عمدة الفقه - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم الفقه و أصوله

قسم الفقه و أصوله تعرض فيه جميع ما يتعلق بالمسائل الفقهية أو الأصولية و تندرج تحتها المقاصد الاسلامية ..

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

عمدة الفقه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2019-04-24, 08:30   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










B18 عمدة الفقه

عُمدَةُ الفقه (6)
الدَّرسُ الأول (1)
د. عبد الحكيم بن محمد العجلان

بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدة من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاك الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات.
{نستأنف في هذا الفصل -بإذن الله- باب "عشرة النساء" من كتاب "عمدة الفقه" لابن قدامة}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أمَّا بعدُ؛ فلعلك أن تأذن لي -حفظك الله- في استهلال هذا الفصل، أو هذه الحقبة الجديدة، والإطلالة التي جاءت بعد هذا التَّوقُّف؛ فحاجتنا طلبة العلم، ومَن مشى في هذه الأكاديمية، ومَن بنى نفسه في هذا البناء العلمي، ومَن أراد الخير في هذه المجالس المباركة؛ عليه أن يستحضر مسألةً مُهمَّة، لا نستغني في كلِّ حالٍ وفي كلِّ حينٍ، وفي كلِّ آنٍ، وفي تقلُّبِ الأيَّام والزَّمان في استحضارها، وهو الإخلاص لله -جلَّ وعلا.
وقال بعض السَّلف: "لم أجد شيئًا أعظم مُعالجةً من النِّيَّة، فإنَّها تتقلَّب"، وما سُمِّيَ القلب قلبًا إلا لكثرة تقلُّبه، فإنَّ الإنسانَ إذا جمعَ علمًا وخرجت نفسه وأُعجِبَت بما أوتيت، وإذا حدث للإنسان نُقلةٌ في منزلته، أو تغيُّر في حاله، أو وجدَ مكانًا في مجتمعهِ؛ فسرعان ما يجتذبه الشَّيطان إلى شَرَكهِ، ويُريد به الشَّرَّ والسُّوء، فلأجل ذلك نحن بحاجةٍ إلى أن نبدأ وأن نُعيد وأن نُكرِّر وأن نتحدَّث عن هذا الأمر المهم، فإنَّنا لا غنى لنا عن الإخلاص لله -جلَّ وعَلا- ونحن إنما تعلمنا، وإنما درسنا، وإنما جلسنا واجتمعنا، وإنما أُنشئَت مثل هذه المنارات، وإنَّما وأُقيمت مثل هذه الأكاديميَّات لغرضٍ واحدٍ؛ وهو تحقيق الإخلاص لله -جلَّ وعَلا- والقيام بعبوديته -سُبحَانَه وَتَعَالَى، فلا خير فينا إن لم نتواص على ذلك.
ومن أول من تُسعَّر بهم النار وم القيامة عالم، يُقال له: ماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الله وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، إنَّما قرأت ليُقال قارئ، ثم يؤمر به إلى النار.
يا إخواني أنا أعرف أننا أعدنا هذا الحديث، وأعرف أنكم تحفظونه، لكن أعظم ما يكون حُجَّةً علينا إذا حفظناه وأعدناه ثم لم نزل تفوت علينا النيَّة أو يُدركنا الشيطان أو ننصرف، أنا أتحدث عن نفسي وأنا أعظم ما أكون فتنةً في مثل هذا الموقف وأنا أمام هذه العدسات وإبَّان انتقال هذه الصور والشَّاشات إلى أقطارٍ مَعمورة، والإنسان يعرف أنه لا يحمل كثير علمٍ، ولا أن يجمع أصلًا أصيلًا منه، وإنما هي شتاتٌ جمعَه، وكلامٌ ألَّفَ بينه، والله يتولانا برجمته، فيأتي الشيطان ويقول كذا وكذا وكذا، يأتي علي، ويأتي عليك، ويأتي على الآخر!
فنحن بحاجة إلى أن نستعين بالله -جلَّ وعَلا- وأن نستعيد إخلاصنا لله -سُبحَانَه وَتَعَالَى- إخلاصًا وتمحيصًا وتوضيحًا، حتى يكون قصدنا وجه الله، وحتى نريد ما عند الله -سُبحَانَه وَتَعَالَى- وحتى نتخلص من جميع أهوائنا وحظوظنا وما يلحق بأنفسنا، فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا؛ لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
ثم أنتم في مرحلةٍ من مراحلِ التَّعلم؛ فلتعلموا أنها مِنَّة عظيمة، فكما يمنُّ الله -جلَّ وعَلا- على أناس بالدُّنيا، ويمنُّ على أُناسٍ بالوظائف، ويمنُّ على آخرين بالمساكن، ويمنُّ على آخرين بشهوات الدُّنيا وفسحتها، أو زوجةٍ أو غير ذلك؛ فإن كل هذه المنن وكل هذه الشَّهوات لا تساوي شيئًا فيما يفتحه الله -جلَّ وعَلا- على عبده من الهدى والعلم والبصيرة وطلب العلم، والاهتداء بسنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنَّ الدُّنيا عمَّا قليل ذاهبة، وإنَّ الأيام راحلة، وإنَّ الإنسان ملاقٍ ربَّه، فتذهب الدنيا بعجرها وبجرها وبلائها وشدَّتها ولأوائها ونصبها، ويقبل الإنسان على آخرته بما قدَّم وبما عمل، وبما أنجز، وبما استغفر، وبما تعلم، وبما علم، وبما عمل، وبما اهتدى به من سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فطيبوا نفسًا بما هداكم الله له من العلم، وكونوا أشدَّ عزيمةً في الإقبال عليه، والاهتداء بسنَّة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والتَّمسُّك بها، والتَّشبُّث بحبلها، والاستمساك على صراطها، وعدم الحيد أو الحيف أو الانحراف عن طريقها، فإن هذا هو الهلاك.
وزيدوا منها بلًا وعطاءًا وتحصيلًا وتعلُّمًا حتى تلقوا الله -جلَّ وعَلا- ربَّكم على هدًى وسنةً.
الحقيقة أنا لا أريد أن أطيل في مثل هذه المقدمات، ولكن لابد لنا من الوقوف عندها، ولابدَّ لها من أن نسترجعها، ونحن إنما نُذَكِّر أنفسنا، وعسى الله أن يعفو عنَّا مع ما نتذكَّر، ومع ما نستحضر، ومع ما نجدد، ومع ما نعالج؛ فإنَّه لا يخلو أحد منَّا من أن ينتهز منه الشيطان ضعفًا، وأن يلحق منه حالًا، فربما عثر، وربما ضعف، وربما أدركه شيءٌ من الانصراف، فإذا ما كان للإنسان نيَّةٌ صالحةٌ وحاول المعالجة فإن الله يُعينه على الخير ويُقويه عليه ويبلغه المنزلة، ويتجاوز عنَّا في العثرة والخطيئة، عسى الله أن يستر وأن يعفو، وأن يتجاوز، وأن يصفح، وأن يوفقنا للعلم والهدى، وأن يبلغنا البر والتقى، وهذا أوان الدخول فيما نحن بصدده، والولوج فيما قصدناه من البحث والمدارسة والمراجعة في هذه الأبواب المباركة -بإذن الله -جلَّ وعَلا.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (باَبُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ.
وَعَلى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ معَاشَرَةُ صَاحِبِهِ بِالْمَعْرُوْفِ مِنْ غَيْرِ مَطْلٍ وَلاَ إِظْهَارِ اْلكَرَاهَةِ لِبَذْلِهِ)}.
العشرة: هي الاجتماع والائتلاف، وما يتبع ذلك من المؤانسةِ والمقاربة؛ وهذا الباب من أهم الأبواب، وهو مناسبٌ لما سبقه من باب الصداق، فإن الإنسان إذا بذل صداقه وأنجز عقده؛ فإنه لم يبقَ إلا دخوله على زوجه ومعاشرته لها، ومعاشرتها له، وما يحصل بينهما من المؤانسة، وَلَمَّا كان الأمر كذلك؛ فإن الفقهاء -رحمهم الله تعالى يذكرون من الأحكام ما كان مُناسبًا، ويرتبونه ترتيبًا صحيحًا بما يكون أنظم للعقل، وأقرب للفهم، وأقرب للمراد، فالمراد أن العشرة حاصلةٌ بعد كتب النكاح وبذل الصداق؛ فلم يبقَ إلا ما يكون بينهما، وهذا فيه من المسائل ربما ظاهرها السهولة والقرب، وعدم الصعوبة؛ لكن في أثنائها مما يجب على كلٍّ من الزوجين بذله وحملُ النفس عليه بما تقرب به وشيجة الزوجيَّة، وتقوى أواصرها، ويحصل خيرها، وتستظل بظلال الأنس والمودة، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21]، فنحن أحوج ما نكون إلى دراسة مثل هذا الباب، ونحن في كل يومٍ وفي كل حالٍ نسمع من حالات الطلاق والفراق والاختلاف والنِّزاع وما يتبع ذلك من تفرُّق الأولاد، وما يحصل تبعًا لذلك من البلاء الشديد على الزوجين وعلى غيرهما، فتذهب عليهم الأموال، وتفوت عليهم السَّكينة، ويحصل بينهم من البغضاء والضَّغينة، ويُيتَّم الأطفال وآباؤهم أحياء، ويحصل بسببِ ذلك أحيانًا من التَّناحر، وتبقى الحرب قائمة حتى يموت أحدهما أو يموتا جميعًا من سوء ما فعل الشيطان بهما، كل ذلك لَمَّا فات عليهم العلم بما أوجب الله -جلَّ وعَلا- على كلٍّ من الزَّوجينِ. فالأهميَّة بالنِّسبة لهذا الموضوع أهمِّيَّة بالغة.
ثم المسألة الثانية: العشرة الزوجيَّة هي عبادة لله -جلَّ وعَلا- فما يفعله الزَّوج لزوجه إنما هو قُربة وطاعة وأجر وحسنة عند الله -سُبحَانَه وَتَعَالَى- ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي» ، والأهل هو ما يتأهل به الإنسان من زوجةٍ ونحوها، فهذا أعظم ما ينبغي أن يستشعره الزوج، فأنت حينما تبذل لا تنتظر من زوجتك مقابلًا، ولا تنتظر منها عوضًا، ولا تبذل لتأخذ، وإنما تبذل وتفعل وتعمل وتبادر لتطلب ما عند الله -جلَّ وعَلا.
في ما يُقابل ذلك: على الزوجة أن تعلم أنها ما تقربت بقربة بعد واجباتها التي افترضها الله عليها من التوحيد والصلاة أعظم من طاعة الزوج والقيام عليه، والحرص على بيته، وحفظ حقِّه، فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكر أن المرأة التي «ذَا ‏صَلَّتِ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ ‏شِئْتِ» ، فلم يكن شيءٌ أعظمَ من ذلك، فإذا علمت النساء ذلك؛ فلأن تتخفف من كثير من النوافل والعبادات وتقوم على زوجها إحسانًا وبذلًا؛ والله لهو أزكى عند الله -جلَّ وعَلا- ولأجل ذلك لم يكن للمرأة أن تصوم صيامًا نفلًا إلا بإذن زوجها، ولم يكن لها أن تقوم الليل إلا أن يكون زوجها راضيًا، فإذا أرادها أو طلبها، أو كان له بها حاجة، أو احتاج إليها في خدمة؛ فإنَّ قيامها عليه أولى وأتم، وعملها معه أفضل عند الله -جلَّ وعَلا- وأكثر أجرًا؛ فلتفقه النساء ذلك، فإن هذا من الأمور العظيمة.
ثم المقدمة الثالثة: أنَّ ما يذكره الفقهاء في هذا الباب، وكل ما يذكره العلماء في نحو هذه المسائل فالغالب أنهم يذكرون الحدود الواجبة، والأمور المتعينة التي تُطلب عند حصول النزاع أو قيام الخلاف، وإلا فالأصل أن القوامة في الزَّوجيَّة مبناه على المواضعة لا المحاققة، لا أن يقول: هذا حقي، وتقول هي: هذا حقي!! فكل يومٍ يكون لهم صراخ وصياح ونقاش وجدال؛ فيطلب كل واحدٍ منهما ما على صاحبه، هذا لا يكون له فيه أجر، ولا يعظم به الأمر، بل لربما كان سببًا لفتح أبواب الشياطين عليهم، والله -جلَّ وعَلا- يقول في حق الزوجين: ﴿وَلَهُنَّ مِثلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالمَعرُوفِ﴾ [البقرة: 228]، فما يعرفه النَّاس من حُسنِ التَّعامل، من طيبِ الخُلُق، من جميلِ الصَّنيع، من التَّغاضي عن الخطيئة، من حمل النَّقيصة، من ستر العيبة، من إبداء الخير، من التَّقرب بالهدى، ولأجل ذلك يذكر الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في مطلع هذا الباب قالوا: (وَيُسَنُّ) أي: لِكُلِّ مِنْهُمَا (تَحْسِينُ الْخُلُقِ لِصَاحِبِهِ وَالرِّفْقِ بِهِ وَاحْتِمَالِ آذَاهُ)، وهذا فيه أدلة كثيرة، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا» ، كما في حديث معاذ. وقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المقابل للرجال: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا، كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا» .
وبعض أهل السُّوء والسَّفه والفسق والمجون يحمل الحديث على أنه انتقاص للنساء، وحاشا رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن ينتقصهنَّ، أو أن يكون في هذه الملَّة ما هو نقيصة لهنَّ أو إزراء بهنَّ؛ بل هذا فيه من إعلام الرجال بما جبلت عليه النساء من العاطفةِ والليونة التي لا يُمكن أن يُطلب منها الأمور على وجه واحدٍ؛ بل لابد أن يكون فيها شيء من المرونة والليونة والهدوء والتَّجاوز، لأنك لن تسلم من وقوع وحصول الخلل، وذلك لما جُبلَت عليه من عاطفةٍ وضعفٍ ونحو ذلك مما يليق بها في القيام على زوجها والقيام على ولدها، وشدَّةِ رحمتها وكمال شفقتها ونحو ذلك، فهو في جانب يحصل به لها التَّمام والكمال، وفي جانب الرجال لابد أن تلحظوه فأنتم تعلمون أنه سبب خيرٍ لكم عليكم وعلى أولادكم، لكنَّه في جانب آخر لابدَّ أن يكون منكم المواضعة وأن تغضوا الطرف، وأن تتسامحوا، وأن تلينوا، وأن تتساهلوا، وهذا من الأمور المهمَّة التي لا يكاد يقف عندها كثير من الرجال أو الأزواج، فنحن في هذا الموطن وفي استهلال هذا الباب وفي بداية هذا الفصل، وأول درسٍ من دروسنا هذا؛ ندعوا كل زوجٍ وكل زوجةٍ وكل طالب علمٍ وكل طالبة علمٍ؛ إذا أُعيدت الأحاديث في مثل هذه المسائل؛ فأولى ما يُطلب من الأزواج لزوجاتهم والزوجات لزوجهنَّ الإحسان والمعروف، وبذل الخير، وطلب الهدى، والإعانة على البر، وأن يُترَك ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا من طلب الحقوق والمنازعة، والخصومة، والرعونة في الأشياء، وطول الصوت، وكثرة المجادلة، وقلب البيت إلى أن يكون لهيبًا وأن يكون مثل المقلاة، إنما حالهما يتقلبان، يومًا يشتدُّ بهما حرارة، ويومًا تذهب قليلًا، وهكذا...، حتى يأتي فرجٌ من الله -جلَّ وعَلا.
ولمَّا كانت الحال على هذه وجدتَّ أن كثيرًا من الأزواج لا يأنسون إلا حينما يخرجون من بيوتهم، وكثير من الزوجات لا يأنسنإلا بأخواتها وصويحباتها، ولو كان بيت الزوجية قائمًا؛ لكان أنس كل واحدٍ منهما بصاحبه أشد من أنسه في خارج بيته، لا بصاحبٍ ولا بصديق، ولا بقريبٍ ولا بحبيبٍ، والله -جلَّ وعَلا- قال: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ﴾ [النساء: 36]، ذكر بعض أهل التفسير أن المقصود به: كل واحدٍ من الزوجين لصاحبه.
فهذه مسألة مهمَّة ينبغي أن تكون حاضرة في أذهاننا في إطلالة هذا الباب المهم.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى- كلامًا مكمل لما ذكرناه: (وَعَلى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مَعَاشَرَةُ صَاحِبِهِ بِالْمَعْرُوْفِ)، فمن أساء أو قصَّرَ أو أنقصَ فإنَّما هو إثمٌ يحتمله يوم القيامة، وسوءٌ يكون في جريرة سيئاته، وفي صحائف أعماله، ويلقى به ربه -سُبحَانَه وَتَعَالَى- ولذلك معاشرة صاحبه بالمعروف لابد أن يحسن بذلك، وهذا المعروف جعله الله -جلَّ وعَلا- هيِّنًا سهلًا، وهو ما تعارف عليه الناس، فلا يُطلب منك أكثر ممَّا تعارف عليه عقلاء الناس، وجرى بينهم، وقامت به البيوت، وأنسَ به الأزواج.
ثم قال: (وأَدَاءُ حقِّه الوَاجِب)، الحق الواجب سيأتي بيانه، وهو ما لكل واحدٍ من الزوجين على صاحبه، سواء كان ذلك من الاستمتاع، أو القيام ببعض الحقوق، أو الخدمة -إن قلنا بوجوبها- أو ما يكون من النَّفقة على الزوج والسُّكنَى، وما يكون من الكسوة ونحوها؛ فكل ذلك داخلٌ في الواجبات التي يجب على كل واحدٍ من الزَّوجين على صاحبه، فعلى الزوجةِ واجبٌ لزوجها، وهو تمكينه من الاستمتاع بها، وما يتبع ذلك من الخدمة -على ما سيأتي- وعلىالزوج ما يجب على عليه من نفقة وكسوة وسُكنَى، وما تبع ذلك مما يلحقه.
قال: (مِنْ غَيْرِ مَطْلٍ وَلاَ إِظْهَارِ اْلكَرَاهَةِ لِبَذْلِهِ)، هذا من الأهمية بمكانٍ، فكثير من البيوت لو رأيتم، فإن كل واحد منهما يفعل ما يطلب صاحبه، ولكن لا يفعله له حتى تطيب النفس وحتى يعظم الشِّقاق وحتى يشتدَّ النِّزاع، فلا يكونا سَلِما من النِّزاع، ولا حصَّلا المعروف بما بذله!
فلو أنهما بذلا من غير مُماطلةٍ -والمماطلة هي الممانعة- أي: يمتنع أو يبتعد أو ينصرف أو يُعرض حتى تنشف نفوسهما، ثم يُقبل فيعطيه ما أراد! وهذا لا يُجدي على صاحبه شيئًا، فلو أنهاطلبت النفقة، قال لها: أبشري. ثم قالت: أعطني النفقة! قال: إن شاء الله. ثم قالت: أعطني النفقة! حتى إذا وصلت إليها النفقة وصلت وهي في حالةٍ من التَّكرُّه لها، فالمماطلة إذن مفسدةٍ لأنس الزوجين ببعضهما، وذلك أيضًا فعل للمحظور، فبذل المعروف أن يكون من غير مماطلة، والمماطل فاعل للمحرَّم، سواء من الزوج لزوجته في النفقة والكسوة والسُّكنَى، أو من الزوجة فيما يجب عليها من الاستمتاع وما يكون من الخدمة -على ما سيأتي بيانه في لزوم ذلك.
قال: (وَلاَ إِظْهَارِ اْلكَرَاهَةِ لِبَذْلِهِ)، يعني: لو لم يُماطل ولكن إذا أنفق عليها؛ قال لها: خذي -بكراهية، إمَّا في طريقة الكلام أو بطريقة في الفعل- فذلك نوعٌ من السوء، ومثل ذلك أيضًا هي، إذا جاءت إليه فقدمت إليه طعامًا؛ فألقته عنده بشيءٍ من التَّكره، أو ضربت بالأواني حتى سُمِعَ صوتها، فهذا كراهية في البذل.
وكذا مما يكون بين الزوجين من الاستمتاع، فقدمت نفسها بشيءٍ من التَّكرُّه أو تمعُّطِ وجهها وتغيُّر نفسها، فإن ذلك من عدم المعروف الذي يكون بين الزَّوجين، وأطلنا في هذا لأهميَّته، ولعظم ما يتعلق به، ولأن ما يأتي من المسائل فهي متفرعة عن هذا.
{قال -رحمه الله: (وَحَقُّهُ عَلَيْهَا تَسْلِيْمُ نَفْسِهَا إِلَيْهِ، وَطَاعَتُهُ فِيْ اْلاِسْتِمْتَاعِ مَتَى أَرَادَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عُذْرٌ)}.
إذا عقد الزوج على زوجته وأعطاها مهرها وصداقها؛ فلم يبقَ إلا تسليم نفسها، ولذلك يقول الفقهاء: هل يلزمه أن يجعل لها فسحةً في الجهاز وتهيئة نفسها؟
فيقولون: يستحب، ولو في ثلاثة أيامٍ ونحوه.
وعلى كل حال؛ فيجب عليها تسليم نفسها.
قوله: (وَحَقُّهُ عَلَيْهَا)، إذن هو حق، وما دام أنه حق فهو واجب ما لم يكن ثَمَّ مانع، كأن تكون صغيرة لا تطيق الجماع، أو أن يكون بها مانعٌ كمرضٍ أو علَّةٍ، أو غيرِ ذلك من الأمور، أو كان ثمَّ شرطٌ بينهما في أنه لا يكون دخوله بها إلا بعدَ وقتِ كذا وكذا؛ فإذا وُجد شيء من ذلك فهما على ما اتفقا عليه، وإذا لم يوجد فإنَّ الواجب أن تسلم نفسها لأول وهلةٍ.
قال: (وَطَاعَتُهُ فِيْ اْلاِسْتِمْتَاعِ مَتَى أَرَادَهُ)، المعقود عليها في النِّكاح هو حلُّ الاستمتاع، فهذا هو الأصل ولا شكَّ في ذلك، قال تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ﴾ [البقرة: 187]، عبَّر الله -جلَّ وعَلا- باللباس في أعظم تعبيرٍ وألطفه، تكنيةً عمَّا يكون لكل واحدٍ من الزوجين من الاستمتاع بصاحبه، وجماع الرجل لامرأته ومعاشرته لها. إذن هذا هو الواجب.
هل يجب شيء غير ذلك؟
ظاهر مذهب الحنابلة -رحمهم الله تعالى: أنَّ الواجب على المرأة هو الاستمتاع لا غير.
وفي رواية ثانية عند الحنابلة، وهو قولٌ لابن تيمية وجماعة من أهل العلم: أنَّ الواجب على الزَّوجة ما يليق بها بالمعروف، فإذا كان بنات جنسها يلينَ مهنةَ البيتِ والقيامَ على إصلاحه وإصلاح طبخِ الزَّوج؛ فإن هذا يكون واجبًا عليها، ولأجل ذلك كانت عائشة تخدم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بيته، وجاء عن أسماء أنها كانت تعلف خيل الزُّبير ونحوه، فذكر بعض أهل العلم استنادًا إلى ما جاء في نحو ذلك من الأدلة أنه يجب عليها الخدمة بالمعروف.
وكما قلنا لكم: إنَّ محلَّ هذا إنما هو بيان الحق الواجب، وإلا فنحن نقول أصالةً: أنه ينبغي لكل واحدٍ من الزوجين أن يبذل لصاحبه ما استطاع، فإنه في ذلك مأجور، وإنه أسعد لحياته، وأتمَّ لأنسه بزوجه، الزوجة بزوجها والزوج بزوجته، وأدوم لحياتهما، وأمنع من حصول الشيطان بينهما.
إذن نقول: قولهوَطَاعَتُهُ فِيْ اْلاِسْتِمْتَاعِ)، على ما قصد المؤلف واشتهر عند الحنابلة، وكما قلنا: إنَّ القول الآخر هو الذي عليه العمل، وهو الذي لا يسع الناس إلا القول به، وهو الذي عليه عامَّة بلاد المسلمين وبيوتاتهم؛ أنها تخدمه بنحو ما استطاعت، إلا من كانت عادتهم ألا يخدمن كالوجهاء وذوات الأحساب، ومن بلغت في الوجاهة مبلغًا، ولزمها خادم يخدمها، ومن يقوم على شؤونها، فيكون ذلك حقٌّ لها.
قال: (مَتَى أَرَادَهُ، مَا لَمْ يَكُنْ لَهَا عُذْرٌ)، قلنا: إنها إن كان لها عذر فإن ذلك يكون مانعًا من الوجوب ولها أن تمتنع حتى يرتفع عذرها، كمرضٍ أو إحرامٍ، أو نحو ذلك.
{قال -رحمه الله: (وَإِذَا فَعَلَتْ ذلِكَ، فَلَهَا عَلَيْهِ قَدْرُ كِفَايَتِهَا مِنَ النَّفَقَةِ، وَاْلكِسْوَةِ وَاْلمَسْكَنِ، بِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَمْثَالِهَا، وَاْلمَسْكَنِ، بِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَمْثَالِهَا، فَإِنْ مَنَعَهَا ذلِكَ أَوْ بَعْضَهُ، وَقَدَرَتْ لَهُ عَلى مَالٍ، أَخَذَ مِنْهُ قَدْرَ كِفَايَتِهَا وَوَلَدِهَا بِالْمَعْرُوْفِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِهِنْدٍ حِيْنَ قَالَتْ لَهُ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيْحٌ وَلَيْسَ يُعْطِيْنِيْ مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِيْنِيْ وَوَلَدِيْ، فَقَالَ: «خُذِيْ مَا يَكْفِيْكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوْفِ»)}.
قوله: (وَإِذَا فَعَلَتْ ذلِكَ، فَلَهَا عَلَيْهِ قَدْرُ كِفَايَتِهَا مِنَ النَّفَقَةِ)، المؤلف هنا -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- أدرج نفقة الزوجة في باب العشرة، فهي قريبةمنها وداخلةٌ فيها، وإن كان عادة جمعٍ من الفقهاء أن يذكروا نفقة الزوجة في بابٍ مُستقل في "كتاب النفقات" فيبدأ بنفقة الزوجة، ثم نفقة الرقيق والوالدين والأقارب من الأولاد وغيرهم، وعلى كل حالٍ فنحن على ما درج عليه المؤلف من وجوب النفقة.
النَّفقة لازمة للزوجة على زوجها، وهذه النَّفقة واجبة سواء كانت فقيرة أو غنيَّة، موظَّفة أو غير موظَّفة، طلبت ذلك أو لم تطلبه، فإنَّ النَّفقة واجبة ما لم تسقط حقها، فإذا قالت لا أريد منك نفقة؛ فإنَّ حقها الذي ذهب سقط، وحقها الذي يأتي لا يسقط؛ لأنَّ الشَّيء لا يسقط قبل وجوبه، فبناءً على ذلك لو أنَّ امرأة تزوجت رجلًا وقالت: لا أريد منك نفقة، ثُمَّ ظنَّت مثلًا أنه يكون منه حُسن معاشرة؛ فبانَ ظنُّها على خلافه، فطلبت نفقتها فليس له أن يقول: إنكِ أسقطتِ نفقتكِ، وإنما ما أسقطت من نفقتها في سالف أيامها فليس لها أن تُطالب به، لكن ما يتجدد من أيَّامها فتتجدد معه النفقة الواجبة.
قال: (فَلَهَا عَلَيْهِ قَدْرُ كِفَايَتِهَا مِنَ النَّفَقَةِ وَاْلكِسْوَةِ وَاْلمَسْكَنِ، بِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَمْثَالِهَا).
من جهة الواجب هذا ظاهر، فإن الله -جلَّ وعَلا- قال: ﴿وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّه﴾ [الطلاق: 7]، فواجبة عليه النفقة.
ما قدر النفقة الواجب؟
إذا كان حال الزوجين موسرين، فتكون النفقة نفقة الموسرين.
وإن كانا متساويين في الفقر والفاقة؛ فتكون نفقتهما حال نفقة الفقراء والمعسرين.
ولكن الإشكال فيما إذا اختلفت حالهما، فكان الزوج مثلًا فقيرًا وهي غنيَّة، أو العكس، فما الواجب وما المعتبر؟ هل هو حال الزوحة أو حال الزوج؟
الجواب: هذا مما جرى فيه كلام للفقهاء كثير، فبعضهم نزع منزع الزوج للآية: ﴿وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّه﴾، وبعضهم نزع منزع الزوجة لحديث هند: «خُذِيْ مَا يَكْفِيْكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوْفِ».
