شادي الطاهر
2009-02-27, 22:08
في شعر الأرض المحتلة
اذا كانت سرعة استجابة توفيق زياد للمجزرة لقطة ايجابية تضاف إلى رصيده النضالي فإنها رتقت بعض الآثار على البناء الشعري ومن ثم برزت المباشرة أحيانا وظهر الصراخ في بعض الأحيان وإذا كان من عادة الاستجابة الشعرية السريعة ان تترك بعض توفيق زياد قد حاول ان يرحم بصماتها على البناء الفني فان هذه التنبؤات بخلفية إنسانية شاملة استطاعت ان تنفذ قصيدته من الوقوع في الإملال ولقد نجح توفيق زياد تقديم رؤية شاملة للمجزرة وذلك عن طريق المزج بين اليقظة العامة وبين التجربة الشخصية وهكذا تتخلص القصية من مناخ الخاص بل انها تستعير من ( المأساة ) بعا جديدا يتزاوج فيه الداخل والخارج والفن والتقدير ومن ثم استطاعت القصيدة ان تشجع بمختلف الإضاءات تؤدي وضعيتها الرئيسية في التوغل عبر الأشعة الإنسانية لمناصرة قضايا الشعوب .
وإذا كان توفيق زياد في هذه القصيدة لم يتلخص تماما من بعض المزالق فإن ذلك راجع إلى عوامل متداخلة كانت اكبر منه بل أقوال انها ابر من ان يخلص منها الشاعر ما في مثل ظروف توفيق زياد ، فقد كان ثقل المأساة أضخم من احتمال الشاعر وقد كانت وطأة المجزرة ثقيلة على وجدانه الجريح وهذا ما قيد حركة الشاعر فلم يستطع الا ان يعبر عن المستوى الواقعي بتلك الصورة كما ان المرحلة الفنية التي عاشها زياد لعبت دورا كبيرا في فنه آنذاك فقد كان في حداثته تجربته الشعرية وهي تجربة تحمل كثيرا من الصراخ ولا زعقي كشان جميع التجارب الأولى وقد استطاع ان يجتازها في قصائده اللاحقة وليقدم لنا بالصورة الفنية والفكر الموضوعي نتاجا اكثر فنية وأكثر عمقا تأثيرا في قارئه على ان قصيدة توفيق زياد قد أتت أكلها وانبتت تطبيقات شعرية أخرى اكثر حظا في البناء الفني وبهذا يكون زياد قد نجح في تجسيم القضية وجعل غيره يشعر بضرورة الاهتمام بالمجزرة وانه من الواجب ان يشارك فيها كل شاعر من شعراء الأرض المحتلة ويضيف لبنة جديدة في تصوير درامية المأساة وكشف العنصرية الإسرائيلية .
وربما كان حنا أبو حنا ابرز ما استوحى والتي استطاعت ان تصوغ من القضية تجربة فنية موفقة في المرحلة الثانية بعد سنتين من حدوث المجزرة ومن الطبيعي أن ينجح حنا أبو حنا لن المحنة الدامية كانت قد استوطنت أنفس أشعراء بعد ما هدأت أثرها الخارجة لتترك في داخل الجميع أتت مناجيا يبحث ، عن معادل ففي ، ولهذا كان حنا ابو حنا ينضج مشاعره على نار هادئة ليبدأ المرحلة التالية في التعبير عن المأساة وتمتاز هذ المرحلة بأنها همزة وصل تربط بين مرحلتين سابقة ولاحقة تأخذ من الأولى تجسيد المجزرة وتعطيها ثوبا فنيا طبيعيا يوصلها إلى تخوم المرحلة الثالثة مرحلة انصهار التركيب الفني وحماة المجزرة في قصيدة رائعة
والحق ان ابو حنا قد صاغ قصيدته في صياغة فنية مختلفة تعتمد على نظام المقاطع المختلفة القوافي ونظام البحر التقليدي وبمعنى ادق استطاع ان يوجد بين البناء الفني وبين الانفعالات المرتسمة غفي وجدانه تتنفذ قصيدته إلى جوهر عميق يجعل من الفن بديلا للصراخ لابصفته وجها أخر للعملة وإنما بصفته بعدا أصيلا في العمل الفني
