~عبق الجنة ~
2012-11-02, 08:38
افكار ارسطو حول الحركة:
عندما نتناول العلم الأرسطي نجد أنفسنا أمام ازدواجية تتمثل في اهتمام أرسطو بإقامة نظرية للعلم من جهة و بناء منظومة علمية من جهة أخرى, أي تنظيرا للعلم و ممارسة له. فالعلم عنده هو الاستدلال ألبرهاني الذي ينطلق من مقدمات صادقة و ضرورية. لذلك كانت لنظرية الحمل أو الإسناد أهمية بالغة في نسقه المعرفي, ذلك أن المحمولات هي ما يخرج عن التغير, إذ يقترن الحديث عنها بالحديث عن الضرورة أي الاستمرار و الثبات, خاصة و أن أرسطو يعتبر انه لا علم إلا بما هو ثابت, فلا علم للزّائلات و الأعراض. و لكن كيف يكون شأن فلسفة الطبيعة التي هي عند أرسطو, في معنى ما, علم الحركة؟ و إذا كانت الحركة تغيرا كيف يتجاوز أرسطو هذه المفارقة؟ ثم ما هو العرض و كيف يطبق أرسطو هذا المفهوم على الحركة؟
لقد نفى الإيليون(1) كل أنواع التغير باعتبار أن كل تغير بالنسبة لهم يمثل إيجاد ما لم يكن أو إبطال ما هو كائن, و إن الكيان l'Etre باعتباره كيان لا يأتي من العدم و لا يؤول إليه. على أرسطو إذن أن يبين إمكان التغير. لذلك يرد على الإيليين الذين ينكرون نظرية الحمل Prédication بقوله أن للكيان عدّة أجناس أو مقولات, و إن له بالتعاقب عدّة درجات انطولوجية, فلا شيء يأتي من العدم المحض و لا شيء يؤول إليه, و لكن كل شيء يستطيع أن يأتي من العدم النسبيّ الذي يمثله الوجود بالقوّة و الهيولى, ذلك أن الوجود بالقوّة و الهيولى هما عدما لا محالة باعتبار أنهما غير الأشياء التي تستدعيها الصيرورة Le Devenir إلى الفعل, و لكن لا الهيولى و لا الوجود بالقوّة عدم محض, فهما من الكيان باعتبار أنهما كالرسم الأوّلي لما سيوجد فعلا(2).
لكن الإيليين لا يمثلون كل خصوم أرسطو و دحض تصوراتهم فقط لا يفسح كل المجال أمامه لعرض نظريته في الحركة, لذلك يحاول أرسطو دحض ما نعته بالتصوّرات المنقوصة للحركة و هي منقوصة لأنها لا تتناول الحركة من كل جوانبها. فالإواليين Les Mécanistes و بعض السقراطيين و خاصة الميغاريين(3) منهم يفتقر تصنيفهم لأنواع الحركة لما يسميه أرسطو بحركة الاستحالة, فلا نجد عندهم, حسب عبارة أومبيدوكل Empédocle(4), إلاّ مزجا و تفرّقا لعناصر ثابتة في حدّ ذاتها.
أمّا أفلاطون فإنه أجاب بأن التغيّر يحصل فجأة و بدون تمهيد في الآن عندما تعرض مباشرة لمشكل الحركة في محاورة "بارمينيدس"(5), و" ديودور كرونوس Diodore Cronos لا يقوم إلاّ بالتـعبير عـن مثل هذه التوجـــــهات عندما يقول أنه لا شيء يتحرك و أن الحركة, عندما نلاحقها, تظهر لنا دائما كشيء قد مضى و اكتمل"(6). فنظرية الإواليين و الميغاريين تؤدي إلي تعويض الحركة بتعاقب منقطع للحالات. و ضد هذا النفي غير المباشر و كذلك ضد النفي المباشر و الحاد للحركة لدى الإيليين يحاول أرسطو إرجاع التغير إلى كماله و تمامه.
فالتغير حسب أرسطو, ليس تعويض كائن بآخر أو حالة بأخرى, بل هو التحوّل بين ضدّين. فأن يتغير الشيء هو أن يصبح آخر, لا أن يأخذ مكان شيء آخر, و بعبارة أخرى يعني التغير وحدة و علاقة بين الحدين الذين يحصرانه. يجب إذن, لكي يكون هناك تغير بأتم معنى الكلمة, أن يوجد التقاء بين الحالة القديمة للشيء و حالته الجديدة, وهذا التلاقى يبدو لأرسطو في مظهرين, فهو أوّلا يفترض علاقة بين حدين, لأن هذين الحدين ليسا حدان كيفما اتفق, فالكيان المحدد الذي يؤدي إليه التغير هو ضد لاكيان محدد, فالحدين هما ضدين, احدهما الحرمان La Privation و الآخر صورته الضد, هذا يعنى أن بينهما تلازم يقوم على أساس الجنس Le Genre(7). أما المظهر الثاني للتلاقي بين الحدين فهو الموضوع الذي يتجسد فيه هذه التلاقى, فالحرمان هو لا شيء, "لا كيان في ذاته"(8), لذلك فهو في حاجة لحامل, لشيء متقدم عليه في الوجود, و هذا الشيء هو الوجود بالقوة, لان الوجود بالقوة لصورة ما هو تلك الصورة قبل تحققها, ثم إن الأضداد لا تفعل في بعضها مباشرة, فهذه الحدود المحضة يعوض أحدها الآخر و لذلك يجب توفر شيء آخر يقومان على أساسه بعملية التعويض و هو المادة.