وظاهر كلام المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- لما قال: (بِمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَمْثَالِهَا)، واستدلاله بحديث هندٍ أنَّ المعتبر حال الزوجة فقرًا وفاقة أو غنًى ويسار، وإن كان مشهور المذهب عند الحنابلة، والذي يعتبر الإمام الموفق بن قدامة من أشياخه؛ أن المعتبر حالهما جميعًا، وقالوا: لما جاء من دلالة الكتاب والسنة، فلا ننفك من الجمع بينهما، فنرى أن يكون الاعتبار بحالهما جميعًا، فإذا كان مُوسرًا وهي فقيرة فإن نفقتهما نفقة متوسطة، وإذا كان العكس بأن تكون هي غنية وهو فقير، فتكون النفقة نفقة المتوسطين اعتبارًا بحالهما جميعًا، وفي ذلك إعمال لدليلين، قوله تعالى: ﴿وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّه﴾، وحديث هند.
وكما قلنا: إن هذا مشهور المذهب عند الحنابلة، وإن كان قد يُفهم من كلام المؤلف أنه نحا منحى اعتبار حال الزوجة كما هو مذهب لبعض الفقهاء-رَحَمَهُم اللهُ تَعَالَى.
قال المؤلف: (فَإِنْ مَنَعَهَا ذلِكَ أَوْ بَعْضَهُ، وَقَدَرَتْ لَهُ عَلى مَالٍ، أَخَذَ مِنْهُ قَدْرَ كِفَايَتِهَا وَوَلَدِهَا بِالْمَعْرُوْفِ).
يعني لو كان ما يُعطيها النفقة، وتتجدد كل يومٍ حاجة طعام، وحاجة لقيامها على ولدها ونحو ذلك، أو كان يعطيها قليلًا مما يجب لها، ولا يُكمِّل لها الواجب، فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما شكت إليه هند وضع أبي سفيان؛ قال لها: «خُذِيْ مَا يَكْفِيْكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوْفِ»، قال بعض أهل العلم: إن هذا حكمٌ عامٌّ في أن كلَّ امرأة إذا أنقصها زوجها نفقتها؛ فإنها تأخذ كفايتها ولا غضاضة عليها، وهذا ظاهر كلام المؤلف-رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- هنا.
وبعضهم قال: إن حديث هندٍ لم يكن دعوى قضائية، ولو كانت كذلك لاحتاج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يستدعي سفيان ليسمع منه، فربما كان له عذر أو ثَمَّ مانع ونحوه، مما يدل على أنها فتية.
وإن كان بعض أهل قال: إنَّ هذا حكم من النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهند، وقد لا يكون غيرها مساويًا لها، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعلم منها أنها تنصف من نفسها ولا تزيد على حقها؛ فكان هذا حكمًا لها.
فأيًّا كان في ذلك؛ فإنه لا ينبغي للمرأة إذا كان زوجها لا يُؤدي لها النفقة الواجبة أن تتطاول بما يزيد عن نففقتها، والنفقة الواجبة هي قليلة لحال الناس، إذا ما نظرنا إلى ما ذكره الفقهاء -رَحَمَهُم اللهُ تَعَالَى، فينبغي أن تتورع النساء أن تطال يدها على مال زوجها فتكون عليها تبعةٌ يوم القيامة، فإذا كانت واثقةً أو متيقنةً أنَّ ما تعطاه هو دون ما تستحقه بأن عرضت ذلك على فقيهٍ وذكرت حالها وحال زوجها على شيءٍ من التَّوضيح والتَّفصيل الذي ينتفي معه الجهالة والإبهام فإنه يُمكن أن يُقال: إن للمرأة أن تأخذ، وأمَّا الواقع فإن أكثر الأزواج ينفقون النفقة الواجبة، وإنما حال كثير من الزوجات أنهن يَطلبن شيئًا من التَّوسُّع وشيئًا من السَّعةِ وربما شيئًا من الانفتاح في أوجهٍ مُباحة، وربما في بعض الأحيان انفتاح في الأمور المكروهة كالتَّوسُّع في الألبسة أو الأطعمةِ أو غير ذلك، وهذا ليس بلازمٍ ولا واجبٍ على الزَّوج.
قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلى اْلأَخْذِ لِعُسْرَتِهِ، أَوْ مَنَعَهَا، فاَخْتَارَتْ فِرَاقَهُ، فَرَّقَ اْلحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ كَبِيْرًا أَوْ صَغِيْرًا).
إذا لم تجد النفقة عند الزوجة، وهي الآن محبوسةٌ عليه باقية في بيته؛ فهل يتصور أن يُطلب منها الصبر مع كونه معسرًا؟
فنقول في مثل هذا: إن كانت تقدر على الصَّبر وإسقاط حقها والتَّنازل عنه، أو إن كان لها نفقة واعتاضت بالإنفاق على نفسها من مالها حتى يوسر الزوج؛ فهذا هو الأتم، وهي مأجورة فيما صبرت عليه، ومأجورة فيما أنفقت من مالها، وتنتظر من الله -جلَّ وعَلا- الأجر العظيم، وحقها باقٍ على زوجها، فإن لم يُنفق عليها -مثلًا- ثلاث سنوات ثم أيسر، فلها أن تطلب نفقتها، إلا أن تكون قد أسقطتها، كأن تقول: لا أريد منك شيئًا؛ فليس لها بعد ذلك أن تطلب ما أسقطته، فإن السَّاقط يسقط بمجرد الإسقاط، حتى ولو قال الزوج حقك سيأتيك؛ فإنها بمجرد أن أسقطت حقها عن الزوج فإنه يسقط؛ لأنَّ بعض النساء تسقط النفقة ولا يسقطها الزوج، ثم يتغير الحال وتعود الزوجة وتطلب، والصَّواب أنها ليس لها أن تطلب إلا إذا كانت لم تسقط حقها.
إذن؛ إن قدرت على الصبر صبرت ولها حقها وهي مأجورة في الصبر وفيما يتبع ذلك من النفقة.
وإن لم يكن لها صبر؛ فلها أن تطلب الطلاق، ويكون الطلاق على المعاوضة؛ لأنَّ لها النفقة، فإذا فاتت النفقة لم يكن لها أن تصبر على ذلك ولا أن تُحبَس عليه.
قال المؤلف: (أَوْ مَنَعَهَا)، بعض الأزواج فيه شحٌّ شديد أو فيه كراهيةٌ لها، ويُريد أن يكون منها نُفرة -نسأل الله السلامة والعافية- ولو فعل ذلك لكان آثمًا، وعليه تبعة ذلك عند الله -جلَّ وعَلا.
قال: (أَوْ مَنَعَهَا، فاَخْتَارَتْ فِرَاقَهُ، فَرَّقَ اْلحَاكِمُ بَيْنَهُمَا)، وإذا لم تطلب الفراق؛ فالحاكم يطلب الزوج ويُلزِمه بالنفقة إن كان ممتنعًا، أمَّا المعسر فليس للقاضي أن يُلزمه، إنما عليه أن يحسب ما لها من النفقة، فإن أيسرَ أعطاها وإلا ذهب ذلك.
ولو قالت: أنا لا أريد هذا ولا نفقة، وطلبت الفراق؛ فذاك شأنها، فلا يفرق الحاكم بينهما إلا بطلب الزوجة؛ لأنَّ ذلك حق لها، وقد يكون في صبرها مع ما فيه من الشقاء والعناء أهون ما يكون في الفراق مع ما تتخلص به من هذا الزوج الشَّحيح الذي يماطل ويمنع الحقوق.
قال: (سَوَاءٌ كَانَ الزَّوْجُ كَبِيْرًا أَوْ صَغِيْرًا)، فإنَّ الحاكم يقوم بفسخ النِّكاح مقامه إذا طلبت المرأة ذلك وكان منه امتناع عن حقها.
{قال-رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كَانَتْ صَغِيْرَةً لاَ يُمْكِنُ اْلاِسْتِمْتَاعُ بِهَا، أَوْ لَمْ تُسَلِّمْ إِلَيْهِ، أَوْ لَمْ تُطِعْهُ فِيْمَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهَا، أَوْ سَافَرَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ بِإِذْنِهِ فِيْ حَاجَتِهَا، فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا عَلَيْهِ)}.
هذه أحوال تسقط فيها نفقة الزوجة:
إذا كانت صغيرة لا يُمكن الاستمتاع بها؛ فيقول الفقهاء: إنَّ النَّفقة مقابل الاستمتاع، فكما أنه يستمتع بها وتقوم عليه، فكذلك النفقة مقابل ذلك.
وكما قلنا: إنَّ الفقهاء ينصُّون على الاستمتاع؛ لأنَّ هذا هو الواجب عليها، والنَّفقة تُقابل ذلك، وإذا قلنا: إنَّ الواجب الاستمتاع وما يتبع ذلك مما هو معروف من حال أمثالها من خدمة ونحوها، فإنَّ النَّفقة تستحق بقدر ما يكون منها من القيام بما وجب من الخدمة والاستمتاع، أو الاستمتاع وحده بحسبِ ما يكون من حالهما.
قال: (أَوْ لَمْ تُسَلِّمْ إِلَيْهِ)، لو امتنع أهلها من تسليمها له، أو امتنعت هي من تسليم نفسها، ولا نقول: إنها امتنعت بعد شهر أو شهرين من تسليم نفسها وذهبت إلى القاضي وقالت: إنه لم يُعطها نفقة الشهرين! نقول: أنتِ لم تُسلمي نفسك!
وفي هذه الحالة يحكم القاضي أن لا نفقة لها إلا من أول يوم تكون عند زوجها.
قال: (أَوْ لَمْ تُطِعْهُ فِيْمَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهَا).
إذا كانت ناشزًا فلا نفقة لها، فكما أنها ترفَّعت عن حقه؛ فلا يجب عليه الحق الذي لها؛ فإن الحق مقابل لما تبذله.
قال: (أَوْ سَافَرَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ).
لأنها لو سافرت بغير إذنه لفوَّتت الحق الذي عليها، فإذا كانت لا تصوم ولا تصلي النفل إلا بإذنه؛ فمن باب أولى ألا تسافر إلا بإذنه، وأنها لا تخرج من باب الزوجية إلا بإذنه؛ لأنها محبوسة عليه، وممنوعة من الخروج إلا بإذنه كما دلَّت على ذلك الأدلة.
قال: (أَوْ بِإِذْنِهِ فِيْ حَاجَتِهَا)، كأن تكون تذهب مع والدها أو ترافق والدتها أو تسعى على أختها، أو غير ذلك من الحاجات التي تكون لها، أو ذهبت في وظيفة، فإنها لا نفقة لها عليه واجبة، إذا أحسَنَ أو بذل وتبرع فهذا ما يكون من تمام ما يكون بين الزوجين من الأنس والمؤانس، والمواضعة والمحبة والألفة؛ فيكونمأجورًا، ولكن من حيث الواجب فلا يجب عليه شيء من ذلك، ولذا قال المؤلف: (فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا عَلَيْهِ).
{قال-رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ: حَقُّ الزَّوْجَةِ فِي الْمَبِيْتِ وَحُكْمُ اِلإِيْلاَءِ.
وَلَهَا عَلَيْهِ الْمَبِيْتُ عِنْدَهَا لَيْلَةً مِنْ كُلِّ أَرْبَعٍ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً، وَمِنْ كُلِّ ثَمَانٍ إِنْ كَانَتْ أَمَةً)}.
عقد المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- هذا الفصل فيما يتعلق بما يجب لها من المبيت، وذكر المؤلف هذا الفصل في باب القَسْم؛ فلو أنه جمعه في هذا لكان أولى، ولكن أيًّا كان نذكر ما يذكر المؤلف هنا، ثم نعيده في الباب القادم.
قال: (وَلَهَا عَلَيْهِ الْمَبِيْتُ عِنْدَهَا لَيْلَةً مِنْ كُلِّ أَرْبَعٍ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً)؛ لأنَّ الرجل له أن يتزوج أربع نساء حرائر، فبناء على ذلك نفترض أن لديه أربع نساء؛ فإنه يبيت ليلة عند كل واحدة.
ولو انفرد ثلاث ليالٍ فإنَّ المشهور في المذهب عند الحنابلة أن ذلك صحيح.
وأصل ذلك: أنَّ امرأة ارتفعت إلى عمر -رضي الله عنه- فذكرت ما عليه زوجها من العبادة والصلاح وكثرة قيام الليل ونحوه، فقال عمر: ما أحسن هذا! فاستحيت المرأة فانصرفت، وكان بحضرة كعب بن يسور، فقال: لقد أبلغت في الشكوى يا أمير المؤمنين. قال: وما ذاك؟ قال: إنها تشتكي أن زوجها لا يقوم بحقها. قال: ما أحسن هذا، فأمر بها فرجعت. فقال عمر لكعب: احكم فيها، فإنك فهمت منها ما لم أفهم. فقال: أفرضُ لو كان لها ثلاث ضرائر، فيكون لها ليلة من أربع، فأذن للزوج أن ينفرد ثلاث ليالٍ يُصلي ما شاء، ولكن الليلة الرابعة يكون عند زوجته ويقوم بحقها. فقال عمر: ما هذا بأقل من أمرك الأول.
فكان دليلًا على فقهه وحسن نظره، ولذلك ولَّاه عمر -رضي الله عنه- قضاء الكوفة بعد ذلك.
قال: (وَمِنْ كُلِّ ثَمَانٍ إِنْ كَانَتْ أَمَةً)، هذا على ما يذكره الفقهاء من أنَّ الأمة على النِّصف من الحُرَّة، وهذا محل إجماع بينَ أهل العلم لِمَا جاء في قول الله -جلَّ وعَلا: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [النساء: 25]، وما جاء عن الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- فقضوا أن العبيد والإماء في الأصل على النصف، إلا ما استثني، وذلك في مسائل قليلة ربما تأتي الإشارة إليها.
هل للأمة ليلة من كل ثمانٍ أو من كل سبعٍ؟
مشهور المذهب عند الحنابلة: لها ليلة من كل سبع؛ لأنهم يقولون: ثلاث حرائر وأمة، فالثلاث حرائر لهن ست ليالٍ، والليلة السَّابعة للأمة.
ولكن هنا اعتبروا أربع حرائر يعني ثمان ليالٍ، فجعلوا لها واحدة من ثمان، وهذا أحد القولين عند الحنابلة، وإن كان خلاف المشهور من المذهب عندهما.
قال: (إِذاَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْر)، أمَّا إذا كان له عذر فإن له أن ينصرف، كأن يعرض له سفر، أو يكون هذا رزقه يحتاج فيه إلى أن ينشغل في ذلك أربع ليالٍ أو خمسًا أو أسبوعًا أو نحوه، فهو على ما عليه من العمل، ولا يلزمه أن يجيبها إذا طلبته، ولا أن يأنس بها إذا أرادته وهو في شغل أو فيما يتحتم عليه من أمر الدنيا أو سوى ذلك.
سيذكر المؤلف بعد ذلك أحكامًا تتلعق بالإيلاء، فلعنا -إن شاء الله- نجعلها في الحلقة القادمة.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدمونه، أسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتكم}.
وأنا أشكركم وأشكر الإخوة، وأستبيحكم عذرًا على ما جرى من الاسترسال في بعض المواضع والإطالة فيها، نسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد.
{جزاكم الله خيرًا. هذه تحيَّة عطرة من فريق البرنامج، ومني أنا محدثكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.









 


رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:31   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

عُمْدَةُ الْفِقهِ (6)
الدَّرسُ الثَّانِي (2)
فضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاك الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- فيما يتعلق بعشرة النساء.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (وَلَهَا عَلَيْهِ الْمَبِيْتُ عِنْدَهَا لَيْلَةً مِنْ كُلِّ أَرْبَعٍ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً، وَمِنْ كُلِّ ثَمَانٍ إِنْ كَانَتْ أَمَةً، إِذاَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْر، وَإِصَابَتُهَا مَرَّةً فِيْ كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله رَبِّ العَالمين، وصلَّى الله وَسَلَّم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ، أمَّا بعد:
فأسأل الله -جلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا من أهل العلم، وأن يرفعنا به، وأن يُظهر ذكرنا بالعلم، وأن يرفعنا به، وأن يُعقبنا فيه العمل والتَّوفيق والهداية، وأن يجعله ذُخرًا لنا يومَ لقاه، ووالدينا وأحبتنا والمسلمين، إنَّ ربنا جوادٌ كريمٌ.
كُنَّا في الدرس الماضي استهللنا الكلام في المسألة الأولى، وذكر المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ- ما يتعلق بمبيت الرجل عند زوجه، فيقول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (وَلَهَا عَلَيْهِ الْمَبِيْتُ عِنْدَهَا لَيْلَةً مِنْ كُلِّ أَرْبَعٍ)، وهذا كما قلنا هو مَشهور مَذهب الحنابلة على ما جاء في أثرِ كعب بن سور على ما أسند إليه عُمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- تلك المسألة، مع أنَّ أهلَ العِلم يقولون إنه يُكره للإنسان أن يبيت وحده، فجاء ذلك عن الإمام أحمد، لكن إذا احتاج إلى ذلك كما لو كان للتفرغ للعلم أو للعبادة أو شُغل بأمرٍ، أو كان ذلك يُؤذيه ويمنعه من تمام راحته التي يستقبل بها يومه ومعاشه ونحو ذلك؛ فهذا شيء آخر، لكن إذا لم يتأتَّى له إلا أن ينفرد فإنَّه لا يُفوِّتُ على زوجه ليلةً من كلِّ أربعٍ؛ لأننا نعتبر لو كان عنده أربع نساء.
ثم قال: (وَمِنْ كُلِّ ثَمَانٍ إِنْ كَانَتْ أَمَةً)، باعتبار أنه لو كان عنده أربع حرائر فتكون ثمانِ ليالٍ باعتبار أنَّ الأمة على النصف من الحرة -كما سيأتينا بإذن الله جل وعلا- وهذا أحد قولي الحنابلة، وإن كان مشهور المذهب عند الحنابلة أنها ليلة من سبع؛ لأنَّه لا يُتصوَّر أن يكون مع الأمة إلا ثلاث حرائر، فإذا كان معها ثلاث حرائر فلكل حرة ليلتين وللأمة ليلة واحدة، وبناء على ذلك تكون ليلة من كل سبعٍ.
قوله: (إِذاَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْر)، أمَّا إذا كان له عذر كما لو كان مُسافرًا أو كان مَريضًا أو حال بينه وبين المجيء إليها سيلٌ أو شيءٌ فهذا شيءٌ آخر لا غضاضة عليه ولا يكون عليه في ذلك لزوم أو وجوب.
ثُمَّ قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (وَإِصَابَتُهَا مَرَّةً فِيْ كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ)، من المعلوم أنَّ للمرأة على زوجها حقٌّ كما أنَّ للرجل على زوجته حقٌّ، ومن أعظم ما يكون من الحقوق بين الزوجين هو إتيانها وإعفافها وما يحصل من إفراغ شهوتها وقضاء وطرها، وهذه من الأمور التي تدخل في مقاصد النِّكاح أصالةً، وهي أيضًا من العِشرة بالمعروف، ويترتب عليها حصول الولد وإعفاف الفرج، وحصول الخير من كلِّ أبوابه، فلأجل ذلك ينبغي أن يكون بينَ الزَّوجين مِنَ الأُلفةِ والمحبَّةِ والقُربِ وإتيان كلِّ واحدٍ منهما ما لصاحبه من الحق في الفراش والمضجع، وهذا من حيث الأصل.
وهنا يذكر المؤلف إذا ما احتيج للفصل ونشب بينهما نزاع، أو كان بينهما اختلاف، أو صار من الزوج جفاء لزوجه، وإعراض عنها، وعدم عبءٍ بها لأي سببٍ مِنَ الأسباب؛ فالمؤلف يقول: (وَإِصَابَتُهَا مَرَّةً فِيْ كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ)، لماذا قال الحنابلة مرة كل أربعة أشهر وقال به جمع من الفقهاء؟
الجواب: لأنَّ الله -جلَّ وَعَلَا- قال: ï´؟لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ غ– فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌï´¾ [البقرة: 226]، فمن حلف على زوجه -كما سيأتينا في المسألة بعدها- أَلَّا يَطأها أربعة أشهر، فإنَّه يجب عليه أن يرجع، وإِلَّا يُؤمَر بالطلاق، فدلَّ ذلك على أنَّ إتيانها كل أربعة أشهر واجب، وهذا هو مشهور قول الفقهاء.
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنَّه يجب على كلِّ زوجٍ أن يأتي زوجته بما تحتاج إليه إذا لم يكن ذلك يُضرُّه، وهذا قول ليس ببعيد، فإنَّه كما يجب عليه كسوتها بالكسوة التي تناسبها وتلائمها وتقوم بها، وكما يجب عليه إطعامها؛ فإنَّ قضاء وَطَرِهَا له من الأهمية كإشباع بطنها وكساء عُريِّها، فالأصل أنه يجب على كل واحدٍ منهما أن يقوم بما للآخر من الحق.
ولعل لهذه المسألة تتمة -بإذن الله جل وعلا- في مسائل العشرة والمعاشرة وما يتعلق بها، في فصلٍ سيذكره المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ- بعد مسائل القسم، فلعلنا نجمع الحديث في ذلك الموضع -بإذن الله -جل وعلا.
إذا كان له عذر كأن يكون مَريضًا، أو دخل في إحرامٍ فلم يخرج منه، فإنَّ الإحرام يمنعه من الجماع، أو انشغل بسفرٍ لا يستطيع القُدوم معه، أو أي سببٍ من الأسباب الأخرى؛ ففي كل هذه الأحوال يكون عذرًا له في إصابتها في هذه المدة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (فَإِنْ آلىَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَتَرَبَّصَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُر، ثُمَّ رَافَعَتْهُ إِلى اْلحَاكِمِ، فَأَنْكَرَ اْلإِيْلاَء، أَوْ مُضِيَّ اْلأَرْبَعَةِ أَشْهُرِ، أَوِ ادَّعَى أَنَّهُ أَصَابَهَا وَكَانَتْ ثَيِّباً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِيْنِهِ)}.
هذا من المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ- دخولٌ في مسائل الإيلاء، والعادة عند الفقهاء أنَّهم يذكرون باب الإيلاء منفصلًا بعد باب الطلاق وقبل الظهار.
حقيقة الإيلاء: أنه كان نوعًا من أنواع طلاق أهل الجاهليَّة، فأهل الجاهلية إذا أرادوا أن يُطلقوا امرأة آذوها فتصبح لا هي مُطلقة ولا هي مُزوَّجة فيحلف أَلَّا يَطأها، ثُمَّ تبقى زوجته، ولا تجد ما يجده النِّساء في بيوتهنَّ من الأزواج، فلمَّا كان الأمر كذلك جاء في الشَّرعِ ما يتعلق بقطع دابر هذه الفعلة المشينة التي تُحدث بين الأزواج مِنَ الفَجوة وتحملهم على الشَّر، وتفتح باب السوء على حياة الزَّوجيَّة.
الإيلاء: بمعنى آلى يولي إيلاءً، وأليَّة بمعنى حلف، فالمعنى: هو أن يحلف الزَّوج -بالله جلَّ وَعَلَا أو بصفةٍ من صفاته- أَلَّا يَطَأ الزَّوجة في قُبُلِها فوق أربعة أشهر.
وهذا التعريف -كما يقول أهل العلم: مُشتمل على شُروط الإيلاء الأربعة، وهي:
ïƒک الأول: أن يكون قد حلف بالله -جلَّ وَعَلَا.
ïƒک الثاني: أن يكون الامتناع عن الوطء في القبل.
ïƒک الثالث: أن تكون المدة أكثر من أربعة أشهرٍ.
ïƒک الرابع: أن يكون ذلك من الزَّوج بلا عذر، فإذا كان بُعذرٍ فقد تقدَّم معنا، كأن يكون محرمًا أو مريضًا ونحوه، فلا يدخل في أحكام الإيلاء.
فإذا فَعَل شيئًا من ذلك فقد فَعَلَ أمرًا مُحرمًا، هذا من جهة الحكم التَّكليفي، أنَّه آثمٌ وعليه إثم ذلك الفعل؛ لأنَّه إضرارٌ بالزوجة، والله -جلَّ وَعَلَا- أمر بالإحسان إليها والقيام بحقها، والعشرة بالمعروف، وحثَّ على ذلك، وجاء في ذلك مِنَ الدلائل والأحاديث والنُّصوص ما هو كثير جدًّا، وقد ذكرنا طرفًا منها، وأشرنا بإشارةٍ لطيفة إلى شيءٍ من ذلك فيما مضى من الدُّروس.
أمَّا مِن جهة ما يترتب عليه: يقول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (فَإِنْ آلىَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ)، يُفهم من هذا أنَّه لو كان قد حلف ألا يطأها شهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر فليس عليه في ذلك شيء؛ لأنه يجوز له أن يترك وطئها هذه المدَّة بدون يمينٍ، وكما قلنا: إنَّ هذا نوعٌ من الإساءة بلا سببٍ.
ومحل الأحكام المترتبة على باب الإيلاء أن يكون أكثر من أربعة أشهر، وذلك أنَّ الله -جلَّ وَعَلَا- قال: ï´؟لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ غ– فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌï´¾ [البقرة: 226]، يعني: للذين يحلفون على نسائهم ألا يطؤوهم يتربصون أربعة أشهر، فإمَّا أن يرجعوا عمَّا حلفوا عليه فيُراجعوا أزواجهم بوطئهنَّ ومعاشرتهنَّ، وإن امتنعوا فيكون الطَّلاق.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (فَإِنْ آلىَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَتَرَبَّصَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُر، ثُمَّ رَافَعَتْهُ)، وهذا فيه إشارة إلى مسألة، وهي أنَّ الحقَّ هنا للمرأة، فإن عفَت أو خافت ممَّا هو أشد، وهي وإن كانت في حاجة لوطءٍ ونحوه إلا أن خوفها مِن فراق زوجها وتفرق أولادها يحملها على أن تحتمل ذلك؛ فهي مَأجورة وهي في خيرٍ وهو آثمٍ، وتبقى على ما هي عليه، ولو بقي سنةً أو سنتين أو عشر سنوات.
ولكن لو لم تقبل المرأة أو لم تحتمل ذلك أو خافت على نفسها؛ فهنا ينبغي أن يُعلَم أنَّ النِّساء مهما جُبلنَ عليه من الحياء إلا أنهن في مَواطنٍ إذا خافت على دينها فإنها ينبغي لها أَلَّا تَحْمِلَ نفسها على ما يضر بدينها لأجل حياة، ولذلك لما سمع عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كما سيأتي- تلك المرأة وجاء ليسأل حفصة: كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: أمثلك يسأل مثلي. فقال: والله ما كنت لأسألك لولا حاجة المسلمين. فقالت: خمسة أشهرٍ أو ستًّا .
المهم أنَّ عمر لم يكن ليستحيي من أمرٍ جرت العادة منه أنَّ الآباء يستحيون والبنات يستحيين من آبائهنَّ أن يدخلن في مثل هذا الحديث أو يتكلمن بنحو ذلك، فإذا خافت المرأة على نفسها فيجب عليها أَلَّا تسكت على مثل هذا، ويُمكن ألا تفصح بذلك لكلِّ أحدٍ، ولكن تجد ثقة مِن أهلها أو بعض من تُسرُّ إليها من صاحباتها أو قريباتها قد تكون لسانًا لها ترفع عنها جلباب الحياء، وتحفظ ماء وجهها أن تتحدث إلى أهلها أو إلى أبيها أو إخوتها، فيحصل الخير ويمتنع الشر، فإن صبرت المرأة فذاك إليها.
يقول الفقهاء: لا يحصل الطلاق بمجرد مُضي الأربعة أشهر حتى تطلب ذلك ويطلب الحاكم منه التطليق، وهذا هو الذي جاء عن أكبر صحابة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال المؤلف: (ثُمَّ رَافَعَتْهُ)، يعني: هي التي طلبت وارتفعت وسألت إما الفيئة أو الرجوع، وإما الطلاق والفراق، فإذا رفعته إلى الحاكم فإنَّ الحاكم يسأله، فإما أن يُقر، وإما أن يُنكر، فإذا أنكر وقال أنا ما حلفت، وما آليتُ منها، وقد وطئتها؛ فقال المؤلف: (فَأَنْكَرَ اْلإِيْلاَء)، يعني: أنكره من حيث أصله، وقال: أنا ما حلفت. أو أنكر أنه لم يصبها، قال: أنا حلفت ولكن أصبتها وجامعتها. أو قال: حلفتُ ولكن ليس ليميني إلا شهر أو شهرين، فليس لها أن ترافعني إلى بعد مضي المدة؛ ففي هذه الأحوال لا يخلو الأمر إما أن تكون بيِّنة، أو لا بيِّنة.
إن كان ثَمَّ بيِّنة: كأن يكون قد حلف أمام الناس، وأشهد إخوانه أو بعض أهله على ذلك، وإما أن يكون قد أقرَّ بذلك لدى أحدٍ ونحوه؛ فتثبت البينة.