تلك هي الميزة الأولى التي تلتصق بوجدان القارئ لأول وهلة وهو امام هذه القصيدة وخاصة وان الشاعر قد استلهم جوهر القضية واستطاع ان يصوغه في فنية جيدة يتعانق فيها الشكل والمضمون ويتجه فيها الفنان إلى الفكرا لجدلي الذي يمنح قصيدته ثراء حسيبا الثراء الذي يجب توافره في العمل الفني ولكنه لا يجعل من الجدل غرضه الرئيسي فينسى الواقع رؤية كابوسيه بل هو يجادل حركة الواقع الخارجي ليخرج بعد ذلك بموقف ثابت ورؤية عميقة تناقش في موضوعية موضوعية وتتأمل في غياب مطلق عن الروح العنصرية :
ضمدوا الجراح على الصديد فكيف تلتئم الجراح
فإذا احنا للضماد تغلغل العفن المتاح وتنفس الغدر المقتنع بالعدالة وأسر تاج
وتناومت ( بعض الضمائر ) عند اعتاب الكفاح
وتخطر السفاح في برد العدالة والصلاح
والعدالة الغادرة هي المحاكة الصورية والسريعة التي جرت غداة المجزرة والتي هدفت ذر الرماد في العيون اثر من محاولتها الانتصار للعدالة الحقيقية ومعاقبة المجرم بما يستحق آثمة ان الأحكام التي صدرت بحق المتهمين احام خفيفة تقل بكثير عن بشاعة الجرم وجسامة القضية ، حتى الأربعة عشر سنة التي حكم بها على الكو مندان ملكي لا تعدوا ان تكون تلفيقا شكليا اكثر منه عقابا خاصة بعدما خففت إلى عشر سنوات فيما بعد ان هذه المحاولة الهشة لا تهدف إلا إلى إسدال الستار على المأساة بالإضافة إلى ان التعويض الذي حكمت به إلى اهل الضحايا بمثابة تحايل على عيون اهل كفر قاسم والدعاية الخارجية والتهرب من المسؤولية إزاء الإبادة الوحشية ان الحكم بالتعويض وبالإدانة حكم سطحي لا يشفي الجراح وانما يزيد من تراكم الصدى عليها وبالتالي يصعب قبول التضمير بالكيفية التي جرت فيها تضميد يقصد إلى التعفن أكثر مما يقصد إلى البراءة كما ان الإحكام بالصورة التي رأيناها تعمق من توغل هذه الجراح وتفشيها عبر الجسم مما يجعل من المستحيل ان تبرأ الجراح وانما يجعلها تفر باستمرار لتقضي في النهاية على صلابة الجسم ومن هذا المنطلق يجب التحفيز والوعي التام والنفاذ من خلال هذه الغلالة الخفيفة إلى الجوهر الأصيل وإلا بقينا عند اعتاب الكفاح كما فعل البعض ان المهم ان نستبطن الأغوار ولا نقف عند المرتبات المخادعة وإلا كان ذلك دفعا للغدر كي يستريح بعدالته المزيفة ومن ثم يستمرئ اللعبة ويواصل التحضر ببرد الصلاح في الوقت الذي يمتلئ فيه بالسقوط في براثن الشر خلصة وان المحاكمة كانت قد اكتفت بالأطراف وتغافلت ع الرأس المدبر لهذه المجزرة
قد حاكموا الحصاد اما سيد الحقل المباح
مازال يستوفي الحصاد و دأبه شحذ السلاح
إن إسرائيل لم تحاكم المجرم الحقيقي وإنما زاحمت بعض المجرمين الثانويين هي بذلك تزيف القضية وتوهم بأن الجريمة قد نالت عقابها ولكنها تنسى الحقيقة وتظهر يوما وان المجريات يحتويها يوما الفهم الواضح وإذا كان المجرم ذكيا وهما بلغ ذكاؤه من الحد والتفطن فانه ينسى في غمرة انهماكه بعضا من الآثار وهذه الآثار هي التي تقود إلى المقصلة في أكثر الأحيان ان المحكمة قد أدانت ثمانية وبرأت ثلاثة بالرغم من سعر التراب الذي حكمت به عليهم إلا أنها تناسب عامدة بأن الذين شاركوا في المجزرة اكثر من احد عشر تهما وهكذا يصل الشاعر إلى دحض الإيهام العدالة المزيفة ويثبت بأنه لو صح ما أعلنته السلطات في مسرحيتها البشعة لكانت قد حاكمت الرأس واستأصلت شافته ولكن السلطات هي المتهم الأول الذي دأب على شحذ السلاح ومع ذلك فإنها – بالرغم من كل الظواهر – لن تستطيع ان تقطب الجروح خاصة وان اكفها السرداء تفنن اشداقها متنمرة في كل ساح :
