تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : أثر "كفر دون كفر"، الوارد عن ابن عباس


ابوعبد الرحمن احمد
2012-07-10, 18:40
الإيضاح والتبيين في أن الحكام الطواغيت وجيوشهم كفار على التعيين
أثر "كفر دون كفر"، الوارد عن ابن عباس
[الكاتب: عبد الحكيم حسان]

أما الآثار الواردة عن ابن عباس على خلاف ما ذكرنا؛

فقد قال ابن كثير رحمه الله: (قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به فهو ظالم فاسق، رواه ابن جرير، ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب) [73].

وهذا الكلام إن كان صحيح السند إلى ابن عباس رضي الله عنه؛ فإنه لا يصح حكما، فإن جحد الأحكام الشرعية كفر باتفاق الأئمة والعلماء، سواء حكم الحاكم بغير حكم الله أم لم يحكم، فإذا جحد الحاكم حد الزنا أو السرقة ورده فلم يقبله فهو كافر معاند لله تعالى، ومن جحد تحريم الخمر أو الربا فهو كافر معاند أيضاً، لا يختلف أحد من العلماء قديما وحديثا في ذلك، فجحد الأحكام كفر، سواء حكم بها أم لا، فلا يشترط في تكفير من حكم بغير ما أنزل الله تعالى جحد أحكام الشريعة، إذ أن جحد الأحكام كفر بغض النظر عن الحكم بها من عدمه.

قال ابن تيمية رحمه الله: (وأما الفرائض الأربع؛ فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواتر تحريمها كالفواحش والظلم والكذب والخمر ونحو ذلك) [74] اهـ.

وقال النووي رحمه الله: (إن من جحد ما يعلم من دين الإسلا ضرورة يحكم بكفره وردته، إلا أن يكون قريب العهد بالإسلام أو نشأ ببادية بعيدة ونحوه مما يخفي عليه فيعرف ذلك، فإن استمر حكم بكفره، وكذلك حكم من استحل الزنا أو الخمر أو القتل وغير ذلك من المحرمات التي يعلم تحريمها ضرورة) [75] اهـ.

ولذلك قال ابن القيم رحمه الله: (ومنهم من تأول الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحدا له، وهو قول عكرمة [76]، وهو تأويل مرجوح، فإن نفس جحوده كفر، سواء حكم أو لم يحكم) [77] اهـ.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن ابن طاوس عن ابن عباس في قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، قال: (ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفرا ينقل عن الملة)، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة، وقال: (صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) [78] اهـ.

وهذا الأثر ضعيف من جهة الرواية، فإن مدار روايتة عند ابن أبي حاتم والحاكم رحمهما الله على هشام بن حجير وقد ضعفه كثير من علماء الجرح والتعديل، وإن كان صالحا في دينه، فقد قال فيه أحمد ابن حنبل رحمه الله: (هشام ليس بالقوي)، وقد ضعفه أيضاً يحيى بن سعيد القطان وضرب على حديثه، وضعفه على بن المديني، وذكره العقيلي في الضعفاء، وكذا ذكره ابن عدي، وقال ابن حجر: (صدوق له أوهام).

وهشام بن حجير لم يرو له أهل الصحيح إلا مقرونا مع غيره، ولم يرو له أحد من أهل الصحيح استقلالا، فقد روى له البخاري رحمه الله حديثا واحدا عن طاووس، وهو حديث سليمان عليه السلام في قوله: (لأطوفن الليلة على تسعين امرأة...الحديث)، أورده في كتاب كفارة الأيمان من طريقه، وفي النكاح وقد تابعه فيه عبد الله بن طاووس [79]، وروى له مسلم في موضعين متابعا أيضاً.

وقد قال أبو حاتم الرازي رحمه الله: (يُكتَب حديثه)، وهذه من صيغ التمريض والتضعيف عند أهل الفن، ولكن حديثه يصلح في الشواهد والمتابعات، ولا يصلح استقلالا.

وقد وثق هشام هذا ابن حبان والعجلي وابن سعد والذهبي، وابن حبان معروف عند أهل الفن بالتساهل في التوثيق، والعجلي لعله قد تابع ابن حبان على ذلك، فقد قال المعلمي اليماني رحمه الله عنه: (توثيق العجلي وجدته بالاستقراء كتوثيق ابن حبان تماما أو أوسع) [80]، وقال أيضاً عن توثيق ابن سعد: (إن أغلب مادته من الواقدي المتروك)، وقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "مقدمة الفتح" في ترجمة عبد الرحمن بن شريح، وبعد أن ذكر تضعيف ابن سعد له قال: (ولم يلتفت أحد إلى ابن سعد في هذا، فإن مادته من الواقدي في الغالب، والواقدي ليس بمعتمد) [81].

فالخلاصة؛ أن هشام ضعيف الرواية إذا انفرد، وقد انفرد هنا بالرواية عن ابن طاوس عن ابن عباس.

ومما يبين أن هذا الكلام مدرج من كلام ابن طاوس الأثر الذي رواه عبد الرزاق وفيه التصريح بأن هذا الكلام مدرج من كلام ابن طاوس وليس من كلام ابن عباس، والله تعالى أعلم.