وإن لم يكن ثَمَّ بيِّنة: فإن كانت ثيبًا فلا يُمكن إثبات هذا؛ لأنَّ هذا من الأمور الخفيَّة، والأصل عدم وجود البينة، فما دام أنَّه لا توجد بينة والأصل عدمها فقوي جانب الزَّوج، فلذلك قال الفقهاء: إنَّ القول قوله، فيقول: أنا ما آليتُ منها، فيحلف؛ لأنَّ القول قوله، واليمين على مَن أنكر -كما في الحديث- فإذا حلف فيلحقه بذلك أثر يمينه وكذبه على زوجه وإضراره لها، وتحايله في مجلس القضاء، إلى غير ذلك مما يلحقه في هذا الأمر.
إذن؛ القول قول الزوج مع يمينه في مثل هذه الأحوال.
أمَّا لو كانت بكرًا، كأن يكون آلى منها قبل أن يدخل بها؛ فيقولون: تُرسَل نساء ثقات فينظرنَ؛ فإذا وجدن بكارتها فإنَّ جانب المرأة قد قويَ أنَّه لم يطأها، وبناء على ذلك يكون القول قولها مع يمينها، لأنه ترجَّحت جهتها، واليمين مع من ترجَّحت جهته، فيكون القول قولها في مثل هذه الحال.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَإِنْ أَقَرَّ بِذلِكَ، أُمِرَ بِاْلفَيْئَةِ، وَهِيَ اْلجِمَاعُ، فَإِنْ فَاءَ، فَإِنَّ اللهَ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ، وَإِنْ لَمْ يَفِئْ، أُمِرَ بِالطَّلاَقِ، فَإِنْ طَلَّقَ، وَإِلاَّ طَلَّقَ اْلحَاكِمُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ رَاجَعَهَا، أَوْ تَرَكَهَا حَتَّى بَانَتْ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، وَقَدْ بَقِيَ أَكْثَرُ مِنْ مُدَّةِ اْلإِيْلاَءَ، وُقِفَ لَهَا كَمَا وَصَفَتْ)}.
الحال الثانية: إذا أقرَّ بالإيلاء، فهنا تترتب أحكام الإيلاء، قال الله -جلَّ وَعَلَا: ï´؟لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ غ– فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌï´¾ [البقرة: 226]، وتبدأ الأربعة أشهر منذ اليمين؛ لأنَّ هذا أمر لا خلاف فيه، فلا يُحتاج فيه إلى أن يُبَتَ ابتداء المدَّة عند القاضي، فنقول: إذا حلف عليها مثلًا في الخامس من محرم؛ فنحسب أربعة أشهر، فإذا تمت الأربعة أشهر فرافعته المرأة فأقرَّ فيُطلب إلى الفيئة -وهي الرجوع:
ïƒک فإمَّا أن يفيء ويرجع فيُجامع زوجته، فيؤدي حقها، ويذهب بلاؤها والإضرار بها.
ïƒک وإما أن يمتنع، فإذا امتنع فيؤمر بالطلاق، قال تعالى: ï´؟فَإِنْ فَاءوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌï´¾ [البقرة: 227].
فليس له خيار غير هذين الأمرين: إمَّا أن يَفيء ويرجع وهو خير له وأزكى عند الله -جلَّ وَعَلَا- وإمَّا ألا يفيء فيُلزَم بالطلاق.
والأمر بالطلاق إنما مَردُّه إلى أن تطلب الزوجة ذلك؛ لأنَّ الحق لها فيه، فإذا أعفته وإن لم يفيء، فلا نتجاوزها، لأننا إنما نريد رفع الإضرار عنها، فإذا علمت أو ظنَّت أنَّ ما يفوت عليها من بيت الزوجية والبقاء مع أهلها أعظم مما يفوت عليها من مُعاناة ومُقاساة ومُعالجة الشهوة ونحوها؛ فهي أعلم بذلك، فإذا لم تطلب الطَّلاق فلا يطلق الحاكم.
وإذا طلبت الطلاق وقالت: لا أريد أبقى معه؛ فيؤمر بالطلاق، فإذا طلق فالحمد لله، وإذا لم يطلق فإنَّ الحاكم يُطلق عليه، قال المؤلف: (فَإِنْ طَلَّقَ، وَإِلاَّ طَلَّقَ اْلحَاكِمُ عَلَيْهِ).
عندنا مسألة مهمَّة: إذا حلف رجل ألا يطأ زوجته ولم يجامعها، فهل يأخذ حكم المولي، بمعنى أنه إذا مضت أربعة شهور يُطلب منه ذلك.
الفقهاء لهم في هذا كلام، والذي يظهر: أنه إذا كان منه إصرار، أو ظهر منه إرادة إضرارٍ؛ فإنَّه تضرب له المدَّة، فإذا لم يفئ فإنه يؤمر بالطلاق وإلا طلق عليه الحاكم؛ لأنَّ هذا إضرار بالمرأة، وإذا أرادت المرأة رفع الإضرار عنها جازَ لها ذلك، فإمَّا أن يُؤدِّي حقها ويرفع الضرر، وإمَّا أن يُطلق، فإن لم يكن ذلك فسخَ الحاكم نكاحها.
فإذا لم يكن اليمين للإيلاء؛ فهل يُلحَق به أو لا؟
ذكرنا أنَّ للعلماء في هذا أقوال، وللحنابلة قولان فيهما شيءٌ من التَّضادِّ، ولكن الذي يَستقر عليه: أنه ما دام على سبيل الإضرار بها، ولم يكن ثَمَّ عذرٌ فللقاضي أن يدخل في ذلك ويأمره بالفيئة؛ لأنَّ المقصود حاصل بالإضرار بها، سواء كان بيمينٍ أو بلا يمين، فإن لم يفئ وطلبت المرأة الطلاق، أمره القاضي بالطلاق، وإلا فسخ عليه العقد.
يقول المؤلف: (ثُمَّ إِنْ رَاجَعَهَا، أَوْ تَرَكَهَا حَتَّى بَانَتْ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، وَقَدْ بَقِيَ أَكْثَرُ مِنْ مُدَّةِ اْلإِيْلاَءَ)، يعني: أنَّ الزوج لم يفئ بعد أن آلى منها ثم طلقها، ثم مضت العدَّة ثم تزوجها بعقدٍ جديد، ومدة الإيلاء لازالت باقية، فنحكم عليه بأنَّ الإيلاء ثابت إلى الآن، فيقول له القاضي: إمَّا أن ترجع وإمَّا أن تطلق.
ومثل ذلك: لو أنه راجعها في وقت العدَّة، فنقول ما دام أن مُدة الإيلاء باقية فإنها تُبنى على المدة الماضية؛ فنقول: مضى الآن منذ أن طلقها شهرين ونصف، وقبلها خمسة عشر يومًا، ثم بعدَ شهر تُضرب له المدة، فيُقال له: إمَّا أن تطلق وإمَّا أن تفيء.
ولذا قال المؤلف: (ثُمَّ إِنْ رَاجَعَهَا)، يعني في أثناء العدة. (أَوْ تَرَكَهَا حَتَّى بَانَتْ)، هل يُمكن أن تكون البينونة قبل انتهاء الأربعة أشهر؟
نقول: نعم، ربما كانت حاملًا، فوضعت بعدَ يومٍ من هذا الإيلاء، أو أن عادتها امتدَّت أكثر من ذلك، لا تأتيها العادة كلَّ شهرين، وهكذا.
قال: (ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، وَقَدْ بَقِيَ أَكْثَرُ مِنْ مُدَّةِ اْلإِيْلاَء، وُقِفَ لَهَا كَمَا وَصَفَتْ)، يعني كما وصفنا من الحكم بأنه يؤمر بالفيئة أو الطلاق على ما مرَّ بنا.
{قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (وَمَنْ عَجَزَ عَنِ اْلفَيْئَةِ عِنْدَ طَلَبِهَا، فَلْيَقُلْ: مَتَى قَدَرْتُ جَامَعْتُهَا، وَيُؤَخَّرُ حَتَّى يَقْدِرُ عَلَيْهَا)}.
عَجَزَ -بالفتح- أحسن من عَجِزَ -بالكسر- وهي تصح بالفتح.
فإذا انتهت المدة وقال أنا سأفيئ، ولكن لا أستطيع الآن لأي سبب من الأسباب؛ فنقول: إنَّ الفيئة تكون باللسان، فإذا قال: أريد جماعها، أو رجعتُ عن كلامي، أو لا أمتنع من معاشرتها، أو نحو ذلك من الألفاظ؛ فإنَّ هذا الرجوع باللسان كافٍ، حتى إذا قدر عليه بالفعل وجب عليه، وإلا ترتَّبَ عليه ما سبق مما ذكرنا.
فمن عَجَزَ عن الفيئة عند طلبها إمَّا لمرضٍ أو علَّةٍ، أو لإحرامٍ ونحوه؛ فيكون عوده ورجوعه وفيئته باللسان، حتى إذا قدرَ فعلَ ذلك.
قال: (وَيُؤَخَّرُ حَتَّى يَقْدِرُ عَلَيْهَا)، فإذا فعل فالحمد لله، وإلا أمضينا عليه حكم الإيلاء.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (بَابُ اْلقَسْمِ وَالنُّشُوْزِ.
وَعَلى الرَّجُلِ أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَ نِسَائِهِ فِيْ اْلقَسْمِ)}.
التعبير بــ (العدل) أحسن من التعبير بــ (يساوي)؛ لأنه قد يكون لواحدةٍ أكثر ممَّا للأخرى، أمَّا المساواة فتكون من كل وجهٍ، فإن كانت واحدة حرَّة وواحدة أمَّة، فسيكون للحرة ليلتين وللأمة واحدة، فالنُّسخة التي فيها (وَعَلى الرَّجُلِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ نِسَائِهِ فِيْ اْلقَسْمِ).
أوَّل ما نتكلم عليه الآن هو: مسألة القَسْم.
ومردُّ هذا الكلام راجعٌ إلى الزَّوج الذي عنده أكثر من زوجة، فهذا الذي يدخل فيه الكلام على القسم وإعطاء ما لكلِّ زوجةٍ حقها، وهذا من أكثر المسائل التي يحصل بها النِّزاع بين الأزواج والزوجات وتُعكِّر صفو الحياة، وقد تصل إلى الطلاق في المشاحَّة والمنازعة والمحاققةِ في هذا الباب.
وإني أوصي الأزواج أن يقوموا بحق أزواجهم، وأن يعدلوا، وأن يتقوا الله -جلَّ وَعَلَا- فإنَّه جاء في الحديث: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ» ، والله -جلَّ وَعَلَا- افترض العدل في كتابه، فقال تعالى: ï´؟فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةًï´¾ [النساء:3]، فإذا خاف الإنسانُ أن يفوت عليه العدل أو بعضه فإنه يمتنع من ذلك حفاظًا على دينه، وهذا ممَّا ينبغي أن يُنبَّه إليه الأزواج، ويُخوَّف بالله -جلَّ وَعَلَا- فإنَّ الغالب إذا أقبلَ بعض الأزواج على زوجةٍ صغيرة نسيَ ما كَان لتلك المراة مِن سالفِ العشرة وطويل المودَّة، وما جرى بينهما من احتمال الأذى ونحو ذلك، فيُقبل على هذه، ويكسر قلب تلك ويُعرض عنها حتى يظهر منه الجفاء، فإنَّ هذا أعظم ما يكون إثمًا وذنبًا عند الله -جلَّ وَعَلَا.
ولأجل ذلك صار نكاح الثَّانية والثَّالثة عند كثير من النِّساء هو بلاء عظيم، وهو كذلك من حيثُ ما جُبلت عليه من محبَّةِ أن تكون مع زوجها لا شريكة لها في ذلك، ولكن مع ما حصل من سوء العدلِ وعدمِ إحسان العشرة زاد في حُصول كراهية ذلك وبلاء ما يتعلق به.
ومن جهة أخرى: ما هو محل العدل بين الأزواج؟
تأمَّل ما قاله المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ- هنا، قال: (وَعَلى الرَّجُلِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ نِسَائِهِ فِيْ اْلقَسْمِ). أين الكلام على العدل في النَّفقة؟ أو بعبارة أخرى: هل يجب العدل في النَّفقة أو لا؟
النَّفقة على الزوجات لا يجب فيها العدل عند الحنابلة وجمعٍ من الفقهاء، خاصَّة أنَّ الحنابلة يقولون: إنَّ الاعتبار في النَّفقة بحال الزوجين، فإذا كان عنده زوجة غنيَّة وزوجة فقيرة؛ فالاعتبار أنَّ لهذه من النَّفقة ما ليس للأخرى، فباب النَّفقة بابٌ مُستقل، وهو إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، فيعدل في أن يُعطي هذه حقَّها من النَّفقة التي افترض الله لها على ما ذكر ذلك الفقهاء وقرَّره الحنابلة من اعتبار حال الزوجية، أو الزوجة، أو الزوج.
فمن قال بأنه يُعتبر بحال الزوجين، أو حال الزوجة: فإنَّه لا يكون في مثل هذه الحال تصوُّر أن يكون العدل هو التَّسوية بينهما، فإذا أعطى هذه خاتمًا أعطى هذه مثله، وإذا أدخل على هذا البيت رغيفًا أدخل على البيت الثاني كذلك؛ لا، وإنَّما يلتزم بالنَّفقةِ الواجبة لهم، وما زاد من أُعطياتٍ ونحوها فينبغي أن يعدل، حتى لا يحمل النفوس على الشطط والميل والحيف ونحو ذلك، ولكن أيضًا لا يُلزَمُ في ذلك، فلو أعطى هذه أو عطى هذه فذاك شيءٌ زائدٌ على النفقة.
أمَّا محل العدل فهو القَسم، وتمامه ألا يُفرِّقَ بينهم، فإذا أعطى هذه أعطى تلك، لتطيب القلوب وتسلم النفوس، وتقوم الحياة وتسعد النساء مع أزواجهنَّ.
وهذه من المسائل المهمَّة التي ينبغي أن يُنتفطَّنَ لها.
قال: (وَعَلى الرَّجُلِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ نِسَائِهِ فِيْ اْلقَسْمِ)، القَسْم: هو المبيت في الليل.
{قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعِمَادُهُ اللَّيْلُ، فَيَقْسِمُ لِلأَمَةِ لَيْلَةً، وَلِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً، وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُنَّ فِيْ اْلوَطْءِ)}.
إذن القَسم في الليل، بأن يجعل لكل زوجةٍ ليلةٍ، وهذا هو الأصل؛ لأنَّ الناس يأنسون ويرجعون إلى بيوتهم ليلًا، قال تعالى: ï´؟وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًاï´¾ [الأنعام: 96]، فالليل هو محل سكون النَّاس في بيوتهم ورجوعهم إليه، وأمَّا النَّهار فهو محل الانتشار وطلب الأرزاق، وما يتبع ذلك من قضاء الحاجات وغيرها.
فيبيت عند كل واحدة ليلة، ويكون ميوامةً، يعني يومًا ويومًا، أو ليلةً وليلةً، وقولنا: يومًا لأن اليوم تبعًا لليلة، ولذلك تقول عائشة: "مات النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في يومي"، وإن كان الأصل هو الليل.
وإذا رضيت النِّساء أن يكون القسم على طريقةٍ غير ذلك فهما على ما اتِّفقا عليه، فإذا اتفقوا على ليلتين ليلتين، أو مسابعةً -أسبوعًا وأسبوعًا- أو مُشاهرة -يعني: شهرًا وشهرًا- أو مساناة -يعني: سنةً وسنة- فالحقُّ لهم، والواجب عليه العدل، والأصل هو اليللة والليلة، فإذا اتفقوا على غير ذلك فهم على ما اتفقوا عليه.
فعماد القَسم الليل إلا في حالةٍ واحدةٍ، لمن كان عمله ليلًا، كالعسس الذين يشتغلون في أعمال ليلة، ولم يكن في الزمان الأول من الأعمال الليلة إلا العسس -وهم من يحرسون البيوتات- ولكن الآن كثير من الأعمال تكون في الليل، فإذا كان عمل الإنسان في ليله فمحل سُكناه هو نهاره، فجيب عليه أن يعدل بينَ النساء في النهار، الذي هو وقتُ سُكناهُ وأنسه في بيته ومنامه وما يتعلق بذلك.
ثم قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (فَيَقْسِمُ لِلأَمَةِ لَيْلَةً، وَلِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ).
أما إذا كانت حرة وحرة، أو أمة وأمة؛ فليلة وليلة، ولا إشكال في ذلك، ولكن إذا اختلفتا فإنَّ الأصل أنَّ الإماء على النصف من الحرائر، اعتبارًا بقول الله -جلَّ وَعَلَا: ï´؟فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِï´¾ [النساء: 25]، فأخذ من هذا فقهاء الصحابة واطردوا ذلك في مسائل كثيرة؛ أنَّ الإماء والعبيد على النِّصف من الحرائر والأحرار، ومن ذلك ما يتعلق بالقَسم، فإذا كان عنده أمة وحرَّة وتزوج الأمة بشرطها -على ما تقدم معنا في نكاح الإماء- فبناء على ذلك يبقى عند الأمة ليلة، وعند الحرة ليلتين.
وهنا الكلام على الأمة المزوَّجة، أمَّا إذا كانت سُرِّيَّة -التي يملكها- فهذه لا قَسْمَ لها.
قال: (وَإِنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً)، يعني: أنَّ الحرة لها ليلتين وإن كانت كتابيَّة، يعني أنه لا يفترق الأمر بينَ أن تكون كتابيَّةً أو مسلمة؛ فإنَّها على ضعف الأمة باعتبار حرِّيتها، وأن الأصل في الحرة أنَّها على ضعف الأمة، أو أنَّ الأمة نصف الحرة.
ثم قال: (وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُنَّ فِيْ اْلوَطْءِ).
أما الوطء والإتيان والجماع فلا يملك ذلك الإنسان في نفسه؛ لأنَّ مبنى الوطء هو على نشوة النفس وشهوتها، والشَّهوة مثل شهوة الطعام والشَّراب، فقد يشتهي طعامًا ولا يشتهي آخرًا، وقد يشتهييه يومًا ولا يشتهيه يومًا آخرًا، فلمَّا كان كذلك فإنَّ مردَّه إلى النفس، والإنسان لا يملك إقبال نفسه ولا إدبارها، فبناء على ذلك لو وطء هذه ليلتها وهذه لم يطأها في ليلتها؛ فما دام أنَّه بات عندها فقد أدَّى ما لها.
وكما قلنا: إنه لا ينبغي لزوجٍ أن يفوت حق المرأة أو أن يُضارَّ بها، حتى ولو وجدَ من نفسه رغبةً عنها، فإنَّه طلبًا للأجر وأداءً للحقِّ، وتمامًا للعشرةِ، وقيامًا بما جعل الله -جلَّ وَعَلَا- بينهما من المودة أن يُعطيها حقَّها، وأن يُعاشرها ويُجامعها، فيطلب بذلك الأجر من الله -جلَّ وَعَلَا- ولكن من حيث الأصل أنه ليس لذلك مدخل في القسْمِ ولا اعتبار في وجوب العدل بينَ الزَّوجات.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَلَيْسَ لَهُ اْلبَدَاءَةُ فِيْ اْلقَسْمِ بِإِحْدَاهُنَّ، وَلاَ السَّفَرُ بِهَا إِلاَّ بِقُرْعَةٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا، أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا، خَرَجَ بِهَا مَعَهُ)}.
قوله: (وَلَيْسَ لَهُ اْلبَدَاءَةُ فِيْ اْلقَسْمِ بِإِحْدَاهُنَّ)؛ لأنَّ القسم شيء، والبداءة فضيل، ولا يُتصوَّر أن يبدأ بهما على حالٍ واحدة، فلابد أن يُقدم إحداهما على الأخرى، فلمَّا كان التَّقديم تفضيل ولا يُمكن تحصيله لهما على حالٍ واحدة، فبناء على ذلك فإنَّ مرد الأمر إلى القُرعة، فيُقرعُ بينهما، فأيُّهما قرعت فيكون اليوم يومها، إلا أن يتفقا، فإذا اتَّفقا فالحق لهما؛ لأنَّ للمرأة أن تُسقط ليلتها، ولها أن تتنازل لصاحبتها، ولها أن تُحسن لزوجها، ولها أن تفعل أشياء كثيرة، وتطلب رضا ربها ورضا زوجها، وفي ذلك من الأجر ما فيه.
فبناء على هذا نقول: ليس له أن يخص واحدة بأن يبتدئ بها بالقسمٍ، وهذا إنَّما يُتصوَّر فيما إذا استويتا في الابتداء، كأن يتزوجهما بعقدٍ واحدٍ أو في ليلةٍ واحدةٍ، أو غير ذلك من الأمور التي حصل فيها استواء حقهنَّ في القسم.
قال: (وَلاَ السَّفَرُ بِهَا إِلاَّ بِقُرْعَةٍ)، كذلك السَّفر؛ لأن فيه اختصاصها به واختصاصه بها وتنقُّلها معه، فإذا لم يكن بينهما اتفاق، وإذا كانت على حالٍ كلٌّ يريد أن يذهب معه وأن يرافقه في سفره؛ فيكون المصير إلى القُرعة، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا أراد سفرًا أقرعَ بينَ نسائه، حتى ولو قال أنا سأسافر بهذه الآن، وبعد أسبوع أسافر بالثَّانية؛ نقول: لا، تُقرِع الآن وتسافر بالثَّانية بعدَ أسبوع، إلا إن اتفقتا، فإذا اتفقتا على حالٍ فالحكم على ما اتفقتا عليه، لكن إذا تنازعتا أو كل أرادت أن تُسافر معه؛ فيكون المصير إلى القرعة على ما ذكرنا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهِبَ حَقَّهَا مِنَ اْلقَسْمِ لِبَعْضِ ضَرَائِرِهَا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، أوْ لَه، فَيجْعَله لِمَنْ شَاءَ مِنْهنَّ؛ لأنَّ سَوْدَةَ وَهَبَتْ يَومَها لِعَائِشَة، فَكَانَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْسِمُ لِعَائِشَة يَومَها وَيَومَ سَوْدَة)}.
ذكرنا أنَّ القَسْم محل الليل والنَّهار تبعٌ له، فإذا احتاج أن يبقى في النَّهار فيبقى عند التي هو عندها، لكن لا يُمنع أن يذهب إلى الأخريات في النَّهار، ولذلك جاء عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الذي في الصحيح أنَّه كان يدور على نسائه بعد العصر كل يومٍ، فإذا كان يدخل يطمئن عليهنَّ، أو يُلاحظ بعض أمورهنَّ، يطمئنَّ على ما يحتاجون إليه ويتفقَّد أولاده، ونحو ذلك، فهذا لا بأسَ به، أمَّا الليل فهو خاصٌّ بمن سيبيت عندها ولا يخرج من عندها إلى أخرى إلا لضرورة، أو تأذن الأخرى أو يعلم أنها لا تُمانع من ذلك.
هناك مَسألة قد أجلناها إلى هذا الموضع، وهي مسألة ذكرنها في أول الكلام عن عِشْرة النساء، هل الواجب على المرأة تسليم نفسها لزوجها للاستمتاع بها أو الخدمة؟
عند بعض الفقهاء: أنَّ الواجب هو الاستمتاع فقط، فليس على المرأة لزوجها عمل ولا خدمة، لكن بعض النساء ربما تستمسك بذلك، وأيضًا ليس للزوجة على زوجها إلا النَّفقة الواجبة وأن يكسوها كسوة في الشتاء والصيف، ويُسكنها، أمَّا أن يذهب بها أو ينزهها أو يعطيها هدية لأهلها أو أمها أو أبيها؛ فهذه غير واجبة عليه.
والمشهور من القول عند بعض الفقهاء وهو اختيار ابن تيمية -رَحَمَهُ اللهُ- وهو الأليق والأتم في حال الزوجين والأمنع للنزاع: أنَّ لكلِّ واحدٍ منهما على صاحبه ما تعارف الناس عليه بالمعروف، فإذا كان عادة هؤلاء أنَّ المرأة تلي بيتها أو تقوم بخدمة زوجها، أو تنظف دارها، أو تطبخ طعامها فهو كذلك، ولذلك كانت عائشة تسقي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجاء عن أسماء امرأة الزبير أنها كانت تصلح طعام فرسه، وهكذا؛ فدلَّ هذا كما في السُّنن أنهنَّ كنَّ يخدمن، وفاطمة اشتكت إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما أصاب يديها وما أثقلها من العمل في بيتها، فطلبت خادمًا، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا أَدُلُّكُمَا عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ» ، فَدَلَّ ذلك على أنَّ نساء الصَّحابة كُنَّ يشقين في البيوت، ويعملن للأزواج، ويقمن على الأولاد، فينبغي أن يُتنبَّه إلى ذلك لمسيس الحاجة إليه.
ثم يقول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهِبَ حَقَّهَا مِنَ اْلقَسْمِ لِبَعْضِ ضَرَائِرِهَا بِإِذْنِ زَوْجِهَا)، يعني إذا كانت أكثر من زوجة، وكان لها عذر، أو رأت من زوجها انصرافًا عنه وأرادت أن تحبَّب إليه، أو ظنَّت أنَّ ذلك أبعدَ للإثم عليها وعليه، أنها لا تستطيع أن تقوم بحقِّه، وتخشى أن تتأثَّمَ فيه، أو أنَّها رأت منه إعراضًا فخافت على نفسها أيضًا أن يكون منها مثل ذلك فتأثم بذلك؛ فرأت أن تبذل ليلتها فذاك إليها، وسودة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- لما رأت من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيئًا من عدم مَيله إليها ونحوه وهبَت ليلتها لعائشة، فأحسنت إليه، وأرادت أن تبقى في عِصمة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن تكون من زوجاته في الآخرة كما جاء في الأثر أنَّ زوجاته في الدنيا هنَّ زوجاته في الآخرة -رضوان الله عليهن- أمهات المؤمنين.
فللمرأة أن تهب ليلتها لبعض ضُراتها ولكن بإذن زوجها، فقالت مثلًا: هذه ليلتي لخديجة، وقبل الزَّوجان ذلك، فحسنٌ؛ لأنَّ الحق للزوج أيضًا، ولكن لو جعلت يومها لمرأة لا يُريدها الزَّوج فلا، فيقول: إن أن تأخذين ليلتك أو أنك تعطينها مَن أرتضي، فيكون الأمر كذلك.
إذن هي بين حالين:
ïƒک إما أن تهب ليلتها لامرأة من نسائه ويرضى بذلك.
ïƒک وإما ان تهبها لزوجها، فيضعها حيث يشاء، فله أن يضعها عند الولى أو الثَّانية، أو الثَّالثة، وله أن يجعلها مُتفرقة، مرة عند هذه، ومَرة عند هذه، ومَرة عند الثالثة.
قال: (أوْ لَه)، أي: تجعل ليلتها للزوج، فيجعلها هو لمن شاء منهن، لما جاء عن سودة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- حينَ وهبت يومها لعائشة، فكان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقسم لعائشة يومها ويوم سودة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَإِذَا عَرَّسَ عَلى بِكْرٍ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، ثُمَّ دَارَ، وَإِنْ عَرَّسَ عَلى ثَيِّبٍ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثاً، لِقَوْلِ أَنَسٍ: مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ اْلبِكْرَ عَلى الثَّيِّبِ، أَنْ يُقِيْمَ عِنْدَهَا سَبْعًا، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلى اْلبِكْرِ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثاً)}.
هذه مسألة خاصَّة من مسائل القَسم، وهو إذا تزوَّج بكرًا ثانيةً أو ثالثة، فلمَّا كانت البكر يُداخلها الخوف ويختلف عليها الأمر، ولم يكن لها تجربةٌ مع الرجال، واحتاجت أن يبقى زوجها حتى يكون لها دُربَة، وحتى تألف ويذهب خوفها وما في قلبها؛ فجاءت السُّنَّة بأنَّ الزَّوج يبقى عندها سبع ليالٍ، وهذه السبع ليال حقٌّ لها، بمعنى أنه إذا بقيَ عندها سبع ليالٍ يدور على نسائه بدون أن يجعل لهن مثلها سبع سبع؛ فهذا حقٌّ أحقَّه الله -جلَّ وَعَلَا- لها كما جاء ذلك في سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أمَّا إذا كان قد تزوَّج ثيبًا فإنَّ فله أن يمكث عندها -كما جاء في الحديث- ثلاثًا؛ لأنَّ الثيب قد جربت النِّكاح وعرفت الأزواج، وخابرت ما في العلاقة ما هو معلوم؛ فلأجل ذلك سهلٌ أن تقرب نفسها، وأن يذهب خوفها، وأن تأنسَ بزوجها، فجاءت السُّنَّة بأن تُخص بثلاث ليالٍ؛ ثم بعدَ ذلك يدور على سائر نسائه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَإِنْ أَحَبَّتِ الثَّيِّبُ أَنْ يُقِيْمَ عِنْدَهَا سَبْعًا، فَعَلَ، ثُمَّ قَضَاهُنَّ لِلْبَوَاقِيْ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثاً، ثُمَّ قَالَ «لَيْسَ بِكِ هَوَانٌ عَلى أَهْلِكِ إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِيْ»)}.
