عقبة القسنطيني
2012-08-28, 11:29
السعادة
و هنا تنفس الشيخ الصعداء ثم قال : استطيع أن أقول لك يا بني إن السعادة ينبوع يتفجر من القلب ، لا غيث يهطل من السماء ، و أن النفس الكريمة الراضية البريئة من أدران الرذائل و أقذارها ، و مطامع الحياة و شهواتها ، سعيدة حيثما حلت ، و أنى وجدت : في القصر و في الكوخ ، في المدينة و في القرية ، في الأنس و في الوحشة ، في المجتمع و في العزلة ، بين القصور و الدور ، و بين الآكام و الصخور فمن أراد السعادة فلا يسال عنها المال و النسب ، و بين الفضة و الذهب ، و القصور و البساتين ، و الأرواح و الرياحين ، بل يسال عنها نفسه التي بين جنبيه فهو ينبوع سعادته و هنائه إن شاء ، و مصدر شقائه و بلائه إن أراد ، و ما هذه الابتسامات التي نراها تتلألأ في أفواه الفقراء و المساكين ، و المحزونين و المتألمين لأنهم سعداء في عيشهم ، بل لأنهم سعداء في أنفسهم ، و ما هذه الزفرات التي نسمعها تتصاعد في صدور الأغنياء و الأثرياء ، و أصحاب العظمة و الجاه ، لأنهم أشقياء في عيشهم بل لأنهم أشقياء في أنفسهم ، و ما كدر صفاء هذه النفوس و أزعج سكونها و قرارها ، و سلبها راحتها و هناءها مثل عاطفة البغض ، و لا أنار صفحتها و حلى ظلمتها مثل عاطفة الحب ، فأشقى الناس جميعا المبغضون الذين يضمرون الشر للعالم ، فيجزيهم العالم شرا بشر ، و أسعدهم جميعا المحبون الذين يحبون الناس و يمنحونهم ودهم و صفاءهم ، فيمنحهم الناس من بنات قلوبهم مثل ما منحوهم.
و كذلك استطاعت تلك الأسرة الفقيرة المسكينة أن تكون سعيدة هانئة على فقرها و جعجعة المصائب بها ، فقد كانت تحمل بين جنوبها نفوسا طاهرة شريفة لا تضمر حقدا ، و لا تعرف غلا ، فأحبت القريب و البعيد ، و المحسن و المسيء ، و عطفت على الناس جميعا ، من تمت إليه بصلة ، و من لا تمت إليه بشيء.
و لم تحقد على الناس أو تضمر لهم في نفسها شرا ، و ما لها إلى الناس حاجة و لا رأيا لها في مطالبتهم بشيء مما في أيديهم من مال أو جاه ، أو قوة أو سلطان ، فقد قنعت من عيشها بما قسم الله لها ، و لم تطلب مزيدا ، و رضيت من حياتها بهذه العلالة القليلة التي تتعلل بها ، فأراحت نفسها من هموم المطامع و متاعبها.
و كانت أحاديثها التي تجري بينها أحاديث طاهرة بريئة لا تطغى فيها الألسنة و الأفكار ، و لا تتناول شيئا من شؤون الناس خاصها أو عامها و الغيبة رسول الشر بين البشر ، بل هي أساس الشرور جميعها قديمها و حديثها ، لان المرء إذا اعتقد من طريقها الشر في صديقه أو عشيره و ملكته فكرة الظن به ابغضه و اجتواه ، و حذره و اتقاه و كان لابد له من إحدى الاثنتين : إما أن يصارحه ببغضه إياه ، فتصبح حياته معه حياة نكدة لا نهاية لهمومها و آلامها ، أو يماذقه و يداوره ، فيصبح رجلا منافقا كذابا ، و خير له من هذا و ذاك ألا يسمع للناس خيرا أو شرا.
نعم إنها لن تكن تعتمد في حديثها على العلم و التاريخ كما يعتمد الناس في مجتمعاتهم ، و لا كانت محاضراتها حافلة بالشواهد و الأمثال و العظات و العبر ، و المقارنات و الموازنات ، و لكنها كانت لذيذة شهية رقيقة مستملحة ، لأنها كانت تستمد جمالها و رونقها من كتاب الطبيعة المفتوح أمامها ، و كتاب الطبيعة هو الكتاب المشرق المنير الذي لا يقبل تأويلا ، و لا يحتاج إلى تفسير ، و الذي يرى فيه قارئه الحياة كما خلقها الله ، فلا حاجة به إلى من يدله عليه ، أو يرشده إليه.
و ما هي إلا أيام قلائل حتى انتشر لتلك الأسرة الكريمة بين سكان تلك الجزيرة ذكر عطر ، فاخذ الناس يتحدثون بأدبها و لطفها ، و مروءتها و كرمها ، و أياديها الظاهرة و الخفية و رحمتها الخاصة و العامة و إن لم يعرفوا لها اسما و لا لقبا فإذا سال السائل من السابلة أو الطارئين من هم ؟ كان جواب المجيب : إنهم قوم طيبون و كفى ، كشجرات البنفسج المختبئة بين لفائف الأدغال ينشق الناس طيبها و يحمدون عرفها ، و إن لم يعرفوا مكانها.