عامان مرا والجريمة ظلها فوق البطاح والويل يغفر شدقه متنمرا في كل ساح ماذا يضمدون وكفهم سوداء توغل في الجراح ؟
في حين يتساءل استنكاريا فانه يصر على رفض الظواهر ويمتاز هذا الرفض برصيد جماعي فهو حاسم يستمد الشاعر من رفض أهل كفر قاسم بيع شهدائهم بالترك كما يقول توفيق زياد ريبورتاجه العربي ولو مر ثمان أو عشرون عاما
وإذا كان شيء لا يستطيع ان يمحو صورة المأساة م الذهن فان ذلك يرجع إلى وحشية المجزرة حيث يستغل القوي قوته في قتل غيره حتى ولو كان الغير في منتهى الضعف اصغر يستجدى لقاء المقبرة :
كتل من الأشلاء فاعرة الدماء ... مغفرة متوثبات كالطيور ..ذبيحة ... متعثرة
تنزو وتهموى في ارتعاش الحشرجات . زمجرة
ونخور واهنة على صدر الطريق مبعثرة
تتشنج الأجساد جامحة ... نصول متكسرة
فيدكها الموت الزؤام على التراب مكسرة
صفراء تقبض كفها في صدره مستنكرة وتغيم أعينها وتستجدي لقاء المقبرة
ان هذا العنصر المأساوي عام ويكاد يكون مجردا في الغالب يصور الشاعر فيه ذبح الطيور على صدور الطرق واذا كان هذا البعد ضاريا فإن الشاعر يحي بأنه من لقاء أخر يعمق من هذا البعد ويجسد التفاصيل الدقيقة وهكذا فإنه يلجأ إلى إبراز تفاصيل المجزرة بما تحمله من أنين واستنجاد ضارع بلا طائل ويتحدث عن الخمسين ثغرا والمائة من القبضات والمائة الأخرى من المقل الذبيحة التي تتعلق بالسماء وفوق ارض الشوارع ومع ذلك فلا يستجاب لها دعاء أن هذا التزاوج بين الذهني والمجد هو النغمة التي يعزف عليها حنا أبو حنا ويبرز من خلالها طبيعة الصراع غير المتكافئ بين البراءة الطفولية والشر المتوحش الذي لا يتورع عن ارتكاب أفظع الجرائم بالرغم من الذهول الذي:
يشنج الأفق والذي يجعله يعمى عن التفريق بين الطفل والمرأة
وجحيم حسرجه مروعه يهدر في العراء يحبو أمين الطفل فيه بين أعوال النساء
تتزاحم الأنات فيه كليله نحـــــــو العطاء والأفق شنجه الذهول وهو ذبح الأبرياء
ولعله من الواضح هنا أن الشاعر يستلهم مفهومه للرجولة وهو انه إذا كان للرجل أن يقاتل الرجال وإلا تمتد يده الى العجزة من الأطفال والنساء وهذه مفاهيم عربية ووجهة نظر عربية متأصلة في الحنايا العربية منذ أقدم العصور وإذا كان يعيب هذا الانتقاء أنه يكتفي بالأطفال والنساء دون الرجال فأنه يقصد إلى تأليب الرأي العام ضد هذه الوحشية والاتكاء على الأبرياء استصراخ لضمير الإنسان العربي الذي تعود على مناصرة الضعيف والدفاع عنه عبر امتداد الأزمنة ولينطلق بعد ذلك الى ترسيخ همجية المعتدين في خطوط فوران الدم العربي
من أي طين أسس جبلت قلوب الغادرين
أعد بها الديدان .. من مستنقع اللوم الرمير
تتعفن الأحفاد والأنام فيها .. والجنون سكرت على نغم الأنين وولات الثاكلين
تلهو بدحرجة الجسوم غريقه بدم الوتين .
فكلها أخر الدحرج بالشمال وباليمين وبديع أنباء الحصاد تزفها الأخرين
في بهجة الظهر السحور وبدبره السم الرزين .
