سعيد1981
2012-06-23, 14:30
اكتسبت القبيلة منذ العصور القديمة دوراً تاريخياً فاعلاً سواء في مختلف بلدان العالم عموماً، وفي المجالات التي اقترنت بنمط العيش الرحّلي خصوصاً، مشكّلة بنية اجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة مميّزة. فكان لها بالجزيرة العربيّة وبأطراف الشّام والعراق مكانة هامّة في التّاريخ العام، خلّدت صورتها شعراء ما قبل الإسلام. ومثّلت في بلاد المغارب البناء الذي جسّد الخصوصيّة المغربيّة في مقاومته للغزاة. ولئن اقترنت فترة النشأة الإسلاميّة بتكريس مفهوم جديد يتجاوز القبيلة ويحاول توحيد مختلف مكوّنات المجتمع العربي بمدينة يثرب، وهو مفهوم الأمّة، فإنّ القبيلة وما ارتبط بها من فكرة العصبيّة لم تضمحل وظلّت تحرّك مجريات التّاريخ العربي الإسلامي إلى حدّ العصر الحديث.
وفي كلّ الأحوال، حصل تداخل بين القبيلة والدّين عصر ذاك، طالما ساهمت القبيلة في نشر الدّين الجديد، واحتاج أبناؤها إلى العلم، المتمثّل خصوصاً في معرفة العلوم الدّينيّة، للانخراط في مسلك الرقيّ الاجتماعي. وفضلا عن اقتران نشأة الكيانات السّياسيّة بالدّعوة الدّينيّة لقيامها منذ تلك الحقبة، فإنّ ثنائيّة القبيلة والدّين أضحت ذات صلة بموضوعات عديدة منها النّسب والشّرف والمعتقد وغيرها.
أوّلاً: ثنائيّة العصبيّة والدّعوة لدى ابن خلدون، بين المعاينة والتنظير
1- ثلاثيّة ابن خلدون: العصبيّة والدّعوة والملك
اقترن نمط العيش البدوي اقتراناً كاملاً بالبنية القبليّة، القائمة بدورها على العصبيّة وعلى شرف النّسب. اقترنت بتطوّر مستمرّ للظّاهرة القبليّة سواء في تركيبتها الدّاخليّة أو في علاقتها بالسلطة والثقافة والدّين.
وإذ تقوم العصبيّة على النّسب سواء أكان حقيقيّاً أو وهميّاً، قريباً أو بعيداً، كي (تقع المناصرة والنّعرة)، فإنّها تمثّل اللّحمة المتكوّنة بين القبائل المتجاورة (للحماية والمدافعة والمطالبة). وتكون القبيلة الأقوى القطب الجاذب لبقيّة القبائل والعشائر التي تنضمُّ إليها في مرحلة أولى قبل أن تنطلق لغزو القبائل والعشائر المجاورة ثم الاستظهار على الدّولة والتغلّب عليها إذا ما بلغت مرحلة الهرم. قال ابن خلدون في هذا الصّدد: (والقبيل الواحد إذا كانت فيه بيوتات متفرّقة وعصبيات متعدّدة، فلا بدّ من عصبيّة تكون أقوى من جميعها،وتتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها، وتصير كأنّها عصبيّة واحدة كبرى، وإلاّ وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف والتّنازع)
على أنّ الدّعوة الدّينيّة تعدّ شرطاً مكمّلاً للعصبيّة للوصول إلى السّلطة. وهي الوسيلة الوحيدة التي تمكّن البدو من (التسييس). وعند الوصول إلى الملك، تظلّ مساعدة على قوّة الدّولة بعد قيامها.