هذه في الثَّيب إذا أرادت أن يبقى عندها سبعًا، فنقول: إذا بقيَ عندها سبعًا فذاك أمرٌ مردُّه إلى طلبها، لكن لتعلم إن طلبت سبعَ ليالٍ؛ فإنه إذا خرج منها فَسَيَقْسم لكل واحدة من زوجاته الأوليات سبعًا مثل ذلك، ولذلك قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِيْ» ، فإذا كان عنده واحدة جلس عندها سبع، وإن كانت اثنتين جلس عند الأولى سبعًا وعند الثَّانية سبعًا ثم دارَ على نسائه ليلة ليلة؛ فهذا حالٌ خاصَّة مردُّها إلى اختيار المرأة الثيب، فإذا أرادت الزيادة على ثلاثِ ليالٍ، أمَّا الأصل فإنَّ لها ثلاث ليالٍ، وإذا أعطاها الليالي الثَّلاث فإنه يقسم لهنَّ يومًا يوم، ولا يعوضهن عن الليالي الثلاث؛ لأنَّ ذلك حقٌّ مستحقٌّ لها لما جاء في سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هذا بالنسبة لما يتعلق بباب القَسْم، والحقيقة أنَّ فيه مسائل كثيرة مسيس الحاجة إليها، ولكني في النِّهاية أُوصي النِّساء بألا يُكثرن على أزواجهنَّ في المحاققة، ذهبتَ...، تأخَّرتَ...، زدَّتَ...، نقصتَ...، ذهبت في يومها إلى كذا ولم تذهب في يومي...، أو العكس...؛ فهذا كله مما يجلب البغضاء، ويُفسد الصفاء بين الأزواج، ولا يحصل منه خيرٌ البتَّة!
فلو أنَّ النِّساء ارتضينَ ما يحصل لهنَّ، وغضضنَ الطرفَ، وأنسنَ بالزوجِ، وطلبنَ الخير، واعتاضت المرأة عن كثرة الملاحَّة والمطالبة والمجادلة بأن تفوض الأمر إلى الله، وأن تطلبَ الخير منه، وأن تبذل ما فات عليها لله، وأن تطلب الأجر من الله -جلَّ وَعَلَا- فإنَّ الله يُعقبها بركةً في نفسها، وبركةً في ولدها، وخيرًا تجده من زوجها، وما يكون منها من تقصير فإنه يقابله ما يكون منها من وفاء، فيُذهب الله -جلَّ وَعَلَا- ذلك بذاك، ويحصل لها من الخير ما الله به عليم.
هذا أمر مهم! ومهما وَجَدَت المرأة من نفسها من غِيرةٍ أو شدَّةٍ أو تقَّلبَت نفسها؛ فإنَّ ذلك إنما هو من الشيطان، فيقول: جاء إليك وهو يضحك! وعندك لا يفعل كذا! فإنما ذلك من الشيطان، وكم من البيوت التي سُترَت هو أشد ما يكون فيها من البلاء وتظنُّه تلك الزوجة أنه في خيرٍ وسعادة وهناء، وكم من الأحوال التي كانت بركانًا على الأزواج ومزيجًا من البلاء والشَّر وتظنُّه الأخرى أنه في خيرٍ وصفاء!
فلو أنَّ المرأة أعرضت عن مثل هذه الأفكار والوساوس، وطرت الشيطان عن هذا الباب، ورضيت بما يجعل الله -جلَّ وَعَلَا- لها من الخير؛ فإن الله يُبارك لها، ويُعقبها هناءً في نفسها، ويُبارك لها في زوجها وولدها.
فهذه وصية، وإلا فمسائل التفاصيل في مثل هذا طويلة، ولكن نكتفي بما ذكره المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تعالى- ونسأل الله التوفيق والسداد.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلةَ الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:32   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

عُمْدَةُ الْفِقْهِ (6)
الدَّرسُ الثَّالِثُ (3)
فضيلة الشَّيخ/ د. عبد الحكيم بن محمد العجلان
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ د. عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، وحيَّاكَ الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات في مجلسٍ من مجالس العِلم، وحلقةٍ مِن حِلَقِه، أسألُ الله أن يَنفعنا جميعًا بها.
{في هذه الحلقة -بإذن الله- نقرأ آخر فصلٍ مِن الفصول التَّابعة لباب القَسْم والنُّشوز.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ فِيْ النُّشُوْزِ
وَإِنْ خَافَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا نُشُوْزًا أَوْ إِعْرَاضًا، فَلاَ بَأْسَ أَنْ تَسْتَرْضِيَهُ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حُقُوْقِهَا، كَمَا فَعَلَتْ سَوْدَةُ حِيْنَ خَافَتْ أَنْ يُطَلِّقَهَا رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلا- أن يجعلنا وإيَّاكم مِن عِباده المتَّقين، الذين إذا أُعطوا شكروا، وإذا أَذنبوا استغفروا، وإذا نسوا تذكروا، وأن يَجعلنا هَادين مَهديين غير ضالِّينَ ولا مُضلِّينَ، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريمٌ.
يقول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ خَافَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا نُشُوْزًا أَوْ إِعْرَاضًا، فَلاَ بَأْسَ أَنْ تَسْتَرْضِيَهُ).
لا تخلو المرأة من أن تطلب رضا زوجها، سواء كان ذلك فيما يجب عليها طلبًا لمرضاة الله، أو كان ذلك فيما لا يجب عليها لتستكمل به الأجر، وتزداد به من الخير، وأعظم ما يكون من البذل والإحسان هو ما يبذله المرء لزوجه -المرأة لزوجها والزوج لزوجته- ولذلك كثيرٌ من الناس يُحسنون، يتصدَّقون، يلطفون بأقاربهم، يُحسنون إلى جيرانهم؛ غير أنَّ بيوتهم تلتهبُ نارًا، وهذا خلاف مَا أَمَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلا- به، فلذلك حينما ترى المرأة مِن زوجها شيئًا مِنَ الإعراض أو التَّأفُّفِ أو الاستنكار للبيتِ، أو على خلافِ ما أَلِفَته من سكونه وحُسنِ عَهده، ونحو ذلك؛ فلا بأس أن تسترضيه، وأن تُذهِبَ بعضَ حقِّها، وأن لا تُطالب بكامل ما يجب لها، فإذا رأت منه مثلًا انشغالًا، فإن كان له أكثر من زوجة، وقلبه يميل إلى إحداهنَّ، فخافت أن يكون ذلك سببًا لما هو أشد، فقالت: إذا تأخَّرتَ عندها أو ذهبت لها في بعض الليالي -كحلٍّ يسير- فإنِّي لا أجدُ عليك في ذلك شيئًا، وأنا أُحلِّلُكَ عند الله -سبحانه وتعالى.
وإن قالت: إن رأيتَ في بعض الأحيان أن تنام عندها، أو بدا لك أن تبقى في بيتك ذاك، أو نحوه؛ فهذا ممَّا تسترضي به المرأة زوجها، وربما كان ذلك أرفع لمنزلتها، وأدعى لأن يُقبل الزَّوج عليها، كما أنَّها تحفظ بذلك ما هو أكبر وأهم، من استقرارٍ البيت، أو سكون الأولاد، وحصول الخير، وأنَّه ما قد يفوت عليها بالطَّلاق قد يحصل لها في بعض الأحيان.
وكان شيخنا الشيخ ابن باز -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقول كلمة لطيفة: "أَنْ تَرضى المرأة بنصف زوجٍ، أو ثلث زوج، أو ربع زوج؛ خير من أن تكون بلا زوج!"
وهذا في حالِ ما إذا كان له أكثر من زوجةٍ، أو طمع في نكاحٍ وخافت في ذلك، فكثير من النساء إذا تزوَّجَ زوجها طلبت الفِراق، وهي في هذا خاسرة، فبدلَ أن كان لها نصف زوج صارت مُطلَّقة، والمطلقة يلحقها مِن الأعباء ويكون للناس عليها نظرة أقل بكثير مِن نظرتهم إلى مَن كانت مُزوَّجة، ولو كان عند زوجها زوجةٌ أخرى أو ثالثة أو رابعةٌ.
إذن ينبغي للمرأة أن تكون عاقلة، وينبغي للنساء أن يتواصين على ذلك؛ لأنَّ من أعظم ما يكون من السُّوء ويستجلب الشَّرَّ أن بعضهنَّ يُوصي بعضًا بالسُّوء والشَّر، ويتواصينَ بوصيَّةِ الشَّيطان في أن تفسد المرأة على زوجها، وأن تزيد مِن حَنْقِها، وأن لا تسكن نفسها، فتقول لها: لا تتركيه يفعل كذا، ولا تجعلي كذا...، وهذه فلانة سكنت فذهب بعض حقها...، وهذه...، وهذه...؛ فيلعب بها شيطان الجن وشيطان الإنس!
وويلٌ لمَن قالت تلك المقالات وذهبت بها الأيام، وتظن أنَّها في خير، وقد أعقبها الله -جَلَّ وَعَلا- سيئاتٍ يلحقنها يوم القيامة، وكم من النِّساء التي اجتلبت على بيتها بما أفسدت من بُيوت الناس شرًا عظيمًا، وهي لا تدري أنَّ سببها كلمة قد قالتها، أو سواءً قد استجرته -أو نحو ذلك- على غيرها.
إذن يتواصين النِّساء على الأُنس وإبقاء البيوت، والحفاظ عليهنَّ، والطَّمعِ في أن تكون على خير حالٍ، كما فعلت سَودة رضي الله عنها حين خافت أن يُطَلِّقَها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكذلك الزَّوج إذا خاف من زوجته، فبعض الأحيان قد يكون الزوج مِنه ضعف، أو منه مرض، أو منه حالٌ سيئة، ثم هو في ذلك كلِّه قد يطلب من المرأة أشياء كثيرة، وقد تكون ليست بلازمةٍ لها، ولا بمتحتِّمةٍ عليها، فينبغي له إذا رأى شيئًا من ذلك أن يستطيب خاطرها وأن يسترضيها، فإن كان رضاها في مالٍ يزيد، أو كان في حاجةٍ لها يقضيها، وإن كان ذلك في بعض الأمور فيساعدها عليها، وكم من النساء طُلبَت في خيرٍ بأمرٍ يسير، وطابت بذلك الحياة، وأنِسَت بذلك النفوس، وكم من البيوت التي قاربت الفراق حُلَّت بأبسطِ ما يكون، بكلمةٍ، أو بفعلةٍ يسيرة.
إذن هذا هديٌ نبويٌّ، وفعلٌ صحيحٌ، وسنَّةٌ مرضيَّةٌ، وطريقةٌ نبويَّةٌ؛ في أنَّ المرأة والرجل إذا رأى كلٌّ واحد منهما من صاحبه شيئًا؛ فإنَّ له أن يطلب ما يمنع أن تفسد الزَّوجيَّة، أو أن يحصل فيها الخلاف، أو أن يدبَّ إليها الشيطان والنِّزاع.
فجعل المؤلف ذلك مُقدِّمةً، وهي من أنسب ما يكون لأن تستحضره الزَّوجات والأزواج في حياتهم، طلبًا لرضا الله -جَلَّ وَعَلا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ خَافَ الرَّجُلُ نُشُوْزَ امْرَأَتِهِ وَعَظَهَا، فَإِنْ أَظْهَرَتْ نُشُوْزًا، هَجَرَهَا فِيْ اْلمَضْجَعِ فَإِنْ لَمْ يَرْدَعْهَا ذلِكَ، فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ)}.
قال (وَإِنْ خَافَ الرَّجُلُ نُشُوْزَ امْرَأَتِهِ وَعَظَهَا)، هذه الدَّرجات هي آيةٌ تُتلَى في كتاب الله -جَلَّ وَعَلا- في سورة النساء: ï´؟وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ غ– فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًاï´¾ [النساء: 34].
والمشهور عند أهل العلم: أنَّ هذا الذِّكر ذكرٌ مرتَّبٌ وإن كان بواو الجمع، إلا أنَّه يدلُّ على أنَّه لا يُنتقَل إلى مرحلةٍ جديدة إلا إذا لم تنفع المرحلة التي قبلها، فإذا نفع في الزَّوجة الوعظ والتَّخويف والتَّذكير بالله -جَلَّ وَعَلا- وبما للزوج من الحق، وبما لها في ذلك من الأجر، وبما يلحقها من الإثم؛ فإنَّها تقرب من زوجها وتُراجع أمر الله -جَلَّ وَعَلا.
ومن المعلوم أنَّ كثيرًا من النساء في هذه الآونة الأخيرة بما اجتُلبَت من الشُّرور، وتداخلت من الثَّقافات؛ صارت تجعل رأسها برأس الزَّوج، وتجعل أمرها كأمره، فلا تلوي على قوله، ولا تأتمر بأمره، وكلُّ ذلك مخالفة لأمر الله -جَلَّ وَعَلا- ومهما وجدت في الدُّنيا من سَعةٍ، أو وجدت مَن يُقوِّي أمرها؛ إلا أنَّ عاقبتها عند الله -جَلَّ وَعَلا- خُسرًا، والله -جَلَّ وَعَلا- جعل للرجال قِوامة، وجعل لهم ولاية، ولا يجوز أن يُفتات عليهم في ذلك البتَّة.
على كلِّ حال؛ إذا خاف الرجل من امرأته نشوزًا وعظها، وهذا الوعظ تذكيرٌ بالله -جَلَّ وَعَلا- وبما أمر من حقِّ الزَّوجِ ونحو ذلك.
وإذا أَعْيَى الزَّوج أن يعظها لجهالته، أو لعدم علمه، أو لعدم انتفاذها به؛ فلا غضاضة أن يستعين بمَن يصحونها، وأن ينظر فيمن يعظها، أو أن ياتي إليها بكتابٍ، أو أن يُرسل إليها رسالة صوتيَّة أو مرئيَّةً أو نحوها؛ بما يُحصِّل هذا الوعظ والتنبيه.
بعض النساء ممَّن انقفلت قلوبهنَّ وفسدت نفوسهنَّ لا ينفع فيها الوعظ والتخويف، فيقول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنْ أَظْهَرَتْ نُشُوْزًا)، يعني: لم تستجب، ولم يبدو منها أيَّ إقبالٍ هجرها في المضطجع.
ما الذي يتحصَّل به النُّشوز؟
الفقهاء -رَحَمَهُم اللهُ تَعَالَى- يقولون: يتحصل النشوز بترك ما يجب على المرأة من الحقِّ لزوجها، وهو الذي تقدَّمَ ذكره في المجلس قبل الماضي، لَمَّا قُلنا:
هل الواجب على المرأة أن تخلي بين زوجها والاستمتاع؟
أو أنَّ الواجب عليها ما يجب على مثيلاتها من القيام في البيوت بالمعروف؟
سواء كان ذلك في استمتاع الزوج بزوجته، أو كان ذلك في قيامها على بيته، وخدمته، والإحسان إلى ولده، فما كان ذلك معروفًا، وهذا يتباين فيه الناس كلٌّ بحسب ما اعتادوه، وبحسبِ منازلهم الدُّنيويَّة، وما يسَّر الله لهم من وجود خدمٍ، أو فُسحةٍ في الدُّنيا أو غير ذلك، أو اعتادوا أمرًا يعتادونه، فإنَّ مِنَ النَّاس مَن لهم وجاهةٌ بأسمائهم، أو بأشرافهم ونسبهم، فعادتهم ألا تخدم نساؤهم البتَّة، فمثل ذلك جرت العادة أنَّ لهنَّ خادمًا، فلابدَّ لها من خادمٍ، وهكذا..
فإذن نشزوها بترك ما وجب عليها، سواء قلنا الأول أو الثاني، فإذا أظهرت النُّشوز، كأن يأتي الزوج ولا يجد طعامًا في البيت، مثلها ممَّن يوجد الطَّعام، ويُصلح البيت بالغداء ونحوه؛ فإنَّ ذلك نشوزٌ منها، وإذا كان ذلك فيما هو أخصُّ -وهو ما لا خلاف فيه- فإذا طلبها وليس بها عذر كأن لا يكون بها مرضٌ أو علَّة أو عارض ونحو ذلك؛ ومع ذلك لم تُجب زوجها؛ فهي في هذا آثمة أيَّما إثم، وهي ناشزٌ، ويتعلق بها ما ذكره المؤلف هنا.
قال: (فَإِنْ أَظْهَرَتْ نُشُوْزًا، هَجَرَهَا فِيْ اْلمَضْجَعِ).
المقصود بالمضطجع: الجماع، وهو أن يترك جماعها، وقد يَفهم بعض النَّاس أنَّه لا يُكلمها، وهذا ليس بصحيحٍ، وليس بمطلوب؛ بل ليس له أن يفعل ذلك البتَّة، فإن كان ولابدَّ فاعلًا فليكن ثلاثة أيامٍ فأقل؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ» ، فلو كان ثلاثة أيام فأقل فلا بأس، ولكن لا يزيد على هذا، وأمَّا الهجران في المضطجع؛ فإنها مادامت ناشزًا فإنَّ له أن يهجرها فيه.
وهذا من أعظم ما يكون مُؤثرًا على الزَّوجات؛ ولأنَّ العلاقة بين الزوجين مبنية في كثير من الأحوال على ما يكون من المشاعر والعواطف وما يكتنف ذلك من تمام المودَّة، وحصول الأنس، والألفة بينهما، فإذا رأت منه جفوةٌ في ذلك؛ فإن ما جُبِلَت عليه المرأة أن تقرب من زوجها، وأن تعود إلى رشدها، وأن تتنبَّه إلى خطئها، ولأجل ذلك أمر الله به، وجاء في كتاب الله -جَلَّ وَعَلا- مُفصَّلًا لأهميَّته.
وقد جاء تفسير الهُجران عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقال: يهجرها في فراشه فلا يقربها، وليس المقصود بذلك أن ينام في مكانٍ وهي تنام في مكان؛ لا، بل يناما في مكانٍ واحدٍ، ولا غضاضة في ذلك؛ بل هو مأمورٌ به، لكنَّه لا يُجامعها حتى يكون ذلك أدعى لعودتها ورجوعها.
يقول المؤلف: (فَإِنْ لَمْ يَرْدَعْهَا ذلِكَ، فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا).
فإنَّهم -كما يقولون: آخر العلاج الكيُّ!
فالضرب هو آخر الدرجات والمنازل الثلاث الذي يكون فيه عقاب وتأديب وتعزير النَّاشز، فله أن يضربها، وبهذا نطقت الآية، وهذا حُكم الله -جَلَّ وَعَلا- وحال أهل الإيمان أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، قال تعالى: ï´؟إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَاï´¾ [النور: 51].
أيتها النساء! مهما سمعتنَّ من الكلام، ومهما اجتمع مِن الأحاديث، ومَهما كثُرَت من الأقاويل، ومهما تداعى إليه أهل الشَّر والفسوق والفُجور، ومهما ذكروا فيه من الكلام، ومهما أجالوا فيه من الشُّبَه فإنَّ قولَ الله -جَلَّ وَعَلا- هو أعظم ما يكون لَكُنَّ استجابةً واستسلامًا، إيمانًا وإذعانًا، قبولًا واهتداءً، وإنَّه ليُعرَف أن عقلاء النساء يَقلنَ إنَّه أعظم ما يُصلحهنَّ ما يكون من الزَّوج من إظهار قوامته، وظهور رجولته، ومن ذلك ما يكون من ضربها، على أنَّ الضرب هنا إنما هو ضرب غير مبرح.
وهنا مسألة مهمَّة! ونحن أكثرنا في هذه المواطن الحقيقة من مُكملات ربما لا تكون مسائل فقهيَّة، لكن لمزيد الحاجة إليها، ولكثير ما يقع فيها من الشُّبهِ، وكثير ما تداعى إليه الأمر من السوء، إذا تكلمنا عن ضرب النِّساء، فمن أين تَلَقَّى النِّساءُ ضَربَ الرِّجال للنساء؟ والعرب فيما مضى لا يُمدَحون بضرب النِّساء حتى جاهليتهم، يقول قائلهم: شُلَّت يميني إن ضربتُ بها امرأة! ويعرفون أنَّ ضرب النِّساء والإقبال عليهن به ضعفًا، لكن تأملوا وانظروا وابحثوا؛ أليس ضرب النساء والاستطالة عليهن إنما جاءنا مع هذه الشاشات الفاحشة وهذه الأفلام المضلَّة؟
أليست في تلك الأفلام التي وفدت إلينا عبر أربعين سنةٍ من الغرب ومَن أخذ مناهجهم واستلهم أفكارهم، هم الذين إذا قامت بينهما أيُّ خصومة مدَّ يده فصفعها، وَلَكَمَهَا حتى امتدت في الأرض؟!
أليست هذه مشاهد معلومة متكررة؟!
فمن الذي يُعين على ضرب النِّساء؟
ومن الذي يدعو إلى ذلك؟
ومن الذي يُؤسس لهذه الثقافة؟
ومن الذي يُسَهِّلُها؟
ومن الذي يَنْشُرُهَا في المجتمعات؟!
تبًّا لتلك المسالك الوخيمة الظالمة الضَّالة، التي رمتنا بدائها وانسلَّت، وهي أقرب ما تكون إلى هذا الداء، وهي ألصق ما تكون بهذا السوء، فهم الضَّربةُ، وهم الضُّلَّال، وهم أهل الشَّرِّ، وهم أهل الفساد!
وبينَ يدي هذا؛ أذكرُ أنِّي كنتُ في مُقابلةٍ مع بعضِ إعلاميَّات مَشهوراتٍ في إحدى الدُّول التي تعد من أشهر مَن يُشكِّل الإعلام في تلك البلد، وسألونا عن أمر النساء وبعض المسائل المتعلقة بهنَّ، ووالله الذي قالوه لي بلسانهم: هلَّا علمتم أبناءنا هذه الأخلاق! أو إن كان عندك أزواج من بني بلدك فليتزوجون، وما قالوها إلا وهم يعرفون هذه المعاني مع ما لهم من المكان في مجتمعاتهم وفي إعلامهم!
فنقول: هُم الذين ضربوا النساء، وهم الذي اجترؤوا عليهم، وهم الذين أسَّسوا لذلك!
أمَّا ما جاء في الشَّرع فهو ضرب غير مبرِّح في حالٍ يسيرة صغيرةٍ محفوظةٍ، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَجْلِدُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ» ، يعني: المرأة التي تضاجعها وتأنس بها لا يُناسب أن تضربها كما يُضرَب العبيد، أو كما ألِفَ الناس من الضرب السَّيء، وإن كان أيضًا لا يُقَرُّ ضربَ العبيد بسوء، ولكن هو تصوير بتشبيه الحال التي يعرفونها، وإلا فإنَّ الشَّرع جعل للعبيد أحكامًا وحقوقًا، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللّه تحْتَ أيْدِيكُمْ» ، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في آخر حياته: «الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» ، يعني: في العناية بهم.
إذن محل الكلام، أنَّ الضرب يكون غير مُبرِّحٍ، ولذلك وصفه الفقهاء بأن يكون بخرقةٍ، فيلفها ويضرب، فهذه لا تؤثر ولا توجع، وإنما لها معنًى في إيقاظ ما سكنَ في النَّفس، وتحريك ما يُمكن أن ينفع، وحثُّ المرأة على ما بلغ به الأمر من الزوج من أنَّكِ تحتاجين إلى التَّأديب كما يُؤدَّبُ الصِّغار، وكما يُعلم الذين لا ينتبهون.
ولذلك فمهما بحثت في كتب التفسير، أو في كتب الفقهاء، أو في تصانيف وتضاعيف كتب شُرَّاح الأحاديث، ومهما اختلفت بلدانهم ومذاهبهم، أو مشاربهم؛ فلن تجد عند أحد من قول أهل الإسلام إلا أنَّ هذا الضرب محدود بهذا الحد، ومُقيَّدٌ بغير المبرح، فبعضهم يقول: بالسواك، ويقولون: لا يجلد بسوطٍ ونحوه، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «وَلَا يَضْرِبْ الْوَجْهَ وَلَا يُقَبِّحْ» ، فحتى قول: "قبَّح الله وجهك"؛ فإنَّ ذلك مَنهي عنه في شريعتنا، فهذه الشَّريعة كاملة، وليس فيها ما يسوؤها ويُنقصها، وإنما هو تشويه بعض مَن حنقت نفوسهم على هذه الشَّريعة، وأُعجبُوا بأهل الأهواء والضَّلال، وأرادوا تلك المسالك الوخيمة، وحسبنا أن ننظر فيما قال ربنا وقال نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونحن حالنا حالُ أهل الاتباع والاهتداء، ï´؟آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ غڑ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ غڑ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غ– غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُï´¾ [البقرة: 285].
إذن هذا ما يتعلق بضربِ المرأة وما جاء فيه، وما يدل عليه، وما دوَّنه عُلماء الإسلام على اختلاف مذاهبهم فيه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ خِيْفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا، بَعَثَ اْلحَاكِمُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا مَأْمُوْنَيْنِ يَجْمَعَانِ إِنْ رَأَيَا وَيُفَرِّقَانِ، فَمَا فَعَلاَ مِنْ ذلِكَ لَزِمَهُمَا)}.
هذا مسلك من مَسالك الإصلاح، وطريقٌ من طرائق رأبِ الصَّدعِ بينَ الزَّوجين، ومنعٌ لأن يصل الأمر إلى التَّشتُّتِ والفراق، ولأن يصل الأمر إلى الخلاف والفراق والطلاق.
قال المؤلف: (وَإِنْ خِيْفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا)، ولم ينفع الأمر الأول ولا الثاني ولا الثالث، ودامت الأمور على ما هي عليه من البلاء بينهما، وكلٌّ يشكو صاحبه.
قال: (وَإِنْ خِيْفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا، بَعَثَ اْلحَاكِمُ)، فينظر القاضي في حَكَمَين عَدليْن يُحسنان النَّظر، ويَعرفانِ الأمر، ويتأنَّيانِ في الحكم؛ فيحكمان بما يريان، وهذا قد جاء في الكتاب، وفي قول الله -جَلَّ وَعَلا: ï´؟وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَاï´¾ [النساء: 35].
وعلى الحكميْنِ أن يَطلبا الحقَّ والهُدى، وأَلَّا يكون في نفوسهما إرادة التَّفريق أو الظُّلم، أو الاعتداء عليهما، أو التَّشفِّي بفرقتهما؛ بل أن يُريدا في ذلك الإصلاح، وهذا أعظم ما يكون من الخير والهدى، وأعظم ما يحصل به الإصلاح؛ إرادة النِّيَّة منهما لذلك، فهذان الحكمان يكونان من أهلهما.
هل الحكمان نائبانِ عن الحاكم؛ فلهما حقٌّ في البتِّ والإنهاء؟ أم أنَّهما وكيلان عن المرأة والرجل؟
هذا خلاف بينَ الفقهاء، وظاهر كلام المؤلف هنا أنهما حكمان من الحاكم؛ فلهما البتّ، حتى لو لم يرض الزوجان بذلك.
وظاهر المذهب عند الحنابلة، وهو قولٌ لجمعٍ من الفقهاء: أنَّ الحاكم يبعث الحكمين بشرطِ أن يكونا وكيلين من المرأة والرجل، وأن يرضيا بهما، فإذا رضيا بهما فينوبان عنهما في الإصلاح، وفيما يُمكن رأبُه وجمعه ونحو ذلك، ولا يكون الفراق إلا بإذنهما، فإذا كانا قد أذنا لهما في التَّفريق أو في الطَّلاق، وأذنت المرأة في الخلع أو بذل العوض ونحو ذلك، حتى يذهب كلّ واحدٍ منهما إلى سبيله؛ فهو على ما وُكِّلا فيه.
فالأمر في هذا محلُّ نظرٍ، هل هما وكيلان، أو هما حكمان يحكمان؟
والظاهر أنَّهما وكيلان، فإذا قلنا: إنهما وكيلين فمعنى ذلك لا يكون إلا برضا الزوج والزوجة.