وهذا التصوير يعتمد على استنكار شديد للفظاظة التي يعاني منها الإنسان ف(ي الحياة والممات .. ان الموت نفسه لم يمنح القتلى الفرصة ليتحول الى القبور في منظور إنساني يصون شرف الموت وأنها مسح السفاحين الفرصة لكي ينكلوا بالجثث ويلهون بها في وقاحة عارية وإذا هذه اللقطة ظاهرة مميزة في تصوير شعراء الأرض المحتلة للمجزرة فإن حنا ابو الحنا ينفعل بها الى أقصى مدى ويرتاد بها المجهول ويستكنهه بما يحتويه من مجردات تؤكد جميعها أن هؤلاء القتلة يخضبون الدم بالأكاذيب الملفقة والانتصارات الكاذبة ويذيعونها في لهجة الظفر من هنا جاءت القساوة وأضافت لحبر المأساة مدادا أحمر قانيا يؤكد أنهم من نسل الوحوش والإجرام ولا يمنون بصله الإنسان لأن الإنسان مهما توحش فأنه لاينكسر على نعم الأنين وولولات التاكلين حتى ينفعل الشاعر ويكتب بدمه
سل منجم الإجرام من أي المعادن يصـــــهرون
أسأل وحوش الغاب من مأوى ضمير الحادمين
ان غياب الضمير امر حتمي لأنه منقود و إذا كان فاقد الشيء لا يعطيه فإن موت الضمير مأياة دامية وحدة ، وحيثما يفقد الحاكمون ضمائرهم ويجهرون على الأبرياء في وحشية دموية فإن المأساة تصل الى دار منها وترسم صورة تراجيدية لدموية المذبحة مما يصعب النسيان والتعازي
كيف العراء وكيف يسلوا الويل شعب ثاكل
عصفت بروحه الخطوب وصارعته نوازل
ان الإنسان لا يمكن أن ينسى الأمة بسهولة لأنه لا يستطيع أن يتخلى عن حركته بالرغم مما قد يلفه من سكون بل يظل يحمل الجراح على اكفه يصمد أمام النوازل
مازال يحمل جرحه في صدره ويطاور وتسير في دروب الدماء خطاه غوائل نبتت كنياب الوحوش سوسة ونضال إذا الصوف على الرقاب معاول ومناجل
والمعاول والمناجل رمز لكل القيود التي تجد من الوقوف ضد الهتروبربرية اجتثاث النواجذ الإنساني على الأرض وإذ كان الإنسان ملقيا في سود ( النازية ) فإنه يبغي دائما على اتصال مع الحياة لانه يجرب الحياة بالرغم مما فيها من الظلال ....... و بالرغم من انتظار .... في بعض الأحيان فالنار و الحديد لا يمكن ان تكبلا في الإنسان الحب للحياة و الحرص عليها من حيث كونها هي الجوهر وهي الاصل في التواجد الحقيقي و الأمثل .... الأمل – مادامت كائنة – على التعبير الداخلي و قلب القواعد و الأنظمة التي تعل من انطلاق الإنسان نحو تحطيم كل الحواجز و الأنظمة التي تفوق صياغة الإنسان الداخله ولالخارجه في نظام اجتماعي يقصد إلى الإرتفاع بالقيمة الإنسانية في مضمونها الأصيل
وهكذا كان من الصعب ان تتعرى كفر قاسم بمكان الأطراف من خريطة الوجوةد الواقعي ومن اعماق هذا الرفض للعراء برز الدعوة التكاتف والتكامل والإستيقاظ من اليوم الرهيب والتحفز امام الخطر الداهم كالوباء .
كيف العزاء ولم تزل ملء الدروب حبائل
وتنوء بالغدر الوبيل مناكب وكواهل ان السبيل إلى العزاء تكاتف وتكافل
ونداء أرواح الضحايا ( فلهيب العاقل )
هكذا الشاعر من الماضي حاضرا مستمرا ليؤسف به الوجدان المتلقي فلا يعيش الحاضر منفصلا عن الماضي ولايعيش الماضي منفصلا عن الحاضر لأن الماضي والحاضر والمستقبل جديله واحدة وانه اذا كان لابد من التطلع إلى المستقبل فانه من الضروري استلهام الماضي والتعرف عليه من خلال معطياته السلبية في ظل الإرهاب والترصد هذا المعنى الموضوعي يسكب ممارسة ذهنية عبر امتدادات الواقع الخارجي فاذا كان العدو يشحذ السلاح دائما فإن هناك استمرار للمكائد والاحابيل التي تصطهاد لإنسان العربي في فلسطين المحتلة ومادامت هذه الحفر تثقب الطرق وتلتف بالغدر فان الواجب يقتضي تذكر الضحايا كبرهان قاطع على الخطر الماحق الذي يتهددهم والذي يجعل من الضحايا نفسها نذير مدويا بالنداء واليقظة ومن ثم الوقوف صفا واحدا من اجل كتابة الحياة على الشوراع الغدر وأرصفة المآسي الدامية
:19:
اذا كانت سرعة استجابة توفيق زياد للمجزرة لقطة ايجابية تضاف إلى رصيده النضالي فإنها رتقت بعض الآثار على البناء الشعري ومن ثم برزت المباشرة أحيانا وظهر الصراخ في بعض الأحيان وإذا كان من عادة الاستجابة الشعرية السريعة ان تترك بعض توفيق زياد قد حاول ان يرحم بصماتها على البناء الفني فان هذه التنبؤات بخلفية إنسانية شاملة استطاعت ان تنفذ قصيدته من الوقوع في الإملال ولقد نجح توفيق زياد تقديم رؤية شاملة للمجزرة وذلك عن طريق المزج بين اليقظة العامة وبين التجربة الشخصية وهكذا تتخلص القصية من مناخ الخاص بل انها تستعير من ( المأساة ) بعا جديدا يتزاوج فيه الداخل والخارج والفن والتقدير ومن ثم استطاعت القصيدة ان تشجع بمختلف الإضاءات تؤدي وضعيتها الرئيسية في التوغل عبر الأشعة الإنسانية لمناصرة قضايا الشعوب .