إن التغير بالنسبة لأرسطو, هو قبل كل شيء سيرورة, تطور, و تطور متّصل, لان الحركة تهم الممتد الذي هو المتصل الأولي, و خاصية الاتصال نلمحها في تعريف الحركة الذي يقدمه لنا أرسطو في الفصل الأول من المقالة الثالثة في كتاب الطبيعة :" الحركة هي فعل ما هو بالقوة باعتباره بالقوة", وهذا التعريف يعبر أوّلا عن خاصية التردد و التبدل و نصف الواقعية للتغير, لأنه يشمل المتصل الذي يشمل اللانهاية حسب أرسطو, و اللانهاية هي التي تحكم عليه بان يكون قوة لا يمكن أن يكون لها فعل آخر غير تطورها كقوة. و في الحقيقة, إن أرسطو في حديثه عن الحركة لا يقيم التمييز بين الحركة و التغير باعتباره حد عام يشمل التغير في معناه الدقيق عنده و مختلف أنواع الحركة إلاّ في الفصل الأول من المقالة الخامسة من كتاب "الطبيعة" حيث يبين أن الحركة تتم بين الأضداد و بالتالي في نطاق جنس واحد, في حين أن التغير يتم بين حدود متضادة جذريّا : بين الكيان و اللاكيان L'Etre et Le Non-être, و بعبارة أخرى يشمل التغير إنتاج أو فساد جوهر, و يسمّيه أرسطو الكون و الفساد La Génération et la Corruption. ألا انه إذا اعتبرنا أن التغير يتم من " موضوع إلى لاموضوع أو العكس "(9), و إذا أخذنا هذه العبارة في معناها اللفظي, و اعتبرنا أن حدود التغير هي فعلا أضداد, فإن المشكلة التي روّعت سابقي أرسطو تبدو و كأنّها متواصلة في الأرسطية, إذ كيف لشيء أن يأتي من لا شيء أو يؤول إلى العدم؟
في الواقع إن أرسطو رغم استعماله لتلك العبارات, فإنه يصرح دائما بأنه لا يوجد بالنسبة إليه كون و فساد مطلقين, إذ ليس هنالك إلاّ تقبل المادة لصور مختلفة. إلاّ أن ذلك و إن كان يحل مشكل الإتيان من العدم فإنه يثير مشكلا آخر و لو أقلّ حســــاسية: ذلك أن التغير يقترب بهذا المعنى من "الاستحالة", فيصعب تبعا لذلك التمييز بين الحالة التي يتغير فيها الشيء كيفيا و الحـــالة التي يصير فيها جوهرا آخر, خاصة و أن أرسطو يعتبر إن الصورة الجوهرية تتكون من كل الصور الجزئية التي تنتجها عدة حركـــــات كيفية متتالية أو متزامنة, و انه عندما تتجمع كل الإستحالات تتكون عندها الصورة الجوهرية باعتبارها كلاّ لها, و هو تقريبا ما يقوله أرسطو في مستوى 246 a6 من الفصل الثالث من المقالة السابعة من كتاب "الطبيعة" :" من الممكن أن يحصل الكون كنتيجة ضرورية لبعض الإستحالات, مثلا, كنتيجة لتخلخل أو لتكاثف, لسخونة أو لبرودة المادة, و لكن بالرغم من ذلك تكوّن شيء لا يعني استحالته, و الكون ليس استحالة".
بعد هذا التمييز بين التغير و الحركة, وهو تمييز يبقى غامض, يتناول أرسطو أنواع الحركة مستعملا نظرية المقولات, فنجد أنفسنا أمام علاقة الكيان بالحركة, و هو طرح ينتج عنه تصدع سلسلة المقولات, فبعد أن ميز أرسطو بين الجوهر و المقولات التسع المتبقية على أنها أوجه للكيان, يقيم الآن تمييزا بين هذه المقولات التسع فنكتشف أنها ليست أنماطا متساوية من الكيان إذ يبين أرسطو أنه ليس هناك حركة حسب العلاقة و لا حسب الفعل و الانفعال, لأنّ القول بالحركة حسب الفعل و الانفعال كالقول بحركة الحركة و هو كلام لا معنى له, أما الوضع وال"له" أو الملك فإنهما لا يعنيان الحركة بقدر ما يخصان السكون. و إذا ما أبعدنا هذه المقولات تبقى ثلاث منها فقط وهي الكيف و الكم والمكان أو الأين وهي التي تخص الحركة.
