مشاهدة النسخة كاملة : من عجائب الاستغفار كتاب الكتروني رائع
الدر المكنون
2012-11-13, 15:40
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من عَجَائب الاسْتغفار
خالد بن سليمان بن علي الربعي
http://www.alfaris.net/up/80/alfaris_net_1328534017.jpg (http://www.alfaris.net/up/80/alfaris_net_1328534017.jpg)
حجم الكتاب 466 كيلوبايت
http://img42.imageshack.us/img42/3414/26394939.jpg (http://img42.imageshack.us/img42/3414/26394939.jpg)
http://img42.imageshack.us/img42/3457/87209487.jpg (http://img42.imageshack.us/img42/3457/87209487.jpg)
http://img42.imageshack.us/img42/6083/79379358.jpg (http://img42.imageshack.us/img42/6083/79379358.jpg)
لتحميل أضغط هنــــــــا
او
http://www.4shared.com/document/MBOZ7kES/___online.html
asmaabounoua
2012-11-13, 20:06
بارك الله فيك
محمد 1392
2012-11-13, 21:59
بارك الله فيك
عبد الله10
2012-11-18, 22:55
بـــــــــارك الله فيكم
الدر المكنون
2012-11-22, 13:44
وفيكم بارك الله
سرني تواصلكم
asmaabounoua
2012-11-30, 13:37
بارك الله فيك
الدر المكنون
2012-12-08, 23:32
وفيك بارك الله
بارك الله فيك اختي الكريمة و منك نستفيد
الدر المكنون
2012-12-09, 12:16
وفيك بارك الله
شكرا لتواصلك
LAHIMA08
2012-12-10, 21:53
بارك الله فيك
hiba-2012-
2012-12-13, 10:04
http://i825.photobucket.com/albums/zz177/habataca1/goodwayinlife/goodwayinlifecom89.gif
الدر المكنون
2012-12-13, 12:29
العفو اخية
وفيك بارك الله
شكرا لتواصلك
omar_gs13
2012-12-21, 14:10
جزاك الله خيرا و جعلها الله في ميزان حسناتك
الدر المكنون
2012-12-21, 17:33
جزانا الله واياكم كل خير
الإسلام بين الإفراط و التفريط
بسم الله الرحمن الرحيم
*****إن الحمد لله نحمده ونشكره ونثني عليه ونستغفره ونشهد أن لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه ولا رب لنا سواه ونشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وبعد.
أفضلية الدين الإسلامي
*****فإن دين الإسلام تعاليمه وسط بين الإفراط والتفريط، وذلك لأن الإسلام ورد وجاء منتظماً لمصالح العباد وكمله الله تعالى وجعله أتم وأكمل ما يرام وضمنه كل مصلحة يأمر بها وينهى عن كل ما يضر، فلا جرم إن كان هذا الدين هو الدين الذي فطر الله العباد على استحسانه والميل إليه.
*****فالله تعالى اختاره لنا دينا فقال: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)، أي اختاره ورضيه ديناً للعباد يدينون به ويتقربون به إلى ربهم، وأخبر أنه هو الدين الحق لا سواه، فقال تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) أي هو الدين الصحيح، وما سواه من الأديان فإنها منسوخة، فالأديان السماوية السابقة قد نسخها هذا الدين، وحل محلها وتضمن ما فيها من العبادات والمعاملات الملائمة فقام مقام كل ما سبقه من الأديان. وزاد على ذلك بما هو مناسب وملائم لحال العباد والبلاد. وأخبر الله سبحانه أن من تركه وخالفه فهو خاسر تائه ضائع، فقال تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)، وذلك لأن هناك ما يسمي أدياناً يدين بها من يعتنقها ويعتقدها من عباد الله ويزين لهم الدعاة إلى تلك الأديان أنها أديان حقة صحيحة ملائمة مناسبة، ولكن عند التأمل والتعقل يتضح أنها باطلة وأن الذي شرعها ودعا إليها هو الشيطان الرجيم.
*****فهناك من يدين الآن بدين النصارى، ولا شك أن الدين المسيحي كان ديناً سماوياً، ولكنه مؤقت، حيث إن المسيح بن مريم عليه السلام رسالته مؤقتة بنبوة وبإرسال محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي بشر به في قوله: (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد). وقد أخذ الله الميثاق عليه، بل وعلى كل الأنبياء أن يتبعوا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه). قال ابن عباس: "ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق: لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بعث محمد وهم أحياء أن يتبعوه ويؤمنوا به وينصروه". وثبت أيضاً أن دين النبي موسى الذي يدين به أتباعه من اليهود سابقاً كان ديناً سماوياً اختاره الله وفضله في ذلك الوقت لكنه مؤقت أيضاً بإرسال هذا الرسول النبي الكريم فثبت أن ذلك الدين منسوخ منذ أن بعث محمد، مع أن تلك الأديان التي هو دين اليهودية والنصرانية قد دخلها بعد أنبيائهم الكثير من التحريف والتغيير والتبديل. وما ذاك إلا أن الله تعالى استحفظهم كتبها ومراجعها، وتضمن حفظ شريعتنا بنفسه، فقال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). فتكفل الله بحفظ هذه الشريعة أن يدخلها شيء من الزيادة والتغيير. وأما الشرائع التي قبلها فكان حفظها إلى أولئك الحملة، كما في قوله تعالى: (بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء)، فجعلهم وكلاء على حفظه، ولم يتكفل بحفظه، فكان ذلك سبباً في وقوع تلك التحاريف والتغييرات والتبديلات في الشرائع السماوية مما جعلها غير ملائمة ومناسبة.
وبعد أن بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكمل الله له هذا الدين وأصبح الدين الباقي، أصبح الدين السماوي الذي لا يلائم العباد سواه.
*****وهكذا كل ما هناك من الأديان الباطلة المضلة قد نهى عنها دين الإسلام أو حذر منها، فإن الإسلام جاء وهناك دين أهل الوثنية الذين يعبدون الأصنام والأوثان من دون الله ويعتقدون أنها تقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم عند الله، ويصرفون لها خالص حق الله، فلما جاء الإسلام نهاهم عنها نهياً صريحاً، وحذرهم من التعلق بتلك الأوثان وأمرهم أن يعبدوا الله وحده، فجاء بنسخ عبادة ما سوى الله من نبي أو ولي أو صالح أو قبر أو حجر أو مدر أو غار أو صخرة، أو شجر، أو بقعة، أو غير ذلك مما يعظم أو يصرف له شيء من خالص حق الله، فهذا دين باطل، أي دين الوثنية، جاء الإسلام بنسخه والقضاء عليه.
وهناك أديان انتشرت في هذه الأزمنة وكثر الذين يعتنقونها مع كونها باطلة. فتجد هناك ديناً يتسمى أهله بـ"البوذيين"، وهم على عقيدة رجل يسمى "بوذا"، زينت له نفسه أنه على حق، فابتدع واخترع أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، في العقائد وفي الأعمال، ومع ذلك استمرت عقيدته وانتشرت منذ عدة قرون، ولا تزال تلك العقيدة الباطلة هناك من يدين بها ويقدسها ويعظم معلوماتها وما تضمنته.
وهناك ديانات منتشرة في كثير من البلاد، كالهندوس ونحوهم الذين يعبدون أوثاناً، أو معبودات سوى الله تعالى فهم داخلون في الوثنية.
وهناك ديانات منحرفة زين الشيطان لأربابها أنهم على خير فصاروا يدينون بها يُغَرّون بها بأنها مُسَلَّمة لكل عاقل كعقيدة سيئة منتشرة في المشرق يقال لها "القاديانية" ونحوها.
هذا من حيث الأديان الباطلة التي تخالف الإسلام كلياً. وهناك من ينتسب إلى الإسلام، ولكن لم يتحقق منه وصف الإسلام، ولا الحقيقة المطلوبة من دين الإسلام. فمثل أولئك أيضاً على ضلال مع كثرتهم، وكثرة من يدين بدياناتهم. والإسلام براء منهم، وهم بعيدون من تعاليم الإسلام.
*****فمن ذلك عقيدة الباطنية، الذين يجعلون للأعمال باطناً غير ظاهرها. فللعبادات وللعقائد عندهم باطن، ويعتقدون أن الشرع يريد أشياء غير هذه الظواهر. وهذه العقيدة الباطنية من أكفر الكفر وأضل الضلال لأنهم يخالفون الشرع في تعاليمه وفي اعتقاداته. وقد بقي على معتقدهم كثير من الفئات التي لا تزال موجودة إلى اليوم، يدينون بتلك العقيدة السيئة، كعقيدة الدروز الذين يوجدون في كثير من البلاد العربية المجاورة، وعقيدة النصيرية الذين يدينون بهذه العقيدة الباطنية. فمثل هؤلاء ولو تسموا بأنهم مسلمون، فإنهم ليسوا حقاً من المسلمين المطبقين لشعائر الإسلام، ولأجل ذلك نقول إن الإسلام الحقيقي هو الاعتراف بالله إلهاً ورباً وخالقاً، والديانة له بالعبادة، كما فسره الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، حيث يقول: "الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك، وأهله". فبين رحمه الله أن المسلم حقاً هو المذعن المنقاد المتذلل الذي متى علم أن هذه الخصلة من الإسلام أذعن لها واتبعها ولم يتخلف عنها. ومتى علم أن الإسلام حرم أو نهى عن هذه الخصلة ابتعد عنها وأذعن لله تعالى بتركها، هذا حقاً هو المسلم.
*****ونحمد الله أن حفظ علينا شعائر ديننا. فجميع المحرمات أدلتها موجودة في الشريعة، في الكتاب والسنة، وجميع الواجبات والعبادات المشروعة أدلتها موجودة أيضاً في الكتاب والسنة، فلسنا بحاجة إلى تحكيم العقول، ولا إلى أن نزن بأهوائنا ما يرفع إلينا وما يسوغه لنا أولئك الأعداء الذين يجعلون أهواءهم هي الميزان الحق فما وافق أهواءهم اتبعوه وشرعوه.
*****فإذا كان الإسلام قد تضمنته الشريعة، وأدلتها واضحة صحيحة فليس للمسلم أن يدين بأية قربة أو طاعة إلا بعد أن يثبت له دليلها. وليس له أن يحرم أية خصلة إلا بعد أن يتحقق دليلها من كتاب الله أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولقد تكفل الله سبحانه ببيان هذا الدين وجعله كاملاً، فأنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم في آخر حياته: (اليوم أكملت لكم دينكم). وكماله احتواؤه علي كل خير، ونهيه عن كل شر. ولقد بين وكمل تعاليمه وتفسيره. وإيضاح معانيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الذي كلفه الله أن يبين للناس هذا الدين، فقال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)، أي لتوضح لهم بالأمثلة والإيضاح التام ما أجملت أحكامه في القرآن، فإذا بينه النبي صلى الله عليه وسلم بأفعاله كان هذا البيان من الله تعالى: لأنه وحي وتشريع. فجاء هذا الإسلام بحمد الله بكل ما فيه خير ومصلحة، ونهى عن كل ما فيه شر ومضرة. كما روي عن بعض العقلاء من الأعراب لما دخل في الإسلام لأول دعوة ولأول ما عرض عليه فقال: "إني تأملت ما جاء به محمد فرأيته ما أمر بشيء وقال العقل: ليته نهى عنه وما نهي عن شيء وقال العقل: ليته أمر به" والمراد هنا العقول السليمة والفطر المستقيمة، فإنها تشهد بحسن هذا الدين، وباحتوائه على كل خير، وبزجره عن كل شر. وتشهد بمطابقته وملاءمته للمصالح، واحتوائه على كل ما ينظم الحياة تنظيما حقاً كاملاً صحيحاً، فكان ذلك هو السبب الذي اختاره الله لهذه الأمة، التي هي خير أمة أخرجت للناس، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، من ظلمات الجهل والضلال، إلى نور الحق والإيمان، فكان حقاً على عباد الله الذين هداهم الله وأقبل بقلوبهم إلى طاعة، وصدقوا الرسول الذي جاء به، كان حقاً عليهم أن يطبقوه أتم تطبيق، وأن يعملوا به، وأن يكونوا في العلم به عارفين بأحكامه، ومقاصده، غير زائدين فيه، ولا مضيفين إليه ما ليس منه، وغير مقصرين في شيء منه، ولا مخلين وناقصين بشيء من تعاليمه. وهذا معنى كون دين الإسلام وسطاً بين الأديان، فإنه وسط بين الأديان السابقة، وعقيدته السلفية وسط بين العقائد، وعبادته وقرباته، وأداؤها الحق وسط بين الإفراط والتفريط. فلما أن علم الله أن من أهل تلك الأديان قد غلوا وزادوا وتجاوزوا الحد، وأن بعضاً منهم قصروا وجفوا جاء بهذا الإسلام في وضع متوسط، لا إفراط ولا تفريط.
أمثلة على وسطية الإسلام بين الأديان السابقة
*
*****ولنأت على ذلك بأمثلة في الأديان، وفي العقائد، وفي الأعمال، حتى يتضح بذلك كون دين الإسلام وسطاً، لا إفراط، ولا تفريط.
*****فمثلاً عقائد أو أديان من قبلنا من الأمم، منهم من غلا، ومنهم من جفا، وجاء الله بالإسلام فجعله بين هؤلاء وهؤلاء.
1. ففي شريعة اليهود اعتقادهم في عيسى أنه ولد بغي،2. وأن أمه زانية حيث رموها ببهتان،3. كما قال الله تعالى: (وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً). جاءت النصارى فزادوا وغلوا فرفعوه عن طوره،4. وأعطوه ما لا يستحقه،5. فحكى الله عنهم أنهم قالوا: (إن الله هو المسيح بن مريم)،6. وحكى عنهم أنهم قالوا: (المسيح ابن الله)،7. وكذلك كفّر من قال إن الله ثالث ثلاثة،8. يعني الله وعيسى وأمه،9. كما في قوله تعالى (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) وقال تعالى: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله)،10. جاء الإسلام فتوسط،11. لا إفراط ولا تفريط،12. فالإفراط كان من الذين زادوا وقالوا: هو الله،13. أو ابن الله،14. أو ثالث ثلاثة،15. وأهل التفريط الذين قالوا: إن المسيح ابن بغي،16. بل شهد الإسلام بأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه،17. وجعله رسولاً كسائر الرسل،18. كما في قوله تعالى: (ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل،19. وأمه صديقة،20. كانا يأكلان الطعام). فشهد له بأنه رسول،21. وأقر،22. أو حكى كلامه في قوله تعالى: (وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل: إني رسول الله إليكم)،23. فهو رسول كسائر الرسل. وهذا هو القول الوسط،24. لا إفراط ولا تفريط.
25. وهكذا أيضاً في الأعمال،26. دين اليهود ودين النصارى بينهما تفاوت،27. ففي بعض الأديان الإفراط،28. وفي بعضها التفريط،29. فعندنا مثلاً،30. أن اليهود يرون الطلاق ولا يرون الرجعة،31. فمن طلق زوجته فلا رجعة له عليها،32. وأن النصارى يرون أن لا طلاق،33. فمتى عقد للمرأة على الإنسان فلا طلاق،34. ولا يحل له الطلاق،35. وجاء الإسلام فتوسط فجعل للإنسان أن يطلق متى شاء،36. وأن يراجع بعد التطليقة الأولى وبعد الثانية،37. وهكذا،38. وذلك من أجل أن الإنسان قد يستعجل في أمر يبدو له أن يتلافى ذلك بعد حين،39. ولهذا فالإسلام توسط بين هؤلاء وهؤلاء.
40. وكذلك في الأعمال نرى أن اليهود كانوا يرون أن القصاص حتم وليس هناك مجال للعفو،41. وأن النصارى يرون العفو حتما،42. وجاء الإسلام بالتخيير،43. تخيير ولي المقتول بين القصاص وبين العفو وأخذ الدية أو العفو مطلقاً،44. فصار متوسطاً،45. لا إلزام بالعفو،46. ولا إلزام بالقصاص،47. بل متوسط بينهما.
وهكذا توسطه في المُجازاة ونحوها. فالله أباح للناس المجازاة على الأعمال بمثلها في قوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين). فجعل الإنسان يباح له أن يعاقب من اعتدى عليه، كما في قوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)، بالمثل فقط، لا بالزيادة. ولكنه فضل الصبر بقوله: (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)، ولكن دين النصارى يأمر الإنسان بأن يعفو، وأن لا ينتصر، ولا ينتقم لنفسه أبدا. ودين اليهود يحكم عليه بأن يستوفي وأن يقتص، فالإسلام جاء بهذا الدين الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.
أمثلة على وسطية أهل السنة والجماعة
بين الفرق المختلفة
*
*****وبعد أن رأينا هذه الأمثلة في الأديان السابقة نأتي إلى أمثلة من العقيدة السنية لهذه الأمة. وذلك لأن الذين دخلوا في الشريعة الإسلامية قد اختلط وامتزج بهم من ليس بمحقق في الاتباع، ودخل في العقيدة وفي الإسلام من ليس منهم وانحرفت بهم الطرق وتفرقت بهم السبل. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وسئل من تلك الواحدة فقال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي. وإذن فعقيدة أهل السنة والجماعة هي العقيدة السلفية وهي العقيدة السنية، وهي الشريعة المحمدية والملة الإبراهيمية التي هدى الله إليها هذه الأمة.
*****إذا نظرنا في هذه العقيدة وإذا هي وسط، لا إفراط فيها ولا تفريط. وسط في العقائد الكثيرة. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: إن أهل السنة وسط في فرق هذه الأمة، كما أن الأمة وسط بين الأمم.
1. فهم وسط في باب القضاء والقدر بين المجبرة وبين القدرية. وذلك لأن هناك فرقتين رائغتين في باب القدر: إحداهما قد غلت وأفرطت وزادت. والأخرى قد فرّطت. ففرقة تقول إن الإنسان هو الذي يخلق أفعاله،2. وليس لله قدرة على هداية ولا على إضلال. وهؤلاء قد أشركوا. وفرقة جعلت العبد مقسورا ومجبوراً،3. وليست له اختيارات أبدا وعذرته بذلك. وجاء أهل السنة فتوسطوا وجعلوا له اختياراً،4. ولكن اختياره مربوط بمشيئة الله،5. (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله)،6. فهذا توسطهم في باب القدر.
7. هناك أيضاً توسطهم في باب أسماء الإيمان والدين. وذلك لأن هناك فرقتين منحرفتين،8. إحداهما قد فرّطت،9. والأخرى قد أفرطت. فمنهم المفرطون الذين يجعلون الأعمال ليست من الإيمان،10. وعندهم من صدّق بقلبه ولو لم يعمل فهو مؤمن كامل الإيمان. وآخرون كفّروا بترك الأعمال. فجاء المسلمون من أهل السنة فتوسطوا،11. فلا إفراط ولا تفريط. فجعلوا الإنسان يستحق اسم الإيمان واسم الإسلام ولو كان معه شيء من الذنوب،12. وشيء من المعاصي،13. فلم يخرجوه من الإسلام بالكلية كالخوارج وكالمعتزلة الذين يكفرون بكل ذنب. فمن أذنب أخرجوه من الإسلام،14. وخلدوه في النار،15. والعياذ بالله. ولم يكونوا كطائفة أهل الإرجاء الذين يجعلونه كامل الإيمان ويبيحون له الاستكثار من المعاصي ويعتقدون أنها لا تضر. بل لا إفراط ولا تفريط. نحن نقول: إن المعاصي لا تخرج العبد من الإيمان،16. ولكن عليه منها ضررا،17. فإنها قد تجتمع على العبد فتهلكه إلا أن يعفو الله عنه ولا يخلد في النار،18. ولكن يستحق دخولها ويعذب بقدر سيئاته إذا كان من أهل العقيدة وأهل الإسلام ولكن معه ذنب،19. فتوسط أهل الإسلام وأهل العقيدة السلفية فلم يكفروا بالذنوب كالخوارج،20. ولم يجعلوا المذنب كامل الإيمان كأهل الإرجاء. بل جعلوه مؤمنا ناقص الإيمان،21. وقالوا: هو مؤمن بإيمانه،22. فاسق بكبيرته.
23. وهناك أيضاً توسط في الصحابة،24. بل وفي غيرهم من أولياء الله. ونبدأ بالتوسط في الصحابة،25. فنقول: إن هناك طائفتين في الصحابة منحرفتين،26. إحداهما قد فرطت،27. والأخرى قد أفرطت. وأهل السنة وسط بينهما،28. لا إفراط ولا تفريط. ففي الصحابة،29. بل وفي أهل البيت خاصة فرقتان،30. فرقة تكفرهم وتستبيح دماءهم،31. ويقال لهم النواصب الذين نصبوا العداوة للصحابة وأخرجهم من الإسلام. وفرقة تغلوا فيهم وتجعل عليا هو الله،32. أو هو الرسول أو أحق بالرسالة،33. وتعبده وتعبد ذريته من بعده من دون الله. وهذه الفرقة هي الرافضة الذين يتسمون بأنهم شيعة علي،34. يعني أنصاره. وكذبوا فليسوا بشيعته،35. بل هم أعداؤه وأعداء سيرته وطريقته. وأهل السنة توسطوا لا إفراط ولا تفريط. فقالوا: إن علياً وأولاده وأهل بيته لهم حق الولاية والصحبة والإسلام والأسبقية والقرابة،36. ولكن لا نفضلهم على الخلفاء الذين قبل علي،37. ولا نغلوا فيهم أو نمدحهم بما ليس فيهم،38. بل لهم هذا الشرف والقرابة ولا يستحقون أو يوصفوا بما لا يستحقونه هم ولا غيرهم،39. سواء من حق الله أو من حق الرسول عليه الصلاة والسلام. فلم يزيدوا ويغلو كغلو الرافضة الذين جعلوا علياً إلهاً،40. حتى قال بعضهم: أشهد أن لا إله إلا حيدرة الأنزع البطين،41. وحيدرة يعني علياً،42. وبعضهم يدعي أنه أولى بالرسالة،43. ويزعم أن جبريل عليه السلام خان الأمانة،44. وكان قد أرسل إلى علي فأوصل هذه الرسالة إلى محمد. فهؤلاء قد زادوا وغلوا. وجاء الطائفة الثانية الذين كفروا وسبوا علياً ومن معه وأخرجوهم من الإسلام فجفوا،45. وجاء أهل السنة فكانوا وسطاً يبن الغلو والجفاء،46. بين الإفراط والتفريط،47. فجعلوه صحابياً جليلاً،48. سابقاً،49. من السابقين الأولين له قرابته وله صهره ،50. وله أفضليته،51. ولكن لا نعطيه حقاً من حقوق الله،52. ولا حقاً من حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم،53. ولا نغلو فيه فوق ما يستحقه هو أو غيره من حق الله.
*
وهكذا أيضاً توسطهم في الأولياء والصالحين، وذلك أن هناك، طائفتين متطرفتين في أمر الأولياء طائفة قد غلت، وطائفة قد جفت. فالطائفة الذين غلوا هم الذين يعبدون الأولياء. فالولي عندهم هو الرجل الصالح الذي قد حصل له من القرب ومن الصلاح ما جعله محبوباً عند الله وأنه ولي من أولياء الله يجري الله على يديه من خوارق العادات ما لم يجره على يدي غيره. فقالوا: هذا الولي يستحق منا أن نقدسه، فصاروا في حياته يغلون فيه، فيتمسحون به وبثيابه ويتبركون بما مسه بالنعل وبغيره، وساروا بعد موته يعكفون عند قبره، ويتمسحون بقبره، ويصلون عنده، ويعتقدون أن للصلاة عنده مزية وفضيلة، وأنه يشفع لهم في تكفير سيئاتهم وفي قبول صلواتهم وفي مضاعفة حسناتهم فيعملون عند قبره من الأعمال ما لا يصلح أن تكون إلا لله وحده. فهؤلاء قد غلوا وتجاوزوا حدهم وطورهم.
*****والطائفة الثانية هم الذين لا يرون لعباد الله الصالحين قدرا، ولا يقيمون لهم وزنا، فلا يحبونهم، ولا يتبعونهم، ولا يقتدون بهم، ولا يتبعون سيرتهم، ويحقرون شأنهم، ويحتقرونهم في أعمالهم، ويعتقدون أنهم -كما يعبرون- أهل تشدد أو أهل جمود، أو أهل رجعية أو تقهقر، أو ما أشبه ذلك من عباراتهم السيئة، فهؤلاء قد فرطوا، وأولئك قد أفرطوا وزادوا، فجاء أهل السنة فتوسطوا في باب أمر أولياء الله تعالى، فقالوا: نحن نحبهم، لأن الله تعالى يحبهم، بل ونحب كل من يحبه الله من الصالحين والمؤمنين والأتقياء، ولكن محبتنا لهم لا تصل إلى أن نتمسح بتربتهم، ولا تصل المحبة إلى أن نصرف لهم شيئاً من حق الله، أو أن نذبح لهم أو أن نطوف بأضرحتهم، أو ندعوهم مع الله أو دون الله. بل محبتنا لهم تستدعي أن نبحث عن سيرتهم وسنتهم فنعمل بها، حتى نكون مثلهم، فإذا رأينا أنهم يتهجدون بالليل تهجدنا، وإذا ذُكِرَ لنا أنهم يكثرون من القراءة والخشوع أكثرنا من ذلك، وإذا كان من سيرتهم أنهم يدعون الله ويرغبون إليه دعونا الله كذلك، وإذا كانوا يذكرون الله على كل حال ذكرنا الله كذلك، حتى نكون أولياء كما كانوا أولياء، فإنهم بشر كما نحن بشر، فكيف نسمح لأنفسنا أن نكون دونهم، بل نحبهم وتحملنا محبتهم على أن نعمل بعملهم، وأن نصلح من أعمالنا ما أصلحوه، فكلهم نحبهم وتحملنا محبتهم على أن نقتدي بأفعالهم. فإذا كنا كذلك فإننا متوسطون بين هؤلاء وهؤلاء، لا إفراط ولا تفريط. فهكذا جاء دين الإسلام فالذين غلوا وزادوا وقعوا في الشرك، وذلك لأنهم عظموا هؤلاء المحبوبين، وجعلوا لهم شيئاً من حق الله أو صرفوا لهم ما لا يصلح إلا لله. فإن التعظيم عبادة والعبادة لله وحده، لأن العبادة هي التذلل، فإذا كانوا يتذللون عند تلك الأضرحة ويخضعون ويخشعون، فذلك عبادة. وإذا كانوا يذبحون لها وينذرون فذلك تعظيم وعبادة، وإذا كانوا يدعونهم ويهتفون بأسمائهم فإن الدعاء مخ العبادة. وإذا كانوا يتمسحون ويطوفون بقبورهم ويطيلون الإقامة فإن ذلك تعظيم وذلك حقيقة العبادة. فهؤلاء: الذين غلوا قد أصبحوا بغلوهم مشركين حيث أشركوهم مع الله، مع أنهم لا يرضون أن يشرك بهم. فالمسيح عليه السلام بريء من شرك من أشرك به، وهكذا كل من عبد من دون الله، وهو لا يرضى بريء من شرك من أشرك به، وفي يوم القيامة لا بد أن يتبرؤوا منهم، ويقولون: نحن برآء من أفعالهم، كما قال تعالى عن الملائكة: (ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة: أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون؟ قالوا سبحانك، أنت ولينا من دونهم، بل كانوا يعبدون الجن، أكثرهم بهم مؤمنون). فأخبروا بأنهم -ولو كانوا عبدوا الملائكة - ما رضوا بذلك منهم ولا أحبوا ذلك. وإنما الشياطين *والجن هي التي سولت لهم وزينت لهم أن يعظموهم وأن يعبدوهم وأن يؤمنوا بهم. وإلا فأنبياء الله ورسله وأولياؤه والصالحون من عباده بريئون من شرك من أشركهم مع الله سبحانه وتعالى.
*****وبالجملة فإن المسلمين أهل العقيدة السلفية قد توسطوا في أولياء الله فأحبوهم محبة قلبية، وحملتهم محبتهم على أن تتبعوا أخبارهم ودونوا سيرتهم ونظروا في الأشياء التي كانوا يعملونها، فعرفوا أنهم ما صاروا صالحين إلا بسبب زهدهم في الحرام وبعدهم عنه، وتقربهم إلى الله بأنواع القربات، فقالوا: هذا هو سبب صلاحهم فلماذا لا نفعل كفعلهم حتى نكون مثلهم؟ حتى نصلح كما صلحوا، حتى نكون أولياء الله كما كانوا أولياء الله يحبهم الله تعالى ويوفقهم ويعينهم، فنفعل الأفعال التي أحبهم الله من أجلها حتى يحبنا كما أحبهم، وحتى يعيننا كما أعانهم ويهدينا كما هداهم. هذه عقيدة السنة.
أمثلة من الوسط في الأعمال والعبادات
*
*****هذا كله فيما يتعلق بالعقيدة وبعد ذلك لا بد أن نذكر أمثلة من الأعمال. وذلك لأن هناك أيضاً أعمالاً من الشريعة الإسلامية جاء الإسلام فيها بطريقة حسنة فأدخل الشيطان على بعض الناس الغلو والإفراط والزيادة، وأدخل على بعضهم التقصير والتفريط والنقصان. وذلك كله وسوسة من الشيطان وتسويل لهم، حتى لا يفعلوا الدين كما جاء.
1. ونبدأ بمبادئ العبادة. فنبدأ مثلاً بالطهارة. فإن الطهارة عبادة شرعية،2. أمر الله بها ولكن يفعلها عباد الله فعلا متوسطاً،3. لا إفراط ولا تفريط. وهناك طائفتان في الطهارة متطرفتان،4. إحداهما قد غلت،5. والأخرى قد جفت. فالذين غلوا هم الذين زادوا في الطهارة ما ليس منها وتشددوا فيها تشددا زائدا،6. حتى زهدوا فيما نقل لهم من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته،7. ومن كيفية تطهره ووضوئه واغتساله وغير ذلك،8. واعتقدوا أن ذلك لا يطهر فزادوا وغلوا. فجاء الإسلام بالأمر الوسط. لا إفراط هؤلاء الذين غلوا في الطهارة،9. ولا جفاء أولئك الذين لا يبالغون ولا يسبغون الطهارة ولا يتمونها. كلا الطائفتين منحرفتان. الطائفة الذين غلوا ترى أحدهم يتوضأ بصاع أو بصاعين،10. وترى أحدهم يغسل وجهه خمسا أو عشرا ويرى أنه ما طهر،11. ويغسل يديه مرارا قد تتجاوز العشر. وكذلك الاغتسال،12. ربما يغتسل نصف ساعة،13. وربما ساعة،14. وربما ساعتين،15. كما حدثني بعضهم أنه يقيم في مزاولة الاغتسال ساعتين. وكذلك في الوضوء مدة طويلة.
16. وهكذا أيضا في باب النجاسة،17. في باب إزالة النجاسة،18. فترى أحدهم إذا وقعت عليه نجاسة لا يكتفي بغسلها مرتين أو ثلاثا مع زوالها،19. بل ربما غسلها عشرا،20. أو أكثر من عشر وربما حك جلده حتى يخرج الدم.
*****وهكذا في باب الاستنجاء الذي هو غسل أثر البول والغائط، وأكثر ما قيل إنه يغسل سبع مرات وفي حديث ضعيف مذكور في شرح الزركشي عن ابن عمر: أمرنا بغسل الأنجاس سبعا. ولكن تجد أحدهم يغسله عشرات المرات، ويصب على فرجه عددا من الغرفات وكل ذلك من الغلو والزيادة التي ما أنزل الله بها من سلطان. ولا شك أيضاً *أنها وسوسة من الشيطان ليمل العبد من العبادة. وذلك لأنه متى دام على هذا التطهر الشديد برهة من الزمان، كسنة أو سنتين، مل وضجر واستثقل العبادة، وربما ترك الصلاة لاستثقال الطهارة، كما حدثني أناس وقع بهم ذلك الفعل أنهم لما كان أحدهم لا يتوضأ إلا في ساعتين قال: كيف أصلي هذه الصلوات، فصار يجمع الصلوات الخمس في وضوء واحد، يتوضأ بعد صلاة العشاء فيصلي الصوات الخمس فيكون قد أفرط حيث ترك الصلوات في مواقيتها، لان الشيطان قد ثقّل عليه هذه الطهارة التي لا تستغرق إلا خمس دقائق، أو نحوها، ثقلها عليه حتى يضيع العبادة عليه.
*****وكذلك في باب إزالة النجاسة، فقد يوسوس إليه الشيطان أنه انتقض وضوؤه في الصلاة حتى يقطع الصلاة، أو أن في ثوبه نجاسة ولو قليلا، حتى يترك الصلاة، وحتى يمل منها. وكثير تركوا الصلاة لأجل هذه الوسوسة، لما أن الشيطان ثقل عليهم الطهارة صارت الصلاة ثقيلة عليهم، وشاقة أيما مشقة، فعند ذلك يتركون الصلاة من أجل هذه المشقة. ولو رجع إلى تعاليم الإسلام وإلى ما شرعه لعلم أن هذا ليس من الدين في شيء وأن الإسلام جاء بالسهولة وباليسر، وبالسماحة، وبالبعد عن كل المشقات وكل الصعوبات.
*****وأما الذين فرّطوا فإنهم أيضا كثير. وسبب تفريطهم أيضاً وسوسة من الشيطان حتى يبطل بذلك عملهم، فترى أحدهم إذا غسل وجهه لا يبالغ ولا يسبغ الوضوء فيبقى في وجهه أشياء لم يأت عليها ماء، وإذا غسل يديه أو رجليه غسل بسرعة ومسح مسحا، ولا يبالي، فكثيرا ما يبقى في بدنه بقع، في رجليه، وفي عقبيه، لا يسبغ ذلك ولا يتعاهد. فهؤلاء ممن فرطوا وجفوا وقصروا في باب الطهارة، وكثيراً ما ننصح هؤلاء أن يسبغوا الوضوء ويتعاهدوه، حيث إن الشرع قد ورد بالأمر بالإسباغ، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لما عدد الخصال التي يرفع الله بها الدرجات ويمحو بها الخطايا قال: "إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط" رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة. وهكذا أيضاً حثنا أن نتعاهد ما قد *ينبو عنه الماء من الجسد ومن القدمين خاصة، في قوله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار". وفي رواية "ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار" متفق عليه. فالذين يغسلون غسلا خفيفا ولا يتعاهدون أقدامهم كثيراً ما يكون في مؤخر أقدامهم بقعة لم يمسها الماء، فتبطل بذلك الطهارة. فهؤلاء مفرطون، حيث إنهم نقصوا في الطهارة. أولئك زادوا وغلوا وتجاوزوا، وهؤلاء نقصو وقصروا. ودين الإسلام جاء بالوسط، وهو أن الإنسان يتوضأ وضوءا مسبغا فيكتفي بغسلة واحدة مسبغة كافية للعضو، وإذا زاد غسلة ثانية فهي أفضل، وإذا زاد غسلة ثالثة فهي أفضل منهما. ولا يجوز الزيادة على الثلاث. بل الزيادة على الثلاث تعتبر إسرافا وإفساداً وغلوا، فكيف بالذين يغسلون العشرات، هذا هو التوسط في هذا الباب.
*****وهكذا نقول في الغسل فإن الاغتسال أيضاً طهارة شرعية أمر الله الإنسان بعد الجنابة أو نحوها أن يغتسل، كما في قوله تعالى: (ولا جنبا إلا عابري سبيل، حتى تغتسلوا)، وقوله: (وإن كنتم جنبا فاطهروا). فالاغتسال هو تعميم البدن بالماء أي غسل البدن كله بالماء، وفيه أيضاً إفراط وتفريط. وفيه غلو وجفاء على حد ما ذكرنا في الوضوء. فإن هناك من يقيم في الاغتسال ساعة أو أكثر. وربما دلك جسده وبالغ في دلكه، حتى أخبرني بعضهم أنه يدلك جسده ويحكه بأظفاره، ويعتقد أن الماء يزل عليه ولا يتبلغه، حتى يخرج الدم من حكه بأظفاره ومبالغته في حك جسده، وهذا بلا شك غلو وإفراط وزيادة ما أنزل الله بها من سلطان. ولا شك أن الشيطان هدفه وقصده أن يمله من هذه العبادة، حتى يضجر ويتركها.
*
وهكذا الذين يكتفون بالمسح، إذا اغتسل أحدهم لا يدلك جسده، بل يمر الماء عليه، ولا يبالي، وهذا أيضاً عليه خلل. وقد عرفنا أن السبب الموقع في هذا هو الشيطان الرجيم الذي هو عدو الإنسان والحريص على أن يبطل عليه أعماله كما يبطل عقيدته، فالشيطان يرى أو يشم قلب الإنسان، فإن رأى تصلباً، ورأى فيه تشددا جاءه من باب الزيادة، وقال له: أنت لا يكفيك مثل ما يكفي غيرك، بل عليك أن تزيد وتبالغ، فإذا توضأ الناس بالمد، فلا تكتف به، بل توضأ بالصاع، أو الآصع، وإذا غسل الناس أيديهم ثلاثا فلا تكتف بسبع ولا بعشر، بل زد عليهم حتى تكون أكثر، ويزين له أن الأجر على قدر النصب وأنه كلما كثر العمل كان الأجر عليه أضعافا مضاعفة. وهذا وسوسة من الشيطان. فالاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وبسنته هو الواجب علينا، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما زاد على ذلك هو محدث، وشر الأمور محدثاتها.
*****فالذي لا يقنعه ما قنع به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد يعتقد أن الدين الإسلامي ناقص، وأن الرسول ما بلغ البلاغ المبين، وأنه قصر في التعليم، حيث اقتصر على بعض الشرائع، أو على بعض الطهارة أو نحوها. وإذا اعتقد هذا الاعتقاد السيئ وقع -والعياذ بالله- في الانحراف وفي الضلال، فإن اتهام النبي صلى الله عليه وسلم، أو أحد من الأنبياء بإخفاء شيء من الرسالة، أو بالنقص والتغيير في شيء من أمر الشريعة اعتقاد باطل وضال ومضل يوقع في الخروج -والعياذ باله- من دائرة الإسلام.
3. *وقد أوقع الشيطان أيضاً كثيراً من الناس في الوسوسة في الأعمال الأخرى سواء كانت أفعالاً أو طرقاً،4. فمن ذلك مثلاً الوسوسة في النية في الصلاة فإن الشيطان يغالي عند بعضهم فيقول إنك ما نويت،5. أو أنت نيتك ليست سليمة أو صحيحة،6. أو أنت ما استحضرت النية،7. فلا يزال يوسوس له بأنه ما أتى بالنية المشترطة للعبادة من طهارة أو من صلاة حتى تفوت عليه الأوقات فتنقص عبادته،8. أو تفوته الصلاة أو تفوته فضيلة الوقت. وهذا بلا شك زيادة على ما حده الله تعالى.
*****وهناك من لا يبالي فيصلي أو يتوضأ بدون قصد صالح، وبدون نية حسنة، ويعتبر هذا أيضاً مقصرا ومخلا بعمل من الأعمال المطلوبة. والوسط في ذلك هو أن ينوي الإنسان بقلبه الطهارة أو الدخول في الصلاة أو نحو ذلك فإذا فعل ذلك فإنه قد نوى، واعتبرت نيته صالحة كافية.
4. ومما أوقع الشيطان فيه كثيرا من الناس الغلو في القراءة في الصلاة. وأوقع أخرين في الجفاء،5. فأفرط في القراءة ناس،6. وفرط في ذلك أناس أخرون. وكذلك في الأذكار وغيرها. فهناك أنا وسوس لهم الشيطان بأنكم لا تحققون القراءة والحروف إلا إذا نطقتم بها على هذا الكيفية،7. فإذا لم تفعلوا فقد اختلت قراءتكم واختلت أذكاركم وما إلى ذلك. فقد ذكروا أن بعضا منهم يتكلف في النطق بالقراءة حتى إذا أراد أن ينطق بالضاد ونحوها أخرج بصاقه من شدة تكلفه وتشدده،8. عندما يقول: ولا الضالين،9. أو المغضوب،10. يكلف نفسه حتى يخرج لعابه وبصاقه من شدة تكلفه. ولا شك أن هذا ما أنزل الله به من سلطان. وهكذا أيضاً تكلفهم في النطق بالتكبير ونحو ذلك. حتى ربما يخرج الكلمة عن وضعها وما وضعت عليه،11. فيكرر الكاف ويشددها. فيقول: (الله أكبّر)،12. وما أشبه ذلك. وعند قراءة التشهد والتحيات يشدد التاء فيقول: الت الت التحيات،13. أو نحو ذلك،14. حتى تخرج الكلمة من وضعها وماهيتها التي وضعت عليها. ولا شك أن هذا تغيير الكلام عن وضعه وعن ماهيته وعما هو عليه.
*****ولا شك أن الذين يفْرطون في ذلك أيضاً يقصرون. وذلك أن هناك من لا يأتون بالتكبير كما ينبغي فيأتي أحدهم بالكلمة دون أن يحقق حروفها، وكذلك في القراءة، دون أن يحقق حروفها وتشديدها. أما الدين الوسط فهو التوسط في القراءة والتكبير وفي التشهد، وفي سائر أركان الصلاة، لا إفراط ولا تفريط، لا غلو ولا تقصير. وهو أن تأتي بالقراءة بحروف بارزة ظاهرة يقرؤها اللسان دون تكلف في التشديد، ودون تكلف في المدّ، ودون تقعر وتشدق في تكلف الفصاحة، ودون تساهل في إتمام كثير من الحروف البارزة أو عجلة أو سرعة يختفي معها كثير من الحروف التي حقها الإبراز. بل لا إفراط ولا تفريط. فإذا قرأها قراءة مفهومة مسموعة حروفها ظاهرُ شَدُّها ومَدُّها على ما ينبغي كان ذلك متوسطا لا إلى الجفاء ولا إلى الغلو الذي قد يمل من العبادة ويوقع في تغيير الكلم وتحريفه عن وضعه.
5. وهكذا أيضاً في العبادات. فالصلاة مثلا إذا نظرنا إلى بعض الأئمة الذين قد يزيدون في الصلاة ويطيلونها إطالة في الأفعال،6. قد تكون مملة في الأفعال أو في القراءة أو ما أشبه ذلك. فيملون ويضجرون من معهم من المأمومين،7. ويستثقلون صلاتهم وينفرون منهم. فهؤلاء في طرف،8. هؤلاء أهل إفراط وغلو وزيادة. وهناك طرف ثان يقصرون ويخلون،9. وينقرون الصلاة نقراً،10. ولا يطمئنون في حركاتهم ولا في أفعالها كما ينبغي،11. فلا تنعقد صلاتهم ولا تكون مجزئة فيكونون سببا في إبطال صلاة من صلى معهم،12. ولو كثر الذين يرغبون الصلاة معهم. فهؤلاء في طرف وهؤلاء في طرف،13. ودين الله وسط،14. والصلاة المعتدلة متوسطة بين هؤلاء وهؤلاء. فالإمام يراعي حال المأمومين،15. فلا يطيل إطالة تملهم وتضجرهم،16. ولا يخفف تخفيفاً يخل بالعبادة فلا يأتي بأركانها ولا بواجباتها المطلوبة،17. ولا يطمئن فيها الطمأنينة الشرعية. بل الواجب أن يحرص على الاقتداء بالصلاة النبوية في القراءة وفي الأذكار وغيرها. وبذلك يكون متوسطاً بين الغالي والجافي. فهذا مما انقسم فيه الناس فصار أكثرهم في طرفي نقيض،18. وتوسط دين الحق بين ذينك الطرفين.
وهكذا لو تتبعنا كثيراً من الأعمال لوجدناها كذلك. لوجدنا مثلاً أن كثيراً من الناس قد يشقون على أنفسهم ويضجرونها في تحمل كثير من التطوعات التي بها يحرمون الأنفس لذاتها وراحتها التي أبيحت لها وآخرون يقصرون فلا يأتون بشيء منها أصلاً. ودين الله وسط بين ذلك.
مثال واقعي
*
*****فنذكر من ذلك قصة عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه التي في الصحيح فإنه كان في أول شبابه كثير العبادة، فشق على نفسه، فكان يصوم الشهر كله، فيصوم الدهر، وكان يصلي الليل كله، ويختم القرآن في كل ليلة، في تهجده، وهذا فيه غلو، ومشقة وفيه تعب، يؤدي إلى أنه يفوت عليه حقوقاً واجبة. فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا غلو، وقال: إن لنفسك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه. وهذا لا شك أنه زيادة تُمِل الإنسان من العبادة وتضجره وهناك آخرون لا يعرفون مثل هذه العبادات ولو كانت نوافل. فلا يصلي أحدهم نافلة أصلا، ولا يصوم إلا ما فرض عليه، ولا يأتي بشيء من النوافل، ولا يتقرب بشيء من القربات، وكأنه غافل أو مستغن عن هذه العبادات ونحوها. فلا شك أن هذا في طرف، وذاك في طرف، فالذي كلف نفسه مشقة متطرف شديد التطرف. والذي تساهل في العبادات ولم يأت بشيء من العبادات المسنونة، ولم يتقرب بشيء من نوافلها، أيضاً متطرف غاية التطرف. ودين الإسلام وسط، وهو أن تتقرب إلى الله بقربات لا تكلف بها نفسك ولا تضرها بها ولا تحرمها من حقها، ومن الحقوق الواجبة عليك، وما أشبه ذلك. ولا تنس عبادة الله، ولا تشتغل بالملذات والشهوات عن حق الله، ولا تعط نفسك كل ما تشتهيه من لذة ونوم وشهوة بطن وشهوة فرج، كمأكل ومشرب وملبس، ونحو ذلك، فهذا أيضاً إفراط وتفريط.
التوسط في أمور العادات
*
أولاً:-
*****لك أن تقيس أيها الأخ ذلك في كل شيء، حتى في الأمور العادية، كأمور المأكل والمشرب والملبس وما أشبه ذلك. فإن الإسلام جاء فيها بالوسط. فمثلاً اللباس الذي هو زينة للناس أنزله الله وامتن به على عباده بقوله: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشا). وهذا اللباس انقسم فيه الناس ثلاثة أقسام: طرفان ووسط. فتجد الطرف الأول وهم أهل البذخ والإفساد والإسراف قد يكون لباس أحدهم يتكلف بمئات. أو يبلغ الألف أو الألوف من ذكر أو أنثى، وهذا بلا شك إفساد وإسراف، وتبذير للمال في غير حق، ويعتبر إفراطاً وغلوا وزيادة، ولو أنه اقتصد واستعمل ما يكفيه وتصدق بهذا الزائد أو أنفقه في وجه من وجوه الخير لكان خيرا له. بينما هناك طرف آخر قد أنعم الله عليه ورزقه. ولكنه قَصَّر على نفسه. روي أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً عليه ثياب وسخة، أي بذلة وهوان، فسأله: أليس قد رزقك الله مالاً؟ فقال: بلى. قال: من أي أنواع المال؟ قال: من كل أنواع المال، من الإبل والبقر والغنم والخيل والرقيق. فقال فإذا آتاك الله مالا فلير نعمة الله عليك وكرامته رواه أحمد والنسائي عن أبي الأحوص عن أبيه وسنده صحيح. فكون الإنسان واجدا، وكون الإنسان غنيا ومع ذلك يقصر على نفسه، فيقتصر على ثياب دنسة وسخة متمزقة، قد تبدو منها عورته، يعتبر ذلك تقصيرا وإخلالا. وخير الأمور أوسطها. وهو أن لا يسرف الإنسان في اللباس وأن لا يقصر في اللباس. بل الوسط بين ذلك، لا إفراط ولا تفريط.
*
ثانياً:-
*****ونقول مثل ذلك أيضاً في المآكل. فتجد كثيراً من الناس يسرفون في الطعام، فيحشدون عند الطعام أصنافاً وأنواعاً من الأطعمة وكلها تذهب ولا تؤكل أو لا يؤكل منها إلا نزر قليل. وآخرين عندهم أموال، ولكن يدفعهم البخل والشح على أن يقصروا على أنفسهم وعلى أولادهم فيبيتون جياعاً، أو لا يأكلون إلا الدنيء الرخيص من الطعام ويحرم أحدهم أهله التلذذ بما أبيح من المأكول والفواكه والأطعمة المتوفرة بخلا وشحا، والأموال عندهم يكدسونها، والوسط الخيار. الدين وسط بين هذا وذاك لا إسراف ولا تقتير، كما في قوله تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما).
*
ثالثاً:-
*****وهكذا في الإقبال على الدنيا انقسموا إلى ثلاث طوائف، فقسم أكبوا على الدنيا وعظموا شأنها وركنوا إليها وأحبوها، وجعلوا دنياهم أكبر همهم ومبلغ علمهم وشغلوا بها أوقاتهم كلها وغلوا في حبها والتعلق بها وكأنهم قد نسوا الآخرة، بينما هناك آخرون قد زهدوا فيها وانقطعوا عن الاشتغال بأمر هذه الحياة، ولكن زهادتهم أوقعتهم في أنهم تركوا مصالح أنفسهم وانعزلوا عن الناس وعما الناس فيها وأضاعوا من تحت أيديهم، فلم يكتسبوا ما يغنون به أنفسهم وأضاعوا أولادهم دون أن يعطوهم ويكسوهم أو يرزقوهم، وما أشبه ذلك. فهؤلاء أيضا مخلون مقصرون. والأمر وسط بين ذلك. وهو أن الإنسان يطلب من الدنيا الكفاف والقوت، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا" أي لا إفراط ولا تفريط. فلا ينقطع عن الدنيا انقطاعاً كلياً بحيث يضيع نفسه، ويعرض نفسه للحاجة والتكفف وسؤال الناس، ويعرض أهله للجوع والضنك وضيق المعيشة. ولا يجعل همه كله مكباً على الدنيا صارفا فيها هواه وأوقاته وحياته وناسيا آخرته وناسياً الأعمال التي تقربه إلى الله. لا هذا ولا ذاك. بل يشتغل لدنياه بقدر. ويشتغل لآخرته بقدر. ولا يبالغ في محبة الدنيا، المحبة التي تنسيه الآخرة، ولا يبالغ في التقصير فيها، التقصير الذي ينسيه حظ نفسه الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن لنفسه حقا. فهذا أيضاً مثلٌ للغلو والجفاء، والإفراط والتفريط.