وإذا كان توفيق زياد في هذه القصيدة لم يتلخص تماما من بعض المزالق فإن ذلك راجع إلى عوامل متداخلة كانت اكبر منه بل أقوال انها ابر من ان يخلص منها الشاعر ما في مثل ظروف توفيق زياد ، فقد كان ثقل المأساة أضخم من احتمال الشاعر وقد كانت وطأة المجزرة ثقيلة على وجدانه الجريح وهذا ما قيد حركة الشاعر فلم يستطع الا ان يعبر عن المستوى الواقعي بتلك الصورة كما ان المرحلة الفنية التي عاشها زياد لعبت دورا كبيرا في فنه آنذاك فقد كان في حداثته تجربته الشعرية وهي تجربة تحمل كثيرا من الصراخ ولا زعقي كشان جميع التجارب الأولى وقد استطاع ان يجتازها في قصائده اللاحقة وليقدم لنا بالصورة الفنية والفكر الموضوعي نتاجا اكثر فنية وأكثر عمقا تأثيرا في قارئه على ان قصيدة توفيق زياد قد أتت أكلها وانبتت تطبيقات شعرية أخرى اكثر حظا في البناء الفني وبهذا يكون زياد قد نجح في تجسيم القضية وجعل غيره يشعر بضرورة الاهتمام بالمجزرة وانه من الواجب ان يشارك فيها كل شاعر من شعراء الأرض المحتلة ويضيف لبنة جديدة في تصوير درامية المأساة وكشف العنصرية الإسرائيلية .
وربما كان حنا أبو حنا ابرز ما استوحى والتي استطاعت ان تصوغ من القضية تجربة فنية موفقة في المرحلة الثانية بعد سنتين من حدوث المجزرة ومن الطبيعي أن ينجح حنا أبو حنا لن المحنة الدامية كانت قد استوطنت أنفس أشعراء بعد ما هدأت أثرها الخارجة لتترك في داخل الجميع أتت مناجيا يبحث ، عن معادل ففي ، ولهذا كان حنا ابو حنا ينضج مشاعره على نار هادئة ليبدأ المرحلة التالية في التعبير عن المأساة وتمتاز هذ المرحلة بأنها همزة وصل تربط بين مرحلتين سابقة ولاحقة تأخذ من الأولى تجسيد المجزرة وتعطيها ثوبا فنيا طبيعيا يوصلها إلى تخوم المرحلة الثالثة مرحلة انصهار التركيب الفني وحماة المجزرة في قصيدة رائعة
والحق ان ابو حنا قد صاغ قصيدته في صياغة فنية مختلفة تعتمد على نظام المقاطع المختلفة القوافي ونظام البحر التقليدي وبمعنى ادق استطاع ان يوجد بين البناء الفني وبين الانفعالات المرتسمة غفي وجدانه تتنفذ قصيدته إلى جوهر عميق يجعل من الفن بديلا للصراخ لابصفته وجها أخر للعملة وإنما بصفته بعدا أصيلا في العمل الفني
تلك هي الميزة الأولى التي تلتصق بوجدان القارئ لأول وهلة وهو امام هذه القصيدة وخاصة وان الشاعر قد استلهم جوهر القضية واستطاع ان يصوغه في فنية جيدة يتعانق فيها الشكل والمضمون ويتجه فيها الفنان إلى الفكرا لجدلي الذي يمنح قصيدته ثراء حسيبا الثراء الذي يجب توافره في العمل الفني ولكنه لا يجعل من الجدل غرضه الرئيسي فينسى الواقع رؤية كابوسيه بل هو يجادل حركة الواقع الخارجي ليخرج بعد ذلك بموقف ثابت ورؤية عميقة تناقش في موضوعية موضوعية وتتأمل في غياب مطلق عن الروح العنصرية :
ضمدوا الجراح على الصديد فكيف تلتئم الجراح
فإذا احنا للضماد تغلغل العفن المتاح وتنفس الغدر المقتنع بالعدالة وأسر تاج