إذا لم يرضيا الزوج والزوجة بالحكميْن، فنقول: لا بأس أن يُبعَث حكمان، لكن لا يكون لهما سلطان في التَّفريق ونحوه، وإنَّما يُحاولان أن يُقرِّبا وجهات النَّظر، وأن يعظ كل واحدٍ منهما صاحبه، وأن ينظر فيمن وُجد منه الخلل، إن كان منهما جميعًا فيُبيِّنانِ لهما، وإن كان من أحدهما أو الابتداء من هذا والتَّكميل من هذا، وهذا يحصل منه أكثر من هذا...، بحسبِ الحال؛ المهم أن بعثَ الحكميْن من أهم ما يكون، ولابد أن يكونا عدليْنِ، ولابد أن يكونا من قرابتهما، وهذا من أحسنِ من يكون؛ لأنَّ كلٌّ أعرف بما يحتفُّ به وبما يليق به، فيكون ذلك حسنًا، وهذا مانع من انتشار الأمرو، وظهور خصائص البيوت، وما يدخل بين الزَّوجين من أمرٍ قد ينكشف لهذين، فإذا كانا غريبين فقد يشيع وقد يظهر، ويعود عليهما بالسُّوء، لكن إذا كانا من أهلهما فإنَّهما يحفظانِ من ذلك ما لا يحفظه غيرهما.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ اْلخُلْعِ.
وَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُبْغِضَةً لِلرَّجُلِ وَخَافَتْ أَنْ لاَ تُقِيْمَ حُدُوْدَ اللهِ فِيْ طَاعَتِهِ، فَلَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِمَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ)}.
أذكرُ هنا لطيفةً: يُذكر أنَّ امرأة درسَت باب الخلع، وجعلت فيه بحثًا، فلما انتهت من بحثها خالعت زوجها!
باب الخلع هو شروعٌ من المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- فيما يحصل به الفرقة بينَ الزَّوجين، والفرقة بين الزوجين إمَّا أن تكون:
ïƒک بالطلاق: وهذا هو الأصل، لكن أخَّره المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- لطوله.
ïƒک أو بالخلع: ويكون من المرأة عقب النُّشوز، أو الخلاف، أو ما يجري منها من بُغضٍ للزوج وإعراضٍ عنه، فناسبَ أن يكون كذلك، وأن الباب لا تطول مسائله كطول مسائل الطلاق.
الفرقة بينَ الزوجين من أعظم ما يكون، ولذلك لم يفرح الشَّيطان بشيءٍ فرحه بأن يأتي بعض بعوثه فيقول: لم أزل بهما حتى فرَّقتُ بينَ الرجل وزوجه، فينصب له العرش ويُجلسه عليه! وهذا لعِظَمِ ما يتعلَّق بذلك من أثرٍ، وما يعقبُ ذلك من البلاء.
ما دام أنَّنا أجرينا بعض المسائل التي تتعلق بذلك؛ فهنا مسألة لا غضاضة أن نذكرها، وهي متعلقة بباب الخلع وكتاب الطلاق على حدٍّ سواء، وهي: ينبغي أن تعلم كل امرأة ويعلم كل زوجٍ أنَّهما لا يصيران إلى الطلاق بحالٍ من الأحوال بسبب أنَّه وُجدَ إشكالٌ لا حلَّ له، فإنَّه ما من بيتٍ من الزَّوجيَّة إلا وفيه إشكال، وأنَّها مهما عظُمَت معاناتهما، ومهما اشتدَّ أمرهما؛ ولكن متى يكون الفراق -سواء كان بالخلع أو بالطلاق؟
إذا تعذَّر عليهما قيام حياتهما، وكان الطلاق أو الخلع لهما خيرٌ من البقاء، فبعض النساء ترى أنَّها في مشكلة، فإذن لا حلَّ لها إلا بالطلاق أو الخلع، ولكن تنفتح عليها مشاكل كثيرة بعدما أن كانت مشكلة واحدة، فمثل هذه المرأة خيرٌ لها أن تبقى وأن تتحمل حتى ولو كانت هذه المشكلة كل يومٍ تتأوَّه منها وتتأذَّى.
ومثل ذلك الزوج، فلو كان بينه وبين زوجته إشكال، ثم هو يعلم أنه لا يقدر على نكاحٍ، وأنَّه لا يصبر بدون زواجٍ، فبدل أن كان يتأذَّى من زوجه ويجد منها خلافًا وتعنُّتًا ونحو ذلك صارَ لا يأمن على نفسه من الحرام، فلا هو الذي بقيَ مع زوجه على ما فيها من علةٍ وكدرٍ، ولا هو الذي استقبل بذلك حياة آنسُ وأسلم، فلا سَلِمَ دينُه، ولا استقرَّت حياته، ومثل ذلك أشياء كثيرة!
فكثير من الأواج يظن أنَّ وجود إشكالٍ بينه وبين زوجه داعٍ إلى حصول الفُرقة، سواء كان بالخلع أو بالطلاق؛ لا! وإنما نقول -وهذه كالقاعدة لكم: إنه لا ينبغي أن يسعى الزَّوجان إلى الفراق إلا أن تكون الحياة لهما بعدَ الفراق خير لهما من الحياة قبله، أو لطالب ذلك -إذا كانت المرأة أو الرجل- فإذا كانت تعلم أنها تستقر أمورها، أو أنها تعاني من بعض الأشياء، ولكن معاناتها في بعض هذه الأشياء أخف مما تعانيه حال بقائها من زوجها؛ فنقول: نعم.
ولذلك كم من الزوجات اللاتي ظلت تطلب الطلاق أو الخلع سنة او سنتين أو ثلاث، حتى إذا طلقها زوجها نادت على نفسها بالويل والثبور، واستدعت كل مَن استطاعت حتى يُعيدها إلى زوجها، وتنازلت عن كثيرٍ من أمورها حتى تعود كما كانت، وكانت هي في غُنيةً من ذلك.
ومثل ذلك بعض الأزواج، ما أن يسمع كلمة، أو يُقال عن زوجته مقالة، أو أن يدخل في إشكالٍ، أو أن يختلفا على أمرٍ، أو أن يحصل بينَه وبينَ أهلها شيءٌ حتى يُسرع إليها بالطلاق، حتى إذا ذهبت إلى أهلها وجد نفسه في بلاءٍ، واشتدَّت عليه الأمور، وانفتحت عليه أشياء لا طاقة له بها، فعلمَ أنَّه كان في رحمةٍ عظيمةٍ، وفي منَّةٍ كبيرة لو كان يرعاها!
فينبغي أن تُعلَم هذه الأمور، وأن تستقر النفوس، ولأجل ذلك ما جعل الله -جَلَّ وَعَلا- الطَّلاق لأوَّلِ وهلةٍ، وإنَّما حتى تطهر المرأة، ويُطلِّقها وهي طاهرٌ لم يُجامعها في ذلك الطُّهر؛ لأنَّه ليس انفلات نفسٍ، ولا غيظُ صدرٍ؛ وإنما شيءٌ يُرى أنَّه هو الصواب.
الخلع: أصله من خَلَعَ خُلْعًا وخَلْعًا، وخَالَعَتْهُ مُخَالَعَةً، فالمرأة تُخالع زوجها، وذلك أنَّ جهة الخلع هي الزوجة، وهي أن تطلب فسخ نكاحها بعوضٍ تبذله للزوج، وأصل ذلك السُّنَة والقرآن والإجماع.
من القرآن: قول الله -جَلَّ وَعَلا: ï´؟فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِï´¾ [البقرة: 229]، أي: فيما تبذله من عوضٍ على أن يُفارقها.
ومن السُّنَّة: قصَّة قيسٍ لما كان قد تزوَّج المرأة، فاشتكت إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقالت: إنِّي أكرهه كما أكره الكفر في الإيمان. فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتردين عليه الحديقة؟ ويطلقكِ تطليقة». قالت: نعم، وردَّت عليه الحديقة.
فدلَّت السُّنَّة على أنَّ الخلع مَشروعٌ، وعلى ذلك اتِّفاق أهل العلم، ولأجل ذلك ذكر الفقهاء باب الخلع هنا.
قال: (وَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُبْغِضَةً لِلرَّجُلِ).
أصل الخلع: هو بُغض المرأة لزوجها، فلا تستطيع العيش معه، سواء كانت في ذلك قد أبغضت خَلقَه -وهي صورته الظَّاهرة- فلا تقبله، وتتقزَّز منه، وتتأفَّف مِن منظره، فهذه أشياء يجعلها الله -جَلَّ وَعَلا- في القلوب، فإذا رأت من نفسها أنَّها لا تجد في ذلك شيئًا البتَّة، وحاولت وأنفذت وسعها ونظرت إليها بعينِ المحبَّة، وبما يُشرق به من خلق، وبما يتم به من أمرٍ، ثم لم تجد قوبلًا في نفسها له؛ فلا بأس عليها في ذلك.
أو كرهت من خُلُقه: وهي صورته الباطنة، أي: صفاته وشمائله، ونحو ذلك، كأن تكره منه بُخلَه، أو سُرعة غضبه، أو تكره منه شيئًا من انكبابه على نفسه، لا يُكلمُ أحدًا، ولا يُحسنُ حديثًا، فإذا كانت المرأة قد أبغضت زوجها في خَلقٍ أو في خُلُقٍ فلا غضاضة عليها في ذلك، ولكن لو لم تُبغض زوجها فلا يحسن بها أن تطلب خلعًا، ولذلك جاء في الحديث: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلاقًا فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّة» .
والمشهور عند الفقهاء أنَّ طلب الخلع مع استقامة الحال إنَّما هو على الكراهة، ولهم في هذا الحديث توجيه، ومنهم من يقول: لما أحل الله للرجل الطلاق؛ أحل للمرأة أن تطلب الفراق، وأنه لا يتحتَّمُ عليها البقاء، فجاز لها الخلع، وإن كان بعضهم يُشدِّد في هذا.
قال تعالى: ï´؟فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِï´¾؛ لأنَّ المرأة قد تخاف على دينها، فإذا كانت المرأة تبغض هذا الرجل، ويحملها ذلك على أن تتثاقل عن حقه ولا تقوم بواجبه، وهذا فيه من الوعيد ما فيه، فإن خافت من ذلك، أو خافت على نفسها، فهي لا تقبله ولا تُقبل عليه، وذلك لا يحصل به إعفافها، فلا غضاضة عليها في مثل هذا، فإذا طلبت الخلع، وخالعت زوجها فلا بأس.
أو كما يُفهم من كلام المؤلف: متى ما كانَ لها طريقٌ إلى الصَّبر والتَّجلُّد وأن تُمسك بذلك فهو حسنٌ لها، لكن ليس بلازمٍ، فلأجل ذلك قال المؤلف: (فَلَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِمَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ)، سواء تراضيا على قليل أو كثير، فإذا قالت: أعطيكَ خمسة، أو عشرة، أو دارًا، أو سيارةً، أو أبذل لك كل شهرٍ خمسة آلافٍ لمدة سنة، أو نحو ذلك من الأمور؛ فهما على ما اتفقا عليه، فينفذ الخلع، وتكون بينهما بينونة، فلا يُمكنه الرُّجوع إليها من عند نفسه، وإنما له أن يُراجعها إذا خالعها بنكاح جديد، فله أن يخطبها، ويأتي إلى أبيها، ويعقد عليها كأنه يعقد على امرأة أجنبية، فالخلع بينونة كبرى، أو بينونة بلا رجعةٍ.
أمَّا في حق الزوج: هل يُجيبها إذا طلبت أو لا؟
يقولون: يُستحبُّ أن يُجيبها؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لابن أبي جميلة: «اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» ، فيُستحب له أن يجيبها لئلا يحملها على سوء.
ويقولون: إن كان يُحبُّها ويميل إليها فله أن يصبر، فإذا كان يصبر ويتحمَّل بعضَ إعراضها لعل الأمور أن تنصلح؛ فهذا أحسن، وذكروا هذا في معرض ذلك، وكم من الناس الذي ابتدأت أمورهم ببغضٍ وضغينةٍ وبشيءٍ من الإعراض والانصراف وانتهت بالمحبة والألفة، وعمرت البيوت بالأولاد وقيام الزَّوجيَّة، واستقرار الحال واستمراره، والحمد لله على فضله.
إذن؛ إذا أمكنه الصَّبرُ ووجد ميلًا إليها، ووجد طريقًا إلى ذلك فهذا أحسن؛ ولأنَّ النِّساء سريعات النَّدامة، فأسرع ما تكون النَّدامة إليها، فربما ندمت عمَّا قريب، فإذا صبر هو، وتريثت ونظرت، وانفتحت لها بعض الأمور، وأراها من نفسه خيرًا في إصلاح ما يُمكنه إصلاحه، وتعقَّبَ ما يُمكن تعقُّبُه؛ فيكون في ذلك من الحسن ما فيه.
وقوله هنا: (بِمَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ)، فهذا هو الأصل سواء من قليل أو كثيرٍ، فلا غضاضة في ذلك.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا)}.
قرَّرنا فيما مضى في قوله: ï´؟فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِï´¾، وأطلق الله -جَلَّ وَعَلا- ذلك، فمن هذا أخذ الحنابلة وبعض الفقهاء: أنَّه يصحُّ الخلع بقليلٍ أو كثيرٍ، حتى ولو خالعته بمليون، أو بأكثر من ذلك؛ فلا غضاضة بما تراضيا عليه، ولكن يُستحب ألا يأخذ منها أكثر؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ» التي قد أعطاها إيَّاها وأصدقها بها.
وجاء في بعض الروايات: «ولا يزِد»، وهي وإن كانت رواية ضعيفة، ولكن قالوا بكراهية ذلك على سبيل الأحوط.
والأحوط الذي يخرج من ** خلافهم ولو ضعيفًا فاستبن
إذن نقول: يُستحب له أن لا يأخذ منها أكثر ممَّا أعطاها لِمَا ذكرناه، فإن أَخَذَ كانَ ذَلِكَ جائزًا لدخوله في عموم الآية.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِذَا خَالَعَهَا أَوْ طَلَّقَهَا بِعَوْضٍ، بَانَتْ مِنْهُ وَلَمْ يَلْحَقْهَا طَلاَقُهُ بَعْدَ ذلِكَ، وَإِنْ وَاجَهَهَا بِهِ)}.
فإذا أجرى الخلع الذي طلبته، بأن قالت: خالعني على عشرة آلاف؛ فخالعها على ذلك؛ انقطعت الزَّوجيَّة بينهما وبانت منه، ولم تكن له زوجة، ولم يجز له الرُّوجوع؛ لأنَّه لو جاز له الرُّجوع لَمَا كان ثَمَّ فائدة ممَّا دفعت، ولكان ذلك حيلةً للأزواج؛ لأن يأخذوا الأموال ثم يُراجعوهنَّ! إذن الخلع فراقٌ بدون رجعةٍ.
قال: (أَوْ طَلَّقَهَا بِعَوْضٍ، بَانَتْ مِنْهُ)، هذا راجع إلى مسألة: هل الخلع طلاق أو هوم فسخٌ؟
خلاف بين الحنابلة وجمهور الفقهاء:
الحنابلة: يجعلونه أحيانًا فسخًا، وأحيانًا طلاقًا.
أمَّا الجمهور:فيجعلونه طلاقًا.
فالحنابلة يعتبرونه فسخًا إلا أن يكون بلفظ طلاق، فإذا قال: خالعتُكِ؛ فيعتبر فسخًا، فيتفرقان، ولا يكون بينهما رجعة ولا زوجيَّة، ولا يُعتبر من عدد الطلاق؛ لأنَّ الله -جَلَّ وَعَلا- قال: ï´؟الطَّلَاقُ مَرَّتَانِï´¾ [البقرة: 229]، ï´؟فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِï´¾، ثم قال: ï´؟فَإِن طَلَّقَهَاï´¾ [البقرة: 230]، فعدَّ ثلاث تطليقات، والطلاق لا يكون أكثر من ثلاث، فدلَّ على أنَّ الخلع الذي ذُكر بينَ ذلك أنَّه فسخٌ وليس بطلاقٍ.
وذلك بشرط أَلَّا يكون قد قال: "طلَّقتُكِ"، فلو أعطته عِوضًا وقال لها: "طلَّقتكِ"، فيُحسَبُ عليه طلاق بعوض، فيأخذ أحكام الخلع من جهةِ أنَّه لا رجعة فيه، ويأخذ حُكم الطَّلاق من جهة أنه يُحسَب عليه تطليقة.
ويترتب على ذلك أنه لو تزوجها بعد هذا:
- فإذا قلنا أنه طلاق: فمعنى ذلك أنها ستُحسَب من عدد الطلقات، فلا يبقى لها إلا طلقتين، وإن كان قد طلقها قبلُ مرة، فلا يبقى لها إلا واحدة، وإذا طلقها طلقتين، وهذا الخلع الثالث مع قولنا أنه طلاق؛ فلا رجعة إلا بعدٍ زوجٍ آخر
- أمَّا عند الحنابلة في قولهم: إنه فسخ، وجرى بلفظٍ لا يدخل في الطلاق: فيقولون من أنَّه لا يُحسَب من ذلك، فلو رجع إليها يرجع بما كان عليه من الحال، فإذا لم يكن له سابق تطليق بقيت له ثلاث تطليقات، وإذا كان طلَّقها واحدة تبقى له اثنتين، وإن كان قد طلقها اثنتان بقيت له واحدة.
وشيخ الإسلام له قول، ولعلنا نجعله في استهلال الحلقة القادمة، وبه تستبين هذه المسائل.
أسأل الله أن يحفظ علينا البيوت، وأن يحفظ علينا الأمور، وأن يُعيذنا من مضلَّات الفتن، ومن مفرقات البيوت، ومن حصول النِّزاع في الزَّوجيَّة، وأن يُتمَّ علينا نعمَته، وأن يُفيض َ علينا من رحمته، وأن يجمع المتخاصمين، ويؤلِّف بين المتفارقين من الأزواج وغيرهم، وأن يجعل عاقبتهم غلى خيرٍ، إن ربنا جواد كريم، وصلى الله وسلَّمَ على نبينا محمدٍ.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم}.
والله يجعل في موازين حسناتكم وحسنات الإخوة الذين قاموا على هذا البرنامج، وهذا البناء العلمي، والإخوة المشاهدين والمشاهدات.
{اللهم آمين...
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:33   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

عمدة الفقه (6)
الدرس الرابع (4)
فضيلة الشيخ/ د. عبدالحكيم العجلان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاك الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
{يقول المؤلف رحمه الله: (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا،فَإِذَا خَالَعَهَا أَوْ طَلَّقَهَا بِعَوْضٍ، بَانَتْ مِنْهُ، وَلَمْ يَلْحَقْهَا طَلاَقُهُ بَعْدَ ذظ°لِكَ، وَإِنْ وَاجَهَهَا بِهِ، وَيَجُوْزُ اْلخُلْعُ بِكُلِّ مَا يَجُوْزُ أَنْ يَكُوْنَ صَدَاقًا، وَبِالْمَجْهُوْلِ)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله رَبِّ العَالمين، وصلَّى الله وَسَلَّم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ، أمَّا بعد:
فأسأل الله -جلَّ وَعَلَا- أن يُفيض علينا وعليكم من فضله، وأن يزيدنا من طاعته، وأن يُبلغنا الهُدى والبرَّ والتقوى، وأن يحفظ الإسلام والمسلمين إنَّ ربنا جوادٌ كريم.
كُنا في حلقة ماضية آتينا إلى نُتفةٍ ومقدمةٍ صغيرةٍ مما يتعلق بباب الخلع، ولَمَّا قرأتَ أنت من بدايته، فمن المستحسن أن نُعيد ما ذكرناه في الدرس الماضي.
فالخلع مِن خالعَ يُخالع، مُخالَعَةً، فهو مُخالِع، والمفعول مُخالَع.
ونقول: خالعت المرأةُ زوجهَا: أي، طلبت طلاقها بِبَذْلٍ من مالها تؤدّيه إليه.
والخلع هو أول الكلام على الفُرق التي تكون بين الزَّوج وزوجته، وهو يكون مِن جهة الزَّوجة، والخلع في الأصل يأتي بمعنى الفسخ، وهو هنا بمعنى الفُرقة بين الزَّوجين مِن جِهَتها بعوضٍ تبذله لِزَوجها بألفاظٍ مخصوصة، أو كما جاء ذلك في تعاريف مُتقاربة عند أهل العلم والفقه.
وذكرنا أنَّ أصل ذلك هو كتاب الله تعالى، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم، كما أنَّ الإجماع مُنعقد على ذلك، قال تعالى: ï´؟فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْï´¾ [البقرة: 229]، وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» كما جاء ذلك في حديث ثابت بن قيس لَمَّا كرهته زوجته ورغبت عنه. والإجماع مُنعقدٌ على ذلك.
وقلنا: إنَّ الخلع فسحة للمرأة إذا رأت أنها لا تقوم بحق زوجها، أو أنها لا تستطيع أداء ما افترض الله عليها لبعلها وزوجها؛ ولأجل ذلك قال المؤلف -رحمه الله: (وَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُبْغِضَةً لِلرَّجُلِ وَخَافَتْ أَنْ لاَ تُقِيْمَ حُدُوْدَ اللهِ فِيْ طَاعَتِهِ).
أريد أن ألفت الانتباه إلى مسألة، وهي: متى يحسن بالرجل أو المرأة أن يصيرا إلى الفِراق، سواء كان من المرأة بخلع أو كان من الرجل بطلاق؟
ذكرنا أنه ليس ثمَّ إشكال ولو عظم أو طالت مدته، أو حسب أنه قد يبقى أبد الدهر بمسوغ للمرأة أن تطلب فر اق زوجها أو بمسوغ للرجل في أن يسعى إلى الطلاق، وإلى تيتيم الأطفال ونحو ذلك.
وقلنا: إنَّ النظر في هذا هو أن تكون حياته بعد الطلاق أفضل من حياته قبله، أو حياتها بعد الخلع أتم من حياتها قبله، وإلا فلا تنفك حياة إنسان من بلاء ونكد، قال تعالى: ï´؟لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍï´¾ [البلد:4].
يُذكر أنَّ امرأة تعبت في بيت زوجها ولحقها شيءٌ من العنت والمشقة والكد ونحو ذلك، فأجمعت أمرها على أن تذهب إلى أهلها في قرية من قُرى نجد، فخرجت من بيتها مُتجهة إلى بلدتها؛ فإذا بها تسمع الناس يصلون صلاة المغرب والإمام يقرأ قوله تعالى: ï´؟لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍï´¾ [البلد:4]، وكانت المرأة حكيمة، وأراد الله -عز وجل- لها الخير، فقالت: كبدٌ في بيت الزوج ولا كبدٌ في بيت الأهل؛ فرجعت إلى بيت زوجها.
وهذا يعني أنَّ الإنسان لا ينفك من غثاء بلاء، فالمرأة أن تبقى في بيت زوجها وما يحصل لها من العفة والنفقة والولد والقيام عليه، واحتساب الأجر في الزوج والقيام بالواجبات الزوجية هو أعظم من ذلك كله.
ولكن مع ذلك لو أنها كرهت أو أبغضت أو وجدت أنها لا تُطيق زوجها أو لا تصبر عليه أو ربما حَمَلَهَا ذلك على الإساءة إليه أو التلفظ أو النشوز أو نحو ذلك؛ فكرهت خَلْقَهُ، أي: صورته الظاهرة، أو خُلُقَهُ، أي: صورته الباطنة من أخلاق، مثل البخل، أو بعض الصفات في النوم أو القيام أو في الجلوس أو غير ذلك، فلها أن تطلب الطلاق، ولذلك قالت زوجة ثابت بن قيس: "إني أكرهه يا رسول الله كما أكره الكفر في الإسلام. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» وأمره بفراقها.
ولأجل ذلك قال المؤلف -رحمه الله: (وَخَافَتْ أَنْ لاَ تُقِيْمَ حُدُوْدَ اللهِ فِيْ طَاعَتِهِ)، فمناط ذلك ليس البغض وإنما مناط ذلك الخوف من حصول الإثم والعدوان، أو السوء والتقصير، لكن مجرد البغض أو حصول الإشكال ونحوه، فكل البيوت لا تخلو من ذلك.
لكن لو كانت أمورها مستقرة وزوجيتها تامة وأنسها بالزوج حاصل ثم أرادت الخلع؛ فيقول الفقهاء: يكره لها ذلك مع استقامة الحال.
لكن الفراق بين الزوجين مُباح، فكما أنه يجوز للزوج أن يطلق زوجته بغير سبب، «إِنَّ أبغضَ الحَلالِ إلى اللهِ الطَّلاقُ» يجوز للمرأة أن تطلب الخلع -وإن كان الفقهاء كرهوا ذلك- إذا لم يكن هناك سبب، وإذا ما ترتب عليه محظور فقد يكون الخلع محرمًا، مثل أن تعرف من نفسها عدم قدرتها وصبرها على ترك النكاح والوطء، وأن ذلك قد يحملها على شرٍ أو سوء أو فاحشة، فيمكن أن يكون فعلها محرم لأنها تفوت على نفسها فرصة الإعفاف أو تحمل نفسها على السوء والفاحشة.
قال: (فَلَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِمَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ)، وسبق أن قلنا: إنَّ قوله: (بِمَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ) سواء كان قليلا أو كثيرًا؛ لأن الله تعالى قال: ï´؟فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بهï´¾ [البقرة: 229]، فدل ذلك على أنَّ الافتداء بالقليل أو الكثير مباح؛ ولأجل ذلك جاء عن ربيع بنت مُعَوِّز أنها خالعت زوجها على عقاص رأسها، يعني ما تربط به رأسها أو نحو ذلك، فأجاز ذلك علي.
ولهذا يجوز بالشيء القليل ويجوز بالشيء الكثير.
لكنهم يقولون: ويكره الزيادة، فإذا كان قد دُفِع لها مهر خمس أواقٍ أو عشر أواق من فضة أو ألف درهم أو خمسين دينارًا أو غير ذلك من معاملات الناس اليوم بالنقود الحالية، فردت إليه نحوًا من ذلك فحسنٌ، أمَّا الزيادة فمكروهة؛ لأنه جاء في بعض الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ولا يزداد»، وهذا فيه النهي عن الزيادة فيها لما فيه من إقصاء للناس.
هل يجوز للزوج أن يُبَغِّضَ نفسه لزوجته حتى تخالعه؟
يعني هو لا يريدها، ولا يريد أن يطلقها فيذهب عليه مهرها كما يحدث كثيرًا من بعض الأزواج! أو أنه فُرِض عليه مؤخر من المهر عند الطلاق، فتجده يبدأ من الإساءة إليها أو التقليل من شأنها أو احتقارها وإذلالها وتكليفها بما لا تطيق.
نقول: هذا لا يجوز البتة، وفاعل ذلك آثم في الدنيا والآخرة، وما يأخذه من المال تبعا لذلك هو سحتٌ، وما يترتب على ذلك باطلٌ، فالزوجية بحالها والمال يرد إليها، وهو يعاقب على فعله، فهو يعضلها لتفتدي منه كما جاءت الآيات في سورة النساء، قال تعالى: ï´؟وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍï´¾ [النساء:17].
أما إذا زنت المرأة أو بها شيء من الفجور والفحش -نسأل الله السلامة والعافية- فليس على الزوج غضاضة في مثل هذا، أي: أن يحملها على المفاداة والمخالعة؛ وذلك كما جاء في الاستثناء في قول الله -جل وعلا- ï´؟وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍï´¾ [النساء:17].
ثم قال المؤلف -رحمه الله: (فَإِذَا خَالَعَهَا أَوْ طَلَّقَهَا بِعَوْضٍ، بَانَتْ مِنْهُ)، هذه مسألة مهمة وهي، ما الذي يترتب على الخلع؟
يترتب على الخلع بينونة، وهذه البينونة لا رجعة فيها، وهذا هو الفرق بين الخلع وبين الطلاق.
فالطلاق إذا حدث فللزوج أن يراجعها ما دامت في عدتها شاءت أم أبت، رضيت أم غضبت، سواء كان بعلمها أو بدون علمها.
إمَّا إذا كان خُلْعًا فقد بذلت فيه عوضًا؛ فاستحقت ما طلبته من الفراق، ولهذا ليس له أن يرجع إليها بحال. أو كما يعبر الفقهاء عنه بقولهم: إنها بينونة كبرى، أي ليس فيها ارتجاع.
إما إذا أرادها بعد الخلع، فنقول: إذا كان لم يستوف تطليقاتها الثلاث، فله أن يعقد عليها بعقدٍ جديد، ونكاح جديد، وحينئذ يتقدم لأهلها بخطبتها فإن وافقوا فيدفع مهرًا ثم يبني بها بعقد جديد، وتزويج جديد بولي وشهود وغير ذلك مما هو من متطلبات الزواج، ثم تعود على ما كانت عليه من تطليقات الزواج، فإذا كان قد طلقها واحدة؛ فيبقى له اثنتان، وإذا كان طلقها اثنتين؛ فيبقى له واحدة.