خصّص ابن خلدون في مقدّمته بعض الفصول لمسألة الدّعوة: (في أنّ الدّول العامّة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدّين إمّا من نبوّة أو دعوة حقّ) - (في أنّ الدّعوة الدينيّة تزيد الدّولة في أصلها قوّة على قوّة العصبيّة التي كانت لها من عددها) - (في أنّ الدّعوة الدّينيّة من غير عصبيّة لا تتمّ). وعلّل ذلك بكون (الصّبغة الدّينيّة تذهب التّنافس والتّحاسد الذي في أهل العصبيّة وتفرد الوجهة إلى الحقّ)، مستدلاّ على مكانة الدّعوة في قيام الدّولة بالانتصار الذي حقّقه العرب في القادسيّة على الفرس، بيد أنّ عددهم كان أقلّ منهم بكثير. وقدّم نماذج من المجال المغربي، قائلا: (واعتبر ذلك أيضا في دولة لمتونة ودولة الموحّدين، فقد كان بالمغرب من القبائل كثير ممّن يقاومهم في العدد والعصبيّة أو يشفّ عليهم، إلاّ أنّ الاجتماع الدّيني ضاعف قوّة عصبيتهم بالاستبصار والاستماتة كما قلناه، فلم يقف لهم شيء)
وهكذا ساعدت الدّعوة القائمة أساساً على الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر على (جمع القلوب وتأليفها)، وعلى تحقيق الوحدة، محوّلة طبيعة البدو العدوانيّة وحرابتهم وغزوهم إلى طاقة حربيّة إيجابيّة، تتحلّى بها العصبيّة الجامعة.
وعلى العكس من ذلك، يؤدّي فساد الدّعوة إلى تغلّب العصبيات ذات الملك على غيرها بحدّ القوّة، وهو ما يفتح الباب لردّ الفعل كلّما استطاعت ذلك، من ذلك مثال سيطرة مصمودة على العهد الموحّدي على القبائل الأشدّ منها بداوة مثل زناتة. و(لمّا خلوا من تلك الصّبغة الدّينيّة انتقضت عليهم زناتة من كلّ جانب وغلبوهم على الأمر وانتزعوه منهم
ورغم تأثير الدّعوة على القبيلة، فإنّها (من غير العصبيّة لا تتمّ)
تناول صاحب المقدّمة سيرورة القبيلة إلى الملك، عن طريق آليتين مكمّلتين: العصبيّة والدّعوة الدّينيّة. وتستمدّ العصبيّة قوّتها من (الالتحام) الذي توجد له مبرّرات في النّسب. وتصبح أكثر قوّة لا تصمد في وجهها العصبيات الأخرى كلّما اقترنت بالتحام روحي آخر
هذا الأنموذج القائم على الدّولة العصبويّة أو العضويّة يتفاعل خصوصاً مع المجالات البدويّة في البلاد العربيّة الإسلاميّة
2ـ امتدادات النصّ الخلدوني التّاريخيّة: من التلازم إلى فكّ الارتباط بين القبيلة والدّين
قامت الدّول في هذه الحقبة على أساس العصبيّة القبليّة والدّعوة الدّينيّة. فقد استندت الدّولة الأمويّة إلى عصبيّة قريش، وخصوصاً بني أميّة، وإلى مذهب أهل الجماعة، فيما ارتكزت الدّولة العبّاسيّة على عصبيّة الموالي وعلى مذهب الاعتزال. أمّا الإمارات المستقلّة النّاشئة في المغرب والمشرق فقد تباينت رؤيتها عن المركز الذي انشقت عنه، فدعت بعضها إلى مذهب الخوارج الصّفريّة، مثل إمارة بني مدرار بسجلماسة وأخرى إلى الإباضيّة مثل الدولة الرّستميّة بتاهرت، حيث ظلّ المذهب محدّدا لدور قبائل زناتة ولواتة ونفوسة وهوارة في الحكم الرّستمي، وثالثة إلى الشّيعة الزّيديّة وهي إمارة الأدارسة بفاس. وقد حصل تلازم بين القبيلة والدّين في كلّ هذه الكيانات.