و الحركة في الكيف تذهب من ضد كيفي إلى آخر و يسميها أرسطو بالاستحالة, و الحركة في الكم, أي الزيادة و النقصان, فتذهب من حجم أصغر من العادي إلى الحجم العادي أو بالعكس, أما الحركة في المكان و يسميها أرسطو "النقلة", فهي الحركة الأكثر جوهرية بما أنها تمثل شرط و أساس الحركات الأخرى, إذ أن كل ما يوجد يوجد في مكان, و الحركة دون مكان مستحيلة, و من هنا يبدو جليا أن رفض أرسطو للخلاء هو ضرورة اقتضاه نسقه الطبيعي المتناهي, ذلك إن القول بالخلاء يعني بالنسبة لأرسطو وجود خلاء يحيط بالكون, و بما "أن الطبيعة تخاف الفراغ" فإنها ستحوى ذلك الفراغ إلى ما لانهاية له و ينتج عن ذلك أن الكون لامتناهيا ضرورة, و أرسطو كان قد نفى اللانهاية في الأجسام الطبيعية قسمة و تركيبا(10), لكن حجة أرسطو الأساسية ضد و جود الخلاء هي نظرية المكان, فهذه النظرية تعدم الخلاء, ذلك أن المكان عنده هو حامل و يلزم عن ذلك أن لا يكون بدون محمول أي لا يمكن أم يوجد مكان بدون ممتلئ, فلا خلاء في الطبيعة, ذلك أن الطبيعة هي "مبدأ الحركة و السكون بالإضافة إلى الشيء الذي توجد فيه مباشرة, بالجوهر و لا بالعرض"(11) و الحركة مستحيلة بالنسبة لأرسطو في الخلاء ذلك أن سرعة الحركة تتغير حسب كثافة الوسط وهو ما يتضمن كون الأجسام تعبر الخلاء في زمان يساوي الصفر, و لكن بما إن الحركة تتغير حسب وزن الجسم المتحرك فإن ذلك يتضمن كون الجسم الثقيل يعبر الخلاء بسرعة أكثر من الجسم الخفيف و ذلك خلف.
في تعريفه للطبيعة يميز أرسطو بين ما هو بالجوهر و ما هو بالعرض, فما هي إبعاد هذا التمييز و كيف يتدخل مفهوم العرض في بلورة تصور أرسطو للحركة؟
إن مفهوم العرض هو الحد الثاني من الزوج المنطقي و الإبستيمولوجي الذي يستعمله أرسطو في تقسيم الموجودات و الأحداث الأنطولوجية إلى موجودات و أحداث قابلة لأن تعرف أسبابها و عللها و أخرى تضل عللها غير محددة أي غير قابلة للمعرفة و التنظيم. و العنصر الأول من هذا الزوج هو ما يسميه أرسطو "الذي بذاته" أو "من اجل ذاته" و كذلك "في ذاته", و له عنده عدة معاني, فهو يعني أولا جوهر كل شيء, و في معنى آخر هو الموضوع الأوّل و الطبيعي لصفة أو لمحمول مثل السطح بالنسبة إلى اللون, "وفي الجملة ـ يقول أرسطو ـ فإن لهذا اللفظ معاني بعدد معاني كلمة علة"(12) فنحن نقول بدون تمييز"لأجل ماذا أتى" أو "من اجل أي هدف أتى"...و تقال "لأجل ماذا" كذلك على الوضع : لأجل ماذا هذا المرء واقف؟... و ذلك إننا في كل هذه الحالات نعنى الوضع و الأين(13), و كون هذا الشيء أو ذاك بالتحديد في هذا الوضع أو ذاك أو في هذا المكان أو ذاك هو جزء من صورته, فالنار تصعد بطبيعتها إلى الفوق, و نحن لا نعرف أي شيء في ذاته إلا إذا عرفنا علله الأولى أو مبادئه الأولى, و الظاهرة الطبيعية تتلقى تفسيرها العميق عندما نبين أن منشأها في المبدأ الذي نسميه طبيعة(14).