وتناومت ( بعض الضمائر ) عند اعتاب الكفاح
وتخطر السفاح في برد العدالة والصلاح
والعدالة الغادرة هي المحاكة الصورية والسريعة التي جرت غداة المجزرة والتي هدفت ذر الرماد في العيون اثر من محاولتها الانتصار للعدالة الحقيقية ومعاقبة المجرم بما يستحق آثمة ان الأحكام التي صدرت بحق المتهمين احام خفيفة تقل بكثير عن بشاعة الجرم وجسامة القضية ، حتى الأربعة عشر سنة التي حكم بها على الكو مندان ملكي لا تعدوا ان تكون تلفيقا شكليا اكثر منه عقابا خاصة بعدما خففت إلى عشر سنوات فيما بعد ان هذه المحاولة الهشة لا تهدف إلا إلى إسدال الستار على المأساة بالإضافة إلى ان التعويض الذي حكمت به إلى اهل الضحايا بمثابة تحايل على عيون اهل كفر قاسم والدعاية الخارجية والتهرب من المسؤولية إزاء الإبادة الوحشية ان الحكم بالتعويض وبالإدانة حكم سطحي لا يشفي الجراح وانما يزيد من تراكم الصدى عليها وبالتالي يصعب قبول التضمير بالكيفية التي جرت فيها تضميد يقصد إلى التعفن أكثر مما يقصد إلى البراءة كما ان الإحكام بالصورة التي رأيناها تعمق من توغل هذه الجراح وتفشيها عبر الجسم مما يجعل من المستحيل ان تبرأ الجراح وانما يجعلها تفر باستمرار لتقضي في النهاية على صلابة الجسم ومن هذا المنطلق يجب التحفيز والوعي التام والنفاذ من خلال هذه الغلالة الخفيفة إلى الجوهر الأصيل وإلا بقينا عند اعتاب الكفاح كما فعل البعض ان المهم ان نستبطن الأغوار ولا نقف عند المرتبات المخادعة وإلا كان ذلك دفعا للغدر كي يستريح بعدالته المزيفة ومن ثم يستمرئ اللعبة ويواصل التحضر ببرد الصلاح في الوقت الذي يمتلئ فيه بالسقوط في براثن الشر خلصة وان المحاكمة كانت قد اكتفت بالأطراف وتغافلت ع الرأس المدبر لهذه المجزرة
قد حاكموا الحصاد اما سيد الحقل المباح
مازال يستوفي الحصاد و دأبه شحذ السلاح
إن إسرائيل لم تحاكم المجرم الحقيقي وإنما زاحمت بعض المجرمين الثانويين هي بذلك تزيف القضية وتوهم بأن الجريمة قد نالت عقابها ولكنها تنسى الحقيقة وتظهر يوما وان المجريات يحتويها يوما الفهم الواضح وإذا كان المجرم ذكيا وهما بلغ ذكاؤه من الحد والتفطن فانه ينسى في غمرة انهماكه بعضا من الآثار وهذه الآثار هي التي تقود إلى المقصلة في أكثر الأحيان ان المحكمة قد أدانت ثمانية وبرأت ثلاثة بالرغم من سعر التراب الذي حكمت به عليهم إلا أنها تناسب عامدة بأن الذين شاركوا في المجزرة اكثر من احد عشر تهما وهكذا يصل الشاعر إلى دحض الإيهام العدالة المزيفة ويثبت بأنه لو صح ما أعلنته السلطات في مسرحيتها البشعة لكانت قد حاكمت الرأس واستأصلت شافته ولكن السلطات هي المتهم الأول الذي دأب على شحذ السلاح ومع ذلك فإنها – بالرغم من كل الظواهر – لن تستطيع ان تقطب الجروح خاصة وان اكفها السرداء تفنن اشداقها متنمرة في كل ساح :