واستمرّ اقتران السّياسة بالدّعوة الدّينيّة في القرن 4هـ/10م، وهو ما يبرهن عنه انتشار المذهب الإسماعيلي لدى قبائل كتامة الجبليّة الواقعة في الأطراف الشّماليّة الغربيّة لإفريقيّة (بين قسنطينة وسطيف وعنابة الحالية)، وبداية تحلّل الهياكل القبليّة الكتاميّة لصالح العصبيّة الدينيّة الجديدة، التي أدّت إلى قيام الدّولة الفاطميّة. فقد تمكّن الدّاعي أبو عبد الله الصّنعاني من بناء مجتمع جديد داخل قبيلة كتامة، عوّضت فيه العصبيّة المذهبيّة العصبية القبليّة، إذ أضحى المذهب مسيطراً على القبيلة. لقد حصل للقبيلة في هذه الحالة تطوّرات كبيرة من جرّاء انتشار الدّعوة داخلها ولم تفلح محاولات التصدّي والمقاومة لهذه الحركة سواء في مرحلة الدّعوة (280-296 هـ/ 894-909م) أو في مرحلة قيام الدّولة.
وعند قيام الدّولة المرابطيّة انطلاقاً من الاتحادية القبليّة لصنهاجة اللّثام القائمة في الصّحراء الكبرى (موريتانيا حالياّ)، تبنّت المذهب المالكي منطلقا لحركتها في اتّجاه واحات الشّمال ومدنه بالمغرب الأقصى وكذلك في اتّجاه بلاد السّودان الغربي جنوباً. وقد نجحت الاتّحاديّة القبليّة في تكوين دولة شملت كل المجال الممتدّ بين الأندلس شمالاً ونهر النيجر جنوباً، وكان فيها لفقهاء المالكيّة دور المسيطر على دواليب الحكم والسّلطة. ولذا ساعد نبذ كلّ رأي مخالف على تعطيل التطوّر الفكري العادي، وتجسّد ذلك في مصادرة الفكر وفي حرق كتاب إحياء علوم الدّين للغزالي،تلتها في العصر الموحّدي ردود فعل في المصادرة الفكريّة.
ولئن قامت قبائل مصمودة بجبال الأطلس الكبير بالمغرب الأقصى المطلّة على مرّاكش بنقض الدّعوة المرابطيّة ومحاربتها، وبالتخلّص من كتب الفروع والاعتماد على الأصول، فإنّ الدّولة التي أنشأتها ظلّت (تيوقراطيّة) إلى حدّ ما، لا فصل فيها بين السّياسة والدّين، وذلك لاستنادها إلى تعاليم محمّد بن تومرت المدّعي للمهدويّة، والذي نجح في بلورة فكر أشعري متأثّر في بعض مظاهره بالسنّة والشّيعة والمعتزلة
إنّ هذه الأمثلة تؤرّخ في مستوى بلاد المغرب والمشرق إلى تلازم بين عصب القبيلة والدّعوة للوصول إلى تكوين دولة. غير أنّ الدّعوة فقدت مكانتها في التعبئة ابتداء من قيام إمارة بني زيّان بتلمسان وبني مرين بفاس وبني الأحمر بغرناطة، على إثر سقوط دولة الموحدين. وباستثناء الإمارة الحفصيّة بتونس التي مثّلت تواصلاً للهياكل الموحّدية على المستوى الشّكلي على الأقلّ، فإنّ بقيّة الكيانات المغربيّة قامت على أساس حدّ السّيف ولا دور للدّين في تعبئة الأنصار. فكان يغمراسن بن زيّان فارسا، لا مذهب معيّن يستند إليه، بخلاف مذهب المالكيّة الذي ترسّخت أقدامه في كامل بلاد المغرب والأندلس. وهو ما نلحظه بذات الكيفيّة في مشرق البلاد العربيّة، إذ قامت دولة المماليك البحريّة على حدّ السّيف وعلى الأقليّات المملوكيّة بمصر، ولم تكن لها دعوة تميّزها عن غيرها. فهل معنى ذلك أنّ نموذجاً جديداً بدأ يطلّ في الأفق، لا يعتمد على الدّعوة بقدر ما يستند إلى السّيف، اقترن فيه دور الفقهاء بالكيانات السّياسيّة القائمة إلى حدّ التّبعيّة المطلقة؟
لقد انطلق ابن خلدون من تجريبيّة هذه الأمثلة ومن غيرها كي يستنبط العلاقة الثلاثيّة بين الملك
العصبيّة والدّعوة.