وأما إذا كان قد طلقها ثلاث فلا يمكنه الرجوع بعد الخلع، كما لو كان الخلع تطليقة، وكان تكملة الثنتين، فلا يرجع إليها إلا بزواجها من زوج آخر ثم يحدث بينها الفراق.
إذن الخلع يحصل به البينونة، ولابد له من العوض؛ لأنَّ أصل الخلع يقوم على دفع العوض.
ما حقيقة الخلع؟ هل هو طلاق؟ هل هو فسخ؟ هل يكون طلاقًا ويكون فسخًا؟
هذا لأهل العلم فيه كلام المشهور من المذهب عند الحنابلة، أنه إذا كان بلفظ الطلاق؛ فهو طلاق بائن، يعني: لا رجعة فيه.
كونه لا رجعة فيه، لا اختلاف فيه، ولكن هل هو لفظ من ألفاظ الطلاق فيحسب من تطليقاتها الثلاث، أم أنَّه لا يحسب؟ أم أنه يحسب في حالٍ دون حال؟
ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه يحسب طلاقًا في كل حال، وبالتالي يحسب من عدد التطليقات.
وذهب ابن تيمية وهو قول لبعض السلف أنه فسخ، ولا يدخل في اسم الطلاق البتة.
وذهب الحنابلة وهم وسط بين ذاك وذاك، فقالوا:
- إن وقع بلفظ الطلاق؛ فنغلب فيه جانب الطلاق ونحتسبه من تطليقاتها، ونعتبره لا رجعة فيه؛ لأنه بِعوضٍ، وهي قد بذلت ودفعت لتسلم لها نفسها من ذلك الزوج الذي أبغضته وبعدت عنه.
- إن وقع بغير لفظ الطلاق، كأن يقول خالعتك على ألف، أو فسخت نكاحك بألف ريال تدفعينه إليَّ؛ فنقول: هذا عند الحنابلة يعد فسخًا إلا إذا كان ينوي بذلك الطلاق؛ لأنهم يعتبرون لفظ الخلع من كنايات الطلاق، أي: فهو مما يعتد به الطلاق إذا نوى.
إذن يتلخص لنا التالي:
- من أهل العلم من يعدونه طلاقا بائنًا لا رجعة فيه.
- من أهل العلم من يرونه فسخ لا يدخل في عدد التطليقات البته، اعتبارًا بالآية؛ لأن الله تعالى قال في كتابه: ï´؟الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَظ°ئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىظ° تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ غ—ï´¾ [البقرة: 229-230]، فيقولون: لَمَّا ذكر التطليقات الثلاث وذكر بينهما الخلع؛ دلَّ غلى أنه لا يحسب من هذه التطليقات؛ لأننا نعرف أن الطلاق لا يزيد عن الثلاث.
- الحنابلة قالوا: هو فسخ إن وقع بغير لفظ الطلاق، أو غير نية الطلاق، وهو طلاق إن وقع بلفظ الطلاق.
قال المؤلف رحمه الله: (فَإِذَا خَالَعَهَا أَوْ طَلَّقَهَا بِعَوْضٍ، بَانَتْ مِنْهُ)، وهنا نقول: لماذا فرق المؤلف بين اللفظين، وهما: (فَإِذَا خَالَعَهَا أَوْ طَلَّقَهَا)؟
نقول: ليبين أنه إذا خلعها يكون فسخًا، وإذا طلقها بعوض يكون طلاقًا، وهي في كل الحالين لا رجعة فيه؛ لكونها دفعت العوض.
لكن الخلاف في هل تحسب من تطليقاتها أو لا تحسب؟
ثم قال المؤلف -رحمه الله: (وَلَمْ يَلْحَقْهَا طَلاَقُهُ بَعْدَ ذظ°لِكَ، وَإِنْ وَاجَهَهَا بِهِ)
نقول: لو أنَّ شخصًا طلق أجنبية، قال لها في عرض الطريق: أنت طالق، فهل يلحقها الطلاق؟
لا يلحقها؛ لأنه لا سلطان له عليها ولا زوجية بينهما، فكذلك يقول المؤلف -رحمه الله: إنه بمجرد أن يخالع امرأته فقد بانت منه، وهذه البينونة تجعل هذه المرأة أجنبية عنه، حتى ولو كانت في عدته. فلو قال لها بعد أن خالعها أنت طالق، نقول: أنت طلقت أجنبية فلا يلحقها طلاق سواء واجهها به أو كتبه إليها أو نحو ذلك، فلا يقع عليها ذلك الطلاق.
لماذا يذكرون هذه المسألة؟
لأنه لو تزوجها مرة أخرى وكان قد طلقها بعد أن خالعها فهل يعتد بهذا الطلاق؟
فنقول: ما دام أن التطليقات بعد الخلع؛ فلا يعتد بها، ووجودها كعدمها.
{طيب يا شيخ أحسن الله إليك، ما هو الأثر المترتب على كونه طلاق أو فسخ؟}
مثل ما قلنا من قبل، من أنه لو كان فسخًا فلن يحتسب من عدد تطليقاتها، فلو أنَّ شخصًا مثلا قد طلق امرأته تطليقتين، ثم خالعها بلفظ الخلع، فعلى قول الجمهور يعد طلاقًا، وبناء عليه لا يراجعها حتى تنكح زوجًا غيره.
وإذا قلنا: إنه فسخ فمعنى ذلك أنه لم يستنفذ إلا طلقتين، ولذا لو أراد أن يتزوجها فإنَّ له ذلك، وإذا تزوجها فهي زوجته ولا يبقى لها إلا طلقة واحدة.
{يقول -رحمه الله: (وَيَجُوْزُ اْلخُلْعُ بِكُلِّ مَا يَجُوْزُ أَنْ يَكُوْنَ صَدَاقًا، وَبِالْمَجْهُوْلِ، فَلَوْ قَالَتْ: اخْلَعْنِيْ بِمَا فِيْ يَدِيْ مِنَ الدَّرَاهِمِ، أَوْ مَا فِيْ بَيْتِيْ مِنَ الْمَتَاعِ فَفَعَلَ، صَحَّ، وَلَهُ مَا فِيْهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيْهِمَا شَيْءٌ، فَلَهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ، وَأَقَلُّ مَا يُسَمَّى مَتَاعًا)}.
نعم، يقول: (وَيَجُوْزُ اْلخُلْعُ بِكُلِّ مَا يَجُوْزُ أَنْ يَكُوْنَ صَدَاقًا)، وقد تقدم في باب الصداق أنه يمكن أن يصدقها دراهم أو دنانير أو خاتم من حديد كما جاء به النص، أو أن يعلمها مهنة من المهن كخياطة وحياكة أو صياغة ذهب أو فضة أو غير ذلك من المهن الأخرى، ويمكن أن يكون الصداق أيضًا بستانا أو عقارًا كبيت أو سيارة أو غير ذلك، وكل ما صح أن يكون مهرًا من قليل أو كثير يصح أن يحصل به الخلع، أو أن يكون عوضًا في الخلع من قليل أو كثير.
وكل ما صح أن يكون صداقًا صح أن يكون عوضًا في الخلع حتى بالمجهول، فإن الفقهاء يمنعون التعامل بالمجهول لما يفضي إليه في الغرر.
فلو أنَّ إنسانًا باع مجهولا أو أجر مجهولا؛ فإن ذلك لا يصح لما فيه من الغرر، ولما يترتب عليه من النزاع، لكنهم مع ذلك صححوا في باب الصداق وصححوا في باب الخلع، الخلع على مجهول والصداق على مجهول.
فلو أنه قال أصدقتك ما في هذا الصندوق أو بما في جيبي أو بما في حسابي الآن؛ فإنه يصح عندهم ذلك، لماذا؟
لأنهم يقولون: إن باب البيع والأجرة بابها هو باب المعاوضة المحضة، يعني المقصود منها أن تعطيني وأخذ مقابل ذلك، أما الصداق فليس هو معاوضة للمرأة، وليس مقابلا لها وإنما هو يطلب به في النكاح تعظيم شأن النكاح، وأيضا رفعة لقدر هذه المرأة؛ ولأجل ذلك لم يكن عوضًا محضًا، ولمَّا لم يكن عوضا محضًا جرى فيه التسامح.
فلو قال مثلا: أصدقتك عبدًا من عبيدي، والعبد منه ما يساوي مائة ألف، ومنه ما يساوي مائة ألف، فيقوله هذا فيه جهالة، ولا يصح أن يقول أشتري سيارة بعبد من عبيدي؛ لأنه قد يعطيه العبد الذي يساوي عشرين ألف، فيكون في ذلك شيء من الظلم.
إذن هذه من البيع وهي معاوضة محضة، ولذا لم تصح.
أمَّا النكاح فإنه ليس بمعاوضة محضة، وبناء على ذلك يصح حتى وإن كان فيه جهالة؛ لأن النفوس تتسامح فيه؛ ولأنه يؤتى إلى أرفع النساء شأنًا وشرفًا وحسبًا وجمالاً وتعليمًا ونحو ذلك؛ فتعطى صداقًا يسيرًا، وقد يؤتى إلى امرأة دميمة قلية القدر والمنزلة؛ فتعطى مهرًا كثيرًا؛ لأنه ليس مبناه على المعاوضة وإنما مبناه على المماثلة؛ ولذلك صححوه في المجهول.
يقولون: كما أننا نصحح الصداق في المجهول؛ نصححه كذلك في الخلع، فلو أنَّ امرأة خالعت على ما في البيت من متاع، وكان المتاع والآثاث الموجود في البيت لها، فقالت: هذا الأثاث والمتاع لك، وهذا الآثاث والمتاع يعد من المجهول.
وكذلك لو قالت لزوجها: أخالعك على ما اشتريت اليوم من أشياء، فلا بأس بذلك، ولو كان فيها جهالة.
ولو قال هذه قليلة، قلنا له: هذا يجوز حتى لو كان فيه جهالة؛ لأن الخلع ليس معاوضةٌ محضة؛ ولذلك قال: (وَبِالْمَجْهُوْلِ).
ثم مثَّل المؤلف رحمه الله تعالى لذلك، فقال: (فَلَوْ قَالَتْ: اخْلَعْنِيْ بِمَا فِيْ يَدِيْ مِنَ الدَّرَاهِمِ، أَوْ مَا فِيْ بَيْتِيْ مِنَ الْمَتَاعِ فَفَعَلَ، صَحَّ، وَلَهُ مَا فِيْهِمَا)، حتى وإن وجد في يدها خمسة دراهم فقط، فالحمد لله.
وإذا كان المتاع قد حملت أكثره من قبل إلى بيت أهلها ولم يبق في البيت سوى آلة الطبخ فقط، صح، حتى وإن كان يظن أنَّ هناك آثاث آخر في البيت.
قال: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيْهِمَا شَيْءٌ)
سؤال: هل يذهب عليه إن لم يجد فيهما شيء؟
نقول: لا؛ لأن العوض شرط في الخلع؛ ولذا وجب عليها أن تُعطيه أقل ما يطلق عليه الاسم، فتعطيه من الدراهم كما قال المؤلف: (فَلَهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ).
لماذا ثلاثة دراهم تحديدًا؟
لأنه أقل الجمع، فأقل الجمع في الدراهم هو العدد ثلاثة؛ وإن زادت فهو إحسان منها.
وتعطيه كذلك أقل مَا يُسمى متاعًا، قال المؤلف: (وَأَقَلُّ مَا يُسَمَّى مَتَاعًا)، مثل سجادة وإناء، وغير ذلك مما يسمى متاعًا، ومن ثم تعطيه إياه.
المهم: أنه لابد أن يكون هناك عوض، وإذا لم يوجد شيء؛ فيعطى أقل ما يُطلق عليه هذا الاسم الذي صُرح به في وقت عقد الخلع.
سؤال: {وهل يمضيه القاضي وجوبا أحسن الله إليكم؟}
إي نعم يُمضيه، ولا يحول جهالة العوض في حصول الخلع.
وبالمناسبة: الخلع لا يُحتاج فيه إلى حُكم حاكم؛ لأنه مثل البيع والشراء، مثل عقد النكاح وغيره، وليس فيه كثير اختلاف، ولذا لا يحتاج فيه إلى فصل الحاكم، ولكن لو ارتفع إلى الحاكم فهو أمر حسن حتى يوثق ذلك.
وقد يكون للحاكم نظر في أمر الخلع لسببٍ آخر لا لسبب الجهالة.
{قال -رحمه الله: (وَإِنْ خَالَعَهَا عَلىظ° عَبْدٍ، فَخَرَجَ مَعِيْبًا، فَلَهُ أَرْشُهُ أَوْ رَدُّهُ وَأَخْذُ قِيْمَتِه، وَإِنْ خَرَجَ مَغْصُوْبًا أَوْ حُرًّا، فَلَهُ قِيْمَتُهُ)}.
يبين المؤلف -رحمه الله- أنَّه لو خالعها على عبدٍ، أي قال: "تعطيني عبدك فلان" أو قالت هي له: أُعطيك عبدي فلان؛ فتبين أنَّ هذا العبد فيه عيب؛ كأن يكون فيه مثلا مرض يُوشك أن يقضي عليه؛ فهذا مؤثر في قيمته؛ فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- (فَلَهُ أَرْشُهُ) وهذا معناه أنه ينظر في قيمة العبد صحيحًا، وقيمته معيبًا ثمَّ يُنظر إلى ما بين ذلك.
قال: (أَوْ رَدُّهُ وَأَخْذُ قِيْمَتِه) فقد يقول: أنا لا أحتاج؛ فأعطيني قيمة العبد هذا، فلها أن تبيع العبد وتعطيه قيمته، أو أن تجمع قيمة العبد من أي سبيل ومن ثم تعطيه.
إذن إذا تبين أن العبد فيه عيب فللرجل أن يرده ويطلب ثمنه، أو يكون أَرْشُهُ أو يتنازل.
{قال المؤلف -رحمه الله: (وَإِنْ خَرَجَ مَغْصُوْبًا أَوْ حُرًّا، فَلَهُ قِيْمَتُهُ)}
يُبينُ المؤلف -رحمه الله تعالى- أنَّه إذا خرج العبد مغصوبًا، أي أنَّ العبد لم يكن لها، بل لجيرانها مثلا، أو لصاحبة لها غصبته منها؛ فلمَّا علمت صاحبتها بانتقال ملكية العبد للزوج؛ جاءت بالأدلة والبراهين تطلب عبدها.
نقول في هذه الحالة: يرجع إليها، ويأخذ هو قيمة هذا العبد.
قال: (مَغْصُوْبًا أَوْ حُرًّا) وكذلك لو كان العبد ليس عبدًا بل هي حيلة من المرأة له وخديعة واحتيال، وهنا ننظر كم ثمن هذا الشخص لو كان عبدًا، أي: الذي قدمته المرأة على أنه عبد، ويعطى الزوج ما قيمته.
فلو كان ثمنه مثلا: ستة وسبعين ألفًا؛ فيجب عليها أن تعطيه الستة والسبعين ألفًا، كما لو كان عبدًا؛ لأنه إذا تعذر عين المعقود عليه فإنه يصار إلى بدله، سواء كان البدل من ذوات الأمثال أو قيميًا إذا كان له قيمة.
{قال المؤلف -رحمه الله: (وَيَصِحُّ اْلخُلْعُ مِنْ كُلِّ مَنْ يَصِحُّ طَلاَقُهُ)}
نعم (وَيَصِحُّ اْلخُلْعُ مِنْ كُلِّ مَنْ يَصِحُّ طَلاَقُهُ) وسيأتي معنا شروط من يصح طلاقه، مثل: العاقل، والبالغ، بل عند الحنابلة يصح الطلاق من غير البالغ إذا كان مميزًا ويعقل الطلاق ويكون مختارًا.
وهكذا الخلع يصح ممن يصح منه الطلاق كما قال المؤلف -رحمه الله.
فإذا كان الزوج يعرف الخلع ويعقله، ويعرف ما الذي يترتب عليه؟ وأن هذه المرأة التي هي زوجته لن تكون له زوجه؛ فيصح في مثل هذه الحال؛ ولذلك قال: (وَيَصِحُّ اْلخُلْعُ مِنْ كُلِّ مَنْ يَصِحُّ طَلاَقُهُ).
ومن طرق الفقهاء أن يحيلوا على الطلاق لما فيه من فوائد لطيفة للمتعلم والمتفقه منها:
أن يعرف المتعلم والمتفقه المسائل التي يطرد فيها الحكم والمسائل التي تبنى على سنن واحدة، فباب الخلع هو كباب الطلاق، فصار كل من يصح منه الطلاق يصح منه الخلع، ومن يصح منه الخلع يصح منه الطلاق.
وأيضًا فيها اختصار بدلا من التفصيل في ذلك في بابي الخلع والطلاق يفصل في أحدهما ويحيل على الاخر.
وأيضًا فيها تقوية الملكة لدى المتعلم، وأن يربط المتقدم بالمتأخر، والعادة عند الفقهاء أنهم يحيلون على متقدم ولا يحيلون على متأخر.
وهنا قد يقول قائل: الطلاق متأخر، والخلع متقدم فلما أحال المؤلف المتقدم على المتأخر، نقول: لأن الطلاق هو الأصل وهو الأشهر، فلذلك جعل المؤلف رحمه الله الكلام فيمن يصح خلعه يصح طلاقه، ومن يصح طلاقه يصح خلعه.
وعلى هذا نقول:
- الطفل لا يصح منه طلاقًا وبالتالي لا يصح منه خلعًا، وهكذا.
- من أكره على الطلاق فطلاقه غير صحيح، وبالتالي خُلْعُهُ ليس بصحيح.
- طلاق من زال عقله بجنون لا يصح، وكذلك خُلْعُهُ لا يصح وهكذا.
{قال المؤلف -رحمه الله: (وَلاَ يَصِحُّ بَذْلُ اْلعِوَضِ، إِلاَّ مِمَّنْ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِيْ الْمَالِ)}
قوله: (وَلاَ يَصِحُّ بَذْلُ اْلعِوَضِ، إِلاَّ مِمَّنْ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِيْ الْمَالِ) يعني يكون: حُرًا، رشيدًا، عاقلاً، بالغًا.
لابد من الحر الرشيد المكلف الذي يحسن التصرف في المال وأن يكون ممن له التصرف في المال، فلو كان مثلاً وليًا ليتيم، ويتصرف من مال اليتيم فهذا لا يجوز له؛ ولذا قال المؤلف -رحمه الله: (وَلاَ يَصِحُّ بَذْلُ اْلعِوَضِ، إِلاَّ مِمَّنْ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِيْ الْمَالِ)؛ لن فيها مُعاوضة، وما دام أن فيها مُعاوضة، فلابد أن يكون ممن يصح تصرفه.
بهذا نكون قد انتهينا من باب الخلع، وقبل أن نبدأ في باب الطلاق نود أن نرجع قليلا في باب العشرة، لما فيه من مسائل يُحتاج إليها، ولكن لما كان بيان ذلك يُتوجه إلى طلاب العلم أو إلى من يتعلق به تعلم تلك الأحكام؛ فإنه يمكن التفصيل فيه وإظهار ما يتعلق بهذه الأحكام، ولا ينفك طالب العلم أو طالبة العلم من الإلمام بذلك؛ لمزيد الحاجة إلى ذلك في إصلاح ما يكون بين الأزواج والزوجات وبيان ما لكل واحدٍ منهما من الحق، وما يترتب عليه من حق كل واحد لصاحبه من الاستمتاع والأنس وكمال قضاء الوتر وحصول العفة، ولكنها في الوقت نفسه موضوعات لها خصوصياتها في المجالس فلا تلقى على عموم الناس وفيهم الصغير وفيهم الكبير وفيهم الشاب وفيهم الشابة، وفيهم من قد يتلقى ذلك على حين من الشبق والإقبال، وقد يفضي به ذلك إلى أن يعرض للفتنة؛ فلأجل ذلك ربما نرى مع أهمية هذا الباب أن تجعل تفاصيله خاصةٌ بالطالب الذ قد يحتاج إلى ذلك، وقد دونَّا في هذا ما قد يتعلق بتفاصيل هذا الباب.
وعلى هذا فمن كان محتاجًا للتفاصيل من طلاب البناء العلمي الذين يدرسون في هذه الأكاديمية المباركة؛ فإنَّ لهم أن يأخذوه وأن يصلوا إليه، وأن ينتفعوا به، وكذلك لو احتاج إليه غيرهم، وعرف مناسبة ومصلحة دراسته له فكذلك.
هذا من جهة الكلام على هذا الباب من تفاصيله، والدخول في دقائق مسائله، وهذه المسائل -في الحقيقة- من الأهمية بمكان باعتباره الغاية من النكاح وهو حصول الإعفاف لكل واحد من الزوجين رجلا كان أو امرأة، ولَمَّا كان سوق الشهوات في هذا الوقت رائجًا، والبلاء في ذلك كثير؛ فإنَّ الحاجة إلى إعفاف النفوس وحملها على الحلال، وإبعادها عن الحرام أعظم وأتّمّ، ولذلك قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِي بِضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرًا»
ونحن من حيث الجملة نقول في مثل هذه المسائل ينبغي الفقه فيها مع ما يتعبد الله بها لما يترتب عليه من المصالح وأنس البيوت وسكن النفوس وإعفافها، والبعد عن الحرام والإبقاء على الحلال.
ومن جهة ثانية فقد يشاع كثيرا في مثل هذه الأوقات ما يسمونه بالثقافة الجنسية، ونقول: هذا هو ما ذكره الفقهاء في مثل هذا الباب؛ لكنهم ذكروه لمن يحتاجه، فهو بمثابة الداء الذي يعطيه الطبيب لمن يحتاج إليه، ولا يمكن أن يكون شائعًا كشيوع الطعام والشراب؛ فيتلقاه من لا يُحسنه، فيحمله على السوء والشر.
ومبنى الثقافة الجنسية الغربية على ما شاع بينهم ولم يجدوا بُدًا من حمل الناس على البعد عن هذه الأشياء؛ فكان أقل الخطر عندهم هو ما يحملهم على أقل الخطر وما لا يترتب عليه مفاسد أكثر من انتقال الأمراض، وحمل الصغار أو غير ذلك من أشيائهم وأبقوا على مساوئهم وفواحشهم وانتشار الشر بينهم وذهاب العفة وحصول الزنا، وقد سوقوا له بما يسمونه بالثقافة الجنسية، وأراد بعض ضلال المسلمين أو سفائهم أو جهالهم، إدخاله على المسلمين عامة ولهم عنه غُنية، وهم منه سالمون؛ ولذا فينبغي أن يُحصر ذلك فيمن احتاج إليه ويتعلق به، حتى ولو قيل: إنه وجدت بعض السلوكيات السيئة أو ممارسات خاطئة؛ فإنه يجب أن يُتعامل معها بحسبها، ويصلح بالطريقة المناسبة ولا يكون ذلك شيئا شائعًا؛ فيمررون ما يكون سببا لظهور الفساد، وانتشار الشرور.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (فَصْلٌ فِيْ آدَابِ اْلجِمَاعِ، وَيُسْتَحَبُّ التَّسَتُّرُ عِنْدَ اْلجِمَاعِ، وَأَنْ يَقُوْلَ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذاَ أَتىَ أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، اللّهُمَّ جَنِّبْنَا الشّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطُانُ أَبَدَا»)}
استحباب الستر عند الجماع هذا عند الحنابلة وعند بعض الفقهاء، وأصله جاء عند ابن ماجة، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتجرد الزوجان تجرد البعيرين، قال: وليستر أحدكم نفسه؛ فاستحبوا ذلك، وإن كان هذا الحديث فيه شيء من المقال.
على كل حال إن كان ذلك يلائمهم فهو أحسن وأحوط، وإن كان الأمر فيه شيء من السعة بحسب ما يليق بحال الزوجين في تلك الحال.
قال: (وَأَنْ يَقُوْلَ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذاَ أَتىَ أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، اللّهُمَّ جَنِّبْنَا الشّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطُانُ أَبَدَا»)
طبعًا ما ورد هو سنة نبويَّة يترتَّب عليها حفظ لما قد ينشأ بينهما من الولد ولما تحبل به المرأة في الحفظ من الشَّيطان وأن يكون من أولاد الخير والبرِّ، وقد ذكر الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في هذا الموضوع ما يناسب هذا الذكر، وذكروا أيضًا في استصلاح الأولاد أمورًا كثيرة منها:
اختيار الزوجة، وطلب من يحصل بها حسن التربية والقيام على الولد وغير ذلك.
أيضًا ما يتعلَّق بالجماعِ فهو حقٌّ لكلِّ واحدٍ من الزَّوجين، وينبغي لكلِّ واحدٍ منهما أن يُعطي الثَّاني حقَّه، وألا يحرمه منه ويمتنع منه، فإنَّ ذلكَ قد يكون عليه مضرَّة أو يحمله على سوء.
وأمَّا بالنِّسبَةِ للمرأة: فلا يجوز للرَّجل أن يتأخَّرَ عنها أربعة أشهر، لأنَّ في هذا إضرارٌ بها، ولأنَّ ذلك كالإيلاء المذكور في قوله تعالى: ï´؟لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌï´¾ [البقرة: 226]، فإمَّا أن يرجعَ وإمَّا أن يُطلِّق، فلا يُضارُّ بها فوقَ هذه الأربعة أشهر، وإن كانَ بعضُ أهلِ العلم يجعل لها الحقَّ بما لا يحصلُ به على الزَّوج مضرَّةٌ في ذلك، وهذا أيضًا قدرٌ صحيحٌ، وذهب إليه جمعٌ من أهلِ التَّحقيقِ.
أمَّا بالنِّسبةِ للرَّجل: فإذا دعا المرأة وجبت عليها الإجابة، فقد جاء في الحديث: «إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا ، بَاتَتْ تَلْعَنُهَا الْمَلَائِكَةُ» .
ونقول: ينبغي أن يكونَ بينَ الزَّوجينِ من حُسنِ المعاشرةِ وتمام الاستمتاعِ ما يحصل به إعفافهما، وما يكون به تمام أنسهما، وهو سببٌ لصلاحِ الزَّوجيَّة، واستقرَارِ البيوتِ، وحصولِ الخيراتِ، وانتفاءِ كثيرٍ من الشُّرورِ، وتَفاصيل هذه المسائل -كما قلنا- مذكورة فيما ذكرَه الفقهاء في تَفاصيل كتبهم في هذا الموضع، وهذا الكتاب فيه شيءٌ مِن الاختصارِ والإجمالِ، وقد أشرنا إلى جملةٍ من المسائل كثيرة تتعلَّقُ بذلك، ولكن لا يصحُّ نشرها على العموم لخصوصيَّة حاجةِ الأزواجِ لها، أو مَن في حكمهم كطلبةِ العلمِ الذينَ يُفقِّهونَ النَّاس ويعلِّمونهم، أو النِّساء اللَّاتي يتصدَّينَ لمثلهنَّ تعليمًا وحثًّا على الخيرِ وحملًا عليه؛ فيُمكِنُ لهم أن يُراجعوا ما ذُكِرَ في هذا عبرَ هذه الأكاديميَّة والبناء العلمي، وهو غيرُ قابلٍ للنَّشرِ على العمومِ، ولا أن يُبثَّ على سبيلِ الإطلاق، وإنَّما يُنتفَعُ به فيمن يحتاج إليه ويترتَّب عليه فيه مصلحة-والله تعالى الموفِّق.
وهنا فائدة -وبها أختم: أنَّ مثلَ هذه المسائل قد تكون محبَّبةٌ إلى النُّفوسِ لِمَا فيها من الإتيان على شهواتِ النَّفسِ، سواءً كان ذلك قولًا في وصفٍ أو ذكرٍ يتعلَّقُ بذلك وما يتبعه، وقد يكون ذلك إشارة إلى بعض هذه الأمور التي تكون بينَ الزَّوجين، وقولُ مثلِ هذه المسائل ودراستها قد يكون أجرًا يُؤجَر عليه الإنسان إذا كان تعلُّمًا أو حثًّا على الخير، وطلبًا لتحصيل العفَّةِ والهُدَى في تكميل ما لكلِّ واحدٍ من الزَّوجين، وقد يكون ذلك ممَّا تُشبَّبُ به النُّفوسُ وتُحرَّك فيحملها على الحرام، فيكون الكلام في ذلك إثمًا حرامًا -والله تعالى الموفق.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتاَبُ الطَّلاَقِ.
لاَ يَصِحُّ الطَّلاَقُ إِلاَّ مِنْ زَوْجٍ، مُكَلَّفٍ، مُخْتَارٍ، وَلاَ يَصِحُّ طَلاَقُ الْمُكْرَهِ، وَلاَ زَائِلِ اْلعَقْلِ، إِلاَّ السَّكْرَانَ)}.
