تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : مبادئ دقيق الكلام


halimhard
2009-03-04, 23:53
يمكن القول أن جمهرة المتكلمين اتفقوا على خمسة مبادئ أساسية جعلوها أركان نظريتهم في دقيق الكلام وهذه هي (http://djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=97#_edn1):
1. مبدأ الحدوث: ويقصد به أن العالم وما فيه من أشياء كلها محدثة لها بداية في الزمان ولم توجد عن شيء بل اوجدها الله من العدم.
2. مبدأ التجزئة والانفصال: يقول المتكلمون بأن الأشياء يمكن أن تتجزأ أجزاءاً حتى تصير إلى جزء لا يتجزأ هو الوحدة الأساسية لبناء ذلك الشيء.
3. مبدأ التغير والتجدد: قال المتكلمون بوجود الأعراض (الصفات) وجعلوها متغيرة أبداً لا تبقى على حال فقالوا (العرض لا يبقى زمانين). واعتقدوا أن الأعراض تنعدم ثم تُخلق كل لحظة حالاً فحال.
4. مبدأ الاحتمال والتجويز: قال المتكلمون بأن قوانين العالم ليست حتمية بل جوازية احتمالية يقوم على الأمر باشتغالها الله فهو الحي القيوم وهو الذي يأمر القانون الطبيعي بالاشتغال. لذلك أجاز المتكلمون حصول الخوارق والمعجزات على هامش جوازية القانون الطبيعي، وما يتضمنه من قدر ممكن من الاحتمال.
5. مبدأ النسبية: الزمان والمكان عند المتكلمين المسلمين ماهيتان متكاملتان فلا زمان بلا مكان ولا مكان بلا زمان وكلاهما يأخذ معناه من الحدث. والزمان تقدير الحوادث.

هذه المبادئ نجدها مبثوثة في مصادر علم الكلام وما تركوه من آثار مكتوبة. ولن يجدها الباحث بالضرورة مجتمعة في كتاب واحد من كتبهم لكننا شخصنا هذه المباديء بعد دراسة مستفيضة تم تلخيصها في بحثنا الموسوم "القيمة العلمية لدقيق الكلام" المشار إليه في الهامش رقم(4).
سنعالج في هذا البحث مبدأ التجزئة عند المتكلمين في إطاره العام، ثم نعرض لإعتراض الوليد إبن رشد على هذا المبدأ لنبين وجه الاعتراض وفق المنطق العقلي البرهاني الذي إعتمده إبن رشد الذي يستند إلى المعطيات والمفاهيم العلمية السائدة على عصره. ثم نضع إعتراض إبن رشد في ميزان المعرفة العلمية المعاصرة في إطارها الفلسفي العلمي لنميز من خلال تلك الموازنة محاسن رأيه ومثالبه.

التجزئة ومفهوم الجوهر الفرد

ما يهمنا في هذا المبحث هو مبدأ التجزئة والانفصال، فقد قال المتكلمون بمبدأ إمكان تجزئة الأجسام إلى ما له نهاية، وهذا الجزء الذي تتوقف عنده التجزئة أسموه (الجزء الذي لا يتجزأ) أو (الجوهر الفرد)، أي أن الجوهر الفرد هو الوحدة الأساسية في بناء الأشياء. وهذا خلاف ما قال به عامة الفلاسفة من أن التجزئة ممكنة إلى ما لا نهاية له من الأجزاء. يقول أبو المعالي الجويني[ii] (http://djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=97#_edn2) "اتفق الإسلاميون على أن الأجسام تتناهى في تجزيتها حتى تصير أفراداً، وكل جزء لا يتجزأ فليس له طرف واحد شائع لا يتميز، وإلى ذلك صار بعض المتعمقين في الهندسة وعبّروا عن الجزء بالنقطة وقالوا بأن النقطة لا تنقسم " . وقالوا " والدليل على إثباته أن الفيل أكبر من الذرة ولو كان لا غاية لمقادير الفيل ولا لمقادير الذرة لم يكن أحدهما أكثر مقادير من الآخر ولو كان ذلك كذلك لم يكن أحدهم أكبر من الآخر كما إنه ليس أكثر مقادير منه". وفي هذا السياق من البرهان يأتي قولهم: " إن كل ما حصره متناه يجب أن يكون متناهياً وما لا يتناهى لا يحصره متناه".
كما يقول أبو سعيد في (كتاب الغنية في أصول الدين)[iii] (http://djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=97#_edn3) " فالجوهر كل ذي حجم متحيز والحيز تقدير المكان ومعناه أنه لا يجوز أن يكون عين ذلك الجوهر حيث هو وأما العرض فالمعاني القائمة بالجواهر كالطعوم والروائح والألوان والجوهر الفرد هو الجزء الذي لا يتصور تجرئة عقلا ولا تقدير تجزئة وهما وأما الجسم فهو المؤلف وأقل الجسم جوهران بينهما تأليف والأكوان اسم للاجتماع والافتراق والحركة والسكون".
ويعرّف الجرجاني[iv] (http://djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=97#_edn4) الجوهر بأنه: "ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع" . ويعني ذلك أن الجوهر هو ماهية تجريدية لأن وجودها في موضوع (أي محل) يعني تجسيدها.
وقامت حجتهم في هذا على مقدمة "أن كل ما حصره متناه يجب أن يكون متناهياً وما لا يتناهى لا يحصره متناه". والجوهر عند المتكلمين له قَدْر (أي مقدار) لكن ليس لقدره بعض (أي لا يتجزأ). يقول الجويني[v] (http://djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=97#_edn5): "الجوهر الفرد له حظ ثابت من المساحة غير موقوف على انضمام غيره إليه وله قدرٌ غير أن ليس لقدره بعض والجوهر يقدر الجوهر"
والجواهر عند المتكلمين لا تتداخل مع بعضها البعض، بل تتجاور، يقول الجويني: "ما صار إليه أهل الحق أن الجواهر لا تتداخل ولا يجوز وجود جوهر بحيث ذات جوهر آخر وإن أطلق في التجاوز تداخل الجواهر واختلاطها فالمعنى تجاورها"[vi] (http://djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=97#_edn6).
لكنهم اختلفوا في مسألة تجدد الجواهر، فقال أغلب المتكلمين بأن الجواهر باقية دون تجدد وقال النظام أنها متجددة حالاً فحال، حيث يذكر الجويني في الشامل "الجوهر باق غير متجدد، وذهب النظام إلى أنه متجدد حالاً فحال"[vii] (http://djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=97#_edn7).
موقف إبن رشد من فرضية الجوهر الفرد