*
رابعاً:-
*****ومن الأمثلة من هذا القبيل في كثر من المعاملات أن كثيراً من الناس يتعاملون ويتوسعون في بعض المعاملات لا يبالي أحدهم بأية معاملة، سواء كان غشا، أم ربا، أم زيادة على غيره ما أنزل الله بها من سلطان، فمثل هؤلاء قد زادوا وتوسعوا في بعض المعاملات، فأفرطوا وتوسعوا بحيث يظن أنهم لا يعتقدون أن هناك معاملة حراماً، فعندهم الغش، والزيادة على المسلم وإيقاعه فيما يكتسبون من ورائه مالاً كل ذلك جائز ومباح لهم، يبيحون لأنفسهم ما لم يبح لهم الشرع، بينما هناك من تشدد في باب المعاملات فامتنعوا عن أشياء أباحها الله، فامتنعوا عن البيع الذي أباحه الله، وامتنعوا عن الإجارة التي أباحها الله وامتنعوا عن التكسب والعمل الذي أباحه الله، واعتقدوا أن ذلك ممنوع، فوقعوا في التقصير والنقص، وأولئك وقعوا في الزيادة والغلو، والإفراط، وخير الأمور أوسطها، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
الخاتمة
*
*****وبالجملة نعرف أن السبب الذي أوقع هؤلاء وأولئك في الإفراط والتفريط كما ذكرنا وكررنا هو الشيطان ووسوسته يخرج هؤلاء وهؤلاء من العبادة، وحتى يملهم ويصرفهم عن كثير من العبادات ويثقلها عليهم، ويثقل عليهم المكاسب ونحوها. ويوقع هؤلاء في المحرمات، أو في المشتبهات التي تجر إلى المحرمات، فيحصل أنه أضل خلقاً كثيراً ليصدق على الناس ظنه، كما قال الله تعالى: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين).
*****نسأل الله تعالى أن يبصرنا بالحق الذي هو دين الحق، والذي اختاره الله للأمة ديناً حقاً. نسأل الله سبحانه أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ولا يجعله ملتبساً علينا فنضل. ونسأله أن يعيذنا من نزغات الشيطان وأوهامه ووساوسه، وأن يجعلنا ممن أنار قلوبهم بطاعته *وبصرهم بالحق ودلهم عليه ورزقهم الهدى والاستقامة والسلوك إلى الصراط السوي الذي يؤدي بهم إلى النجاة في الآخرة، والله تعالى أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
*
الثمرات الجنية
بسم الله الرحمن الرحيم
*
الحمد لله الذي رفع منزلة أهل العلم، فقال: ((يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات))(المجادلة:11). و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين، و على آله الطيبين، و أصحابه الكرام، حُماة السنة المقتدين، و من تبعهم و اقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
و بعد، فمما لا شك فيه و لا ريب أن أعظم و أفضل و أجل العلوم بعد القرآن الكريم علم السنة النبوية و "شرف العلوم يتفاوت بشرف مدلولها، و قدرها يعظم بعظم محصولها، و لا خلاف عند ذوي البصائر أن أجلها ما كانت الفائدة فيه أعم، و النفع فيه أتم، و السعادة باقتنائه أدوم، و الإنسان بتحصيله ألزم، كعلم الشريعة الذي هو طريق السعداء إلى دار البقاء، ما سلكه أحد إلا اهتدى، و لا استمسك به من خاب، و لا تجنبه من رشد، فما أمنع جناب من احتمى بحماه، و أرغد مآب من ازدان بحُلاه"(جامع الأصول لابن الأثير 1/36).
و إذا علمنا أن علم الحديث من العلوم الشرعية التي أمرنا بتعلمها و تعليمها "وجب الاعتناء به، و الاهتمام بضبطه و حفظه، و لذلك يسر الله سبحانه و تعالى أولئك العلماء الأفاضل، و الثقات الأماثل، و الأعلام المشاهير، الذين حفظوا قوانينه، و احتاطوا فيه، فتناقلوه كابراً عن كابر، و أوصله كما سمعه أول إلى آخر، و حببه الله إليهم لحكمة حفظ دينه، و حراسة شريعته، فمازال هذا العلم من عهد الرسول صلوات الله و سلامه عليه و الإسلام غض طري، و الدين محكم الأساس قوي، أشرف العلوم و أجلها لدى الصحابة رضي الله عنهم و التابعين بعدهم و تابعي التابعين، خلفاً بعد سلف لا يشرف بينهم أحد بعد حفظ كتاب الله عز و جل، إلا بقدر ما يحفظ منه، و لا يعظم في النفوس إلا بحسب ما يسمع من الحديث عنه، فتوفرت الرغبات فيه، و انقطعت الهمم على تعلمه، حتى لقد كان أحدهم يرحل المراحل ذوات العدد، و يقطع الفيافي و المفاوز الخطيرة، و يجوب البلاد شرقاً و غرباً في طلب حديث واحد ليسمعه من روايه…"(جامع الأصول لابن الأثير 1/39-40).
و قد اعتنى أهل العلم في القديم و الحديث بحفظ الأحاديث و روايتها، و العمل بها، و تدوينها في كتب أطلق عليها، سنن، و مسانيد، و صحاح، و معاجم، و جوامع، و مشيخات، و أجزاء، و أمالي، و نحو ذلك. و اهتموا كذلك بالرواة و مروياتهم من حيث القبول و الرد، و قعدوا قواعد لنقد الرواة و الروايات، و ألفوا في علوم الحديث كالناسخ و المنسوخ، و المحكم و المتشابه، و أسباب ورود الحديث، و التصحيف و التحريف، و المؤتلف و المختلف، و المتفق، و المتفرق إلى غير ذلك من مباحث هذا العلم.
1- و يعتبر الإمام القاضي أبو محمد الحسن بن عبدالرحمن بن خالد الرّامَهُرْمُزي (360هـ) *أول من ألف في علوم الحديث في كتابه "المُحدث الفاصل بين الراوي و الواعي" و لم يستوعب كل الأنواع.
2- ثم تلاه الحاكم أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن البيع النيسابوري (405هـ) فألف "علوم الحديث" لكنه لم يهذب الأبحاث و لم يرتبها.
3- ثم جاء الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبدالله الأصبهاني (430هـ) فعمل على كتاب الحاكم مستخرجاً، و ترك أشياء لم يذكرها فتداركها من جاء بعده من الأئمة.
4- ثم صنف الحافظ الحجة أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (463هـ) كتاباً في قواعد الرواية سمّاه "الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع". بل وقل فن من فنون الحديث النبوي إلا و ألف فيه كتاباً حتى قال الحافظ أبو بكر بن نقطة: "كل من أنصف علم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه".
5- و ألف القاضي عياض بن موسى اليحصبي (544هـ)كتابه: "الإلماع إلى معرفة أصول الرواية و تقييد السماع" و هو كتاب فريد، مفيد جداً في بابه، و اقتصر فيه على كيفية التحمل و الآداء و ما يتفرع عنها.
6- و ألف الإمام أبو حفص عمر بن عبدالمجيد الميانجي (580هـ) جزءاً مختصراً بعنوان "ما لا يسع المحدث جهله".
7- ثم جاء الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن عبدالرحمن الشهرزوري المعروف بابن الصلاح (643هـ) فألف كتابه المشهور "علوم الحديث" و الذي عُرف بـ "مقدمة ابن الصلاح".
و قد اعتنى بكتب من سبقه من الأئمة خصوصاً الخطيب البغدادي، و كان يُملي على طلبته ما جمعه و هذبه، فجاء كتابه حافلاً مفيداً، لكن لم يرتبه ترتيباً مناسباً، و مع ذلك فيعتبر كتابه بحق عمدة لمن جاء بعده من العلماء و لذا اعتنى به الكثير ما بين شارح له أو ناظم أو مختصر أو مستدرك، فمن ذلك:
ألفية الحديث للحافظ العراقي، و قد شرحها بنفسه، و شرحها الحافظ السخاوي بشرح مطول أسماه: "فتح المغيث".
*- و اختصر المقدمة، الإمام النووي بكتابه: "التقريب و التيسير لمعرفة سنن البشير" و شرح التقريب الإمام السيوطي شرحاً وافياً في كتابه: "تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي".
*- و ممن اختصر المقدمة الحافظ ابن كثير في كتابه "اختصار علوم الحديث" و قد شرحه العلامة أحمد شاكر في كتابه: "الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث".
و من المختصرين أيضاً القاضي بدر الدين ابن جماعة في كتابه "المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي".
و كذلك البلقيني في كتابه: "محاسن الاصطلاح في تضمين كتاب ابن الصلاح"، و العراقي في كتابه "التقييد و الإيضاح لما أطلق و أغلق من مقدمة ابن الصلاح". و أيضاً الإمام ابن الملقن في كتابه المقنع، و كذلك ابن حجر في كتابه: النكت، و الطيبي في كتابه الخلاصة في أصول الحديث، و غير ذلك من المؤلفات التي تدل على أهمية كتاب ابن الصلاح.
و توالت بعد ذلك المؤلفات في علم مصطلح الحديث عموماً إما بالنظم أو النثر، و من أفضل و أدق كتاب في هذا الباب: كتاب الحافظ ابن حجر: "نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر"، و شرحه "نزهة النظر" هذا الكتاب يعتبر من المختصرات المحررة: و إذا كانت مقدمة ابن الصلاح قد اعتنى بها الكثير، فإن النخبة ذاع صيتها و تلقفها طلاب العلم، و اهتم بها العلماء أكثر من غيرها و كثرت شروحات الأئمة، و كثر النظم لها (انظر مقدمة الشيخ عبدالفتاح أبو غدة لكتاب قفو الأثر في صفو علوم الأثر لابن الحنبلي ص24 فقد ذكر جملة من شروحات ونظم العلماء للنزهة).
و ممن نظم في علم المصطلح الشيخ طه بن محمد ابن فتوح البيقوني كان حياً قبل 1080هـ و هو نظم مشهور بديع امتاز بسلاسة الألفاظ و سهولة العبارة، إلا أنها مختصرة جداً اقتصر في نظمه على ذكر بعض مصطلحات الفن، و لو كانت شاملة لكفت الراغب في هذا العلم، و قد انتقد النظم في بعض المواضع، و قام بشرح البيقونية بعض أهل العلم من ذلك:
1- شرح العلامة عبدالقادر بن جلال الدين المحلى كان حياً 1065هـ المسمى: "فتح القادر المعين بشرح منظومة البيقوني في علم الحديث" و توجد نسخة خطية محفوظة في جامعة الملك سعود برقم 342.
2- "تلقيح الفكر بشرح منظومة الأثر" تصنيف العلامة أحمد بن محمد الحسيني الحمودي الحنفي 1098هـ و توجد نسخة خطية في جامعة الإمام محمد بن سعود برقم 598.
3- "شرح الزرقاني على المنظومة البيقونية في المصطلح" تصنيف العلامة محمد الزرقاني المالكي 1122هـ و شرحه مطبوع.
4- "صفوة الملح بشرح منظوم البيقوني في فن المصطلح" تصنيف العلامة شمس الدين محمد بن محمد البديري الدمياطي المشهور -بابن الميت- 1140هـ. و توجد نسخة خطية في دار الكتب المصرية برقم 23264ب، و أخرى برقم 25882ب، و نسخة ثالثة في المكتبات الوقفية بحلب و عنها مصورة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم 7692ب.
5- "حواشي على المنظومة البيقونية" تصنيف العلامة عبدالرحمن بن سليمان بن يحيى الأهدل 1250هـ. و توجد نسخة في جامعة الملك سعود برقم 598 و أخرى برقم 1404م (ص293-300). و ثالثة برقم 1351.
6- "الدرة البهية في شرح المنظومة البيقونية" تصنيف العلامة محمد بدر الدين بن يوسف المدني الدمشقي 1354هـ و توجد نسخة في الخزانة العامة بالرباط، و عنها مصورة في جامعة الإمام محمد بن سعود برقم 6439ف.
7- "النخبة النبهانية شرح المنظومة البيقونية". تصنيف الشيخ محمد بن خليفة بن حمد النبهاني 1369هـ و هي مطبوعة.
8- "التقريرات السنية شرح المنظومة البيقونية" تصنيف العلامة حسن بن محمد المشاط المكي 1399هـ و قد طُبع مراراً.
9- "شرح البيقونية في مصطلح الحديث". تصنيف العلامة محمد بن صالح بن عثيمين. و هو شرح لطيف مفيد للغاية، و قد طبع.
01- و هناك شروح كثيرة على البيقونية غير ما ذكرناه، و لعل من أفضل شروحات هذه المنظومة شرح شيخنا العلامة عبدالله بن عبدالرحمن ابن جبرين حفظه الله تعالى -و هو هذا الشرح- و لقد امتاز شرح شيخنا بسهولته و وضوحه، و كثرة الأمثلة، و التعقبات المفيدة، و عدم التقيد بالمباحث التي اقتصر عليها الناظم، فنجد في هذا الشرح الماتع ذكر بعض أنواع مصطلح الحديث التي لم يرد ذكرها في النظم، على أن شيخنا -دعاه الله- لم يرد التوسع و لو فعل لكان هذا الشرح في مجلد كبير.
و هذا الشرح عبارة عن درس ألقاه الشيخ لبعض الطلاب المبتدئين، و سُجل على أشرطة و قام بنقله أحد الإخوة الفضلاء -جزاه الله خيراً- و من ثم عُرض على الشيخ و قام بمراجعته و تصحيحه وتعديله، و قد وفقني الله تعالى للعناية بهذا الشرح و خدمته، فلله الحمد و المنة، و قمت بتعليق بعض الفوائد الضرورية المهمة، و وضعت عناوين للرسالة إتماماً للفائدة، و نسأل الله العلي القدير أن يرزقنا علماً نافعاً و عملاً صالحاً متقبلاً، و نستغفره و نتوب إليه من جميع الذنوب و الحمد لله رب العالمين.
و كتب
أبو أكثم سعد بن عبدالله سعد السعدان
13/10/1416هـ
ص ب: 86662
الرياض: 11632
*
متن المنظومة البيقونية
*
أَبدَأُ بِالْحَمْدِ مُصَلِّياً عــــــــــــــــــــ ـ ــــَلَى ... ... ... مُحَمَّدٍ خَيرِ نبـــــــــــيٍ أُرْسِــــلاَ
وذِي مِنْ أَقْسَامِ الحَدِيثِ عــــــــــــــِدَّة ... ... ... وكلُّ واحَدٍ أتى وحَــــــــــــــــدّهْ
أَوَّلُها الصَّحيحُ وهْوَ ما اتَّصــــــــــــــــلْ ... ... ... إِسْنَادُه وَلَم يُشَذَّ أَوْ يُعَـــــلّ
يرْوِيهِ عَدْلٌ ضَابطٌ عَنْ مــِثــــــــــــلهِ ... ... ... مُعْتمَدٌ في ضَبْطِهِ وَنقْـــــــــــلِهِ
والحَسَنُ المعْرُوفُ طُرْقاً وغـــــــــدتْ ... ... ... رجَالهُ لا كـــالصّحيح اشتهـرتْ
وكلُّ ما عَن رُتْبَةِ الحُسْنِ قَصــــــــُر ... ... ... فهو الضّعِيفُ وهْوَ أَقْسَاماً كُثرْ
وَمَا أُضِيفَ لِلنَّبيِ المرْفـــــــــــــــــوعُ ... ... ... وَمَا لِتابعٍ هوَ المقــــــــــطوعُ
وَالمُسْنَدُ المتَّصلُ الإِسنـــــــــادِ مــِن ... ... ... رَاويهِ حَتى المُصْطفى وَلَمْ يَبنْ
وَمَا بِسَمْع كلِّ رَاوٍ يتَّصــــــــــــــــِل ... ... ... إسنادُه لِلمصطفى فالمــــتَّصِلْ
مُسَلسلٌ قلْ ما عَلــــــــــى وَصـفٍ أَتى ... ... ... مِثْلُ أَمَا وَاللهِ أَنبانِي الــفَتى
كَذَاكَ قَد حَدَّثنيهِ قَائِـــــــــــــــــماً ... ... ... أَوْ بَعْدَ أَنْ حدَّثني تبسَّمــــــا
عَزيزُ مَروي اثنين أَوْ ثــلاثــــــــــهْ ... ... ... مشهورُ مَرْوي فـــوقَ ما ثـلاثهْ
مُعنَعنٌ كَعنْ سعيدٍ عن كَــــــرَم ... ... ... وَمُبْهَمٌ مَا فِيهِ رَاوٍ لَمْ يُســـم
وكُلُّ مَا قَلَّتْ رِجَالُه عَـــــــــــــــــــــلا ... ... ... وَضِدُّهُ ذَاكَ الذِي قدْ نَـــــــــــزَلا
وَمَأ أَضفتَهُ إلى الأَصْحاَبِ مـِــــــــــــنْ ... ... ... قَوْلٍ وَفِعلٍ فَهْوَ موقوفٌ زُكـِن
وَمُرْسلٌ مِنهْ الصّحَابيُّ سَقــــــــــَطْ ... ... ... وقلْ غريبٌ ما روَى راوٍ فقـــط
ْوَكُلُّ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِحَـــــــــــــــــال ... ... ... إِسْنَادُهُ مُنقطِعُ الأَوْصَــــــــــالِ
وَالمُعْضَلُ السَّاقِطُ مِنْهُ اثنَــــــانِ ... ... ... وَما أَتى مُدَلَّساً نوعـــــــــــــانِ
الأَوَّلُ الإِسْقَاطُ للشيــــــــــــخِ وأَنْ ... ... ... يَنقُلَ عمَّنْ فوْقَهُ بعـَـــن وأَنْ
والثّانِ لا يُسقطهُ لكن يَصـــــِفْ ... ... ... أوْصَافهُ بِما بِه لا يَنْعـَــــــرِف
ومَا يُخالِفُ ثقةٌ فِيـهِ المـــــــــــلا ... ... ... فالشْاذُّ والمقلوبُ قِسمانِ تَــلا
إبدالُ رَاوٍ مّا بِرَاوٍ قِسْـــــــــــــمُ ... ... ... وقَلْبُ إِسْنـَادٍ لِمتنٍ قِسـْـــــــــمُ
وَالفَرْدُ ما قيّدْتَهُ بِثَقَــــــــــــــةٍ ... ... ... أَوْ جمْعٍ أَوْ قْصرٍ على رِوَايــــــــة
وَما بِعٍلةٍ غُموضٍ أَوْ خــــفَـــــــــــا ... ... ... مَعَلَّلٌ عِندَهُمُ قَــدْ عُرِفَــــــــــــــا
وَذُو اخْتِلافِ سندٍ أَوْ مَتــــــــــنِ ... ... ... مُضطَرِبٌ عِنْدَ أُهيلِ الفَــــــــــــــنِّ
وِالمُدرَجاتُ في الحديثِ ما أَتتْ ... ... ... منْ بعضِ أَلفاظِ الرُّواةِ اتصلـــتْ
وَما رَوى كلُّ قرينٍ عن أَخـــــــِهْ ... ... ... مُدبَّجٌ فاعرِفهُ حَقاً وانتَخـــــــِهُ
مُتَّفِقٌ لفْظاً وَخَطَّا مُتفِــــــــــــــقْ ... ... ... وضدُّهُ مختِلفٌ فاخْشَ الغلــَـــــطْ
والمنكرُ الفرْدٌ به راوٍ غــــــدا ... ... ... تعْدِيلُهُ لا يحمِلُ التُّفــــــــــــرُّدَا
متروكُهُ ما واحدٌ به انفــــــرَدْ ... ... ... وأَجمَعُوا لضِعفهِ فهوَ كَـــــــــرَدْ
والكذِبُ المُخْتَلقُ المصنُــــــوعٌ ... ... ... عَلَى النبيِ فذلِكَ الموْضــــــــــوعُ
*وقدْ أَتتْ كالجَوْهَرِ المكْـــــونِ ... ... ... سمّيتٌها مَنظُومَةَ البَيْقـــــوني
*فوقَ الثلاثينَ بأَربَعٍ أَتـــــت ... ... ... أَبياتُها ثمَّ بخَير خُتِمـَـــــــــــــتْ
بسم الله الرحمن الرحيم
****الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلاَّ على الظالمين، وأَشهدُ أَن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصبحه والتابعين.
وبعـــــد:
*****فهذه منظومة في مصطلح الحديث، اقتصرَ فيها الناظم على مجرد التعريف، واختصر كثيراً من التعاريف، واقتصر على المهم من اصطلاحات المحدِّثين، ولم يتوسَّع في ذكر كل المصطلحات، وإِنَّما ذكرَ البعض دون الكل.
*****وقد كنتُ شرحت المنظومة البيقونية في مصطلح الحديث قبل نحو عشرين عاماً لبعض الطلاَّب المبتدئين، وتوسعت في شرح الأبيات، وأكثرت من ذكر الأمثلة، حيث إنها اصطلاحات عرفية لا تظهر من السياق ولا من الأَصل اللغوي، ثم إن بعض التلاميذ سجلها وأفرغت وعرضت عليَّ فقمت بتصحيحها وإدخال بعض التعديلات عليها وأذنت بطبعها، حيث لم يشتهر شيء من الشروح المبسطة على هذه المنظومة إلاَّ أَن يكون بعيداً لم أطلع عليه.
*****فهذا الشرح صدرَ ارتجالاً بناء على المفهوم المعروف من الفن في كتب المصطلح، فللقارئ غُنْمه، وعلى الكاتب غُرْمه، وهو جهد المقل، وقدرة المفلس. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. قاله: عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين عضو الإفتاء 5/10/1415 .
قال الناظم:
أبدأ بِالْحَمْدِ مُصَلَّياً عَلَى ... ... ... مُحَمَّدٍ خَيرِ نبي أُرْسِلاَ
· * *معنى الحمد:
*****بَدأ بالحمد اقتداء بالكتاب العزيز، كتاب الله، حيث بُدِئ بالحمد؛ لأَن الله هو المستحقّ للحمد وحده (والحمد): ذكرُ محاسن المحمود مع حبه وتعظيمه وإجلاله، هذا تعريفٌ لبعض العلماء، وبعضهم قال: (الحمد) فعلٌ يُنبئ عن تعظيم المُنعم بسبب كونه منعماً على الحامد وغيره، والله تعالى هو المستحق للحمد، ويُحْمَدُ على صفاته، فتَحمدُه لأنه الواحد الأحد؛ ولأنه متصف بصفات الكمال ونحوها، وتحمده على تصرفاته، وتحمده لأنه الذي سخَّر الشمس والقمر، وسخر لنا النجوم مسخرات، وخلق وقدر، وأنه الذي يحيي ويميت ويفعل ما يشاء، وتحمده على عطائه وفضله؛ لأنه الذي أعطى وتفضل، وأغنى الإنسان، وأتم عليه نعمته، وآتاه من كل ما سأل، وخلقه في أحسن تقويم، وما أشبه ذلك، فيحمد على كل حال كما يحمد على ما قدره وما قضاه، حتى يحمده على المصائب والآفات والعاهات التي تصيب الإنسان؛ لأن الله ما أوقعها وأحدثها إلا لمصلحة كالتفكر والاختبار والعبرة.
*
· معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:
*****قوله: (مصلياً يعني: حالَ كوني مصلِّياً على النبي، والصلاة من الله ثناؤه علىعبده في الملأ الأعلى، وقيل: الرحمة، والصلاة من الملائكة الاستغفار، والصلاة من الآدميين الدعاء. وأصل الصلاة لغة: الدعاء قال تعالى: (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم)(التوبة:103)، يعني: دعاءك، والمعنى في قوله: (صلوا عليه وسلموا)(الأحزاب:56)، يعني: ادعوا الله له على ما بذل لكم من النصح والتوجيه، والإرشاد.
*
· الفرق بين النبي والرسول:
*****ووصَفَه بقوله: (خير نبيٍ أُرسلا) ليجمع بين كونه نبياً *ومرسلاً، فإنه ليس كل نبي رسولاً.
*****والنبي مشتق من النبأ وهو الخبر؛ لأنه جاء بخبر من الله، أو من النبوة وهي الارتفاع؛ لأن الله رفع قدره، قال تعالى: (ورفعنا لك ذكرك)(الانشراح:4). والرسول هو: الذي يحمل الرسالة من قومٍ إلى قوم. والفرق بين النبي والرسول: أن النبي من كلف ولم يؤمر بالتبليغ، والرسول من كلف وأمر بالتبليغ، يعني كٌلف بالتبليغت وألزم به، ودعا قومه ونجا من أطاعه، وهلك من عصاه، هذا هو الرسول.
*****قوله: (وذي من أقسام الحديث عِدَّه) يعني بأقسام الحديث مصطلحات المحدِّثين، وإلا فالحديث قسمان: صحيح، وضعيف، ولكن البقية مصطلحات (وكلُّ واحدٍ أتى وحده) يعني: كل قسم، أو كل نوع أتى، وأتى بعده حده، يعني تعريفه.
*****فذكر الصحيح وتعريفه، وذكر الحسن وتعريفه إلى آخره، وبدأ بالصحيح.
*
أوَّلٌها الصحٍحٌ وَهُوَ ما اتَّصَلَ ... ... ... إِسْنَادُه وَلَم يُشَذَّ أَوْ يُعلّ
*
· الحديث الصحيح:
*****قوله: (أولها الصحيحُ وهو ما اتّصل ... إسناده).
*****الصحيح: مشتق من الصحة، وهي ضد البطلان، والصحيح بمعنى الثابت، صح الشيء يعني: ثبت وتحقق، وصح الحديث، يعني: ثبت نقله واعتمد ووثق به.
*
· تعريفه:
*****والحديث الصحيح هو: ما رواه عدلٌ ضابطٌ مُعتَمدٌ في ضَبْطِه ونَقْلِه، واتّصلَ إسناده دون أن يكون فيه انقطاع، وسلم من العلة والشذوذ.
*
· شروط الحديث الصحيح:
فشروطه:
*****أولاً: اتصال السند.
******ثانياً: عدالة الراوي.
*****ثالثاً: تمام ضبط الراوي.
*****رابعاً: السلامة من العلة.
*****خامساً: السلامة من الشذوذ.
أي لابد للحديث الصحيح من هذه الضوابط.
*
· تعريف السند:
*****والسند هو: رجال الحديث، أي: سلسلة الرجال الموصلة للمتن، ومعنى اتصال السند: كون هذا يرويه عن هذا وقد لقيه، وهذا يرويه عن هذا وقد لقيه، وهذا يرويه عن هذا وقد لقيه، إلى أن يأتي إلى الصحابي الذي سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم.
*
· محترزات الحديث الصحيح:
قوله: (ما اتصل إسناده)
*****يَخرج ماذا؟ يخرج الانقطاع، وسيأتينا أمثلة للانقطاع. والمنقطع:
*****(منه) ما سقط من أوله واحد أو أكثر، ويسمى معلقاً.
*****(ومنه) ما سقط من آخر الإسناد، ويسمى مرسلاً.
*****(ومنه) ما سقط من وسطه اثنان متواليان، ويسمى معضلاً.
*****(ومنه) ما سقط من وسطه واحد ويسمى منقطعاً، أو سقط من وسطه اثنان غير متواليين، ويسمى أيضاً منقطعاً.
*****يعني: مثلاً الراوي الأول سمعه من شيخ أسقطه، ورواه عن شيخ شيخه، وهو لم يلقه أو لم يسمعه منه فأصبح بينه وبينه فجوة، فيقال هذا الإسناد منقطع، أي: كيف يرويه هذا عن هذا وهو ما لقيه، فلابد أن يرويه واحد عن واحد قد لقيه، والثاني عن ثالث قد لقيه، والثالث عن رابع قد لقيه، إلى أن يتصل بالصحابي. فمثلاً إذا قال الإمام مسلم: حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا إسماعيل بن جعفر، حدّثنا عبدالله بن دينار، عن ابن عمر. تحققنا أن مسلماً قد روى عن قتيبة، وهو أحد مشايخه الذين أدركهم، وتحققنا أن قتيبة روى عن إسماعيل، وأن إسماعيل أدرك ابن دينار، وأخذ عنه، وأن ابن دينار أدرك ابن عمر وروى عنه، فالإسناد هنا متصل لذلك نقول: قد اتصل الإسناد، وهكذا إذا قال: حدثني عبد الملك بن شعيب بن الليث قال حدثني أبي شعيب قال حدثني جدي الليث بن سعد (الإمام المشهور، قال: حدثنا بكير بن الأشج، عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، تحققنا أن عبدالملك قد روى عن أبيه شعيب، وأن شعيباً أدرك أباه الليث، وأن الليث روى عن بكير، وأن بكيراً روى عن سهيل، إلى آخر ذلك، فنقول: هذا إسناد متصل.
*****لكن لو رواه عبدالملك بن شعيب عن جده الليث وهو ما أدركه أصبح منقطعا ولو رواه عبدالملك عن بكير بن الأشج وأسقط أباه وجَده فهذا نسميه معضلاً، حيث سقط فيه اثنان متواليان، وهكذا، ومثل هذا يكون ضعيفاً لا يُعمل به حتى يأتي من طريق أخرى متصلاً.
*
· الحديث الشاذ:
*****ثم قال: (ولم يشذَ أو يعل).
*****(الشذوذ) مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه أو أكثر منه عدداً، فإنّ هذا يُعدُّ حديثاً شاذاً فلا يقبل، فإذا اتفق الرواة على رواية حديث، ثم رأينا واحداً منهم وكان ثقة قد خالف هذا الجمع الكثير، وأتى بزيادة كلمة انفراد بها، عرفنا أن هذا شاذ، ونقول: إنَّ هذه الزيادة شاذة، فلا تقبل لِعلة احتمال الخطأ، أو لانفراد واحد عن جمع، ومُثّل لذلك بحديث المغيرة في مسح النبي صلى الله عليه وسلم على الخفين. حيث رواه عن المغيرة نحو عشرين روايا كلهم قالوا: مسح على الخفين:
*****وأنفرد واحد يُقال له: أبو قيس، عن هُزيل بن شرحبيل عن المغيرة فقال: مسح على الجوربين والنعلين.
*****فنقول: هذه الرواية راويها عدل وإن كان أبو قيس فيه مقال، كما قال مسلم في التمييز صـ203. وإسنادها متصل، لكنها شاذة، والشذوذ ضعف، فلا يسمى هذا حديثاً صحيحاً، بل يسمى إسناده صحيحاً ولكنه شاذ، قد خالف فيه الثقة من هو أكثر منه وأوثق وأضبط، وأكثر ملازمة وما أشبه ذلك.
· الحديث المعلول:
*****وكذلك السلامة من العلة، والمعلول هو: ما فيه علة خفية قادحة، فقد يطلع أحد العلماء على خطأ من أحد الرواة، كأن يقلب الحديث، أو يرويه بالمعنى، أو يرفعه وهو موقوف، أو يصله وهو منقطع أو ما أشبه ذلك فيطلع النقاد من أهل الحديث على أن فيه علة، وأنها قد خفيت على أكثر المحدثين، لكون ظاهر الإسناد الصحة، ولكن بالتتبع وبمقابلته بالأحاديث الأخرى وجد أن فيه علة خفية قادحة، ويسمى هذا بالمعلول، وقد ألف فيه تآليف كثيرة، مثل كتاب (العلل) لابن أبي حاتم في مجلدين بلغت أحاديثه التي فيها علل ألفين وثمانمائة وأربعين حديثاً، رتبها على ترتيب أحاديث الأحكام من الطهارة إلى آخره، مقتصراً على الأحاديث التي فيها علل، ويعتمد غالباً في أخذ العلة على أبيه؛ لأنه كان من فرسان المحدثين، وعلى ابن عم أبيه وهو أبو زرعة الرازي، وكان من أهل العلم بالرجال، ومن أهل العلم بالعلل، وقد أكثر فيه من الأمثلة، وتوسع حتى أدخل أحاديث صحيحة علتها تكون بنسبة يسيرة.
*****ومثله وأوسع منه (العلل) للدارقطني فإنه قد توسع حتى علل أحاديث موجودة في الصحيحين، أو في أحدهما! وكتابه أوسع من غيره، وقد طُبع منه عشرة أجزاء وفيها 2083 حديثاً.
*****وبالجملة قلَّ أن يكون الإنسان راوياً للكثير إلا ويقع في شيء من الخطأ، فيعتبره بعض الناس حديثاً صحيحاً. وهو خطأ.
يرْوِيهِ عَدْلُ ضَابطٌ عَنْ مِثلهِ ... ... ... مُعْتمَدٌ في ضَبْطِهِ ونقْلِهِ
*
· تعريف العدالة:
*****قوله: (يرويه عدل ضابط عن مثله) العدل الضابط المراد به الراوي، ولابد في الراوي من وصفين: العدالة، والضبط.
*****والعدالة ما هي؟ معلوم أنها تشترط العدالة في الشاهد مثلاً في المحاكم لقوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم)(الطلاق:2). فكذلك العدالة في رواي الحديث، أي: لابد فيه من اعتبار العدالة.
*****وقد تكلم الفقهاء في العدالة في الشهود ، وذكروا ما يقدح في عدالة الشاهد، وما يخرجه من سمة العدالة، وقالوا: العدالة هي:
*****أولاً: فعل الواجبات وترك المحرمات.
*****ثانياً: المحافظة على الشِّيم والأَخلاق.
*****ثالثاً: فعل المُروءات. والمروءة هي: أن يفعل كل ما يُجَمِّل ويُزين، ويترك ما يُدنس ويشين، فهذا هو العدل، وتفصيل ذلك طويل، وقد توسعوا فيه في كتب الفقه في كتاب الشهادات، وذكروا أمثلة مما يقدح في عدالة الشاهد، حتى أوصلها بعضهم إلى مائة قادح أو أكثر، حتى قدحوا في شهادة من يأكل في الأسواق، أو يمشي كاشفاً لبعض عورته كفخذيه، أو يمد رجليه في المجالس، أو يضطجع أمام الناس ولا يبالي؛ لأن ذلك يدل على سخافته ودناءته، وعلى نذالة خلقه، وكذلك قدحوا في شهادة من يجاهر بالمعصية ويعلن بها ونحو ذلك، فكذلك يقدح في روايته.
· تعريف: الضبط
*****(أما الضبط) فهو الحفظ، وذكروا أنه قسمان: (ضبط صدر) و(ضبط كتاب).
* تعريف ضبط الصدر:
*****فضبط الصدر: أن يحفظ ما رواه: أي: إذا سَمِعَهُ حَفِظَه، أو ردده حتى يحفظه، وعلامة الحفظ: أن يأتي به كما سمعه وأن يستحضره كلما أراد الاستشهاد به فيسرده كما هو. وكان في الصحابة حفاظ، منهم: أبو هريرة رضي الله عنه حافظ الصحابة، ومع ذلك كان يكرر الأحاديث، يبيت أول الليل يدرسها ويكررها ويرددها حتى لا ينساها؛ لأنه يُحدث من الذاكرة، ولم يكن يكتب، وهناك من يكتبها كعبدالله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقد كتب صحيفة وسماها الصحيفة الصادقة، وتوارثها ولده بعده، إلى أن وصلت إلى عمرو بن شعيب بن محمد بن عبدالله بن عمرو بن العاص، وكذلك في التابعين حفاظ، منهم من يحفظ الحديث أو القصة، أو القصيدة عندما يسمعها، وقد روي عن الشعبي عامر بن شراحيل التابعي المشهور أنه قال: (ما كتبت سوداء في بيضاء) مع كثرة أحاديثه، وكثرة ما يحفظه من القصص والأخبار، والقصائد والأشعار، ونحو ذلك، ومع ذلك لم يكن يكتب، بل كان يعتمد على الحفظ، وأن بعضهم لم يكن يطلب من المحدث أن يعيد شيئاً بل متى سمع الشيء حفظه لأول مرة ولو لم يتكرر، حتى أن بعضهم كان إذا مر باللهو أو بالكلام الباطل، والقصص الخرافية ونحوها يسد أذنيه، مخافة أن يدخل فيها شيء باطل فيبقى في ذهنه، فهو يحب أن تكون محفوظاته خالية من الأشياء التي لا فائدة فيها، وهذا هو: ضبط الصدر.
* تعريف ضبط الكتاب:
*****وأما ضبط الكتاب: فكونه إذا سمع الشيء دونه وكتبه، وحفظ كتابه في صندوقه أو في يده، مخافة أن يطلع عليه سفيه فيزيد فيه أو ينقص منه، أو ما أشبه ذلك، فإن هذا ونحوه قدح في الضبط، بخلاف ما إذا حفظ كتابه فإنه يؤدي منه متى أراد، بدون أن يحصل فيه تغيير أو نقص، ولهذا قال الناظم في ذلك الراوي: (معتمد في ضبطه ونقله) يعني معتمد عليه، ضابط لما يسمعه ولما ينقله، وسبب الاعتماد الحفظ والأهلية.
· أقسام الحديث الصحيح:
*****أقسام الحديث الصحيح كثيرة، أرفعها ما اتفق عليه البخاري ومسلم، ثم بعده ما كان في صحيح البخاري، ثم بعده ما كان في صحيح مسلم دون البخاري، ثم بعده ما كان على شرطهما وإن لم يروياه، ثم بعد ذلك ما كان على شرط البخاري وحده، ثم بعده ما كان على شرط مسلم وحده، ثم ما صح عند البقية من المحدثين وإن لم يكن على شرط أحد منهما.
*
الحديث الحسن:
*****قوله: (والحسن المعروف طرقاً) هنا عرَّف الحسن.
*****يقول في تعريف الحديث الحسن: أنه ما غدت رجاله اشتهرت، لكنه نزل عن درجة الصحيح، وعرَّفه بأنه معروفة طرقه يعني أن أسانيده معروفة، وأن رجاله موثوقون، وأنه متصل، إلا أن رجاله وجملته ليسوا في الشهرة كرجال الصحيح، بل أقل منهم شهرة، فهو يُقبل ويُعمل به، ولكن منزلته دون منزلة الصحيح، لنزول درجة رجاله، فمن المعلوم أن رجال الحديث يتفاوتون في الثقة والحفظ، فمنهم: حفَّاظ نقَّاد، ومنهم: حفَّاظ يقعون في شيء من الوهم.
*****وقد ذكر مسلم في مقدمة صحيحه أمثلة من هؤلاء وهؤلاء، فمثل للثقات العدول: بإسماعيل بن أبي خالد، ومنصور بن المعتمر، وسليمان الأعمش ومثلهم كثير كما للابن أمر وابن أبي ذئب وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وشعبة بن الحجاج، وأبي إسحاق السبيعي، وأمثالهم، فهؤلاء أئمة وحفاظ وعلماء، يحفظ أحدهم ما سمع غالباً، وقد اشتهروا بالنقل، وصار الناس يرجعون إليهم، وتتلمذ عليهم الخلق الكثير، فمثلاً تلامذة الزهري لا يكادون أن يحصوا كثرة لاشتهاره بالحفظ، ومثل تلامذة الأعمش سليمان بن مِهران أحد الحفاظ المشهورين كثيرون لاشتهاره فيما بينهم بالحفظ، وكذلك الذين اشتهروا بقوة الحفظ، كما ذكرنا أن الشعبي عامر بن شراحيل يقول: (ما كتبت سوداء في بيضاء)، لقوة حفظه مع كثرة ما روى، فهو من الحفَّاظ المشهورين، فإذا جاءنا في رجال الحديث من هؤلاء الأئمة اعتبرناه من الصحيح ! سواء كانوا من أهل العراق كشعبة، والثوري، والسبيعي، ونحوهم، أو من أهل الشام كالأوزاعي، أو من أهل مصر كالليث، أو من أهل مكة كابن عيينة، وعطاء بن أبي رباح، أو من أهل المدينة كالزهري ومالك وابن أبي ذئب ونحوهم، فنقول: هؤلاء رجال الصحيح، فمن نزل عن مرتبتهم وإن كان يشمله اسم الصدق والحفظ وكثرة الرواية، لكن يقع منه خطأ، وينسى أحياناً فهو الذي روايته في مرتبة الحسن. فمثلاً أبو صالح السمان أحد الحفاظ من تلاميذ أبي هريرة، نقله يعتبر في درجة الصحيح، وتلميذه ابنه سهيل كثير الرواية عن أبيه، لكنه يقع في أخطاء، ولأجل هذا احتج به مسلم دون البخاري، فروايته وحده تعتبر في مرتبة الحسن، وكذلك يمثل بسعيد بن أبي عروبة، وعطاء بن السائب، وليث بن أبي سليم، ويزيد بن أبي زياد، وأشباههم، هؤلاء يروون أحاديث، ولكن ليسوا في الترتيب في منزلة رجال الصحيح، فيعد تفردهم أو كون الحديث من رواية أحدهم هو الحسن، هذا معنى قوله: (وغدت رجاله لا كالصحيح) يعني اشتهرت لا كرجال الحديث الصحيح، بل دون رجال الصحيح في الشهرة.
*****وقد عرفنا أن رجال الحسن يشملهم العدالة والضبط، إلا أن ضبطهم أقل من ضبط رجال الصحيح، وهذا هو الفرق بين الحديث الحسن والحديث الصحيح.
*
· معنى قولهم: حسن صحيح:
*****واستشكلوا الجمع بين الحسن والصحيح، كما يفعله الترمذي في قوله: هذا (حديث حسن صحيح)، فما الجواب؟ فإن كونه صحيحاً يغني عن كونه حسناً؛ لأن الحسن أنزل من درجة الصحيح، فكيف يكون حسناً صحيحاً؟ لماذا لم يكتف بصحيح؟ أو لم يكتفِ بحسن، إن كان أنزل درجة من الصحيح؟ ولم يستعمل هذا غالباً إلا الترمذي، ولكن يظهر أن الترمذي لم يلتزم هذا الاصطلاح، وهو أن الصحيح رجاله هم الموثقون الحفاظ، والحسن رجاله هم الذين دون أولئك في الضبط، إنما أراد بقول: حسن صحيح. الوصف له بما يقتضي الصحة والعدالة والقبول، فيقول: حديث حسن صحيح، يعني أنه حسن من حيث مخرجه، وصحيح من حيث أصله، كأنه يصفه بما يؤكد *قبوله، هذا هو المتبادر من فعل الترمذي.
*****أما إذا قال: حديث حسن. فإنه كما ذكر أن الحسن هو ما عرف مخرجه واشتهرت رجاله، وروي له طريقان أو أكثر.
*
· أقسام الحديث الحسن:
*****ثم يقسّمون الحسن أيضاً إلى قسمين: حسنٌ لذاته، وحسنٌ لغيره، كما أن الصحيح ينقسم إلى قسمين: صحيح لذاته، وصحيح لغيره، والحسن لذاته هو: الذي له طريق واحد، ولكن رجاله موثقون، ثم قد يكون الحسن صحيحاً وذلك إذا تعددت طرق روايته، أي: روي عن طريقين أو أكثر، ولكن كل منهما رجاله كرجال الحسن، فيكون هذا الطريق حسناً لذاته، وهذا الطريق الثالث حسناً لذاته، وهذا الطريق حسن لذاته والمدار على الصحابي في الحديث الواحد، فنقول هذا هو الصحيح ولكن لا لذاته بل بالمجموع، ويسمى الصحيح لغيره، يعني أنه صحيح لشواهده ولكثرة طرقه، فإن كثرة الطرق تقويه، وتنقله من قوي إلى أقوى.
*****أما الحسن لغيره فهو: الذي نزل عن درجة الحسن لما كان فرداً، ولكن بمجموع الطرق -وكلها لا تخلو من الضعف- يترقى إلى الحسن لا لذاته بل بالمجموع.
*
· المتابعات والشواهد:
*****فعندنا مثلاً طريق ضعيف، وطريق آخر فيه ضعف، وطريق ثالث فيه ضعف، تجتمع هذه الطرق وتتقوى، ويكون حسناً لا لذاته بل بالمجموع، يعني أنه تقوّى بهذا وبهذا فأصبح حسناً لغيره؛ ولهذا يسمون الطرق متابعات وشواهد وإن لم يذكرها الناظم فقد ذكرها غيره. والمتابعات تكون في السند والشواهد تكون في المتن.
*****فإذا كان الراوي يوافق غيره كان دليلاً على ثقته، وإذا كان ينفرد عن غيره كان دليلاً على ضعفه، وتسمى موافقته لغيره متابعة، فتجدهم إذا قرأت ترجمة أحد الرواة يقولون مثلاً في الكلام عليه: فلان ضعيف، لا يُتابع على أحاديثه، أو ينفرد عن الثقات بالمنكرات، أو ينفرد بالغرائب عن الثقات.
*****أما الذي يتابع فإنه يدل على حفظه، فعندك مثلاً: الزهري له تلاميذ كثيرون، فإذا روى عنه ابن أخيه وهو محمد بن عبدالله حديثاً، ولم يروه غيره قلنا: هذا الحديث غريب، تفرد به ابن أخي الزهري عن عمه، ولو كان عند الزهري ما تركه بقية تلامذته، فدل على ضعف هذا الحديث حيث تفرد به ابن أخي الزهري، فإن وجدناه قد رواه يونس بن يزيد الأيلي أحد تلامذة الزهري، أو عقيل بن خالد أحد تلاميذه، أو شعيب بن أبي حمزة أحد تلامذة الزهري أو سفيان ابن عيينة، أو الثوري، أو معمر بن راشد،أو من أشبههم عرفنا أنه قد توبع، فقلنا: ابن أخي الزهري يتابع، تابعه فلان على حديثه، وتابعه معمر وهكذا .
*****والحاصل أن الحسن لغيره هو: الضعيف الذي تتعدد طرقه.
*****والصحيح لغيره هو: الحسن الذي تتعد طرقه.
*
· الضعيف الذي لا ينجبر:
*****ثم إن هناك ضعفاً لا ينجبر، وهو أن يكون الرواةمتهمين بالكذب، مشهورين به، وقد تتعجب من توافق كثير من الروايات التي فيها ضعف، لكن لا غرابة، فإنهم قد يتفقون على الكذب فيجتمع مثلاً في مجلس واحد ثلاثة يختلقون حديثاً، ويقولون: نرويه عن فلان الثقة المعروف، فيتفرقون وكل منهم يحدِّث به، فيقول مثلاً: حدَّثني شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن سالم عن أبيه، فمثلاً عبدالقدوس بن حبيب في الشام يقول: حدّثني شعيب، ثم يأتي أحد الكذابين في العراق كعمرو بن جميع ويقول: حدثني شعيب، ويأتي آخر في خراسان ويقول: حدثني شعيب، فإذا رأينا أن هذا الحديث قد توافقوا وتتابعوا على روايته عن شعيب تعجبنا حتى ليجزم بعضهم أن شعيباً حدَّث به، وإلا فكيف اتفق عليه راوي العراق، وراوي خراسان، وراوي الشام؟
*****والجواب: أنه لا عجب، فقد يجمعهم مجلس، ويتفقون فيه على اختلاق حديث، ويتفرقون ويروونه، وقد يسرقه بعضهم، كما تجد في تراجم بعض الرواة ذكر السرقة، يقال: فلان يسرق الأحاديث. أي أنه إذا سمع حديثاً ضعيفاً مروياً من طريق سرقه، وكتبه، ثم حدّث به من طريق ثانِ، فاختلق له طريقاً آخر، فيتعجب الذي يرى هذا مخرجاً من طريق، ثم يراه مخرجاً من طريق آخر، ويقول: كيف توافقت الرواة؟ يعني هذا: طريق كلهم مصريون، وله إسناد من طريق كلهم عراقيون، فنقول: لا غرابة في ذلك، فقد يكون الذي اختلقه لأول مرة هو المصري، ثم لما سمع به العراقي ركب له إسناداً، ليدعي أنه قوي.
*****وقد يكتب بعضهم إلى بعض ممن يَروون الكذب، أو يرون جواز الكذب أو نحو ذلك، فإذاً قد يقع في روايات الضعفاء توافق، فلا تكون متابعة الضعيف شديد الضعف رافعة لضعف الحديث، ولا مسببة لنقله إلى مرتبة الحسن لغيره، وإنما الذي يرتقي إلى مرتبة الحسن إذا كان الضعف فيه ينجبر وذلك إذا كان الراوي غير متهم بالكذب. أما الضعف الذي لا ينجبر فلا يعني ما هو ضعيف بسبب رواة متهمين بالكذب، وقد عرف أن الراوي يطعن فيه فيُقال: كذَّاب. أو يُقال: متهم بالكذب، أو ما أشبه ذلك.
*****فإذا كان الراوي غير متهم بالكذب، فضعفه ينجبر إذا روي عن طريق أُخرى، وأحاديث الكذَّابين تُتَجنَّب.
*****وقد كُتبت في ذلك مؤلفات كثيرة ككتب الموضوعات، والقصد من كتابتها التحذير منها لكي يعرفها الناس ويحذروها ويتجنبوا روايتها، أو يتجنبوا تصديقها والعمل بها، فمنها: (كتاب الموضوعات) في أربعة مجلدات لابن الجوزي، يرويها بالأسانيد، ويقتصر على الأحاديث الموضوعة، وإن كان قد تساهل وأدخل في ذلك أشياء من الأحاديث التي فيها ضعف لا يصل إلى الوضع ومنها: (تنزيه الشريعة المرفوعة) لابن عراق في مجلدين، وهو من أوفى ما كتب في الموضوعات، وإذا كان رواة المتابعات كلها من المبتدعة، فإن الضعيف لا يترقى إلى الحسن؛ لأن كثيراً من المبتدعة يتساهلون في رواية الموضوع سيما إن كانت الأحاديث تؤيد بدعتهم، أو يرون وضع الأحاديث حسبة، تقوية لمذاهبهم ومعتقداتهم، وأكثر من يفعل ذلك الرافضة الذين امتلأت مؤلفاتهم بالأكاذيب التي يؤيدون بها مذهبهم.