وفي كلّ الأحوال، حصل تداخل بين القبيلة والدّين عصر ذاك، طالما ساهمت القبيلة في نشر الدّين الجديد، واحتاج أبناؤها إلى العلم، المتمثّل خصوصاً في معرفة العلوم الدّينيّة، للانخراط في مسلك الرقيّ الاجتماعي. وفضلا عن اقتران نشأة الكيانات السّياسيّة بالدّعوة الدّينيّة لقيامها منذ تلك الحقبة، فإنّ ثنائيّة القبيلة والدّين أضحت ذات صلة بموضوعات عديدة منها النّسب والشّرف والمعتقد وغيرها.
أوّلاً: ثنائيّة العصبيّة والدّعوة لدى ابن خلدون، بين المعاينة والتنظير
1- ثلاثيّة ابن خلدون: العصبيّة والدّعوة والملك
اقترن نمط العيش البدوي اقتراناً كاملاً بالبنية القبليّة، القائمة بدورها على العصبيّة وعلى شرف النّسب. اقترنت بتطوّر مستمرّ للظّاهرة القبليّة سواء في تركيبتها الدّاخليّة أو في علاقتها بالسلطة والثقافة والدّين.
وإذ تقوم العصبيّة على النّسب سواء أكان حقيقيّاً أو وهميّاً، قريباً أو بعيداً، كي (تقع المناصرة والنّعرة)، فإنّها تمثّل اللّحمة المتكوّنة بين القبائل المتجاورة (للحماية والمدافعة والمطالبة). وتكون القبيلة الأقوى القطب الجاذب لبقيّة القبائل والعشائر التي تنضمُّ إليها في مرحلة أولى قبل أن تنطلق لغزو القبائل والعشائر المجاورة ثم الاستظهار على الدّولة والتغلّب عليها إذا ما بلغت مرحلة الهرم. قال ابن خلدون في هذا الصّدد: (والقبيل الواحد إذا كانت فيه بيوتات متفرّقة وعصبيات متعدّدة، فلا بدّ من عصبيّة تكون أقوى من جميعها،وتتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها، وتصير كأنّها عصبيّة واحدة كبرى، وإلاّ وقع الافتراق المفضي إلى الاختلاف والتّنازع)
على أنّ الدّعوة الدّينيّة تعدّ شرطاً مكمّلاً للعصبيّة للوصول إلى السّلطة. وهي الوسيلة الوحيدة التي تمكّن البدو من (التسييس). وعند الوصول إلى الملك، تظلّ مساعدة على قوّة الدّولة بعد قيامها.
خصّص ابن خلدون في مقدّمته بعض الفصول لمسألة الدّعوة: (في أنّ الدّول العامّة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدّين إمّا من نبوّة أو دعوة حقّ) - (في أنّ الدّعوة الدينيّة تزيد الدّولة في أصلها قوّة على قوّة العصبيّة التي كانت لها من عددها) - (في أنّ الدّعوة الدّينيّة من غير عصبيّة لا تتمّ). وعلّل ذلك بكون (الصّبغة الدّينيّة تذهب التّنافس والتّحاسد الذي في أهل العصبيّة وتفرد الوجهة إلى الحقّ)، مستدلاّ على مكانة الدّعوة في قيام الدّولة بالانتصار الذي حقّقه العرب في القادسيّة على الفرس، بيد أنّ عددهم كان أقلّ منهم بكثير. وقدّم نماذج من المجال المغربي، قائلا: (واعتبر ذلك أيضا في دولة لمتونة ودولة الموحّدين، فقد كان بالمغرب من القبائل كثير ممّن يقاومهم في العدد والعصبيّة أو يشفّ عليهم، إلاّ أنّ الاجتماع الدّيني ضاعف قوّة عصبيتهم بالاستبصار والاستماتة كما قلناه، فلم يقف لهم شيء)
وهكذا ساعدت الدّعوة القائمة أساساً على الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر على (جمع القلوب وتأليفها)، وعلى تحقيق الوحدة، محوّلة طبيعة البدو العدوانيّة وحرابتهم وغزوهم إلى طاقة حربيّة إيجابيّة، تتحلّى بها العصبيّة الجامعة.
