو الاضطراب إلى أن
»وفاتهما في سنة مائة وست c للهجرة « وما أن ينتهي ابن شاكر من ترجمته
لجحا المحدث B نراه يشرع في الترجمة لجحا صاحب النوادر معتمدا في
ذلك على ما رواه الآبي الذي استقاها بدوره €ا كتبه الجاحظ وليس
الحافظ بن عساكر ( ٢٠ ).
ويبدو أن ا 3تأخرين من العلماء قد وجدوا حرجا في نسبة نوادر الحمق
إلى هذا »التابعي « جحا B فزعموا أنه غيره.... أو على أحسن الفروض B هو
نفسه-كما قال الشيرازي في الألقاب-ولكنه ليس صاحب نوادر B وأن هذا
»الذي يقال فيه مكذوب عليه « وأنه »كان فتى ظريفا « ذكيا فطنا... وكل ما
في الأمر-في رأي الشيرازي نفسه أن كان لجحا »جيران مخنثون ’ازحونه
ويزيدون عليه .«
وا 3تأمل لهذه الآراء B يرجح أن جحا المحدث هو نفسه جحا صاحب
النوادر فالكنية واللقب كلاهما متشابهان وسنة الوفاة واحدة هي سنة ١٦٠
ه B وكلاهما كيس فطن B وكلاهما له باع في عالم مشهور في دنيا ا 3زاح B
وتذوق النوادر وإبداعها. الأمر الذي جعل الآخرين يتزيدون عليهما... بعبارة
أخرى B إن أوجه الشبه أكثر من أوجه الخلاف... €ا يؤكد ما ذهبنا إليه من
انهما شخصية واحدة لا شخصيتان. والحق أنني لا ادري كيف جاز هذا
الأمر على القدماء..? هل ﻟﻤﺠرد اختلاف في الاسم..? وإذا كان الأمر
كذلك B فما اسم جحا صاحب النوادر إذن? هذا ما لم تقطع فيه ا 3صادر
القد ’ة برأي. أليس €ا يجعلنا نرتاب في هذه التفرقة أن صاحب الحديث
نفسه »ليس بثقة « كما قال النسائي B ولعل مصدر التجريح في شخصه
وروايته-فيما أظن-قد جاء €ا تقوّله من نوادر وفكاهات لا تليق وراوية
الحديث الشريف B أو من €ازحته لجيران مخنث c تزيدوا عليه.. €ا يؤكد
أنها تفرقة ب c الشخصيت c لا أساس لها... وحتى لو أخذنا بهذه التفرقة B
وقلنا أن جحا المحدث يتسم بالذكاء والفطنة B وان جحا صاحب النوادر
يتسم بالحمق والغباء B فان هذا لن يتعارض مع التطور الفني للرمز الجحوي..
فما دام الجحوان قد اختلف أمرهما (عند ا 3ؤرخ c وكتاب السير والتراجم B
بله عامة الناس) فقد اختلطت سماتهما ومن ثم B فلا غرو أن يتسم الرمز
الجحوي بالذكاء والغباء... وبالفطنة والحمق معا B كما سنرى. وسواء أخذنا
بهذا الرأي أو ذاك B فلسوف تبقى لروايات ابن شاكر دلالاتها التاريخية
والفنية... فهي من ناحية قد حددت-لأول مرة سنة وفاة جحا B وما دام قد
عاش أكثر من مائة سنة-فهذا يعني أن جحا صاحب النوادر قد ولد في
أواخر العقد الخامس أو أوائل العقد السادس من القرن الأول الهجري...