كان إبن رشد في جميع مواقفه الفكرية وآرائه يعبّر عن رؤية الفلاسفة ومنهجهم الفكري وبخاصة آراء أرسطو طاليس. ولما كانت الفلسفة الأرسطية ترى أن الأشياء قابلة للتقسيم إلى ما لانهاية له من الأجزاء لذلك فقد رفض ابن رشد مبدأ التجزئة والانفصال مبدأياً، محتجاً بالمنطلقات التالية:
1. إن وجود جوهر غير منقسم ليس معروفاً بنفسه.
2. إن في وجوده أقاويل متضادة متناقضة.
3. إنه ليس في صناعة الكلام استنتاج الحقيقة بل هي لصناعة البرهان.
4. أن الأشعرية قد استعملت في إثبات وجود الجوهر الفرد أدلة خطابية في الأغلب وليس برهانية.

يقول ابن رشد[viii] (http://djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=97#_edn8):
"فأما المقدمة الأولى وهي القائلة أن الجواهر لا تتعرى من الأعراض فإن عنوا بها الأجسام المشار إليها القائمة بذاتها فهي مقدمة صحيحة وإن عنوا بالجواهر الجزء الذي لا ينقسم وهو الذي يريدونه بالجوهر الفرد ففيها شك ليس باليسير وذلك أن وجود جوهر غير منقسم ليس معروفاً بنفسه، وفي وجوده أقاويل متضادة شديدة التعاند وليس في قوة صناعة الكلام تخليص الحق منها وإنما ذلك لصناعة البرهان وأهل هذه الصناعة قليل جداً".
ثم يتعرض ابن رشد لمناقشة ما يسميه الدليل الخطابي الذي يسوقه المتكلمون الأشعرية فيقول: "وذلك أن استدلالهم المشهور في ذلك هو أنهم يقولون أن من المعلومات الأول أن الفيل مثلاً إنما تقول فيه أنه أعظم من النملة من قبل زيادة أجزاء فيه على أجزاء النملة، وإذا كان ذلك كذلك فهو مؤلف من تلك الأجزاء وليس واحداً بسيطاً، وإذا فسد الجسم فإليها ينحل، وإذا تركب فمنها يتركب".
في هذه الجملة يعرض ابن رشد لفهمه ما يعنيه القول بوحدة تكوين الموجودات بناءً على نظرية الجوهر الفرد (الذرية)، فهو يعني أن تكون الأجسام كبيرها وصغيرها مؤلفة من الأجزاء نفسها فمنها يتركب وإليها ينحل. وقد ضرب ابن رشد مثال الفيل والنملة لتوضيح المسألة مبيناً أن القول بالجوهر الفرد يعني أن الفيل ليس واحد صحيح (بسيط) بل هو مركب من أجزاء أو وحدات أولية.
ثم يتقدم ابن رشد بحجته في إبطال القول بالجوهر الفرد فيقول "وهذا الغلط إنما دخل عليهم من شبه الكمية المنفصلة بالمتصلة فضنوا أن ما يلزم في المنفصلة يلزم في المتصلة" هاهنا إذن يميز ابن رشد بين الكميات من حيث كونها منفصلة ومتصلة ليعرّف ما يعنيه بذلك بقوله:
"وذلك أن هذا يصدق في العدد أعني أن نقول أن عدداً أكثر من عدد من قبل كثرة الأجزاء الموجودة فيه أعني الوحدات، وأما الكم المتصل فليس يصدق ذلك فيه ولذلك نقول في الكم المتصل أنه أعظم وأكبر ولا نقول إنه أكثر وأقل ونقول في العدد إنه أكثر وأقل ولا نقول أكبر وأصغر".
في هذه العبارة يستخدم ابن رشد ضمنياً الحجة اللغوية لتأكيد ما يذهب إليه من التمييز بين الكم المتصل والكم المنفصل. فالكموم المتصلة، بحسب رأيه، هي وحدات بسيطة لا تتركب من وحدات أبسط منها، أما الكموم المنفصلة كالعدد فهي التي تكون فيها كثرة الأجزاء (أي الوحدات) وتعددها.
ثم ينتقل ابن رشد إلى استنتاج بليغ فيقول:
"وعلى هذا القول (أي القول بالجوهر الفرد) فتكون الأشياء كلها أعداداً ولا يكون هنالك عظم متصل أصلاً فتكون صناعة الهندسة هي صناعة العدد بعينها".