وعلى العكس من ذلك، يؤدّي فساد الدّعوة إلى تغلّب العصبيات ذات الملك على غيرها بحدّ القوّة، وهو ما يفتح الباب لردّ الفعل كلّما استطاعت ذلك، من ذلك مثال سيطرة مصمودة على العهد الموحّدي على القبائل الأشدّ منها بداوة مثل زناتة. و(لمّا خلوا من تلك الصّبغة الدّينيّة انتقضت عليهم زناتة من كلّ جانب وغلبوهم على الأمر وانتزعوه منهم
ورغم تأثير الدّعوة على القبيلة، فإنّها (من غير العصبيّة لا تتمّ)
تناول صاحب المقدّمة سيرورة القبيلة إلى الملك، عن طريق آليتين مكمّلتين: العصبيّة والدّعوة الدّينيّة. وتستمدّ العصبيّة قوّتها من (الالتحام) الذي توجد له مبرّرات في النّسب. وتصبح أكثر قوّة لا تصمد في وجهها العصبيات الأخرى كلّما اقترنت بالتحام روحي آخر
هذا الأنموذج القائم على الدّولة العصبويّة أو العضويّة يتفاعل خصوصاً مع المجالات البدويّة في البلاد العربيّة الإسلاميّة
2ـ امتدادات النصّ الخلدوني التّاريخيّة: من التلازم إلى فكّ الارتباط بين القبيلة والدّين
قامت الدّول في هذه الحقبة على أساس العصبيّة القبليّة والدّعوة الدّينيّة. فقد استندت الدّولة الأمويّة إلى عصبيّة قريش، وخصوصاً بني أميّة، وإلى مذهب أهل الجماعة، فيما ارتكزت الدّولة العبّاسيّة على عصبيّة الموالي وعلى مذهب الاعتزال. أمّا الإمارات المستقلّة النّاشئة في المغرب والمشرق فقد تباينت رؤيتها عن المركز الذي انشقت عنه، فدعت بعضها إلى مذهب الخوارج الصّفريّة، مثل إمارة بني مدرار بسجلماسة وأخرى إلى الإباضيّة مثل الدولة الرّستميّة بتاهرت، حيث ظلّ المذهب محدّدا لدور قبائل زناتة ولواتة ونفوسة وهوارة في الحكم الرّستمي، وثالثة إلى الشّيعة الزّيديّة وهي إمارة الأدارسة بفاس. وقد حصل تلازم بين القبيلة والدّين في كلّ هذه الكيانات.
واستمرّ اقتران السّياسة بالدّعوة الدّينيّة في القرن 4هـ/10م، وهو ما يبرهن عنه انتشار المذهب الإسماعيلي لدى قبائل كتامة الجبليّة الواقعة في الأطراف الشّماليّة الغربيّة لإفريقيّة (بين قسنطينة وسطيف وعنابة الحالية)، وبداية تحلّل الهياكل القبليّة الكتاميّة لصالح العصبيّة الدينيّة الجديدة، التي أدّت إلى قيام الدّولة الفاطميّة. فقد تمكّن الدّاعي أبو عبد الله الصّنعاني من بناء مجتمع جديد داخل قبيلة كتامة، عوّضت فيه العصبيّة المذهبيّة العصبية القبليّة، إذ أضحى المذهب مسيطراً على القبيلة. لقد حصل للقبيلة في هذه الحالة تطوّرات كبيرة من جرّاء انتشار الدّعوة داخلها ولم تفلح محاولات التصدّي والمقاومة لهذه الحركة سواء في مرحلة الدّعوة (280-296 هـ/ 894-909م) أو في مرحلة قيام الدّولة.