الطلاق من الأمور العظيمة، ومن الشَّرائع التي كان فيها عظيمُ الرَّحمَة وكبيرُ المنَّة، والله -جلَّ وعلا- قال: ï´؟وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِï´¾ [النساء: 130]، فمهما ظهرَ للنَّاس فيه أحيانًا من بلاءٍ، أو ترتَّبَ عليه من آثارٍ، أو حصلَ بسببهِ من القطيعة، أو تفرَّقت به البيوت؛ إلا أنَّه باعتبار جملة شرعيَّته وما يكون به من خلاصِ الأزواجِ وقد تشاكسا، وفراقهم وقد اختلفا، وانتهاء حياتهم وقد عظُمَ بينهما التَّربُّص والوقيعة والسُّوء، وربَّما اشتدَّ الأمر إلى ما هو أكبرُ من ذلك؛ فيكون فيه مصلحةٌ باعتبار العموم، وإن كان في ثنايا مسائلِهِ ما يكون فيه بلاءٌ وفتنةٌ، والله يتولَّانا برحمته، وهذا مثل قول الله -جل وعلا: ï´؟وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِï´¾ [البقرة: 179]، فمع كونِ القصاص يُقتَل فيه القاتل، ويُراقُ دمه، ويذهب على أهله وأحبَّته؛ ولكن ما يترتَّبُ على ذلك من حملِ النَّاس على الخيرِ وما يترتَّب على ذلك من كفِّ النَّاس عن الولوغِ في مثل هذه الأبواب؛ فكذلك أيضًا الطَّلاق، فإنَّه يحصل به انكفافُ كثيرٍ من الشُّرورِ التي اشتعلت في البيوت نارًا وبركانًا، وحصل بسببها بلاءٌ عظيم.
فمِن حيثُ مشروعيَّة الطَّلاق في الأصلِ ظاهرةٌ الحكمةُ فيها، والمصلحة الكبرى مترتِّبة على ذلك، ولكن باعتبار آحاد النَّاس فإنَّه قد يكون فيه شيءٌ من الثَّغرات أو التَّبعات، وهذه سنَّة الله -جل وعلا- في ابتلاء العباد، وما يلحقهم من فتنةٍ في هذه الدُّنيا.
الطلاق في أصله مشروعٌ في الكتاب والسُّنَّة والإجماع، الله -جل وعلا- قال: ï´؟الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ غ– فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍï´¾ [البقرة: 229]، ثم قال بعدها: ï´؟فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُï´¾ [البقرة: 230]، وهذه من أعظم الآيات الدَّالَّة عليه، وقوله ï´؟فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍï´¾، يعني فيما يتعارَف النَّاس عليه.
وقوله: ï´؟أَوْ تَسْرِيحٌï´¾، مع أنَّ التَّسريحَ يكونُ حالَ البغضاء والضَّغينة والاختلاف والمشاكسة؛ إلا أنَّ الله أمرَ بالإحسان، فيُحسِن كلُّ واحدٍ منهما إلى صاحبه، وخاصَّة في جانب الزَّوج، لأنَّ في جانبه القوَّة والقوَامة، والعِصمَة والغلَبَة؛ فينبغي أن يكونَ أكثرَ إحسانًا إلى الزَّوجة في حالِ فراقها، خلافًا لحالِ ضِعَاف النُّفوس مِن أنَّه إذا عمد إلى الفِراق أرادَ أن يُنكِّلَ بالمرأة، وأن يفسد عليها حياتها، وأن يتعقَّبها في كلِّ خيرٍ فيفسده، وفي كلِّ قليل أو كثيرٍ فيفرقه، ويكون منه بلاءٌ في ذلك كبيرٌ.
ومهما ذهبَ على النَّاس في هذه الدُّنيا من حقِّ فإنَّه لا يذهب عند الله -جل وعلا- قال تعالى: ï´؟وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَاï´¾ [الكهف: 49].
ثم هنا مسألةٌ أخرى: وهي أنَّ الطَّلاقَ ليسَ سبابٌ ولا شِتامٌ؛ لأنَّ بعضَ الأزواج إذا غضِبَ طلَّق زوجته، وكأنَّه يظنُّ أنَّه ممَّا يسبُّ به زوجه أو يشتمها!
فنقول: إنَّ الطَّلاق يترتَّب عليه آثار، فلا يكون إلا بعدَ رويَّةٍ ونظرٍ، ولذلك لا يكون الطَّلاق ُ إلا في طهرٍ لم يُجامعها فيه أو في حملٍ، لأنَّه لا يُمكن أن يُطلَقَ لعِظَمِ ما يترتَّب عليه لأوَّلِ وهلةٍ يعرضُ لكَ في الذِّهنِ.
ثم إنَّ الطَّلاقَ ليس سِلاحًا كما يظنُّ بعضُ النَّاسِ، فيقول: "عليَّ الطَّلاق، زوجتي طالق إن لم تفعل كذا..."، فهذا ما يفعله إلا أسافلُ النَّاسِ وأراذلُهم، وأقلُّهم حظًّا، وأذهبهم قدرًا، ولا حظَّ له لا في الدُّنيا ولا قدرَ له عند الله -جلَّ وعلا!
وإنَّ الطَّلاق إنَّما يكون بينَ الزَّوجين، فالطَّلاق لا يتعلَّقُ بالأولادِ، فحقٌّ على كلِّ أبٍ ألا يُخلَّ بحقِّ أولاده، ولا يمنع أمَّهم منهم، وأنَّ الأمَّ لا تمنع أولادها من أبيهم، ولا تزرع في قلوبهم شيئًا من الضَّغينة، ولا أن يفعل الزَّوج شيئًا من هذا، فلا يكون الأولاد حلبةَ صراعٍ، فهذا يمنعهم أن يذهبوا..، وهذا يحملهم على سوء...، وهذا يتربَّص بالزَّوج في أولاده...؛ حتى يحصلَ للأولاد من البلاء والفتنةِ ما الله به عليم!
فنقول: إنَّ الأولادَ لا مدخلَ لهم في الطَّلاقِ بحالٍ، فإنَّ استقرَّت حالُ آبائهم في بيتٍ وأسرةٍ فالحمد لله؛ وإن تفرَّقَ الآباءُ فالأولاد محفوظون، إن كانوا عند أمِّهم بما لأمِّهم من الحق وبما لأبيهم كذلك، وإن كانوا عند أبيهم لم يكن له أن يمنعهم منها، ولا أن يحملهم على كرهها، ولا أن يحول بينهم وبينها؛ بل يكون في تكميلِ ما نقصَ عليهم مِن رأفةِ الأمِ وشفقتها، ولا يحرمهم منها، وأن يزيد من زيارتهم لها، وأن يكونَ سببًا في أن يبقى الأبناءُ بعيدينَ عمَّا عليهم من الثَّغرة، فمع ما وجوده من أثرِ الطَّلاقِ ولوعةِ الفراقِ، وما حصلَ بينَ آبائهم؛ يرونَ كلَّ البيوت قائمة وبيتهم مهدَّمٌ!
ثم بعدَ ذلك يزيد الأمر بلاءً وفتنة في تجاذبهم وتراشقهم، أو الإساءة إليهم من أجل خصومةٍ بينَ الأبوين؛ فهذا خطأ!
نسألُ الله أن يحفظَنا، وأن يعصِمنا، وأن يُصلِحَ أحوالَ المسلمين، وأسأل الله أن يتمَّ علينا وعليكم نعمته، وأن يجزيكم خيرًا والإخوة المشاهدين، والقائمين على هذا البناء العلمي، والله تعالى أعلم، وصلَّى الله وسلَّمَ على نبيِّنا محمدٍ.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازينِ حسناتِكم}.
آمين.. وإيَّاكَ، وكل مسلم.
{هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:33   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

عمدة الأحكام (6)
الدَّرسُ الخامس (5)
فضيلة الشيخ/ د. عبد الحكيم العجلان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحبُ بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، وحيَّاك الله، والإخوة المشاهدين والمشاهدات لكم أجمل تحيَّة، أسأل الله أن يغفر لنا ولكم وللمسلمين.
{اللهم آمين..
نستفتح في هذه الحلقة -بإذن الله- من كتاب الطلاق من عمدة الفقه للموفق ابن قدامة، قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولَا يَصِحُّ الطَّلاَقُ إِلاَّ مِنْ زَوْجٍ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ، وَلاَ يَصِحُّ طَلاَقُ الْمُكْرَهِ وَلاَ زَائِلِ اْلعَقْلِ، إِلاَّ السَّكْرَانَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين، أسألُ الله -جل وعلا- أن يزيدكم من رحمته، وأن يُفيض علينا وعليكم من فضله، وأن يجزينا وإيَّاكم خير الجزاء.
كنَّا في الدَّرس الماضي ابتدأنا بإطلالة يسيرة جدًّا على كتاب الطلاق، وذكرنا الدليل على ذلك من كتاب الله، والدليل على ذلك من سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا أمَرَ عمر أن يقول لابنه: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا» ، والإجماع مُنعقدٌ على ذلك، والحاجة داعيةٌ إلى هذا، فلا إشكال في صحَّةِ الطَّلاق.
هنا قال: (كتَابُ الطَّلاق)، وفي الخلع قال: (باب الخلع)، فما الفرق بين الباب والكتاب؟
جَرَت عادة الفقهاء أنَّ ما كان فيه جملة وافرة من المسائل فإنَّهم يجعلونه كالكتابِ؛ لأنَّه يجتمع فيه أشياء كثيرة، ولذلك فإنَّ كلَّ كتابٍ يُقسَّمُ إلى أبواب، والأبواب إلى فصولٍ، والفصول إلى مسائل مندرجة في ذلك، أمَّا إذا كان أقلَّ فيكونُ بابًا، وقد يكون تحت ذلك الباب فصولًا كما في باب عشرة النساء، وقد لا يُحتاج فيه إلى تفصيل كما في باب الخلع الذي تقدَّمَ معنَا.
هذا فقط في طريقة التبويب، وسبيل الفقهاء في التَّأليف -رَحَمَهُم اللهُ تَعَالَى.
والمتقدِّمونَ أقلُّ ترتيبًا، وأعظمُ علمًا، وأغزرُ فقهًا، وأقلُّ كلامًا، والمتأخِّرونَ أكثرُ في ترتيبٍ وأبينُ في تنسيقٍ ونحوه، وإن كانوا لا يُقاربونَ المتقدِّمينَ فيما جمعوه مِن العِلم وحقَّقوه.
يقول المؤلف: (ولَا يَصِحُّ الطَّلاَقُ إِلاَّ مِنْ زَوْجٍ مُكَلَّفٍ مُخْتَارٍ).
بدأ بالكلام عَمَّن يصح طلاقه ومن لا يصح طلاقه.
وقبل ذلك نحتاج إلى مسألةٍ مُهمَّةٍ، وهي: حكمُ الطَّلاق من حيثُ أصله، فهل يجوز الطَّلاق أو لا يجوز؟ هل هو واجبٌ أو مُستحبٌّ أو غير ذلك؟
الفقهاء -رَحَمَهُم اللهُ تَعَالَى- يجعلون الطلَّاق ممَّا تأتي عليه الأحكام التَّكليفيَّة الخمسَة، فقد يكون مُباحًا: لسوء عشرة الزَّوجة وعدم قيامها بحقِّ الزَّوج، أو عدم أُنسِ الزَّوجِ بها، وليس المقصود بذلك حصول ما يُعثِّرُ الحياةَ فإنَّ هذا لا ينفكُّ منه بيت، حتى بيتُ النُّبوَّة، وإنَّما المراد بذلك ألا يقومَ بيتُ الزَّوجيَّة، فملؤه بالعثرات وسوء العشرة وما يتبع ذلك من السُّوء، ويعلم أنَّه بالفراق يكون أتمُّ حالًا منه بالزَّواجِ والنِّكاح.
ويُكرَه مع استقامَة الحال، فإذا كانت حالهم طيِّبة فيُكره له الطَّلاق، ولكنه ليس بمحرَّم؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «أبغضُ الحلالِ إلى اللهِ الطلاقُ» ، فهو مُبغض لله -جلَّ وعلا- وبغيض عند الله تعالى ولكنَّه حلال، وبناء على ذلك يكون مَكروهًا -كما قرَّرَ الفقهاء رَحَمَهُم اللهُ تَعَالَى.
ويحرُم إذا كان في حال الحيض، أو في طهرٍ جامعها فيه؛ لأنَّه ممنوع كما جاء في حديث ابن عمر وغيره، وسيأتينا في سنَّةِ الطَّلاق وبدعته.
وذكر بعض العلماء أنه يكون مُستحبًّا إذا كان هناك تقصيرٌ في أمور الشَّريعة، وليس المقصود أن يكون التَّقصير في السُّنَن أو المستحبَّات أو صيام النَّافلة وغيره؛ بل إنَّما يكون في الواجبات، مثل: الصَّلاة ونحوها، حتى أدخلوا في ذلك إتيانها للفاحشة أو فعلها للمحرَّم، وإن كان بعضهم يجعل هذا الحكم ممَّا يتوجَّبُ فيه الطَّلاق، ولكن المشهور عند الفُقهاء أنَّ ذلك يُستحب فيه الطَّلاق، وقد يمكث بها الزَّوجُ من جهةِ أنَّه يمنعها من الشَّرِّ، ويرى أنَّ بقاءها أسلمَ لبيته في حفظ أولاده وبناته، وأنَّهم لا يتفرَّقون، أو قد يُحال بينهم وبينه لكون البنات يخترْنَ أمَّهنَّ، أو لغير ذلك من الأمور، فيعظُم في ذلك الشَّر والفساد، فأيًّا كان؛ فقد ذكر الفقهاء في ذلك الاستحباب، وقال شيخ الإسلام وبعض الفقهاء بوجوب الطَّلاق في مثل تلك الحال، وهو ليسَ ببعيدٍ لِمَا يترتَّب عليه من الشَّرِّ.
وفي ثنايا هذه المسائل ما يفترق فيه الحكم، ويختلف فيه الحال، ومَن ابتُليَ بذلك -نسأل الله السَّلامة والعافية- ينظُر في ذلك بحسبِ ما اجتمع له من الأحوال، ويستشير في ذلك من أهل الفضل والعلم والدِّيانة.
وقد يجب الطَّلاق عند الإيلاء، فإذا آلى منها وحلف ألا يُجامعها أكثر من أربعةَ أشهر، ثم لمْ يرجِعْ ولم يفيء؛ فيجب عليه التَّطليق، وإلا طلَّقَ عليه الحاكم -كما تقدَّم معنا.
فهذه أحوالٌ خمسَة لِمَا يتنقَّلُ فيه الطَّلاق من حالٍ إلى حالٍ، وينبغي للإنسان أن يحفظَ زوجَه، وأن يحتسب الأجر في ذلك قدرَ استطاعته، فإنَّ الله -جلَّ وعَلا- يقول: ï´؟فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًاï´¾ [النساء: 19]، فقد يجعل الله له منها ولد يكون سببًا للبركة والرَّحمات، أو سببًا للدَّعوات والفضائل، أو يفتح الله بسببه من الخيرات الدِّينيَّة أو الدُّنيويَّة، ويُنشَر له به من الرَّحمَة والدَّعوة والفضل والهُدى ما الله به عليم، فقدرَ الاستطاعة ألا يحتاج إلى ذلك، ولكن إذا احتاج إليه فهو أمرٌ مشروعٌ وأمرٌ مسنونٌ وأمرٌ مسلوكٌ، فعلَهُ أصحاب رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومَن بعدَهم ومَن لحِقَهم، ولم يزلْ ذلك في الأمَّة إلى قيام السَّاعة، ولكن مَن سَلَكه على وجهٍ صحيحٍ فيُرجَى أن يكونَ فرجَةً له وسببًا للخير، ومَن تقحَّمه على سوءٍ أو حصل منه تلاعب فلعله لا يُوفَّق، ولا يكون له هَناء، وقد يُبتَلى في نفسِهِ أو في بعض مَن يُحب ونحو ذلك. فينبغي أن تُحفَظ في ذلك الحقوق.
يقول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولَا يَصِحُّ الطَّلاَقُ إِلاَّ مِنْ زَوْجٍ).
هل يقع الطَّلاق من غير زوجٍ؟
لو أنَّ شخصًا طلَّقَ امرأته قبل أن يتزوَّجها، كأن يقول لها: إن تزوَّجتُكِ فأنتِ طالق، ثم تزوَّجها؛ فهل يقع عليها الطَّلاق؟
الطَّلاق لا ينعقدُ إلا من زوج، وهذا ليس بزوجٍ، فبناء على ذلك ما كان من تطليقه قبل نكاحه فإنَّه لا اعتبار به، فالطَّلاق إنَّما يكون من زوجٍ.
{ماذا لو شرَطَ؟}.
حتى ولو شرَطَ؛ لأنَّ حالَ إنشائه للطَّلاق لم يكن مالكًا له، بخلاف الزَّوج إذا قال: إن ذهبتِ فأنتِ طالق؛ فهو مالك للطَّلاق، فانعقدَ منه الكلام، ولكن غير الزَّوج لم ينعقد منه، وهذا ما يسمَّى عند الفقهاء: سقوط الشَّيء قبل وجوبه؛ لأنَّه ساقط لم يجب.
قول المؤلف: (مُكَلَّفٍ).
المكلَّف يشمل وصفين: العقل والبلوغ.
أمَّا العقل فظاهر، فغير العاقل -كما لو كان مجنونًا أو معتوهًا أو طفلًا صغيرًا مُزوَّجًا لا عقل له- فلو طلَّق فلا اعتداد بتطليقِهِ، والزَّوجيَّة باقيةٌ بحالها، ولو أنَّ هذه المرأة كَلَّتْ مِنه وَمَلَّتْ وهو صغير -كأن يكون في الخامسة من عمره- فلقَّنتْه التَّطليق، كأن تقول له: قلْ: أنتِ طالقٌ؛ فإذا قالها لم يقع الطَّلاق؛ لأنَّه ليسَ ممَّن يعقل الطَّلاق ويُميِّزُه.
وأمَّا البلوغ: فهذا اختيار المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- وإلا فمشهور المذهب عند الحنابلة أنَّه لو لم يكن بالغًا ولكن كان مميِّزًا يعقل الطَّلاق -وهو المراهق الذي قارَبَ البلوغ ولم يبلغ- فإذا كان مزوَّجًا فيقع طلاقه، وأصل ذلك أنَّه جاء عن بعض الصَّحابة، فرُويَ في ذلك أثرٌ عن ابن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأرضاه- ومن أصول الحنابلة المصير إلى قول الصَّحابي؛ فقالوا بذلك هنا.
وجمهور أهل العلم على ما ذكره المؤلف من أنَّ الطلاق لا يقع إلا من بالغٍ.
ثم يقول المؤلف: (مُخْتَارٍ).
فيُخرِجُ بذلك: طلاق غيرَ المختار، فلو كان مُكرهًا فإنَّه لا يقع منه الطَّلاق، ولذلك قال: (وَلاَ يَصِحُّ طَلاَقُ الْمُكْرَهِ)، والمُكرَه: هو الذي أُلجِئَ إلى الطَّلاق إلجاءً.
يقول أهل العلم: لابدَّ أن يكونَ الإلجاءُ صحيحًا، كأن يكون الإكراه من شخصٍ قادرٍ على المُكرَه، كأن يتوعَّده ويتهدَّده إمَّا بقتلٍ أو بإزهاق نفسِهِ، أو عضوٍ من أعضائه، أو حبسٍ أو ضربٍ، وهو قادرٌ على ذلك، أمَّا لو كان ليس بقادرٍ فلا يُعتدُّ بالإكراه، أما لو كان له قوَّة أو جاه أو سلطانٌ أو مَن يُعرَف عنه أنَّه يُمضي مثل ذلك التَّهديد وجرت عادته بذلك؛ اعتُبِرَ الإكراه، فلا يقع الطَّلاق لو طلَّق.
ومع ذلك يقولون: لو حصل مع الإنسان إكراه فينبغي له أن يورِّيَ في طلاقه، فيقول مثلًا: هذه طالق -ويقصد يده- ولا يقصد زوجه، وهكذا..
فلابدَّ أن يكون مختارًا مُريدًا لذلك، مقبلًا عليه، عارفًا بما يترتَّبُ عليه.
قال: (وَلاَ زَائِلِ اْلعَقْلِ).
زوال العقل سواء كان بجنونٍ، أو كان بشربٍ مأذونٍ فيه، كأن يكون لم يعرف أن هذا الشَّراب خمرًا، وظنَّه عصيرًا فشربَه وسَكِرَ، فطلَّقَ زوجَه؛ فنقول: هذا شُربٌ معفوٌّ عنه؛ لأنَّه غيرُ محاسبٍ على ذلك، وبناء عليه فشُربُه لا يترتب عليه تبعةٌ.
ومثل ذلك أيضًا لو كان قد غصَّ غصَّةً وليس بإزائه إلَّا شربة خمرٍ، فشربها لدفعِ غصَّةً قد تُميته وتُهلكه فسَكِرَ فطلَّق، فنقول: لا شيءَ عليه.
أو أنَّه أُكرِهَ على شُربِ المسكِر، فشربه فسَكِرَ فطلَّقَ فليس عليه في ذلك شيء.
ومثل ذلك: مَن يزول عقله ببنجٍ ونحوه، فيجري على لسانه الطَّلاق؛ فلا يُعتبَرُ الطَّلاق.
قال: (إِلاَّ السَّكْرَانَ)، فإنَّ السَّكران فإنَّه يقعُ طلاقه.
وكأنَّ المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- جرى على مذهب بعض أهل العلم، وهو أنَّ طلاق السَّكران نافذ وصحيح، وأصل هذا القول جاء عن بعض الصَّحابة، والمشهور من المذهب عند الحنابلة وقولٌ لجمعٍ من أهل العلم أنَّ طلاق السكران نافذ، وذلك لأنَّه تقحَّمَ الحرام، وتقحُّمه للحرام يرفع عنه عدمَ المؤاخذَة.
وبيان ذلك: أنَّ السَّكران يعرف أنَّ عقله سيذهبُ إذا سَكِرَ، ومع ذلك سَكِرَ، ويعرف أنَّه إذا سَكِرَ ضربَ هذا، وأتلفَ مالَ هذا، أو طلَّقَ زوجتَه؛ فلمَّا علمَ أنَّه يكونُ منه هذه الأشياء وتقحَّمَ السُّكرَ فكأنَّه تعمَّد فعل هذه الأشياء، فيكونُ مؤاخذًا بها، وإمضاء الطَّلاق على السَّكران هو الذي جاء عن الصَّحابة، فقد جاء عن علي وغيره.
وهذا هو الذي يظهر من النُّصوص، فإنَّ الله -جلَّ وعَلا- يقول: ï´؟لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاï´¾ [البقرة: 286]، فرفع الحرجَ عمَّن لا وُسعَ له في ذلك، ولكنَّ السَّكران تقحَّم هذا الشَّرَّ، وقصدَ هذا السُّوء، فتلحقه تبعته -كما هو مشهور- والخلاف في ذلك طويلٌ عندَ أهل العلم، ويسع في مثل هذه المسألة الاجتها لمَن هو أهلٌ لذلك.
في بعض النُّسخ يقول: (ولا زائل العقل ولا سكران).
وكأنَّ المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- لم يذكر مسألة الغضبان؛ لأنَّ كثيرًا من الناس يسأل عن هذا، هل يقع طلاق الغضبان أو لا يقع؟
هذه مسألة كثيرة الوقوع، ويتشبَّث بها قليل العقلِ لإرادة الرُّجوع إلى الزَّوجَة، وهو أسرعُ ما يكون إلى الطَّلاق إذا تغيَّرَ مزاجه، ثم يكون أسرع ما يكون من الندم.
فالمتقرِّرُ عندَ أهل العلم، ونصَّ على ذلك ابن رجب، ونصَّ على ذلك جماعة من أهل العلم؛ أنَّ الغضبَان يقع طلاقه، بل من حيث النَّظر في الغالب أنَّ الشَّخصَ لا يُطلِّقُ إلا حالَ غضبه، ولا يُمكن أن يكون ذلك في حال اعتدال المزاج، وأنَّ هذا أقلَّ ما يكون في الطَّلاق.
وبناء على ذلك؛ فالأصل هو طلاق الغضبان، ومهما اشتدَّ الغضب وتغيُّر المزاج فإنَّه لا يزول عقله، فما دام عقله باقيٍ فإنَّه مكلَّفٌ، وما دام مكلَّفًا فتتعلَّقُ به تبِعَةُ كلامِهِ، فلو قَذَفَ أُخِذَ بقذفه، ولو طلَّقَ أُخِذَ بتطليقهِ، ولو فعل أيَّ شيءٍ لترتَّبَ عليه ما فعلَ وقالَ.
ولكن لو وصل الأمر إلى أن زالَ عقله، أو غاب عن وعيه، وهذه تحصل قليلة لبعض المرضى ممن فيهم نوعٌ من انفصام شخصيَّة أو ما يسمى من هذه الأمراض ونحوها؛ فيُمكن أن يُقال: إن هذه حالٌ ينظُرُ فيها القاضي بحسبِهِ، فيسبُرُ في ذلك أحواله، وينظرُ إلى وضعه، ويسأل عن حاله، وإلا فالأصل لا يُمكن أن نقول: إنَّ طلاق الغضبان لا يقع، وإلا لأفضَى ذلك إلى ألا يقعَ طلاقٌ في هذه الدُّنيا البتَّة.
وإنَّما تكلَّم النَّاسُ عن هذا؛ لأنَّهم يستهينون بهذا الأمر، وهو على ألسنتهم، وجارٍ في سبابهم مع أزواجهم، ثم بعدَ ذلك يندم!
ولذلك ترى كثيرًا من الناس -نسأل الله السَّلامة والعافية- ربَّما طلَّقَ زوجَه عشرات المرَّات، ثم يقول: كنت غاضبًا، وطلاق الغضبان لا يقع، ويعاشرها بالحرام؛ فينبغي ألا يُتساهَل في هذا، وعلى النساء أن ينتبهنَ، وألَّا يُمكنَّ الزَّوجَ قبلَ أن يتيقنَّ أنَّ تطليقَه غيرَ واقعٍ، إمَّا بسؤالِ أهلِ العلم والنَّظرِ فيه.
ثم إنَّ التَّطليق حال الغضب هو أظهر ما يدلُّ على عدم رجولة الرَّجل وعدم قِوامته، وأنَّ ذلك يدلُّ على سفاهةِ عقله، وأنَّه لم يستطع أن يؤدِّبَ زوجَه، وأن يحملها على الخير، وأن يُنهيَ الخلاف إلَّا بمثل هذا الكلام الذي يفصل الزَّوجيَّة ويُنهيها.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيَمْلِكُ اْلحُرُّ ثَلاَثَ تَطْلِيْقَاتٍ، وَاْلعَبْدُ اثْنَتَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ تَحْتَهُمَا حُرَّةً أَوْ أَمَةً)}.
الحرُّ يملك ثلاث طلقات؛ لأنَّ الله -جلَّ وعَلا- ذكرَ ذلك في كتابه: ï´؟الطَّلَاقُ مَرَّتَانِï´¾ [البقرة: 229]، فهاتان مرَّتانِ، ثم قال: ï´؟فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُï´¾ [البقرة: 230]، فذكرَ ثلاث تطليقات، فقال أهلُ العلمِ: إنَّ الحرَّ يملك هذه التَّطليقات الثَّلاث، ولا يملك أزيدَ منها.
ولمَّا قالَ رجلٌ لابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إنِّي طلَّقتُ زوجتي عددَ نجوم السَّماء.
فقال ابن عباس: بانت منك بالثَّلاث، والباقي إثمٌ عليك.
إذن هي ثلاث تطليقات، لِمَا جاء بذلك في الكتاب والسُّنَّة وإجماع أهل العلم.
قال: (وَاْلعَبْدُ اثْنَتَيْنِ)؛ لأنَّ العبد على النِّصف من الحرِّ، كما جاء ذلك في حكم الصَّحابة مستمَدًّا من قول الله تعالى: ï´؟فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِï´¾ [النساء: 25].
فقال أهل العلم: إذا كان للعبد نصف الحرِّ، فإنه يكون له تطليقة ونصف، وبما أنَّ الطَّلاق لا يتجزَّأ فجُبرَت النِّصف وصارت واحدة، فلأجل ذلك كانت اثنتين، وإلا فالأصل أنَّ له تطليقة ونصف تطليقة.
ولو قال الرجل لزوجته: أنتِ طالقٌ نصف طلقة؛ فتعتبر طلقة واحدة؛ لأنَّ الطَّلاق لا يتجزَّأ.
قال المؤلف: (سَوَاءٌ كَانَ تَحْتَهُمَا حُرَّةً أَوْ أَمَةً).