وكُلُّ ما عَن رُتْبَةِ الحُسْنِ قَصُر ... ... ... فهو الضّعِيفُ وهْوَ أَقْسَاماً كُثرْ
*
· الحديث الضعيف:
*****قوله: (وكل ما عن رتبة الحسن قصر ... فهو الضعيف وهو أقساماً كَثُر):
*****معروفٌ أن الحديث صحيح، وحسن، وضعيف، ومنهم من يقول: صحيح وضعيف، ولكن الصحيح ينقسم إلى قسمين، صحيح قوي، وصحيح دونه في القوة وهو الحسن، فكل ما نزل عن مرتبة الحسن فهو الضعيف، وأقسامه كثيرة.
*****فمنه: ما يسمى بالمنكر، والمنقطع، والمقلوب، والموضوع، ومنه يُطلق عليه اسم: الضعيف، ومنه ما يكون ضعفه بسبب في إسناده، كالمعضل، والمعلق، والمرسل والمدلس والمعنعن وما أشبه ذلك، كمما سيأتينا أمثلة لذلك.
*
وَمَا أُضِيفَ لِلنَّبيِ المرْفوعُ ... ... ... وَمَا لِتابعٍ هوَ المقطوعُ
*
· الحديث المرفوع:
*****قوله: (وما أضيف للنبي المرفوع ... وما لتابع هو المقطوع)
*****الحديث المرفوع هو: ما ينتهي إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله أو فعله أو تقريره، وينقسم إلى مرفوع صريحاً، ومرفوع حكماً.
*****فالمرفوع الصريح هو أن يُقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فَعَلَ النبي صلى الله عليه وسلم كذا، أو فُعِلَ بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم كذا، فهذا مرفوع صريحاً.
*****أما المرفوع حكماً فهو كلام الصحابي الذي يتورع عن الجرأة في الدِّين، ولم يأخذ عن الإسرائيليات ونحوها، وتكلّم بما لا مجال للرأي فيه، فإن له حكم الرفع، حيث إنه لا يُقال مثل هذا بالرأي وعلى هذا تحمل كثير من أحاديث الصحابة الموقوفة فإن يوجد أحاديث موقوفة على الصحابة كعمر وعثمان وعلي، وابن عمر، وأنس وجابر ونحوهم، فهذه الآثار أقوال يقولونها وأفعال يفعلونها لها أحكام ولا يمكن أن يفعلوها من تلقاء أنفسهم، بل لابد أن يكونوا تلقوها عن نبيهم صلى الله عليه وسلم سواء كانت في العبادات أو في المعاملات، وسواء كانت أفعالاً أو تروكاً، فإن لها حكم الرفع.
*
· الحديث الموقوف:
*****وقد ألحق بذلك بعضُ العلماء ما كان عن التابعين، ولكن الصحيح أن التابعي ما وقف عليه، فهو أقل رتبة مما وقف على الصحابي، فالصحابي إذا انتهى إليه الإسناد فإنه يسمى موقوفاً، ولكن إن كان لا مجال للرأي فيه فهو مرفوع حكماً، وإن كان للرأي مجال فيه فهو موقوف أصلاً وفرعاً، أما إن انتهى إلى التابعي (وهو الذي رأى الصحابة) كسعيد بن المسيب، وقتادة، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم، والزهري وأشباههم، فإن ما وقف عليه يسمى مقطوعاً.
*
· الحديث المقطوع:
*****(وما لنابع هو المقطوع) يعني: ما وقف على التابعي وجعل من كلامه فإنه مقطوع، وقد دونت فتاواهم وأقوالهم، وما تركت تضيع، حتى ولو كانوا من التابعين؛ لأنهم تلامذة الصحابة، فاعتنى كثير من العلماء بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم المرفوعة ودوّنوها، كأهل السنن وأهل الصحيحين ونحوهم.
*****وبعض العلماء الذين ألفوا في كتب الأحكام لم يقتصروا على المرفوع، بل ألحقوا به أقوال الصحابة وأقوال التابعين وأفعالهم واجتهاداتهم، ولو كان فيها شيء من الاختلاف، *فإنها تدل على أن هذه المسألة فيها مجال للاجتهاد، وقد نجد اختلافاً عن بعض الصحابة فقد اختلفوا في المستحاضة كم تجلس؟ واختلفوا في من أتى حائضاً هل يكفر أم لا؟ واختلفوا في إزالة النجاسة بكم تزول؟ لكن هذا الاختلاف يدل على أن هذه الأمور فيها سعة، وأن فيها مجالاً للاجتهاد، وأنه ليس كل ما قالوه متحققاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
*****فالحاصل أن ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسمى مرفوعاً، وما أضيف إلى الصحابي يسمى موقوفاً، وما أضيف إلى التابعي من كلامه أو فعله يسمى مقطوعاً، فإن المسألة إما أن يوجد فيها نص مرفوع، فحينئذ يستدل به وتطرح أقوال غير الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه طريقة الإمام أحمد، فإنه إذا وجد في الباب حديثاً لم يلتفت إلى غيره، وإذا لم يجد حديثاً ووجد فيها أثراً عن الصحابة تمسك به إذا لم يختلفوا، فإذا اختلف الصحابة اختار القول الذي فيه أحد الشيخين أبي بكر وعمر أو أحد الخلفاء، فإذا لم يجد عن الصحابة في المسألة شيئاً فإنه يذهب إلى أقوال التابعين؛ لأنهم تلامذة الصحابة، فإذا لم يجد فيها شيئاً اجتهد بنظره وأفتى بما يوجبه اجتهاده.
وَالمُسْنَدُ المتَّصلُ الإِسنادِ مِن ... ... ... رَاويهِ حَـى المُصْطفى وَلَمْ يَبنْ
*
· الحديث المسند:
*****وقوله: (والمسند المتصل الإسناد من ... راويه حتى المصطفى):
***** ***اقتصر الناظم هنا على تعريف المصطلحات تعريفاً موجزاً، دون أن يذكر أكثر من تعريف، ودون أن يذكر شيئاً من الخلاف، أو كثرة الأقوال، وقد تقدم تعريف الحديث الصحيح، والحسن، والضعيف، والموقوف، والمرفوع، وذكر الناظم في هذا البيت تعريف المسند.
*****فالمسند مشتق من الإسناد والإسناد هو سلسلة الرجال أي رجال الحديث، وسمي إسناداً لأن بعضهم يسنده عن الآخر وهذا يسنده عن الآخر، كأنه يبرأ من عهدته، إذا حدثك بهذا الحديث فإنه لا يتهم به، حيث إنه نقله عن شيخه فلان، فأسنده إليه وسلم من العهدة، وشيخه فلان أيضاً سلم من العهدة حيث أسنده إلى شيخ له، وهكذا كل واحد منهم يسنده إلى شيخه، إلى أن يصل بالنبي صلى الله عليه وسلم فهذا هو المسند أي ما رُوي بالإسناد، بحيث أن كل راوٍ منهم ينقله عن الآخر، ورجال الحديث يسمون إسناداً.
*
· الإسناد المتصل:
*****ويُقال: هذا إسناد صحيح، يعني رجاله موثقون، وقد عرفت أن الإسناد معناه إضافة الشيء إلى إنسان، تقول: فلان أسند هذا القول إلى فلان، يعني أضافه إليه، كأنه كان ملتصقاً به، ثم بعد ذلك اعتمد على غيره، واستند على سواه، فالإسناد هو رجال الحديث، بقطع النظر عن كونه فيه فجوات، أو ليس فيه فجوة، فإنه قد يسقط بعض رجاله وهو ما يسمى معلقاً أو معضلاً، أو منقطعاً أو مرسلاً، أو مدلساً، وذلك من العيوب التي يطعن بها في الحديث، فأما إذا اتصل رجال الإسناد فهو المتصل، إذا كان كل منهم قد روى هذا الحديث عن شيخ له قد سمعه منه، تقول: هذا إسناد متصل، وضده المنقطع، فالمتصل هو المتواصل، فأنت مثلاً إذا خططت خطوطاً في الأرض وتركت بينها فرجاً قيل: هذا خط متقطع، فإذا وصلت بينها أي: وصلت هذا وهذا، قيل: هذا خط متصل. ومثله خطوط الطرق للسيارات فالمتصل الذي يستمر من هذه البلدة إلى هذه البلدة، أي متواصل ليس فيه فجوات، أما إذا كان فيه فجوة ولو قدر ذراع، أو قدر عشرين باعاً أو مائة قيل: هذا خط منقطع، أو خط متقطع أي: فيه قطع، فالإسناد كذلك، كون كل من الرواة سمع من الآخر واتصل السماع واتصلت الرواية.
*****ومثال ذلك: إن قال مسلم مثلاً: حدَّثنا محمد بن رافع (شيخ له قد لقيه وأخذ عنه كثيراً)، وابن رافع قال حدثنا عبدالرزاق شيخ له قد لقيه وأخذ عنه كثيرا وعبدالرزاق قال: حّدثنا معمر (أحد مشايخ عبدالرزاق)، ومعمر قال: حدَّثنا الزهري. وهو قد لقي الزهري وأخذ عنه، والزهري قال: حدثني سالم بن عبدالله، وهو من أشهر مشايخه، وسالم قال: حدثني عبدالله بن عمر، وهو أبوه الذي هو من أشهر تلاميذه من أولاده، نقول: هذا إسناد متصل، حيث إننا تحققنا أن كلاّ منهم قد لقي الآخر وقد حدث عنه، وهكذا سائر الأسانيد المتصلة، فإنها سميت متصلة لتلاقي كل من التلميذ وأستاذه، وكونه قد لقيه ويعرف أنه قد لقيه إما بإخباره، كأن يقول: لقيت فلاناً وأخذت عنه وإما بالإمكان بكونهما في بلد واحد، وقد عاش معه سنين، وهو يجمع الأحاديث، ويحرص على جمعها، لاسيّما كبار السن، فإنه والحالة هذه يكون إذا روى عنه يحمل على السماع، كذلك بالتحديث إذا كان مأموناً موثوقاً، وقال: حدثني فلان، عرفنا من ذلك أنه حدثه وسمعه منه، كذلك بالتصريح بالسماع، إذا قال: سمعته من فلان، فإنه يحمل على الاتصال فيكون إسناده متصلاً وهكذا يقال في بقية الأسانيد، فالإسناد المتصل هو المتواصل الذي ليس فيه اختلال، وضده المنقطع، والمنقطع هو الذي في إسناده سقوط واحد من الوسط، أو اثنين غير متواليين من الوسط، فإن سقط من وسطه اثنان أو أكثر على التوالي فإنه يسمى معضلاً.
*
· الحديث المعلق:
*****فإن كان السقط من أوله وكان واحداً أو أكثر فيسمى معلقاً.
*****كأن صاحب الكتاب علقه وهو يريد أن يتناوله ولا يقدر على الوصول إليه.
*****فإن كان السقط من آخره بعد التابعي فإنَّه يسمى مرسلاً، فإن كان السقط خفيّاً، وظاهر الإسناد أنه متواصل لكن فيه سقط خفي فإنه يسمى مدلساً، والمُدَلِّس هو الذي يروي عن شيخه ما لم يسمعه منه بصيغة تحتمل اللقي، فيقول مثلاً: عن فلان. وكان قد لقيه لكنه ما سمع منه هذا الحديث كقوله عن الزهري. أو قال الزهري لما لم يسمعه منه، فإذا قال: حدثني الزهري، دل على أنه سمعه منه، أو قال: سمعته من الزهري، فالمدلس يتوقف في قبوله مخافة أن يكون قد دلسه عن ضعيف فأسقطه.
*****قوله: (ولم يبن) يعني ينقطع، أي لم يكن فيه بون، والبون الانقطاع، يقال مثلاً بان عنه، يعني انفصل عنه وانقطع، وتقول: أبن هذا عني، يعني أزله، وفي الحديث لما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشراب وأن الإنسان لا يروى بنفس واحد قال: (أبن القدح عن فيك) ويعني: أفصله وأخره (لم يبن يعني لم يفصل، ولم ينقطع، ولم يكن فيه بون، والبون والبين هو الانقطاع، كما في قول بعضهم: وأتى دونك البون، وبون بعيد، وبينهم بون شاسع، فالبون هو البعد، فالمسند هو الذي إسناده موجود، بقطع النظر عن الإسناد هل هو متصل أو منقطع، فصورة الإسناد ظاهرة، وقد يكون مُدلساً، وقد يكون مرسلاً خفياً، وقد يكون مرسلاً جلياً، وقد يكون معضلاً، وإنما فيه صورة الإسناد ظاهرة، وضده ما لم يسند، فمثلاً كتاب (رياض الصالحين) للنووي أحاديثه ليست مسندة بل مذكورة بدون أسانيد، وصحيح مسلم أحاديثه مسندة من مسلم إلى الصحابي إلى الرسول.
*****وعلى هذا فالمسند هو الذي فيه الإسناد، وقد يكون في تلك الأسانيد ما هو منفصل منقطع، أو مرسل أو معضل، ولكن مع ذلك تُسمى مسانيد، وأحاديث مسندة، فالمسند هو الذي يوجد فيه الإسناد.
*****والمتصل هو الذي اتصل إسناده بالسماع أو بالتحديث، بحيث لم يظهر فيه ما يوهم أنه غير متصل، فمن سمعه عرف أنه متصل.
مُسَلسلٌ قلْ ما عَلى وَصفٍ أَتى ... ... ... مِثْلُ أَمَا وَاللهِ أَنبانِي الفتى
كَذَاكَ قَد حَدَّثنيهِ قَائِمــــاً ... ... ... أَوْ بَعْدَ أَنْ حدَّثني تبسَّما
*
· الحديث المسلسل:
*****وأما (المسلسل) فهو ما على وصف أتى، يعني: ما أتى على صفة معينة من أول السند إلى آخره.
*****وقد يكون مسلسلاً بالقول، أو مسلسلاً بالفعل، فالمسلسل بالقول كالمسلسل بالتحديث، أي أن كل واحد منهم يقول: حدَّثني حدّثني، والمسلسل أيضاً بالقول كالمسلسل بالسماع، كأن يقول: سمعت فلاناً قال: سمعت فلاناً، قال: سمعت فلاناً. إلى أن يقول الصحابي: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون مسلسلاً بقول خارج، ومِثلُ ذلك حديث معاذ لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أحبك) فإنه تسلسل، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: (إني أحبك) ومعاذ قال لتلميذه: إني أحبك وتلميذه قال للثاني: إني أحبك. وقد قال لي فلان: إني أحبك وقال لي فلان: إني أحبك، إلى أن قال: قال لي معاذ: إني أحبك. قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أحبك) فلا تدع أن تقول دبر كل صلاة: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، فهذا مسلسل بهذه المقالة إلى أن وصل إلى الصحابي يعني من أول الإسناد إلى الصحابي، كل واحد منهم يقول لتلميذه: إني أحبك.
*****وهناك حديث مسلسل بالأولية، وهو أن يقول الراوي: حدثني فلان، وهو أول حديث سمعته منه. قال: حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه، إلى أن يصل إلى الصحابي، فهذا مسلسل بالأولية.
*****وقد يكون مسلسلاً بالفعل، كأن يقول: حدثني فلان وهو قائم، قال: حدثني فلان وهو قائم، إلى أن يصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون مسلسلاً بفعل أجنبي، كأن يقول: حدثني فلان متبسماً، أو حدثني فلان وهو يضحك، قال: حدثني فلان وهو يضحك، قال: حدثني فلان وهو يضحك. أو وهو يبتسم، إلى أن يصل إلى الصحابي، فيكون هذا مسلسلاً بالفعل. فالحاصل أن المسلسل ما اتفق رواته على صيغة أو على كلمة تتصل بالرجال، أو تتصل بكيفية الأداء، فتسلسل كأنه انجر من هذا إلى هذا، والتسلسل أصله التجاذب، تسلسل القوم يعني تجاذبوا، يعني صاروا كذا وكذا، وكذلك تسلسل أي: ترقى من كذا إلى كذا، وتسلسل هذا العمل يعني نزل من هذا إلى هذا، فأخذوا منه هذه الكلمة، وذكروا في الأحاديث المسلسلة أنها غالباً تكون ضعيفة أو يختل فيها التسلسل كثيراً، فيحتاجون أن يأتوا به بصورته فينقطع في بعض الأحيان فيقع فيها تساهل، أو يقع فيها شيء من الرواية بالظن أو ما أشبه ذلك.
عزيزُ مَروي أثنينِ أَوْ ثلاثةْ ... ... ... مشهورُ مَرْوي فوق ما ثلاثةْ
*
*****وهنا تأتي تعريف العزيز والمشهور، وبعده المعنعن والمبهم، والعالي والنازل.
· الحديث العزيز،· والمشهور،· والمستفيض:
*****فأما (العزيز) فهو ما رواه اثنان، وقيل: ما رواه ثلاثة، والأشهر أنه ما رواه اثنان فقط، يعني رواه عن الصحابي اثنان، ورواه عن الاثنين اثنان وهكذا، رواه اثنان إلى أن وصل إلى المؤلف، وسمي عزيزاً من العزة وهي القلة، يُقال: هذا (عزيز) في هذا الزمان، يعني قليل، كما يقولون: هذا أعز من الكبريت الأحمر. يعني أقل من العزة، وهي القلة؛ لقلة رجاله، وقيل: مشتق من القوة، فإن أحد الراويين تقوى بالآخر، فقد كان غريباً كما سيأتي، ولكن بعد أن رواه راوٍ آخر ووجد له إسناد آخر تقوى أي أصبح قوياً، فقيل: عزيز بمعنى قوي، فالتعليل الأول يناسب كونه مروي اثنين، وإذا قيل: إنه مروي ثلاثة -كأن يكون له ثلاثة أسانيد- فإنه مشتق من القوة لا من القلة؛ لأن الثلاثة فأكثر ليست قليلة، بل هي أدنى الكثرة، هذا هو العزيز.
*****وذهب الحاكم إلى أنه شرط للصحيح، وقال: لا يكون الصحيح إلا ما رواه اثنان أو أكثر، وعلى كلام الحاكم لا يكون الغريب صحيحاً، وقد خالفه في ذلك كثير من العلماء، وصححوا أحاديث غريبة ليس لها إلا إسناد واحد، كحديث: (إنما الأعمال بالنيات) فليس له إلا إسناد واحد بالنسبة إلى التابعين، ومع ذلك فهو صحيح، وكذا الترمذي فهو في كتابه الجامع يصحح الأحاديث الغريبة، فيحكم بغرابته ومع ذلك يصححه فيقول: هذا حديث صحيح غريب، والغريب ما ليس له إلا إسناد واحد.
*****فالحاكم يقول: لا يكون صحيحاً إلا إذا كان له إسنادان، وهو العزيز، والراجح إن شاء الله أنه قد يحكم بصحة الحديث الغريب إذا كان إسناده ثقات، ورواته مشهورين، ولو لم يكن له إلا إسناد واحد.
*****فالعزيز ما رواه (إما اثنان)، على قول الحاكم وهو المشهور، أي ليس له إلا إسنادان، (وإما ثلاثة) على قولٍ أشار إليه الناظم البيقوني (عزيز مروي اثنين أو ثلاثة) وهو يدل على أن هناك خلافاً، وأن بعض العلماء قالوا: العزيز ما رواه ثلاثة والمعنى أنه رواه عن الصحابي ثلاثة، ثم استمر يرويه ثلاثة ثلاثة، إلى أن وصل إلى أهل التأليف، فأصبح له ثلاثة أسانيد، كما لو رواه مثلاً عن أنس ثلاثة من تلاميذه كقتادة وأيوب السختياني وثابت البناني ثم يرويه عن كل واحدٍ واحدٌ، فيرويه عن قتادة شعبة، ويرويه عن ثابت سعيد بن أبي عروبة، ويرويه عن أيوب عوف الأعرابي، ثم يرويه عن هؤلاء الثلاثة ثلاثة، كل واحد يرويه عنه واحد، إلى أن يصل إلى زمن البخاري أو الترمذي، فيرويه الترمذي أو غيره بهذه الأسانيد الثلاثة، فيسمى هذا الحديث عزيزاً على قولٍ، ومشهوراً على قولٍ آخر، يعني أن العزيز فيه قولان (الأول): أنه مروي اثنين. والقول (الثاني) أنه مروي ثلاثة. (والمشهور) فيه قولان: (الأول) أنه مروي ثلاثة أو أكثر (الثاني) أنه مروي أربعة أو أكثر، وهو الذي اختاره البيقوني، ولهذا قال: (مشهور مروي فوق ما ثلاثة) يعني فوق الثلاثة، وأدنى شيء فوق الثلاثة هو الأربعة، فإذا كان له أربعة أسانيد فإنه عنده المشهور، ولعل الراجح قول الجمهور أن العزيز يطلق على ما رواه اثنان، وأن المشهور يطلق على ما رواه أكثر من اثنين، يعني ثلاثة أو أكثر ما لم يبلغ حد التواتر، يعني ولو رواه عشرة، ولكنه لم يبلغ حد التواتر، فيسمى مشهوراً، وقد يسمى مستفيضاً، يعني أن له اسمين، المشهور والمستفيض، واشتقاقه من الشهرة لانتشاره بين الناس وتناقله، وكذلك المستفيض من الفيضان، وهو التفجر، وكأنه فاض في الناس، وتناقلوه أفراداً وجماعات، فلأجل هذا أطلق عليه: مستفيض.
*
· أقسام الحديث المشهور:
*****قوله: (مشهور مروي فوق ما ثلاثة)
*****ويقسمون المشهور أيضاً إلى قسمين عند الخاصة، ومشهور عند العامة، والمراد بالخاصة علماء الحديث، فقد يكون الحديث مشهوراً عندهم، وإن لم يكن منتشراً وكثيراً تناوله وتناقله بالنسبة إلى العامة؛ لأن العامة إنما يتناقلون ما يسهل حفظه، أو ما يتكرر، أو ما تكثر الحاجة إليه، أما الأحاديث الخاصة فإنها تكون متناقلة بين العلماء والمحدثين وليست متناقلة بين عموم الناس، فتجد الحديث مثلاً يسمى مشهوراً ومستفيضاً حيث إن له عدة طرق، أكثر من اثنين أو ثلاثة، ومشهوراً لأنه رواه أهل السنن، ورواه أهل الصحاح: البخاري ومسلم، وابن خزيمة وابن حبان، والحاكم وابن الجارود، وابن السكن، وابن القطان، ومن أشبههم من الذين ألفوا في الصحيح، ورواه أهل السنن الأخرى كالدارمي والبيهقي والدار قطني وأشباههم، ورواه أهل المسانيد، ورواه أهل المصنفات، ورواه أهل التفاسير، ومع ذلك وقد يكون منتشر الذكر بين العامة، وقد يكون الأمر بالعكس أي أن الحديث قد يشتهر على ألسن العامة، ومع ذلك ليس بمشتهر عند الخاصة الذين هم العلماء والمحدثون، فالعامة قد يسمعون أثراً ونحوه فيتناقلونه على أنه حديث، ويشتهر بينهم وينتشر، وإذا نقب عنه لم يكن حديثاً، بل هو إما حديث ضعيف مع شهرته بين العامة وكثرة تناقلهم له، وإما أثر موقوف على بعض الصحابة أو من دونهم.
*****فالحاصل أن المشهور هو الذي يرويه ثلاثة عند أكثر العلماء أو يرويه أكثر من ثلاثة عند البيقوني والبعض غيره، وأنه يسمى مشتهراً مستفيضاً، وأنه قسم إلى مشهور عند الخاصة، ومشهور عند العامة، ورواته هي الأسانيد والطرق، والحكم عليه يرجع إلى الرجال.
*****ونحن إنما نقول: مروي ثلاثة ومروي اثنين بالنسبة إلى الأسانيد ظاهراً، ولا يحكم بصحته ولا بضعفه إلا بعد النظر في رجاله، فإذا نظرنا في رجال الحديث، نظرنا في ثقتهم وعدالتهم وأهليتهم، أو أن فيهم نوع ضعف، ولكن ذلك الضعف ينجبر بمتابعة هذا لهذا ولهذا، فيحكم بصحته، وقد يكونون من الضعف بمكان قوي، بحيث لا يُقبل حديثهم، ولا يُحكم بصحته إذا كانوا متهمين بالكذب، أو ضعفاء بالمرة، فهذا التعريف إنما هو بالنظر إلى الاسم أي اسم الحديث مشهور أو مستفيض أو عزيز، مع قطع النظر عن ثقة رجاله أو ضعفهم، فإذا أردنا الحكم عليه فلا نحكم عليه إلا بالنظر إلى عدالة رواته وصحة إسناده.
مُعنْعنٌ كَعنْ سعيدٍ عنْ كَرَم ... ... ... وَمبْهَمٌ مَا فِيهِ رَاوٍ لَمْ يُسم
*
· الحديث المعنعن والمؤنن:
*****قوله: (معنعن كعن سعيد عن كرم)
*****(المعنعن) هو الحديث الذي يتسلسل بكلمة عن فلان عن فلان، والعنعنة يستعملونها إما للاختصار وإما لعدم التثبت من سماعه عن ذلك الشيخ، كأن يرويه عنه بواسطة، أو ما أشبه ذلك ويجوز للمتأخر أن يروي الحديث بعن، فيجوز لك أن تقول: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمال ستاّ..) مع أن بينك وبين أبي هريرة مئات السنين، فإذا قال الراوي (عن) فليس متحققاً أنه لقيه أو أنه سمعه منه، فقد يقول أبو بكر بن أبي شيبة: عن شعبة. وهو مالقيه، وقد يقول مثلاً سفيان بن عيينة: عن الزهري. وهو قد لقيه فيعنعن، وقد يكون الشيخ روى عن شيخه بالتحديث، وعن شيخ شيخه بالعنعنة، ويفعل ذلك كثير من العلماء، وقد يكون الإسناد كله معنعناً، فغالب أول مصنف عبدالرزاق رواه تلميذه عند بالعنعنة مع ذكره لاسمه فيكتب: عبدالرزاق عن معمر، عن الزهري عن سالم عن أبيه، فيجعله كله معنعناً، مع أن عبدالرزاق قد روى عن مشايخه بالتحديث أو بالإخبار أو بالسماع، ومع ذلك يذكره بالعنعنة، ولعلّ ذلك من باب الاختصار والعنعنة إذا جاءت في الحديث فإنها تكون دون التحديث بمراتب؛ لأنها ليست دالة على الاتصال، إلا إذا حملنا ذلك الراوي على حسن الظن.
*****واختار الإمام مسلم -رحمه الله- أن الحديث المعنعن يقبل مطلقا ويحمل على الاتصال بشرط:
1. أن يكون المعنعن ليس مدلساً.
2. وأن يكون معاصراً لمن روى عنه يمكن أنه لقيه.
*****فإن كان المعنعن مدلساً فلا يقبل إلا إذا صرح بالتحديث، فمثلاً من المدلسين ابن إسحاق صاحب السيرة، نجد عنده أحاديث كثيرة تارة يذكرها بصيغة العنعنة، وتارة بالتحديث، فتارة يقول: حدَّثنا عاصم بن عمر، وتارة يقول: عن عاصم بدون حدَّثنا، فيقبل ما صرح فيه بالتحديث، دون ما لم يصرح فيه بالتحديث، مخافة أن يكون قد أسقط شيخه.
*****والضعيف (المدلس) هو الذي يسقط شيخه، ويروي الحديث بالعنعنة عن شيخ شيخه، الذي قد لقيه لكنه لم يسمع منه ذلك الحديث، (المؤنن) أيضاً ألحقوه بالمعنعن، لكن الغالب أن المؤنن لا يقتصر فيه على كلمة (أن) بل لابد أن يُضاف إليها كلمة أخرى، فإن أضيف إليها ما يدل على السماع فهو متصل وإن أضيف إليها ما لم يدل على السماع فلا، فإذا قال مثلاً: حدثنا عبدالله بن لهيعة أن جابراً الجعفي قال: حدثني أنس. فمثل هذا أن جابراً قال. وكلمة (أن) هو المؤنن، ولكن أضاف إليها (قال) وكلمة (قال) لا تدل على الاتصال، فيتوقف فيه؛ لأن ابن لهيعة قيل: إنه مدلس، وأما إذا أضاف إليها كلمة صريحة فيقبل، كأن يقول: حدثنا ابن لهيعة، أن جابراً الجعفي حدثه، فكلمة (أن) اقترنت بها (حدثه) أو أخبره، أو سمعه يقول: أو ما أشبه ذلك، فيزول بذلك خوف الانقطاع.
*
· الحديث المبهم:
*****قوله (ومبهمٌ ما فيه راوٍ لم يُسم)، أي: لم يصرح باسمه، كأن يقول مثلاً عن ابن لهيعة عن رجل، عن قتادة. فقوله عن (رجل)) هذا مبهم لا يُدرى من هو، وقد لا يذكره باسم رجل، كأن يقول عمن أخبره، أو عمن يسمع جابراً.
*****فهذا الذي سمع جابراً مبهم، وقد يكون الإبهام لعدد، كأن يقول: عن عدة من مشايخنا، أو من أصحابنا، فهؤلاء العدة مبهمون، وقد يكون الإبهام مع نوع من التعيين، كأن يقول: عن عمه أو عن أخيه، وله عدة أعمام وله عدة إخوة، أو أخوه مجهول لا يُدرى من هو ولا يُدرى ما اسمه، فيكون هذا مبهماً، فالمبهم هو الذي فيه رجل لم يسم، وهو يدل على ضعفه، فيُرد الحديث الذي فيه راوٍ مجهول، وقد يسمى ومع ذلك يبقى على جهالته، وقد يسمى ولكن لا يقال فيه كلام، ولا يذكره أحد، ولا يترجم له، ولا يدري ما حاله، وما روايته وما ثقته، وهو مع ذلك مسمى، بأن يقول مثلاً: حدثني زهير أو يزيد، وقد يقول مثلاً: يزيد بن بزيع، ولكن من هو يزيد هل هو ثقة أو ضعيف، لا ندري ، لم يتكلم فيه أحد، فيتوقف في رواية هذا المجهول.
*
· المجهول وأقسامه:
ويقسم المجهول إلى قسمين:
1. مجهول الحال.
2. ومجهول العين.
فمجهول العين هو: أن لا يُعرف بعينه، ولا يُدرى ما اسمه.
****وأما مجهول الحال فهو: الذي يسمى، ويرويه عنه اثنان، ولكن لا يروى شيء من أخباره، ولا ينقل هل هو صدوق أو كذوب، أو ثقة أو ضعيف، روى عنه فلان وفلان ولكن ما وثق، فيسمى مجهول الحال، وقد يسمى مستوراً.
· الفرق بين المبهم والمجهول:
*****والفرق بين المبهم والمجهول أن المجهول أخص؛ لأنه قد يكون مسمى ومجهولاً، قد يُقال: عن أُمه، وأُمه مجهولة، وقد يُقال عن أخيه، وأما إن قيل: عن رجل. أو عن من سمع. فهذا يسمى مبهماً، فالمبهم هو الذي لا يذكر بما يميزه، وأما إذا قال: عن أخيه أو عن أمه وهي مجهولة، أو أخته أو عمه، أو ما أشبه ذلك فهذا يسمى مجهولاً، وليس بمبهم.
وكُلُّ مَا قَلَّتْ رِجَالُه عَلا ... ... ... وَضِدُّهُ ذاكَ الذِي قدْ نَزَلا
*
· الحديث العالي،· والحديث النازل:
*****قوله: (وكل ما قلت رجاله علا ...)
*****العالي والنازل من أقسام الحديث، وتتعلَّق بالأسانيد، ويُقال: هذا إسناد عال، وهذا إسناد نازل. فالعالي هو الذي قلَّت رجاله، والنازل هو الذي كثرت رجال إسناده، وقلة الرجال مرغوب فيها عند المحدّثين فهم يحبون الحديث العالي دون النازل، وسبب ذلك: أن كثرة الوسائط سبب لكثرة الأوهام؛ لأنه إذا كان مثلاً بين الترمذي وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أربعة، فاحتمال الخطأ من هؤلاء قليل، يعني محتمل أنهم أخطأوا ولكنه احتمال قليل بخلاف ما إذا كان بينه وبينه عشرة، فإنه قد يوجد أحاديث ينزل فيها الترمذي إلى عشرة، وقد يوجد أربعة، فيسمى القليل عالياً ، فأقل ما بين الترمذي وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أربعة، ويسمى الآخر نازلاً إذا كان الإسناد سبعة أو أكثر، وسبب ذلك أن بعضهم يروي عن بعض، وهم متقاربون، يروي عن بعض، وهم متقاربون ، يروي التابعي عن تابعي عن تابعي إلى أربعة أو خمسة أو ستة بعضهم عن بعض، وكلهم متقاربون، وتكثر الوسائط، فلأجل ذلك قالوا: إن العالي أصح، وأقوى، وأقرب إلى الثقة بهم، وقد كانوا يحرصون على العلو، فكثيراً ما توجد الأحاديث عند الشيخ في بلاده نازلة، فيسافر مسيرة شهر أو أكثر، لأجل أن يحصل عليه بإسناد أقل لأنه يسقط عنه رجل.
*****فمثلاً: الإمام أحمد يروي عن عبدالله بن عمر أحاديث ليس بينه وبينه إلا اثنان ، يرويها مثلاً عن إسماعيل بن جعفر، عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر؛ لأن ابن عمر طال عمره إلى أن توفي في حدود سنة 74هـ وتتلمذ عليه عبدالله بن دينار في آخر حياته وحفظ منه علماً، وطالت حياة عبدالله بن دينار فمات سنة 127هـ، فأدركه بعض مشايخ أحمد كسفيان بن عيينة وإسماعيل بن جعفر ونحوهما، فرووا عنه فتكون أحاديثه ثلاثية حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبدالله ابن دينار، عن ابن عمر، وكذلك أحاديث أنس حيث أدركه الزهري، وإن كان الزهري لم يُعمرْ أي ما طالت حياته، ولكن أنسا عُمر حتى توفي سنة 93، وعاش بعده الزهري ثلاثاً وثلاثين سنة126وتوفي سنة 5 والإمام أحمد يروي عن ابن عيينة ويقول: حدثنا ابن عيينة عن الزهري، عن أنس، فأحاديثه عنه ثلاثية.
*****كذلك البخاري عنده الأحاديث الثلاثيات فليس بينه وبين الصحابي إلا اثنان، وبينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة، ومنها أحاديث عن أنس يرويها عنه تلميذه حُميد الطويل الذي عُمِّر فأدركه محمد بن عبدالله الأنصاري فالبخاري يقول: حدَّثنا محمد بن عبدالله عن حميد عن أنس فهذا إسنادٍ عال، وكذلك سلمة بن الأكوع عُمر يعني عمراً متوسطاً توفي سنة 74هـ، ولكن تلميذه ومولاه يزيد بن أبي عبيد عُمر بعده فأدركه مشايخ البخاري فصار يروي عن سلمة أحاديث ثلاثية، فيقول: حدّثنا مكي بن إبراهيم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع، فهذا حديث عال، فإذا كثرت الرجال فإنه يسمى نازلاً، فقد تجد بين البخاري وبين الرسول صلى الله عليه وسلم سبعة أحياناً، ويكون ذلك لأن بعضهم يروي عن بعض، وهم متقاربون فيقول مثلاً: حدّثنا عمر بن حفص، حدّثنا أبي، حدّثنا الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة بن قيس عن ابن مسعود فهذا بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم ستة، وقد يحدث عن بُندار عن غندر عن شعبة عن الأعمش فهذا إسناد فيه نوع من النزول بالنسبة إلى الثلاثي، هذه هي الأحاديث العالية والنازلة، ورغبتهم في الأحاديث العالية لقلة الوسائط وقلة الرجال، فقد يسافرون -كما ذكرنا- لأجل سقوط رجل أو رجلين.
*****فالإمام أحمد توجد عنده أحاديث في بغداد نازلة، ولكنها توجد عند بعض المشايخ عالية مثل عبدالرزاق، فسافر أحمد من بغداد إلى صنعاء لأجل أن يسمع منه أحاديث هي موجودة عنده في بغداد، لكنها نازلة، فأراد أن يأخذها عن عبدالرزاق لتكون عالية، فقد يكون بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً ستة فإذا أخذها عن عبدالرزاق ارتفع إلى خسمة أو أربعة فقد يقول: حدّثنا عبدالرزاق: حدَّثنا معمر عن الزهري عن أنس فهؤلاء أربعة أو يقول عبدالرزاق: حدّثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس فهؤلاء خمسة فالرغبة في علو الإسناد لأجل قلة الوسائط التي يحصل بسببها قلة الأوهام.
*****فأنت مثلاً إذا سمعت حادثاً حدث كمرض أو موت فسمعته من واحد شاهده وقال لك: شاهدت فلاناً مريضاً أو شاهدت فلاناً عندما توفي، أو شاهدت البيت الفلاني وقد احترق أو قد انهدم، جزمت به، لأنه ليس بينك وبين هذا الحادث إلا واحد شاهده، لكن لو أن هذا الواحد الذي شاهده نقله لك عن خمسة قال مثلاً: أنا ما شاهدته، ولكن أخبرني فلان وهو ما شاهده ولكن أخبره فلان وهو أيضا ما شاهده وإنما أخبره فلان ولم يشاهده أيضاً وأخبره فلان الخامس الذي شاهده، فكثرة الوسائط قد تُوقع الشك في هذا الحادث هل هو صحيح واقعي أم لا؟ لأن أحدهم قد يكون قاله مازحاً غير مُجدّ في قوله، وقد يكون مخطئاً على بعضهم، وقد يكون بعضهم قال: نقله لي فلان وهو مخطئ، وقد يكون بعضهم لا يعرف هذا الذي حدَّثه، إنما قال: يمكن أنه فلان، وليس جزماً، فلأجل ذلك كثرة الوسائط يحصل بها وَهم وخطأ غالباً، فهذا هو السبب في أن قلة الرجال أقوى.
· حكم الإسناد العالي والنازل:
*****ثم إن الحكم على السند بالنظر إلى الرجال، لا نحكم على السند عالياً أو نازلاً إلاَّ بعد النظر في رجاله، وقد يكون العالي رجاله ضعفاء، ويكون الإسناد النازل رجاله أقوياء، وقد يكون الإسناد العالي أضعف من النازل، رغم أن هذا عال ولكن في رجاله ضعف وهذا عال ورجاله ثقات، فلا تساوى بينهما.
وَمَا أَضَفْتهُ إلى الأَصْحاَبِ مِنْ ... ... ... قَوْلٍ وَفِعْلٍ فَهْوَ موقوفٌ زُكِنْ
وَمُرْسلٌ مِنهُ الصّحَابيُّ سَقَطْ ... ... ... وقل غريبُ ما روى راوٍ فقــــطْ
وَكُلًّ مَاَ لَمْ يَتَّصِلْ بِحَــــــالِ ... ... ... إسنادُهُ مُنْقطِع الأَوصَـــــــــــال
*
هذا تعريف الموقوف، والمرسل، والغريب، والمنقطع، وهي بعضها من مباحث الإسناد كالمرسل والمنقطع، وبعضها من مباحث المتن كالغريب والموقوف.
*
· الحديث الموقوف:
*****(والموقوف) هو ما وقف على الصحابي، فإذا وقف الإسناد إلى الصحابي ولم يتجاوزه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فهو موقوف أي هو من كلام الصحابة، ويكثر هذا في الكتب التي تعني بكتابة الآثار، كمصنف ابن أبي شيبة، وسنن الدارمي، ومصنف عبدالرزاق، وسنن سعيد بن منصور، يذكرون فيها أشياء كثيرة من الموقوفات على الصحابة، ومن الموقوفات على التابعين، فكل ما أضيف إلى الصحاب يعني الصحابة فهنا عبَّر بالصحاب عن الصحابة يُقال لهم: أصحاب وصحب وصحابة وصحاب، وسواء كان ذلك المروي من قولهم أو من فعلهم، كفعل أحدهم أمراً من الأمور، يُقال: فعل عثمان كذا فهذا موقوف، أو قال عمر كذا وكذا فهذا موقوف.
*****(زُكِن) يعني عُرِفَ وحققَ أنّ هذا هو الموقوف حقاً، وكثيراً ما تكون الموقوفات في كتب المتقدمين كالدارمي وعبدالرزاق ومالك، ثم يخطئ فيها كثير من المتأخرين فيرفعونها، وكثيراً ما يقول الترمذي وغيره هذا الحديث موقوف، رفعه فلان فأخطأ فيه، أو غلط فرواه مرفوعاً، والصحيح أنه موقوف على عائشة، أو موقوف على ابن عباس أو نحو ذلك.
*****وقد ذكرنا سابقاً أن الموقوف قد يكون له حكم المرفوع، فيما إذا كان ذلك الصحابي لا يأخذ عن الإسرائيليات، وكان كلامه لا يُقال مثله بالرأي، فإذا تكلم بكلام من أُمور الآخرة حُمِلَ على أنه تلقَّاه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو مثلاً أخبر بثواب، فإنه محمول على أنه مرفوع حكماً لا لفظاً، هذا هو الموقوف.
*
· الحديث المرسل:
*****وبعده قال: (ومرسل منه الصحابي سقط ..............)
المرسل: ما رفعه التابعي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، والتابعي هو الذي لقي الصحابة، فإذا قال سعيد بن المسيب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال عطاء بن أبي رباح: قال النبي صلى الله عليه وسلم فهو المرسل، وقوله: (منه الصحابي سقط). أي في الظاهر، ولكن لو تحققنا أنه لم يسقط منه إلا الصحابي لقبلناه؛ لأن الصحابة عدول، لكن نخشى أن يكون سقط قبل الصحابي تابعي ضعيف، فلأجل ذلك يكون المرسل ضعيفاً، والتعبير السليم أن يقال: إن المرسل ما رفعه التابعي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وسبب رده الجهل بالساقط؛ لأنا لا ندري هل هو صحابي فنقبله أو هو تابعي، فإن كان تابعياً فقد يكون ضعيفاً، وإن كان ثقة فلا ندري هل أخذه من صحابي فيقبل، أو أخذه من تابعي آخر، فإذا أخذه من تابعي آخر فقد يكون ضعيفاً فيرد، وإذا كان قويّاً فهل أخذه من صحابي أو من تابعي ثالث، فقد يأخذ بعض التابعين من بعض إلى ثلاثة أو أربعة، فلأجل احتمال أنه أخذه عن تابعي ضعيف يتوقف في قبول المرسل.
*****ويستثنى من ذلك مراسيل سعيد بن المسيب قالوا: لأنها تُتُبِّعَتْ فوجدت مسانيد، فهو لا يرسل إلا عن ثقة، أو عن صحابي، وكذلك إذا تحقق أن هذا المرسل قد أرسله ذلك التابعي عن جَمْعٍ من الصحابة؛ لأن التابعي قد يسمع الحديث من عشرة من الصحابة، فيجزم به، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم فهنا إذا يقبل.
*
· الحديث الغريب:
*****قوله: (............ *****وقل غريب ما روى راوٍ فقط)
*****هذا تعريف الحديث الغريب، بأنه ما ليس له إلا إسناد واحد، وأكثر من يستعمله الترمذي في جامعه حيث يقول: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث فلان، أو من رواية فلان، فإذا رواه مثلاً عن الصحابي تابعي، وعن التابعي تابعي آخر، وعنه تابعي ثالث، ثم رابع، ثم آخر، وهؤلاء انفردوا به لم يتابعهم أحد فنسمي هذا حديثاً غريباً، وقد يشتهر بعد ذلك كحديث عمر: (إنما الأعمال بالنيات) فإنه غريب في أوله ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر، ولا رواه عن عمر إلا علقمة بن وقاص، ولا رواه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولا رواه عن التيمي إلا يحيى الأنصاري، فهو غريب في أوله، ثم اشتهر عن يحيى، فأصبح متواتراً في آخره.
*****ومن أمثلة الغريب حديث أبي هريرة: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه) فإنه ما رواه إلا أبو هريرة، ولا رواه عن أبي هريرة إلا الأعرج، ولم يروه عنه إلا أبو الزناد، ولا رواه عن أبي الزناد، إلا محمد بن عبدالله بن الحسن، ولا رواه عن ابن الحسن إلا الدراوردي، فيكون هذا حديثاً غريباً وإن كان قد رُوي من طرق أخرى بغير هذا اللفظ، والغرابة تدل على ضعف الحديث، فيقولون في تعبيراتهم: لا يأتيك بالغريب إلا الغريب، ويقال: فلان يأتي بالغرائب، فلان أحاديثه غريبة أي يأتي بأحاديث ما رواها غيره، فانفراده يدل على ضعفه وضعف روايته، هذا هو الغريب أي ما ليس له إلا إسناد واحد.
· الحديث المنقطع:
*****وقوله: (وكلُّ ما لَم يتَّصِل بِحَال *******إسناده منقطعُ الأوصال)
*****هذا تعريف المنقطع، وقد ذكرنا أن الإسناد إما أن يكون فيه انقطاع في أوله وهو المعلق، أو من آخره وهو المرسل، أو من وسطه فإن كان باثنين متواليين فهو المعضل، وإن كان باثنين غير متواليين فالمنقطع، وكذلك إن كان الساقط واحداً فهو المنقطع.
*
· كيف يعرف الانقطاع في الإسناد:
*****وكيفَ تَعرِفُ الانقطاع؟ تعرفه بالرواة عن هذا الشيخ، تقول مثلاً: هذا الشيخ لم يرو عنه إلا فلان وفلان، فإذا وجدت إنساناً لم يُذكر في تلامذته عرفت أنه لم يرو عنه، فإنك كثيراً ما تجد في تراجم الرواة إحصاء تلاميذ الشيخ وإحصاء مشايخه كما في كتاب: (تهذيب الكمال في أسماء الرجال) للمزي.
*****إذا قال مثلاً: إسرائيل بن أبي إسحاق السبيعي، روى عن فلان وفلان وفلان وفلان، فيحصي مشايخه الذين روى عنهم ثم يقول وروى عنه فلان وفلان وفلان،فيحصي تلاميذه الذين رووا عنه، ولو زادوا على المائة أو على المائتين، فأنت إذا رأيت شخصاً قد روى عن إسرائيل، فانظر هل ذكره صاحب تهذيب الكمال، فإذا لم يذكره، ولم يذكره غيره دلَّ على أنه ليس من تلاميذه، وأنه ما أدركه، أو أنه روى عنه بواسطة فأسقط تلك الواسطة، فيكون الإسناد منقطعاً.
*****فالإسناد المنقطع هو الذي فيه سقط، وقد يعرف السقط بعدم المعاصرة، وذلك يحتاج إلى معرفة المواليد والوفيات، فإذا رأيت مثلاً وكيع بن الجراح الذي وُلِدَ قبل موت الزهري بسنة أو سنتين عرفت أنه ما روى عنه أي كيف يروي عنه وهو ابن سنة أو سنتين يعني أن هذا ولادته في سنة كذا، وهذا وفاته في سنة كذا وبينهما سنة أو سنتان فلان يمكن أن يروي عنه، وهكذا بعض المحدثين قد يروي عن شخص بواسطة ويسقط من روى عنه، ويقع ذلك كثيراً في أولاد بعض الصحابة الذين ما أدركوا آباءهم ورووا عنهم كأبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود روايته عن أبيه منقطعة؛ لأنه مات وهو صغير فما عقله، ومع ذلك روى عنه كثيراً، ولكن روايته محمولة على أنه أخذها عن أهل بيته أو عن تلامذة أبيه، فتكون منقطعة، فالمنقطع هو: ما سقط فيه راوٍ أو أكثر مع عدم التوالي، هذا من حيث الاصطلاح، وإلا فهو يعم كل ما لم يتصل، على ظاهر النظم.
وَ المُعْضَلُ السَّاقِطُ مِنْه اثنَانِ ... ... ... وَما أَتى مُدَلَّساً نوعَانِ
*
· الحديث المعضل:
*****قوله: (والمعضَلُ الساقطُ منه اثنانِ **.............)
· الإعضال في اللغة:
*****والإعضال هو العيب الكبير، هذا في اللغة: أعضله يعني عاقه عن السير، وقطعه قطعاً كلياً، فهناك مثلاً المنقطع عن القوم، إما أن يسير خلفهم سيراً متوسطاً وهم مسرعون، فهذا يسمى منقطعاً عن القوم، وإما أن يكون سيره بطيئاً وسيرهم سريعاً، فهذا قد أعضل عن القوم، ولحاقه بهم متعذِّر، فالمعضل سمي بذلك لزيادة انقطاعه.
*
· المعضل اصطلاحاً:
*****والمعضل من مباحث الإسناد وعرَّفه بأنه الساقط منه اثنان، ولابد أن يكونا متواليين، فمتى سقط منه راويان متواليان فهو المعضل، فإن كانا متفرقين فإنه المنقطع.
*
· كيف يعرف الإعضال في الإسناد:
*****ويُعرف السقط منه بمجيئه من طريق أُخرى، وقد يكون السقط غير ظاهر، حيث يكون بعض الرواة قد لقي بعضاً، فمثلاً الإمام سفيان بن عيينة قد لقي الزهري وحدَّث عنه، ولكنه تارة يحدِّث عنه بواسطة رجل، وتارة يحدث عنه بواسطة اثنين، فإذا روى ابن عيينة عن الزهري حديثاً لم يسمعه منه ولا ممن سمعه منه، لكن بواسطتين فحذف الواسطتين فهو حديث معضل، مع أن ظاهره الاتصال.
*****كذلك قد يكون المسقط لا يتفطن للانقطاع الظاهر، فيروي عمن لم يسمع منه ما لم يسمع، فمثلاً يروي بكير بن الأشج عن قتادة وهو لم يسمع منه؛ لكونه مات كهلاً، وقد يكون بينه وبينه اثنان فيسمى معضلاً، ومثلا يروي هشيم بن بشير عن ابن إسحاق وهو لم يسمع منه، وكذلك قد يروي عبيد الله بن معاذ العنبري عن هشام بن عروة بن الزبير ما لم يسمع منه؛ بل قد يروي عنه بواسطتين، ويسقط الواسطتين، فيسمى هذا معضلاً، فالمعضل الساقط منه اثنان على التوالي.