قال الشيخ سليمان العلوان حفظه الله ووفقه: (وما قيل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كفر دون كفر لا يثبت عنه، فقد رواه المروزي في تعظيم قدر الصلاة [2/521] والحاكم في مستدركه [2/313] من طريق هشام بن حُجَير عن طاووس عن ابن عباس به، وهشام ضعفه الإمام أحمد ويحي بن معين والعقيلي [82] وجماعة، وقال علي بن المديني: قرأت على يحي بن سعيد حدثنا ابن جريج عن هشام ابن حجير فقال يحي بن سعيد: خليق أن أدعه قلت أضربُ على حديثه؟ قال: نعم، وقال ابن عيينة: لم نكن نأخذ عن هشام بن حجير ما لا نجده عند غيره، وهذا تفرد به هشام وزيادة على ذلك فقد خالف غيره من الثقات، فذكره عبد الله بن طاووس عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ}؟ قال: هي كفر، وفي لفظ: هي به كفر، وآخر: كفى به كُفْره، رواه عبد الرزاق في تفسيره [1/191] وابن جرير [6/256]، ووكيع في "أخبار القضاة" [1/41] وغيرهم؛ بسند صحيح، وهذا هو الثابت عن ابن عباس، فقد أطلق اللفظ ولم يقيّد.

وطريق هشام بن حجير منكر من وجهين، الوجه الأول؛ تفرد هشام به، الوجه الثاني؛ مخالفته من هو أوثق منه.

وقوله: "هي كفر"، واللفظ الآخر "هي به كفر"؛ يريد أن الآية على إطلاقها، والأصل في الكفر إذا عرّف باللام أنه الكفر الأكبر - كما قرر هذا شيخ الإسلام رحمه الله في الاقتضاء [1/208] - إلا إذا قيد أو جاءت قرينة تصرفه عن ذلك) انتهى كلام الشيخ سليمان حفظه الله.

وقال عبد الرزاق رحمه الله: أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: سُئل ابن عباس عن قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله... الآية}، قال: (هي به كفر)، قال ابن طاوس: (وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله).

وقال الثوري عن ابن جريج عن عطاء أنه قال: (كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق) [رواه ابن جرير].

وقال وكيع عن سعيد المكي عن طاوس: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، قال: (ليس بكفر ينقل عن الملة).

فهذه النقول لا يثبت منها نقل صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه فيما نعلم، فلا تكون هذه منه معارضة، ولا يضر معارضة ابن طاوس وعكرمة وعطاء للجمهور من السلف والخلف الذين قالوا بأنها كفر مطلق - أكبر - غير مقيد بالكفر الأصغر [83].

بل قد فرق ابن مسعود وعمر وعلي والحسن وسعيد بن جبير والنخعي والسدي رضي الله عنهم بين الرشوة في الحكم، وبينوا أنها كفر، وبين قبول الحاكم الهدية من غيره ليحابيه أو يقدمه على الناس.

على أنه يمكن حمل قول من قال إن الكفر هنا ينقسم إلى أكبر وأصغر؛ على ما ذكرناه من قبل من التحايل لإسقاط الأحكام الشرعية لقرابة أو رشوة أو هوى - هذا على فرض صحة السند إلى القائلين - وقد ضربنا لذلك مثلا بما حدث من بلال بن أبي بردة القاضي، وهذا الحمل أفضل من ضرب النصوص الشرعية بعضها ببعض وضرب كلام السلف والأئمة كذلك، والصحيح أن نجمع بين النصوص ما استطعنا إلى الجمع سبيلا، وإن تعذر الجمع فالترجيج.

والحق؛ أن قول من قال إن الكفر هنا هو الأكبر هو القول الصحيح والذي لا يجوز غيره، وعليه تدل الأدلة الشرعية - كما سبق ذكرها - وهو مذهب جمهور السلف - كما سبق بيانه - والله تعالى أعلم.

وهذا المسلك هو الذي يجب الأخذ به عند النظر في أقوال العلماء الذين تكلموا في مسألة الحكم والتشريع، فلا تكاد تجد أحدا ذكر أن من الحكم بغير ما أنزل الله كفر أصغر أو كفر دون كفر وفسق دون فسق وظلم دون ظلم، إلا ويذكر النوع الذي يدخل في الكفر الأكبر كذلك، وسننقل هنا ما ورد عن العلماء في ذلك، ووجه الجمع بين أقوالهم وحمل كل قول على ما يليق به.

قال ابن القيم رحمه الله في كلامه عن هذه الآية: (والصحيح أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين - الأصغر والأكبر - بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة وعدل عنه عصيانا مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهذا كفر أصغر، وإن اعتقد أنه غير واجب وأنه مخير فيه مع تيقنه أنه حكم الله فهذا كفر أكبر، وإن جهله وأخطأه فهذا مخطئ له حكم المخطئين) [84] اهـ.

وقال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: (وهنا أمر يجب أن يُتفطن له؛ وهو أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرا ينقل عن الملة، وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة، ويكون كفرا إما مجازيا وإما كفرا أصغر على القولين المذكورين، وذلك بحسب حال الحاكم؛ فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب وأنه مخير فيه أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله فهذا كفر أكبر، وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهذا عاص، ويسمى كافرا كفرا مجازيا أو كفرا أصغر، وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه، فهذا مخطئ له أجر على اجتهاده وخطؤه مغفور) [85] اهـ.

قلت: فانظر إلى قول ابن القيم ومثله قول ابن أبي العز رحمهما الله، تجد أنهما حكما على من اعتقد أنه مخير في الحكم بما أنزل الله أو بغيره، أو أظهر ما يدل على الاستهانة بحكم الله تعالى أنه كافر كفرا أكبر، وهذا حال حكام وقضاة بلادنا اليوم.

فهل هناك استهانة بحكم الله تعالى أعظم من عرضها على حثالة من البشر من العلمانيين والشيوعيين والجاهلين ومن جرى مجراهم ليقولوا فيها رأيهم، أو يقرروا هل يقيمون أحكام الله تعالى المنزلة من السماء بين الناس أم لا! ولا تكتسب أحكام الشريعة منزلة القانون الوضعي إلا إذا وافق عليها من يسمونهم بنواب الأمة والمشرعين لها؟!

ولذلك فقد ورد في الدستور المصري: (تصدر الأحكام وتُنفذ باسم الشعب) [86].

وورد فيه أيضاً: (لا يصدر قانون إلا إذا قرره مجلس الأمة، ولا يجوز تغيير مشروع قانون إلا بعد أخذ الرأي فيه مادة مادة) [87].

وهل هناك أعظم من أن يُدعى الحكام إلى الحكم بشريعة الله تعالى، فيقولون؛ نحن ملزمون بأحكام القانون الوضعي ولا محيد لنا عنه؟!

وهل هناك استهزاء أعظم من أن تُجعل أحكام الشريعة مصدرا ثانويا من مصادر التشريع يحكم بها القضاة بعد القانون الوضعي الكافر والعرف [88]؟!

وهل هناك أعظم من أن يقف بعض الغيورين على دين الله تعالى فينصحون هؤلاء الحكام بالرجوع إلى أحكام الله تعالى؛ فلا يكون نصيبهم إلا السجن والتعذيب وتلفيق القضايا وإصدار أحكام الإعدام عليهم؟!

وهل يظن أحد أن ابن القيم وابن أبي العز وغيرهم من العلماء، يقولون؛ كفر دون كفر، على هؤلاء الحكام الذين استهانوا بأحكام الله تعالى وحرماته وسخروا منها وسموها رجعية وتخلفا، ويبيحون لكل العلمانيين والفاسدين أن ينالوا من دين الله تعالى ومن شريعته ومن المسلمين تحت ما يسمى بـ "حرية الرأي والتعبير"، وعندما يقوم رجل من الصالحين ليبين للناس المفاسد المترتبة على الحكم بغير ما أنزل الله تعالى فلا يكون نصيبه إلا تلفيق القضايا والقتل في النهاية؟!

وهل يظن عاقل؛ أن هؤلاء العلماء يتكلمون على حكامنا الذين قننوا للناس حل الربا وشرب الخمر والزنا والدعارة وكل ألوان الفساد، وأنزلوا الكفار أغلى ديار المسلمين، فلم تسلم من رجسهم حتى أراضي الحرمين، وعقدوا مع الكفار كل الاتفاقيات الممكنة لضرب المسلمين وسحقهم، وأصبح من أقرب بطانة هؤلاء الحكام المستشارون من اليهود والنصارى؟!

وهل يظن عاقل؛ أن العلماء يقولون؛ كفر دون كفر، على من يسلمون أغلى أراضي المسلمين لأحفاد القردة والخنازير؟ - وما مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنا ببعيد - ويعقدون لإرضاء اليهود المؤتمرات، ويقيمون من أجلهم الأسواق، بل ويعتبرون من يجاهد اليهود مجرما وإرهابيا يجب عقابه؟!

وهل يظن عاقل؛ أن العلماء يقولون؛ كفر دون كفر، على من يحرم الجهاد في سبيل الله تعالى بحجة أن "ميثاق الأمم المتحدة" يحرم الاعتداء على الدول الآمنة، ويعتبر الجهاد في سبيل الله جريمة يجب أن يقف "المجتمع الدولي" كله ضدها؟!

إن كلام ابن القيم وغيره من العلماء إنما يتنزل؛ على حاكم مسلم مؤمن بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم مقيم للإسلام، يخرج الجيوش ويعقد الألوية للجهاد في سبيل الله، ولكنه يجور في حكم لهوى أو رشوة أو قرابة، ومن تصفح سيرة الحكام الذين قيل فيهم كفر دون كفر سيجد مصداق ما ذكرنا.

ثم إن العلماء ذكروا في الصنف الذي يقال فيه كفر دون كفر من الحكام؛ أنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة وعدل عنه عصيانا مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر.

وهل من الحكام اليوم من يعترف - ولو بلسانه فقط - أنه عاص لله مستحق للعقوبة مجانب للهدى؟ فإن الحكام اليوم ليجاهرون بكل صفاقة ووقاحة - لا يحسدون عليها - أنهم هم المتحضرون المتحررون، وأنهم أهل الحكمة والعقل والرأي الحسن، وأنهم أصحاب الإسلام المستنير، وأن غيرهم ممن ينادي بإقامة أحكام الشريعة؛ هم المتعصبون والمنغلقون والمتطرفون، فهل ينطبق كلام العلماء على حكام زماننا؟!

إن كل عاقل إذا التفت عن يمينه أو شماله؛ فلن يجد إلا العمالة للغرب الكافر، ولن يجد إلا حكاما يتسابقون لإرضاء اليهود أحفاد القردة والخنازير.


فهذا الحاكم؛ يعقد اتفاقية دفاع مشترك مع أمريكا لمدة عشر سنوات ويؤجر القواعد العسكرية لليهود والنصارى لعشرات قادمة من السنين، ويبيع ثروات المسلمين - البترول - لإسرائيل بأقل الأثمان.


وهذا حاكم مجرم آخر؛ يتذرع بعدم مساعدة الشعب العراقي – وفـيهم المسلمون - بحجة أن "الأمم المتحدة" - الكافرة - تمنع تقديم المعونة للشعب العراقي لإسقاط النظام هناك.


وهذا حاكم آخر؛ يطلب ود أمريكا - اليهودية النصرانية - وإسرائيل بالقبض على الآلاف من المسلمين، ويحكم عليهم بأحكام قد تصل إلى الإعدام، وإن تساهل فبأحكام تصل إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، وغير ذلك كثير.

فهل هؤلاء هم الذين قال العلماء في أمثالهم كفر دون كفر؟! كلا وحاشا أن يكون علماؤنا بهذه السذاجة وقلة الفقه.

قال الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله: (هؤلاء الذين يقولون لا بد من الاعتقاد نرى أنهم أخطأوا، وذلك لأنا إذا رأينا إنساناً يعمل عملا وهو لم يكره عليه، ولم يهدد بالقتل بل يعمله وهو مسرور به راض به منشرح الصدر له فإننا نحكم بأنه استحله، وأنه رآه أصلح وأحسن من غيره، فنحكم عليه بما يظهر لنا من فعله، وأما إذا قال لنا جهرة أو خفية؛ إنني غير مستحل له، إنني أعمل به وأعتقد أنه لا يجوز، ومع ذلك يطبقه ويميل إليه ويفضله على غيره ويعمل به علنا وجهرا؛ فلا نصدقه في قوله إنه غير موقن به، بل نقول؛ قد حكمت به واطمأننت إليه وعملت به عملا ظاهرا، فلا يقبل كلامك في أنك غير مستحل له، نحكم عليك بالظاهر؛ أنك مستحل له ظاهراً، وأما القلوب فليس لنا أن نفتشها لقول النبي: "إني لن أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق عن بطونهم"، أي فنحن نحكم عليه بما ظهر منه، فمن أظهر لنا خيراً أحببناه على ذلك الخير، ومن أظهر لنا شراً عاملناه بموجب ذلك الشر، الحاصل؛ أن الذين يعملون به، نحكم عليهم بأنهم مستحلون له لأنهم منشرحو الصدور له مطمئنون إليه، فهم من أهله، نحكم عليهم بما يعملونه ظاهرا وباطنا، فلا عبرة بكلامهم في أنهم ليسوا بمستحلين له، فالاستحلال هو العمل به ظاهرا وقد حصل منهم) انتهى من شريط "أقوال العلماء في من بدل الشرع".

وقد يحاول البعض أن يتذرع بعدم تكفيره للطواغيت الحاكمين بغير شريعة الرحمن؛ بأن قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، نزلت في اليهود، وبأن {الظالمون} في النصارى، وبأن {الفاسقون} في المسلمين، وأنه لا يجوز إنزال هذه الآيات جميعا على أهل الإسلام، لأن هذا فعل الخوارج.

وهذا قول ضعيف أبطل من سابقه.

وقد اختلف فيمن نزلت فيه هذه الآيات على عدة أقوال، مختصرها:

1) أنها نزلت في أهل الكتاب وهي فيهم خاصة، وقد ضعف كثير من العلماء هذا القول ورده.

2) وقيل؛ إنها فيمن حكم بما عنده مدعيا أنه من عند الله تعالى، وهذه هي إحدى صور التبديل، وهذا كفر لا يُختلف فيه.

3) وقيل؛ إنها فيمن رد أو جحد حكم الله تعالى، فأما من حكم بغير حكم الله جملة عن هوى ومعصية فهذا ذنب غير مكفر، وهذا قول باطل ترده دلائل الكتاب والسنة.

4) وقيل - وهو أصح الأقوال وأصوبها إن شاء الله -؛ إنها نزلت في أهل الكتاب، وهي على المسلمين واجبة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو مذهب جمهور العلماء.

وقد أورد أهل التفسير، وعلى رأسهم شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله ما ورد في سبب نزول هذه الآيات، وقد اختصر الشيخ أحمد شاكر رحمه الله ما ورد في سبب نزول الآيات - وذلك اختصارا لما ذكره ابن جرير وابن كثير وغيرهما -

فقال رحمه الله: (نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل: {من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم}، أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خراب خاوية منه، وهؤلاء هم المنافقون، {ومن الذين هادوا}؛ أعداء الإسلام وأهله، وهؤلاء كلهم {سماعون للكذب}، أي مستجيبون له منفعلون عنه، {سماعون لقوم آخرين لم يأتوك}؛ أي يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد.

وقيل: المراد أنهم يتسمعون الكلام وينهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك، {يحرفون الكلم من بعد مواضعه}؛ أي يتأولونه على غير تأويله، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، {يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا}، قيل: نزلت في أقوام من اليهود قتلوا قتيلا وقالوا: تعالوا نتحاكم إلى محمد، فإن حكم بالدية فاقبلوه، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه.

والصحيح: أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم، فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة والتحميم والإركاب على حمارين مقلوبين، فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك، وقد وردت الأحاديث بذلك.

فروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال: إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟"، فقالوا: نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد، فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة، أخرجاه، وهذا لفظ البخاري.

وفي لفظ له: قال لليهود: "ما تصنعون بهما؟"، قالوا: نسخم وجوههما ونخزيهما، قال: {فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين}، فجاءوا، فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعور: اقرأ، فقرأ، حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه، فقال: ارفع يدك فرفع، فإذا آية الرجم تلوح، قال: يا محمد إن فيها آية الرجم، ولكنا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما فرجما.

وعند مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود، فقال: "ما تجدون في التوراة على من زنى؟"، قالوا: نسود وجوههما ونحملهما ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما، قال: "{فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين}"، قال: فجاءوا بها فقرءوها، حتى إذا مر بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبد الله بن سلام - وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -: مره فليرفع يده، فرفع يده فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه.

وروى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال: مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود، فدعاهم فقال: "هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟"، فقالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم فقال: "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟"، فقال: لا والله، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه"، قال: فأمر به فرجم، قال: فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر...}، إلى قوله: {يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه}، أي يقولون: ائتوا محمدا فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا).

إلى قوله: ({ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، قال: في يهود).

إلى قوله: ({ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}، قال: في اليهود، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}، قال: في الكفار كلها، انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة...).

إلى أن قال أحمد شاكر: (سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات: روى الإمام أحمد عن ابن عباس، قال: إن الله أنزل؛ {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، و {أولئك هم الظالمون}، و {أولئك هم الفاسقون}، قال ابن عباس: أنزلها الله في الطائفتين من اليهود، كانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة: أن ابعثوا لنا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان في حيين دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد دية بعضهم نصف دية بعض؟ إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا، وفرقا منكم، فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم، فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، ثم ذكرت العزيزة فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم، فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه، إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه، فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرهم كله وما أرادوا، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر...}، إلى قوله: {الفاسقون} ففيهم والله أنزل، وإياهم عني الله عز وجل، ورواه أبو داود بنحوه).

قلت: وما ذكره الشيخ أحمد شاكر؛ هو مختصر لكل ما ذكره العلماء وأهل التفسير في أسباب نزول هذه الآيات، وفيه البيان الواضح أن ما فعله اليهود وما استحقوا أن يكونوا به كفارا هو عين ما يحدث في زماننا هذا، على أن اليهود قد فعلوه في حكم واحد، وطواغيت هذا العصر قد امتدت أيديهم إلى كل أحكام الله تعالى بالتبديل والتغيير.

فإذا كان اليهود قد كفروا بنص القرآن بسبب تبديلهم لحكم الزنا فقط، بأن جعلوا التحميم والجلد والفضح مكان الرجم، فما حكم من أسقط العقوبة مطلقا إذا كان الزنا برضا المرأة؟! وما حكم من منع من إقامة أي عقوبة على المرأة الزانية إذا لم يرفع الزوج الدعوى عليها؟! فلا شك أنهم أولى بالكفر والردة عن دين الله تعالى، فإن ما يفعلونه أعظم مما فعله اليهود واستحقوا به حكم الكفر.

وقد قال القرطبي رحمه الله بعد أن ذكر ما قيل في أسباب نزول هذه الآيات: (وقيل إنها نزلت في زنى اليهوديين وقصة الرجم، وهذا أصح الأقوال، رواه الأئمة مالك والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داود...)، ثم ذكر لفظ الحديث [89]، اهـ.

وأما ما ورد عن أهل التفسير فيمن أنزلت فيهم هذه الآيات، وهي المسألة الأولى:

فقد أورد الطبري رحمه الله عن حذيفة بن اليمان فيما رواه الطبري بإسناده عن أبي البختري قال: سأل رجل حذيفة رضي الله عنه عن هؤلاء الآيات؛ {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، {فأولئك هم الظالمون}، {فأولئك هم الفاسقون}، قال: فقيل ذلك في بني إسرائيل؟ قال حذيفة رضي الله عنه: (نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كانت لهم كل مرة، ولكم كل حلوة، كلا والله لتسلكن طريقهم قدر الشراك) [90] اهـ.

وهذا يبين أن مذهب حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن هذه الآيات - وإن كانت قد نزلت في أهل الكتاب - إلا أن حكمها عام لهم وللمسلمين ومن يفعل مثل فعلهم.

وقال ابن كثير رحمه الله: (وقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، قال البراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس رضي الله عنهم وأبو مجلز وأبو رجاء العطاردي وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله والحسن البصري وغيرهم: نزلت في أهل الكتاب، زاد الحسن البصري: وهي علينا واجبة).

وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال: (نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ورضي الله لهذه الأمة بها) [رواه ابن جرير].

وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا يعقوب حدثنا هشيم أخبر عبد الملك بن أبي سلمان عن سلمة بن كهيل عن علقمة ومسروق؛ أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة؟ فقال: ( من السحت)، قال: فقالا وفي الحكم؟ قال: (ذاك الكفر)، ثم تلا {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}.

وقال السدي: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، يقول: (ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمدا أو جار وهو يعلم؛ فهو من الكافرين).

وقال عبد الرزاق عن الثوري عن زكريا عن الشعبي؛ {ومن لم يحكم بما أنزل الله}، قال: (للمسلمين).

وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الصمد حدثنا شعبة ابن أبي السفر عن الشعبي؛ {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، قال: (هذا في المسلمين)، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}، قال: (هذا في اليهود)، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}، قال: (هذا في النصارى).

قال القرطبي رحمه الله بعد أن ذكر أكثر الأقوال في الآية: (وقيل {الكافرون} للمسلمين، و {الظالمون} لليهود، و {الفاسقون} للنصارى، وهذا اختيار أبي بكر بن العربي، قال: لأنه ظاهر الآيات، وهو اختيار ابن عباس وجابر بن زيد وابن أبي زائدة وابن شبرمة والشعبي أيضاً) [91] اهـ.

وهذه الآثار تبين أن مذهب ابن مسعود؛ أن كل من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر على وجه العموم، وتبين أيضاً أن مذهب ابن عباس وجابر بن زيد وابن أبي زائدة والحسن وابراهيم النخعي والسدي وابن شبرمة والشعبي؛ أن الآيات عامة في أهل الكتاب وغيرهم.

قال ابن القيم رحمه الله: (ومنهم من تأولها على أهل الكتاب، وهو قول قتادة والضحاك وغيرهما وهو بعيد، وهو خلاف ظاهر اللفظ، فلا يُصار إليه) [92] اهـ.

وقال القاسميي رحمه الله في تفسيره: (ونقل في اللباب عن ابن مسعود والحسن والنخعي؛ أن هذه الآيات الثلاث عامة في اليهود وفي هذه الأمة، فكل من ارتشى وبدل الحكم، فحكم بغير حكم الله، فقد كفر وظلم وفسق، وإليه ذهب السدي، لأنه ظاهر الخطاب).

ثم قال: (وقيل: هذا فيمن علم نص حكم الله ثم رده عيانا عمدا وحكم بغيره، وأما من خفي عليه النص أو أخطأ في التأويل فلا يدخل في هذا الوعيد) [93] اهـ.

وقد قال القرطبي رحمه الله: (وقال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار، أي معتقدا ذلك ومستحلا له) [94] اهـ.

وقد بوب البخاري؛ "باب أجر من قضى بالحكمة"، وأورد فيه قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}.

قال الحافظ ابن حجر: (واستدلال المصنف - أي البخاري - بها يدل على أنه يرجح قول من قال إنها عامة في أهل الكتاب والمسلمين...)، إلى أن قال ابن حجر: ويظهر أن يُقَال إن الآيات وإن كان سببها أهل الكتاب، لـكن عمومها يتناول غيرهم) [95] اهـ.

وقال الشوكاني رحمه الله: (واعلم أرشدك الله أيها المقلد؛ إنك إن أنصفت من نفسك وخليت بين قلبك وفهمك وبين ما حررناه في هذا المؤلف لم يبق معك شك في أنك على خطر عظيم...).

إلى قوله: (لأنك تريق الدماء بأحكامك وتنقل الأملاك والحقوق من أهلها وتحلل الحرام وتحرم الحلال وتقول على الله ما لم يقل، غير مستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل بشيء لا تدري أحق هو أم باطل باعترافك على نفسك بأنك كذلك...).

إلى قوله رحمه الله: (وكيف أقدمت على أصول في الحكم بغير ما أنزل الله حتى تكون ممن قال فيه: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، فهذه الآيات الكريمة متناولة لكل من لم يحكم بما أنزل الله) [96] اهـ.

قلت: وما سبق ذكره من أسباب نزول هذه الآيات وكلام السلف وأهل التفسير فيها؛ يبين أنها تعم كل من لم يحكم بما أنزل الله تعالى من أهل الكتاب وغيرهم، وإن كان سبب نزولها في أهل الكتاب، فكما هو معلوم - وهو مذهب الجمهور من العلماء - أن صورة سبب النزول داخلة في النص دخولا قطعيا [97]، وأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب [98]، ولذلك فقد نبه العلماء - كما سبق بيانه - على أن حكم هذه الآيات يعم أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين إذا فعل فعلهم.

وقد قال القاسمي رحمه الله في تفسيره: (وكذا ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس: أنها في اليهود خاصة قريظة والنضير، لا ينافي تناولها لغيرهم، لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكلمة "مَنْ" وقعت في معرض الشرط فتكون للعموم) [99] اهـ.

ولذلك فقد قال ابن كثير رحمه الله مبينا أن حكم هذه الآيات عام فيمن نزلت فيهم وفي غيرهم: (نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل...)، إلى قوله: (والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم فحرفوه) [100] اهـ.

فحمل ابن كثير رحمه الله الآية على كل الخارجين عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، المسارعين في الكفر المقدمين آراءهم وأهواءهم على شريعة الله تعالى وحكمه، ولم يقصرها على سبب نزولها، وهذا هو الصحيح في حكم هذه الآيات.