ومن ناحية أخرى B فان روايات ابن شاكر تضيف لنا أبعادا جديدة B على
طريق تطور هذه الشخصية من واقع تاريخي إلى رمز فني B فهي تؤكد-مرة
أخرى-ذكاءه وكياسته وظرفه B ثم تضيف إلى ذلك بعدا جديدا B هو البعد
الديني B كما أن ابن شاكر B في نهاية ترجمته يؤكد لنا »أن نوادر جحا كثرة
جدا ٢١) « ). €ا يؤكد أن »التزيد « الذي أشار إليه الشيرازي B قد وجد سبيله
إلى الذيوع والانتشار منسوبا إلى جحا... وكان ذلك خطوة-لها ما بعدها-
في سبيل التطور الفني للشخصية الجحوية
يأتي ا 3تأخرون من العلماء وكتاب التراجم والسير B فيقررون تارة B وينفون
تارة أخرى ذلك الخلط من الشخصيت Bc جحا المحدث B وجحا صاحب النوادر B
فالدميري ا 3توفي سنة ٨٠٧ ه في كتابه »حياة الحيوان الكبرى « يذكر في
مادة داجن: »دج c بن ثابت أبو الغصن اليربوعي البصري B روى عن أسلم
مولى عمر B وهشام بن عروة. قال ابن مع Bc حديثه ليس بشيء B وقال أبو
حا ¢ وأبو زرعة B ضعيف. قال النسائي: ليس بثقة B و قال الدارقطني وغيره:
ليس بالقوى. وقال ابن عدى: روى لنا عن أبن مع c أنه قال دج c هو جحا.
وقال البخاري: دج c بن ثابت هو أبو الغصن سمع منه مسلم وابن ا 3بارك
كما روى عنه أيضا وكيع. قال عبد الرحمن بن مهدي لنا مرة: دج c هو
جحا « ويذكر الدميري بعد ذلك حديثا شريفا كان أحد رواته جحا ( ٢٢ ).
ثم أضاف الدميري بعد ذلك في آخر ترجمته لجحا: وقال حمزة ا 3يداني
جحا رجل من فزارة كنيته أبو الغصن B وهو من أحمق الناس ( ٢٣ ).وواضح أن
الدميري استقى مادته تلك من مجمع الأمثال للميداني. كما ذكر كذلك
ثلاث نوادر لجحا هي التي أوردها ا 3يداني فعلا في أمثاله.
ومن هنا تضيف رواية الدميري غير تأكيد هذا الخلط ب c الجحوين
للأسباب نفسها التي سبق ذكرها. وكذلك الفيروز أبادى ا 3توفي سنة ٨١٧
ه صاحب القاموس المحيط يقول في مادة دجن: ودج c بن ثابت كزبير أبو
الغصن جحا B أو جحا غيره ( ٢٤ ). وفي مادة غصن B وأبو الغصن دج c بن
ثابت بن دج Bc وليس بجحا كما توهمه الجوهري ( ٢٥ ).. وفي مادة جحا:
وجحا كهدى لقب أبي الغصن دج c بن ثابت ( ٢٦ ) B ووهم الجوهري ( ٢٧ )
فالفيروز أبادى يحاول أن يفصل ب c الاثن c لكنه لا يقطع برأي..
أما ابن ججة الحموى »ا 3توفي سنة ٨٣٧ ه « في كتابه: »ثمرات بلا أوراق «
لا يفرق بينهما بل يجمع €ا قيل عنهما... وان كان قد أورد ترجمته لجحا
ضمن مشاهير الحمقى. يقول:
»ومنهم جحا B قال بعضهم: من أذكياء الناس وإ uا كان بينه وب c قومه
عداوة فوضعوا عليه حكايات سارت بها الركبان.. وقيل انه كان من كبار
الحمقى وا 3غفل c ( «.(٢٨ ويذكر ثلاث نوادر نسبها لجحا بعد ذلك.
فجحا عند ابن حجة الحموي واحد من اثن c-أما من أذكياء الناس B وأن
العداوة التي كانت بينه وب c قومه هي السبب في وضع الحكايات عليه-كما
قيل عن جحا المحدث B من قبل-وأما من كبار الحمقى-كما قيل عن جحا
صاحب النوادر-وأن ابن حجة يؤيد الرأي الأخير بدليل أنه ترجم له ضمن
مشاهير الحمقى وان لم يجزم برأي كذلك.