عامان مرا والجريمة ظلها فوق البطاح والويل يغفر شدقه متنمرا في كل ساح ماذا يضمدون وكفهم سوداء توغل في الجراح ؟
في حين يتساءل استنكاريا فانه يصر على رفض الظواهر ويمتاز هذا الرفض برصيد جماعي فهو حاسم يستمد الشاعر من رفض أهل كفر قاسم بيع شهدائهم بالترك كما يقول توفيق زياد ريبورتاجه العربي ولو مر ثمان أو عشرون عاما
وإذا كان شيء لا يستطيع ان يمحو صورة المأساة م الذهن فان ذلك يرجع إلى وحشية المجزرة حيث يستغل القوي قوته في قتل غيره حتى ولو كان الغير في منتهى الضعف اصغر يستجدى لقاء المقبرة :
كتل من الأشلاء فاعرة الدماء ... مغفرة متوثبات كالطيور ..ذبيحة ... متعثرة
تنزو وتهموى في ارتعاش الحشرجات . زمجرة
ونخور واهنة على صدر الطريق مبعثرة
تتشنج الأجساد جامحة ... نصول متكسرة
فيدكها الموت الزؤام على التراب مكسرة
صفراء تقبض كفها في صدره مستنكرة وتغيم أعينها وتستجدي لقاء المقبرة
ان هذا العنصر المأساوي عام ويكاد يكون مجردا في الغالب يصور الشاعر فيه ذبح الطيور على صدور الطرق واذا كان هذا البعد ضاريا فإن الشاعر يحي بأنه من لقاء أخر يعمق من هذا البعد ويجسد التفاصيل الدقيقة وهكذا فإنه يلجأ إلى إبراز تفاصيل المجزرة بما تحمله من أنين واستنجاد ضارع بلا طائل ويتحدث عن الخمسين ثغرا والمائة من القبضات والمائة الأخرى من المقل الذبيحة التي تتعلق بالسماء وفوق ارض الشوارع ومع ذلك فلا يستجاب لها دعاء أن هذا التزاوج بين الذهني والمجد هو النغمة التي يعزف عليها حنا أبو حنا ويبرز من خلالها طبيعة الصراع غير المتكافئ بين البراءة الطفولية والشر المتوحش الذي لا يتورع عن ارتكاب أفظع الجرائم بالرغم من الذهول الذي:
يشنج الأفق والذي يجعله يعمى عن التفريق بين الطفل والمرأة
وجحيم حسرجه مروعه يهدر في العراء يحبو أمين الطفل فيه بين أعوال النساء
تتزاحم الأنات فيه كليله نحـــــــو العطاء والأفق شنجه الذهول وهو ذبح الأبرياء
ولعله من الواضح هنا أن الشاعر يستلهم مفهومه للرجولة وهو انه إذا كان للرجل أن يقاتل الرجال وإلا تمتد يده الى العجزة من الأطفال والنساء وهذه مفاهيم عربية ووجهة نظر عربية متأصلة في الحنايا العربية منذ أقدم العصور وإذا كان يعيب هذا الانتقاء أنه يكتفي بالأطفال والنساء دون الرجال فأنه يقصد إلى تأليب الرأي العام ضد هذه الوحشية والاتكاء على الأبرياء استصراخ لضمير الإنسان العربي الذي تعود على مناصرة الضعيف والدفاع عنه عبر امتداد الأزمنة ولينطلق بعد ذلك الى ترسيخ همجية المعتدين في خطوط فوران الدم العربي
من أي طين أسس جبلت قلوب الغادرين
أعد بها الديدان .. من مستنقع اللوم الرمير
تتعفن الأحفاد والأنام فيها .. والجنون سكرت على نغم الأنين وولات الثاكلين
تلهو بدحرجة الجسوم غريقه بدم الوتين .
فكلها أخر الدحرج بالشمال وباليمين وبديع أنباء الحصاد تزفها الأخرين
في بهجة الظهر السحور وبدبره السم الرزين .