ولذلك فقد قال إسماعيل القاضي رحمه الله في "أحكام القرآن" - بعد أن حكى الخلاف في ذلك -: (ظاهر الآيات يدل على أن من فعل مثل ما فعلوا، واخترع حكما يخالف به حكم الله، وجعله دينا يُعمَل به؛ فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور، حاكما كان أو غيره) [101] اهـ.
فإذا كان اليهود الذين نزلت فيهم هذه الآيات ما بدلوا إلا حكما واحدا - وهو حكم رجم الزاني المحصن - وكانوا بذلك كفارا بنص الآية الكريمة، فما حكم من امتدت أيديهم وقوانينهم إلى كل الأحكام يبدلونها حيث يشاءون وحسب أهوائهم ومصلحتهم؟! لا شك أن هؤلاء المبدلين في عصرنا أشد كفرا من اليهود في الزمن الأول.


--------------------------------------------------------------------------------

[73] تفسير ابن كثير: 2/97، ط: دار الفكر.

[74] مجموع الفتاوى: 7/609 - 610.

[75] شرح صحيح مسلم للنووي: 1/150.

[76] يُشعر كلام ابن القيم رحمه الله - وهو الإمام الحافظ الناقد - أن الأثر عن ابن عباس لا يثبت عنده، وإلا فلا يغيب عن ابن القيم قول ابن عباس وهو الإمام الجليل وترجمان القرآن إن ثبت له قول في ذلك، ثم ينقل عن عكرمة مولاه.

[77] مدارج السالكين: 1/563.

[78] تفسير ابن كثير: 2/61.

[79] راجع مقدمة فتح الباري: 448.

[80] راجع الأنوار الكاشفة للمعلمي اليماني: 68.

[81] مقدمة فتح الباري: 417، ط: دار الفكر.

[82] انظر الضعفاء للعقيلي [4/337 – 338] والكامل لابن عدي [7/2569] وتهذيب الكمال [30/179 – 180] وهدي الساري [447 – 448].

[83] إذا حدث اختلاف في أقوال الناس في مسألة معينة، فإنه يجب الأخذ بما دل عليه الدليل، ولا يعتبر قول خالفه، وهذا في اختلاف العلماء واختلاف الصحابة على حد سواء، فلو اختلف الصحابة ومن بعدهم من العلماء على أكثر من قول، فالحجة في القول الذي وافق الأدلة ودلائل اللغة، ولذلك قال الشافعي رحمه الله عن أقوال الصحابة؛ إذا تفرقوا فيها نصير منها إلى ما وافق الكتاب أوالسنة أو الإجماع أو كان أصح في القياس [الرسالة بتحقيق أحمد شاكر: 596]، وقد ذكر ابن القيم أيضا أن من اصول الإمام أحمد رحمه الله؛ أنه إذا اختلف الصحابة تخير من أقوالهم ما كان أقرب إلى الكتاب والسنة [أعلام الموقعين لابن القيم: 1/31]، وقد قال ابن تيمية رحمه الله: (وأما أقوال الصحابة فإن انتشرت ولم تنكر في زمانهم فهي حجة عند جماهير العلماء، وإن تنازعوا رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، ولم يكن قول بعضهم حجة مع مخالفة بعضهم له، باتفاق العلماء) [مجموع الفتاوى: 20/14]، وقال أيضا رحمه الله: (ومن قال من العلماء إن قول الصحابي حجة فإنما قاله إذا لم يخالفه غيره من الصحابة ولا عُرف نص يخالفه...)، إلى قوله: (وأما إذا عُرف أنه خالفه فليس بحجة) [مجموع الفتاوى: 1/283 - 284].

[84] مدارج السالكين: 1/365.

[85] شرح العقيدة الطحاوية: 323 - 324.

[86] المادة 72 من الدستور المصري.

[87] المادة 84 من دستور 1956م، وراجع المواد: 22، 68 من نفس الدستور، والمادة 64، 66 من دستور 1971م.

[88] ويؤكد هذا ما قاله المستشار سعد العيسوي رئيس محكمة استئناف الإسكندرية، وذلك عندما أصدر المستشار محمود غراب رحمه الله حكما بالجلد على شارب خمر تنفيذا لأحكام الشريعة الإسلامية، فقال العيسوي: (إن من قضى بهذا الحكم وإن صح، فقد خالف الدستور، وهو نص المادة 66: "لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون"، ولا يقال في ذلك إن حد السكر شرعا هو الجلد، وأن الشريعة الإسلامية هي الأولى بالتطبيق، ذلك لأن المشرع وحتى الآن يطبق قوانين مكتوبة ومقررة، وليس للقاضي أن يعمل غيرها من لدنه مهما اختلفت مع معتقده الديني أو السياسي، وأفصح المشرع عن ذلك صراحة في المادة الأولى من التقنين المدني بأن القاضي - أي الوضعي - يطبق القانون فإن لم يجد في نصوصه ما ينطبق على الواقعة طبق العرف، وإن لم يجد طبق أحكام الشريعة الإسلامية، وإن لم يجد طبق القانون الطبيعي وقواعد العدالة، فجنائيا لا يجوز ولا يقبل من القاضي أن يجرم فعلا لا ينص القانون على اعتباره جريمة، ولا يجوز له أو يقبل منه أن يقضي بعقوبة لم ينص عليها القانون) [جريدة أخبار اليوم: 19/4/1982م]، وقد نقل هذا المقال المستشار محمود غراب رحمه الله في كتابه "أحكام أسلامية إدانة للقوانين الوضعية".