أما »ابن حجر العسقلاني « ا 3توفي سنة ٨٥٢ ه في ترجمته لجحا في
كتابه »لسان ا 3يزان B« فانه لا يختلف مع ما ذكره ابن شاكر والدميري إلا في
أنه نفى قول ابن مع Bc حيث قال: »قد روى لنا عن يحيى بن مع c أنه قال:
الدج c هو جحا B ولم يصح عنه ( ٢٩ ) فابن حجر إذن يفرق ب c الجحوين.
وينفي €ا قيل عن ابن مع c.
وتبقى لهذه النصوص جميعا دلالاتها-وهي أن جحا شخصية ذات واقع
تاريخي B وان اختلفت الآراء بعد ذلك حول ما اشتهر به صاحبها من ذكاء أو
غباء... ولم يستطع القدماء-من الناحية التاريخية-القطع برأي حاسم في
هذا الصدد B الأمر الذي له مغزاه من الناحية الأدبية والفنية B وبخاصة في
مجال ا 3أثورات الشعبية-ذلك أن الأ uاط الفنية أو النماذج الأدبية-برغم
امتداد جذورها في التاريخ-تجد سبيلها ميسورا إلى »التنميط « الفني B كلما
انطمست أو اختلطت معا 3ها الشخصية ا 3ميزة ومن ثم اضطربت صورتها
من الناحية التاريخية B كلما أتاح لها ذلك-في مجال الإبداع الأدبي-ميادين
جديدة تتحول خلالها على يد الفنان الشعبي إلى uاذج وأ uاط أدبية
وفنية B بعبارة اكثر وضوحا... إن ذلك الخلط والاضطراب في الروايات
يساعدها على الانتقال من الواقع التاريخي إلى الواقع الفني B حيث يعاد
تشكيلها وصياغتها من جديد B في ضوء ما يرتأى لها من رموز ودلالات
جديدة.. فتتحول الشخصية حينئذ إلى النموذج الفني أو الأدبي الذي يصبح
حينئذ رمزا دالا على قضايا بعينها B كانت هي السبب في انتحاب هذه
الشخصية من التاريخ من ناحية B وتنميطها في ميدان الفن من ناحية
أخرى. واقرب مثال للتدليل على ذلك B أبطال السير الشعبية العربية B
فجميعهم ينتمي إلى الواقع التاريخي-الذي شابه الخلط والاضطراب-الأمر
الذي أتاح للقاص الشعبي B فرصة الانتحاب وإعادة صياغة أو تشكيل هذه
الشخصيات في أ uاط فنية €يزة B في ضوء القضايا التي أراد معالجتها
في كل ملحمة على حدة ( ٣٠ ).
وهذا ما حدث (اما مع الرمز الجحوي: إذ لم تختلف ا 3صادر القد ’ة
في حقيقة وجوده من الناحية التاريخية B ومن ثم أصالته من الناحية الفنية B
وإ uا الخلاف كان حول ما نسب إليه من ذكاء إذا اعتبرناه محدثا أو ما
نسب إليه من غباء B إذا اعتبرناه صاحب نوادر B أما وقد اختلط الأمر على
القدماء B فقد بات �قدور ا 3بدع الشعبي أن يجمع ب c صفاتهما ا 3ميزة B
دون مساءلة من جانب التاريخ B الأمر الذي حسمه بالفعل الضمير الأدبي أو
الوجدان الشعبي منذ أمد بعيد B عندما لم يشأ أن يفرق بينهما B فجعل
منهما-من الناحية التعبيرية- uوذجا فنيا واحدا هو جحا فحسب B تتسم
شخصيته الفنية بالجمع ب c هذين البعدين ا 3تناقض Bc الذكاء والغباء B
وبذلك يكون الواقع التاريخي B قد انسحب تدريجيا ليحل محله-الرمز الفني
لجحا B كما نعرفه جميعا B بطلا لنوادر الذكاء والغباء في آن B في التراث
العربي عامة B والإبداع الشعبي خاصة.
والى هنا-أي حتى منتصف القرن التاسع الهجري-ينبغي أن نضع في
الاعتبار أن شخصية نصر الدين خوجة ا 3عروف بجحا الروم B 3ا تظهر إلى
الوجود. تاريخيا أو فنيا.
