** لا أحد **
2012-08-21, 17:09
مدخل متعذِّر :
!قبل ثلاثين عاما من هذا الجسدِ الذّلْق كنتُ طفلًا طريّا جدّا
لدرجةِِ أنّ القليل من النّاس كان يمكنهم أن يلمحوا ابتِسامتي الحافية على وجهي المُزرّق
فجأةً أجدُ نفسي رجلًا بطولِ أبٍ ، يَعولُ ثلاثةَ أبناءٍ دُفعةً واحدة ،
لِيُذكّرني كلّ ذلك بمسودّةِ طفولتي المكتظّة وكيفَ لمْ أكتُبها جمرًا وسماسِمْ !
ـــــــــــــــــــــ
بطاقةٌ بريدية لميناءٍ جميل في قلب مدينة "نيس" مكتوب على ظهرها بلغة لم أكن أقرؤها آنذاك
" on ne vous oublie pas, si loin que vous soyez, quelle que soit
la saison, mais on pense à vous d'une manière toute spéciale en cette grande occasion porteuse de si belles traditions."
كُنّا نجدها في صندوق الرسائل الخشبيّ المثبّت أعلى الباب أيّاما قبل كلّ عيد
معنى ذلك أنّنا سنصطفّ هذا المساء في فناء بيتنا الكبير وستقف أختي الكبرى "فتيحة" قُبالتنا لتقرأها علينا ثمّ يسألها أبي بعض الأسئلة ، تُجيب على بعضها بحماسةٍ و فرحة ، ثمّ تقطّب ما بين حاجبيها عند آخر سؤال يطرحُه أبي :
- ما قالَتشْ وقتاش يجيو" ؟
لم يكن يهمنا وقتاش يجيو نحن الصغار ولكن كان يبدو القلق واضحا و الحسرة على محيّا أبي .
كنتُ ألمحُ في عينيه بعض البريق وكان يصعُب على طفلٍ مثلي مرخّصٌ له أنْ يَصوم "نْهارْ بْنْهَار" أن يتبيّن معناه !
لَا أحد منّا كان ينام تلك الليلة كلّ واحدٍ كان ينزوي لفراشه ، يعانق وسادته ويفكّر ، ويحلم و ينتظر
غدا سيذهب أبي إلى مركز الطّرود بالبريد المركزي و سيعود بالحقيبة المليئة بالألعاب والملابس الجديدة
ماذا سيكون حظّي هذا العام
ربّما سترسلُ لي خالتي "فريحة" لُعبةً كبيرة بالبطاريات ، أو كُرةً من الجلد تختلف عن كلّ الكرات التّي يملكها أولاد الجيران " بالو ريغْلي" بشعار مونديال "مكسيكو" وعَلَم الجزائر مرسوم على إحدى المربّعات
"
ماذا عن لباسِ العيد و هل يمكن أنّها لا زالت تذكر مقاساتنا بعد كلّ هذا .. ليتها تعلم أنّي أكبَر قدٍّ وأطولَ قامة من العام الماضي ، وسروال القطيفة لا يزال جديدا ولكنّه " ضاق على خصري
و كم أتمنّى أن ترسلي لي يا خالتي سروال "ديلافي" هذه المرّة ، كي أبدو أكثر نضجا
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ياااآه على الصّْغُر
ويااآه على ذاكرتي التي لا تذَوّبُها السّنون
لَا زِلتُ أذكُرُ كلّ التفاصيل
لَا زِلتُ أذكُر أنّنا
كنا نضحك قبل حلول العيد بسبعة أيّام ثمّ نُتابع الضّحك لسبعة أيّامٍ أخرى دونَ أن نشعُرَ بالعطشْ .
وكُنّا نصنعُ تلك الفرحة بأنفسنا بالخَيط والأقفال و الصّوف والبالونات المنفوخةِ و الملوّنة والشرائط ، ونجري نجري نجري ، واالتّالي "عيشة" دون أن نحرصَ على نظافة ثيابنا الجديدة . ..
وكم كُنتُ أحبّ السّهر ليلة العيد حتّى الفجر لِأُشارك في طلاء البيت ولكن أبي دائما كان ينهرُني : "اسمع حطّ "البانسو ذاك وروح ترقد " !
لم يكن أبي يدري أنّني سأكبر بسرعة و سأذكر له أنّه منعني ذات يوم من المشاركة في طلاء البيت أو اختيار درجة اللون على الأقلّ ، وإلّا لكنتُ أحببتُهُ أكثر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
مخرج عسير
لا يُمكن أن أنسى خالتي "فريحة" ، ولَا تزالُ حكاياتها وذكرياتها العجيبة تملأ جهةٍ هامّةً من الذّاكرة ، ولَا زلتُ وأنا في الْأربعين أنتظرُ بطاقاتها كلّما اقترب العيد ، ولكن أين هي ؟
سؤالٌ لم يَكن يجدُ إلّا أجوبةَ تُقنِعُ الأطفال .
عندما كنتُ أسألُ أبي عن مكانها ، كان يقول أنّها وراء البحر ثُمّ يُطرق !
و أقولُ لابنتي فاطمة حين تسألني عنها الْآن أنّها وراء السّماء ثمَّ أُطرق !
هكذا اكتَفت خالتي فريحة و "قنعت" .. بالعيش في الوراءات !