وهذا التصوير يعتمد على استنكار شديد للفظاظة التي يعاني منها الإنسان ف(ي الحياة والممات .. ان الموت نفسه لم يمنح القتلى الفرصة ليتحول الى القبور في منظور إنساني يصون شرف الموت وأنها مسح السفاحين الفرصة لكي ينكلوا بالجثث ويلهون بها في وقاحة عارية وإذا هذه اللقطة ظاهرة مميزة في تصوير شعراء الأرض المحتلة للمجزرة فإن حنا ابو الحنا ينفعل بها الى أقصى مدى ويرتاد بها المجهول ويستكنهه بما يحتويه من مجردات تؤكد جميعها أن هؤلاء القتلة يخضبون الدم بالأكاذيب الملفقة والانتصارات الكاذبة ويذيعونها في لهجة الظفر من هنا جاءت القساوة وأضافت لحبر المأساة مدادا أحمر قانيا يؤكد أنهم من نسل الوحوش والإجرام ولا يمنون بصله الإنسان لأن الإنسان مهما توحش فأنه لاينكسر على نعم الأنين وولولات التاكلين حتى ينفعل الشاعر ويكتب بدمه
سل منجم الإجرام من أي المعادن يصـــــهرون
أسأل وحوش الغاب من مأوى ضمير الحادمين
ان غياب الضمير امر حتمي لأنه منقود و إذا كان فاقد الشيء لا يعطيه فإن موت الضمير مأياة دامية وحدة ، وحيثما يفقد الحاكمون ضمائرهم ويجهرون على الأبرياء في وحشية دموية فإن المأساة تصل الى دار منها وترسم صورة تراجيدية لدموية المذبحة مما يصعب النسيان والتعازي
كيف العراء وكيف يسلوا الويل شعب ثاكل
عصفت بروحه الخطوب وصارعته نوازل
ان الإنسان لا يمكن أن ينسى الأمة بسهولة لأنه لا يستطيع أن يتخلى عن حركته بالرغم مما قد يلفه من سكون بل يظل يحمل الجراح على اكفه يصمد أمام النوازل
مازال يحمل جرحه في صدره ويطاور وتسير في دروب الدماء خطاه غوائل نبتت كنياب الوحوش سوسة ونضال إذا الصوف على الرقاب معاول ومناجل
والمعاول والمناجل رمز لكل القيود التي تجد من الوقوف ضد الهتروبربرية اجتثاث النواجذ الإنساني على الأرض وإذ كان الإنسان ملقيا في سود ( النازية ) فإنه يبغي دائما على اتصال مع الحياة لانه يجرب الحياة بالرغم مما فيها من الظلال ....... و بالرغم من انتظار .... في بعض الأحيان فالنار و الحديد لا يمكن ان تكبلا في الإنسان الحب للحياة و الحرص عليها من حيث كونها هي الجوهر وهي الاصل في التواجد الحقيقي و الأمثل .... الأمل – مادامت كائنة – على التعبير الداخلي و قلب القواعد و الأنظمة التي تعل من انطلاق الإنسان نحو تحطيم كل الحواجز و الأنظمة التي تفوق صياغة الإنسان الداخله ولالخارجه في نظام اجتماعي يقصد إلى الإرتفاع بالقيمة الإنسانية في مضمونها الأصيل
وهكذا كان من الصعب ان تتعرى كفر قاسم بمكان الأطراف من خريطة الوجوةد الواقعي ومن اعماق هذا الرفض للعراء برز الدعوة التكاتف والتكامل والإستيقاظ من اليوم الرهيب والتحفز امام الخطر الداهم كالوباء .
كيف العزاء ولم تزل ملء الدروب حبائل
وتنوء بالغدر الوبيل مناكب وكواهل ان السبيل إلى العزاء تكاتف وتكافل
ونداء أرواح الضحايا ( فلهيب العاقل )
هكذا الشاعر من الماضي حاضرا مستمرا ليؤسف به الوجدان المتلقي فلا يعيش الحاضر منفصلا عن الماضي ولايعيش الماضي منفصلا عن الحاضر لأن الماضي والحاضر والمستقبل جديله واحدة وانه اذا كان لابد من التطلع إلى المستقبل فانه من الضروري استلهام الماضي والتعرف عليه من خلال معطياته السلبية في ظل الإرهاب والترصد هذا المعنى الموضوعي يسكب ممارسة ذهنية عبر امتدادات الواقع الخارجي فاذا كان العدو يشحذ السلاح دائما فإن هناك استمرار للمكائد والاحابيل التي تصطهاد لإنسان العربي في فلسطين المحتلة ومادامت هذه الحفر تثقب الطرق وتلتف بالغدر فان الواجب يقتضي تذكر الضحايا كبرهان قاطع على الخطر الماحق الذي يتهددهم والذي يجعل من الضحايا نفسها نذير مدويا بالنداء واليقظة ومن ثم الوقوف صفا واحدا من اجل كتابة الحياة على الشوراع الغدر وأرصفة المآسي الدامية
:19: