ابو إبراهيم
2009-01-31, 13:20
في رد شبهة قبوري بآية:
﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا﴾ [الكهف: 21]
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
ففي محاولة الهجوم على دعوة التوحيد وتحقير الدعاة إليه وتهوين مكانتهم، وجعل قضية المساجد التي بها قبور قضية فقهية فرعية لا ترقى في أن تكون سببًا للتهوين في التفريق بين المسلمين والتنابز بالألقاب والتباعد والهجران، وفي ظل تعظيم القبور والمشاهد والأضرحة تولى من يؤيِّد تشييد المساجد عليها واعتبار أن الصلاة فيها تصل إلى درجة الاستحباب بالانتصار لهذا المعتقد بشبهة من آية من سورة الكهف في قوله تعالى: ﴿فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا﴾ [الكهف: 21]، حيث قال -هداه الله-:
«ووجه الاستدلال بالآية أنَّها أشارت إلى قصَّة أصحاب الكهف، حينما عثر عليهم الناس، فقال بعضهم: نبني عليهم بُنيانًا، وقال آخرون: لنتَّخذنَّ عليهم مسجدًا.
والسياق يدلُّ على أنَّ الأَوَّل: قول المشركين، والثاني: قول الموحِّدين، والآية طرحت القولين دون استنكار، ولو كان فيهما شيء من الباطل لكان من المناسب أن تشير إليه، وتدلُّ على بطلانه بقرينة ما، وتقريرها للقولين يدلُّ على إمضاء الشريعة لهما، بل إنَّها طرحت قول الموحِّدين بسياقٍ يفيد المدح، وذلك بدليل المقابلة بينه وبين قول المشركين المحفوف بالتشكيك، بينما جاء قول الموحِّدين قاطعًا ﴿لَنَتَّخِذَنَّ﴾ نابعًا من رؤية إيمانية، فليس المطلوب عندهم مجرَّد البناء، وإنَّما المطلوب هو المسجد. وهذا القول يدلُّ على أنَّ أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله معترفين بالعبادة والصلاة.
قال الرازي في تفسير ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾:نعبد الله فيه، ونستبقي آثارَ أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد(١- «تفسير الرازي» (11/106). (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_1'))).
وقال الشوكاني: ذكر اتخاذ المسجد يُشعر بأنَّ هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم المسلمون، وقيل: هم أهل السلطان والملوك من القوم المذكورين، فإنهم الذين يغلبون على أمر من عداهم، والأوَّل أولى(٢- «فتح القدير» في التفسير للشوكاني: (3/277). (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_2'))). وقال الزجاجي: هذا يدلُّ على أنَّه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث والنشور؛ لأنَّ المساجد للمؤمنين. هذا بخصوص ما ذكر في كتاب الله فيما يخصُّ مسألة بناء المسجد على القبر».
وبعد الأمانة في النقل أقول -وبالله التوفيق والسداد-:
فلا دلالة في الآية على جواز الصلاة بالمسجد الذي به ضريح أحدِ الأنبياء عليهم السلام أو الصالحين، بَلْهَ أن تصل إلى درجة الاستحباب؛ لأنَّ غاية ما يدل عليه أنَّ الذين اتخذوا مسجدًا على قبور الصالحين كانوا من النصارى الذين لعنهم النبيُّ صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم كما صرَّح به غير واحدٍ من أهل التفسير، وقد بَيَّن النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم إنكاره هذا الصنيع المسنون لليهود والنصارى في أربعة عشر حديثًا منها:
- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في مرضه الذي لم يقم منه: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». لَوْلاَ ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أن يُتخذَ مَسجدًا(٣- أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي وأبي بكر وعمر فأقبره: (1324)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة: (1184)، من حديث عائشة رضي الله عنها. (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_3'))).
- وعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم قَالاَ: لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولَ اللهِ، طَفِقَ يَطْرَحُ خمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذلِكَ: «لَعْنَةُ اللهُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارى. اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مِثْلَ الَّذِي صَنَعُوا(٤- أخرجه البخاري: كتاب المساجد، باب الصلاة في البيعة: (425)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة: (1187)، من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهم. (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_4'))).
- وعن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه سَمِعَ النَّبِيَّ، قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ، وَهُوَ يَقُولُ: «... أَلاَ وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلاَ فَلاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ. إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذٰلِكَ»(٥- أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة: (1188)، من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه. (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_5'))).
- وعن عائشة رضي الله عنها: لَمَّا كانَ مَرَضُ رسولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَذَاكَرَ بعضُ نسائِهِ كنيسةً بأرضِ الحَبَشَةِ يقال لها مَارِيَةُ، وقد كانتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيْبَةَ رضي الله عنهما قد أَتَتَا أرضَ الحَبَشَةِ فَذَكَرْنَ من حُسْنِهَا وتصاوِيْرِهَا قالتْ: فقالَ النبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ أُولَئِكِ إِذَا كَانَ فِيْهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولِئَِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ»(٦- أخرجه البخاري: كتاب المساجد، باب الصلاة في البيعة: (424)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة: (1181)، واللفظ للبيهقي في «السنن الكبرى»: (7321)، من حديث عائشة رضي الله عنها. (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_6'))).
قال القرطبي -رحمه الله-: «قال علماؤنا: ففعل ذلك أوائلهم ليتأنَّسوا برؤية تلك الصُّوَر ويتذكَّروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون الله عزَّ وجلَّ عند قبورهم، فمضت لهم بذلك أزمان، ثمَّ أنهم خَلَف من بعدهم خلوف جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان أنَّ آباءكم وأجدادكم كانوا يعبدون هذه الصورة فعبدوها؛ فحذَّر النبيُّ صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم عن مثل ذلك، وشدَّد النكير والوعيد على من فعل ذلك، وسدَّ الذرائع المؤدِّية إلى ذلك، فقال: "اشتدَّ غضب الله على قوم ٱتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد"»(٧- «تفسير القرطبي»: (2/85) (10/380). (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_7'))).
وقال ابن رجب -رحمه الله-: «هذا الحديث يدلُّ على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صورهم فيها كما يفعله النصارى، ولا ريب أنَّ كُلَّ واحدٍ منهما محرَّم على انفراد، فتصوير صور الآدميِّين محرَّم، وبناءُ القبور على المساجد بانفراده محرَّم كما دلَّت عليه النصوص أخرى يأتي ذكر بعضها... فإن اجتمع بناء المسجد على القبور ونحوها من آثار الصالحين مع تصوير صورهم فلا شكَّ في تحريمه، سواء كانت صورًا مجسّدة كالأصنام أو على حائطٍ ونحوه، كما يفعله النصارى في كنائسهم، والتصاوير التي في الكنيسة التي ذكرتها أم حبيبة وأم سلمة أنهما رأتاها بالحبشة كانت على الحيطان ونحوها، ولم يكن لها ظل، وكانت أم سلمة وأم حبيبة قد هاجرتا إلى الحبشة.
فتصوير الصور على مثل صور الأنبياء والصالحين؛ للتبرك بها والاستشفاع بها محرم في دين الإسلام، وهو من جنس عبادة الأوثان، وهو الذي أخبر النبيُّ صَلَّى الله عليه وسلم أنَّ أهله شرار الخلق عند الله يوم القيامة.
وتصوير الصور للتآنس برؤيتها أو للتَّنَزُّه بذلك والتلهي محرَّم، وهو من الكبائر وفاعله من أشدِّ الناس عذابًا يوم القيامة، فإنه ظالم ممثل بأفعال الله التي لا يقدر على فعلها غيره، والله تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله سبحانه وتعالى»(٨- «فتح الباري» لابن رجب: (3/197). (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_8'))).
وقال الألوسي -رحمه الله-: «هذا، واستدلَّ بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء واتخاذ مسجد عليها وجواز الصلاة فيها وممَّن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي وهو قول باطلٌ عاطلٌ فاسدٌ كاسدٌ فقد روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لَعَنَ اللهُ تَعَالَى زَائِرَاتِ القُبُورِ وَالمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرَجَ»(٩- أخرجه أبو داود (3236)، والترمذي (320)، والنسائي (2043)، وأحمد: (3108)، من حديث أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، والحديث بهذا السياق ضعيف، قال ابن رجب الحنبلي في «فتح الباري» (3/201): « وقال مسلم في كتاب التفصيل: هذا الحديث ليس بثابت، وأبو صالح باذام قد اتقى الناس حديثه، ولا يثبت له سماع من ابن عباس ». لكن ورد له شواهد تقويه في «لعن زائرات القبور»، مثل الحديث الذي أخرجه الترمذي (1056) وغيره: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ زَوَّارَاتِ القُبُورِ»، وأخرى في «اتخاذ المساجد على القبور» وقد تواتر ذلك عنه صلى الله عليه وآله وسلم. انظر: «الإرواء»: (3/212)، و«السلسلة الضعيفة»: (1/393) للألباني. (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_9')))... إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة.