*
· الحديث المدلس:
*****قوله (وما أتى مدلسا نوعان)
التدليس لغة: إخفاء العيب، وقد ذكروه في البيوع، وأنه من أقسام الخيار هو التدليس، الذي هو ستر العيب.
*****ومثلوا له: بأن يكون في السلعة عيب ويستره البائع، والمشتري لا يدري عنه، كالمُصرَّاة وهي: الناقة أو البقرة أو الشاة التي يُجمع لبنها في ضرعها أياماً، إذا رآها المشتري اعتقد أنها كثيرة اللبن، وإنما هو مجموع، فهذا تدليس، فالدابة مُدلسة، وكذلك الجارية عندما تُباع إذا كانت قد ابيض شعرها من الكبر فسوده ليوهم أنها شابة، وقد تكون شمطاء، وقد تكون عجوزاً، فيعتقد المشتري أنها شابة؛ لأن شعرها أسود فهذا تدليس.
*
· تعريف التدليس:
*****والحاصل أن التدليس هو الإخفاء أي إخفاء العيب ونحوه، وهو غش في العين، فالتدليس في الإسناد هو إخفاء السقط، بأن يسقط في الإسناد رجلاً ويخفيه، بحيث إذا سمع أو قرأ المحدث هذا السند لم يتفطن للساقط، ويُعدُّ *التدليس عيباً كبيراً في الراوي، لكن قد يُتسامح في بعضهم، يعني أن بعض الرواة قد يدلس، ولكن يُعتذر عنه أنه لا يدلس إلا عن ثقة، أو أنه يدلس لعذر عدم التذكر، يعني قد يكون نسي شيخه الذي حدث عنه، فحينئذ يحدث عن شيخه الذي فوقه، وعلى كل حال فالتدليس عيب، وقد ذمه كثير من العلماء، ومنهم شعبة بن الحجاج الذي يُقال له: أمير المؤمنين في الحديث فإنه روي عنه أنه قال: لأن أزني أحب إليَّ من أن أُدلِّس.
*
************* الأَولُ الإِسْقَاطُ للشيخ وأَنْ ... ... ... ينقلَ عمَّن فوْقهُ بعَن وأَن ْ ******************
*
· أمثلة للمدلِّسين:
*****ومن المشتهرين بالتدليس ابن إسحاق صاحب السيرة، فكثيراً ما يسقط شيخه، ويروي عن شيخ شيخه بعن أو بأن، ومن المشهورين بالتدليس: الكلبي، وعطية العوفي، وهناك مدلسون ولكنهم ثقات، منهم أبو الزبير محمد بن مسلم بن تَدرُس، والأعمش سليمان بن مهران، وقتادة بن دعامة، ولكن في الغالب أنهم لا يدلسون إلا عن ثقات، فلا يحذفون من الإسناد إلا شخصاً موثوقاً ومجزوماً به؛ فلأجل ذلك تقبل رواياتهم عن أكابر مشايخهم وإن اشتهر عنهم التدليس.
*
· تدليس الإسناد:
*****والتدليس الذي يستعملونه أن يسقط أحدهم شيخه، ويروي عن شيخ شيخه بعن أو بأن، كأن يقول مثلاً: عن الزهري قال: حدثني سالم عن أبيه، أو عن الزهري عن سالم عن أبيه، فلا يقول: حدَّثني الزهري؛ لأنه ما حدَّثه به فلا يتجرأ على الكذب، إنما يقول عن الزهري، أو يسقط مثلاً شيخه، ويقول: إن هشيماً قال: حدَّثنا فلان. وإن عاصم بن عمر قال.
*****فالحاصل أن المدلس تارة يأتي بكلمة (أنه قال) وتارة يأتي بكلمة (عن) ويسقط شيخه الذي سمع منه الحديث.
*
*************والثّانِ لا يُسقطهُ لكن يَصِفْ ... ... ... أوصافهُ بما بِه لا يَنْعَرِف *************
*
· تدليس التسوية:
*****وهناك تدليس شر منه، ويُقال له: (تدليس التسوية) وهو: أنه لا يسقط شيخه؛ ولكن يسقط شيخ شيخه، لأن شيخه ليس بمدلس، فيسقط شيخ شيخه، ويركب الإسناد برجال كلهم ثقات، فهذا تدليس التسوية، وهو شر أنواع التدليس، واشتهر به اثنان من الرواة، أحدهما (بقية بن الوليد) وثانيهما (الوليد بن مسلم) اشتهرا بتدليس التسوية، وقد ذكروا أن الوليد بن مسلم قالوا له مرة: إنك تروي الحديث عن الأوزاعي عن نافع، وعن الأوزاعي عن الزهري، وعن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد، وغيرك يدخل بينه وبين نافع عبدالله بن عامر، وبينه وبين الزهري إبراهيم بن مرة وقرة وغيرهما، فما يحملك على هذا؟ قال: أنبل الأوزاعي أن يروي عن مثل هؤلاء إلخ أي: أكرمه أن يروي عن هؤلاء لكنه سبب تفرد الأوزاعي؟ بهذه الأحاديث الضعاف التي تفرد بها عنه الوليد بن مسلم عن أولئك الثقات مشايخ الأوزاعي يطعن في الأوزاعي.
*****فقالوا له: إنك إذا جعلت هذا الإسناد مركباً كذلك حصل الطعن على الأوزاعي؟ كيف أن هذا الإمام يروي هذه *الأحاديث الضعيفة فتكون من أفراد الأوزاعي لا من أفراد عبدالله بن عامر أو إبراهيم بن مرة أو شهر بن حوشب الذين هم ضعفاء فيصير الطعن على الأوزاعي فيقال: الأوزاعي أتى بالمنكرات والمعضلات، فتكون أنت السبب حيث إنك أسقطت الضعفاء، ولكنه لم يبالِ بكلام من نصحه، هذا هو الوليد بن مسلم المشهور بتدليس التسوية مع عدالته وثقته وحفظه.
*****ومثله (بقية بن الوليد) فهو مشهور أيضاً بتدليس التسوية، وفيه يقول بعض العلماء: أحاديث بقية، ليست نقية، فكن منها على تقيّة. أي على حذر، وقد تجده مصرحاً بالتحديث بأن يقول: حدَّثنا بقية بن الوليد، حدَّثنا هشيم، عن الزهري ولكن لا ينفعه تصريحه بالتحديث؛ لأنه يسقط شيخ هشيم الذي بينه وبين الزهري ويسقط شيخ الأعمش فيحدث عن الأعمش عن ثقات، وهكذا.
*****فالحاصل أن تدليس التسوية هو شر أنواع التدليس والسبب:
*****(أولا ً): أن الناس ينخدعون به إذا رأوه قد صرَّح بالتحديث، فإذا قالوا: فيه بقية بن الوليد وهو مدلس، وقد صرح بالتحديث، فيقبلون حديثه وما فهموا أنه لم يسقط شيخه، وإنما أسقط شيخ شيخه.
*****(ثانيا) : أن شيخه الذي حدَّث عنه - حيث قال: حدَّثنا شعبة، أو قال: حدَّثنا سفيان - ليس من أهل التدليس، فإذا رأيناه روى عن قتادة، قلنا: هذا الإسناد ثابت ولو بكلمة (عن) بأن قال: حدَّثنا شعبة عن قتادة، فقد يكون بينهما يزيد بن أبي زياد، أو ليث أبن أبي سليم، أو عوف الأعرابي، أو غيرهم ممن فيه ضعف، فأسقطه بقية بن الوليد مع أن شعبة ليس من أهل التدليس، بل يذمُّ التدليس، فلو رآه الباحث قال: هذا إسناد مقبول، هذا إسناد ثابت، صرح فيه بقية بن الوليد بالتحديث قال: حدَّثنا شبعة، وشعبة ليس من المدلَّسين، وقد رواه عن قتادة، فيصير شر أنواع التدليس؛ لأن شيخه ليس من أهل التدليس، وقد رواه بالعنعنة عن قتادة ولم يتجرأ أن يقول فيه: حدَّثنا قتادة. وشعبة ما قال حدَّثنا قتادة، فإنَّ شعبة كثيراً ما يقول: عن قتادة ولا يدل أن بينه وبينه واسطة، وإنما للاختصار مثلاً.
· تدليس الشيوخ:
*****وهناك تدليس آخر وهو الذي أشار إليه الناظم، وهو أن يوصف الشيخ بما لا يتميز به بأن يكني المسمى، أو يسمي المكني أو يذكره باسم غير مشهور به، أو ما أشبه ذلك، فغالباً ما يفعل ذلك المدلسون إذا رووا عن إنسان مشهور بالضعف، لم يصرحوا باسمه ليقبل حديثه، فمثلاً هناك عبدالله بن المسور الهاشمي مشهور بالضعف، بل بوضع الحديث، كان يضع أحاديث كلام حق ليست من قول النبي صلى الله عليه وسلم فيركب لها إسناداً، ويجعلها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيروي عنه أناس، ولا يذكرونه باسمه أي لا يصرّحون به فيقول أحدهم: حدَّثنا الهاشمي، أو حدَّثنا عبيد الله الهاشمي، أو يُكَنُّونُه بأن يقولوا: حدَّثنا أبو هاشم، أو ما أشبه ذلك فالذي يرى الحديث قد يقول: هذا حديث رجاله مستورون، وإنَّما يتفطن لهذا أهل المعرفة بالحديث، إذ الرجل لم يكن اسمه واضحاً مشهوراً بالضعف أو بالكذب.
*****ومثله تلاميذ الكلبي، يدلسون اسمه أيضاً، فالكلبي اسمه محمد بن السائب بن بشر الكلبي، وكنيته أبو سعيد، وليس مشهوراً بالكنية، فيروي عنه بعضهم ويقول: عن أبي سعيد، ويسمعه إنسان فيتبادر إلى فهمه أنه الخدري الصحابي الجليل، مع أنه الكلبي، والكلبي كذاب، كذلك قد يسقط بعضهم أباه فيقول: حدَّثنا محمد بن بشر وهو ليس مشهوراً بذلك بل مشهور باسمه محمد بن السائب بن بشر، ومشهور بالكلبي، فإذا قال محمد بن بشر وأسقط السائب توَهم البعض أنه غيره فقبلوا حديثه.
*****هذا هو التدليس في الشيوخ بحيث إنه لا يميز شيخه، ولا يذكره بالوصف الذي يعرف به، كذلك لو لم يذكره إلا بالاسم العَلَم، كأن يقول: حدَّثنا إسحاق، وهناك عشرة مشايخ اسم كل منهم إسحاق، وفيهم ضعيف، وفيهم ثقة، وفيهم متوسط، فسكت ولم يميز، فإنَّ هذا تدليس أيضاً.
*****(فتدليس الإسناد) -وهو الأكثر- يعني: أن يسقط الراوي شيخه ويحدَّث عن شيخ شيخه بعن أو بأن.
*****(وتدليس التسوية) يعني: أن يسقط الراوي شيخ شيخه، ويجعله عن شيخه، عن الشيخ الثالث.
*****(وتدليس الشيوخ): بأن يصف شيخه بما لا يتميز به أي بصفة لا يعرف بها حقاَّ أنه فلان.
*****وكلها تعد طعناً في الراوي متى عُرِفَ أن هذا الراوي تعمد هذا التدليس.
*
· متى يقبل حديث المدلس؟:
*****وإذا قيل: متى يقبل حديث المدلس؟ فالجواب: يقبل إذا صرَّح بالتحديث، فإذا قال: (حدَّثنا) فإنه يقبل حديثه؛ لأنه لا يتجرأ على الكذب في مثل هذا، بل يتحاشى أن يكذب بأن يقول: (حدثنا) وهو ما حدَّثه، فكلمة (حدَّثنا) و(أخبرنا) و(سمعت) صريحة بأنه تلقاه عنه، بخلاف كلمة (عن) و(أن) و(قال) فإنَّها محتملة أنه سمعه منه أو لم يسمعه منه، فهذا هو التدليس المشهور.
*
· بواعث التدليس:
*****وقد يكون قصده قصداً مناسباً، وقد يكون قصده تكثير مشايخه، كما ذكروا ذلك عن الطبراني صاحب المعاجم التي رتبها على مشايخه، ليعرف بذلك كثرة مشايخه الذين حدَّث عنهم، فهو يروي عن شيخه الذي اسمه أحمد حديثاً أو أكثر ثم عن شيخ له آخر اسمه أحمد بن فلان حديثاً أو أكثر إلى أن يكمل من اسمهم أحمد، وقد يذكر أحدهم باسميه مثلاً، أوله كنية فيذكره مع الأسماء *ومع الكنى، حتى يُقال: إنه حدَّث عن ألف شيخ، أو عن خمسة آلاف أو ما أشبه ذلك. فإذا لم يتميز ولم يُعرف يكون هذا الشيخ مجهولاً فيرد حديثه وترد روايته.
*****فإن قيل: ما حكم القراءة من كتاب بصيغة: روى الترمذي. ويُذكر الحديث بدون إسناد، هل هذا تدليس؟
*****قلنا: إذا قال: رواه الترمذي، فقد عزاه إلى من أسنده فصاحب (رياض الصالحين) يقول: رواه الترمذي ولا يُقال هذا تدليس.
*
· ضابط التدليس:
*****إذاً ما ضابط التدليس؟ لو وصل إليك حديث بالإسناد، بينك وبين الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً ثلاثون راوياً، يعني سمعت هذا الحديث عن شيخك فلان وسمعه شيخك عن شيخه فلان، إلى أن وصل إلى الصحابي وبينك وبينه ثلاثون راوياً ترويه بالأسانيد، فأنت إذا أسقطت شيخك الذي سمعته منه، ورويته عن شيخ قد لقيته، ولكن ما سمعت منه هذا الحديث فقد صرت مُدّلساً لهذا الحديث تدلس الإسناد، فإذا لم تسقط شيخك الأول ولكن أسقطت شيخ أحد المشايخ الذين فوقك وقد لقيه ذلك الشيخ لكنه هنا رُوي بواسطة فأسقطت الواسطة فإن هذا تدليس تسوية، فأما روايتك من كتاب قد دُوِّن وطبُع واشتهر فإنه يجوز لك أن تعزو إليه وتسقط الإسناد.
*****والمدلس لا يلزم إطراح كل رواياته، بل إذا تحققنا أن هذا الحديث ثابت من طرق أخرى اعتبرنا روايته له كشاهد ومقوِّ، أما إذا تفرد بالحديث فإنه لا يقبل.
*
· الفرق بين التدليس والمرسل الخفي:
*****فإن قيل: ما الفرق بين التدليس والمرسل الخفي؟
*****قلنا: بينهما فرق ظاهر ذكره ابن الصلاح في علوم الحديث؟ لأن المرسل الخفي هو: أن يروي الراوي حديثاً عن شيخ لم يسمع منه وقد عاصره.
*****وأما المُدَلِّس فيروي عن شيخه الذي سمع منه أحاديث . حديثاً ما سمعه منه.
*
· المرسل الخفي:
*****(فالمرسل الخفي ) أن يروي عمن في زمانه ومن عاصره شيئاً لم يسمعه منه، والمدلس أن يروي عن شيخه ما لم يسمعه منه.
*****نقول مثلاً: أنت أدركت من المشايخ في هذه البلاد الشيخ عبدالله بن حميد، وعاصرت الشيخ عبدالله بن عدوان، ولكنك لم ترو عنه، فتحديثك وروايتك عن ابن حميد حديثاً ما سمعته منه يسمى تدليساً لأنك رويت عنه وجلست عنده، أو سمعت كلامه في الحرم أو في الرياض، فرويت عنه شيئاً لم تسمعه منه، فهذا تدليس، أما روايتك عن ابن عدوان فتسمى مرسلاً خفياً، لأن زملاءك هؤلاء قد يقولون: يمكن أنه سمع منه لأنه عاصره؛ ولأنه في بلاده، ولكنك ما سمعت منه؛ لأنه توفي من زمن قديم سنة (1374هـ) فتحقق أنك لم ترو عنه، فنقول: إن هذا مرسل خفي. فالتدليس بأنواعه مذموم؛ لأنه حديث مروي عنهم فعليه أن يبين رجال الحديث الذي نقله عنهم، ليُرجع إلى تراجمهم، ويُبحث في الحديث، ليحكم بعد ذلك بأنه صحيح أو غير صحيح.
إِبدالُ رَاوٍ مّا بِرَاوٍ قِسْمُ ... ... ... وقَلْبْ إِسْنَاد لِمتنٍ قِسْمُ
*
· الحديث المقلوب:
*****قوله: (إبدال راو ما براو قسم ****وقلب إسناد لمتن قسم)
*****(المقلوب) والقلب يكون تارة في الإسناد، وتارة في المتن، وتارة يكون في المتن والإسناد، فالإسناد كأن يُبدل راوياً براو إذا كان بينهما تقارب في اللفظ، كأن يُبدل عاصماً الأحوال بواصل الأحدب لتقاربهما في اللفظ والسمع، مع اختلافهما، أو يبدل يحيى بن بكير بيحيى بن أبي بُكير وكلاهما من الرُّواة، فالأول هو يحيى بن عبدالله بن بكير يروي عنه البخاري كثيراً فيقول: حدَّثنا يحيى ابن بكير، وأما الثاني فروى عنه ابن أبي شيبة وغيره وهو من رجال الصحيحين، فإبدال راوٍ براوٍ يُسمى قلباً، يُقال: انقلب هذا الحديث على فلان، فجعله عن شيخه فلان وقد أخطأ.
*
· أنواع القلب:
*****وقد يكون قلب الإسناد بإبدال راوٍ ثقة براوٍ ضعيف أو بالعكس، ولا شك أنه إن كان الأصل أنه ضعيف وانقلب براوٍ ثقة، فإنه يعد مردوداً، فكثيراً ما يروى حديث عن عبدالله بن عمر العمري وهو ضعيف، فينقلب على بعضهم بعبيد الله بن عمر هو أخوه الثقة، ويقال: هذا الحديث انقلب على الدراوردي مثلاً، أو انقلب على غيره من عبدالله إلى عبيد الله العمري، وهذا طعن في الحديث.
*****ومن أنواع الانقلاب: أن يحول متن إلى إسناد حديث آخر أو بالعكس، وقد يكون عمداً كما وقع لجماعة من أهل بغداد، لما قدِم عليهم البخاري قلبوا له أسانيد مائة حديث، جعلوا إسناد هذا لمتن هذا وإسناد هذا لمتن هذا، وأعطوها عشرة أشخاص، لكل شخص عشرة أحاديث، وقالوا له: إذا اجتمعوا عنده فاسأله عن عشرتك، ففعل الأول وكلما حدَّثه بحديث قال: لا أعرفه. حتى تم عشرته، وجاء الثاني وهكذا حدّثه بالعشرة، وقال: لا أعرفها، فأما عوام الناس فقالوا: إنّه غير حافظ، كيف مر عليه مائة حديث وهو لا يعرفها، وأما أهل العلم الذين عملوا هذه الحيلة فإنهم عرفوا أنه قد فطِن.
*****ولما أكمل العشرة أحاديثهم رجع إلى أولهم، وقال: حديثك الأول حدَّثناه فلان عن فلان عن فلان، وحديثك الثاني والثالث إلى أن تمم عشرته، وهكذا حتى أتمهم، فردّ الأسانيد إلى متونها والمتون إلى أسانيدها، فاعترفوا له بالفضل، وهذا يسمى قلب إسناد إلى متن للاختبار.
*****وقد يكون القلب في نفس المتن، بأن تنقلب كلمة بدل كلمةٍ على بعض الرواة، مثاله حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله، وفيه: (و ر جلٌ تصدّق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) انقلب على بعض الرواة فقال: حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله. وهذا انقلاب في المتن.
*****ومثله حديث في الشفاعة، وفيه: (أن النار يبقى فيها فضل، ويبقى في الجنة فضل، قال: فأما النار فينشئ الله لها خلقاً فيسكنهم فيها) وهذا انقلاب، والصواب أنه ينشئ للجنة، وتأبى حكمته أنه ينشئ للنار خلقاً ما عملوا أعمالاً سيئة فيدخلهم النار بلا ذنب، أما الجنة فينشئ الله لها خلقاً فيسكنهم في ما فيها من الفضل.
*****والحاصل أن هذا يسمى انقلاباً في المتن وذكر ابن القيم أيضاً له مثالاً وقال: إنه انقلب على بعض الرواة، وهو حديث أبي هريرة الذي يقول فيه: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) وقال: إن آخره يخالف أوله، فإن البعير يقدم يديه في البروك قبل رجليه، وأنكر أن ثفنات اليدين تسمى ركباً، بل الركبة دائماً في الرجل وقال: لعله انقلب على بعض الرواة وأن صوابه وليضع ركبتيه قبل يديه، وذكر أنه كذلك وقع عند ابن أبي شيبة في المصنف: (إذا سجد أحدكم فيضع ركبتيه قبل يديه ولا يبرك كبروك الفحل) ولو كان سنده ضعيفاً لكنه وافق الأصل، فترجح بذلك أن الحديث منقلب على بعض الرواة كالدراوردي أو محمد بن عبدالله بن الحسن وكلاهما فيه مقال، يضرُّ مع التفرد والمخالفة.
*****وعلى كل حال فإن الانقلاب يُرجع فيه إلى أصل الحديث، فإذا خفت أن يكون هذا الحديث مما انقلب على بعض الرواة فارجع إلى أصل الحديث ثم اطرح الرواية المنقلبة، ويعد الانقلاب قدحاً في الرواية، ونقصاً في الحديث، لأنه خطأ وقع إما في المتن وإما في الإسناد.
وَالفَرْدُ قيّدْتَهُ بِثقَةٍ ... ... ... أَوْ جمْعٍ أَ ْ قْصرٍ على رِوَاية
*
· الحديث الفرد:
*****قوله: (والفرد ما قيدته بثقة ****أو جمع أو قصر على رواية)
*****من مباحث أصول الحديث البحث في (الفرد) والبحث في (المعلول).
*****فالفرد هو: ما تفرد به شخص عن عالم من العلماء، ويقسمونه إلى قسمين، فرد نسبي، وفرد مطلق، فإن كان غريباً من أصل السند فإنه يسمى فرداً مطلقاً وإن تفرد به شخص في أثناء السند فإنَّه يسمى فرداً نسبياً، مثال الفرد المطلق إذا لم يروه إلا صحابي، ولم يروه عنه إلا واحد، ولم يروه عنه أيضاً إلى واحد، إلا أن انتهى إلى المؤلف، فإنه فرد مطلق، أي فرد مشتق من الواحد.
*****ومثال الفرد النسبي أن يرويه مثلاً عن الزهري جماعة، ثم يتفرد به عن واحد منهم شخص واحد، فإذا رواه عن الزهري ابن أخيه محمد بن عبدالله، وعُقيل، ومعمر، ويونس، وسفيان، ونحوهم وتفرد به عن عُقيل شخص واحد فإنّه فرد نسبي، والغريب والفرد متقاربان، إلا أن أكثر ما يستعمل الغريب في الاسم، فيُقال: هذا حديث غريب.
*****والفرد في الفعل يُقال: تفرد به فلان عن فلان، هذا حديث غريب تفرد به العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه مثلاً، لكن لما كان فيه هذا التقسيم خصه باسم، يعني أن التفرد قد يكون في السند كله فالسند كله فرد، يعني ما رواه مثلا عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أبو هريرة ولا رواه عن أبي هريرة إلا القارئ عبدالرحمن، ولا رواه عنه إلا ابنه العلاء، ولا رواه عن العلاء إلا إسماعيل بن جعفر فيقال: هذا حديث غريب، ويقال: حديث حديث فرد تفرد به إسماعيل، عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة.
وَما بِعِلةٍ غُموضٍ أَوْ خفَا ******مُعَلَّلٌ عِندَهُمُ قَدْ عُرِفَا
*
· الحديث المعلَّل:
*****قوله: (وما بعلة غموض أو خفا ***معلل عندهم قد عرفا )
*****(المعلول) عندهم ما فيه علة خفية قادحة، والعلة هي ما يطعن به في الشيء ومنه سمي المرض علة، والعلة اسم للعيب والطعن في الشيء، يطعن في الحديث بطعن، ويكون ذلك الطعن علة، ولابد أن تكون العلة شيئاً خفياً، بحيث إن الذي لم يمارس الأسانيد ونحوها ينخدع بهذا الحديث فيقول: صحيح لا عيب فيه، فظاهره متصل فيحكم بقبوله لكن أهل الأسانيد والعلم بالأحاديث يعرفون صحته أو ضعفه، فيطلعون على عيب خفي يسمونه علة في هذا الحديث، سواء في إسناده أو في متنه، وقد ألَّفوا في ذلك مؤلفات، ولعلك قرأت (كتاب العلل) لابن المديني، مطبوع في نبذة متوسطة، تكلم فيها على علل الحديث، وكيف تُستنبط، وكيف تُعرف.
*****وممن ألّف في علل الحديث ورتبها على الأبواب ابن أبي حاتم كما تقدم في أول الكلام، وكتابه مطبوع في مجلدين كبيرين، اسمه (علل الحديث) رتبه على أبواب الفقه، فكتابُ الطهارة ذكر فيه علل الأحاديث التي في الطهارة، وكتاب الصلاة وهكذا، وأوفى من ألف فيه الدار قطني فإنه استوفى جميع العلل التي في الأحاديث، حتى تكلم على الأحاديث التي في الصحيحين، وذكر أن في بعضها علل، وسرد الاختلاف والاضطراب الذي يطعن به، فتارة يذكر أن بعضهم أخطأ في الموقوف فرفعه وقد كان أصله موقوفا على صحابي فأخطأ بعضهم فرفعه، وتارة تكون العلة الوصل، فقد يكون أصله مرسلاً، فأخطأ بعضهم فوصله، وكذا المنقطع قد يصله بعضهم خطأ وهو منقطع، وهكذا، هذه أنواع العلل، وأمثلتها في تلك الكتب.
وَذُو اخْتِلافِ سَندٍ أَوْ مَتنِ ... ... ... مُضطَرِبٌ عِنْدَ أُهيلِ الفَنِ
*
· الحديث المضطرب:
*****قوله: (وذو اختلاف سند أو متن ****مضطرب عند أهيل الفن)
*****(المضطرب) هو الذي يقع فيه اختلاف في أَلفاظه، يقال: اضطرب الرواة في هذا الحديث، فرواه بعضهم كذا ورواه بعضهم كذا، ولم نستطع أن نرجح راوياً على راو، ويعد الاضطراب قادحاً في الحديث، مسبّباً اطِّرَاحه، ومثّلَ له ابن القيم بحديث أبي هريرة الذي في السنن والمسند في صفة الصلاة "إذا سجد أَحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه" وقال: إن هذا حديث مضطرب، رواه بعضهم "وليضع يديه قبل ركبتيه" ورواه بعضهم بالعكس "إذا سجد أَحدكم فليضع ركبتيه قبل يديه، ولا يبرك كبروك الفحل" وبعضهم حذف الجملة كلها واقتصر على فلا يبرك كبروك الفحل ولم يذكر اليدين والرجلين، وبعضهم رواه: "إذا سجد أحدكم فليضع يديه على ركبتيه" ولم يقل: قبل ركبتيه، وقال بعضهم: كالبعير يضع إلخ ذلك من الروايات، فجعل هذا اضطراباً يقدح به في الحديث.
*****فالمضطرب ضعيف، حيث إننا لا ندري نأخذ بهذا أم بهذا أم بهذا، فيطرح الحديث فنقول:
*****المضطرب هو: الذي يختلف فيه الرواة، فَيروُونه على وجوه مُحتَمِلة، فلا نرجح هذا على هذا، بل يُتَوَقَّفُ في قبوله كله، ويعدل إلى غيره، فإن كان أصل الحديث محفوظاً في الصحيحين مثلاً ثم حصل اضطراب فيما بعد في السند، أو في المتن، فإنه لا يضر، وأكثر ما يكون الاضطراب في السند، حيث يبدل راوٍ براو، ويوصل مرة ويقطع مرة، فيقال: هذا مضطرب السند، ولا يضر الاضطراب في الإسناد إن كان أصله محفوظاً، وحَدَثَ الاضطراب متأخراً.
ثم قال الناظم رحمه الله:
و(المُدرَجاتُ) في الحديثِ ما أَتتْ ... ... ... منْ بعضِ أَلفاظِ الرُّواةِ اتصلـتْ
وَما رَوى كلُّ قرينٍ عن أَخــــــــــِهْ ... ... ... (مُدبَّجٌ) فاعرِفهُ حَقا وانتــــخِه
مُتَّفِقٌ لفْظاً وَخَطّاً (مُتفــــــــــــِقْ) ... ... ... وضِدٌّهُ فيما ذَكرْنا (المفترِقْ)
(مُؤتَلفٌ) مُتّفقُ الخطِّ فقَـــــــــــطْ ... ... ... وضِدُّهُ (مختلِفُ) فَ ا خْش الغلـَطْ
(والمُنكَرُ) الفرْدُ بهِ راوٍ غـــــدا ... ... ... تعُدِيلُهُ لا يَحْمِلُ التَّفـــــــرًّدَا
(مَترُوكُهُ) ما واحِدٌ بهِ انْفــــــَرَدْ ... ... ... وأَجْمَعُوا لِضَعْفهِ فهْوَ كَـــــرَدّ
والكَذِبُ المُخْتَلَقُ المصْنـــــــــُوعُ ... ... ... عَلَى النَّبيِّ فَذلِك (الموْضوعُ)
وقد أتتْ كالجَوْهَرِ الكْنُــــــــونِ ... ... ... سمَّيتُها منظُومَةَ البَيْقُوني
فوقَ الثلاثينَ بأَربَعٍ أَتـــــــــــت ... ... ... أَبياتُها ثُمَّ بخَيرٍ خُتــــــــــِمَت
*
*****في هذه الأبيات تعريفُ أنواع من المصطلح فمنها (المدرج ومنها (المدبج) ومنها (المتفق والمفترق) ومنها (المؤتلف والمختلف) *ومنها (المنكر) ومنها (المتروك) ومنها (الموضوع).
*
وَالمُدرَجاتُ في الحديثِ ما أَتتْ ... ... ... منْ بعضِ أَلفاظِ الرُّواةِ اتصلتْ
*
· الحديث المدرج:
*****فقوله (والمدرجات في الحديث ما أتت ****من بعض ألفاظ الرواة اتصلت):
*****(المدرج): هو ما أُضيف إلى الحديث من غيره، من كلام الرواة مما ليس بمرفوع، أُضيف للحديث، وجُعِل منه، وأُوهِم أَنه من الحديث، وليس منه، فيسمى مدرجاً، كأَنه أَدرجه في ضمن الحديث أحد الرواة، وقد يُعرَفُ المدرج بمجيئه من طريق أُخرى مصرَّحاً به، أو مجيء الحديث ناقصاً من طريق أُخرى ليست فيها تلك الزيادة، فيعرف أنه مدرج، أو كونه لا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك حديث رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للعبد المملوكِ الصَّالحِ أجران) -والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله، والحج، وبرٌّ أُمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك، فآخر الحديث يٌفهم منه أَنه ليس من قول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: وبر أُمي. فدلَّ على أَن هذا من كلام أبي هريرة، قال: لو لا الجهاد في سبيل الله، والحج، وبر أمي لأحببت أنني مملوك - فآخر الحديث يسمى مدرجاً، مضافاً إلى الحديث وليس منه.
*****وكذلك إذا كان أيضاً فيه نقص، مثل حديث ابن مسعود (الطِّيَرَةُ شِرْك، الطِّيرَةُ شرك) - وما منا إلا .... ولكن الله يذهبه بالتوكُّل - فآخره مدرج وهو قوله: وما منَّا إِلاَّ .. إلخ فليس هو من الحديث؛ لأنه معلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقع في شيء من الطيرة مع كونها شركاً، فدل على أنه مدرج من كلام الراوي.
*****وقد يكون الإدراج في آخر الحديث وهو الأغلب، كما في هذين المثالين، يعني: يتكلم الراوي بكلمة، فيفهمها أو يسمعها تلميذه فيعتقد أنها من ضمن الحديث فيرويها، وقد تكون في أول الحديث، مثاله حديث أبي هريرة: (أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار) فقوله: أسبغوا الوضوء. هذا من كلام أبي هريرة: (ويلٌ للأعقاب من النار) هذا هو المرفوع، حيث ذكروا أن أبا هريرة رأى أناساً يخففون الوضوء فقال: أسبغوا الوضوء (ويل للأعقاب من النار) سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم فاعتقد أحدهم أن قول: سمعتُه عامٌ لقوله: أسبغوا الوضوء وما بعده فرواه كذلك، والصحيح أن المرفوع إنما هو آخره، وهو قوله: (ويل للأعقاب من النار). ومثله حديث ابن عمر في سترة المصلي، وهو قوله: لا تُصل إلا إلى سُترة (ولا تدع أحداً يمر بين يديك، فإن أبى فلتقاتله فإن معه القرين) قوله: لا تصل إلا إلى سترة، هذا على الصحيح مُدْرَجٌ، وإِنَّما المرفوع قوله: (لا تدع أحداً يمر بين يديك، فإن أبى فلتقاتله، فإِنَّ معه القرين) هذا هو أصل الحديث، الذي اقتصر عليه المخرجون الأُول كمسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، وابن ماجة في سننه، لم يرووا إلا قوله: (...فلا يدع أحداً يمر بين يديه، فإن أبى فليقاتله فإن معه القرين) فقوله: لا تصل إلا إلى سترة، هذا مدرج ولو صححه الحاكم وغيره.
*****والحاصل أن المدرج هو الذي يُجعلُ من ضمن الحديث وليس منه، بل من كلام الراوي، وأنه يتميز بجمع الطرق، ومعرفة أَنه قد صَّرح فيه بأنه ليس من أصل الحديث.
وَما رَوى كلُّ قرينٍ عن أخِهْ ... ... ... مُدبَّج فاعرِفهُ حَقا وانتَخِهْ
*
· الحديث المدبَّج:
*****قوله: (وما روى كلُّ قرين عن أخه *****مدبج فاعرفه حقا وانتخه):
*****وأما (المُدَبَّجُ): فهو أن يروي الراوي عن زميله، وتسمى رواية الأقران، وهم الذين يشتركون في زمن واحد، وفي أًستاذ واحد ويشتركون في الرواية عن شيخ فيسمون أقراناً، مثل محمد بن بشار، ومحمد بن المثنى، زميلان، فسِنُّهُما متقارب، وهما تلميذان لمحمد ابن جعفر المسمى بغندر، فيُقال فيهما قرينان، فإذا روى محمد ابن بشار، فهذا هو المدبج أي: أن يروي الزميل عن زميله حديثاً، والزميل الثاني يروي عن زميله محمد بن بشار عن محمد بن المثنى ثم روى محمد بن المثنى عنه حديثاً آخر، يعني روى هذا حديثاً وهذا حديثاً، فمثلاً الإمام أحمد زميل ليحيى بن معين، ومع ذلك قد روى يحيى عن أحمد وروى أحمد عن يحيى، حيث وجد أحمد عن يحيى أحاديث ما حصل عليها من مشايخه الذين لقيهم وسافر إليهم ووجد يحيى أحاديث عند أحمد، ولم يدرك مشايخه الذين روى عنهم أو روى عنهم غيرها، فقال يحيى: حدَّثنا أحمد بن حنبل، حدّثنا محمد بن جعفر مثلاً، وقال أحمد: حدّثنا يحيى ابن معين حدّثنا وكيع بن الجراح، فهذا هو المدَبَّجُ.
*
· رواية الأقران:
*****أما لو روى واحد عن الثاني، ولم يرو الثاني عن الأول، فإنه يسمى أقراناً، فالأقران رواية واحد عن قرينه، فإذا روى كل منهما عن زميله أصبح اسمه مدبجاً، أي أن هذا وجد أحاديث عند شيخ له ما وجدها الآخر عند شيخه.
*****فمثلاً إذا كان عندنا الزميلان (عبد الإله) و(محمد) زميلان في الوقت الواحد، ولكن عبدالإله اتصل بمشايخ حدَّث عنهم وما اتصل بهم محمد، فاحتاج محمد أن يروي تلك الأحاديث عن عبدالإله، فيقول: حدثنا عبدالإله عن شيخه فلان، وعبدالإله وجد أحاديث عند محمد عن مشايخ قد أدركهم، ولكن ما روى عنهم تلك الأحاديث، فاحتاج أن يرويها عنهم بواسطة، فيقول: حدّثني زميلي محمد، عن شيخه فلان، وهو شيخهما، لكن ما استطاع أن يأخذ عنه هذا الحديث، أي أن كليهما قد أخذ عن ذلك الشيخ، ولكن محمد وجد عند ذلك الشيخ أحاديث ما بحث عنها عبدالإله، فلأجل ذلك انفرد بها، ولما سمعها عبدالإله عن زميله قال: فاتتني عن شيخي، فآخذها منك أي آخذها عن شيخي بواسطتك، وكذلك محمد وجد أحاديث عند عبدالإله عن شيخهما أيضاً فقال: فاتتني تلك الأحاديث عن شيخي ما سمعتها منه، لكن آخذها منك وأرويها بواسطة زميلي للحاجة، فينزل درجة، فيقول: حدّثنا عبدالإله عن شيخنا فلان.
*
مُتَّفقٌ لفْظاً وَخَطًّا مُتفِقْ ... ... ... وَضِدُّهُ فيما ذَكرْنا المفترِقْ
*
· الحديث المتفق والمفترق:
*****قوله: (متفق لفظاً ...................المفترق):
*****(المتفق والمفترق والمؤتلف والمختلف)، هذه مباحث تتعلق بأسماء الرواة، فإذا اتفقت الأسماء واختلف الأشخاص سموه المتفق والمفترق، كما لو اتفق الاسم واسم الأب، واختلف الشخص فمثلاً اثنان في زمن واحد كلاهما اسمه إسحاق بن إبراهيم، متفق في الاسم واسم الأب، مفترق في الشخص، هذا يُقال له ابن نصر وهذا يقال له ابن راهويه، وقد يكون أكثر من اثنين، كثلاثة أو أربعة في زمن واحد، فهنا إسحاق بن إبراهيم بن يزيد، وإسحاق ابن إبراهيم الصواف، وإسحاق بن إبراهيم بن هانئ، كلهم في زمن متقارب فيقال لهذا متفق الاسم واسم الأب ومفترق في الجد وفي الشخص.
*
· الحديث المؤتلف والمختلف:
*****أما (المؤتلف والمختلف) فهذا مما يحتاج إلى العناية به، وهو ما اتفقت حروفه وافترقت حركاته، فكثيراً ما تتفق الأسماء يعني في الحروف، وتختلف في الحركات، أو تتفق في الحروف وتختلف في النقط والإعجام، وكثيراً ما يحصل فيه التصحيف والتحريف، وكثيراً ما يشتبه محمد بن بشار بمحمد بن سنان ومحمد بن بشار مع كون الباء هنا بعدها معجمة، والياء هناك بعدها مهملة، لكن لكتابتهم باليد يحصل أيضاً الاشتباه، وكثيراً ما يشتبه الاسم بما يقاربه حيث يشتبه شيبان بسنان مع أن بينهما فرقا، ولكن غالبهم لا ينقطون الحروف، فلأجل ذلك يحصل الاشتباه كسليمان بسلمان مع أن بينهما فرقا، ويقع هذا في الأسماء التي يتقارب لفظها وتحتاج إلى ضبط وإلى عناية، وقد ضبطها النووي في مقدمة شرح مسلم، فذكر الأسماء التي تتقارب، وذكر ما يوجد بينهما من الفروق، فأنت إذا قرأت مثلاً هذه الكلمة تعرف أنها كلها تُنطق بكذا إلا هذا الاسم الفلاني، مثلاً غالب الأسماء تتميز إذا كانت أعلاماً وقد يحصل الاشتباه في بعض الأعلام وفي الأنساب فقد يكون الفرق بينهما في النقط كالهمداني، والهمذاني، والدهني والذهبي، فإذا مر بك عمار الذهبي فأصلحه الدهني بالمهملة والنون؛ لأنه خطأ فليس هناك عمار الذهبي في الرواة الأولين، وإنما كتبوه الذهبي لاشتهار نسبة الذهبي، وإلا فالصواب أنه عمار الدهني.
*****والأولون يكتبون الحروف بدون نقط، فيجيء بعض النسَّاخ، -والنساخ قد يكونون من العامة حتى سماهم كثير من الحذاق مُسَّاخاً فيكتبونة فإذا رأوا الدهني نقطوا الدال وجعلوا الدال ذالا وجعلوا النون باء وقد يحصل أيضاً التصحيف حتى بزيادة أو بإسقاط بعض من الحروف، فمثلا رأيت من صحف (الضبي بالضبعي) وبالعكس، فأسقط العين مع السرعة، وكأنها ما اتضحت العين فكتبها الضبي مع أنه الضبعي، فأما الاختلاف في النقط فحدث ولا حرج، مثل جمرة كثيرا ما يكتبونه حمزة، فأبو جمرة الضبعي تلميذ ابن عباس مشهور يكتبونه أبو حمزة؛ لأن كلمة (جمرة) غريبة غير مشهورة، ولما كتبت نقطت الراء فأصبح حمزة.
*****فهذا النوع يسمى المؤتلف والمختلف يعني بالمؤتلف المتقارب في الرسم، والمختلف في النطق إما بالشكل وإما بالنقط، فالشكل مثل سَلاَم وَسلاّم بتشديد اللام وتخفيفها هذا اختلافه بالشكل، وأما النقط فمثل سنان وشيبان، ومثل سيار ويسار وبشار وما أشبه ذلك، فهذا كله مما يقع فيه التصحيف، فهو يسمى بالمؤتلف يعني بالمؤتلف في الخط المختلف في النطق.
*
والمنكرُ الفرْدُ به راوٍ غدا ... ... ... تعْدِيلهُ لا يحمِلُ التَّفردَا
*
· الحديث المنكر:
*****قوله: (والمنكر الفرد به راو غدا *****تعديله لا يحمل التفردا):
*****(المنكر): هو ما رواه راوٍ تفرَّد به، وتفرده لا يحتمل، يقال: هذا حديث منكر، تفرَّد به فلان وتفرده ليس بمقبول، أَما لو تفرَّد به إنسان ثقة عدل كالزهري والشعبي والأَعمش فإنَّه لا يكون منكراً بل يكون مقبولاً، فإذا تفرَّد ليث بن أبي سليم أَو عطاء بن السائب بهذا الحديث مثلاً فإنه يكون منكراً، وقد ذكرنا أن أبا قيس روى عن هزيل، عن المغيرة المسح على الجوربين، وأنه تفرد به، فسمى منكراً، يُقال: إن أبا قيس وهزيلاً لا يحتملان هذا التفرد أي لا يقوى على أن يقبل تفرده دون سائر الرواة الكثيرين، فهذا هو المنكر، وكأننا استنكرنا على هذا الراوي تفرده.
*
· الحديث المعروف:
*****ويقابله (المعروف) فالمنكر ضده المعروف، وهو رواية من لم يخالف غيره، ولم ينفرد، يقال: المعروف رواية فلان وفلان المرسلة مثلاً، والمنكر رواية فلان المتصلة، وهكذا فعندنا مثلاً حديث: (كل أمر ذي بال لا يُبْدأُ فيه بحمد الله فهو أجذم) هذا رواه قرة ابن عبدالرحمن، عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً، وقرة ضعيف تفرد به، فيُقال: هذا الحديث منكر، تفرد به قرة، وضعفه ظاهر لا يحتمل التفرد، وقد رواه جماعة عن الزهري ولم يذكروا أبا هريرة ولا أبا سلمة بل قالوا: عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً، فروايتهم المعروفُ، ورواية قرة المُنْكَرُ، حيث إن هذا هو المعروف الذي تتابع عليه تلامذة الزهري فأرسلوه، وانفرد قرة بن عبدالرحمن فوصله، فيسمى حديثاً منكراً من رواية قرة له، ومرسلاً برواية الآخرين.
متروُكهُ ما واحد به انفرَدْ ... ... ... وأجمَعُوا لِضعْفهِ فهوَ كَرَدِّ
*
· الحديث المتروك:
*****قوله: (متروكه ما واحد به انفرد ****وأجمعوا لضعفه فهو كرد)
*****(المتروك): هو الذي انفرد به راوٍ متهم بالكذب، إذا لم يعثر على كذبه، ولكن تلحقه التهمة، فيأتي بغرائب، وينفرد عن الثقات بما يخالف فيه غيره، فقد يأتي بأحاديث طويلة وهو ليس أهلاً لحفظها، فيُقال: فلان متهم بالكذب، فإذا انفرد بحديث فإنَّه منكر، وروايته تلك تسمى منكرة، والمنكر مردود أي متروك، ويسمى (متروكاً) أي: مشتق من التَّرْكِ، والتَّرْكُ هو عدم القبول، والراوي نفسه يُقال له: متروك، وكذا روايته، ويقال فيه: متروك الحديث، فالمروي متروك، والراوي نفسه متروك يعني متروك التحديث عنه، فمثلاً إذا روى عبدالله بن مُحَرّرٍ أو عباد بن كثير فإنَّ كليهما متهم بالكذب شديد الضعف، فيُقال: عبدالله بن محرَر متروك، يعني اتركوه ولا تحدِّثوا عنه، وإذا رُوِىَ لنا حديث في إسناده عباد بن كثير قلنا هذا الحديث متروك، فيكون الحديث متروكاً لأن في إسناده راوياً متهماً بالكذب ويطلق على مرويه أنه متروك.
*
· الرواية عن المختلط:
*****وكذا الرواية عن المختلط كعبدالله بن لهيعة فإنَّه ثقة، ولكن عمدته على كتب له كان يحدِّث منها ويحتفظ بها، فلما احترقت صار يحدِّث مما علق بذهنه منها، فلأجل ذلك وقع التخليط في حديثه، فتلامذته الأولون الذين رووا عنه قبل الاختلاط تقبل روايتهم عنه، والتلامذة الآخرون يُرَدُّ حديثهم عنه إذا انفرد به، وكذلك الذين أخذوا عنه قبل الاحتراق وبعده؛ لأنه اختلط حديثهم الأول بالثاني، فهناك أُناس لما رأوا أنه اختلط كفوا عنه، ولم يحدِّثوا عنه فتقبل روايتهم وهناك أناس حدثوا عنه قبل الاختلاط وبعده فاختلط الأول بالآخر فيترك إذا انفرد به، وهناك تلاميذ ما حدَّثوا عنه إلاَّ بعد الاحتراق فيترك إذا انفرد به أيضاً، لكن إذا وجد حديث قد تابعه غيره دلَّ على أن له أصلاً، أما ما انفرد به وكان عن طريق من لم يحدث عنه إلاَّ بعد الاختلاط فلا.
*
والكذِبُ المختلَقُ المصنُوعُ ... ... ... عَلَى النبي فذلِكَ الموْضوعُ
*
· الحديث الموضوع:
*****قوله: (والكذب المختلق المصنوع على النبي فذلك الموضوع):
*****(الموضوع): هو الذي تَحَقَّقَ أَنه مكذوب، واشتقاقه من بريء منه، ويسمى المختلق، كأن صاحبه هو الذي اختلقه يعني افتراه، ويسمى: المكذوب، فالمكذوب والمفترى والمختلق والموضوع والمصنوع معناها واحد، والوضع في الحديث قد وجد منذ زمن بعيد.
*
*
*
· أسباب وضع الأحاديث:
*****والواضعون للحديث أصناف فهناك أُناس ضَعافُ الدِّين وضعوا أحاديث انتصاراً للمذاهب، كما روي أن رجلاً حنفياً أراد أن يرفع من قدر إمامهم أبي حنيفة، ويضع من قدر الشافعي محمد بن إدريس رحمه الله فاختلق حديثاً بلفظ: (يكون في أُمتي رجل يقال له محمد بن إدريس، أضر على أُمتي من إبليس، ويكون في أُمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أُمتي) فعرف وضعه بظهور آثار الاختلاق عليه. وذكروا أن رجلاً جاءه ولده يشكو المعلم الذي يعلم القرآن أنه ضربه، فقال: لأفضحنَّ المعلمين اليوم، ثم رَكَّبَ إسناداً له إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وافترى حديثاً بلفظ: (مُعلِّمُو صبيانكم شرارُكم أقلهم رحمةً لليتيم، وأغلظهم على المسكين) أو نحوه فاعترافه بأنه سيفضح المعلمين دل على أنه اختلق ذلك وكذب.
*
*
*
*****وقد يكون مما يدل عليه قرائن الحال، ففي مجلس من المجالس اختلفوا مرة فقال بعضهم: سمع الحسن من أبي هريرة، فأنكره بعضهم، فكان بينهم واحد من الوضَّاعين فَرَكَّبَ له إسناداً وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سمع الحسن من أبي هريرة) ومعروف أن الحسن ما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تكلم في حقه الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء، ولكن هذا دليل على الافتراء!
*****وقد يكون بعض من يضع الأحاديث يريد التَّقَرُّبَ بها إلى الملوك، كما ذكروا أن أحد الوضَّاعين دخل على المهدي وإذا المهدي -وهو خليفة- يلعب الحمام، يُطَيِّرُهُ من هنا، ويقع هنا، فيعجبه طيرانه من هنا ومن هنا، فيقول: إذا سبقت الحمامة الفلانية أو التي لونها كذا فَعَلَيَّ كذا، فأراد الوَضَّاعُ أن يفتري حديثا يقوِّي فعل المهدي، فروى حديثاً فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا سَبَق إلا في نَصل أو خُفٍ أو حافرٍ أو جناح) فكلمة (جناح) زادها كذباً من قِبَل نفسه، يريد بذلك الجائزة وقد أعطاه عشرة آلاف درهم، فلما خرج قال المهدي: أشهد أن قفاك قفا كذاب، ثم قال المهدي: أنا الذي حملته على الكذب، ثم أمر بالحمام فذُبح، فهذا كذب للتقرب إلى الملوك، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال (أو جناح).
*****وهناك من يكذب احتساباً كما رُوِيَ أن بعض القصاص ونحوهم يضعون على الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث في فضل السنة، وفي فضائل الأعمال، وما أشبهها فقيل لهم: كيف والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من كذب عليَّ متعمداً فيتبوأ مقعده من النار) فقالوا: نحن ما كذبنا عليه، إنَّما كذبنا له، أي ننصر بذلك سنته، ونجلب الناس إلى شرعه، فنكذب في فضائل الأعمال، لأجل أن نرغب الناس فيها بأحاديث في فضل الصلاة وأحاديث في فضل الجهاد، وأحاديث في فضل الأعمال، وفعل الخيرات وما أشبهها، فيُقال لهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عمم في قوله: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) وهذا آخر الكلام على هذه المنظومة.
******والله أعلم وأحكم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
تصحيح أكبر خطأ في تاريخ الإسلام الحديث
الأستاذ أنور الجندي
تكشفت في السنوات الأخيرة حقائق كثيرة كانت خافية وأذيعت أسرار كثيرة ظلت في طي الكتمان أعواماً وأجيالاً. وقد كان لظهور هذه الحقائق والأسرار أثرها البعيد في مجالات مختلفة وأمور كثيرة وكان أبرز هذه الوثائق "بوتوكولات صهيون" وكانت قد أصبحت كالمسلمات مما استدعى إعادة النظر فيها ومراجعتها من جديد. وكان من أبرز هذه الأمور ما اعترض تاريخ الإسلام الحديث من مواقف ارتبطت بالدولة العثمانية والصهيونية العالمية ومحاولة استيلاء اليهود على فلسطين، ففي خلال هذه الفترة من حياة الدولة العثمانية كانت المطامع المتضاربة بين الدول الغربية من ناحية والصهيونية العالمية من ناحية أخرى قد عملت على حجب كثير من الحقائق وتزييف جانب آخر منها في محاولة عاتية لتمزيق الوحدة الإسلامية للإنالة من الخلافة الإسلامية ولفتح الطريق للقوى الصهيونية إلى فلسطين وإقامة الحواجز الإقليمية العميقة بين أجزاء العالم الإسلامي وخاصة بين أقطار البلاد العربية وذلك حتى تتمكن هذه القوى الجديدة من الوثوب والسيطرة باعتبارها شريكاً للاستعمار الغربي وبديلاً عنه من خلال مطمع عقائدي يرتبط الميعاد وبتاريخ قديم لليهود متصل بها ومن خلال هذه المحاولات الواسعة زيف تاريخ الإسلام الحديث ووضعت خطط وكلمات ومصطلحات أصبحت بمثابة المسلمات التي رددتها كتب المدارس وأبحاث الجامعات ومقالات الصحف على أنها التصور الحقيقي للأمور وكلها تقول: بالسلطان الأحمر والاستعمار التركي والاستبداد العثماني والصراع بين العرب والترك والقومية الطورانية. ومن هنا نشأ تصور ما زال مطروحاً في أغلب كتب التاريخ والأدب العربي وخاصة في المناهج المدرسية والجامعية قوامه:
أن السلطان عبد الحميد كان رجلاً مستبداً ظالماً، وأنه كانت يلقى خصومه بالعشرات في الدردنيل وكانت له قوى ضخمة تشتغل بالجاسوسية وتصادر الحريات.
أن الدولة العثانية كانت دولة مستعمرة سيطرت على البلاد العربية بالقوة وجنت إليها ثمراتها وتركت تلك البلاد فقيرة ضعيفة.
أن الاتحاديين في الدولة العثمانية كانوا قوة تقدمية عصرية بينما كانت القوى الأخرى قوى رجعية متخلفة.
أن دعوة السلطان عبد الحميد إلى الوحدة الإسلامية كان قد تجاوزها الزمن وفات أوانها وأن الدعوات القومية كانت هي أسلوب العصر.
منذ أن عقد مؤتمر بال في سويسرا عام 1897 م بزعامة الصحفي اليهودي هرتزل وبعد صدور كتاب الدولة اليهودية بقلمه كان قد انفتح مجال جديد للعمل في مواجهة العالم الإسلامي لشق الطريق إلى فلسطين لإقامة وطن قومي لليهود بها من خلال مخطط القوى الاستعمارية التي كانت قد انطلقت منذ 1799 م إلى مصر تحت اسم الحملة الفرنسية ثم إلى الجزائر 1830 م ثم إلى مصر مرة أخرى 1882 م وإلى تونس قبل ذلك بعام واحد، وفي هذه المرحلة كان الصراع قوياً بين الاستعمارين الفرنسي والإنجليزي في المنطقة التيس تضم الدولة العثمانية التي كانت تمثل الوحدة العربية التركية – ولكي تكتمل الصورة فإن هولندا كانت قد سبقت ذلك بوقت طويل بالاستيلاء على الملايو وجاوه وما يطلق عليه الآن إندونيسيا وكانت بريطانيا قد احتلت الهند وكانت أجزاء من الخليج قد سقطت في أيدي إسبانيا والبرتغال ثم ورثتها بريطانيا وكان هذا كله جزءاً من مخطط الاستعمار الغربي الحديث الذي تكامل في نهاية الحرب العالمية الأولى بإيقاع الصراع بين العرب والترك في المناطق الغربية (الحجاز والشام والعراق) وحلول فرنسا وإنجلترا بدلاً من الدولة العثمانية في هذه المناطق بعد معركة أدارتها إنجلترا بقيادة لورنس الذي وصف في يوم من الأيام بأنه ملك العرب غير المتوج.
كان المخطط معداً لأن تعطي فلسطين في هذا المسرح الذي مثلت عليه هذه الرواية كلها للصهيونية العالمية. وأن استيلاء بريطانيا على فلسطين عام 1948 م كان تمهيداً لأن تقع بما فيها المقدس في أيدي اليهود.
ومراجعة الأحداث تنبئ بهذا التخطيط الواسع البعيد المدى الذي بدأ منذ وقت باكر يسبق لقاء هرتزل للسلطان عبد الحميد. وهو في حقيقته صراع بين إرادتين. الإرادة الأولى: هي إرادة السلطان عبد الحميد الذي تولى الملك في سبيل الوحدة في مواجهة الاستعمار تحت اسم الجامعة الإسلامية لتعمل مع جميع مسلمي العالم خارج نطاق الدولة العثمانية ولتوحيد كل القوى والمذاهب والأقطار.
ولا ريب كانت هذه الحركة مضادة لإرادة أخرى كانت تستهدف تمزيق الدولة العثمانية نفسها وليس لتمكينها من أن تجمع إليها أقطار المسلمين الأخرى التي في خارجها ولذلك كان لابد من إزاحته، كذلك فإن اليهودية العالمية القوى كلها في سبيل السيطرة على البلاد الإسلامية وتقسيم الإمبراطورية العثمانية بعد أن عمدت إلى إنهاكها سنوات عدة بالحروب والمؤامرات وحين باتت لقمة سائغة جاء السلطان عبد الحميد ليعقد الخناجر على مقاومة الاستعمار وذللك كان لابد من إزاحته، كذلك فإن اليهودية العالمية كانت ترى أن الدولة العثمانية هي مدخلها إلى فلسطين وكانت تعد العدة منذ وقت بعيد في بؤرة خطيرة داخل تركيا هي سالونيك التي كانت تتجمع فيها (الدونمة) أولئك الذين دخلوا الإسلام تقية، من يهود إسبانيا الذين هاجروا بعد خروج الحكم الإسلامي منها، والذين كانوا قد أنشأوا المحافل الماسونية لإعداد خطة الانقضاض على الدولة العثمانية. والذين استطاعوا احتواء جماعة الاتحاد والترقي والتغلغل فيها والسطرة عليها ومن ثم استطاعوا بها إقصاء السلطان عبد الحميد وإسقاط مشروعه والقيام على الدولة لتمزيقها والقضاء عليها، ولا عجب ففي ظل حكم الاتحاديين بعد إسقاط عبد الحميد منذ عام 1909 م إلى 1918 م هزمت الدولة في الحرب العالمية وسلمت طرابلس الغرب إلى بريطانيا وفتحت الطريق أمام اليهود إلى فلسطين.
هذه المرحلة الدقيقة الخطيرة من تاريخ الإسلام في العصر الحديث ما زالت تشوبها الشوائب وتحول قوى كثيرة دون الكشف عن حقيقتها، وما زالت الصورة التي رسمتها الصهيونية والاستعمار لها هي الصورة الرسمية القائمة في كتب المدارس والجامعات بالرغم من الحقائق الكثيرة التي تكشفت والتي أزاحت الظلم عن وجه الرجل الكريم السلطان عبد الحميد وعن موقفه.
والحق أنه ليست هناك شخصية في تاريخ الإسلام الحديث هوجمت بمثل ذلك العنف والتعسف الذي هوجم به السلطان عبد الحميد حتى كشفت الوثائق في السنوات الأخيرة ليس عن براءته بل عن بطولته ومن عجب أن أبرز النصوص التي أحقت الحق، جاءت في مذكرات هرتزل التي نشرها باللغة العربية.
ولنعد إلى حقيقة الصراع بين القوى الإسلامية بقيادة عبد الحميد وبين القوى الاستعمارية واليهودية لنعرف مدى ما حققته إسقاط عبد الحميد لإلغاء الخلافة الإسيلامية.
لكي نعرف حقيقة حركة الوحدة الإسلامية الجامعة التي قام بها عبد الحميد يجب أن نتصور بوضوح واقع الدولة العثمانية والعالم كله خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر وقد بلغت الدولة العثمانية أشد مراحل الضعف وقد تجمعت الدول الغربية على وضع الخطط للقضاء عليها وتمزيقها وإذلالها. وقد كانت روسيا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا جميعاً بالإضافة إلى البابوية تشترك في رسم هذه الخطط وفي انتزاع الأجزاء الأوروبية من الدولة واسترجاعها والاستعداد لتقسيم أجزاء العربية في الدولة وهي الشام والعراق والجزيرة العربية.
وكانت مخططات الصهيونية العالمية تركز تركيزاً شديداً على الدولة العثمانية من أجل الوصول إلى فلسطين وتحقيق حلمها في إقامة هيكل سليمان. فلما ولي السلطان عبد الحميد الحكم خليفة للمسلمين وسلطانها للدولةى العثمانية واجه الموقف على نحو يختلف عما واجهه به سلاطين آل عثمان الذين سبقوه وكانت مواجهته جادة حاسمة. كان إحساسه بالتبعية كبيراً وكان ذكاؤه وسعة فكره وإلمامه بالتيارات المختلفة بالغاً، ومن هنا فقد جرى من الأحداث في طريقها المرسوم شوطاً ثم لم يلبث أن وضع خطته المحكمة التي رأى أنها الطريق الوحيد لمواجهة الغزو الاستعماري الزاحف والذي كان قد تشكل داخل الدولة العثمانية في مؤسستين خطيرتين. إحداهما: المحافل الماسونية في سالونيك وتركيا الفتاة التي سميت بعد (الاتحاد والترقي) والتي ضمت مجموعة من المثقفين ثقافة غربية ومن أصحاب الولاء الفكري الغربي وخاصة الفرنسي ومن الذين أغروا عن طريق المستشرقين وكتاب الغرب بأنه لا سبيل أمام الدولة العثمانية لكي تصل إلى التحرر والقوة إلا بالتماس مناهج الغرب التماساً كاملاً وطرح فكرها وأسلوبها ومنهجها الإسلامي القديم والتخلص منه إلى غير رجعة، غير أن هذه الجماعة لم تستطع أن تقف وحدها فالتمست العون من المحافل الماسونية ومن ثم احتوتها الحركة الصهيونية وسيطرت عليها ووجهتها الوجهة التي ارتضتها في القضاء على الدولة العثمانية وكان السلطان عبد الحميد قد حدد هدفه في مواجهة النفوذ الغربي على هذا النحو: أن الوسيلة الأساسية لمواجهة النفوذ الاستعماري هي تجمع المسلمين في كل مكان تحت جناح الخلافة الإسلامية الذي تحمل لواءه الدولة العثمانية الجامعة في كيانها بين العرب والترك، ومن هنا كان على السلطان العثماني الذي هو خليفة المسلمين أن ينادي المسلمين في جميع أنحاء الأرض أن يقفوا معه في صف واحد في مواجهة النفوذ الغربي ومن هنا كانت صيحته المعروفة المشهورة التي هزت الغرب كله: "يا مسلمي العالم اتحدوا".
ومن هنا بدأ الخطر الذي واجهته الدول الأوروبية والاستعمار والبابوية والصهيونية العالمية في عنف وأخذت في التماس كل وسائل التآمر والغدر في سبيل تحطيم الخطة والقضاء على القائم بها. ولكن السلطان عبد الحميد استطاع أن يصمد لذلك وقتاً طويلاً وأنه كان قد بدأ في هذه الحرةك عام 1879 م على وجه التقريب فقد ظل يحمل هذا اللواء في قوة في مواجهة عواصف السياسة الأوروبية ثلاثين عاماً كاملة دون أن يتزلزل أو يضعف.
لم يكن السلطان عبد الحميد يملك من القووة العسكرية ما يستطيع أن يواجه به أوروبا والغرب المتجمع باسم كلمة (لا إله إلا الله) وتحت لواء قوة عارمة خشيت بأسها أوروبا وحسبت لها ألف حساب، فقد كان المسلمون الموالون للسلطان تحت النفوذ الغربي في عديد من الأقطار التي احتلتها بريطانيا وفرنسا وخاصة قارة الهند يمثلون قوة روحية ذات أهمية خطيرة. ولقد مضى السلطان في تنفيذ مخططه في قوة وسرعة، بحيث شملت الدعوة كل الآفاق الإسلامية وذاعت في كل مكان وحملت معها عملاً إيجابياً نافعاً قوامه المدارس والمنشآت في كل صقع من البلاد الإسلامية وكان قد أنشأ مدرسة للدعاة الذين سرعان ما انبثوا في كل أطراف العالم الإسلامي إلى الهند والصين وجزائر المحيط ومصر وأفريقيا وتركستان وأفغانستان وبلاد العرب وأطراف المملكة العثمانية، كما عقد مع الأمراء في شتى هذه البقاع مراسلات وعقود وعمق روابط الود والإخاء الإسلامي فيما بينهم وبين دولة الخلافة حتى قيل أنه لم يبق مسلم واحد لم يعرف طرفاً عن هذه الدعوة. وقد جعل السلطان عبد الحميد أمامه أمرين هامين:
الأول: أن يكون أهل بلاد العرب هم ساقة هذه الدعوة وحملة لوائها ومن هنا فقد اتخذ في كل قطر عربي "مشيراً" له فجمع حوله علماء وأمراء من الجزائر والشام ومكة ومنهم أبناء الأمير عبد القادر الجزائري وغيره من أمراء المسلمين.
الثاني: هو إنهاء الخلاف الذي أحجبه الاستعمار بين السنة والشيعة أو بين الأتراك والفرس وقد استخدم لذلك علامة كبيراً هو السيد جمال الدين الأفغاني وأجرى صلحاً مع شاه فارس وصفي أمر الخلافات كلها.
ولم يتوقف عند هذه الحركة الفكرية وحدها إنما جعلها واجهة لعمله الكبير الذي بدأه في بناء القوة الحربية والعسكرية وتقوية جيوشه وأساطيله فقد استخدم بعثة ألمانية ولم يلبث أن أنشأ معاهد عسكرية دخلها عدد كبير من الشبان الممتازين من شباب العرب من العراق وسوريا ومصر. وقد مضت الخطة إلى غايتها المرجوة فاشتد عصب المسلمين بالترابط وتوحدت فكرتهم بالعمل الجامع، وكان دعاة الفكرة الإسلامية ينشرون ثقافة جديدة قامها مواجهة الاستعمار الغربي الزاحف والخطر الأوروبي القيصري الصهيوني جميعاً، وتركزت الآمال حول السلطان عبد الحميد خليفة المسلمين وترابطت الدول الإسلامية وأهلها حول عاصمة الخلافة علت نحو بلغ غاية القوة (فكانوا يذكرون اسمه في خطب الجمعة ويدينون له بالولاء والطاعة الروحية وباسم خلافته على المسلمين كافة) وجعلهم من رعايا دول أوروبا في الهند وجزر الهند الشرقية وشمال أفريقيا، وكان السلطان على حد تعبير محمد رفعت باشا في كتابه التوجيه السياسي للفكرة العربية "يفاوض الدول الكبرى ويساومها بل يهددها أحياناً ملوحاً بسلاح الجهاد الديني، واستطاع السلطان أن يجمع تحت لواء الدعوة أبرز المسلمين في مجال الفكر والسياسة وفي مقدمتهم: خير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني وأبو الهدى الرفاعي الصيادي وأبناء الأمير عبد القادر الجزائري".
وأقام من العرب فرقة خاصة ضمها إلى الحرس السلطاني وولى كثير منهم مناصب رئيسية في الدولة وفي مقدمتهم أحمد عزت العابد. وكان من أكبر أعمال السلطان في هذا الصدد: إنشاء سكة حديد الحجاز التي تربط بين دمشق والمدينة وكذلك فرعها الذي يربط الحجاز وبغداد وقد وجد هذا العمل تقديراً بالغاً من المسلمين في كل مكان وتبرعوا له بأكثر من ثلاثة ملايين من الجنيهات الذهبية، فكان من أخطر المشروعات التي عجلت بالقضاء على السلطان فقد كان منذراً للغرب بتغيير إسلامي كبير. وقد استهدف في الأغلب القضاء على دسائس الإنجليز ومؤامراهم في البحر الأحمر والجزيرة العربية وكان من أخطر مواقف الحركة الإسلامية الواحدة التي دعا إليها وحمل لواءها عبد الحميد: هو معارضة أهداف الحركة الصهيونية في السيطرة على فلسطين ومواجهتها.
ومن هنا انطلقت الصحافة الأوروبية وتباعتها الصحافة العربية التي ظهرت في مصر والتي قاد حركتها خريجو الإرساليات التبشيرية، من أمثال: سليم سركيس وفارس نمر ويعقوب صروف وفرج أنطون وغيرهم الذين حملوا لواء التشهير باللواء ومعارضته وإشاعة الاتهامات المحتلفة حول شخصيته وتصويره ومعارضته وإشاعة الاتهامات المختلفة حول شخصيته وتصويره بتلك الصورة الرديئة لحساب الصهيونية العالمية التي انطلقت لإشاعة روح االكراهية والانتقاض للرجل بعد موقفه الحاسم الكريم من مطالبهم وكان أعظم ما تركز عليه هذه الحملة إثارة عوامل الفتنة بين قيادة الحركة الإسلامية وبين العناصر المختلفة في الدول العثمانية وخارجها.
وكان أقوى من هاجم حركة السلطان عبد الحميد في مصر اللورد كرومر الذي حمل على فكرة الجامعة الإسلامية حملة ضارية ودعا الدول الأوروبية في تحريض سافر إلى التجمع للوقوف في وجه هذه الدعوة وكذلك هاجمها هانوتو الفرنسي واللورد غراي ووصفوها بأنها بؤرة التعصب الديني وأنه ليس القصد منها إلا تحدي قوات الدول الغربية المسيحية وقد حملت جريدة المقطم في مصر لواء معارضة هذه الدعوة.
ولقد شهد كثيرون بأصالة هذه الحركة وقوتها وأثرها، يقول الدكتور توفيق برو: أنها كانت كرد فعل للحركة الاستعمارية الأوروبية الطاغية وأن قادتها كانوا من الدعاة المبرزين وقد أذكى نار هذا الشعور أئمة من أفاضل العلماء أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومصطفى الغلاييني ورشيد رضا الذين قاموا باستغلال هذا الشعور في سبيل سيطرة السلطان في الداخل وتقرير مكانة الدولة في الخارج.
وبعد فلقد كان السلطان عبد الحميد سياسياً قديراً وقرماً من أقرام السياسة الدولية وأولا ذلك ما استطاع أن يصمد في وجه هذه الرياح العاتية وكان قادراً على التعرف على مختلف التيارات والمؤامرات وكان يفهم أبعاد الخطر الداخلي الذي يؤججه الاستعمار والصهيونية عن طريق حزب تركيا الفتاة وكيف تسيطر عليهم الماسونية العالمية وتوجههم لصالحها كما كان يعرف نقاط الضعف في الدول الغربية وأوجه الخلاف بين بعضها البعض فيستغلها ويستفيد منها. ولست أستطيع أن أصور هذا المعنى بأعظم مما صور به جمال الدين الأفغاني: الذي التقى بالسلطان ساعات ومرات وتدارس معه شئون العالم الإسلامي ومخاطر السياسة الأوروبية ومخططاتها. وذلك بعد أن قدم إلى الآستانة قال: رأيته يعلم دقائق الأمور السياسية ومرامي الدول الغربية وهو معد لكل هوة تطرأ على الملك مخرجاً وسلماً وأعظم ما أدهشني ما أعده من خفى الواسائل وأمضى العوامل كي لا تنفق أوروبا على عمل خطير في الممالك العثمانية ويريها عياناً محسوساً، إن تجزئة السلطنة العثمانية لا يمكن إلا بخراب يعم الأمم الأوروبية بأسرها. وقال: إن ما رأيته من يقظة السلطان وشدة حذره وإعداده العدة اللازمة لإبطال مكايد أوروبا وحسن نواياه واستعداده للنهوض بالدولة قد دفعني إلى مد يدي له فبايعته بالخلافة والملك. أ. هـ.
ولقد أكد كثيرون من المؤرخين والباحثين في إنصاف أن السلطان عبد الحميد كان آخر الحصون التي دافع بها الإسلام عن وجوده العالمي وبعد انهياره تمت مؤامرات الغرب وربيبته الصهيونية. ومن الحق أن يقال أن الحركة التي حمل لواءها السلطان عبد الحميد في تجميع المسلمين تحت لواء الخلافة كانت اتجاهاً طبيعياً وأملاً يملأ كل النفوس، ولذلك فقد حققت نجاحاً كبيراً، أزعج الاستعمار والصهيونية إزعاجاً شديداً مما استدعى العمل من جانبهم لإجهاضه والقضاء على حامل لواء الدعوة أصلاً كوسيلة للقضاء عليها وتدميرها.
في هذا الضوء يتمثل العمل الذي قامت به الصهيونية من جانبين:
أولاً: من جانب الدونمة داخل الدولة العثمانية وخاصة في محاصرة السلطان والتآمر عليه.
ثانياً: الدونمة: هي القوة اليهودية الكامنة داخل الدولة العثمانية التي اختارت مدينة سالونيك ودخلت الإسلام بعد تاريخ طويل معروف، وهي التي أنشأت المحافل الماسونية في الدولة العثمانية لهذه الغاية واتصلت بجماعة الاتحاد والترقي (وحزب تركيا الفتاة) وأفسحت له في محافلها الفرصة للعمل، وتلاقت الرغبات على التخلص من الوجه الإسلامي لتركيا، ومن السلطان عبد الحميد وكان ذلك قد بدأ يأخذ طريقه بقوة منذ أعلن السلطان عبد الحميد دعوته إلى المسلمين. وكانت قوى كثيرة تشارك اليهودية العالمية في هذا الاتجاه وقد كان السلطان عبد الحميد يعرف هذه القوى التي يواجهها في الداخل ويعرف المؤامرة التي تدبر لفكرته وله وكان يعرف أبعاد المخطط كله: فئة المثقفين الغربيين الذين سيطرت عليهم أفكار الثورة الفرنسية ربيبة المحافل الماسونية من ناحية وحركة الإرساليات الأجنبية في لبنان وثمارها المنبثة في مصر وسوريا والبلاد الإسلامية تحمل أحقادها على الإسلام والوحدة الإسلامية والمحافل الماسونية في سالونيك. وإذا كان السلطان قد عارض مدحت وحزب تركيا الفتاة فقد كان عالماً بأنهم واقعون تحت نفوذ الماسونية العالمية أداة الصهيونية العالمية في ذلك الوقت وأن موقفه دون تمكين اليهود من فلسطين قد حرض كل هذ ه القوى وأمدها بإشارة الانقضاض. إن تصريحات كثيرة للسلطان عبد الحميد تكشف أنه كان عالماً بأهداف الصهيونية في هذا الوقت المبكر، ولذلك فقد كان وقوفه في وجه الاتحاديين وتركيا الفتاة وعمله على تحطيم مخططاتهم ليس نابعاً من كراهية لنهضة الدولة العثمانية ولكنه كان عمقاً في النظرة إلى الأهداف البعيدة لتدمير هذه القوة التي كانت تحمي آمال المسلمين داخل الدولة وخارجها.
ولقد صدقت نظرة السلطان عبد الحميد على الاتحاديين بعد أن دخلوا التجربة فعلاً وسيطروا على الحكم من 1909 م إلى 1918 م وما قاموا به من تسليم كامل للدولة وتبعية كاملة لمخططات الاستعمار والصهيونية مما كشف أصالة عبد الحميد وبعد نظره وجلال موقفه الحاسم في وجه النفوذ الاستعماري نفسه بالدعوة إلى الوحدة الإسلامية وفي نفس الوثت بمقاومة هذه التبعية التي كانت تحمل مظهراً براقاً هو الإصلاح على طريقة الغرب بينما كانت تحمل في أعماقها إيماناً بالفناء في الغرب كله، ولقد خدع المسلمون والعرب بالاتحاديين وأقاموا الأفراح وسرعان ما اكتشفوا أنهم سلموا أنفسهم إلى فك الأسد وأنيابه. إن مقدرة السلطان عبد الحميد على فهم ما يحيط به كانت مما يظن كثيرون ولكنه كان في موقف لا يستطيع معه أن يكاشف المسلمين بالأخطار التي تحيط به.
قد كان اليهود يرون في السلطنة العثمانية شبحاً مخيفاً خطراً على مستقبلهم كما يقول الدكتور محمد علي الزغبي في كتابه الماسونية في العراء، وكانت الدونمة بكل مؤسساتها وتداخلاتها أداة التنفيذ في الوقت المناسب.
ثانياً: بعد أن عقد مؤتمر بال 1897 م وكانت حركة الوحدة الإسلامية قد استحصدت، كانت وجهة نظر اليهود هي اقتحام فلسطين ولذلك فقد تركزت الخطط حول الدولة العثمانية وحول السلطان عبد الحميد في محاولة لاحتوائه ظناً منهم أنه في ظرف من الضعف وفي حالة من الاستدانة تجعله يخضع للإغراء، إغراء اليهود بالذهب وهم من قبل أصحاب العجل الذهبي، وبدأت المحاولات منذ ذلك الوقت واتخذت وسائط كثيرة وووسائل متعددة منها وساطة الإمبراطور غليوم ولقاء اليهود الثلاثة (مزارحي قراصوا – جال - ليون) ولقاء هرتزل ومعه موشي ليوي حاخام اليهود في الدولة العثمانية ولقاء السفير اليهودي غوش وهي سابقة على مقابلة اليهود الثلاثة ثم لقاء هرتزل للسلطان ولرجال قصره.
وقد عرض من خلال هذه المقابلات مشروع يرمي إلى تقديم قرض للدولة العثمانية يبلغ خمسين مليوناً من الجنيهات الذهبية وخمسة ملايين جنيه لخزانة السلطان الخاصة. بناء أسطول كامل للدفاع عن أراضي العلية.
وذلك في مقابل السماح لليهود بإنشاء مستعمرة صغيرة لهم قرب القدس ينزل بها أبناء جلدتهم.
وحتى لا نطيل والتفاصيل كلها موجودة والمراجع ثابته: فنوه بالرد النهائي للسلطان عبد الحميد: بلغوا الدمتور هرتزل ألا يبذل بعد اليوم شيئاً عن المحاولة في هذا بالأمر (التوطن بفلسطين) فإنس لست مستعداً أن أتخلى عن شبر واحد من هذه البلاد لتذهب إلى الغير فالبلاد ليست ملكي بل هي ملك شعبي روى ترابها بدمائه. فليحتفظ اليهود بملايينهم من الذهب فإن الدولة العلية لا يمكن أن تختبئ وراء حصون بنيت بأموال أعداء الإسلام.
لست مستعداً لأن أتحمل في التاريخ وصمة بيع بيت المقدس لليهود وخيانة الأمانة التي كلفنى المسلمون بحمياتها.
إن ديون الدولة ليست عاراً لأن غيرها من الدول الأخرى مدين مثل فرنسا.
إن بيت المقدس قد افتتحه المسلمون أول مرة بخلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولست مستعداً أن أتحمل في التاريخ وصمة بيعها لليهود وخيانة الأمانة. وقد أورد هرتزل في مذكراته التي طبعت بالألمانية في تل أبيب عام 1924 م قصة هذه المحاولات وقال بعد فشل المحاولة الأخيرة: إن السلطان عبد الحميد الشريف الفذ الذي أخفى المسلمين والعرب منذ عام 1909 م حتى سنوات قريبة عندما ترجمت مذكرات هرتزل وكان أول من أشار إلى هذا النص الأستاذ أحمد الشقيري في دروسه في معهد الدراسات العربية بالقاهرة منذ عشر سنوات وقد ظل المسلمون والعرب خلال فترة لا تقل عن خمسين عاماً يرمون الرجل عن قوس واحدة لأن الاستعمار والصهيونية والصحف العربية التي أصدرها تلاميذ مدارس الإرساليات وخاصة في مصر (المقطم، الأهرام، الهلال، المقتطف، مجلة سركيس) وعشرات من الصحف كانت تصف عبد الحميد بالسلطان الأحمر المستبد. وقد انتقلت هذه العبارات من الصحف إلى كتب التاريخ وكتب تاريخ الأدب العربي، وما من كتاب أرخ هذه الفترة إلا احتوى على هذه العبارات التي أصبحت مسلمات بالإضافة إلى تغير آخر سنعود له من بعد وهو "الاستعمار التركي العثماني".
كانت هذه العبارات النارية التي وجهها السلطان عبد الحميد إلى هرتزل عام 1902 م إيذاناً بتلك الحملة العاتية على السلطان بعد أن تقرر إزاحته وكانت هذه الحملات التي وجهت إليه تمهيداً وإعداداً للرأي العام لهذا الغرض. ولقد جرت منذ ذلك الوقت محاولات لاغتياله وإسقاطه حتى وقع ذلك عام 1908 م بالإنقلاب الذي قام به الاتحاديون بالاشتراك مع الماسونية ممثلة في الدونمة.
ولا تزال عبارات عبد الحميد نبراساً مضيئاً وتاجاً لامعاً وشرفاً ما بعده شرف، يتوج جبينه في تاريخه المعاصر، وعند ربه، ويتردد عنه ومن حوله كل الإشاعات والشبهات والأضاليل. وقد تبين من بعد في وثائق كثيرة وانكشف الستار عن مؤامرة قلب الدولة العثمانية وإنزال عبد الحميد بالذات كخطوة أولى لتنفيذ هذه الجريمة البشعة. والمؤامرة العالمية لتحطيم الوحدة الجذرية والرابطة العضوية القائمة بين العروبة والإسلام. ولقد تحقق فعلاً لليهود وللاستعمار بإسقاط عبد الحميد كل ما كانوا يرجونه ولم تلبث الهجرة إلى فلسطين أن بدأت سافرة منذ ذلك الحين وتحقق ذلك الأمل الذي استعصى سنوات وسنوات، وكان ذلك مقدمة لاشك فيها للقضاء على الخلافة الإسلامية.
ولقد كان ضرورياً للباحث المتمهل المنصف أن يقف دائماً من تاريخ الدولة العثمانية في العصر الأخير موقف العدل والصدق وأن يفرق بين عهدين: عهد السلطان عبد الحميد الذي انتهى عام 1908 م تقريباً وعهد حكم الاتحاديين الذي بدأ منذ ذلك الوقت وظل مستمراً حتى أسلم أمره إلى الكماليين بعد الحرب العالمية الأولى. فهذه التفرقة واضحة وضرورية خاصة بالنسبة لنا في المشرق: ذلك أن سوريا ولبنان والعراق قبل ذلك تعيش في هذا الاتجاه المعارض للخلافة والسلطان بينما كانت مصر التي سقطت عنها ولاية الدولة العثمانية وسيطر عليها الاستعمار البريطاني منذ 1882 م تؤيد الخلافة والسلطان. ولقد كان لموقف حكومة الاتحاد التركي من أهل سوريا ولبنان ومحاكمة رجالهم وتعليقهم على المشانق عام 1916 م أثر نفسي يعيد في نظرتهم الكلية إلى الدولة العثمانية والحقيقة أنها يجب أن تكون قاصرة على الاتحاديين وحدهم.
ومن هنا وجب التفريق بين مرحلة السلطان عبد الحميد التي انتهت عام 1908 م وهي فترة كان موقف الدولة العثمانية فيها بالنسبة للعرب والمسلمين موقفاً كريماً، وكانت الحركة الإسلامية الواحدة من أعظم الأعمال، أما الفترة التالية التي حكم فيها الذين أسقطوا السلطان فإنها تمثل أسود صفحات الحكم التركي ولاء للصهيونية والاستعمار وضرباً للوحدة الإسلامية وإعلاء للحركة الطورانية، ومحاولة لتتريك العرب في سوريا وتعليق زعمائهم على المشانق، هذه الفترة وحدها هي التي يقف فيها العرب من سوريا موقف الخصومة للترك وهي ليست من حساب الدولة الإسلامية العثمانية في الحقيقة.
كذلك نجد أنه من الضروري أن نصحح عبارة "الاستعمار التركي" أو العثماني. والواقع أن كلمة استعمار كلمة مستحدثة مرتبطة إلى حد كبير بدول مسيطرة بقوة الحديد والنار تأخذ ثروات الأمم بأبخث الأثمان لتجعلها مورداً خاماً لمصانعها ثم تعيد إلى هذه الأمم منتجاتها لتبيعها بأعلى الأسعار، وهذا النظام الاستعماري لم يكن موجوداً في هذه الفترة ولم تكن الدولة العثمانية بهذا المعنى دولة مستعمرة، كذلك فإن الأجزاء العربية التي انضمت إلى الدولة العثمانية لم تكن قد انضمت باحتلال وقسر ولكنها كانت برضاء ودعوة، فقد وجد العرب أنفسهم بعد ضعف المماليك في حاجة إلى الالتقاء تحت اسم الإسلام مع هذه الدولة الكبرى رغبة في الوحدة وحافظة على النفس. وبعد أن تعرضت سوريا ومصر لمحاولات غزو صليبي متجدد من الغرب، والمعروف أن العرب في مصر وسوريا قد رحبوا بالوحدة الإسلامية العثمانية ولم يعارضوها حيث وجدوا في العثمانيين إخوانهم في العقيدة والدين منتعشاً جديداً للإسلام. وقد أكد المؤرخون والباحثون إن هذا الالتقاء بالعرب والترك في ظل الدولة العثمانية قد حمى العالم الإسلامي أكثر من أربعمائة عام من الغزو الصليبي الذي لم يلبث أن جاء بعد ضعف الدولة العثمانية.
والواقع أن الدعوة إلى الوحدة الإسلامية لم يتجاوزها الزمن ولقد تبين للمسلمين اليوم بعد سنوات طويلة من الدعوات الإقليمية والقومية أن الوحدة الإسلامية هي الأصل الأصيل والوجهة الصحيحة وكل الدلائل تؤكد أن المسلمين سائرون إلى طريق الوحدة الذي حطمته اليهودية والاستعمار بإسقاط عبد الحميد وإلغاء الخلافة.
حاشية:
عندما عقد الملتقى الإسلامي الثامن في ولاية بجاية من جمهورية الجزائر عام 1974 م وأثار كعادته في كل عام عدداً من القضايا والمعضلات التي تواجه الفكر الإسلامي في العصر الحديث وقد اشترك في الملتقى عدد كبير من الباحثين والعلماء من مختلف أنحاء العالم الإسلامي كما شارك فيه ممثلون للمسلمين في الهند واليابان كانت أبرز القضايا التي تناولها البحث:
وضع الأقليات والجاليات عموماً والإسلامية خصوصاً في كثير من بلدان القارات الخمس وواجب العلماء والمفكرين ورجال الإعلام نحوها.
وقد أشارت الدكتورة ليلى الصباغ من أساتذة التاريخ بجامعة دمشق إلى الدولة العثمانية إشارة ظالمة حين قالت:
أنها أشلمت البلاد العربية لقمة سائغة للاستعمار العربي.
وقد تصدى لها عدد من الباحثين الجزائريين وعرضوا لوجهة نظرهم إزاء الدولة العثمانية والدور الكبيرة الذي قامت به إزاء حماية المغرب كله من الغزو الأوروبي وتوالت المطالبة بمعرفة دور المشرق وقد تصدى كاتب هذه السطور ذللك فقال:
رغبة في تغطية قضية الدولة العثمانية نظر المشرق والعرب ومصر بالإضافة إلى وجهة النظر المغربية الجزائرية في هذه المسألة نقول: لقد تأثرنا في مصر والمشرق في كتبنا المدرسية وأبحاثنا التاريخية بوجهة النظر الغربية تجاه الدولة العثمانية، وهي وجهة خاصة للغربيين، نتيجة التوسع التركي عرفتها مناطق البلقان وغيرها في القرن التاسع عشر، وقد نقل الاستعمار البريطاني في مصر، والفرنسي في سوريا، وجهة النظر هذه إلى كتب التاريخ التي تدرس في مدارسنا وجامعاتنا، كما تأثر بها بعض مؤرخينا متابعة للنظرة الغربية، أو تحت تأثير الدعوات الإقليمية كالفرعونية الفينيقية وغيرها غير أن هذه النظرة تعمقت من بعد وبلغت أقصى غاياتها في تجاوز الحقيقة، على أثر ظهور الصحافة العربية التي حررها وأخرجها اللبنانيون المارون، خريجو معاهد الإرساليات، وأصحاب العداء الواضح للدولة العثمانية.
وزاد هذه النظرة عنفاً وتعصباً: تلك المحاولة الخطيرة التي طرحتها الصهيونية العالمية بعد عام 1902 م اتشويه شخصية السلطان عبد الحميد ةرميه بالاتهامات كأمثال السلطان الأحمر والمستبد العثماني وغيره، وكلها كانت محاولات أريد منها تهيئة الأذهان للقضاء عليه وانتزاعه من مكانه، وقد عاونت المقطم والأهرام والهلال والمقتطف وكلها كانت لبنانبة الأصل في هذه الحملة وكان ذلك على أثر الموقف الحاسم الذي وقفه السلطان عبد الحميد من المحاولات المتصلة التي جرت خلال الأعوام السابقة لعام 1902 م والذي أرسل فيه السلطان خطابه التاريخي إلى الصحفي اليهودي ثيودور هرتزل صاحب كتاب الدولة اليهودية ومرؤسس الصهيونية الحديثة وقد جاء في هذا الخطاب بالنص:
قولوا للدكتور هرتزل لا يتصل بي مرة أخرى، أن بلادي تفضل أن تظل مدينة على أن تسدد ديونها من ذهب اليهود، إن فلسطين هي بلاد العرب ولا أستطيع أن أفرط في شبر منها.
وكان الدكتور هرتزل قد عرض على السلطان عبد الحميد خمسين مليوناً من الجنيهات الذهب لخزانة الدولة وخمسة ملايين من الجنيهات الذهب لخزانة السلطان الخاصة إلى مشاريع أخرى كثيرة لدعم الدولة العثمانية اقتصادياً.
وقد سجل هرتزل في مذكراته كيف حاول إغراء ذلك الرجل الكريم أشد إغراء ثم كشفت وثائق التاريخ من بعد كيف جرت المحاولات لقتله ثم إسقاطه وقد أغري أشد إغراء وهدد أشد تهديد ولكنه صمد صموداً مشرفاً وظل موقفه هذا محجوباً عن الصحافة وعن المدارس والجامعات وكتب التاريخ سنوا طويلة حتى ترجمت مذكرات هرتزل في السنوات الأخيرة، وظل اسم السلطان عبد الحميد يذكر في كتبنا المدرسة مشفوعاً بأبشع الاتهامات حتى أحق الله الحق وكشف ذلك الزيف الذي حاول به الاستعمار وحاولت الصهيونية إيقاع الفرقة والخلاف بين العرب في مصر والشام وبين الدولة العثمانية.
وللحقيقة فإننا يجب أن نفرق بيين عهدين في تاريخ علاقتنا بالدولة العثمانية: فترة السلطان عبد الحميد التي تنتهي عام 1908 م باستيلاء الاتحاديين تلاميذ حزب الاتحاد والترقي وإنباع الماسونية وربائب الدونمة وبين الفترة التالية التي استمرت حتى عام 1918 م وهي الفترة التي تمثل أسود صفحات العلاقة بين العرب والترك، وهي ليست من حساب الحكم التركي الإسلامي ولكنها مرحلة متقدمة لخدمة الصهيونية العالمية ونصرها وتشكيل أول محاولة لضرب الوحدة الإسلامية العربية، بإعلاء الدعوة الطورانية، ومحاولة تتريك العرب في سوريا وتعليقهم على المشانق، هذه الفترة وحدها هي التي يقف منها العرب في سوريا موقف الخصومة للترك وهي ليست من حساب الدولة الإسلامية العثمانية في الحقيقة.
كذلك فإن النظرة إلى الدولة العثمانية عام 1619 م عندما انضمت الأجزاء العربية في العراق وسوريا ومصر إليها، فإنها في التحليل التاريخي الدقيق ليست سوى التقاء بين عنصرين مسلمين. وقد وجدت من جانب العرب تقبلاً صادقاً فهي ليست في حقيقتها إلا محاولة طبيعية من محاولات الالتقاء والتكامل بين أجزاء العالم الإسلامي في مواجهة الأخطار وقد جاءت هذه الوحدة الإسلامية بين العرب والترك على أثر ضعف قوى المماليك وتعرض الأجزاء العربية وخاصة الشام ومصر لتجدد الغزو الصليبي. والمعروف أن العرب في مصر وسوريا قد رحبوا بالوحدة الإسلامية العثمانية ولم يعارضوها، حيث وجدوا في العثمانيين إخوانهم في العقيدة والدين منتعشاً جديداً للإسلام وقوة شابة بدوية مقاتلة رفعت راية الإسلام خفاقة عالية. وقد أكد الباحثون أن هذا اللقاء بين العرب والأتراك قد حمى العالم الإسلامي أكثر من أربعمائة عام من الغزو الصليبي للمرة التالية.
ومن الحق أن يقال أن العثمانيين قد قاموا في هذه المرحلة الأولى بالأخذ بمفاهيم الإسلام في نطاق الحكم وتحركوا من خلال إطاره. ويشهد المؤرخون غير المتعصبين على الإسلام أو الناقمين على الدولة العثمانية بأن العثمانيين قد اقتفوا أثر الخلفاء الأولين في العدل والتسامح وتمثلوا أعمالهم واتخذوهم قدوة وعملوا على جمع القلوب إليهم بتقدير العلماء ةإنشاء المساجد والمدارس ومن هنا جرت محاولات البحوث الاستعمارية على وصف العلاقة بين العرب والترك بأنها نوع من الاستعمار وهي ليست كذلك في الحقيقة وإنما هذه هي النظريات المدخولة التي يحاول الغزو الفكري والتبشير إذاعتها لإقرارها في الأذهان.
ولقد مرت الدولة العثمانية ككل كائن حي بمرحلة القوة ثم بمرحلة الضعف، ولكن السلطان عبد الحميد كان يعرف أساليب الاستعمار ويواجهها في دهاء وبراعة وقد شهد جمال الدين الأفغاني حين التقى به بأن عبد الحميد يدبر لأوروبا في مواجهة كل محاولة رداً وفي مقابل كل مؤامرة أمراً.
لم يكن الخلاف أذن بين العرب والترك ولكنه كان بين العرب والاتحاديين دعاة الطورانية فلنفرق دائماً بين هذه المراحل ولنعرف أنه قد نشأ في مصر والبلاد العربية الآن تيار قوي لتصحيح هذه الأخطاء على ضوء ما كشفته الوثائق من بروتوكولات صهيون أو ما نشر عن مؤامرات الماسونية على النحو الي يعيد الحقائق إلى نصابها في طريق وحدة الفكر الإسلامي المتجه إلى وحدة الفكر الإسلامي كمقدمة للوحدة الإسلامية التي هي أمل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
الإخـلاص
للشيخ عبد المحسن العباد
هو في اللغة: تخليص الشيء وتجريده من غيره, فالشيء يسمى خالصا إذا صفا عن شوبه وخلص عنه, ويسمى الفعل المصفى المخلص من الشوائب إخلاصا, وفي الأول قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ}, فاللبن الخالص ما سلم وصفا من الدم والفرث ومن كل ما يشوبه ويكدر صفاءه, ومن الثاني قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, لا شَرِيكَ لَهُ}.
وفي الاصطلاح: تصفية ما يراد به ثواب الله وتجريده من كل شائبة تكدر صفاءه وخلوصه له سبحانه.
منزلته: الإخلاص هو أساس النجاح والظفر بالمطلوب في الدنيا والآخرة, فهو للعمل بمنزلة الأساس للبنيان, وبمنزلة الروح للجسد, فكما أنه لا يستقر البناء ولا يتمكّن من الانتفاع منه إلا بتقوية أساسه وتعاهده من أن يعتريه خلل فكذلك العمل بدون الإخلاص, وكما أن حياة البدن بالروح فحياة العمل وتحصيل ثمراته بمصاحبته وملازمته للإخلاص, وقد أوضح ذلك الله في كتابه العزيز فقال: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ, وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}, ولما كانت أعمال الكفار التي عملوها عارية من توحيد الله وإخلاص العمل له سبحانه جعل وجودها كعدمها فقال: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}. والإخلاص أحد الركنين العظيمين اللذين انبنى عليهما دين الإسلام, وهما إخلاص العمل لله وحده وتجريد المتابعة للرسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}, قال: "أخلصه وأصوبه", قيل: "يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل, وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل, حتى يكون خالصا صوابا, فالخالص: ما كان لله, صواب: ما كان على السنة". وقال شارح الطحاوية: "توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما؛ توحيد المرسل سبحانه وتوحيد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم, فيوحده صلى الله عليه وسلم بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان, كما يوحد المرسل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل".
محله: ومحل الإخلاص القلب, فهو حصنه الذي يقطن فيه, فمتى كان صالحا عامرا بسكناه وحده تبع ذلك صلاح الجوارح, ومتى كان خرابا سكن فيه الرياء وملاحظة الناس وكسب ودهم وتحصيل ثنائهم والطمع فيما عندهم, ويتبع ذلك سعي الجوارح لتحصيل هذه الأغراض الدنية, وليس أدل على ذلك وأوضح بيانا من قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, إلا وهي القلب", وقد أوضح صلى الله عليه وسلم هذا المعنى وبيَّن تبعية الجوارح لما يقوم بالقلب بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات, وإنما لكل امرىء ما نوى, فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
والإخلاص مطلوب في الصلاة والزكاة والصيام والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وفي كل ما شرعه الله من قول أو فعل, فيقوم الإنسان بتأدية ما شرع له, والباعث له عليه امتثال أمر الله خوفاً من عقابه, وطمعاً فيما لديه من الأجر والثواب.
والإخلاص مطلوب أيضا فيما يلتزمه الإنسان من الأعمال فهو مطلوب من العامل, ومن المستشار والمؤتمن والموظف, ومن المعلم والمتعلم, وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما يترتب على طلب العلم والإخلاص فيه من النتائج الحميدة, وما يترتب على فقده من العواقب الوخيمة بقوله صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة" رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه, وروى عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها, فقال: "ما عملت فيها؟" قال: "قاتلت فيك حتى استشهدت", قال: "كذبت؛ ولكنك قاتلت ليقال: جريء, فقد قيل", ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار, ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها فقال: "ما علمت؟" قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت القرآن فيك" قال: "كذبت؛ ولكنك تعلمت ليقال: عالم وقرأت ليقال: قارىء, فقد قيل, ثم أمر به فسحب وجهه حتى ألقي على النار" الحديث.
ويروى أن معاوية رضي الله عنه لما بغله هذا الحديث بكى حتى أغمي عليه, فلما أفاق قال: صدق الله ورسوله؛ قال الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ}, ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: "لا تعلّموا العلم لثلاث؛ لتماروا به السفهاء, ولتجادلوا به الفقهاء, أو لتصرفوا وجهة الناس إليكم, وابتغوا بقولكم وفعلكم ما عند الله فإنه يبقى ويذهب ما سواه".
الحث عليه وبيان فضله:
ولما كان الإخلاص بهذه المنزلة التي تقدم وصفها جاء الشرع المطهر في الحث عليه والترغيب فيه وبيان فضله في آيات كثيرة وأحاديث عديدة, نذكر بعضها على سبيل التمثيل فمن ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ}, وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}, وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّه} الآية.. وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, لا شَرِيكَ لَه} (الأنعام: الآية 162- 163), وقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا} (الكهف: من الآية110), وقوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} (الزمر:14).
ومن الأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله لأصحابه في غزوة تبوك: "إن بالمدينة رجالا ما سرتم سيرا, ولا قطعتم واديا إلاّ كانوا معكم حسبكم المرض" وفي رواية: "إلاّ شركوكم في الأجر" متفق عليه واللفظ مسلم, ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلاّ أجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك" متفق عليه.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم" رواه مسلم, ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" جوابا لمن سأله عن رجل يقاتل شجاعة ويقاتل الحمية ويقاتل رياء أيّ ذلك في سبيل الله, وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يكتسبه الإنسان في الدنيا بسبب الإخلاص إلى جانب ما أعده الله له في الآخرة من مثوبة بما ذكره صلى الله عليه وسلم من قصة الثلاثة الذين آووا إلى غار للمبيت فيه فانحدرت صخرة وسدّت عليهم باب الغار ففرج الله عنهم ذلك بسبب إخلاصهم الأعمال الصالحة له سبحانه وتعالى.