ولكنّها تبقى دوما أمامنا ..
!قبل ثلاثين عاما من هذا الجسدِ الذّلْق كنتُ طفلًا طريّا جدّا
لدرجةِِ أنّ القليل من النّاس كان يمكنهم أن يلمحوا ابتِسامتي الحافية على وجهي المُزرّق
فجأةً أجدُ نفسي رجلًا بطولِ أبٍ ، يَعولُ ثلاثةَ أبناءٍ دُفعةً واحدة ،
لِيُذكّرني كلّ ذلك بمسودّةِ طفولتي المكتظّة وكيفَ لمْ أكتُبها جمرًا وسماسِمْ !
ـــــــــــــــــــــ
بطاقةٌ بريدية لميناءٍ جميل في قلب مدينة "نيس" مكتوب على ظهرها بلغة لم أكن أقرؤها آنذاك
" on ne vous oublie pas, si loin que vous soyez, quelle que soit
la saison, mais on pense à vous d'une manière toute spéciale en cette grande occasion porteuse de si belles traditions."
كُنّا نجدها في صندوق الرسائل الخشبيّ المثبّت أعلى الباب أيّاما قبل كلّ عيد
معنى ذلك أنّنا سنصطفّ هذا المساء في فناء بيتنا الكبير وستقف أختي الكبرى "فتيحة" قُبالتنا لتقرأها علينا ثمّ يسألها أبي بعض الأسئلة ، تُجيب على بعضها بحماسةٍ و فرحة ، ثمّ تقطّب ما بين حاجبيها عند آخر سؤال يطرحُه أبي :
- ما قالَتشْ وقتاش يجيو" ؟
لم يكن يهمنا وقتاش يجيو نحن الصغار ولكن كان يبدو القلق واضحا و الحسرة على محيّا أبي .
كنتُ ألمحُ في عينيه بعض البريق وكان يصعُب على طفلٍ مثلي مرخّصٌ له أنْ يَصوم "نْهارْ بْنْهَار" أن يتبيّن معناه !
لَا أحد منّا كان ينام تلك الليلة كلّ واحدٍ كان ينزوي لفراشه ، يعانق وسادته ويفكّر ، ويحلم و ينتظر
غدا سيذهب أبي إلى مركز الطّرود بالبريد المركزي و سيعود بالحقيبة المليئة بالألعاب والملابس الجديدة
ماذا سيكون حظّي هذا العام
ربّما سترسلُ لي خالتي "فريحة" لُعبةً كبيرة بالبطاريات ، أو كُرةً من الجلد تختلف عن كلّ الكرات التّي يملكها أولاد الجيران " بالو ريغْلي" بشعار مونديال "مكسيكو" وعَلَم الجزائر مرسوم على إحدى المربّعات
"
ماذا عن لباسِ العيد و هل يمكن أنّها لا زالت تذكر مقاساتنا بعد كلّ هذا .. ليتها تعلم أنّي أكبَر قدٍّ وأطولَ قامة من العام الماضي ، وسروال القطيفة لا يزال جديدا ولكنّه " ضاق على خصري
و كم أتمنّى أن ترسلي لي يا خالتي سروال "ديلافي" هذه المرّة ، كي أبدو أكثر نضجا
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ياااآه على الصّْغُر
ويااآه على ذاكرتي التي لا تذَوّبُها السّنون
لَا زِلتُ أذكُرُ كلّ التفاصيل
لَا زِلتُ أذكُر أنّنا
كنا نضحك قبل حلول العيد بسبعة أيّام ثمّ نُتابع الضّحك لسبعة أيّامٍ أخرى دونَ أن نشعُرَ بالعطشْ .
وكُنّا نصنعُ تلك الفرحة بأنفسنا بالخَيط والأقفال و الصّوف والبالونات المنفوخةِ و الملوّنة والشرائط ، ونجري نجري نجري ، واالتّالي "عيشة" دون أن نحرصَ على نظافة ثيابنا الجديدة . ..
وكم كُنتُ أحبّ السّهر ليلة العيد حتّى الفجر لِأُشارك في طلاء البيت ولكن أبي دائما كان ينهرُني : "اسمع حطّ "البانسو ذاك وروح ترقد " !
لم يكن أبي يدري أنّني سأكبر بسرعة و سأذكر له أنّه منعني ذات يوم من المشاركة في طلاء البيت أو اختيار درجة اللون على الأقلّ ، وإلّا لكنتُ أحببتُهُ أكثر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
مخرج عسير
لا يُمكن أن أنسى خالتي "فريحة" ، ولَا تزالُ حكاياتها وذكرياتها العجيبة تملأ جهةٍ هامّةً من الذّاكرة ، ولَا زلتُ وأنا في الْأربعين أنتظرُ بطاقاتها كلّما اقترب العيد ، ولكن أين هي ؟
سؤالٌ لم يَكن يجدُ إلّا أجوبةَ تُقنِعُ الأطفال .
عندما كنتُ أسألُ أبي عن مكانها ، كان يقول أنّها وراء البحر ثُمّ يُطرق !
و أقولُ لابنتي فاطمة حين تسألني عنها الْآن أنّها وراء السّماء ثمَّ أُطرق !
هكذا اكتَفت خالتي فريحة و "قنعت" .. بالعيش في الوراءات !
ولكنّها تبقى دوما أمامنا ..