وعند قيام الدّولة المرابطيّة انطلاقاً من الاتحادية القبليّة لصنهاجة اللّثام القائمة في الصّحراء الكبرى (موريتانيا حالياّ)، تبنّت المذهب المالكي منطلقا لحركتها في اتّجاه واحات الشّمال ومدنه بالمغرب الأقصى وكذلك في اتّجاه بلاد السّودان الغربي جنوباً. وقد نجحت الاتّحاديّة القبليّة في تكوين دولة شملت كل المجال الممتدّ بين الأندلس شمالاً ونهر النيجر جنوباً، وكان فيها لفقهاء المالكيّة دور المسيطر على دواليب الحكم والسّلطة. ولذا ساعد نبذ كلّ رأي مخالف على تعطيل التطوّر الفكري العادي، وتجسّد ذلك في مصادرة الفكر وفي حرق كتاب إحياء علوم الدّين للغزالي،تلتها في العصر الموحّدي ردود فعل في المصادرة الفكريّة.
ولئن قامت قبائل مصمودة بجبال الأطلس الكبير بالمغرب الأقصى المطلّة على مرّاكش بنقض الدّعوة المرابطيّة ومحاربتها، وبالتخلّص من كتب الفروع والاعتماد على الأصول، فإنّ الدّولة التي أنشأتها ظلّت (تيوقراطيّة) إلى حدّ ما، لا فصل فيها بين السّياسة والدّين، وذلك لاستنادها إلى تعاليم محمّد بن تومرت المدّعي للمهدويّة، والذي نجح في بلورة فكر أشعري متأثّر في بعض مظاهره بالسنّة والشّيعة والمعتزلة
إنّ هذه الأمثلة تؤرّخ في مستوى بلاد المغرب والمشرق إلى تلازم بين عصب القبيلة والدّعوة للوصول إلى تكوين دولة. غير أنّ الدّعوة فقدت مكانتها في التعبئة ابتداء من قيام إمارة بني زيّان بتلمسان وبني مرين بفاس وبني الأحمر بغرناطة، على إثر سقوط دولة الموحدين. وباستثناء الإمارة الحفصيّة بتونس التي مثّلت تواصلاً للهياكل الموحّدية على المستوى الشّكلي على الأقلّ، فإنّ بقيّة الكيانات المغربيّة قامت على أساس حدّ السّيف ولا دور للدّين في تعبئة الأنصار. فكان يغمراسن بن زيّان فارسا، لا مذهب معيّن يستند إليه، بخلاف مذهب المالكيّة الذي ترسّخت أقدامه في كامل بلاد المغرب والأندلس. وهو ما نلحظه بذات الكيفيّة في مشرق البلاد العربيّة، إذ قامت دولة المماليك البحريّة على حدّ السّيف وعلى الأقليّات المملوكيّة بمصر، ولم تكن لها دعوة تميّزها عن غيرها. فهل معنى ذلك أنّ نموذجاً جديداً بدأ يطلّ في الأفق، لا يعتمد على الدّعوة بقدر ما يستند إلى السّيف، اقترن فيه دور الفقهاء بالكيانات السّياسيّة القائمة إلى حدّ التّبعيّة المطلقة؟
لقد انطلق ابن خلدون من تجريبيّة هذه الأمثلة ومن غيرها كي يستنبط العلاقة الثلاثيّة بين الملك
العصبيّة والدّعوة.