تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الشيخ


عقبة القسنطيني
2012-08-25, 11:17
الشيخ

كان يلذ لي أن اختلف إلى هذا المكان الجميل صباح مساء ، و أن أستريح إلى منظره الهادئ الساكن ، فاني لجالس ذات يوم على صخرة من صخوره العالية اقلب الطرف بين أرضه و سمائه ، و أفكر في شان هذين الكوخين الدارسين و فيما تنطق به آياتهما من العظات و العبر و أثارهما من الأحاديث و السير إذ مر بي شيخ هرم من سكان تلك الجزيرة قد نيف على السبعين من عمره ، يعتمد على عصا عجراء في يده و يلبس سراويل واسعة و صدارا ريفيا بسيطا ، و قبعة عريضة من الخوص كشأن تلك الأصقاع ، و له شعر ابيض مستطيل مسترسل على كتفيه ، و قد تلألأ وجهه الأبيض النحيف الضارب إلى السمرة بذلك النور الساطع الذي يتلألأ دائما في وجوه الريفيين الأتقياء نور البساطة و الطهارة ، و النبل و الشرف ، فأنست به و بمنظره الجميل الأنيق ، و بدأته بالتحية فرفع رأسه إلي متوسما و ألقى علي نظرة هادئة مطمئنة ، ثم رد تحيتي ردا جميلا ، و كأنما شعر لي بمثل الذي شعرت له به من العطف و الود فاقبل نحوي باسما متهللا ، و جلس على صخرة محاذية للصخرة التي اجلس عليها ، و ألقى عصاه تحت قدميه و وضع قبعته بجانبه ، فأقبلت عليه و قلت له : لعلك تعيش في هذه الجزيرة يا سيدي منذ زمن طويل ؟
قال : نعم طويت فيها رداء شبابي و ها أنا ذا اطوي فيها رداء شيخوختي ، و ستبرد عظامي غدا تحت صخورها و جنادلها.
قلت : هل لك أن تحدثني قليلا عن شان هذين الكوخين الدارسين ، و عمن كان يسكنهما قبل أن تعبث بهما يد البلى ، و تعصف بهما عواصف الدهر و أرزاؤه ؟ فوجم قليلا و ظل صامتا لا يقول شيئا ، و قد انتثرت على جبينه غمامة رقيقة من الهم و الاكتئاب ، ثم تنهد تنهيدة طويلة اختلجت لها أعضاؤه و قال :

نعم يا بني إن هذا الوادي الذي تراه اليوم خرابا يبابا لا يمر به المار إلا ليقف على ربوعه و أطلاله وقفة المتأمل المعتبر _ كان منذ عشرين عاما روضة غناء يعيش فيها أقوام سعداء بأخلاقهم و فضائلهم و ما كان يخطر ببالهم ، و لا ببال من يراهم أن مصيرهم سيكون هذا المصير الذي تراه اليوم ، و أن قصتهم لقصة مؤثرة تستثير الأشجان و تستذرف الدموع ، إلا أن أبطالها ليسوا ملوكا ، و لا قادة ، و لا من أصحاب القصور و الدور ، و الحدائق و البساتين ، و المسارح و الملاعب و الوقائع العظيمة ، و الحوادث الجسيمة ، كما هو شان أبطال الروايات التي تقرؤونها ، بل قوم فقراء مغمورين تقتحمهم العيون و تتخاطرهم الأنظار ، و من كان هذا شانهم لا يحفل بهم احد من الناس ، و لا يعنى بشيء من أخبارهم و تواريخهم ، لان الناس لا يستطيعون أن يفهموا السعادة من الطريق الذي ألفوه و اعتادوه ، فهم لا يصدقون أن قوما فقراء متقشفين يعيشون في ارض جرداء ، منقطعة عن العالم بأجمعه قد استطاعوا أن يكونوا سعداء من طريقة الفضيلة و البساطة.

فأكبرت الرجل في نفسي و أعظمته و علمت انه يحمل بين جنبيه نفسا كبيرة سامية تختلف صورتها عن صورة هذه الأسمال الحقيرة التي يلبسها ، و قلت له : نعم يا سيدي إنني اعترف لك أننا معشر الأوروبيين لا نفهم معنى السعادة إلا ذلك الذي تقوله ، و لا نعجب بالقصة إلا إذا كان أبطالها أولئك الملوك الظلمة ، و القواد السفاكين ، و لكننا لا نستطيع أن نصغي في بعض الأحايين بلذة و سرور إلى أحاديث الفقراء و البائسين ، و مهما بلغت القسوة بالقلب الإنساني و غمرت الشهوات شعوره و وجدانه ، فلا بد أن تهب عليه من حين إلى حين نفحة من نفحات الفطرة الإلهية تنعشه و توقظ شعوره ، فيستطيع أن يعود إلى نفسه قليلا ، و أن يفهم أن ما في العالم صنوفا من السعادة التي يعرفها و يألفها ، و ربما أكبرها و أعظمها و تمناها لنفسه و ود لو طال استمتاعه بها.

فقص علي قصتك يا سيدي ، فما أنا لو علمت إلا رجل بائس مسكين قد أخطاته السعادة حيث طلبها من المدن و الحواضر بين الدور و القصور ، فلعله يجدها في القفر الموحش بين الهضاب و الصخور.

فوضع يده على جبينه المغضن كأنما هو يفتش في طياته عن بعض الذكريات القديمة ، أو يستجمع ما تفرق من شواردها.

و أنشأ يحدثني و يقول:

مدام دي لاتور...