ما يضاد الإخلاص وبم تحصل السلامة منه:
وكما أن الإخلاص تصفية الشيء مما يشوبه فإذا لم تحصل تصفيته انتفى الإخلاص.
إذا قام الإنسان بعمل محمود والباعث له عليه ابتغاء وجه الله سمّي عمله إخلاصاً فإذا فقد ذلك الباعث على العمل أو وجد ولكنه مشوب بباعثٍ آخر كالرياء انتفت التسمية, فإخلاص العمل لله وحده ينافيه, ويقابله أن يحلّ في القلب قصد المخلوقين التماساً لحمدهم وثنائهم وطمعاً فيما عندهم, ولما كان ذلك ينافي الإخلاص جاءت الشريعة الإسلامية بذم الرياء ومقت المرائين فقد قال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ, الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ, الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ, وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}. وأخبر أن الرياء من صفات المنافقين فقال: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى}, وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه".
ومن ابتلاه الله بهذا الداء العضال فعليه أن يسعى في تحصيل الأدوية النافعة التي تستأصله وتقضي عليه, ومن أبرزها شيئان:
أحدهما: أن يزهد فيما ينتظر من الناس من الثناء والعطاء.
والثاني: أن يحمل نفسه على إخفاء الأعمال.
وقد أوضح الأول منهما ابن القيم في الفوائد ص 148 فقال:" لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلاّ كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت, فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولا فاذبحه بسكين الناس, وأقبل على المدح والثناء فازهد فيها زهد عشاق الدنيا والآخرة, فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص. فإن قلت: وما الذي يسهل عليّ ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهل عليك علمك يقينا أنه ليس من شيء يطمع فيه إلاّ وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره, ولا يؤتى العبد منها شيئا سواه, وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهل عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين, ويضر ذمه ويشين إلاّ الله وحده, كما قال ذلك الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ مدحي زين وذمّي شين" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الله عز وجل", فازهد في مدح من لا يزينك مدحه ولا يشينك ذمه, وارغب في مدح مَنْ كل الزين في مدحه وكل شين في ذمه, ولن تقدر على ذلك إلاّ بالصبر واليقين, فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب, قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ}, وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} " انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى إخفاء العبادة ابتعاداً عن الرياء بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاّ ظله, "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه, ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه".
فالحاصل أن العمل مذموم إذا كان الباعث عليه التماس حمد الناس وثنائهم, والطمع فيما عندهم, أما إذا عمل الإنسان العمل خالصا لله ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بسبب ذلك العمل فارتاح لذلك واستبشر به لم يضره, ولم ينقص من أجره, بدليل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الرجل يعمل العمل محبة لله فيحمد الناس عليه قال:" تلك عاجل بشرى المؤمن" رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه.
الإيمان بالكتب
تأليف الشيخ: محمد بن إبراهيم الحمد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله_صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً_.
أما بعد:
فهذه نبذة يسيرة عن الإيمان بالكتب، يلقى من خلالها نظرة عامة حول هذا الموضوع، وذلك من خلال الآتي:
تعريف الكتب لغة وشرعاً.
ما يتضمن الإيمان بالكتب.
أهمية الإيمان بالكتب.
أدلة الإيمان بالكتب.
الغاية من إنزال الكتب.
مواضع الاتفاق بين الكتب السماوية.
مواضع الاختلاف بين الكتب السماوية.
منزلة القرآن من الكتب المتقدمة.
التوراة.
التوراة الموجودة اليوم.
الإنجيل.
الإنجيل بعد عيسى_عليه السلام_.
هل يسوغ لأحد اتباع التوراة أو الإنجيل بعد نزول القرآن ؟.
ثمرات الإيمان بالكتب.
ما يضاد الإيمان بالكتب.
الطوائف التي ضلت في باب الإيمان بالكتب.
فلعل هذه الصفحات تعطي صورة عامة لهذا الباب.
وأخيراً أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
محمد بن إبراهيم الحمد
الزلفي ص.ب: 460
www.toislam.net
الكتب في اللغة: جمع كتاب بمعنى مكتوب، مثل فراش بمعنى مفروش، وإله بمعنى مألوه، وغراس بمعنى مغروس.
ومادة (كتب) تدور حول الجمع والضم، وسمي الكاتب كاتباً؛ لأنه يجمع الحروف ويضم بعضها إلى بعض.
ومنه الكتيبة من الجيش سميت كتيبةً؛ لاجتماعها، وانضمام بعضها إلى بعض، ومنه تسمية الخياط كاتباً؛ لأنه يجمع أطراف الثوب إلى بعض، كما في مقامات الحريري()، حيث قال ملغزاً:
وكاتبين وما خطت أناملهم
حرفاً ولا قرأوا ما خط في الكتب
ويَقْصدُ بهم الخياطين.
أما في الشرع: =فالمراد بها الكتب التي أنزلها الله_تعالى_على رسله؛ رحمة للخلق، وهداية لهم؛ ليصلوا بها إلى سعادة الدنيا والآخرة+().
ما يتضمن الإيمان بالكتب()
1_الإيمان بأنها أنزلت من عند الله حقَّاً.
2_الإيمان بما علمنا اسمه منها باسمه كالقرآن الذي نُزِّل على محمد"والتوراة التي أُنزلت على موسى"والإنجيل الذي نزل على عيسى_عليه الصلاة والسلام_والزبور الذي أوتيه داود_عليه السلام_.
وأما ما لم نعلمه من الكتب المنزلة فنؤمن به إجمالاً.
3_تصديق ما صح من أخبارها، كأخبار القرآن، وأخبار ما لم يبدل، أو يحرف من الكتب السابقة.
4_العمل بما لم ينسخ منها، والرضا، والتسليم به، سواء فهمنا حكمته أم لم نفهمها.
وجميع الكتب السابقة منسوخة بالقرآن العظيم، قال_تعالى_: [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ] (المائدة: 48).
أي حاكماً عليه، وعلى هذا فلا يجوز العمل بأي حكم من أحكام الكتب السابقة إلا ما صح وأقره القرآن.
أهمية الإيمان بالكتب
الإيمان بالكتب أصل من أصول العقيدة، وركن من أركان الإيمان، ولا يصح إيمان أحد إلا إذا آمن بالكتب التي أنزلها الله على رسله_عليهم السلام_.
وقد أثنى الله_عز وجل_على الرسل الذين يبلغون عن الله رسالاته فقال_عز وجل_: [الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ] (الأحزاب: 39).
كما أخبر_سبحانه_أن الرسول"والمؤمنون آمنوا بما أنزل من عند الله من كتب، قال_تعالى_[آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ] (البقرة: 285).
ومما يدل على أهميته أن الله أمر المؤمنين بأن يؤمنوا بما أنزله كما في قوله_تعالى_: [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] (البقرة: 136).
ومما يدل على أهميته أن الله أهلك الأمم بسبب تكذيبهم برسالاته، كما أخبر الله عن صالح بقوله: [فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ] (الأعراف: 79).
كذلك من أنكر شيئاً مما أنزل الله فهو كافر كما قال_تعالى_: [وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً] (النساء:136).
لقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة على الإيمان بالكتب فمن ذلك قوله_تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ] (النساء: 136) وقوله_تعالى_: [وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ] (الشورى: 15).
وقال_عليه الصلاة والسلام_كما في حديث جبريل المشهور عندما سأله عن الإيمان قال:=أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله+الحديث().
الغاية من إنزال الكتب()
أنزلت الكتب السماوية كلُّها لغايةٍ واحدةٍ، وهدف واحد وهو أن يُعْبَدَ الله وحده لا شريك له، ولتكون منهج حياة للبشر الذين يعيشون في هذه الأرض، تقودهم بما فيها من هداية إلى كل خير، ولتكون روحاً ونوراً تحيي نفوسهم، وتكشف ظلماتها، وتنير لهم دروب الحياة كلها.
مواضع الاتفاق بين الكتب السماوية()
تتفق الكتب السماوية في أمور عديدة منها:
1_وحدة المصدر: فمصدرها واحد؛ فهي منزلة من عند الله، قال_تعالى_: [الم (1) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ](آل عمران:1_4).
2_وحدة الغاية: فالكتب السماوية غايتها واحدة، فهي كلها تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى دين الإسلام؛ فالإسلام هو دين جميع الرسل، قال_تعالى_[وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ](النحل: 36).
وقال_تعالى_: [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ] (آل عمران: 19).
والإسلام هو الدين الذي أُمِر به إبراهيم_عليه السلام_[إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ](البقرة: 131).
وقال موسى_عليه السلام_لقومه: [يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ](يونس: 84).
والحواريون قالوا لعيسى_عليه السلام_: [آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران: 52).
فالغاية_إذاً_هي الدعوة إلى دين الإسلام، وإلى عبادة الله وحده لا شريك له.
3_مسائل العقيدة: فالكتب اشتملت على الإيمان بالغيب، ومسائل العقيدة، كالإيمان بالرسل، والبعث والنشور، والإيمان باليوم الآخر إلى غير ذلك.
فمسائل العقيدة من باب الأخبار التي لا تنسخ.
4_القواعد العامة: فالكتب السماوية تقرر القواعد العامة، التي لابد أن تعيها البشرية؛ كقاعدة الثواب والعقاب، وهي أن الإنسان يحاسب بعمله، فيعاقب بذنوبه وأوزاره، ولا يؤاخذ بجريرة غيره، ويثاب بسعيه، وليس له سعي غيره كما قال_تعالى_[أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى] (النجم: 36_41).
ومن ذلك الحث على تزكية النفس، وبيان أن الفلاح الحقيقي لا يتحقق إلا بتزكية النفس بالطاعة لله، والعبودية له، وإيثار الآجل على العاجل.
قال_تعالى_: [قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى] (الأعلى: 14_19).
ومن تلك القواعد أن الذي يستحق وراثة الأرض هم عباد الله الصالحون؛ [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ] (الأنبياء: 105).
ومن ذلك أن العاقبة للتقوى وللمتقين، كما قال_تعالى_: [وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى] (طه: 132)، وقال: [وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] (الأعراف: 128).
5_العدل والقسط: وهذا من مواطن الاتفاق؛ فجميع الأنبياء_عليهم السلام_حملوا ميزان العدل والقسط، قال_تعالى_: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ](الحديد: 25).
6_محاربة الفساد والانحراف: وهذا ما اتفقت عليه الرسالات؛ سواء كان الفساد عقدياً أو خلقياً، أو انحرافاً عن الفطرة، أو عدواناً على البشر، أو تطفيفاً في الكيل والميزان، أو غير ذلك.
7_الدعوة إلى مكارم الأخلاق: فالكتب كلها دعت إلى مكارم الأخلاق، كالعفو عن المسيء، وكالصبر على الأذى، وكالقول الحسن، وبر الوالدين، والوفاء بالعهد، وصلة الأرحام، وإكرام الضيف، والتواضع، والعطف على المساكين، إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق.
8_كثير من العبادات: فكثير من العبادات التي نقوم بها كانت معروفة عند الرسل وأتباعهم، كالصلاة، والزكاة، قال_تعالى_: [وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ] (الأنبياء: 73).
وإسماعيل_عليه السلام_[وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ] (مريم: 55)، وقال الله لموسى_عليه السلام_[فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي] (طه: 14)، وقال عيسى_عليه السلام_: [وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً] (مريم: 31).
والصوم_كذلك_مفروض علينا كما هو مفروض على من قبلنا، قال_تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] (البقرة: 183).
والحج كذلك، كما في قول الله_تعالى_لإبراهيم_عليه السلام_[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً] (الحج: 27).
وقد جعل الله لكل أمة مناسكها وعبادتها، قال_عز وجل_: [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ](الحج: 34).
مواضع الاختلاف ()
تختلف الكتب السماوية في الشرائع، فشريعة عيسى تخالف شريعة موسى_عليهما السلام_في بعض الأمور، وشريعة محمد"تخالف شريعة موسى وعيسى_عليهما السلام_في أمور.
قال_تعالى_:[لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً](المائدة: 48).
وليس معنى ذلك أن الشرائع تختلف اختلافاً كلياً؛ فالناظر في الشرائع يجد أنها متفقة في المسائل الأساسية، وقد مر بنا شيء من ذلك، فالاختلاف بينها إنما يكون في التفاصيل.
فعدد الصلوات، وأركانها، وشروطها، ومقادير الزكاة، ومواضع النسك، ونحو ذلك_قد تختلف من شريعة إلى شريعة، وقد يُحِل الله أمراً في شريعة لحكمة، ويحرمه في شريعة أخرى لحكمة يعلمها_عز وجل_ولا يلزم أن نعلمها، ومن الأمثلة على ذلك مايلي:
1_الصوم: فقد كان الصائم يفطر في غروب الشمس، ويباح له الطعام، والشراب، والنكاح إلى طلوع الفجر ما لم ينم، فإن نام قبل الفجر حرم عليه ذلك كله إلى غروب الشمس من اليوم الثاني، فخفف الله عن هذه الأمة، وأحله من الغروب إلى الفجر، سواءً نام أم لم ينم، قال_تعالى_: [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ](البقرة: 187).
2_ستر العورة حال الاغتسال: لم يكن واجباً عند بني إسرائيل، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: =كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده+().
3_الأمور المحرمة: فمما أحله الله لآدم تزويج بناته من بنيه، ثم حرم الله هذا بعد ذلك.
وكان التسري على الزوجة مباحاً في شريعة إبراهيم، وقد فعله إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة.
وقد حرَّم الله مثل هذا على بني إسرائيل في التوراة.
وكذلك الجمع بين الأختين كان سائغاً، وقد فعله يعقوب فتزوج بابنتي خاله: ليَّا، وراحيل؛ وهما أختان ثم حُرِّمَ عليهم في التوراة.
ومما حرَّمه الله على اليهود ما قصه علينا في سورة الأنعام، قال_تعالى_: [وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ](الأنعام: 146).
ثم جاء عيسى_عليه السلام_فأحل لبني إسرائيل بعض ما حرم عليهم.
وجاءت الشريعة الخاتمة لتكون القاعدة: إحلال الطيبات وتحريم، الخبائث.
ومما تميزت به الشريعة الخاتمة أنها عامة لجميع الناس إلى قيام الساعة، بخلاف الشرائع الأخرى، فهي خاصة بقوم دون قوم، أو فترة دون فترة.
منزلة القرآن من الكتب المتقدمة ()
القرآن آخر الكتب السماوية وهو خاتمها، وهو أطولها، وأشملها، وهو الحاكم عليها.
قال الله_تعالى_: [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ] (المائدة: 48).
وقال_تعالى_: [وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ] (يونس: 37).
وقال: [مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] (يوسف: 111).
قال أهل التفسير في قوله_تعالى_[وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ]: مهيمناً وشاهداً على ما قبله من الكتب، ومصدقاً لها؛ يعني يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف، وتبديل، وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير.
ولهذا يخضع له كل متمسك بالكتب المتقدمة ممن لم ينقلب على عقبيه كما قال_تبارك وتعالى_: [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ](القصص:52 ، 53 ).
فالقرآن هو رسالة الله لجميع الخلق، وقد تكفل_سبحانه_[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9).
ولا يقبل الله من أحد ديناً إلا ما جاء في هذا القرآن العظيم.
قال الشيخ ابن سعدي_رحمه الله_في قوله_تعالى_: [وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ]:=أي مشتملاً على ما اشتملت عليه الكتب السابقة وزيادة في المطالب الإلهية، والأخلاق النفسية؛ فهو الكتاب الذي يتبع كل حق جاءت به الكتب، فأمر به، وحث عليه، وأكثر من الطرق الموصلة إليه.
وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين، وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحكمة، والأحكام الذي عرضت عليه الكتب السابقة، فما شهد له بالصدق فهو المقبول، وما شهد له بالرد فهو مردود قد دخله التحريف والتبديل، وإلا لو كان من عند الله لم يخالفه+().
التوراة
التوراة هي الكتاب الذي أنزله الله على موسى_عليه السلام_والتوراة كتاب عظيم اشتمل على النور والهداية كما قال_تعالى_: [إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ](المائدة: 44).
وقال_تعالى_: [ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ] (الأنعام: 154).
وكثيراً ما يقرن الله_عز وجل_في القرآن بين التوراة والقرآن؛ وذلك لأنهما أفضل كتابين أنزلهما الله على خلقه.
هذه باختصار هي حقيقة التوراة التي أنزلت على موسى_عليه السلام_.
التوراة الموجودة اليوم():
أما التوراة الموجودة اليوم فهي ما يطلق على الشريعة المكتوبة، كما يطلق لفظ (التلمود) على الشريعة الشفهية.
والتوراة الموجودة اليوم تشتمل على خمسة أسفار وهي:
1_سفر التكوين: ويتحدث هذا السفر عن خلق العالم، وظهور الإنسان، وطوفان نوح، وولادة إبراهيم إلى موت يوسف_عليه الصلاة والسلام_.
2_سفر الخروج: ويتحدث عن حياة بني إسرائيل في مصر، منذ أيام يعقوب إلى خروجهم إلى أرض كنعان مع موسى ويوشع بن نون.
3_سفر اللاويين: نسبة إلى لاوي بن يعقوب، وفي هذا السفر حديث عن الطهارة، والنجاسة، وتقديم الذبائح، والنذر، وتعظيم هارون وبنيه.
4_سفر العدد: يحصي قبائل بني إسرائيل منذ يعقوب، وأفرادَهم ومواشيهم.
5_سفر التثنية: وفيه أحكام، وعبادات، وسياسة، واجتماع، واقتصاد، وثلاثة خطابات لموسى_عليه السلام_.
هذه هي التوراة الموجودة اليوم، وكل عاقل منصف_فضلاً عن المسلم المؤمن_يعلم براءة التوراة التي أنزلها الله على موسى_عليه السلام_مما هو موجود في التوراة اليوم، وذلك لأمور عديدة منها:
1_ما حصل للتوراة من الضياع والنسخ والتحريف والتدمير، فلقد حُرِّف فيها، وبُدِّل، وضاعت، وتعرضت لسبع تدميرات، منذ عهد سليمان_عليه السلام_(945) قبل الميلاد إلى أن حصل التدمير السابع عام 613م مما يدل على ضياعها وانقطاع سندها.
2_ما تشتمل عليه من عقائد باطلة لا تمت إلى ما جاء به المرسلون بأدنى صلة.
3_اشتمالها على تنقص الرب_جل وعلا_وتشبيهه بالمخلوقين، ومن ذلك قولهم:=إن الله تصارع مع يعقوب ليلة كاملة فصرعه يعقوب+.
ومن ذلك قولهم:=إن الله ندم على خلق البشر لما رأى من معاصيهم، وأنه بكى حتى رمد فعادته الملائكة+.
تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً.
4_اشتمالها على سب الأنبياء والطعن فيهم، ومن ذلك قولهم:=إن نبي الله هارون صنع عجلاً، وعبده مع بني إسرائيل+.
وقولهم:=إن لوطاً شرب خمراً حتى سكر، ثم قام على ابنتيه فزنى بهما الواحدة تلو الأخرى+.
وقولهم:=إن سليمان_عليه السلام_ارتد في آخر عمره، وعَبَدَ الأصنام، وبنى لها المعابد، إلى غير ذلك من مخازي إخوان القردة+().
5_اشتمالها على المغالطات والمستحيلات والمتناقضات.
6_أن المعركة التي قامت بين التوراة وحقائق العلم الحديث أثبتت ما في التوراة من الأخطاء العلمية.
ومن تلك الكتب التي تكلمت على هذا الموضوع كتابان هما: (أصل الإنسان) و (التوراة والإنجيل والقرآن) لعالم فرنسي اسمه (موريس بوكاي) حيث أثبت وجود أخطاء علمية في التوراة والإنجيل، وأثبت في الوقت نفسه عدم تعارض القرآن مع العلم الحديث وحقائقه، بل سجل شهادات تفوق سبق القرآنُ فيها العلمَ بألف وأربعمائة عام().
الإنجيل
هو الكتاب العظيم الذي أنزله الله على عيسى_عليه السلام_متمماً للتوراة، ومؤيداً لها، وموافقاً لها في أكثر الأمور الشرعية، يهدي إلى الصراط المستقيم، ويبين الحق من الباطل، ويدعو إلى عبادة الله وحده دون من سواه.
هذا هو الإنجيل الذي أنزل على عيسى_عليه السلام_.
وبعد موت عيسى_عليه السلام_دخل التحريف الإنجيل فَغُيِّر فيه، وبدِّل، وزيد فيه، ونقص.
الإنجيل بعد عيسى_عليه السلام_:
الكتاب المقدس لدى النصارى يشمل التوراة والأناجيل، ورسائل الرسل.
وتسمى التوراة العهد القديم، وتسمى الأناجيل، ورسائل الرسل العهد الجديد.
فالعهد الجديد_إذاً_هو الذي يشتمل على أناجيلهم، والأناجيل المعتبرة عند النصارى أربعة هي:
1_إنجيل يوحنَّا. 2_إنجيل مرقُس.
3_إنجيل مَتَّى. 4_إنجيل لُوقا.
وهناك أناجيل أخرى مثل إنجيل برنابا، وأناجيل أخرى أهملت.
هذا وقد بيَّن كثير من العلماء المسلمين قديماً وحديثاً ومن علماء النصارى الذين دخلوا في الإسلام، أو المتحررين منهم من ربقة التقليد_عدم صحة هذه الأناجيل الموجودة في أيدي النصارى، ووجهوا إليها انتقادات كثيرة، ومن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية_رحمه الله تعالى_في كتابه: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، وابن القيم_رحمه الله تعالى_في كتابه: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى.
ومن العلماء المحدثين الشيخ رحمة الله الهندي_رحمه الله تعالى_في كتابه: إظهار الحق، والشيخ محمد أبو زهرة_رحمه الله تعالى_في كتابه: محاضرات في النصرانية، ومن علماء النصارى الذين أسلموا إبراهيم خليل أحمد كما في كتابه: محاضرات في مقارنة الأديان.
وفيما يلي إجمال لبعض الأمور التي تبين بطلان الأناجيل الموجودة بأيدي النصارى اليوم وعدم صحتها:
1_أن هذه الأناجيل التي بأيدي النصارى لم يُمْلِها عيسى_عليه السلام_ولم تنزل عليه وحياً، ولكنها كتبت بعده.
2_ما وقع في الأناجيل من تلاعب النساخ، وتبديلهم وتحريفهم.
3_اشتمالها على المتناقضات، والاختلافات، وقد أحصى الشيخ رحمة الله الهندي_في آخر كتابه إظهار الحق_أكثر من مائة اختلاف بين هذه الأناجيل.
4_انقطاع السند في نسبتها لكتابها.
5_اشتمالها على تنقص الرب_جل وعلا_وعلى نسبة القبائح للأنبياء_عليهم السلام_.
6_اشتمالها على العقائد الباطلة المخالفة للنقل والعقل.
7_تعارضها مع الحقائق العلمية، كما أثبت ذلك عدد من العلماء؛ منهم موريس بوكاي وقد مر معنا ذلك قريباً.
8_زد على ذلك أن تلك الأناجيل_وبغض النظر عن كونها محرفة_تخلو من أي تصور محدد لنظام سياسي، أو اجتماعي، أو اقتصادي، أو علمي.
هل يسوغ لأحد اتباع التوراة أو الإنجيل بعد نزول القرآن ؟
لا يسوغ لأحد ذلك؛ للاعتبارات السابقة، ولأنها_وعلى فرض صحتها_كانت خاصة لأمة معينة، ولفترة محددة، ولأنها نسخت بالقرآن الكريم.
ومن هنا يتبين بطلان هذه الكتب، وعدم جواز العمل بها إلا ما أقره القرآن، ويتبين لنا ضلال اليهود والنصارى وبطلان مزاعمهم، كيف وقد قال":=لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار+().
ثمرات الإيمان بالكتب ()
الإيمان بالكتب يثمر ثمراتٍ جليلةً منها:
1_العلم بعناية الله؛ حيث أنزل لكل قوم كتاباً يهديهم به.
2_العلم بحكمة الله؛ حيث شرع لكل قوم ما يناسبهم، ويلائم أحوالهم.
3_التحرر من زبالات أفكار البشر بهدي السماء.
4_السير على طريقٍ مستقيمةٍ واضحةٍ لا اضطراب فيها ولا اعوجاج.
5_الفرح بذلك الخير العظيم [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ](يونس: 58).
6_شكر الله على هذه النعمة العظيمة.
7_التحرر من التخبط الفكري والعقدي.
ما يضاد الإيمان بالكتب
يضاد الإيمان بالكتب تكذيبها، والكفر بها، وتحريفها.
كما يضادها: الإعراضُ عن القرآن، وادعاء نسخه، والتحاكم إلى غيره، وادعاء نقصه، ومضاهاته، ومعارضته.
الطوائف التي ضلّت في باب الإيمان بالكتب
هناك طوائف كثيرة ضلت في هذا الباب منها:
1_اليهود: وذلك بتكذيبهم للقرآن، وتكذيبُهم للقرآن هو في الحقيقة تكذيب لجميع الكتب السماوية.
2_النصارى: يقال عنهم ما قيل عن اليهود، وقد مر الحديث عنهما.
3_الرافضة: وذلك بادعائها أن القرآن ناقص ومحرّف، وأن القرآن الكامل مع الغائب الذي سيخرج في آخر الزمان من سرداب سامراء. . !
ثم إنهم ضلوا في هذا الباب بسبب جعلهما في الجفر والجامعة مصدراً للتلقي عندهم.
وضلوا أيضاً في تأويل القرآن حيث أغرقوا في الباطنية في تأويله().
4_البابية والبهائية: وذلك بادعائها نسخ القرآن الكريم، والشريعة الإسلامية بشريعة الباب والبهاء().
5_التيجانية: وذلك بتفضيلها أورادَها وأذكارَها_كصلاة الفاتح_على القرآن الكريم حيث قالوا: إن قراءة صلاة الفاتح مرة واحدة أفضل من قراءة القرآن ستة آلاف مرة().
6_غلاة الصوفية عموماً: وذلك بادعائهم العلم اللَّدُنِّي الذي يوحى إليهم، ويغنيهم عن القرآن كما يزعمون.
ثم إن مصدر التلقي عندهم ليس القرآن والسنة بل يقوم على الرؤى والأحلام، والكشف، وغير ذلك() مما يخالف ما جاء في القرآن.
7_النصيرية والدروز وسائر الفرق الباطنية: وذلك بانحرافهم في تأويل القرآن، وإغراقهم في التأويل الباطني، وإخراج القرآن عن معانيه وحقائقه الصحيحة، وكذلك ادعاء بعضهم نسخ الإسلام كما يقول علي ابن الفضل الباطني_قبحه الله_:
تولي نبي بني هاشم
وهذا نبي بني يعرب
لكل نبي مضى شرعةٌ
وهذي شريعة هذا النبي
فقد حط عنا فروض الصلاة
وفرض الصيام فلم نتعب
إلى آخر ذلك الكفر الصراح البواح().
8_المشرعون والقانونيون: الذين أعرضوا عن تحكيم القرآن، وعارضوه بزبالات أفكارهم، زاعمين أنه لا يناسب العصر الحديث، ولا يفي بحاجاته.
الفهرس
_ المقدمة 2
_ تعريف الكتب لغة وشرعاً 4
_ ما يتضمن الإيمان بالكتب 5
_ أهمية الإيمان بالكتب 6
_ أدلة الإيمان بالكتب 7
_ الغاية من إنزال الكتب 7
_ مواضع الاتفاق بين الكتب السماوية 8
_ مواضع الاختلاف بين الكتب السماوية 11
_ منزلة القرآن من الكتب المتقدمة 13
_ التوراة 15
_ التوراة الموجودة اليوم 15
_ الإنجيل 18
_ الإنجيل بعد عيسى _عليه السلام_ 18
هل يسوغ لأحد اتِّباع التوراة أو الإنجيل بعد نزول القرآن 20
_ ثمرات الإيمان بالكتب 20
_ ما يضاد الإيمان بالكتب 21
_ الطوائف التي ضلت في باب الإيمان بالكتب 21
البكاء
عند قراءة القرآن
إعداد وترتيب
عبدالله بن إبراهيم اللحيدان
بسم الله الرحمن الرحيم
{الم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ومانزل من الحق}
{لوأنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله}
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن
لا اله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن لكتاب الله الكريم منزلة عظمى عند كل مسلم فهو النور المبين الذي يهتدي به وهو الروح الذي يحيا به وهو الصراط المستقيم تكفل الله –تعالى-بحفظه وأخبر أن لو أنزل على الجبال الرواسي لتصدعت قال-تعالى-:(لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله)"سورة الحشر آية:21" وعاتب الله المؤمنين إبان نزول الوحي بقوله:(ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق )."سورة الحديد آية 17".
وإن رقة القلب ودمعة العين عند قراءة القرآن سمة من سمات السلف-رضوان الله عليهم-وفي هذه الصفحات تذكير بحالهم ورصد لبعض أخبارهم عسى الله أن ينفع بها وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم.
كتبه: عبدالله بن إبراهيم اللحيدان
28/7/1412هـ
فضل البكاء عند قراءة القرآن
البكاء عند التلاوة والذكر صفة العارفين وشعار عباد الله الصالحين قال الله تعالى :"إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا".}سورة الإسراء , الآيات : 107-109{.
قال القرطبي –رحمه الله -:" قوله تعالى:"ويخرون للأذقان يبكون"هذه مبالغة في وصفهم ومدح لهم وحق لكل من توسم بالعلم وحصل منه شيئا أن يجري الى هذه المرتبة فيخشع عند استماع القرآن ويخضع ويذل قال وفي الآية دليل على جواز البكاء في الصلاة من خوف الله تعالى أو على معصيته في دين الله وأن ذلك لا يقطعها ولا يضرها ".
كان عبد الأعلى التيمي يقول :"من أوتي من العلم مالا يبكيه لخليق ألا يكون أوتي علما ينفعه لأن الله تعالى نعت العلماء فقال:" إن الذين أوتوا العلم... الى قوله يبكون ويزيدهم خشوعا".
"وإن مايحصل عند الإستماع لآيات الله والذكر المشروع من وجل القلب ودمع العين وإقشعرار الجسوم فهذا أفضل الأحوال التي نطق بها الكتاب والسنة ".
قال تعالى:"الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم الى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء"}سورة الزمر, الآية: 23 {وقال تعالى:"إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا"}سورة مريم , الآية:58{.قال القرطبي رحمه الله :"في هذه الآية دلالة على أن لآيات الرحمن تأثير في القلوب".
معنى البكاء وأنواعه
قال الراغب:بكى يبكي بكاء فالبكاء بالمد : سيلان الدمع عن حزن وعويل.
* أنواع البكاء:
قال ابن القيم –رحمه الله- البكاء أنواع:
الأول: بكاء الرحمة والرقة.
الثاني: بكاء الخوف والخشية .
الثالث:بكاء المحبة والشوق.
الرابع:بكاء الفرح والسرور.
الخامس:بكاء الجزع من ورود المؤلم وعدم إحتماله.
السادس:بكاء الحزن0
والفرق بين بكاء الحزن وبين بكاء الخوف :أن بكاء الحزن يكون على ما مضى وبكاء الخوف يكون لما يتوقع في المستقبل والفرق بين بكاء الفرح وبكاء الحزن:
أن دمعة السرور باردة والقلب فرحان ودمعة الحزن حارة والقلب حزين.
السابع:بكاء الخوف والضعف.
الثامن:بكاء النفاق وهو أن تدمع العين والقلب قاس فيظهر صاحبه الخشوع وهو من أقسى الناس قلبا.
التاسع:البكاء المستعار والمستأجر عليه كبكاء النائحة بالأجرة.
العاشر:بكاء الموافقة وهو أن يرى الرجل الناس يبكون لأمر ورد عليهم فيبكي معهم ولا يدري لأي شيء يبكون ولكن يراهم يبكون فيبكي.
* أنواع التباكي:
قال:وما كان منه مستدعى متكلفا فهو التباكي وهو نوعان:
1-تباكي محمود.
2-تباكي مذموم.
فالمحمود: أن يستجلب لرقة القلبو لخشية الله لا للرياء والسمعة قال عمرt للنبي e وقد رآه يبكي هو وأبو بكر في شأن أسرى بدر: أخبرني ما يبكيك يا رسول الله؟ لإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد تباكيت لبكائكما ولم ينكر عليه النبي e وقد قال بعض السلف:" ابكوا من خشية الله فإن لم تبكوا فتباكوا".
وأما المذموم: فهو أن يجتلب لأجل الخلق .
وكم نرى ونسمع من يتباكى لأجل مصلحة مادية أو لأجل الرياء والسمعة.
هديه eفي البكاء
*بكاؤه:e
كان بكاؤهe من جنس ضحكه لم يكن بشهيق ورفع صوت كما لم يكن ضحكه بقهقهة ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا ويسمع لصدره أزيز وكان بكاؤه تارة رحمة للميت وتارة خوفا على أمته وشفقة عليها وتارة من خشية الله وتارة عند سماع القرآن وهو بكاء إشتياق ومحبة وإجلال مصاحب للخوف والخشية.
قال ابن مسعود t:قال رسول الله ":e إقرأ علي :فقلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال نعم إني أحب أن أسمعه من غيري.فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية"فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا" فقال حسبك الآن فإذا عيناه تذرفان " .
وبكى eلما شاهد إحدى بناته ونفسها تفيض ولما مات إبنه إبراهيم دمعت عيناه وبكى رحمة له وبكى لما مات عثمان بن مظعون وبكى لما كسفت الشمس وصلى صلاة الكسوف وجعل يبكي في صلاته وكان يبكي أحيانا في صلاة الليل.
وعن ثابت البناني عن مطرف عن أبيه قال أتيت النبي e وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل – يعني يبكي" .
الأزيز: حنين من الجوف وهو صوت البكاء.
والمرجل: بكسر الميم الإناء الذي يغلي فيه الماء سواء كان من حديد أو صفر أو حجارة.
قال في الفتح الرباني :والمعنى أنه يجيش جوفه ويغلي من البكاء من خشية الله تعالى.
وثبت عنه e أنه قال :"شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت".
وكانت قراءته e تصدع القلوب وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم قال:سمعت رسول الله e يقرأ في المغرب بالطور فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه وفي بعض ألفاظه فلما سمعته قرأ"أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون"} سورة الطور الآية :35{ كاد قلبي أن يطير قال ابن كثير-رحمه الله- وكان جبير لما سمع هذا لم يزل مشركا على دين قومه وإنما كان قوم في نداء الأسارى بعد بدر وناهيك عن تؤثر قراءته في المشرك المصر على الكفر فكان هذا سبب هدايته ولهذا كان أحسن القراءات ما كان عن خشوع من القلب وعن طاووس قال :"أحسن الناس صوتا بالقرآن أخشاهم لله".
البكاءون من السلف الصالح
أولا :الصحابة y :
وصف حالهم :
صلى علي t صلاة الفجر فلما سلم إنفتل عن يمينه ثم مكث كأن عليه كآبة حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح قلب يده فقال:لقد رأيت أثرا من أصحاب رسول الله e فما أرى أحدا يشبههم والله إن كانوا ليصبحون شعثا غبرا صفرا .بين أعينهم أمثال ركب المعزى قد باتوا يتلون كتاب الله يراوحون بين أقدامهم وجباههم إذا ذكر الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم ريح فأنهملت أعينهم حتى تبل والله ثيابهم والله لكأن القوم باتوا غافلين.
وعن عروة بن الزبير قال قلت لجدتي أسماء كيف كان أصحاب رسول الله e إذا سمعوا القرآن ؟
قالت :"تدمع عيونهم وتقشعر جلودهم كما نعتهم الله".
هذا هو حال الصحابة – رضوان الله عليهم – لم يكن هم أحدهم آخر السورة ولم يكن همه عدد ما يختم من القرآن.
* أبو بكر الصديق t:
روى البخاري بسنده عن عائشة –رضي الله عنها- قالت :إن رسول الله e قال في مرضه : مروا أبا بكر يصلي بالناس قالت عائشة :قلت إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر يصلي بالناس فقالت عائشة :فقلت لحفصة قولي له إن أبا بكر في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل بالناس ففعلت حفصة فقال رسول اللهe :مه إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس فقالت حفصة لعائشة ماكنت لأصيب منك خيرا".
وفي رواية قالت عائشة إنه رجل رقيق إذا قرأ غلبه البكاء وفي رواية فقيل له أي للنبيe إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس.
قال الحافظ ابن حجر قوله رقيق أي رقيق القلب وقوله أسيف بوزن فعيل وهو بمعنى فاعل من الأسف وهو شدة الحزن والمراد أنه رقيق القلب.
وروى البيهقي في الشعب بسنده أن أبا بكر ابتنى مسجدا بفناء داره –بمكة- وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يتعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلا بكاءا لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن.
* عمر بن الخطاب t :
كان للقرآن موقع عظيم في حياة عمر فقد أسلم t عندما سمع آيات من سورة طه فكان إسلامه عزا للإسلام والمسلمين وكم سمعنا بأخبار قوته وشدته في دين الله وغيرته على حرمات الله وعن زهده وورعه وعن عدله وتواضعه .
أما عن حاله مع القرآن فلا تسأل عنها فقد كان t وقافا عند آياته بكاءا عند تلاوته سريعا في إستحضارها معظما لشأنها وإليك شيئا مما أثر عنه t .
عن عبدالله بن شداد قال:سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف في صلاة الصبح وهو يقرأ سورة يوسف حتى بلغ "إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله"}سورة يوسف,الآية:86{وبكى حتى سالت دموعه على ترقوته.
قال النووي –رحمه- وفي رواية أنه كان في صلاة العشاء فتدل على تكريره منه.
وعن هشام ابن الحسين قال: كان عمر بن الخطاب يمر بالآية في ورده فتخيفه(في بعض الروايات فتخنقه)فيبكي حتى يسقط ويلزم بيته اليوم واليومين حتى يعاد ويحسبونه مريضا.
وعن أبي معمر أن عمر قرأ سورة مريم فسجد ثم قال هذا السجود فأين البكاء يعني عند قوله تعالى:"خروا سجدا وبكيا".
وكان t يعيش القرآن في كل حركاته وسكناته .مرt بدير راهب فناداه يا راهب فأشرف فجعل عمر ينظر إليه ويبكي فقيل له ياأمير المؤمنين ما يبكيك من هذا؟ قال ذكرت قول الله –عز وجل- في كتابه"عاملة ناصبة تصلى نارا حامية"}سورة الغاشية,الآيتان: 3, 4{فذاك الذي أبكاني .
وكان t يذكر بالقرآن ويعظ بآياته ويدرك أثرها إذا صدرت بصدق من قائلها ونسوق شاهدا على ذلك هذه القصة التي ساقها ابن كثير في تفسير أول سورة غافر قال –رحمه الله-:
كان رجل من أهل الشام ذو بأس وكان يفد إلى عمر بن الخطاب t ففقده عمر فقال: ما فعل فلان؟ فقالوا يا أمير المؤمنين تتابع في هذا الشراب قال فدعا عمر كاتبه فقال اكتب: من عمر بن الخطاب الى فلان بن فلان سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ثم قال لأصحابه ادعوا الله لأخيكم أن يقبل بقلبه ويتوب الله عليه فلما بلغ الرجل كتاب عمر t جعله يقرأه ويردده ويقول "غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب "}سورة غافر آية : 3{ قد حذرني عقوبته ووعدني أن يغفر لي فلم يزل يرددها على نفسه ثم بكى ثم نزع فأحسن النزع فلما بلغ عمر خبره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخا لكم زل زلة فسددوه وادعوا الله أن يتوب عليه ولا تكونوا أعوان الشيطان عليه.
* عائشة –رضي الله عنها-:
عن القاسم قال :كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة –رضي الله عنها- فأسلم عليها فغدوت يوما فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ:"فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم"}سورة الطور,آية 27{وتدعوا وتبكي وترددها فقمت حتى مللت القيام فذهبت إلى السوق لحاجتي ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي-رضي الله عنها-.
والقاسم هو ابن أخيها محمد بن أبي بكر –رضي الله عنهم-.
* عبدالله بن عباس :
قال ابن أبي مليكة قرأ ابن عباس"وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد"}سورة ق ,آية:19{فجعل يرتل ويكثر في ذلكم النشيج.
* عبدالله بن عمر :
وعن نافع قال ما قرأ ابن عمر هاتين الآيتين قط من آخر سورة البقرة إلا بكى "وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"}سورة البقرة,آية:284 {.
وذكر نافع أيضا أن ابن عمر إذا قرأ:"ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله" بكى حتى يغلبه البكاء .
وقرأ عبدالله بن عمر ويل للمطففين حتى بلغ :"يوم يقوم الناس لرب العالمين "فبكى حتى خر وامتنع عن قراءة مابعدها .
وعن سمير الرياحي عن أبيه قال شرب عبدالله بن عمر ماءا مبردا فبكى فاشتد بكاؤه فقيل ما يبكيك؟ فقال ذكرت آية في كتاب الله –عز وجل-:"وحيل بينهم وبين ما يشتهون"}سورة سبأ,آية:54{فعرفت أن أهل النار لا يشتهون شيئا وإن شهوتهم الماء وقد قال الله –عز وجل-:"أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله " }سورة الأعراف,آية : 50{.
وكان ابن عمر يصلي بالليل فيمر بالآية فيها ذكر الجنة فيقف فيسأل الله الجنة ويدعوا وربما بكى ويمر بالآية فيها ذكر النار فيقف ويتعوذ بالله من النار ويدعوا وربما بكى .
* أبو موسى الأشعري :
وكان أبو موسى الأشعري t إذا قرأ "ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم "}سورة الانفطار,آية:6{قال يعني الجهل ويبكي وإذا قرأ " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو " بكى .
* عبدالرحمن بن عوف :
أما عبد الرحمن بن عوف t فيحدث عنه ابن عباس –رضي الله عنهما-قال :لم أر رجلا يجد من القشعريرة مايجد عبد الرحمن عند القراءة .
وعن أبي هريرة t :قال :لما نزلت :"أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون "}سورة النجم,آية:59{بكى أهل الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم .
مواقف بعض الصحابة عند تلاوة كتاب الله:
وكان من هدي الصحابة y التأسي برسول الله e في ترديد آيات الله فقد روى الإمام أحمد بسنده عن أبي ذر t قال:صلى النبي e ذات ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها:"إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم "}سورة المائدة ,آية :18{
فلما أصبح قلت يا رسول الله مازلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها؟ قال إني سألت ربي U الشفاعة لأمتي فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئا. رواه النسائي وابن ماجة.
وقد مر بنا أن عائشة –رضي الله عنها- كانت تردد قوله تعالى:"فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم"}سورة الطور آية 27{.
وقام أبو الدرداء t ليلة بآية حتى أصبح وهي "أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا محياهم ومماتهم" } سورة الجاثية ,آية 21 {.
وردد ابن مسعود t "رب زدني علما" }سورة طه,آية:114{.
وعن صفوان بن سليم قال :قام تميم الداري في المسجد بعد أن صلى العشاء فمر بهذه الآية :"تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون " }سورة المؤمنون,آية:104{فما خرج منها حتى سمع آذان الصبح .
وأتى تميم الداري المقام فاستفتح الجاثية فلما بلغ "أم حسب الذين إجترحوا السيئات " الآية.}سورة الجاثية, آية:21{جعل يرددها حتى أصبح .
وقام عمرو بن عتبة بن فرقد ليلة فاستفتح حم فأتى على هذه الآية" وأنذرهم يوم الآزفة"}غافر,آية:18{فما جاوزها حتى أصبح .
استحباب ترديد الآيات
وفي كتاب التبيان عقد النووي –رحمه الله- فصلا في استحباب ترديد الآية للتدبر قال:وقد بات جماعة من السلف يتلون آية واحدة يتدبرونها ويرددونها الى الصباح .
ولا يقتصر الأمر في الترديد على القرآن فقط بل والدعاء أيضا فقد كان أكثر دعاء النبيe :"يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " .وكان أكثر دعاء النبي e أيضا :"اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".متفق عليه وقال e :"ألظوا بياذ الجلال والإكرام" أي إلزموا هذه الدعوة وأكثروا منها .
وبات أبو الدرداء ليلة يردد في سجوده :"اللهم كما حسنت خَلقِي فحسن خُلُقِي" .
وورد أن عبد الرحمن بن عوف كان يقول في طوافه:"رب قني شح نفسي" لا يزيد على ذلك .
ثانيا: أحوال التابعين وأتباعهم :
وللتابعين نصيب من التأثر بالقرآن وكان حالهم معه عجيب جد عجيب وقد ذكرت كتب التفسير والتراجم شيئا من أحوالهم وكانوا يحرصون على البحث عما يجلب لهم الخشوع والتأثر بالقرآن فكان معاوية بن مرة يقول:"من يدلني على رجل بكاء بالليل بسام بالنهار" .
ونذكر نماذج مماورد عنهم في البكاء ثم نتبعه بما ورد عنهم في ترديد آيات القرآن.
* عمر بن عبد العزيز(الخليفة الزاهد):
قالت فاطمة بنت عبد الملك زوج عمر بن عبد العزيز عن زوجها إنها رأته ذات ليلة قائما يصلي فأتى على هذه الآية"يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش"}سورة القارعة,آية :5{فصاح واسوء صباحاه ثم وثب فسقط فجعل يخور مني فظننت أن نفسه ستخرج ثم إنه هدأ فظننت أنه قضى ثم أفاق إفاقة فنادى واسوء صباحاه ثم وثب فجعل يجول في الدار ويقول:ويلي من يوم يكون فيه الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش قالت فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر ثم سقط كأنه ميت حتى أتاه الآذان للصلاة فو الله ما ذكرت ليلته تلك إلا غلبتني عيناي فلم أملك رد عبرتي .
وقرأ –رحمه الله – ليلة في صلاته سورة الليل فلما بلغ قوله تعالى:"فأنذرتكم نارا تلظى"}سورة الليل,آية : 15{بكى فلم يستطع أن يتجاوزها مرتين أو ثلاثا ثم قرأ سورة أخرى غيرها .
وقرأ عنده رجل "وإذا القوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا"}الفرقان ,آية:13{ فبكى عمر حتى غلبه البكاء وعلا نشيجه فقام من مجلسه فدخل بيته وتفرق الناس .
وعن مقاتل بن حبان قال صليت خلف عمر بن عبد العزيز فقرأ "وقفوهم إنهم مسؤولون" }الصافات,آية :24{فجعل يكررها لا يستطيع أن يجاوزها –يعني من البكاء- .
وقال –يرحمه الله- يوما لابنه إقرأ قال:ما أقرأ ؟ قال: إقرأ سورة ق فقرأ حتى إذا بلغ"وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد"}ق ,آية:19{بكى ثم قال: إقرأ إقرأ يا بني قال: ما أقرأ؟ قال :إقرأ سورة ق فقرأ حتى إذا بلغ ذكر الموت بكى أيضا بكاءا شديدا يفعل ذلك مرارا .
* الفضيل بن عياض وابنه علي:
وكان من توبته –رحمه الله-انه سمع ذات ليلة قارئا يقرأ قوله تعالى:"ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله"}سورة الحديد ,آية :17{فقال بلى وتاب وصار جبلا في العبادة .
أما عن قراءته للقرآن .
فعن إسحاق بن إبراهيم قال:كانت قراءة الفضيل حزينة شهية بطيئة مترسلة كأنه يخاطب إنسانا وكان إذا مر بآية فيها ذكر الجنة يرددها .
وعن سعد بن زنبور قال:كنا على باب الفضيل بن عياض فاستأذنا عليه فلم يؤّذن لنا فقيل لنا انه لا يخرج إليكم حتى يسمع القرآن وكان معنا رجل مؤذن وكان صيتا فقلنا له اقرأ" ألهاكم التكاثر" }التكاثر,آية:1{ورفع بها صوته فأشرف علينا الفضيل وقد بكى حتى بل لحيته بالدموع ومعه خرقة ينشف بها الدموع من عينه وأنشأ يقول:
بلغت الثمانين أو حزتها فماذا أؤمل أو أنتظر
أتى لي ثمانون من مولدي وبعد الثمانين ما ينتظر
قال ثم خنقته العبرة وكان معنا علي بن خشرم فأتمه لنا:
علتني السنون فأبلينني فرقت عظامي وكل البصر
وعن محمد بن ناجية قال:
صليت خلف الفضيل فقرأ"الحاقة" في الصبح فلما بلغ قوله تعالى :"خذوه فغلوه"غلبه البكاء فسقط ابنه علي مغشيا عليه .
وقال بكر بن عياش :صليت خلف فضيل بن عياض المغرب وابنه علي إلى جانبي فقرأ ألهاكم التكاثر فلما قال " لترون الجحيم "سقط على وجهه مغشيا عليه .
وقال أبو سليمان الداراني كان علي بن الفضيل لا يستطيع أن يقرأ القارعة ولا تقرأ عليه.
وروى البيهقي في الشعب قال:كان علي بن الفضيل لا يقدر على قراءة القرآن فقال لأبيه يا أبه ادع الله لعلي أستطيع أن أختم القرآن مرة واحدة وكان سبب وفاته ما حدث به ابراهيم بن بشار قال الآية التي مات فيها علي بن الفضيل في سورة الأنعام "ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد"}سورة الأنعام , آية: 27{قال مع هذا الموضع مات وكنت فيمن صلى عليه –رحمه الله- .
* ثابت البناني :
قال حماد بن سلمة : قرأ ثابت البناني قوله –تعالى-:"أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا"}سورة الكهف, آية: 37{ وهو يصلي صلاة الليل ينتحب ويرددها .
وكان ثابت –رحمه الله-قد اشتكى عينه فقال له الطبيب:اضمن لي خصلة تبرأ عينك لا تبكي قال ثابت وما خير في عين لا تبكي .