وذكر ابن حجر في «الزواجر»(١٠- انظر: «الزواجر» للهيثمي: (194) في الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون: اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثانًا، والطواف بها واستلامها والصلاة إليها. (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_10'))): «أنه وقع في كلام بعض الشافعية عدّ اتخاذ القبور مساجد والصلاة إليها واستلامها والطواف بها ونحو ذلك من الكبائر»(١١- «تفسير الألوسي»: (11/196). (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_11'))).
قلت: وليس النهي منقولاً عن الشافعية فقط بل عند كافَّة المذاهب، فمن ذلك ما قاله القرطبي المالكي رحمه الله -في معرض إيراده حديث عائشة رضي الله عنها-: «قال علماؤنا: وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد»(١٢- «تفسير القرطبي»: (10/380). (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_12'))). وقال ابن قدامة الحنبلي -رحمه الله-: «ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر، ولأنَّ النبيَّ صَلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يحذر ما صنعوا...، ولأنَّ تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها، والتقرُّب إليها، وقد روينا أنَّ ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها»(١٣- «المغني» لابن قدامة: (1/360). (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_13'))). وقال الزيلعي الحنفي -رحمه الله-: «ويكره أن يبنى على القبر أو يقعد عليه أو ينام عليه أو يوطأ عليه أو يقضى عليه حاجة الإنسان... أو يصلى إليه أو يصلى بين القبور... ونهى عليه الصلاة والسلام عن اتخاذ القبور مساجد»(١٤- «تبيين الحقائق» للزيلعي: (1/246). (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_14'))). وهكذا صرَّح عامَّة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها مُتابعةً منهم للسُّنَّة الصحيحة الصريحة من غير اختلافٍ بين الأئمة المعروفين، قال ابن تيمية -رحمه الله-: «ويحرم الإسراج على القبور، واتخاذ المساجد عليها وبنيها ويتعيَّن إزالتها، ولا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعروفين»(١٥- «اختيارات ابن تيمية» للبعلي: (81). (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_15'))).
هذا، وإن كان المنقول عن طائفة أهل العلم أطلقت الكراهة على بناء المساجد على القبور، فإنه ينبغي أن تحمل على الكراهة التحريمية إحسانًا للظنِّ بالعلماء لئلاَّ يُظنَّ بهم أنهم يجوزون نهيًا تواتر عن رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسلم أنّه لَعَن فاعله وشدَّد النكير والوعيد على فعله. ------ تابع ------
﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا﴾ [الكهف: 21]
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
ففي محاولة الهجوم على دعوة التوحيد وتحقير الدعاة إليه وتهوين مكانتهم، وجعل قضية المساجد التي بها قبور قضية فقهية فرعية لا ترقى في أن تكون سببًا للتهوين في التفريق بين المسلمين والتنابز بالألقاب والتباعد والهجران، وفي ظل تعظيم القبور والمشاهد والأضرحة تولى من يؤيِّد تشييد المساجد عليها واعتبار أن الصلاة فيها تصل إلى درجة الاستحباب بالانتصار لهذا المعتقد بشبهة من آية من سورة الكهف في قوله تعالى: ﴿فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا﴾ [الكهف: 21]، حيث قال -هداه الله-:
«ووجه الاستدلال بالآية أنَّها أشارت إلى قصَّة أصحاب الكهف، حينما عثر عليهم الناس، فقال بعضهم: نبني عليهم بُنيانًا، وقال آخرون: لنتَّخذنَّ عليهم مسجدًا.
والسياق يدلُّ على أنَّ الأَوَّل: قول المشركين، والثاني: قول الموحِّدين، والآية طرحت القولين دون استنكار، ولو كان فيهما شيء من الباطل لكان من المناسب أن تشير إليه، وتدلُّ على بطلانه بقرينة ما، وتقريرها للقولين يدلُّ على إمضاء الشريعة لهما، بل إنَّها طرحت قول الموحِّدين بسياقٍ يفيد المدح، وذلك بدليل المقابلة بينه وبين قول المشركين المحفوف بالتشكيك، بينما جاء قول الموحِّدين قاطعًا ﴿لَنَتَّخِذَنَّ﴾ نابعًا من رؤية إيمانية، فليس المطلوب عندهم مجرَّد البناء، وإنَّما المطلوب هو المسجد. وهذا القول يدلُّ على أنَّ أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله معترفين بالعبادة والصلاة.
قال الرازي في تفسير ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾:نعبد الله فيه، ونستبقي آثارَ أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد(١- «تفسير الرازي» (11/106). (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_1'))).