و هنا تنفس الشيخ الصعداء ثم قال : استطيع أن أقول لك يا بني إن السعادة ينبوع يتفجر من القلب ، لا غيث يهطل من السماء ، و أن النفس الكريمة الراضية البريئة من أدران الرذائل و أقذارها ، و مطامع الحياة و شهواتها ، سعيدة حيثما حلت ، و أنى وجدت : في القصر و في الكوخ ، في المدينة و في القرية ، في الأنس و في الوحشة ، في المجتمع و في العزلة ، بين القصور و الدور ، و بين الآكام و الصخور فمن أراد السعادة فلا يسال عنها المال و النسب ، و بين الفضة و الذهب ، و القصور و البساتين ، و الأرواح و الرياحين ، بل يسال عنها نفسه التي بين جنبيه فهو ينبوع سعادته و هنائه إن شاء ، و مصدر شقائه و بلائه إن أراد ، و ما هذه الابتسامات التي نراها تتلألأ في أفواه الفقراء و المساكين ، و المحزونين و المتألمين لأنهم سعداء في عيشهم ، بل لأنهم سعداء في أنفسهم ، و ما هذه الزفرات التي نسمعها تتصاعد في صدور الأغنياء و الأثرياء ، و أصحاب العظمة و الجاه ، لأنهم أشقياء في عيشهم بل لأنهم أشقياء في أنفسهم ، و ما كدر صفاء هذه النفوس و أزعج سكونها و قرارها ، و سلبها راحتها و هناءها مثل عاطفة البغض ، و لا أنار صفحتها و حلى ظلمتها مثل عاطفة الحب ، فأشقى الناس جميعا المبغضون الذين يضمرون الشر للعالم ، فيجزيهم العالم شرا بشر ، و أسعدهم جميعا المحبون الذين يحبون الناس و يمنحونهم ودهم و صفاءهم ، فيمنحهم الناس من بنات قلوبهم مثل ما منحوهم.
و كذلك استطاعت تلك الأسرة الفقيرة المسكينة أن تكون سعيدة هانئة على فقرها و جعجعة المصائب بها ، فقد كانت تحمل بين جنوبها نفوسا طاهرة شريفة لا تضمر حقدا ، و لا تعرف غلا ، فأحبت القريب و البعيد ، و المحسن و المسيء ، و عطفت على الناس جميعا ، من تمت إليه بصلة ، و من لا تمت إليه بشيء.
و لم تحقد على الناس أو تضمر لهم في نفسها شرا ، و ما لها إلى الناس حاجة و لا رأيا لها في مطالبتهم بشيء مما في أيديهم من مال أو جاه ، أو قوة أو سلطان ، فقد قنعت من عيشها بما قسم الله لها ، و لم تطلب مزيدا ، و رضيت من حياتها بهذه العلالة القليلة التي تتعلل بها ، فأراحت نفسها من هموم المطامع و متاعبها.
و كانت أحاديثها التي تجري بينها أحاديث طاهرة بريئة لا تطغى فيها الألسنة و الأفكار ، و لا تتناول شيئا من شؤون الناس خاصها أو عامها و الغيبة رسول الشر بين البشر ، بل هي أساس الشرور جميعها قديمها و حديثها ، لان المرء إذا اعتقد من طريقها الشر في صديقه أو عشيره و ملكته فكرة الظن به ابغضه و اجتواه ، و حذره و اتقاه و كان لابد له من إحدى الاثنتين : إما أن يصارحه ببغضه إياه ، فتصبح حياته معه حياة نكدة لا نهاية لهمومها و آلامها ، أو يماذقه و يداوره ، فيصبح رجلا منافقا كذابا ، و خير له من هذا و ذاك ألا يسمع للناس خيرا أو شرا.
نعم إنها لن تكن تعتمد في حديثها على العلم و التاريخ كما يعتمد الناس في مجتمعاتهم ، و لا كانت محاضراتها حافلة بالشواهد و الأمثال و العظات و العبر ، و المقارنات و الموازنات ، و لكنها كانت لذيذة شهية رقيقة مستملحة ، لأنها كانت تستمد جمالها و رونقها من كتاب الطبيعة المفتوح أمامها ، و كتاب الطبيعة هو الكتاب المشرق المنير الذي لا يقبل تأويلا ، و لا يحتاج إلى تفسير ، و الذي يرى فيه قارئه الحياة كما خلقها الله ، فلا حاجة به إلى من يدله عليه ، أو يرشده إليه.
و ما هي إلا أيام قلائل حتى انتشر لتلك الأسرة الكريمة بين سكان تلك الجزيرة ذكر عطر ، فاخذ الناس يتحدثون بأدبها و لطفها ، و مروءتها و كرمها ، و أياديها الظاهرة و الخفية و رحمتها الخاصة و العامة و إن لم يعرفوا لها اسما و لا لقبا فإذا سال السائل من السابلة أو الطارئين من هم ؟ كان جواب المجيب : إنهم قوم طيبون و كفى ، كشجرات البنفسج المختبئة بين لفائف الأدغال ينشق الناس طيبها و يحمدون عرفها ، و إن لم يعرفوا مكانها.