* محمد بن المنكدر:
عن يحي بن الفضل قال :سمعت بعض من يذكر عن محمد بن المنكدر أنه بينما هو ذات ليلة قائم يصلي إذ إستبكى فكثر بكاؤه حتى فزع أهله فسألوه ما الذي ابكاك ؟فاستعجم عليهم فتمادى في البكاء فارسلوا إلى أبي حازم وأخبروه بأمره فجاء أبو حازم فإذا هو يبكي فقال يا أخي ما الذي أبكاك قد روعت أهلك؟فقال إني مرت بي آية من كتاب الله-عز وجل-قال وما هي؟قال قول الله –عز وجل-:"وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون"}سورة الزمر ,آية: 47{قال فبكى أبو حازم معه واشتد بكاؤهما قال:فقال بعض أهله لأبي حازم جئنا بك لتفرج عنه فزدته .
* أبو حصين الأسدي:
قال أبو بكر بن عياش :دخلت على أبي حصين الأسدي في مرضه الذي مات فيه فأغمي عليه ثم أفاق فجعل يقول :"وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين"}سورة الزخرف,آية: 86{ثم أغمي عليه ثم أفاق فجعل يرددها فلم يزل على ذلك .
* الربيع بن أبي راشد:
عن خلف بن حوشب قال :قال الربيع بن أبي راشد اقرأ علي :"يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث"}سورة الحج,آية: 5{فقرأتها عليه فبكى ثم قال:والله لولا أن تكون بدعة لسمت أو قال لهمت في الجبال .
* زرارة بن أبي أوفى:
عن بهز بن حكيم قال :صلى بنا زرارة بن أبي أوفى في مسجد بني قشير فقرأ:"فإذا نقر في الناقور"}سورة المدثر , آية: 8{ فخر ميتا فحمل إلى داره فكنت فيمن حمله إلى داره .
* مالك بن دينار :
عن الحارث بن سعيد قال كنا عند مالك بن دينار وعندنا قارئ يقرأ:"إذا زلزلت الأرض زلزالها"}سورة الزلزلة , آية:1 {فجعل مالك ينتفض وأهل المجلس يبكون حتى إنتهى إلى هذه الآية"فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" فجعل مالك والله يبكي ويشهق حتى غشي عليه فحمل بين القوم صريعا .
* عبد الواحد بن يزيد:
وقرأ مضر القارئ –قوله تعالى :"هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون"}سورة الجاثية , آية: 29 { فبكى عبد الواحد بن يزيد حتى غشي عليه .
* يحي بن سعيد القطان:
قال الذهبي :قال عبد الرحمن بن عمر :سمعت علي بن عبد الله يقول:كنا عند يحي بن سعيد القطان فلما خرج من المسجد خرجنا معه فلما صار بباب داره وقف ووقفنا معه فانتهى إليه الروبي فقال يحي لما رآه:ادخلوا فدخلنا فقال للروبي اقرأ فلما أخذ في القراءة نظرت إلى يحي لم يتغير حتى بلغ "إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين"}سورة الدخان , آية: 40{صعق يحي وغشي عليه وارتفع صوته وكان باب قريب منه فانقلب فأصاب الباب فقار ظهره وسال الدم فصرخ النساء وخرجنا فوقفنا بالباب حتى أفاق بعد كذا وكذا ثم دخلنا عليه فإذا هو نائم على فراشه وهو يقول "إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين" فمازالت فيه تلك القرحة حتى مات.
قال الإمام أحمد قريء القرآن على يحي بن سعيد القطان فغشي عليه ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحي بن سعيد فما رأيت أعقل منه.
أحوال بعض السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين
ونختم الحديث بما كان عليه السلف من كثرة الترديد لآيات القرآن.
قال القاسم بن معين :قام أبو حنيفة ليلة بهذه الآية "بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر"}سورة القمر , آية: 46 {يرددها ويبكي ويتضرع.
وظل رحمه الله –في قيامه بعد العشاء- يردد قوله تعالى:"فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم" }سورة الطور , آية: 27 { إلى الصبح.
وقال أبو سليمان الداراني ما رأيت أحدا الخوف أظهر على وجهه والخشوع من الحسن بن صالح قام ليلة فقرأ "عم يتساءلون " فغشي عليه فلم يختمها حتى طلع الفجر .
وعن محمد بن أبي الفتح الحنبلي قال:كنت ليلة في أواخر الليل بجامع دمشق والشيخ-يعني النووي- واقف الى سارية في ظلمة ويردد قوله تعالى: "وقفوهم إنهم مسئولون"} سورة الصافات , آية : 24 {مرارا بخوف وخشوع حتى حصل عندي من ذلك أمر عظيم –قال الذهبي نقل السمعاني أن فقيها سمع أسعد الميهني يلطم وجهه ويقول :يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وبكى وردد الآية .
وكان هارون بن رياب الأسيدي يقوم من الليل للتهجد فربما ردد هذه الآية حتى يصبح"فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين "}سورة الأنعام , آية : 27 {ويبكي حتى يصبح .
وعن معمر قال صلى إلى جنبي سليمان التميمي بعد العشاء الآخرة وسمعته يقرأ:" تبارك الذي بيده الملك "}سورة الملك , آية :1{ قال فلما أتى على هذه الآية "فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا "فجعل يرددها حتى خف أهل المسجد فانصرفوا قال فخرجت وتركته قال وغدوت لآذان الفجر فنظرت فإذا هو في مقامه قال :فسمعته فإذا هو فيها لم يجزها وهو يقول " فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا " .
وكان محمد بن كعب القرظي يقول لأن أقرأ في ليلة حتى أصبح "إذا زلزلت الأرض زلزالها"}الزلزلة , آية: 1 {والقارعة لا أزيد عليها ولا أتردد فيها و اتفكر أحب إلي من هَذ القرآن هذا ً أو نثره نثرا ً .
وكان سعيد بن جبير – رحمه الله – يكثر من ترديد آيات القرآن في قيامه قال يحي بن عبد الرحمن سمعت سعيد بن جبير يردد هذه الآية "وامتازوا اليوم أيها المجرمون "} سورة يس ,آية : 59{ حتى يصبح .
وقام ليلة يصلي فقرأ" واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله" }سورة البقرة , آية :281{ فرددها بضعا وعشرين مرة وردد أيضا وهو يؤمهم في رمضان "فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون "} سورة غافر , آية : 71{ رددها مرارا وردد أيضا "ما غرك بربك الكريم" }سورة غافر , آية : 71 {.
وكان الضحاك إذا تلا قوله تعالى :"لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل "} سورة الزمر , آية : 16 {رددها إلى السحر .
وردد الحسن ليلة "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " } سورة إبراهيم , آية : 34{حتى أصبح فقيل له في ذلك أن فيها معتبرا ما نرفع طرفا ولا نرده إلا وقع على نعمة ومالا نعلمه من نعم الله أكثر .
وعن نسير قال :بت عند الربيع بن خثيم ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية"أم حسب الذين إجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء"} سورة الجاثية , آية : 21{ فمكث ليلة حتى أصبح ما يجاوز هذه الآية الى غيرها ببكاء شديد .
وكان جعفر بن حرب يتقلد كبار الأعمال للسلطان وكانت وظيفته تقارب وظيفة الوزارة فاجتاز يوما راكبا في موكب له عظيم فسمع رجلا يقرأ "ألأم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق" } سورة الحديد , آية : 17 {فصاح اللهم بلى يكررها ثم بكى ثم تاب ورد المظالم التي كانت عليه وانقطع الى العلم والعبادة حتى مات .
وكان علماء السلف يدركون أثر القرآن ولذلك يعظون ويذكرون بآياته ويكون لها موقع عظيم في نفوس الخلق وقد تقدمت قصة عمر وصاحب الشراب قال الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله-من لم يتعظ بالقرآن فلا اتعظ.
قال الذهبي :بلغنا أن فخر الرازي وعظ مرة عند أبي المظفر محمد بن سام فقال يا سلطان العالم لا سلطانك يبقى ولا تلبيس الرازي يبقى وان مردنا الى الله وان المسرفين هم أصحاب النار قال فانتحب السلطان بالبكاء .
وكان للمنذر بن سعيد الأندلسي نصيب من هذا فلقد قحط الناس في آخر مدة الناصر فأمر القاضي منذر بن سعيد بالبروز الى الاستسقاء بالناس فصام أياما وتأهب واجتمع الخلق في مصلى الربض وصعد الناصر في أعلى القصر ليشاهد الجمع فأبطأ منذر ثم خرج راجلا متخشعا وقام ليخطب فلما رأى الحال بكى ونشج وافتتح خطبته بأن قال سلام عليكم ثم سكت شبه الحسير ولم يكن من عادته فنظر الناس بعضهم الى بعض لا يدرون ما عراه ثم اندفع فقال :"فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة "} سورة الأنعام , آية : 54{ الآية استغفروا ربكم وتوبوا إليه وتقربوا بالأعمال الصالحة لديه فضج الناس بالبكاء وجأروا بالدعاء والتضرع وخطب فأبلغ فلم ينفض القوم حتى نزل غيث عظيم .
واستسقى مرة فقال يهتف بالخلق "يا أيها الناس أنتم الفقراء الى الله "} سورة فاطر, آية : 15 {
الآيتين فهيج الخلق على البكاء .
وللنساء دور
وأخيرا فإن للنساء نصيبا من البكاء عند تلاوة القرآن ومن ترديد آياته وتدبرها.
فمن ذلك ما ورد عن أم عمار بنت مليك قالت :بت ليلة عند منيفة ابنة أبي طارق فما زادت على هذه الآية ترددها وتبكي "وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي الى صراط مستقيم" } سورة آل عمران , آية : 101 { .
الغشي والصيحات عند سماع الآيات
أنكر بعض العلماء ما يحدث من الصعق والصياح والغشي عند سماع الآيات وذكر القرطبي عند تفسير قوله تعالى :"الله أنزل أحسن الحديث كتابا متشابها" } سورة الزمر , آية : 23 {أن ابن عمر مر برجل من أهل القرآن ساقطا فقال ما بال هذا ؟ قالوا:إنه قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط فقال ابن عمر إنا لنخشى الله وما نسقط ثم قال :إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ما كان هذا صنيع أصحاب رسول الله r .
وقال النووي : كان أحمد بن أبي الحواري وهو ريحانة الشام كما قال أبو القاسم بن جنيد –رحمه الله- إذا قرئ عليه القرآن يصيح ويصعق قال ابن أبي داود وكان القاسم بن عثمان الجوني –رحمه- ينكر على ابن الحواري ....قال وكذلك أنكره أبو الجوزاء وقيس بن جبير وغيرهم قلت –أي النووي- والصواب عدم الإنكار إلا من عرف أنه يفعله تصنعا والله أعلم .
وقال ابن تيمية –رحمه الله-:وما يحصل عند السماع والذكر المشروع من وجل القلب ودمع العين واقشعرار الجسوم فهذا أفضل الأحوال التي نطق بها الكتاب والسنة أما الإضطراب الشديد والغشي والموت والصيحات فهذا إن كان صاحبه مغلوبا عليه لم يلم عليه كما قد يكون في التابعين ومن بعدهم فإن منشأه قوة الوارد على القلب مع ضعف القلب والقوة والتمكن أفضل كما هو حال النبي rوأصحابه .
وقال أيضا والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء إن كان مغلوبا عليه لم ينكر عليه وإن كان حال الثابت أكمل ولهذا لما سئل الامام أحمد عن هذا قال:قرئ القرآن على يحي بن سعيد القطان فغشي عليه ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحي بن سعيد فما رأيت أعقل منه ونحو هذا.
وقال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله-:
"والأصوات التي تسمع أحيانا من بعض الناس هي بغير إختيارهم فيما يظهر وقد قال العلماء –رحمهم الله-:إن الانسان إذا بكى من خشية الله فإن صلاته لا تبطل ولو بان من ذلك حرفان فأكثر لأن هذا أمر لا يمكن لإنسان أن يتحكم فيه ولا يمكن أن نقول للناس لا تخشعوا في الصلاة ولا تبكوا" .
الخاتمة
وأخيرا أخي المسلم تذكر حالك وأنت تقرأ القرآن أو تستمع إليه واعرض نفسك على حال سلفنا الصالح وكيف كانوا يعيشون مع القرآن وتذكر أن "هذا القرآن يعطيك بمقدار ما تعطيه ويتفتح عليك في كل مرة بإشعاعات و إشراقات و إيحاءات بقدر ما تفتح له نفسك" .
قال الإمام الغزالي :البكاء مستحب مع قراءة القرآن وعندها وطريقه في تحصيله أن يحضر قلبه بأن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد الشديد والمواثيق والعهود ثم يتأمل تقصيره في ذلك فإن لم يحضره حزن وبكاء فليبك على فقد ذلك فإنه من أعظم المصائب.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
الفهرس
الموضوع الصفحة
المقدمة........................................... ................................4
فضل البكاء عند قراءة القرآن............................................ .........5
معنى البكاء وأنواعه........................................... .....................6
البكاءون من السلف الصالح............................................ ...........9
أولا: الصحابة........................................... ..........................9
أحوال التابعين وأتباعهم.......................................... .................15
وللنساء دور............................................... ......................23
الغشي والصيحات عند سماع الآيات............................................ ...23
تم بحمد الله ومنته
قام بنسخه(نقله) من المطبوع الى الإلكتروني
"المحتسب "
البكاء من خشية الله
أسبابه ، وموانعه ، وطرق تحصيله
جمعه وأعدَّه :
أبو طارق
إحسان بن محمد بن عايش العتيـبي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
وبعد
البكاءُ فطرةٌ بشريّةٌ كما ذكر أهل التفسير ، فقد قال القرطبي في تفسير قول الله تعالى : { وأنّه هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } [ النجم / 43 ] : " أي : قضى أسباب الضحك والبكاء ، وقال عطاء بن أبي مسلم : يعني : أفرح وأحزن ؛ لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء ...
" تفسير القرطبي " ( 17 / 116 ) .
وبما أن البكاء فعل غريزي لا يملك الإنسان دفعه غالباً فإنه مباح بشرط ألا يصاحبه ما يدلُّ على التسخُّط من قضاء الله وقدره ، لقول النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : " إنَّ اللهَ لا يُعذِّبُ بدمعِ العينِ ولا بحزنِ القلبِ ، ولكن يُعَذِّبُ بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحمُ " البخاري ( 1242 ) ومسلم ( 924 ) .
أنواع البكاء وأصدقها
قال يزيد بن ميسرة رحمه الله : " البكاء من سبعة أشياء : البكاء من الفرح ، والبكاء من الحزن ، والفزع ، والرياء ، والوجع ، والشكر ، وبكاء من خشية الله تعالى ، فذلك الذي تُطفِئ الدمعة منها أمثال البحور من النار ! " .
وذكر الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه " زاد المعاد " عشرة أنواع للبكاء نوردها كما ذكرها .
*بكاء الخوف والخشية .
*بكاء الرحمة والرقة .
*بكاء المحبة والشوق .
*بكاء الفرح والسرور .
*بكاء الجزع من ورود الألم وعدم احتماله .
*بكاء الحزن .... وفرقه عن بكاء الخوف ، أن الأول " الحزن " : يكون على ما مضى من حصول مكروه أو فوات محبوب وبكاء الخوف : يكون لما يتوقع في المستقبل من ذلك ، والفرق بين بكاء السرور والفرح وبكاء الحزن أن دمعة السرور باردة والقلب فرحان ، ودمعة الحزن : حارة والقلب حزين ، ولهذا يقال لما يُفرح به هو " قرة عين " وأقرّ به عينه ، ولما يُحزن : هو سخينة العين ، وأسخن الله به عينه .
*بكاء الخور والضعف .
*بكاء النفاق وهو : أن تدمع العين والقلب قاس .
*البكاء المستعار والمستأجر عليه ، كبكاء النائحة بالأجرة فإنها كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : تبيع عبرتها وتبكي شجو غيرها .
*بكاء الموافقة : فهو أن يرى الرجل الناس يبكون لأمر عليهم فيبكي معهم ولا يدري لأي شيء يبكون يراهم يبكون فيبكي .
" زاد المعاد " ( 1 / 184 ، 185 ) .
والبكاء من خشية الله تعالى أصدق بكاء تردد في النفوس ، وأقوى مترجم عن القلوب الوجلة الخائفة .
البكاء الكاذب
البكاء قد يكون دليلاً على صدق الباكي ، وقد لا يكون ، وقد ذكر القرآن الكريم قصة إخوة يوسف عليه السلام وكيف تباكوا على أخيهم كذباً فقال تعالى : { وجاؤوا أباهُمْ عِشَاءً يَبْكونَ } [ يوسف / 16 ] ، وعلى هذا فإن بكاء أحد المتخاصمين في القضاء ليس دليلاً يُعتدُّ به .
بكاء الإثم !!
البكاء على موت كافر أو طاغية أو فاسد ، والبكاء العاشقين ، وأهل الغرام بالأغاني .
فما في الأرض أشقى مـن محب وإن وجد الهـوى حلو المذاق
تـراه باكيـا فـي كــل حـين مخافـة فرقـة أو لاشـتياق
فتسخـن عينـه عنـد التلاقـي وتسـخن عينـه عند الفراق
ويبكـي إن نـأوا شوقـا إليهـم ويبكي إن دنوا خوف الفـراق
فضل البكاء من خشية الله
قال تعالى : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ . قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ . فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ . إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } [ الطور / 25 – 28 ]
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع " . رواه الترمذي ( 1633 ) .
وقالَ رسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : " سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظلُّهُ : إِمامٌ عادِلٌ ، وشابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللَّه تَعالى ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّق بالمَسَاجِدِ ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه ، اجتَمَعا عَلَيهِ وتَفَرَّقَا عَلَيهِ ، وَرَجَلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمالٍ ، فَقَالَ : إِنّي أَخافُ اللَّه ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةَ فأَخْفاها حتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمالهُ ما تُنْفِقُ يَمِينهُ ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ " .
رواه البخاري ( 629 ) ومسلم ( 1031 ) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عينان لا تمسهما النار ، عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله " . رواه الترمذي ( 1639 ) ، وصححه الشيخ الألباني في " صحيح الترمذي " ( 1338 ) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين : قطرة من دموع خشية الله ، وقطرة دم تهراق في سبيل الله ، وأما الأثران : فأثر في سبيل الله ، وأثر في فريضة من فرائض الله " رواه الترمذي ( 1669 ) ، وصححه الشيخ الألباني في " صحيح الترمذي " ( 1363 ) .
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : " لأن أدمع من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار ! " .
وقال كعب الأحبار : لأن أبكى من خشية الله فتسيل دموعي على وجنتي أحب إلى من أن أتصدق بوزني ذهباً .
حال الملائكة
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لجبريل : " ما لي لا أرى ميكائيل ضاحكاً قط ؟ " قال : ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار .
رواه أحمد ( 12930 ) ، وقال المناوي في " فيض القدير " ( 5 / 452 ) : ... قال الزين العراقي إسناده جيد ، وحسنه الشيخ الألباني في " صحيح الترغيب " ( 3664 ) . [ تنبيه : هذا الحديث من الأحاديث التي تراجع الشيخ الألباني من تضعيفه إلى تحسينه ] .
عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مررتُ ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحِلس البالي من خشية الله تعالى " .
رواه الطبراني في " الأوسط " ( 5 / 64 ) وحسنه الشيخ الألباني في " صحيح الجامع " ( 5864 ) .
بكاء الأنبياء
قال تعالى : { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذريه آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذريه إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً } [ مريم / 58 ] .
بكاء النبي صلى الله عليه وسلم
عَن ابن مَسعودٍ - رضي اللَّه عنه – قالَ : قال لي النبيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : " اقْرَأْ علَّي القُرآنَ " قلتُ : يا رسُولَ اللَّه ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ ؟ ، قالَ : " إِني أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي " فقرَأْتُ عليه سورَةَ النِّساء ، حتى جِئْتُ إلى هذِهِ الآية : { فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهيد وِجئْنا بِكَ عَلى هَؤلاءِ شَهِيداً } [ النساء / 40 ] قال " حَسْبُكَ الآن " فَالْتَفَتَّ إِليْهِ ، فَإِذَا عِيْناهُ تَذْرِفانِ . البخاري ( 4763 ) ومسلم ( 800 ) .
قال ابن بطال :
وإنما بكى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند هذا لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة ، وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بتصديقه والإيمان به ، وسؤاله الشفاعة لهم ليريحهم من طول الموقف ، وأهواله ، وهذا أمر يحق له طول البكاء والحزن .
وعَن عبد اللَّه بنِ الشِّخِّير - رضي اللَّه عنه – قال : أَتَيْتُ رسُولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم وَهُو يُصلِّي ولجوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المرْجَلِ مِنَ البُكَاءِ . رواه أحمد ( 15877 ) ، والنسائي ( 1214 ) وهذا لفظه ، وأبو داود ( 904 ) بلفظ " ... كأزيز الرحى " ، وصححه الشيخ الألباني في " صحيح الترغيب " ( 544 ) .
المِرْجل : القِدر الذي يغلي فيه الماء .
عن عبيد بن عمير رحمه الله : " أنه قال لعائشة - رضي الله عنها - : أخبرينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال : فسكتت ثم قالت : لما كانت ليلة من الليالي .
قال : " يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي " .
قلت : والله إني أحب قُربك ، وأحب ما يسرك .
قالت : فقام فتطهر ، ثم قام يصلي .
قالت : فم يزل يبكي ، حتى بل حِجرهُ !
قالت : وكان جالساً فلم يزل يبكي صلى الله عليه وسلم حتى بل لحيته !
قالت : ثم بكى حتى بل الأرض ! فجاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فلما رآه يبكي ، قال : يا رسول الله تبكي ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! قال : " أفلا أكون عبداً شكورا ؟! لقد أنزلت علي الليلة آية ، ويل لم قرأها ولم يتفكر فيها ! { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ … } الآية كلها [ آل عمران / 190 ] " رواه ابن حبان ( 2 / 386 ) وغيره ، وصححه الشيخ الألباني في " صحيح الترغيب " ( 1468 ) ، وفي " الصحيحة " ( 68 ) .
عن أنس رضي الله عنه قال : شهدنا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر فرأيت عينيه تدمعان ، فقال : هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة ؟ فقال أبو طلحة : أنا ، قال : فانزل في قبرها ، فنزل في قبرها فقبرها . رواه البخاري ( 1225 ) .
وبكى شفقة على أمته .
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم { رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني } الآية [ إبراهيم / 36 ] وقال عيسى عليه السلام { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } [ المائدة / 118 ] فرفع يديه وقال - اللهم أمتي أمتي - وبكى فقال الله عز وجل يا جبريل اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فسله ما يبكيك فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال - وهو أعلم - فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك . رواه مسلم ( 202 ) .
عن عبد الله بن عمرو بن العاص - أيضاً - قال : انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكد يركع ثم ركع فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك ثم نفخ في آخر سجوده فقال : أف أف ، ثم قال : رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم ؟ ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون ؟ ونحن نستغفرك ، فلما صلى ركعتين انجلت الشمس فقام فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا انكسفا فافزعوا إلى ذكر الله تعالى . رواه أبو داود ( 1194 ) وصححه الشيخ الألباني في " صحيح أبي داود " ( 1055 ) لكن بذكر الركوع مرتين كما في الصحيحين .
بكاء الصحابة
عن أنس رضي الله عنه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال : " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً " ، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين ، وفي رواية : بلَغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطب فقال : " عرضت عليَّ الجنة والنار فلم أر كاليوم من الخير والشر ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً " فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أشد منه غطوا رؤوسهم ولهم خنين " . رواه البخاري ( 4345 ) ، والرواية الثانية لمسلم ( 2359 ). ، والخنين : هو البكاء مع غنّة .
قال ابن حجر :
المراد بالعلم هنا : ما يتعلّق بعظمة الله وانتقامه ممّن يعصيه ، والأهوال التي تقع عند النزع والموت وفي القبر ويوم القيامة .
وعن أبي سفيان عن أشياخه قال : قدم سعد على سلمان يعوده ، قال : فبكى ، فقال سعد : ما يبكيك يا أبا عبد الله ؟ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض وترد عليه الحوض وتلقى أصحابك ، فقال : ما أبكي جزعا من الموت ولا حرصا على الدنيا ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا عهداً قال : " لتكن بلغة أحدكم من الدنيا كزاد الراكب " وحولي هذه الأساود قال وإنما حوله إجانة وجفنة ومطهرة فقال يا سعد اذكر الله عند همك إذا هممت وعند يديك إذا قسمت وعند حكمك إذا حكمت .
رواه الحاكم ( 4 / 353 ) وقال صحيح الإسناد – قال المنذري - : كذا قال .
قوله " وهذه الأساود حولي " قال أبو عبيد : أراد الشخوص من المتاع وكل شخص سواد من إنسان أو متاع أو غيره ، وحسنه الألباني في " صحيح الترغيب " ( 3224 ) ، وقال معلقاً تحت هذا الحديث : بُلْغَة : بضم الموحدة ، ما يُتَبَلَّغ به من العيش ، إجانة : شيء تغسل فيه الثياب ، والجفنة : كالقصة ، والمطهرة : إدواة الماء ، ذكرها الجوهري بفتح الميم وكسرها ثم قال : والفتح أعلى ...
وعن هانئ مولى عثمان رضي الله عنه قال : كان عثمان إذا وقف على قبر ؛ بكى حتى يبل لحيته ! فقيل له : تذكر الجنة والنار فلا تبكي ، وتبكي من هذا ؟! فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن القبر أول منزل من منازل الآخرة ، فإن نجا منه ، فما بعده أيسر منه ، وإن لم ينج منه ؛ فما بعده أشد منه ! " قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما رأيت منظراً قط إلاّ القبر أفظع منه ! " رواه أحمد ( 456 ) ، والترمذي ( 2308 ) ، وابن ماجه ( 4267 ) ، وحسنه الشيخ الألباني في " صحيح الترمذي " للألباني ( 1878 ) .
وبكى معاذ رضي الله عنه بكاء شديدا فقيل له ما يبكيك ؟ قال : لأن الله عز وجل قبض قبضتين واحدة في الجنة والأخرى في النار ، فأنا لا أدري من أي الفريقين أكون .
وبكى الحسن فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : أخاف أن يطرحني الله غداً في النار ولا يبالي .
وعن تميم الداري رضى الله عنه أنه قرأ هذه الآية : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ الجاثية / 21 ] فجعل يرددها إلى الصباح ويبكي .
وكان حذيفة رضي الله عنه يبكي بكاءً شديداً ، فقيل له : ما بكاؤك ؟ فقال : لا أدري على ما أقدم ، أعلى رضا أم على سخط ؟ .
عن سعد عن أبيه قال : أُتي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يوما بطعامه فقال : قتل مصعب بن عمير وكان خيراً مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة ، وقتل حمزة – أو رجل آخر – خير مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة ، لقد خشيت أن يكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا ، ثم جعل يبكي . رواه البخاري ( 1215 ) .
وقال سعد بن الأخرم : كنت أمشي مع ابن مسعود فمَّر بالحدَّادين و قد أخرجوا حديداً من النار فقام ينظر إلى الحديد المذاب ويبكي . وما هذا البكاء إلا لعلمهم بأن الأمر جد والحساب قادم ولا يغادر صغيره ولا كبيره إلا أحصاها .
وخطب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه مرة الناس بالبصرة : فذكر في خطبته النار ، فبكى حتى سقطت دموعه على المنبر ! وبكى الناس يومئذ بكاءً شديداً .
وقرأ ابن عمر رضي الله عنهما : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } [ سورة المطففين :1 ] فلما بلغ : { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ سورة المطففين :6 ] بكى حتى خرَّ وامتنع عن قراءة ما بعده .
عن نافع قال : كان ابن عمر إذا قرأ { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } [ الحديد / 16 ] بكى حتى يغلبه البكاء .
وقوله تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الحديد / 16 ] :
قال ابن مسعود رضي الله عنه : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين.
رواه مسلم ( 3027 ) .
وقال مسروق رجمه الله : " قرأت على عائشة هذه الآيات : { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } [ الطور / 27 ] فبكت ، وقالت " ربِّ مُنَّ وقني عذاب السموم " .
بكى أبو هريرة رضي الله عنه في مرضه . فقيل له : ما يبكيك ؟! فقال : " أما إني لا أبكي على دنياكم هذه ، ولكن أبكي على بُعد سفري ، وقلة زادي ، وإني أمسيت في صعود على جنة أو نار ، لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي !! " .
كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه واضعاً رأسه في حجر امرأته فبكى فبكت امرأته فقال ما يبكيك فقالت رأيتك تبكي فبكيت قال إني ذكرت قول الله عز وجل { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً } [ مريم / 71 ] فلا أدري أأنجو منه أم لا .
اشتكى سلمان الفارسي فعاده سعد بن أبي وقاص فرآه يبكي فقال له سعد : ما يبكيك يا أخي أليس قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أليس ؟ أليس ؟ قال سلمان : ما أبكي واحدة من اثنتين ما أبكي ضنّاً للدنيا ولا كراهية للآخرة ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ عهداً فما أراني إلا قد تعديت ! قال : وما عهد إليك ؟ قال : عهد إليَّ أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب ولا أراني إلا قد تعديت ، وأما أنت يا سعد فاتق الله عند حكمك إذا حكمت ، وعند قسمك إذا قسمت ، وعند همك إذا هممت . قال ثابت : فبلغني أنه ما ترك إلا بضعة وعشرين درهما من نفقة كانت عنده . رواه ابن ماجه ( 4104 ) ، وصححه الشيخ الألباني في" صحيح ابن ماجه " ( 3312 ) ، " وصحيح الترغيب " ( 3225 ) .
عن أنس بن مالك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأبيِّ بن كعب إن الله أمرني أن أقرئك القرآن قال أالله سماني لك ؟ قال : نعم ، قال : وقد ذُكرت عند رب العالمين ؟ قال : نعم ، فذرفت عيناه - وفي رواية : فجعل أبيٌّ يبكي -. رواه البخاري (4677) ، ومسلم (799) .
بكاء السلف الصالح
وكان بعض الصالحين يبكي ليلاً ونهاراً ، فقيل له في ذلك ، فقال : أخاف أن الله تعالى رآني على معصية ، فيقول : مُرَّ عنى فإني غضبان عليك .
وهذا إسماعيل بن زكريا يروي حال حبيب بن محمد - وكان جارا له – يقول : كنت إذا أمسيت سمعت بكاءه وإذا أصبحت سمعت بكاءه ، فأتيت أهله ، فقلت ما شأنه ؟ يبكي إذا أمسى ، ويبكي إذا أصبح ؟! قال : فقالت لي : يخاف والله إذا أمسى أن لا يصبح و إذا أصبح أن لا يمسي .
وحين عوتب يزيد الرقاشي على كثرة بكائه ، وقيل له : لو كانت النار خُلِقتْ لك ما زدت على هذا ؟! قال : وهل خلقت النار إلا لي ولأصحابي ولإخواننا من الجن و الإنس ؟؟ .
وحين سئل عطاء السليمي : ما هذا الحزن قال : ويحك ، الموت في عنقي ، والقبر بيتي ، وفي القيامة موقفي وعلى جسر جهنم طريقي لا أدري ما يُصنَع بي .
وكان فضالة بن صيفي كثير البكاء ، فدخل عليه رجل وهو يبكي فقال لزوجته ما شأنه ؟ قالت : زعم أنه يريد سفراً بعيداً وماله زاد .
وانتبه الحسن ليلة فبكى ، فضج أهل الدار بالبكاء ، فسألوه عن حاله فقال : ذكرت ذنباً لي فبكيت.
وحدث من شهد عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة : أن رجلاً قرأ عنده : { وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا } [ الفرقان : 13 ] فبكى حتى غلبه البكاء ، وعلا نشيجه ! فقام من مجلسه ، فدخل بيته ، وتفرَّق الناس .
وقال خالد بن الصقر السدوسي : كان أبي خاصاً لسفيان الثوري ، قال أبي : فاستأذنت على سفيان في نحر الظهر ، فأذنت لي امرأة ، فدخلت عليه وهو يقول : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم } [ سورة الزخرف :80 ] ثم يقول : بلى يا ربّ ! بلى يا ربّ ! وينتحب ، وينظر إلى سقف البيت ودموعه تسيل ، فمكثت جالساً كم شاء الله ، ثم أقبل إليّ ، فجلس معي . فقال : منذ كم أنت ها هنا ! ما شعرت بمكانك !
بكاء المعاصرين
عندما بكى الشيخ ابن باز
دموع سماحة الوالد ليست ملكاً له ، فعينه تغلبه كثيراً عندما تقرأ عليه آية من كتاب الله ، أو يسمع حادثة من حوادث السيرة النبوية أو يحكى له موقف مؤثر من الماضي أو الحاضر ، وها هم طلابه يتحدثون عن هذا الموضوع .
فقد سألنا أحد طلاب الشيخ عن أبرز المواطن التي تغلب الشيخ فيها دموعه فيبكي فأجاب :
شيخنا قريب الدمعة ، يبكي كثيراً حتى إن بكاءه يصل إلى حد الجياش الشديد ، فهو يبكي عند ذكر الوعد والوعيد ، ويبكي عند حصول بعض المصائب لبعض المسلمين ، ويبكي عند حصول بعض الغرائب في الدين التي هي من أعظم المصائب ، ويبكي عند ذكر السلف الصالح وأحوالهم في الزهد والتقشف ، ويبكي حين تذكر شيوخه وإخوانه الذين ماتوا قبله ، أو حين تحل بهم أقدار الله .
قلب رقيق
ويكمل الحديث أحد الطلاب الذين يحضرون دروس سماحة الشيخ منذ عام 1399هـ فيقول :
الشيخ حفظه الله يملك قلباً رقيقاً متأثراً بكل ما يسمعه من الآيات والأحاديث النبوية وكذا سيرة الصحابة رضي الله عنهم ، فكم من آية من كتاب الله وقف الشيخ عندها متأثراً باكياً لما فيها من الوعيد وكذا ما أعده الله من النعيم ، وكم حديث أثار أشجان الشيخ فبكى متأثراً مما ورد فيه كقصة الإفك مثلاً وكذا توبة كعب بن مالك وغيرها من الأحاديث .
وأذكر مرة أنه قُرأ على الشيخ حديث : " إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الملوك ، لا مالِك إلا الله " - البخاري ( 5852 ) ، ومسلم ( 3143 ) - قال سفيان : مثل شاهان شاه ، فكان القارئ وهو أحد تلاميذه قرأها ( شاهٍ شاه ) فقال الشيخ مصححاً له : ( شاهانَ شاه ) هكذا قرأتها على سماحة شيخنا العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله ، فما كان من الشيخ إلا أن دمعت عيناه وغلبه البكاء لأنه تذكر شيخه سماحة العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - فكان هذا موقفاً لا أنساه ، ودمعة على وجنتيّ شيخنا لا أنساها أبداً .
ويبدو أن لمواقف السيرة النبوية أثراً عظيماً في قلب شيخنا ابن باز حيث إنه كثيراً ما يتأثر عند سماعه بعض أخبارها .
و ها هو الأخ عبد الله الروقي يعد لنا بعض هذه المواطن :
أذكر منها : بكى عند قصة تخلف كعب بن مالك رضي الله عنه عن غزوة تبوك ، وبكى عند حديث الإفك وقصة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في ذلك ، وبكى عند حديث جرير بن عبد الله البجلي الذي رواه أحمد ( ساعاتي ج 1 / 75 – 77 ) - ترقيم إحياء التراث ( 18677 ) - في قصة الأعرابي الذي أسلم ثم وقصته دابته فقال عليه الصلاة والسلام : " عمل قليلاً وأجر كثيراً " ، وبكى عند بيعة الأنصار رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية ، كما تأثر كثيراً عندما قرئ عليه من " زاد المعاد " باب فتح مكة ، وكان يكثر فيه من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك مما يطول .
واستمع لبكاء الشيخ عند ذِكره لشيخه الشيخ محمد بن إبراهيم – رحمهما الله - :
http://www.sohari.com/nawader_v/monawa3/ben-baz-ben-braheem.ram
وهنا – أيضاً - :
http://mypage.ayna.com/an4/es.rm
حادثة الإفك وقول أبي بكر
ويقول الأخ فهد السنيدي : إنه ما رأى الشيخ متأثراً كما رآه عندما قرأت عليه حادثة الإفك إذ تأثر الشيخ وبكى طويلاً .
استمع لبكاء الشيخ عند هذا الموضع :
http://saaid.net/Doat/ehsan/afk.rm
وقد غلبه البكاء مرة عندما قرئت عليه مقولة أبي بكر رضي الله عنه عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت " رواه البخاري ( 3467 ) .
عندما بكى الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله -
قال أحد تلامذة الشيخ :
عبد الرحمن بن داود من خيرة طلاب شيخنا وأحاسنهم أخلاقاً من يمن الإيمان والحكمة له في قلوب الجميع محبة ومكانة ، حصل له حادث توفي على أثره وهو في طريقه لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم , حزن الجميع للنبأ وسلمنا لقضاء الله وقدره ووضعت الجنازة بعد صلاة المغرب ليتقدم شيخنا - رحمه الله - ويصلي عليه , ثم تُحمل الجنازة إلى المقبرة .
وفجأة بعد الصلاة افتقدنا الشيخ رحمه الله فقال البعض : لعله تبع الجنازة ، وقال آخرون : لعل الشيخ صائم فذهب للإفطار - كما هي عادته - وسيعود بعد ربع ساعة ، أما البعض فقد رأوا شيخنا عندما نزل بعد الصلاة إلى قبو المسجد , فجلسوا حول كرسي الشيخ في انتظار صعوده للدرس اليومي .
ثم قام أحد الأخوة من طلبة الشيخ المعروفين - ممن لم ير الشيخ - فنزل إلى القبو ريثما يعود الشيخ , وفجأة وهو ينزل إذ بالشيخ - رحمه الله - يصعد من القبو وهو يمسح الدموع عن وجهه , وقد ظهر على وجهه التأثر الشديد والبكاء , هنا ألقى صاحبنا على شيخنا السلام ثم صعد , أما الشيخ فقد كفكف دمعه وصعد إلى مكان الدرس وجلس على كرسيه والجميع حوله ثم ترحم على أخينا - عبد الرحمن - وذكره بخير ، ثم استمر في درسه وكأن شيئاً لم يكن .
ماذا نقول ؟! ثبات وقوة في رقة و إيمان .
رحم الله عبد الرحمن بن داود ، ورحم الله شيخنا فقد لحق المعلم بالطالب ونحن على الأثر .
عندما بكى الشيخ الألباني – رحمه الله –
والشيخ رحمه الله – على خلاف ما يظن الكثيرون – رقيق القلب ، غزير الدمع ، فهو لا يُحدَّث بشيء فيه ما يبكي إلا وأجهش في البكاء ، ومن ذلك :
أ. حدثته امرأة جزائرية أنها رأته يسأل عن الطريق الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم ، فدُلَّ عليه فسار على خطواته لا يخطئها ، فلم يحتمل كلامها ، وأجهش بالبكاء .
واستمع :
http://www.alalbany.net/audio/alalbany011.zip
ب. وفي آخر لقاء لي به رحمه الله ، حدثته عن رؤيا رآها بعض إخواننا ، وهي أنه رأى هذا الأخ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فسأله : إذا أشكل عليَّ شيء في الحديث مَن أسأل ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سل محمد ناصر الدين الألباني . فما أن انتهيت من حديثي حتى بكى بكاءً عظيماً ، وهو يردد " اللهم اجعلني خيراً مما يظنون ، واغفر لي ما لا يعلمون " .
ج. وحدثه بعض إخواننا عن سب والده للرب والدين - والعياذ بالله - فبكى الشيخ لما سمع من جرأة من ينتسب للدين على بعض هذه القبائح و العظائم في حق الله ، وحكم على والده بأنه مرتد كافر .
د. وبكى – رحمه الله – لما أثنى عليه بعض إخواننا اعترافاً بتقصيره وتواضعاً لربه تعالى .
واستمع :
http://www.alalbany.net/audio/alalbany012.zip
قسوة القلب وأسبابها
العين تتبع القلب ، فإذا رق القلب دمعت العين ، وإذا قسى قحطت ، قال ابن القيّم - رحمه الله – في كتاب " بدائع الفوائد " ( 3 / 743 ) - : " ومتى أقحطت العين من البكاء من خشية الله تعالى فاعلم أن قحطها من قسوة القلب ، وأبعد القلوب من الله : القلب القاسي " وكان كثير من السلف يحب أن يكون من البكائين ، ويفضلونه على بعض من الطاعات ، كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : " لأن أدمع من خشية الله أحب إليَّ من أن أتصدق بألف دينار " .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من القلب الذي لا يخشع فيقول " ... اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها " . رواه مسلم ( 2722 ) .
ولقسوة القلوب أسبابها ، ولرقتها أسبابها - كذلك - فمن أسباب قسوة القلوب :
1. كثرة الكلام .
2. نقض العهد مع الله تعالى بفعل المعاصي وترك الواجبات .
3. كثرة الضحك .
" كثرة الضحك تميت القلب " رواه أحمد ( 8034 ) ، والترمذي ( 2305 ) ، وابن ماجه ( 4217 ) ، وصححه الشيخ الألباني في " الصحيحة " ( 506 و 927 و 2046 ) .
مرَّ الحسن البصري بشاب وهو مستغرق في ضحكه ، وهو جالس مع قوم في مجلس .
فقال له الحسن : يا فتى هل مررت بالصراط ؟!
قال : لا !
قال : فهل تدري إلى الجنة تصير أم إلا النار ؟!
قال : لا !
قال : فما هذا الضحك ؟!
فما رؤُي الفتى بعدها ضاحكاً .
وكان الحسن يقول : يحق لمن يعلم : أن الموتَ موردُه ، وأن الساعةَ موعدُه ، والقيام بين يدي الله تعالى مشهدُه : يحق له أن يطول حزنُه .
4. كثرة الأكل .
قال بشر بن الحارث : خصلتان تقسيان القلب : كثرة الكلام ، وكثرة الأكل .
5. كثرة الذنوب .
قال تعالى : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } [ المطففين / 14 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر صُقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه ، فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } [ المطففين / 14 ] . رواه أحمد ( 7892 ) ، والترمذي ( 3334 ) ، وابن ماجه ( 4244 ) ، وحسنه الشيخ الألباني في " صحيح ابن ماجه " ( 3422 ) .
وقال بعض السلف : البدن إذا عُرِّي رقَّ ، وكذلك القلب إذا قلت خطاياه أسرعت دمعته .
عن عقبة بن عامر قال : قلت يا رسول الله : ما النجاة ؟ ما النجاة ؟ قال : " أمسك عليك لسانك ، وليسعك بيتك ، وابك على خطيئتك " أخرجه الترمذي (2406) ، وقال: حديث حسن ، وصححه الألباني في " صحيح الترغيب " ( 2741 ) .
6. صحبة السوء .
وقد شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بنافخ الكير- البخاري ( 1995 ) ، ومسلم ( 2628 ) - .
بل حتى كثرة المخالطة تقسِّي القلب ، قال بعض السلف : وقسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة : الأكل ، والنوم ، والكلام ، والمخالطة .
وقد قيل " الصاحب ساحب " ، و " الطبع يسرق من الطبع " ، فمن جالس أهل الغفلة والجرأة على المعاصي سرى إلى نفسه هذا الداء : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً . لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً } [ الفرقان / 27 – 29 ] .
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " رواه أحمد ( 8212 ) ، والترمذي ( 2378 ) ، وأبو داود ( 4833 ) ، وحسنه الألباني في " السلسلة الصحيحة " ( 927 ) .
قال ابن حبان - رحمه الله - :
العاقل لا يصاحب الأشرار لأن صحبة السوء قطعة من النار ، تُعقب الضغائن ، لا يستقيم ودُّه ، ولا يفي بعهدِه .
وقال ابن القيم :
ومتى رأيت نفسك تهرب من الأنس به إلى الأنس بالخلق ومن الخلوة مع الله إلى الخلوة مع الأغيار فاعلم أنك لا تصلح له . " بدائع الفوائد " ( 3 / 743 ) .
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - :
وبالجملة : فمصاحبة الأشرار مُضرة من جميع الوجوه على مَن صاحبهم وشرٌّ على من خالطهم ، فكم هلك بسببهم أقوام ، وكم أقادوا أصحابهم إلى المهالك من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون " .
وقال أبو الأسود الدؤلي - رحمه الله - : " ما خلق الله خلقاً أضر من الصاحب السوء " .
أسباب وطرق تليين القلوب والبكاء من خشية الله
ويستطيع المسلم أن يليِّن قلبه ويدمع عينه بما يسمع ويقرأ ويرى ؛ وذلك - بعد توفيق الله تعالى – بالبحث عن الأسباب الموصلة لذلك ، وبقراءة سير السلف الصالح ومعرفة أحوالهم في هذا الأمر ، وسنذكر ما تيسر من الأمرين – الأسباب والأحوال - لعلَّ الله أن ينفع بها ، ومن ذلك :
1. معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله .
فمن عرف الله خافه ورجاه ، ومن خافه ورجاه رق قلبه ودمعت عينه ، ومن جهل ربه قسى قلبه وقحطت عينه .
ومقامات الإيمان : الحب ، والخوف ، والرجاء ، وكل أولئك تدعو المسلم للبكاء .
قال أبو سليمان الداراني - كما ذكر عنه ابن كثير في ترجمته في " البداية والنهاية " ( 10 / 256 ) : لكل شيء علَم وعلَم الخُذلان : ترك البكاء من خشية الله .
فإذا خذل الله العبد : سلبه هذه الخصلة المباركة ، وصار شقيّاً قاسي القلب وجامد العين .
فالمحب يبكي شوقاً لمحبوبه والخائف يبكي من فراقه وخشيت فراقه والراجي يبكي لحصول مطلوبه فإذا أحببت الله دعاك حبُّه للبكاء شوقاً له ، وإذا خفت منه دعاك خوفُه للبكاء من خشيته وعقابه ، وإذا رجوته دعاك رجاؤه للبكاء طمعاً في رضوانه وثوابه .
وإلى هذه الأمور الثلاثة - الحب ، والخوف ، والرجاء - أشار نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عيه وسلم قال : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ... ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه " رواه البخاري ( 629 ) ، ومسلم ( 1031 ) .
ومعنى " ذكر الله " خائفاً أو محبّاً أو راجياً ، فإذا اتصف المسلم بهذا فهو سعيد وإلا فهو مخذول .
2. قراءة القرآن الكريم وتدبر آياته .
قال الله تعالى - في وصف عباده العلماء الصالحين - : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ سُجَّدًا . وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً . وَيَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [ الإسراء :107-109 ] .
قال الطبري عند الكلام على هذه الآية : يقول تعالى ذكره : ويخر هؤلاء الذين أوتوا العلم من مؤمني أهل الكتابين , من قبل نزول الفرقان , إذا يتلى عليه القرآن لأذقانهم يبكون , ويزيدهم ما في القرآن من المواعظ والعبر خشوعا , يعني خضوعا لأمر الله وطاعته استكانة له .
" تفسير الطبري " ( 15 / 181 ) .
وقال القرطبي : هذا مدح لهم , وحق لكل من توسم بالعلم , وحصل منه شيئا أن يجري إلى هذه المرتبة , فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل .
" تفسير القرطبي " ( 10 / 341 ) .
{ من قبله } أي : من قَبل النبي صلى الله عليه وسلم ، ويبكون عند سماع ما نزل عليهم .
وقيل : من قَبل القرآن ، وهم اليهود والنصارى ، وهي بشرى للمتقين منهم أنهم يسلمون ، وهو الذي حصل كما في قوله تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَق } [ المائدة : 83 ] .
والآيات الأوَل - في الإسراء - مكية ، ومما نزل في مكة :
قولُه تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } [ مريم / 58 ] .
وآية " الذاريات " :
{ هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى . أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ . لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ . أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ . وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ . وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ . فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } [ الذاريات / 56 – 62 ] .
وهذا لتربية الصحابة على رقة القلب وصدق الإيمان ، وأن الضحك الحق لا يكون إلا في الآخرة.
{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ . وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ . وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ . وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ . وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ . فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ . عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ . هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ . [ المطففين / 29 – 36 ] وهي سورة مكية .
وهذا هو حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع القرآن .
عن عبد الله بن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرأ عليَّ القرآن , قال : قلت : يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : إني أشتهي أن أسمعه من غيري , قال : فقرأت النساء حتى إذا بلغت { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } رفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جنبي فرأيت دموعه تسيل .
رواه البخاري ( 4306 ) ومسلم ( 800 ) .
وهذا هو حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن .
عن أبي صالح قال : لما قدم أهل اليمن في زمان أبي بكر فسمعوا القرآن جعلوا يبكون فقال أبو بكر : هكذا كنا ثم قست القلوب !!
وحال أبي بكر تصفه عائشة فتقول :
لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه أتاه بلال يوذنه بالصلاة فقال : مروا أبا بكر فليصل قلت : إن أبا بكر رجل أسيف - وفي رواية : لا يملك دمعه ، وفي روايةٍ : كان أبو بكر رجلا بكّاءً ؛ لا يملكُ عينيه إذا قرأ القرآن – إن يقم مقامك يبكي فلا يقدر على القراءة … . البخاري ( 633 ) ، ومسلم ( 418 ) .
وعن عبد الله بن شداد أنه قال : سمعتُ نشيج عمر وأنا في آخر الصف وهو يقرأ سورة يوسف { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } [ يوسف / 86 ] .
رواه البخاري معلقاً ، انظر : " فتح الباري " لابن حجر ( 2 / 206 ) .
والنشيج : رفع الصوت بالبكاء .
وعن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قرأ { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } الآية – [ البقرة / 284 ] - ; فدمعت عيناه فبلغ صنيعه ابن عباس فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن , لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت , فنسختها الآية التي بعدها { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } – [ البقرة / 286 ] - .
وعن تميم الداري رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ الجاثية / 21 ] فجعل يرددها إلى الصباح ويبكي .
وقرأ ابن عمر رضي الله عنهما : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } [ سورة المطففين / 1 ] فلما بلغ : { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ سورة المطففين / 6 ] بكى حتى خرَّ وامتنع عن قراءة ما بعده .
وقال مسروق رجمه الله : قرأتُ على عائشة هذه الآيات : { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } [ الطور / 27 ] فبكت ، وقالت : " ربِّ مُنَّ وقني عذاب السموم " .
وهكذا كان حال من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
قرأ رجلُ عند عمر بن عبد العزيز - وهو أمير على المدينة - قوله تعالى : { وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان / 13 ] فبكى حتى غلبه البكاء ، وعلا نشيجه ! فقام من مجلسه ، فدخل بيته ، وتفرَّق الناس .
كان محمد بن المنكدر من سادات القراء ، لا يتمالك البكاء إذا قرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذُكر عنه أنه بينا هو ذات ليلة قائم يصلي إذ استبكى ، فكثر بكاؤه حتى فزع له أهله وسألوه ، فاستعجم عليهم وتمادى في البكاء ، فأرسلوا إلى أبي حازم فجاء إليه ، فقال : ما الذي أبكاك ؟ قال : مرت بي آية ، قال : ما هي ؟ قال : { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } [ الزمر / 47 ] فبكى أبو حازم معه فاشتد بكاؤهما .
قال إبراهيم بن الأشعث : سمعت فضيلاً يقول ذات ليلة وهو يقرأ سورة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويبكي ويردد هذه الآية : { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم } [ محمد / 31 ] وجعل يقول : وتبلوا أخبارنا ، ويردد : وتبلو أخبارنا ، إن بلوتَ أخبارنا فضحتَنا ، وهتكتَ أستارنا ، إن بلوتَ أخبارنا أهلكتنا وعذبتنا ، ويبكي .
وسبق ذِكر جملة من بكائهم - رحمهم الله - .
واستمع لبعض القراءات المؤثرة والتي بكى أصحابها فيها :
- الشيخ سعود الشريم يبكي بعد موت الشيخ عمر السبيل
http://mypage.ayna.com/kayeralqassim/Shureem1423.rm
- وقراءة أخرى للشيخ حفظه الله – وأظنها بعد وفاة الشيخ جار الله - :
http://saaid.net/flash/fate7h.htm
- وهذه قراءة للشيخ مشاري العفاسي :
http://manzoma.siteatnet.com/foreign/manzoma/shoaraa.zip
- وهذا مقطع للشيخ سعد الغامدي :
http://www.muslm.net/muslm3/jeddah/saed/s3d.rm
- وهذا مقطع من سورة ق للشيخ خالد القحطاني :
http://www.mndah.net/pic/kahtany.ram
3. كثرة ذكر الله عز وجل .
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : ... - وذكر منهم : - ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه .
رواه البخاري ( 629 ) ومسلم ( 1031 ) .
والخلوة مدعاة إلى قسوة القلب ، والجرأة على المعصية ، فإذا ما جاهد الإنسان نفسه فيها ، واستشعر عظمة الله فاضت عيناه ، فاستحق أن يكون تحت ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله.
قال ابن القيم :
إن في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى ، فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى وذكر حماد بن زيد عن المعلى بن زياد أن رجلا قال للحسن : يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي ، قال : أذبه بالذكر ؛ وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة اشتدت به القسوة فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار ، فما أذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله عز وجل.
" الوابل الصيِّب " ( ص 99 ) .
4. الإكثار من الطاعات .
قال أحمد بن سهل - رحمه الله - : " قال لي أبو معاوية الأسود : يا أبا علي من أكثر لله الصدق نَدِيت عيناه ، وأجابته إذا دعاهما " .
5. تذكر الموت ورؤية المحتضرين والأموات .
عن جابر رضي الله عنه قال : أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد عبد الرحمن بن عوف فانطلق به إلى ابنه إبراهيم فوجده يجود بنفسه فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره فبكى ، فقال له عبد الرحمن : أتبكي ؟ أولم تكن نهيت عن البكاء ؟ قال : لا ، ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند مصيبة - خمش وجوه وشق جيوب - ، ورنة شيطان .
رواه الترمذي ( 1005 ) ، وقال : هذا حديث حسن ، وحسَّنه الشيخ الألباني في " السلسلة الصحيحة " ( 2157 ) .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه بكى على ابنه إبراهيم ، حينما رآه يجود بنفسه ، فجعلت عيناه تذرفان الدموع ثم قال : " إن العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون " رواه البخاري ( 1241 ) ومسلم ( 2315 ) .
وعن عبد الله بن عمر قال اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود فلما دخل عليه وجده في غاشية فقال قد قضى ؟ قالوا لا يا رسول الله فبكى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بكوا فقال ألا تسمعون ؟ إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم . البخاري ( 1242 ) ومسلم ( 924 ) .
وعن صفية أن امرأة أتت عائشة تشكو إليها القسوة فقالت : " أكثري ذكر الموت يرق قلبك وتقدرين على حاجتك " قالت : ففعلت ، فوجدت أن قلبها رق ، فجاءت تشكر لعائشة رضي الله عنها .
يقول أبو الدرداء رضي الله عنه : أضحكني ثلاث و أبكاني ثلاث :
أضحكني : مؤمل دنيا والموت يطلبه ، وغافل ليس بمغفول عنه ، وضاحك بملء فيه لا يدري أأرضى الله أم أسخطه .
و أبكاني : فراق أحب الأحبة محمَّد صلى الله عليه وسلم وصحبه ، وهَول المطلع عند غمرات الموت ، والوقوف بين يدي الله يوم تبدو السريرة علانية فلا يدري أإلى الجنة أم إلى النار.
وكان سعيد بن جبير يقول : " لو فارق ذكر الموت قلوبنا ساعة لفسدت قلوبنا " .
- وهذا مقطع صوتي للشيخ خالد الراشد من محاضرة عن الموت بعنوان "مفرق الجماعات " :
http://box.emanway.com/droos/mkate3/run/mofrqaljma3at.ram
6. أكل الحلال .
سئل بعض الصالحين : بم تلين القلوب ؟ قال : بأكل الحلال .
7. الابتعاد عن المعاصي .
قال مكحول رحمه الله : " أرقُّ الناس قلوباً أقلهم ذنوباً " .
8. سماع المواعظ .
وقد انتشر في كثير من البلدان أشرطة لمشايخ ثقات يحسنون التأثير على قلوب الناس ، وقد كانت الخطبة المؤثرة والموعظة البليغة مما يوجل قلوب الصحابة ويُذرف دمع عيونهم .
عن العرباض بن سارية قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغةً ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال رجل إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله قال : " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبد حبشي فإنه من يعش منكم يرى اختلافا كثيراً وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ " .
رواه الترمذي ( 2676 ) وقال : هذا حديث حسن صحيح ، وأبو داود ( 4607 ) وابن ماجه ( 42 ) ، وصححه الألباني في " السلسلة الصحيحة " ( 2735 ) .
9. تذكر القيامة وقلة الزاد والخوف من الله .
بكى أبو هريرة رضي الله عنه في مرضه ، فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : " أما إني لا أبكي على دنياكم هذه ، ولكن أبكي على بُعد سفري ، وقلة زادي ، وإني أمسيت في صعود على جنة أو نار ، لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي " .
روي أنه لما حضرت محمد بن سيرين الوفاة , بكى , فقيل له : ما يبكيك ؟
فقال : أبكي لتفريطي في الأيام الخالية و قلة عملي للجنة العالية و ما ينجيني من النار الحامية .
سئل عطاء السليمي : ما هذا الحزن ؟ قال : ويحك ، الموت في عنقي ، والقبر بيتي ، وفي القيامة موقفي ، وعلى جسر جهنم طريقي لا أدري ما يُصنَع بي .
وكان فضالة بن صيفي كثير البكاء ، فدخل عليه رجل وهو يبكي فقال لزوجته ما شأنه ؟ قالت : زعم أنه يريد سفراً بعيداً ومالَه زاد .
لما احتضر هشام بن عبد الملك نظر إلى أهله يبكون حوله فقال : جاء هشام إليكم بالدنيا وجئتم له بالبكاء , ترك لكم ما جمَع و تركتم له ما حمل , ما أعظم مصيبة هشام إن لم يرحمه الله .
قال ابن القيم : اعرف قدر ما ضاع ، وابك بكاء من يدري مقدار الفائت .
وقال الألبيري - رحمه الله - :
ولا تضحكْ مع السفهاءِ يومـاً ****فإنّك سوف تبكي إن ضحكتا !
ومَن لك بالسرور وأنتَ رهنٌ؟** وما تدري أتُفْدى ؟ أم غُلِلْتا ؟!
ولو بكت الدّما عيناك خوفاً !******لذنبـك لم أقل لك قـد أمِنْتا !
ومَن لك بالأمان وأنتَ عبـدٌ* ****أُمِرْتَ فما ائتمرتَ ولا أطَعْتا!
10. البكاء عند زيارة القبور .
عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ؛ فإنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة ولا تقولوا هجراً " .
رواه أحمد ( 13075 ) وصححه الشيخ الألباني في " صحيح الجامع " ( 4584 ) .
وروى مسلم في صحيحه ( 976 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى , وأبكى من حوله " .
وعن هانئ مولى عثمان رضي الله عنه قال : كان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته ! فقيل له : تذكر الجنة والنار فلا تبكي ، وتبكي من هذا ؟! فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن القبر أول منزل من منازل الآخرة ، فإن نجا منه ، فما بعده أيسر منه ، وإن لم ينج منه ؛ فما بعده أشد منه " قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما رأيت منظراً قط إلاّ القبر أفظع منه " .
رواه الترمذي ( 2308 ) وابن ماجه ( 4267 ) ، والحديث حسَّنه الشيخ الألباني في " صحيح الترغيب " ( 3550 ) .
- وهذا مقطع من محاضرة للشيخ خالد الراشد بعنوان " أين دارك غداً ؟ " وهي عن القبر :
http://box.emanway.com/droos/mkate3/run/Ayna_Dark_intro.ram
11. التفكر عند رؤية ما يُعتبَر كرؤية النار في الدنيا .
عن مغيرة بن سعد بن الأخرم قال : ما خرج عبد الله بن مسعود إلى السوق فمر على الحدادين فرأى ما يخرجون من النار إلا جعلت عيناه تسيلان .
فإن المسلم أعرف أهل الأرض بربه تعالى ، فالواجب عليه أن يكون حاله لا كحال الآخرين ، فهو يعتبر ويتعظ بما يقرؤه ويسمعه من الآيات والمواعظ ، والقلب الخائف يثمر عيناً دامعة رجاء بلوغ رحمة الله تعالى ودخول الجنة ، تحقيقاً لوعد الله تعالى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله " رواه الترمذي ( 1639 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنه .
12. الدعاء .
وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من القلب الذي لا يخشع ، وقد سبق ذِكر اتصال العين بالقلب .
عن زيد بن أرقم قال لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، كان يقول : اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وعذاب القبر اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها . رواه مسلم ( 2722 ) .
ومن أراد أن تدمع عينه فله أن يدعو الله بذلك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
وكان عتبة الغلام سأل ربه ثلاث خصال : صوتاً حسناً ، ودمعاً غزيراً ، وطعاماً من غير تكلف ، فكان إذا قرأ بكى وأبكى ودموعه جارية دهره ، وكان يأوي إلى منزله فيصيب فيه قوته ولا يدري من أين يأتيه .
" مجموع الفتاوى " ( 11 / 282 ) .
- وهذا مقطع من دعاء الشيخ ناصر القطامي :
http://www.alasra.org/files/gnot.rm
13. التباكي .
عن ابن أبي مليكة قال : جلسنا إلى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في الحِجر فقال : ابكوا ، فإن لم تجدوا بكاء فتباكوا ، لو تعلموا العلم لصلَّى أحدكم حتى ينكسر ظهره ، ولبكى حتى ينقطع صوته . رواه الحاكم في " المستدرك " ( 4 / 622 ) ، وصححه الألباني موقوفاً في " صحيح الترغيب " ( 3328 ) .
وعن التباكي قال ابن القيم - بعد ذكره أنواع البكاء - :
وما كان منه مستدعىً متكلفاً فهو التباكي وهو نوعان : محمود ومذموم
فالمحمود : أن يُستحلب لرقة القلب ولخشية الله ، لا للرياء والسمعة ،
والمذموم : يُجتلب لأجل الخلق .
وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه يبكي هو وأبو بكر في شأن أسارى بدر : أخبرني ما يبكيك يا رسول الله ؟ فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما ( أخرجه مسلم في صحيحه ( 1763 ) ضمن حديث مطول في الجهاد ) .
ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم ، وقد قال بعض السلف : ابكوا من خشية الله فإن لم تبكوا فتباكوا .
" زاد المعاد " ( 1 / 185 ، 186 ) .
ونسأل الله تعالى أن يجعل قلوبا وجلة ، وأعيننا دامعة من خشيته .
جمعه وأعدَّه :
أبو طارق
إحسان بن محمد بن عايش العتيـبي
28 رجب 1424 هـ
البكاؤون
لفضيلة الشيخ خالد الراشد
{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
{ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاْ تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأنتُمْ مُسلِمُونَ }
{ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُم رَقِيباً }
{ يَآ أَيَّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَ قُولُواْ قَولاً سَدِيداً ، يُصلِحْ لَكُم أَعْمَالَكُم وَ يَغْفِرْ لِكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيمَاً }
أما بعد :
فإنَّ أصدق الحديث كلام الله ..
وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم ..
وشرَّ الأمور محدثاتها ..
وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ...
عباد الله ..
قال الله جل في علاه واصفاً عباده المؤمنين إذا سمعوا آياته وبيناته : { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً } .
وقال عنهم : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم ) .
وعن أبي الجلد جيلان بن فروة قال قرأت في مسألة داود عليه السلام أنه قال :
إلهي ما جزاء من بكى من خشيتك حتى تسيل دموعه على وجنتيه ؟.
قال : جزاؤه أن أحرّم وجهه على لفح النار ، وأن أؤمنه يوم الفزع الأكبر.
فاللبكاء عباد الله قيمة شرعيه تعبديه..
والبكاء من خشية الله مفتاح لرحمته ..
والبكاء من خشية الله مفتاح لرحمته ..
ألم يرث البكاء أناس صدق
ألم يقل الإله إليَّ عبدي
فقادهم البكا خير المعاب
فكل الخير عندي في المعاد
وأنا حين أسوق إليك هذا الموضوع وما فيه من الأخبار ..
لا أقول أننا لا نبكي ..لا وألف لا ..بل نبكي..
ولكن السؤال على ماذا نبكي ؟؟!!..
نبكي على مصائبنا وآلامنا ..
هذا يبكي على أبٍ أو أم ..
وذاك يبكي على أخٍ أو أخت ..
وآخر يبكي على صاحب أو حبيب أو قريب ..
وذاك يبكي لخسارة مادية أو مشكلة اجتماعية ..
بل الأدهى والأطم هناك من يبكي على أحداث في مسلسلات وشاشات وقنوات ..
وآخر يبكي على خسارة في المباريات ..فيا خسارة هؤلاء ..
شتان والله بين دموعهم ودموعنا ..
بكت أم أيمن ..
بكت أم أيمن رضي الله عنها لما جاءها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يزورانها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالا لها :
يا أم ما يبكيك ؟..
يا أم أيمن ما يبكيك أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسوله !!..
قالت : بلى أعلم أنَّ ما عند الله خير لرسوله ، ولكن أبكي انقطاع الوحي من السماء ..
بكت همَّا وحزنا وخوفاً على الأمة بعد نبيها ..
فماذا عساى أن أقول عنهم وعن أخبارهم..
فمنهم من بلَّ الأرض بدموعه ..
ومنهم من إذا ذُكرت النار خرَّ على وجهه مغشياً عليه ..
بل منهم من إذا سمع الأذان ارتعدت فرائصه ..
ومنهم من إذا توضأ للصلاة احمَّر وجهه ، وسالت دموعه ..
اسمع وافتح القلب قبل أن تفتح الآذان ..
زارت امرأة زوجة الأوزاعي ، فدخلت إلى مصلاه في البيت فإذا هو مبلول ، فجاءت تقول لزوجته : ثكلتك أمك .. غفلت عن الصبيان فبالوا في مصلى الأوزاعي..
فقالت زوجة الأوزاعي : ويحك هذه دموع الأوزاعي في مصلاه ..
بكى الباكون للرحمن ليلاً
بقاع الأرض من شوقٍ إليهم
وباتوا دمعهم ما يسأمونا
تحنّ متى عليها يسجدونا
ما أغلى تلك الدموع ..
وما أغلى ثمنها ..
إنَّ القلوب لتحيى بسماع أخبار الصالحين وآثارهم ..
وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم ..
عباد الله..
إياكم أن تقولوا أنَّ للبكاء علاقة بضعف الشخصية ..
أو أن البكاء لا يليق بأهل الشجاعة والبأس..
نعم ..
لا يليق البكاء عند الوقوف في وجه الأعداء ..
ولا يليق البكاء عند سماع صهيل الخيل ، ومقارعة السيوف ، وتطاير الأشلاء ..
فهذا فعل الجبناء..
فالبكاء الذي نعنيه وما نحن بصدده ..
هو البكاء :
خشية ..
ورهبة ..
وخضوعاً ..
وذلاً ..
وعبودية لله ربِّ العالمين ..
إنه بكاء الذل والمسكنة لذي الجلال والعزة والجبروت ..
إنه البكاء خوفاً من الحي الذي لا يموت ..
فهذا عبد الله بن الشّخّير رضي الله عنه يقول عن سيد الخلق أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء .
يبكي وهو سيد الشجعان وأشجع الفرسان..
ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمروا أبا بكر للصلاة في الناس في مرضه صلى الله عليه وسلم ، قالت عائشة رضي الله عنها :
إنَّ أبا بكر رجل أسيف – أي رقيق القلب ، سريع البكاء – إن يقم مقامك يبكي فلا يقدر على القراءة ..
وفي رواية إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء..
لكن انظر إلى حزمه وقوته وصلابته أيام الردة يوم أن تصدى للمرتدين ..
وما أكثرهم اليوم ..
فتصدى لهم الصديق رضي الله عنه ، ونصر الله به الدين رغم كثرة المخالفين..
أما الفاروق عمر فمعروف أنه شديد ، القوة شديد البأس ومع هذا كان حاضر الدمعة ، رقيق القلب ..
روى البخاري عن عبد الله بن شداد قال : سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف وهو يقرأ { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ } ..
قل لي واصدقني المقال..
أما تبكيك آيات القرآن !!!..
أما تبكيك آيات القرآن وهي تخبرك ..
عن الجنة وأوصافها ..
وعن النار وأخبارها ..
قال الله عن كتابه ، وعن أثر آياته على عباده الصالحين :{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }.
يقول ابن مسعود كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي : ( اقرأ علي القرآن )..
قلت : أقرأ عليك وعليك أُنزل !!.
قال صلى الله عليه وسلم : ( إني أحب أن أسمعه من غيري )..
قال ابن مسعود فافتتحت سورة النساء حتى إذا بلغت قوله تبارك وتعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً } – والخطاب له صلى الله عليه وسلم { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً } ..
قال : فلما بلغت ذلك قال لي صلى الله عليه وسلم : ( حسبك يا ابن مسعود )..
قال : فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان ..
تذرفان خوفاً وخشية من الجبار ..
تذرفان شفقة ورأفة بأمته ..
وسأكمل لكم ، وأقرأعليكم الآية التي تليها حتى تعلم عظيم ذلك الموقف ، وذلك المشهد العظيم قال الله { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً ، يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً }..
يالله .. أما بكيت شوقاً لله !! ..
أما بكيت شوقاً لله ، وسكنى جنته في جواره ..
أما بكيت خوفاً من دخول النار ، والحرمان من رؤية القهَّار ..
اسمع ماذا قال الله عن أهل النار { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ،كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ،ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ ،ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ }
والله .. والله .. والله...
ما في الجنة نعيم ألذ وأحلى وأعظم من ...
رؤية الرحمن الرحيم ...
ووالله .. والله.. والله ...
ما في النار عذاب أشد وأعظم من ...
الحرمان من رؤية وجهه الكريم ..
قال ابن عثيمين رحمه الله : والله لو أنَّ القلوب سليمة لتقطّعت ألماً ولتفطّرت حزناً وهي تقرأ قول الله مخاطباً عباده:{ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } ..
وأي بشارة أعظم من لقاء الحبيب ...
فكل حبيب يشتاق إلى لقاء حبيبه ...
قال صالح المري بلغني عن كعب الأحبار أنه كان يقول :
من بكى خشية من ذنب ، غُفر له ..
ومن بكى اشتياقاً إلى الله ، أباحه النظر إليه تبارك وتعالى يراه متى شاء..
وحدث عيسى المعلم عن ذادان أبي عمر قال :
بلغنا أنه من بكى خوفاً من النار ، أعاذه الله منها ..
ومن بكى شوقاً إلى الجنة ، أسكنه الله إياها ..
اللهم لا تحرمنا فضلك ..
عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول : ( لا تنسوا العظيمتين ).. ( لا تنسوا العظيمتين )..
قلنا : وما العظيمتان ،؟!.
قال : ( الجنة والنار ) .
قال فذكر سول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر ثم بكى حتى جرى أوائل دموعه جانبي لحيته ثم قال : ( والذي نفس محمد بيده لو علمتم ما أعلم من علم الآخرة لمشيتم إلى الصعيد ، ولحسيتم على رؤوسكم التراب )
وفي حديث آخر : ( والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً ، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله ) ..
فلما سمع أبو ذر هذا قال : وددت أني كنت شجرة تعضد ..
والله لو أن القلوب سليمة لتقطّعت ألماً من الحرمان ..
ولكنها سكرى بحب حياتها الدنيا وسوف تفيق بعد زمان ..
قال ابن القيم رحمه الله : فمن لم يتقطّع قلبه في الدنيا على ما فرط حسرة وخوفاً لتقطّع في الآخرة إذا حقت الحقائق، وظهرت الأمور..
فلا بدّّ من تقطّع القلب ..
إما في الدنيا ..
وإما في الآخرة ..
ولك الخيار..
الفرق بيننا وبينهم أنَّ الكلمات القليلة البسطية تذكرهم وتبكيهم ..
ونحن نسمع الزواجر والروادع مرات مرات ولا يتغير الحال ..
أراد عمر بن عبد العزيز أن يضرب غلاماً له على خطأ أخطأه ..
فقال له الغلام : يا عمر ..اتق الله ..
فقال له الغلام : يا عمر ..اتق الله يا عمر ..واذكر ليلة صبيحتها يوم القيامة ..
قال : فبكى عمر ، ولم يتوقف بكاءه إلا عندما سمع المنادي يناديه ، وهو في ساعات احتضاره ، وهو يقرأ عليه { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }..
أسألك مرة أخرى ..
وأكرر عليك السؤال ..
أما تبكيك الذنوب ؟!.
أما يبكيك تجرأك على علام الغيوب ؟!.
اسمعوا يا أصحاب الذنوب .. وكلنا ذاك ..
عن عقبة بن عامر قال : قلت يا رسول الله ما النجاة ؟
قال :
( أمسك عليك لسانك ..
وليسعك بيتك ..
وابك على خطيئتك )
إبكي ..
قبل أن تشهد عليك الجوارح والأركان ..
إبكي ..
قبل أن تقف في ذلك الموقف العظيم ، ثم يقررك الملك العلام..
يقررك بذنوبك فيقول لك : أتذكر ذنب كذا ؟! أتذكر ذنب كذا ؟! وأنت لا تجد مفراً من السؤال ..
إبكي..
قبل أن يسألك ربك :
ألم تكن تظن أني أراك وأنت تعصاني ؟؟!!.
أما استحييت مني وأنت تختبأ عن أعين الناس وتنساني؟؟!!..
إبكي ..
فإن العبد إذا بكى بين يدي سيده رحمه ..
إبكي ..
فإن العبد إذا بكى بين يدي سيده رحمه ..
إبكي ..
فإن الطفل إذا بكى رحمته أمه ، وربنا أرحم بنا من إمهاتنا ..بل حتى من أنفسنا..
وعظ مالك بن دينار يوماً فتكلم ، فبكى حوشب وكان في العبَّاد عارفاً ، وعن الدنيا عازفاً ، فضرب مالك بيده على منكبه – أي على منكب حوشب – وقال : ابك يا أبا بشر .. ابك يا أبا بشر – وكانت هذه كنيته –
إبكي ..
فقد بلغني أنَّ العبد لا يزال يبكي حتى يرحمه سيده فيعتقه من النار ..
إبكي ..
فقد بلغني أنَّ العبد لا يزال يبكي حتى يرحمه سيده فيعتقه من النار ..
واعلم بارك الله فيك ..
أنَّ كثرة الدموع وقلتها على قدر احتراق القلب ..
وإنَّ القليل من التذكرة ليشعل النار في القلوب الحية ..
وحياة القلوب ترك الذنوب ..
يقول مكحول الشامي : أرقُ الناس قلوباً أقلهم ذنوباً ...
إنَّ أصحاب القلوب الرقيقة هم الذين..
تشتعل في قلوبهم الأنوار بمجرد تلاوة آية ..
وتتدفق من عيونهم الدموع الغزيرة بمجرد التذكير بعظمة الجبار ..
وترتعش أجسامهم وتضطرب بمجردالتذكير بأهوال الآخرة ..
تأمل معي هذا المشهد ..
عند البخاري من حديث أبي سعيد قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يقول الله تعالى يوم القيامة : يا آدم ..
فيقول : لبيك ربنا وسعديك ..
فينادى بصوت : إن الله يأمرك ان تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار ..
قال : يا ربي وما بعث النار ؟!.
قال من كل ألف أراه قال – يقول الرواي – أراه قال تسعمئة وتسعة وتسعون إلى النار.. قال صلى الله عليه وسلم فحينها يشيب الولدان وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد )..
إبكي..
اليوم على خطئتك قبل أن لا ينفع البكاء ..
واعلم أنَّ البكاء من مفاتيح التوبة ..
ألا ترى أن القلوب ترق حينها فتندم ..
اسمع قول المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يقول : ( عينان لا تمسهما النار:عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله ) .
إذا أردت أن تعرف قيمة الدموع وأثرها !!.
فاسأل التائبين ..
اسأل التائبين عندما يتوجهون إلى ربهم بقلب كسير وعيون خاشعة ذليلة فتنهمر الدموع لتكون دليلاً على الندم والتوبة ..
هنيئاً لهم ف { إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }
من واجب الناس أن يتوبوا
والدهر في صرفه عجيب
وكلما ترتجي قريب لكن
ولكن ترك الذنوب أوجب
ولكن غفلة الناس عنه أعجب
الموت دون ذلك أقرب
عن حمزة الأعمى قال : ذهبت أمي إلى الحسن فقالت : يا أبا سعيد ابني هذا قد أحببت أن يلزمك ويرافقك ، فلعل الله أن ينفعه بك ، قال : فكنت أختلف إليه ..
فقال لي يوماً يا بنيَّ :
أَدم الحزن على خير الآخرة ، لعله أن يوصلك إليه ..
وإبكي..
في ساعات الخلوة لعل مولاك يطلع عليك فيرحم عبرتك فتكون من الفائزين ..
يقول وكنت أدخل عليه منزله وهو يبكي ، وآتيه مع الناس وهو يبكي ، وربما جئت وهو يصلي فأسمع بكاءه ونحيبه..
فقلت له يوماً : يا أبا سعيد إنك لتكثر من البكاء ..
فبكى ثم قال :
يا بني فما يصنع المؤمن إذا لم يبكي ! ..
يا بني فما يصنع المؤمن إذا لم يبكي ! ..
يا بني إنَّ البكاء داعٍ إلى الرحمة ، فإن استطعت ألا تكون عمرك إلا باكياً فافعل لعله يراك على حالة فيرحمك بها ، فإذا رحمك فإنك نجوت من النار وفزت بالجنة ..
أليست الأم ترحم وليدها إذا بكى !! ..
أليست الأم ترحم وليدها إذا بكى !!..
أتظن أن الأم تقذف بوليدها في النار؟! ..
سأترك الجواب لك ...
عن أنس بن مالك قال : قال صلى الله عليه وسلم : ( يا أيها الناس ابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا ، فإن أهل النار يبكون حتى تصير في وجوههم الجدوال ، فتنفذ الدموع فتقرح العيون حتى لو أنَّ السفن أجريت فيها لجرت )..
آه ثم آه ثم آه من القلوب القاسية ..
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رجلاً شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال : ( إن أحببت أن يلين قلبك فامسح رأس اليتيم وأطعم المسكين )
عباد الله ..
إلى متى وقلوبنا قاسية ..
وأنفسنا لاهية ؟؟!!..
أما آن أن نستجيب لنداء ربنا وهو يخاطبنا قائلاً :{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} !!..
يقول ابن مسعود والله ما بين إسلامنا ونزول هذه الآيات إلا سنوات حتى لامنا ربنا ..
وكان أصحاب القلوب الحية إذا سمعوا هذه الآية بكوا ، وقالوا :
بلى يا ربي قد آن قد آن ..
عباد الله ..
الناس في غفلة والموت يوقظهم
يشيعون أهاليهم بجمعم وينظرون
ويرجعون إلى أحلام غفلتهم
وما يفيقون حتى ينفد العمر
إلى ما فيه قد قُبروا
كأنهم ما رأوا شيئاً ولا نظروا
وهذه حال أكثر الناس ..
وهذا حال اكثر الناس..
فنعوذ بالله من سلب فوائد الآلات ، فإنها أقبح الحالات ..
قال ابن القيم رحمه الله : ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب ، والبعد عن الله..
وما خلقت النار إلا لإذابة القلوب القاسية ..
وإنَّ أبعد القلوب من الله القلب القاسي ..
وإنه إذا قسى القلب قحطت العين ..
قال يزيد الرقاشي : إذا أنت لم تبكي على ذنبك ، فمن يبكي لك عليه بعدك ؟!..
إذا أنت لم تبكي على ذنبك ، فمن يبكي لك عليه بعدك ؟!..
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم .. أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية :
الحمد لله على إحسانه والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له تعظيماً لشأنه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه
اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه ..
أما بعد ..
عباد الله ..
أوصيكم ونفسي بتقوى الله ..
اتقوا الله عباد الله { وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ }..
تقول الأخبار والسير بكى أحد التابعين عشرين سنة شوقاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
بكى أحد التابعين عشرين سنة شوقاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى رآه في المنام.
وأنت ، وأنا، حقاً وصدقاً هل بكينا لمصيبة فقده وموته !!..
إنها المصيبة التي أسالت عيوناً ، وأذهلت عقولاً ..
هل تمنيت ، وبكيت أملاً في رؤيته ؟!
هل حدثت نفسك أن ترد حوضه، وتشرب من يده ؟!!..
لسان حال المحبين الصادقين :
تسلى الناس في الدنيا وإنّا
إن كان عزَّ في الدنيا اللقاء ففي
لعمر الله بعدك ما سلينا
مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
وإليك هذا المشهد الذي يحرك قلوب المحبين الصادقين لنبيهم..
اسمع رعاك الله فإنَّ في هذا المشهد روعة لا تقاوم ..
لما انتهى المسلمون من غزوة حنين ظافرين غانمين ، وزع النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم على المسلمين ، واهتمَّ خاصة بالمؤلفة قلوبهم ليكون ذلك تثبيتاً لهم على إسلامهم ، ووكل أصحاب الإيمان إلى إيمانهم وإسلامهم ..
فتساءل الأنصار في مرارة : لماذا لم يعطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حظهم من الفيء والغنائم ، وأخذوا يتهامسون بذلك ..
فسمع سعد بن عبادة همسهم وكلامهم ، فذهب من فوره إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله إنَّ هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبته .. قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء ..
فسأله النبي صلى الله عليه وسلم : (وأين أنت من ذلك يا سعد ؟) ..
فأجاب سعد بصراحة قائلاً : ما أنا إلا واحد من قومي ..
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذاً فاجمع لي قومك ) ..
فجمع سعد قومه من الأنصار ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا يدخل عليهم أحد وهو معهم ..
فجاءهم بأبي هو وأمي ، فنظر في وجوههم ، فتبسم في وجوههم ابتسامة متألقة ..ابتسامة عرفان وتقدير لصنيعهم ..
ثم قال : ( يا معشر الأنصار ماقالة بلغتني عنكم ؟ وجدةٌ وجدتموها عليّ في أنفسكم ؟ ..
ألم آتكم ضلالاً ..فهداكم الله بي !.
وعالة ..فأغناكم الله بي !.
وأعداءً ..فألَّف الله بين قلوبكم بي !.)
قالوا : بلى الله ورسوله أمنُّ وأفضل ..
فقال صلى الله عليه وسلم : ( ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ؟ )
قالوا : بمَ نجيبك يا رسول الله ؟ لله ورسوله المنُّ والفضل ..
فقال صلى الله عليه وسلم : ( أما والله لو شئتم لقلتم ولصدقتم وصُدِّقتم :
أتيتنا مُكذَّباً فصدَّقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وعائلاً فآسيناك ، وطريداً فآويناك ..
يا معشر الأنصار ..
أوجدتم في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم لإسلامكم ؟
ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعون أنتم برسول الله في رحالكم ؟! ..
ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعون أنتم برسول الله في رحالكم ؟! ..
فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار ..
ولو سلك الناس شعباً لسلكت شعب الأنصار!
اللهم ارحم الأنصار ..
اللهم ارحم الأنصار ..
وأبناء الأنصار ..
وأبناء أبناء الأنصار ) ..
فبكى الأنصار حتى أخضلوا لحاهم ، واختلطت دموعهم بدموع حبيبهم ..
فصاحوا جميعاً وسعد معهم : رضينا برسول الله قسماً وحظاً ..
يالله ..
ما أجمله من منظر ..
وما أروعه حين يعبر الصادقون بدموعهم عن حبهم وشوقهم لحبيبهم..
فداً لك من يقصر عن فداك
أروح وقد ختمت على فؤادي
إذا اشتبكت دموعٌ في خدود
فما شهمٌ إذاً إلا فداك
بحبك أن يحل به سواك
تبيَّن من بكى ممن تباكى
{ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}
فأسألك بالله هل اشتقت لرؤياه ؟!.
أسألك بالله هل اشتقت لرؤيته ولقياه ؟!.
أما بكيت حزناً على فرقاه ؟؟!!..
إن كنت محباً صادقاً فهذه سنته ، وهذا هديه بين يديك ..
فخذ منه بقوة ولا تكن من المتهاونين ..
ولا تظننّ أنَّ كل الدموع صادقة ..
بل هناك دموع كاذبة ، فلقد جاء أخوة يوسف أباهم عشاء يبكون بعد أن فعلوا ما فعلوا بيوسف واتهموا الذئب وهو بريء من ذلك الدم ..
عبد الله ..
أنا أعلم أنك اليوم وأيام مضت لم تصلِ الفجر في جماعة المسلمين..
بل ..ولا زلت تصر على أن تكون في عداد النائمين ..
لكن هل كلما استيقظت ..
وقد فاتتك صلاة الفجر في الجماعة ، ولم تفز بذمة ربِّ العالمين..
هل بكيت ؟!.
هل ندمت ؟!.
هل عزمت على التغيير؟!.
إنَّ الفرق بيننا وبين من كانوا قبلنا أنَّ دموعهم حارة ، ودموعنا باردة ..
إنَّ الدموع الحارة هي التي ..
يبقى أثرها بالليل والنهار..
وتغير مجرى الحياة ..
ويبكي أصحابها لفوات الطاعات ..
أما الدموع الباردة ..
فأثرها يذهب بعد نزولها بلحظات ..
وسبحان من زكَّى أصحاب الدموع الحارة وبيَّن صدقهم ..
قال العوفي عن ابن عباس أنَّ النبي صلى لله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه ، وأن يستعدوا للجهاد ، فجاءته عصابة – جماعة منهم – فجائته عصابة من أصحابه ، وكانوا أهل حاجة ..
فقالوا يا رسول الله : احملنا معك..
فقال صلى الله عليه وسلم : (والله لا أجد ما أحملكم عليه ) ..
فتولوا وهم يبكون ..
تولوا وهم يبكون ..
وعزَّ عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ، ولا يجدون نفقةً ولا محملاً ..
فلما رأى الله حرصهم على محبته ، ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه ، وبيَّن صدقهم ، فقال سبحانه : { لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ، وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ..
هم بكوا على عدم القدرة على الجهاد ، وطلب الاستشهاد ..
وأنا وأنت على ماذا نبكي ؟!..
أما تبكيك مآسي المسلمين في الفلبين ، وتايلاند ، والهند ، وأندونسيا ، والصين ؟؟!!.
قتلٌ وتشريدٌ وهتك محارمٍ
أطفالنا ناموا على أحلامهم
يبكون.. كلا بل بكت أعماقهم
أوما يحدثك الذي يجري لهم
فينا وكأس الحادثات دهاق
وعلى لهيب القاذفات أفاقوا
ولقد تجود بدمعها الأعماق
أوما يثيرك جرحنا الدفاق
أما قال ربنا : {وإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً }؟؟!!..
أما قال نبينا صلى الله عليه وسلم أننا ( كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) ؟؟!!.
أما يبكيك صوت الأرامل ، والأيامى ؟؟!!..
وصوت الشيوخ ، واليتامى؟؟!!
اما سمعت صياح و نداء فاطمة العراقية التي هتك عرضها عباد الصليب ؟؟!!..
فمن يجيب ندائها ؟؟!!،..
ويسمع صياحها؟؟!!.
من يجيب على نداء فاطمة الفلسسطينية ، وفاطمة الشيشانية ، وفاطمة الأفغانية ؟؟!!..
من يجيب على نساء المسلمين ؟؟!!..
بعد أن كنا نغنم نساءهم في الجهاد
قد استردَّ السبايا كل منهزم
وما رأيت سياط الذل دامية
وما نموت على حدِّ الظبا
لكننا رغم ليل اليأس في ثقة
سبايا أضحت نساؤنا لهم سبايا
لم يبقَ في أسرهم إلا سبايانا
إلا رأيت عليها لحم أسرانا
ألوفاً حتى خجلت منا منايانا
بأن فجر العلى لا بدَّ يغشانا
والله لو استشعرت ما يجري حولك فلن تحتاج إلى كبير عناء حتى تبكي ..
فإن القلوب قد تراكمت عليها أحزان الزمان ، وآلم القلوب قهر المتسلطين ، وشماتة الأعداء والمنافقين ..
وحين تشعر أنك لا تفعل شيئاً ، أو أنك لا تقدر على أن تفعل شيئاً تجد أنك بحاجة إلى البكاء..
فلا شيء يخفف من حرقة القلب مثل الدموع ..
دموع الذكر ، والشكر..
دموع الخشية ، والرهبة ..
دموع الولاء ، والبراء ..
دموع الانتماء لهذا الدين العظيم ..
وأخيراً .. يا ولا ة الأمور كما سعيتم مشكورين لإصلاح أمور دنيانا ، فاسعوا إلى صلاح ديننا وأخرانا .. اسعوا إلى صلاح ديننا وأخرانا حتى تكتمل فرحتنا ، ويعمَ السرور ، وإننا والله متفائلون ..
فبنصر الدين عز الدنيا ، ونعيم الآخرة ..
وبنصر الدين يكون النصر والتمكين ..
قال مالك الملك :{ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } ..
ووالله لن تفرح قلوبنا إلا إذا حُرر أقصانا ، وفك أسرانا ، وخرج الكلاب من عراقنا ، ومن سائر بلاد المسلمين أذلة صاغرين ..
والله لن تفرح قلوبنا إلا إذا حُرر أقصانا ، وفك أسرانا ، وخرج الكلاب من عراقنا ، ومن سائر بلاد المسلمين أذلة صاغرين ..
اللهم انصر دينك وكتابك ، وسنة نبيك وعبادك الموحدين ..
اللهم انصر من نصر الدين ، واخذل من خذل عبادك الموحدين..
اللهم إنا نسألك حبك ، وحب من يحبك ، وحب عمل يقربنا إلى حبك يا ربّ العالمين..
اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع ، و عين لا تدمع ، وأذن لا تسمع ، ونفس لا تشبع ، وعلم لا ينفع ، ودعوة لا ترفع ..
الله حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسق والعصيان..
اجعلنا يا ربنا من الراشدين ..
آمنا في أوطاننا .. وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا .. اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك
يا ربّ العالمين
اللهم اغفر ذنب المذنبين ، واقبل توب التائبين ..
واكشف كرب المكروبين ، وفرج هم المهمومين ، واقض الدين عن المدينين ..
ودل الحيارى ، واهد الضالين ..
واغفر ربنا للأحياء ، وللميتين..
عباد الله ..
{ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بَالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِيْ القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعْلَكُمْ تَذَكَّرُونَ } .
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروا على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله ما تصنعون..
مصدر المادة الصوتية : مكتبة الصوت الإسلامي
Nour el houda93
2012-12-22, 18:24
سيد الاستغفار
اللهم انت ربي لا اله الا انت خلقتني وانا امتك وانا على عهدك ووعدك ما استطعت اعوذ بك من شر ما صنعت ابوء لك بنعمتك علي وابوء لك بذنبي فاغفرلي ذنبي فانه لا يغفر الذنوب الا انت
جزاك الله خيرا
وفاء سعاد
2012-12-22, 21:01
بارك الله فيك
~ حراير ~
2012-12-22, 21:40
بارك الله فيك
الدر المكنون
2012-12-22, 23:17
وفيكم بارك الله
وجزانا واياكم كل خير
أبوطه الجزائري
2012-12-23, 10:35
http://imagecache.te3p.com/imgcache/edd2daafae040fbe795e817bcc3c9898.gif
ليدية اوج
2012-12-23, 11:39
بارك الله فيك
الدر المكنون
2012-12-23, 11:45
http://imagecache.te3p.com/imgcache/edd2daafae040fbe795e817bcc3c9898.gif
اثابنا الله واياكم كل خير
الدر المكنون
2012-12-23, 11:46
بارك الله فيك
وفيك بارك الله
علي ازرمومي
2012-12-24, 10:57
بارك الله فيك..................أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم......
"اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"
لا إله إلا الله محمد رسول الله
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم
سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته...
الدر المكنون
2012-12-24, 13:34
بارك الله فيك..................أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم......
"اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"
لا إله إلا الله محمد رسول الله
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم
سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته...
وفيك بارك الله
شكرا لتفاعلك
واثابك الله
symsem22
2012-12-24, 15:08
جزاكم الله خيرااااااااااااااااااااااااااااااااا
the angel tarek
2012-12-24, 22:38
شكرا لك على الموضوع
الدر المكنون
2012-12-25, 10:16
العفو
جزانا الله واياكم كل خير
الدر المكنون
2012-12-25, 10:18
اخواني اخواتي ساهموا في نشر الكتاب لتنالوا الاجر
محبة.للعلم
2012-12-29, 23:57
شكرااااااااااااااااااا
الدر المكنون
2012-12-30, 13:58
العفو
بارك الله فيك على المرور
ali rida
2012-12-30, 15:47
شكرااااااااااااااااااااااااااااااااااااا
nardjesse2
2012-12-30, 15:51
بارك الله فيك
محمد أبو عبدالمالك
2012-12-30, 16:17
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه
"اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"
صراحة في مجتمعنا ثقافة الدعاء وفقهه غائب
لاننا نرى الانسان يشتد عليه الامر ويشتد يطلب كل الطرق لمدواة مابه
لكن اذا سألته هل دعيت ربك يقول لا وكان الدعاء اخر مانلجا اليه
نسال الله ان يفقهنا في ديننا لنجعل من دعائنا لله
اعظم سيف لبتر الظلم وشفاء من كل داء
Amln KinG
2012-12-30, 16:55
بسم الله الرحمان الرحيم
و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد عليه أفضل الصلاة و السلام
السلام عليكم رحمة الله تعالى و بركاته
جزاك الله كل خير أخي الكريم على مجهودك و أنار لك دربك برؤية الحق و تبتك على دينك
الله يرزقك من خيره و ينعم عليك من بركاته
الله يجعلنا وإياكم من أهل الفردوس الأعلى يارب
اللهم آمين يارب العالمين
الدر المكنون
2012-12-30, 17:11
شكرااااااااااااااااااااااااااااااااااااا
العفو شكرا لمرورك العطر
الدر المكنون
2012-12-30, 17:13
بارك الله فيك
وفيك بارك الرحمن
الدر المكنون
2012-12-30, 17:15
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه
"اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"
صراحة في مجتمعنا ثقافة الدعاء وفقهه غائب
لاننا نرى الانسان يشتد عليه الامر ويشتد يطلب كل الطرق لمدواة مابه
لكن اذا سألته هل دعيت ربك يقول لا وكان الدعاء اخر مانلجا اليه
نسال الله ان يفقهنا في ديننا لنجعل من دعائنا لله
اعظم سيف لبتر الظلم وشفاء من كل داء
امين
جزاك الله خيرا على التنبيه والتذكير
تفضل
http://www.djelfa.info/vb/showthread.php?t=1143339
الدر المكنون
2012-12-30, 17:21
بسم الله الرحمان الرحيم
و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد عليه أفضل الصلاة و السلام
السلام عليكم رحمة الله تعالى و بركاته
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
جزاك الله كل خير أخي الكريم على مجهودك و أنار لك دربك
جزانا الله واياكم كل خير
برؤية الحق و تبتك على دينك
امين ولك بالمثل وزيادة
الله يرزقك من خيره و ينعم عليك من بركاته
امين
الله يجعلنا وإياكم من أهل الفردوس الأعلى يارب
اللهم آمين يارب العالمين
امين دعاء يثلج الصدر
مراد الأمل
2013-01-01, 00:01
شكراااااااااا أخي على الكتاب
شاهين الشمال
2013-01-01, 10:33
شكرا لك اخي وجزاك الله خيرا
الدر المكنون
2013-01-01, 14:08
بارك الله فيك
وفيك بارك الرحمن
الدر المكنون
2013-01-01, 14:11
شكراااااااااا أخي على الكتاب
العفو اخي واجبنا ان نفيد ونستفيد
الدر المكنون
2013-01-01, 14:12
شكرا لك اخي وجزاك الله خيرا
العفو
جزانا الله واياكم كل خير
عبدالمولى
2013-01-01, 14:15
شكراااااااااا أخي على الكتاب
الدر المكنون
2013-01-01, 15:13
العفو
وبورك فيك على االتفاعل
sebihbacha
2013-01-06, 11:40
جزاك الله خيرا وجعلها في ميزان حسناتك
الدر المكنون
2013-01-06, 22:56
جزانا الله واياكم كل خير
محمود العمري
2013-04-02, 20:59
http://hamsmasry.com/up//uploads/images/hamsmasry-fff24b8955.gif
http://im39.gulfup.com/yq8oj.gif
الدر المكنون
2013-04-30, 23:05
http://hamsmasry.com/up//uploads/images/hamsmasry-fff24b8955.gif
جزانا الله واياكم كل خير
الدر المكنون
2013-04-30, 23:06
http://im39.gulfup.com/yq8oj.gif
وفيك بارك الله
fattouna
2013-05-01, 12:53
بارك الله فيك أخي جزااااك الله خيرا وأسكنك فسيح جنانه
الدر المكنون
2013-05-01, 14:20
[QUOTE=fattouna;1052466505] بارك الله فيك أخي جزااااك الله خيرا وأسكنك فسيح جنانه[/QUO
وفيك بارك الله وجزانا الله واياكم كل خير
امين ولك بالمثل وزيادة
haytoo82
2013-05-01, 17:51
جزاك الله خيرا وجعله في ميزان حسناتك
الدر المكنون
2013-05-01, 23:15
جزاك الله خيرا وجعله في ميزان حسناتك
جزانا الله واياكم كل خير
ولك بالمثل وزيادة
الدر المكنون
2013-05-01, 23:16
بارك الله فيك
وفيك بارك الله
أبو ماهر
2013-05-02, 17:34
بارك الله فيك
جزاك الله خيرا
الدر المكنون
2013-05-02, 22:59
بارك الله فيك
جزاك الله خيرا
وفيك بارك الله
جزانا الله واياكم كل خير
theodora
2013-05-03, 19:44
بارك الله فيك
مراد الأمل
2013-05-03, 23:45
بارك الله فيك
bachirhtc
2013-05-04, 00:01
بارك الله فيك
الدر المكنون
2013-05-04, 17:31
وفيكم بارك الله
شهرزاد 213
2013-05-05, 13:20
جزاك الله خيرا إن شاء الله , وبارك الله فيك على كل الاعمال التي تقومين
بها هنا في منتدانا خاصة في القسم الاسلامي وربي يجعلها في ميزان حسناتك إن شاء الله
Erreur Rrk
2013-05-05, 14:30
بــــــــآركـ الله فيــكـ
الدر المكنون
2013-05-06, 22:48
جزاك الله خيرا إن شاء الله
جزانا الله واياكم كل خير
, وبارك الله فيك
وفيك بارك الله
على كل الاعمال التي تقومين
بها هنا في منتدانا خاصة في القسم الاسلامي وربي يجعلها في ميزان حسناتك إن شاء الله
امين ولك بالمثل
الدر المكنون
2013-05-06, 23:04
بــــــــآركـ الله فيــكـ
وفيك بارك الله
miimicha
2013-05-06, 23:08
بارك الله فيك
محب السلف الصالح
2013-05-06, 23:09
بارك الله فيك
الدر المكنون
2013-05-07, 22:40
بارك الله فيك
وفيك بارك الله
الدر المكنون
2013-05-07, 22:41
بارك الله فيك
و فيك بارك الرحمن
vBulletin® v3.8.10 Release Candidate 2, Copyright ©2000-2025, TranZ by Almuhajir