وقال الشوكاني: ذكر اتخاذ المسجد يُشعر بأنَّ هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم المسلمون، وقيل: هم أهل السلطان والملوك من القوم المذكورين، فإنهم الذين يغلبون على أمر من عداهم، والأوَّل أولى(٢- «فتح القدير» في التفسير للشوكاني: (3/277). (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_2'))). وقال الزجاجي: هذا يدلُّ على أنَّه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث والنشور؛ لأنَّ المساجد للمؤمنين. هذا بخصوص ما ذكر في كتاب الله فيما يخصُّ مسألة بناء المسجد على القبر».
وبعد الأمانة في النقل أقول -وبالله التوفيق والسداد-:
فلا دلالة في الآية على جواز الصلاة بالمسجد الذي به ضريح أحدِ الأنبياء عليهم السلام أو الصالحين، بَلْهَ أن تصل إلى درجة الاستحباب؛ لأنَّ غاية ما يدل عليه أنَّ الذين اتخذوا مسجدًا على قبور الصالحين كانوا من النصارى الذين لعنهم النبيُّ صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم كما صرَّح به غير واحدٍ من أهل التفسير، وقد بَيَّن النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم إنكاره هذا الصنيع المسنون لليهود والنصارى في أربعة عشر حديثًا منها:
- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في مرضه الذي لم يقم منه: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». لَوْلاَ ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أن يُتخذَ مَسجدًا(٣- أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي وأبي بكر وعمر فأقبره: (1324)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة: (1184)، من حديث عائشة رضي الله عنها. (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_3'))).
- وعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم قَالاَ: لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولَ اللهِ، طَفِقَ يَطْرَحُ خمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذلِكَ: «لَعْنَةُ اللهُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارى. اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مِثْلَ الَّذِي صَنَعُوا(٤- أخرجه البخاري: كتاب المساجد، باب الصلاة في البيعة: (425)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة: (1187)، من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهم. (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_4'))).
- وعن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه سَمِعَ النَّبِيَّ، قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ، وَهُوَ يَقُولُ: «... أَلاَ وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلاَ فَلاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ. إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذٰلِكَ»(٥- أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة: (1188)، من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه. (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_5'))).
- وعن عائشة رضي الله عنها: لَمَّا كانَ مَرَضُ رسولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَذَاكَرَ بعضُ نسائِهِ كنيسةً بأرضِ الحَبَشَةِ يقال لها مَارِيَةُ، وقد كانتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيْبَةَ رضي الله عنهما قد أَتَتَا أرضَ الحَبَشَةِ فَذَكَرْنَ من حُسْنِهَا وتصاوِيْرِهَا قالتْ: فقالَ النبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ أُولَئِكِ إِذَا كَانَ فِيْهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولِئَِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ»(٦- أخرجه البخاري: كتاب المساجد، باب الصلاة في البيعة: (424)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة: (1181)، واللفظ للبيهقي في «السنن الكبرى»: (7321)، من حديث عائشة رضي الله عنها. (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_6'))).
قال القرطبي -رحمه الله-: «قال علماؤنا: ففعل ذلك أوائلهم ليتأنَّسوا برؤية تلك الصُّوَر ويتذكَّروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون الله عزَّ وجلَّ عند قبورهم، فمضت لهم بذلك أزمان، ثمَّ أنهم خَلَف من بعدهم خلوف جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان أنَّ آباءكم وأجدادكم كانوا يعبدون هذه الصورة فعبدوها؛ فحذَّر النبيُّ صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم عن مثل ذلك، وشدَّد النكير والوعيد على من فعل ذلك، وسدَّ الذرائع المؤدِّية إلى ذلك، فقال: "اشتدَّ غضب الله على قوم ٱتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد"»(٧- «تفسير القرطبي»: (2/85) (10/380). (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_7'))).
وقال ابن رجب -رحمه الله-: «هذا الحديث يدلُّ على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صورهم فيها كما يفعله النصارى، ولا ريب أنَّ كُلَّ واحدٍ منهما محرَّم على انفراد، فتصوير صور الآدميِّين محرَّم، وبناءُ القبور على المساجد بانفراده محرَّم كما دلَّت عليه النصوص أخرى يأتي ذكر بعضها... فإن اجتمع بناء المسجد على القبور ونحوها من آثار الصالحين مع تصوير صورهم فلا شكَّ في تحريمه، سواء كانت صورًا مجسّدة كالأصنام أو على حائطٍ ونحوه، كما يفعله النصارى في كنائسهم، والتصاوير التي في الكنيسة التي ذكرتها أم حبيبة وأم سلمة أنهما رأتاها بالحبشة كانت على الحيطان ونحوها، ولم يكن لها ظل، وكانت أم سلمة وأم حبيبة قد هاجرتا إلى الحبشة.