لعل أهم مصدر نختتم به ترجمتنا لجحا العرب B هو »تاج العروس من
جواهر القاموس « للزبيدي ا 3توفي سنة ١٢٠٥ ه B وهذا ا 3صدر B وان كان
متأخرا نسبيا إلا انه يعتمد على ا 3صادر السابقة B وأخرى معاصرة له لم
نذكرها B €ا يؤكد ما ذهبنا إليه من قبل. يقول الزبيدي:
»... ونقل شيخنا عن شرح تقريب النواوي للجلال: الدج c بن الحارث
أبو الغصن B قال ابن الصلاح: قيل انه جحا ا 3عروف B والأصح أنه غيره.
قال: وعلى الأول مشى الشيرازي في الألقاب B ورواه ابن مع Bc واختار ما
صححه ابن حبان B وابن عدى. وقال: قد روى ابن ا 3بارك ووكيع ومسلم بن
إبراهيم عنه B وهؤلاء اعلم بالله من أن يرووا عن جحا ( ٣١ ).
قلت وفي ديوان الذهبي ( ٣٢ ): دج c بن ثابت أبو الغصن البصري B عن
أسلم مولى عمر ضعفوه ثم قال شيخنا: وفي كتاب ا 3نهج ا 3طهر للقلب
والفوائد للقطب الشعراني ما نصه: عبد الله جحا هو تابعي B كما رأيته
بخلط الجلال السيوطي B قال: وكانت أمه خادمة لأنس بن مالك. وكان
الغالب عليه السماحة B وصفاء السريرة فلا ينبغي لأحد أن يسخر به إذا
سمع ما يضاف إليه من الحكايات ا 3ضحكة بل يسأل الله أن ينفعه ببركاته.
قال الجلال: وغالب ما يذكر عنه من الحكايات ا 3ضحكة لا أصل له.. قال
شيخنا: وذكره غير واحد ونسبوا له كرامات وعلوما جمة ( ٣٣ )
ويذكر الزبيدي كذلك في مادة دجن: ودج c بن ثابت كزبير أبو الغصن
البصري ولقبه جحا كذا صرح به الدميري في حياة الحيوان. أو جحا رجل
غيره (غير جحا المحدث) نسبت إليه حكايات وهو الصحيح ٣٤) .« ) ونخرج
من تاج العروس �ا يلي:
أ- انه بالرغم من اعتراف القدماء بالواقع التاريخي للشخصية الجحوية
فان الخلط لا يزال قائما عندهم B فهل جحا المحدث هو صاحب النوادر أو
غيره...? وان كان اغلب القدماء يؤكدون انهما شخصية واحدة كما ذهبنا
من قبل.
ب- أن ثمة خلافا ب c القدماء حول اسم جحا المحدث نفسه فهو تارة
الدج c بن ثابت أبو الغصن B وهو تارة أخرى الدج c بن الحارث أبو الغصن B
بينما هو في رأي الإمام السيوطي والإمام الشعراني »عبد الله جحا .«
ج- انه كان تابعيا B وكانت أمه خادمة لأنس بن مالك.
د- أن السيوطي-في رواية الزبيدي-يؤكد أن لجحا المحدث بعض النوادر
ا 3ضحكة B وان كانت قد نسبت إليه نوادر كثيرة بعد ذلك B ليس هو بقائلها B
وهذا يعني أن جحا المحدث كان واحدا €ن عرفوا بالفكاهة B واشتهرت
عنه B بل صار رمزا لها B وان الوجدان الشعبي لم تعنه تلك التفرقة-إن وجدت-
ب c جحا المحدث وجحا صاحب النوادر B ما دامت النادرة الشائقة تجمع
بينهما.
غير أن أهم النتائج التي نخرج بها-من روايات تاج العروس-والتي نرى
فيها ملامح أو أبعادا جديدة ’كن أن نضيفها إلى الشخصية الجحوية كما
قررها القدماء أنفسهم هي:
١- أن الغالب على جحا-المحدث-السماحة وصفاء السريرة B ولا ينبغي-
كما يقول السيوطي والشعراني-لأحد أن يسخر به B إذا سمع ما يضاف إليه
من الحكايات ا 3ضحكة.