بهذا الاستنتاج رفض ابن رشد القول بمبدأ التجزئة والانفصال وما قام عليه من مفهوم الجوهر الفرد. فإن المعهود في المعرفة على عصره أن صناعة (أي علم) العدد هي غير صناعة الهندسة، فالأول إنفصالي والآخر إتصالي. ونظراً لاختلاف علم الهندسة واستقلاله عن علم العدد فقد ذهب ابن رشد إلى رفض القول بفرضية الجوهر الفرد. فالهندسة تصف الخطوط والسطوح والحجوم، وهذه كلها أعيان متصلة لأن الخط يحتوي بحسب التعريفات الهندسية الأساسية على ما لانهاية له من النقاط والسطح كذلك يمكن أن نخط عليه ما لانهاية له من الخطوط والحجم يمكن تأليفه من ما لانهاية له من السطوح المتلاصقة، بينما تصف صناعة العدد الأجزاء المنفصلة، كأن يكون لدينا عدد معلوم من التفاح مثلاً، فهذه كلٌ منها واحد صحيح لكنها أعيان منفصلة لكل منها مقداره.
وكما نرى فإن طريقة إبن رشد في هذه المحاكمة هي أشبه بالطرق البرهانية الهندسية التي تتدرج بالقول بفرض معين ثم يتدرج معه إلى في سياق برهاني ليصل إلى نتيجة. فإن كانت النتيجة مقبولة وغير متناقضة مع ما هو معهود أقر بالفرض أما إذا كانت النتيجة مناقضة للمسلمات المعروفة أو البديهيات التي يقررها العقل، رفضها.
وما توصل إليه ابن رشد في هذه المحاكمة شبه البرهانية أن القول بمبدأ التجزئة والانفصال وما يتضمنه من فكرة أو مفهوم الجوهر الفرد سيعني أن تكون صناعة الهندسة هي صناعة العدد بعينها (أي ستصبح الماهيات والصفات الهندسية صفاتاً عددية).

[i] (http://djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=97#_ednref1) أنظر
M.B.Altaie,”[I]The Scientific Value of Dakik al-Kalam”, Journal of Islamic Thought and Scientific Creativity, No.4, 1994.
ويمكن الحصول على نسخة من هذا البحث من موقع الانترنت www.muslimphilosophy.com/ip/dakik.pdf

[ii] (http://djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=97#_ednref2) الشامل في أصول الدين لأبي المعالي عبد الملك الجويني، تحقيق علي سامي النشار، القاهرة . ص158.

[iii] (http://djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=97#_ednref3) كتاب الغنية في أصول الدين لأبي سعيد عبدالرحمن بن محمد، تحقيق عماد الدين أحمد حيدر، مؤسسة الخدمات والأبحاث الثقافية، الطبعة الأولى، بيروت1987.

[iv] (http://djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=97#_ednref4) التعريفات لأبي القاسم الجرجاني، تحقيق إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى، بيروت 1405هـ، مادة (الجوهر).

[v] (http://djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=97#_ednref5) الشامل في أصول الدين، ص159.

[vi] (http://djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=97#_ednref6) الشامل في أصول الدين، ص160 .

[vii] (http://djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=97#_ednref7) الشامل في أصول الدين، ص160 .

[viii] (http://djelfa.info/vb/newthread.php?do=newthread&f=97#_ednref8) الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة لأبي الوليد بن رشد، ص35.

فارس الجزائري
2009-03-08, 04:53
:dj_17:
يرفع للفائدة