تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : العزاء


عقبة القسنطيني
2012-08-28, 11:26
العزاء

عادت هيلين إلى المزرعة و نفسها تسيل لوعة و أسى ، فما بلغت كوخها حتى ألقت بالكتاب على المنضدة و تهافتت على سريرها باكية منتحبة ، فهرعت إليها صديقتها تسألها ما شانها فأشارت إلى الكتاب و قالت : ها هي ذي خلاصة حياتي من أولها إلى آخرها ، و لم تكن مرغريت تحسن القراءة فاتتها بالكتاب فأنشأت تقرؤه عليها و فؤادها يتمزق لوعة و أسى ، فقاطعتها مرغريت و أقبلت عليها تقول لها : متى تخلى الله عنا يا هيلين فنلجأ إلى الناس في شؤوننا ، و نعتمد عليهم في رزقنا ، و نحن أغنياء الله عنهم بما هيا الله لنا من القوت في هذه الجنة الصغيرة التي نعيش فيها ، فما فينا من يشكو جوعا أو عطشا ، و لا من يمشي عاريا أو حافيا ، و لا من يبيت مغتما أم وحزونا فروحي عن نفسك ، فالله ارحم بك و بنا من الأقارب و الأصدقاء ، ثم عجزت عن امتلاك نفسها و متابعة حديثها ، فاختنق صوتها بالبكاء فتهافتت هيلين على عنقها و ضمتها إلى نفسها و ظلت تقول لها : آه يا صديقتي ! آه يا صديقتي.

و كانت فرجيني واقفة بجانبها فاثر في نفسها هذا المنظر المحزن ، فاستعبرت باكية ، و ظلت تتناول يد أمها مرة و يد مرغريت أخرى فتقبلهما و تبللهما بدموعها و تقول لهما أرجو أن لا يكون ذلك من اجلي ، فبكى لبكائها الزنجيان و كانا واقفين عند الباب و اشتد نحيبهما و نشيجهما ، أما بول فقد عصفت في رأسه عاصفة الغضب و ظل يضرب الأرض بقدميه و يشير بيديه متهددا متوعدا لا يعلم من يهدد ، و لا من يتوعد ، و لا على أي رأس من الرؤوس يرسل صاعقة غضبه ، لأنه لم يفهم مما كان شيئا ، فكان هذا المأتم الغريب في تلك الساعة الرهيبة مظهرا من مظاهر الإخلاص و الولاء بين قوم جمعتهم جامعة البؤس و الشقاء ، و وجدت بين قلوبهم الهموم و الآلام ، و اجتمعت القلوب على شيء هو اجمع لشماها و أوثق لرباطها من اجتماعها حول مواقف الهموم و الأحزان ، فسرى عن هيلين قليلا ، و ضمت بول و فرجيني و قالت لهما : أنكما ، و إن كنتما يا ولدي سبب أحزاني و آلامي ، و لكن الشقاء لم يأت منكما ، فلم يفهما شيئا مما تقول ، و لكنها علما بها قد هدأت و سكنت ، و أنها تبتسم لهما ، فاعتنقاها و قبلاها.

و ما لبثوا جميعا أن عادوا إلى سرورهم و غبطتهم و لعبهم و مرحهم.

و كانت تلك الحادثة أشبه شيء بسحابة اعترضت وجه الشمس ساعة ثم اضمحلت.