[89] تفسير القرطبي: 6/172، ط: دار الحديث.

[90] تفسير الطبري: 6/253.

[91] تفسير القرطبي: 6/184، راجع أحكام القرآن لابن العربي: 2/624، ط: دار الفكر.

[92] مدارج السالكين: 1/365، ط: دار الكتب العلمية.

[93] محاسن التأويل للقاسمي: 6/215.

[94] تفسير القرطبي: 6/190.

[95] فتح الباري، كتاب الأحكام: 13/120.

[96] القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد للشوكاني: 64 - 74.

[97] صورة سبب النزول؛ أي ما شابه سبب نزول الآية، فكل من شابه من نزلت فيهم الآية من حيث صفة القول أو الفعل أو الحال كان حكمه حكم من نزلت فيه، وهذا هو مذهب جمهور العلماء من أهل المذاهب وغيرهم، ولا عبرة بشذوذ من قال بغيره - كما صرح بذلك السيوطي رحمه الله - وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وليس بين الناس خلاف أن الآية تعم الشخص الذي نزلت فيه ومن كان حاله كحاله) [الصارم: 33]، وقد قال أيضا: واللفظ العام إذا ورد على سبب فلا بد أن يكون السبب مندرجا فيه) [اقتضاء الصراط المستقيم: 185]، وقال الشنقيطي رحمه الله: (وجمهور أهل الأصول على أن صورة السبب قطعية الدخول في العام فلا يجوز إخراجها منه بمخصص وهو التحقيق) [المذكرة: 210].

[98] يستفاد هذا العموم من عدة أنواع من الخطاب:
1) العموم المستفاد من خطاب آحاد المكلفين ما لم يرد نص يبين التخصيص وهذا هو العموم الشرعي.
2) العموم اللغوي: وهو العموم اللفظي، كأن يرد الخطاب على غير سبب يعني أن يكون الخطاب عاما ليس موقوفا على سبب فهذا لا خلاف بين أهل العلم على عموميته، وأما إذا ورد الخطاب على سبب أو جواب لسائل فإن دل اللفظ على العموم فهو عام، مثل قوله تعالى في حد السرقة: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}، فهذه الآية نزلت في شأن المرأة التي سرقت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو الرجل الذي سرق رداء صفوان بن أمية، ومع ذلك فقد حمل العلماء الخطاب فيها على مجموع الأمة [راجع المذكرة: 209]، فأما إن كان في صيغة النص ما يبين أنه مخصوص فلا يحمل على العموم بحال، كقوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: (خالصة لك من دون المؤمنين)، وأما إن لم يقترن بالنص ما يدل على التعميم أو التخصيص فقد قال الجمهور من العلماء: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وعلى ذلك قامت الأدلة، فيعم حكم آية اللعان النازلة في عويمر العجلاني وهلال بن أمية، ويعم حكم آية الظهار النازلة في امرأة أوس بن الصامت، وآية الفدية النازلة في كعب بن عجرة وهلم جرا [راجع في هذه المسألة: المستصفى للغزإلى: 2/21، الإحكام للآمدي: 2/239، إرشاد الفحول للشوكاني: 105 - 127، مذكرة أصول الفقه للشنقيطي: 248].

[99] محاسن التأويل للقاسمي: 6/215 ط: دار الفكر، راجع البحر المحيط: 3/492.

[100] تفسير ابن كثير: 2/85.

[101] راجع فتح الباري: 13/120، ومحاسن التأويل للقاسمي: 6/612.

خولة121
2012-07-10, 19:56
بارك الله بقولك وعملك الطيب
وجزاك الله كل الخير عنا
وربي يحفظك ويسدد خطاك
الى ما يحبه
ويرضاه دوما
باذن الله تعالى

ابوعبد الرحمن احمد
2012-07-10, 20:20
بارك الله بقولك وعملك الطيب
وجزاك الله كل الخير عنا
وربي يحفظك ويسدد خطاك
الى ما يحبه
ويرضاه دوما
باذن الله تعالى

و فيك بارك الله

fatimazahra2011
2012-07-10, 22:02
http://www.noorfatema.net/up/uploads/12988442461.gif


http://www.noorfatema.org/up/uploads/13373622873.gifhttp://www.noorfatema.net/up/uploads/13158763101.gif






(http://www.djelfa.info/vb/member.php?u=196927)http://www10.0zz0.com/2010/09/09/20/127630176.gif (http://www.djelfa.info/vb/member.php?u=196927)

(http://www.djelfa.info/vb/member.php?u=196927)
http://www.noorfatema.org/up/uploads/13384110622.gif




http://hani.mnshi.googlepages.com/thiatyall.gif (http://www.djelfa.info/vb/member.php?u=196927)

♪♫♪♪♫♪♪♫♪♪♫♪



http://www.noorfatema.org/up/uploads/13384036911.gif





█║▌│▌║║█│║▌║║▌│▌