فتصوير الصور على مثل صور الأنبياء والصالحين؛ للتبرك بها والاستشفاع بها محرم في دين الإسلام، وهو من جنس عبادة الأوثان، وهو الذي أخبر النبيُّ صَلَّى الله عليه وسلم أنَّ أهله شرار الخلق عند الله يوم القيامة.
وتصوير الصور للتآنس برؤيتها أو للتَّنَزُّه بذلك والتلهي محرَّم، وهو من الكبائر وفاعله من أشدِّ الناس عذابًا يوم القيامة، فإنه ظالم ممثل بأفعال الله التي لا يقدر على فعلها غيره، والله تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله سبحانه وتعالى»(٨- «فتح الباري» لابن رجب: (3/197). (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_8'))).
وقال الألوسي -رحمه الله-: «هذا، واستدلَّ بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء واتخاذ مسجد عليها وجواز الصلاة فيها وممَّن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي وهو قول باطلٌ عاطلٌ فاسدٌ كاسدٌ فقد روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لَعَنَ اللهُ تَعَالَى زَائِرَاتِ القُبُورِ وَالمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرَجَ»(٩- أخرجه أبو داود (3236)، والترمذي (320)، والنسائي (2043)، وأحمد: (3108)، من حديث أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، والحديث بهذا السياق ضعيف، قال ابن رجب الحنبلي في «فتح الباري» (3/201): « وقال مسلم في كتاب التفصيل: هذا الحديث ليس بثابت، وأبو صالح باذام قد اتقى الناس حديثه، ولا يثبت له سماع من ابن عباس ». لكن ورد له شواهد تقويه في «لعن زائرات القبور»، مثل الحديث الذي أخرجه الترمذي (1056) وغيره: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ زَوَّارَاتِ القُبُورِ»، وأخرى في «اتخاذ المساجد على القبور» وقد تواتر ذلك عنه صلى الله عليه وآله وسلم. انظر: «الإرواء»: (3/212)، و«السلسلة الضعيفة»: (1/393) للألباني. (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_9')))... إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة.
وذكر ابن حجر في «الزواجر»(١٠- انظر: «الزواجر» للهيثمي: (194) في الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون: اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثانًا، والطواف بها واستلامها والصلاة إليها. (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_10'))): «أنه وقع في كلام بعض الشافعية عدّ اتخاذ القبور مساجد والصلاة إليها واستلامها والطواف بها ونحو ذلك من الكبائر»(١١- «تفسير الألوسي»: (11/196). (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_11'))).
قلت: وليس النهي منقولاً عن الشافعية فقط بل عند كافَّة المذاهب، فمن ذلك ما قاله القرطبي المالكي رحمه الله -في معرض إيراده حديث عائشة رضي الله عنها-: «قال علماؤنا: وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد»(١٢- «تفسير القرطبي»: (10/380). (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_12'))). وقال ابن قدامة الحنبلي -رحمه الله-: «ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر، ولأنَّ النبيَّ صَلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يحذر ما صنعوا...، ولأنَّ تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها، والتقرُّب إليها، وقد روينا أنَّ ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها»(١٣- «المغني» لابن قدامة: (1/360). (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_13'))). وقال الزيلعي الحنفي -رحمه الله-: «ويكره أن يبنى على القبر أو يقعد عليه أو ينام عليه أو يوطأ عليه أو يقضى عليه حاجة الإنسان... أو يصلى إليه أو يصلى بين القبور... ونهى عليه الصلاة والسلام عن اتخاذ القبور مساجد»(١٤- «تبيين الحقائق» للزيلعي: (1/246). (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_14'))). وهكذا صرَّح عامَّة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها مُتابعةً منهم للسُّنَّة الصحيحة الصريحة من غير اختلافٍ بين الأئمة المعروفين، قال ابن تيمية -رحمه الله-: «ويحرم الإسراج على القبور، واتخاذ المساجد عليها وبنيها ويتعيَّن إزالتها، ولا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعروفين»(١٥- «اختيارات ابن تيمية» للبعلي: (81). (http://javascript<b></b>:AppendPopup(this,'pjdefOutline_15'))).
هذا، وإن كان المنقول عن طائفة أهل العلم أطلقت الكراهة على بناء المساجد على القبور، فإنه ينبغي أن تحمل على الكراهة التحريمية إحسانًا للظنِّ بالعلماء لئلاَّ يُظنَّ بهم أنهم يجوزون نهيًا تواتر عن رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسلم أنّه لَعَن فاعله وشدَّد النكير والوعيد على فعله. ------ تابع ------