٢- إن القدماء نسبوا إلى جحا الكرامات.
٣- إن القدماء نسبوا إليه كذلك علوما جمة...
وهذا يعني أن جحا كان عا 3ا فقيها B تنسب إليه الكرامات (كرامات
الأولياء) وانه إلى جانب ما يتمتع به من حس فكاهي-يتوسل فيه بالذكاء
اللماح-كان يتسم كذلك بالسماحة وصفاء السريرة.... وهي صفات لا ندركها
في روايات الزبيدي فحسب بل تؤكدها النوادر التي نسبت إليه B وكان بطلا
لها...
و €ا هو جدير بالذكر أن هذه الصفات نفسها نراها تتمحور حول
شخصية جحا التركي وتشيح عنه B كما يتمحور هو حولها ويتسم بها B ولهذه
دلالة الفنية في هذا ا 3قام B ذلك أن الرمز الجحوي بعامة-من سماته المحورية-
أن يكون عا 3ا فقيها B سمحا B له كراماته وبركاته B صافي السريرة B نقي
القلب B لا يضمر الحقد لأحد... ولكنه يشفق على الناس من عبث الناس B
متوسلا في نقده للحياة والأحياء B بالقول الذكي الذي قد يتصوره البعض
نوعا من الحماقة والتغفيل.
ويهمنا في هذا ا 3قام-كذلك-أن نؤكد أن هذه السمات »التاريخية « التي
اتسم بها جحا العرب-كما حكاها الزبيدي-قد شاعت عنه B وانتقلت معه من
الشخصية التاريخية إلى الشخصية الفنية... وصارت-من ثم-ملامح €يزة
وأصيلة يتسم بها الرمز الجحوي B بحيث لم تعد تلك السمات »التاريخية «
تجد من يحتفل بها من العلماء-أو كتاب السير والتراجم B أمام ذيوع السمات
الفنية B الأمر الذي تضاءلت معه الشخصية التاريخية-إلى الحد الذي شك
معه الكثير في حقيقة وجودها B ورأوا فيها شخصية خيالية أو خرافية-
وذلك لانتشار أو ذيوع الشخصية الفنية B بسماتها وعناصرها المحورية التي
تتسم بها عادة النماذج الفنية الشعبية ا 3رحة-ذات-ا 3دلول القومي-في
تنميطها الفني ا 3ميز.
ومجمل القول B أن الحس الفني الفطري B للوجدان الجمعي العربي-
واعيا أو غير واع-لم يشأ أن يفرق ب c شخصية جحا المحدث B وجحا صاحب
النوادر B ورأى فيهما شخصية واحدة-أكدها البحث العلمي في النهاية-تحمل
ب c أعطافها تلك السمات وا 3لامح المحورية التي ينبغي أن تتميز بها النماذج
الفنية الشعبية ا 3رحة B فانتخبها رمزا-ذات دلالات قومية وجمعية-لفكاهاته
وسخرياته عبر العصور B وانتقل بصاحبها من واقعه التاريخي المحدد إلى
رمز فني €تد B يستقطب من خلاله كثيرا من الصفات وا 3عايير القومية
والإنسانية B وكثيرا من أ uاط التعبير والسلوك الشائعة في حياتنا اليومية B
ونسبها إلى جحا B ذلك الرمز الفني الأشهر B في أدبنا الفكاهي B كما نعلم.
وان كان ثمة من ملاحظة-تكررت من قبل-فهي أن ا 3صادر العربية كلها
لم تذكر أن جحا العربي B شخصية خيالية B أو انه هو نصر الدين خوجة
ا 3عروف بجحا الروم B كما حدث عند المحدث c من خلط-وإ uا نراها جميعا
تقطع B بوجوده B وتنسب إليه فكاهات لا حصر لها B قد يكون هو صاحبها B
وقد تكون موضوعة عليه B ولكنها جميعا في النهاية تجمع على كونه نبتا
عربيا أصيلا.