فالذي بذاته يعني إذن الماهية و ما يوجد في الماهية. أما العرض فإنه يُقال على ما ينتمي إلى موجود بدون أن يكون ضروريا و لا قارا فيه, أي لا ينتسب جوهريا إلى ماهية ذلك الموجود, فإذا وجدنا كنزا في حفرة حفرناها لزرع شجرة, فإن عثورنا عليه كان عارضا, ذلك انه لا واحدة من الواقعتين(الحفر و العثور على الكنز) بتابع ضروري و لا هي بنتيجة للأخرى, كذلك تعتبر عرضا صفة البياض في الموسيقيِّ إذ ليست صفة البياض ضرورية و لا هي قارة, و من ثمة "و نظرا لوجود صفات و نظرا لانتمائها إلى موضوعات و نظرا لكون بعضها لا ينتمي إليها إلاّ في مكان محدد و في زمان محدد و لا لكون الموضوع هو بالذات ذاك الموضوع أو الزمان ذاك الزمان أو المكان ذاك المكان فإن هذه الصفة تكون عرضا"(15), و بالتالي فإنه لا وجود لعلة محددة للعرض بل لا توجد له علة إلاّ بالاتفاق, و مثال ذلك أحداث الحظ أو البخت و المصادفة, فالحصان الذي يفلت من صاحبه يصل عرضا إلى المكان الذي يوجد فيه صاحبه, و الرجل الذي ذهب إلى السوق لقضاء بعض الحاجات أُرجع له دينه عرضا(16).
و هكذا يبين أرسطو إن كل ما يتغير, يتغير إمّا بالعرض: كأن نقول مثلا عن "موسيقيٍّ" انه يمشي, لان من يمشي هو حامل صفة الموسيقيِّ عرضا, و حركة المشي ليست في الموسيقيِّ مباشرة بل هي له بواسطة الحامل. و إمّا أن نقول إن شيئا ما يتغير لان احد أجزائه تغير, فنقول مثلا إن الجسم قد شفي لان العين أو البطن قد شفيت, و لكن هناك أيضا الأشياء التي لا تتحرك لا عرضا و لا بسبب حركة احد أجزائها و هي المتحركات بذواتها. و ما يميز الحركة بذاتها عن الحركة بالعرض هو كونها مباشرة و بدون واسطة, ففي حين إن الحركة بالعرض توجد أينما اتفق, و أنّما اتّفق و تخص كل الأشياء, أي لا يمكن أن نحددها و نخصّصها, فإن التغير بذاته ليس كذلك, بل هو في الأضداد و في الأشياء الوسيطة, لأن الوسيط يمكن اعتباره ضدّا للطرفين, فالرماديُّ, مثلا, هو ضد للأبيض و هو كذلك ضد للأسود(17).
إلاّ أن هذا التمييز الأرسطي بين الحركة بذاتها و الحركة بالعرض و إن دقق معنى الحركة فإنه لا يحل المشكل الذي ينتج عن اعتبار السكون بما هو ثبات في درجة انطولوجية أرقى من درجة الحركة, إذ كيف سيتمكن أرسطو من انقاض عالم الكون و الفساد؟
من اجل ذلك وضع أرسطو قطيعة بين عالم السماء, عالم ما فوق القمر و عالم ماتحت القمر, ثم بين انه يوجد في عالم الفساد ما يخرجنا عن دائرة الكون و الفساد, وهو ما يوجد وراء الحركة من ثبات, فالتجديد المستمر على صعيد البسيطة يمثل المحور الذي ينقلنا إلى عالم الاستمرار و الثبات, و لكن ما الذي يفسر هذا الاستمرار؟
يرى أرسطو أن الحركة تتركب من خمسة عناصر: المحرِّك, الموضوع المتحرك, الزمان, ما منه تنطلق الحركة و ما إليه تتوجه و هو الحد النهائي أو الغاية, وهو ما يفلت من كل حركة, لذلك تتجدد باستمرار "آملة الظفر" بهذا الحد الذي هو المحرِّك الذي لا يتحرك, من حيث هو غاية يعشقها العالم فيتحرك إليه.
و لكن إذا كانت كل الأشياء المادية, حسب أرسطو, لها حركة طبيعية تحققها إذا لم تصطدم بنقيضها, وهي تميل نحو جهة معينة من الكون, فالنار تتجه نحو المحيط و التراب نحو المركز, و أن تكون الأشياء في هذه الجهة أو تلك من الكون هو جزء من صورها(18), أفلا يعني ذلك أن أرسطو لا يفسر شيئا و أنه في الحقيقة لا يتجاوز كونه يصف الأشياء و أن فيزياءه تنغرس في صميم التجربة العامية لذلك نجدها ترد عجزها عن التعامل مع الأحداث تعاملا موضوعيا إلى الميتافيزيقا, فيتحول كتاب "الطبيعة" في المقالة السابعة و خاصة الثامنة من فلسفة الطبيعة إلى ألوهية تبحث في الجانب الربّانيّ للحركة, و كأن الطبيعة كمبدأ للحركة تعجز عن القيام بدورها فتحيله إلى الرب.