كأنَّه يُشير بذلك إلى أنَّ المِلْك للتَّطليقات مردُّه إلى الرَّجل، وليس مردُّه إلى الزَّوجة، فقد ذهب المؤلِّف وجمعٌ من أهل العلم إلى ذلك، وبناء على ذلك قال لا ننظر إلى زوجته هل هي حرَّة أو أمة.
وفي هذا إشارة إلى قول بعض العلماء إلى أنَّ النَّظر يكون باعتبار المرأة، فإذا كانت الزَّوجة حرَّة فيكون له ثلاث تطليقات، وإذا كانت أمةً فيكون له تطليقتين، فبيَّن المؤلف أنَّ هذا قولٌ مخالف، وأنَّ الاعتبار عنده بحال الرَّجل حرًّا كان أو عبدًا، وأن هذا هو مناط المِلك في التَّطليقات.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَمَنِ اسْتَوْفى عَدَدَ طَلاَقِهِ، لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، نِكَاحًا صَحِيْحًا، وَيَطَأَهَا لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لاِمْرَأَةِ رِفَاعَةَ «لَعَلَّكِ تُرِيْدِيْنَ أَنْ تَرْجِعِيْ إِلى رِفَاعَةَ. لاَ، حَتَّى تَذُوْقِيْ عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوْقَ عُسَيْلَتَكِ»)}.
قوله (فَمَنِ اسْتَوْفى عَدَدَ طَلاَقِهِ)، فيه إشارة إلى ما يترتَّب على هذه التَّطليقات، فكأنَّه يقول: إذا قلنا مِن أنَّه يملك ثلاثًا، فإذا استوفاها بَانتْ منه هذه المرأة، ولا يُمكنه أن يتزوَّجها بحالٍ من الأحوال، ولا أن يُراجعها حتى في زمنِ العدَّة، وسيأتينا في باب الرَّجعة أنَّه إذا طلَّقها طلقة أو طلقتين فإنَّ له أن يُراجعها في زمنِ العدَّة، فإذا انتهت العدَّة فله أن يتزوَّجها، وتعود إليه على ما بقيَ لها من عدد الطَّلاق، فإذا كان قد طلَّقها طلقة واحدة بقيَ لها طلقتان، فيُمكنه أن يعود إليها بنكاحٍ جديدٍ؛ لأنَّ بعض النَّاس يظنُّ أنَّ المرأة لا تطلق ولا تَبين إلا بثلاثة تطليقات، وأصل هذا هو بعض ما تلقوه من بعض المسلسلات والأفلام ونحوها، من قولهم أنتِ طالق بالثلاث ونحوه؛ فهذا كله مخالفٌ وليسَ على أصلٍ صحيح، فهو يطلقها واحدة، وإذا نتهت عدَّتها بانت منه.
ولكن لو أنَّه طلَّقها ثلاث تطليقات، إمَّا أنَّه طلَّقها ثم راجعها ثم طلَّقها ثم راجعها ثمَّ طلَّقها ثالثةً فاستوفى العدد؛ أو كان مخلًّا فأمضى التطليقات الثلاث مرة واحدة -على ما سيأتي معنا من الكلام في هذه المسألة.
فنقول: إذا استوفى العدد لم تحلْ له حتى تنكح زوجًا غيره، وهذا كما قال الله -جلَّ وعَلا: ï´؟فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُï´¾ [البقرة: 230]، وكما ذكر المؤلِّف الحديث في زوجة رفاعة، أنَّها لمَّا أرادت أن ترجع قال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ، حَتَّى تَذُوْقِيْ عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوْقَ عُسَيْلَتَكِ».
إذن لابدَّ أن تكون قد نكحَت نكاحًا صحيحًا على رغبة، لا نكاحَ تحليلٍ، فإنَّ نكاحَ التَّحليل وجوده كعدمه؛ لأنَّه نكاحٌ باطلٌ، وقد تقدَّمَ بنا صفة نكاح التَّحليل، ومتى يكون نكاح تحليلٍ ومتى لا يكون، وقد سمَّاه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّيس المستعار»، ولعنَ المحلل والمحلل له، وبناء على ذلك قال المؤلف: (نِكَاحًا صَحِيْحًا، وَيَطَأَهَا).
وقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى تَذُوْقِيْ عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوْقَ عُسَيْلَتَكِ» فيه إشارة إلى حصول الجماع بينهما، وحصول الجماع هو الذي يؤكِّدُ إقبال الرَّجل على المرأة، وأنَّ هذا النِّكاح نكاحَ رغبةٍ لا نكاح إرادة التَّحليل ونحوه.
{قال: (وَلاَ يَحِلُّ جَمْعُ الثَّلاَثِ، وَلاَ طَلاَقَ الْمَدْخُوْلِ بِهَا فِيْ حَيْضِهَا أَوْ طُهْرٍ أَصَابَهَا فِيْه، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذلِكَ عُمَرُ لِرَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يَمْسِكُهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيْضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَلْيُطَلِّقْهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا»)}.
ذكر المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- ما لا يحل من الطَّلاق، ثم بعد ذلك سيذكر ما يحصل به التَّطليق طلاقًا صحيحًا وما لا يكون كذلك، فقال: (وَلاَ يَحِلُّ جَمْعُ الثَّلاَثِ)، يعني: لا يجوز للإنسان أن يقول لزوجته: أنتِ طالق طالق طالق، ولا أن يقول: أنتِ طالقُ بالثَّلاث، أو أن يقول: أنتِ طالق عددَ أبنائك -وكان أبناؤها خمسة- أو أن يقول: أنتِ طالق عددَ نجوم السَّماء -كما جاء في قصة الرجل مع ابن عباس- فلا يحل جميع ذلك؛ لأنَّ الله -جلَّ وعَلا- في كتابه قال: ï´؟الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍï´¾ [البقرة: 229]، فدلَّ ذلك على أنَّ الطَّلاق لا يُجمَع في حالٍ واحدةٍ.
ثم من جهةٍ ثانيةٍ: أنَّ جمعَ التَّطليقات الثَّلاث لا فائدةَ منه إلا التَّضييق على الإنسان، فالطَّلقة الواحدة والطَّلقتان يحصل بهما فراق الزَّوجة، وإذا انتهت العدَّة انتهى بينهما من الزَّوجيَّة؛ فلماذا يجمع هذه التَّطليقات؟! فما سيحصل بالتَّطليقات الثلاث سيحصل بالتَّطليقة الواحدة.
وبناء على ذلك قال أهل العلم: إنَّ الآية دالَّةٌ على أنَّها تُفرَّق ولا تُجمَع، ثم إنَّ في الجمع من التَّضيق، وحملِ النَّفس على الحرج، ومنعها ممَّا أباح الله لها من إمكان الاجتماع وتجديد النِّكاح ونحوه؛ فلأجل ذلك كان هذا ممنوعًا.
وهذا هو مشهور المذهب عند الحنابلة وهو قول الجمهور، خلافًا للشَّافعيَّة.
قال المؤلف: (وَلاَ طَلاَقَ الْمَدْخُوْلِ بِهَا فِيْ حَيْضِهَا).
الطلاق الثاني المحرَّم، أو الطلاق البدعي -كما يلقبه الفقهاء- هو الطَّلاق حال الحيض، فإنَّ ذلك غيرُ جائزٍ.
والدليل على هذا: أنَّ الله -جلَّ وعَلا- قال: ï´؟فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّï´¾ [الطلاق: 1]، وجاء تفسيرها عند السَّلف: أنَّه في طهرٍ لم يُجامعها فيه.
ثم إنَّ ابن عمر أيضًا لَمَّا طلَّق زوجه في حالِ حيضها غضِبَ عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال لعمر: «مُره فليُراجعها»؛ فدلَّ ذلك على أنَّ التَّطليق في الحيض ممنوع ومحرَّم.
والعلَّة في ذلك:
أولًا: فيه تطويل للعدَّةِ عليها.
ثانيًا: أن منعه من التَّطليق في الحيضِ أو في الطُّهرِ الذي جامعها فيه؛ هو أَمْنَع من حصول الطَّلاق؛ لأنَّ الإنسان يغضب ويُطلق لأوَّلِ وهلة، ولكن لمَّا كان أكثر الأزواج إمَّا أنَّ زوجته حائض، أو أنَّه قد جامعها في الطُّهر، فأكثر الأزواج إذا طهُرَت زوجته جامعها؛ فيكون سببًا لإعادة النَّظر والفِكر واستجماع الذِّهنِ والنَّظر في الأصلح هل يطلِّقها أو لا يُطلِّقها، فلأجل ذلك مُنع من الطَّلاق حال الحيض وحال الطهر الذي جامعها فيه.
وبعضهم يلتمسُ حكمةً أيضًا، فيقول: إنَّ المرأةَ في حالِ الحيض يكون فيها شيء من النَّقصِ والضَّعفِ، وربَّما يلحقها من امتعاض نفسها وتغيُّر مزاجها، فقد تنشأ بسبب ذلك الخلافات، فمُنع الزَّوج من التَّطليق، لئلا يكون ذلك سببًا لتفويت هناء عيشهما مع ما يكون منها من الأنسِ والمودَّةِ في غير حال حيضها.
أيًّا كانَ؛ فالطَّلاق حال الحيض ممنوع، وهذا بالنِّسبةِ للمدخول بها، أمَّا غير المدخول بها فإنَّها تبينُ بالطَّلقةِ الواحدة، فلم يختلف الحال سواء كانت حال الحيض، ما دام أنَّه لم يدخل بها.
قال المؤلف: (أَوْ طُهْرٍ أَصَابَهَا فِيْه).
الحال الثَّالثة من الأحوال التي يكون الطَّلاق فيها محرمًا: أن يطلِّقها في طهرٍ جامعها فيه.
وكما قلنا: إنَّ هذا أيضًا لئلا تطول عليها العدَّة، وفيه إشارةٌ إلى ما ذكرنا قبل قليلٍ من أنَّه حملٌ للرَّجلِ إذا تحرَّكت نفسُه للطلاق أن يقف حتى تحيض ثم تطهر، فيكون في ذلك من الوقت ما يستجمعُ به رويَّتَه، ويُعيد النَّظرَ في قراره، وما يتوجَّه إليه.
وذكرَ المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- الدليل هنا: لَمَّا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعمر: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يَمْسِكُهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيْضَ ثُمَّ تَطْهُرَ».
لماذا قال: «ثُمَّ يَمْسِكُهَا حَتَّى تَطْهُرَ»؛ لأنَّه هنا في هذا الحديث طلَّقها في هذا الحيض، والطُّهر الذي بعدَ هذا الحيض تابعٌ لهذا الطُّهر، فكأنَّه شيءٌ واحدٌ، فلأجل ذلك قال: «ثُمَّ يَمْسِكُهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيْضَ ثُمَّ تَطْهُرَ»، فيكون حصل منه تطليق في طهرٍ جديد لم يحصل فيه ما مضى.
فأمَّا الطُّهر الأوَّل الذي بعدَ الحيضة الأولى التي وقع فيها الطَّلاق كأنها وقع فيها أيضًا هي الطَّلاق، وهي تابعةٌ للحال؛ فلأجل ذلك لم يُسوِّغُ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمَن وقع منه الطَّلاق حال الحيض أن يُطلقها لأوَّلِ طهرٍ تطهره، بل لابدَّ أن تحيضَ مرَّةً أخرى ثم تطهر ثم يُطلقها بعدَ ذلك.
ولهذا قال: «فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَلْيُطَلِّقْهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا»، فإذا مسَّها فيكون طهرًا جامعها فيه فلا يجوز فيه الطَّلاق، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بعض الأحاديث: «مره فليمسكها حتى تطهر، ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا»، فإذا كانت حاملًا فإنَّه يجوز تطليقها؛ لأنَّه لا حيضَ في الحمل؛ ولأنَّ عدَّتها تنتهي بوضع حملها في كل الأحوال.
إذن اتَّضح ما يتعلَّق بالأحوال الثَّلاث التي يُمنع من التَّطليقِ فيها، وأكثر النَّاس اليوم يُطلِّقون في الطَّلاق المُحرَّم، إمَّا حال الحيض، أو في طهرٍ جامعها فيه، أو يجمع الثَّلاث تطليقات، أو أنَّه يفعل أمرين جميعًا، فيكون طلَّقها في طُهرٍ جامعها فيه وجمع ثلاث تطليقات.
فنقول: لا يجوز ذلك البتة.
{أحسن الله إليك يا شيخ..
لَمَّا ذكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قوله: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يَمْسِكُهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيْضَ ثُمَّ تَطْهُرَ...»، إلى آخر الحديث. ثم قال: «فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا»، فكأن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما احتسَبَ طلقة ابن عمر. فهل هذا صحيح؟}.
احتساب الطَّلقة في حالِ الحيض مِن عدمه مسألة فيها شيء من الخلاف، والخلاف فيها متقدِّمٌ ومتأخِّر، فكثير من أهل العلم من المتقدِّمين على أنَّ الطَّلقة محتسبة، حتى قال ابن المنذر وغيره: إنَّه لا يُخالف في ذلك إلا قليل.
ولكن ظهرت المخالفة وقوَّاها شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- وجرى على ذلك ابن القيم، وأفاضَ فيها القول في إغاثة اللهفان والكلام على هذه المسألة، وهل حُسبَت أو لم تُحسَب، وصحَّح الأثرَ في عدمِ حسابها فيما جاء من الأثر عن ابن عباس وغيره، وأطال الكلام في عدم حسابها.
والفتوى عند مشايخنا على نحو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- وإن كان قول جماهير أهل العلم بخلاف ذلك، حتى المذهب عند الحنابلة هو اعتبارها واحتسابها من التَّطليقات.
وقوله: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»، فإنَّ الرَّجعة لا تكون إلَّا بعدَ طلاقٍ، فكأنَّ ذلك دلَّ على أنَّ الطَّلقَة محتسبة، وأنَّ الرَّجعة تكون بعدَ الطَّلاق.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَالسُّنَّةُ فِيْ الطَّلاَقِ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيْ طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيْهِ وَاحِدَةً، ثُمَّ يَدَعَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، فَمَتَى قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ، وَهِيَ فِيْ طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيْهِ، طَلُقَتْ، وَإِنْ كَانَتْ فِيْ طُهْرٍ أَصَابَهَا فِيْه أَوْ حَيْضٍ، لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَطْهُرَ مِنَ اْلحَيْضَةِ)}.
لَمَّا بيَّنَ المؤلِّف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- الطَّلاق الذي على غير وجهٍ صحيحٍ -أو الذي لم يأتِ به الشَّرع إباحةً وحلًّا- أراد أن يُبيِّن التطليق الذي يقع على وجهٍ صحيح، فقال: (وَالسُّنَّةُ فِيْ الطَّلاَقِ).
وتلاحظون أنَّ الفقهاء -رَحَمَهُم اللهُ تَعَالَى- في هذه المسائل بخصوصها يُعبِّرونَ بالطَّلاق السُّنِّي والطَّلاق البدعي، مع أنَّ هذه إنَّما هي مسائل تكليفيَّة، فإمَّا أن يُقال: طلاق صحيح، وفَعَلَ أمرًا جائزًا أو فعَلَ محرَّمًا؛ ولكن على كلِّ حالٍ هذا من اصطلاح الفقهاء.
والمقصود بالطَّلاق البدعي: الطَّلاق المحرَّم الذي لم يقع على وجهٍ صحيح، ولا يقصدون بذلك البدعة التي تُقابل السُّنَّة من جهة الابتداع في الدِّين أو ما أُحدِثَ على غير مثالٍ سابقٍ؛ بل يقصدون بالطَّلاق البدعي أنَّه الطَّلاقُ المحرَّم.
وسمُّوه بدعيًّا: لأنَّه وقع على غيرِ وفق ما جاء به الشَّرع، من عموم قول النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحْدَثَ فِيْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، ولكن من جهة النَّظر فالمقصود أنَّه طلاق محرَّمٌ، والتَّعبير عنه بالطَّلاق السُّنِّي أو البدعي هو اصطلاحٌ خاصٌّ، وإلا فغالب كلامهم على أنَّ هذا جائز وغير جائز، ومحرم وليس بمحرَّمٍ.
قال المؤلف: (وَالسُّنَّةُ فِيْ الطَّلاَقِ)، وليس المقصود هنا السُّنَّة المستحبَّة أو المأمور بها، وإنَّما المقصود بالسُّنَّةِ هنا ما يُقابل البدعَة، يعني: ما يُقابل المحرَّم، فهذا هو الطَّلاق الجائز، أو الطَّلاق المأذون فيه.
فيقول المؤلف: (أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيْ طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيْهِ وَاحِدَةً).
إذن مَن أرادَ تطليق زوجته؛ إذا كانت في طهرٍ قد جامعها فيه؛ فإنَّه ينتظر حتى تحيض، ثم تطهر، وقبل أن يمسَّها يُطلقها، فتستقبل عدَّتها ثلاث حِيَض، ثم تنتهي عدَّتُها فتبين منه بينونة كُبرَى، وإذا أراد أن يُراجعها في زمن الثَّلاث حِيَض فله ذلك، وإذا انتهت العدَّة الثالثة بانت منه، فهي أجنبية عنه، ولها أن تتزوَّج غيره، وله أن يتزوَّجها بعقدٍ جديد.
وقوله هنا (وَاحِدَةً)، يعني لا يجوز له أن يعقبها طلقةً بعدَ طلقةٍ، فيقول لها مثلًا: أنتِ طالق، ثم بعد يومٍ أو يومين أو بعد حيضةٍ يقول لها: أنتِ طالق ثانية، ثم بعد حيضة ثانية يقول لها: أنتِ طالق ثالثة؛ فلا يجمع التَّطليقات، فلأجل ذلك قال: (حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا).
قال المؤلف: (فَمَتَى قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ).
إذا قال لها ذلك فإنَّنا ننظر: فإن كانت في طهرٍ لم يُصبها فيه طلُقَت في الحال، لأنَّ وقتها وقتَ طلاقَ سنَّة، ووقت طلاقٍ مأذونٍ فيه ومباح، كأن تكون هي في طهرٍ لم يُجامعها فيه أو جاء من سفرٍ وكانت قد طهُرَت من حيضها ولم يُصبها بعدُ؛ فقال لها: أنتِ طالق للسُّنَة -كأن يكون أراد أن يتحفَّظَ فيقيدها بذلك حتى تقع على وجهٍ صحيحٍ- فإنَّها تطلق إذا كانت في طهرٍ لم يُجامعها فيه.
قال: (وَإِنْ كَانَتْ فِيْ طُهْرٍ أَصَابَهَا فِيْه أَوْ حَيْضٍ، لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَطْهُرَ مِنَ اْلحَيْضَةِ)، فتكون زوجةً له حتى تحيض، ثم تطهر، فيكون ذلك الطُّهرُ طهرًا لم يُصبها فيه، فيلحقه الطَّلاق.
أمَّا إذا قال لها: أنتِ طالق للسُّنَّة وكانت في وقتِ حيضٍ؛ فإذا طهرَت من حيضها فإنَّها تطلق في تلك الحال، وتكون الطَّلقةُ في تلك الحال طلقةُ سُنَّة.
قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ، وَهِيَ حَائِضٌ أَوْ فِيْ طُهْرٍ أَصَابَهَا فِيْهِ، طَلُقَتْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذلِكَ، لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يُصِيْبَهَا أَوْ تَحِيْضَ).
قوله: (وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ)، كأنَّه أرادَ أن يتقحَّم الإثمَ، فالفقهاء هنا لا يقصدون أنَّه إذا قال "أنتِ طالق للبدعة" أنَّه لا يأثم، أو أنَّه لم يفعل محرَّمًا، وإنَّما يتكلَّمون عن الطَّلاق الذي تترتَّب عليه آثار الفُرقَة وبداءة العدَّة ونحو ذلك.
فيقول المؤلف: (وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ لِلْبِدْعَةِ)، فهذا من جهة متقحِّمٌ للحرام وآثمٌ، وقد بيَّنَ ذلك فيما مضَى، ولكن لو كان غضبانًا -مثلًا- وقيل له لا تطلق الآن لأنَّه يكون طلاق بدعة، فقال: هي طالق للبدعة؛ فإذا وقع الطَّلاق حالَ الحيضِ يكونُ طلاقًا بدعيًّا وهو طلاقٌ محرَّم.
أو إذا كانت في طُهر وقد أصابها فيه فتطلُق، لأنَّ الطَّلاق في الطُّهر الذي أصابها فيه طلاقُ بدعةٍ، أو طلاقٌ محرَّمٌ -على التعبير الثاني.
أمَّا إذا كانت في طهرٍ لم يُجامعها فيه فلا يقع الطَّلاق حتى تحيض، ثم تطهر، أو يُطيبها، فإذا جامعها وقعَ الطَّلاق بعدَ الجماع، لأنَّه صار طهرًا جامعها فيه، وقد علَّق الطَّلاق على حصول الطَّلاق البدعي، فيُناسب في تلك الحال، أو في حال الحيض إذا لم يُجامعها في ذلك الطُّهر لنشوب الخلاف أو لغيره.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُوْلِ بِهَا، وَاْلحَامِلُ الَّتِيْ تَبَيَّنَ حَمْلُهَا، وَاْلآيِسَةُ وَالَّتِيْ لَمْ تَحِضْ وَالَّتِيْ لَمْ تَحِضْ، فَلاَ سُنَّةَ لَهَا وَلاَ بِدْعَةَ، فمتى قال لها:أنت طالق للسُّنَّةِ أو للبدعةِ طلقت في الحال)}.
قوله: (فَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُوْلِ بِهَا)، فإنَّ غير المدخول بها فلا عدَّة عليها لقوله تعالى: ï´؟ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَاï´¾ [الأحزاب: 49]، وتبين بطلقة واحدة.
وبناء على ذلك فبمجرد أن يطلِّقها، فإنَّها تبين بها بينونة كبرى، ولا يُنظر لها إذا كانت في حال حيضٍ أو طُهر أو غير ذلك، وهي غير مدخول بها فلم يصبها.
أيضًا تطليق الحامل التي تبيَّنَ حملها جائزٌ، لأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في الحديث: «ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا»، فطلاق الحامل صحيح، ويسمى طلاقَ سنَّةٍ وليس ببدعة، فتنتظر حتى تضع فتنتهي عدتها.
وفيما مضى كان تبيُّن الحمل من الأمور الصَّعبة أو التي قد تتعسَّرُ في بعض الأحوال.
أما قوله: (وَاْلآيِسَةُ)، وهي التي أيسَت من حيضها بأن بلغت الخمسين مثلًا وانقطعت عادتها، وعدَّتها تكون بالأشهر، فبناء على ذلك ففي أي حالٍ طلَّقها يقع الطَّلاق، لأنَّها لا سُنَّة في حقها ولا بدعة، لأنَّ متعلَّق السُّنَة والبدعة هو الحيض من الطُّهر، وهذه طاهر دائمًا، فحتى لو طلَّقها في طهرٍ جامعها فيه فيصح الطلاق في تلك الحال، ومثل ذلك ذلك الحامل لو كان قد جامعها في حال الحمل ثم طلقها فيقع الطلاق.
والذي يظهر من كلامهم أنَّ تعلُّق الكلام، سواء كان التَّطليقُ بواحدةٍ أو كان بثلاث، فانتفاء السنَّة والبدعة هنا حتى في العدد.
والحقيقة أنَّ العدد في مثل هذا مُشكِلٌ، لأنَّ الشَّرع عن جمع الثَّلاث مطلقًا، ولم يفرِّق بين مدخولٍ بها وغيرٍ مدخولٍ بها، ولا حاملٍ ولا غير حاملٍ، والذي يحصل في طلاق السُّنَّة والبدعة بالنِّسبة للآيسة مع غير الآيسة أو الحامل مع غير الحامل ليس مثله الكلام في العدد، ومع ذلك سوَّوا.
فلذا لو أمكنَ أن يُقال: أنَّه يبقى جمع التَّطليقات الثَّلاث للحامل أو غير المدخول بها أو الآيسة على النَّهي والمنع؛ لم يكن ذلك بعيدًا، وهو محل بحثٍ ونظرٍ.
فلأجل ذلك قال بعدها: (فمتى قال لها:أنت طالق للسُّنَّةِ أو للبدعةِ طلقت في الحال)، لأنَّه لا سُنَّة لها ولا بدعة، فكأن هذه الصِّفة غير موجودة، فكأنَّه قال "أنتِ طالق"، فتطلُق في حالها وآنها.
ومثل ذلك الصَّغيرة، فلو قال لها "أنتِ طالقٌ للسُّنَّة" فإنَّ الصَّغيرة لا تحيض، وبناء على ذلك تطلق بمجرَّدِ قوله، إلَّا أن يكون له قصد أنَّكِ إذا حضتِّ فأنتِ طالق للسُّنَّة أو للبدعة، فيُنتظر حتى تحيض، فهي زوجته حتى تبلغ ويحصل لها حيض أو طهرٍ جامعها فيه؛ فيكون بعد ذلك حصول طلاق السُّنَّة أو البدعة، ويُقبَل قوله في ذلك، لأنَّه محتمَل.
هناك مسألة في باب الخلع كثيرة الوقوع نختم بها: أحيانًا ينشب خلاف بين الزوجين، ثم تقول الزوجة: أعطيك الصَّداق وتطلقني؟ فيقول: نعم، فتعطيه الصَّداق ويطلقها؛ فيظنون أنَّ هذا طلاق رجعي، فيُراجعها في زمنِ العدَّة ونحوه، والظَّاهر في هذا -كما نصَّ على ذلك الفقهاء- أنَّه طلاقٌ خُلعيٌّ، فبناء على ذلك تترتَّب عليه أحكام الخُلع، فليس له أن يُراجعها في زمنِ العدَّة حتى ولو وافقت على ذلك، فليس لهما طريق إلى أن يرجعا إلى بعض إلا أن ينكحها نكاحًا جديدًا، بأن يخطبها، ويمهرها مهرًا جديدًا، ثم يعقد عليها.
ولمَّا كانت هذه المسألة من المسائل التي تقع كثيرًا، ولا يتفطَّنُ كثيرٌ من الناس إلى أنها من مسائل الخُلع، وأنَّ الرَّجعةَ فيها غير ممكنة، وقد يحصل في أثناء ذلك رجعة، ويُعارشران بعضهما بعضًا مدَّةً طويلةً، ولا يشعرانِ أنَّ رجعتهما ليست صحيحة، وأنَّ الفُرقَة ثابتةٌ.
فبناء على ذلك مَن كان قد حصل له شيءٌ من ذلك فليرجع إلى أمره ولْيتفطَّن، فإن كان الطلاق قد وقع على هذا النحو؛ فليُصحِّح النِّكاح بأن يُنشئ نكاحًا جديدًا حتى لا يقع على وجهٍ غير صحيح، ويستمران فيما دخلا فيه من المعاشرة بغير وجه حقٍّ، ولو فاتُرض حصول ذلك فإنَّ أقل أحوالهما أن يكون الوطء الذي تبع ذلك هو وطء شبهةٍ، لكونهما غير عالمين وظانِّينَ أن زواجهما قد رجع لما كان، ولكن ينبغي لهما وقد علما أن يصححاه إذا حصل شيء من ذلك.
أسألُ الله أن يوفقنا للخير والهدى، وأن يجزيك ويجزي الإخوة القائمين على هذا البناء العلمي خير الجزاء، وأن يوفق المشاهدين والمشاهدات وطلبة العلم لما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأن يمنَّ علينا بالتوفيق والسَّداد، وصلى الله وسلَّمَ وبارك على نبينا محمد.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:34   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

عُمْدَةُ الْفِقْهِ (6)
الدَّرْسُ السَّادِسُ (6)
فضيلة الشيخ/ د. عبد الحكيم بن محمد العجلان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات في كلِّ مكانٍ.
{نبتدئ في هذه الحلقة -بإذن الله- من باب "صَرِيْحِ الطَّلاَقِ وَكِنَايَتِهِ" من كتاب عمدة الفقه للموفق ابن قدامة.
قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (صَرِيْحُهُ: لَفْظُ الطَّلاَقِ ومَا تَصَرَّفَ مِنْه، أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ مُطَلَّقَةٌ أَوْ طَلَّقْتُكَ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ، وَمَا عَدَاهُ مِمَّا يَحْتَمْلُ الطَّلاَقَ فَكِنَايَةٌ لاَ يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَهُ، فَلَوْ قِيْلَ لَهُ: أَلَكَ امْرَأَةٌ؟ قَالَ: لاَ، يَنْوِيْ اْلكَذِبَ، لَمْ تَطْلُقْ، وَإِنْ قَالَ: طَلَّقْتُهَا، طَلُقَتْ وَإِنْ نَوَى اْلكَذِبَ)}
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعدُ؛ فأسألُ الله -جلَّ وعَلَا- أن يجعلنا من المتقينَ الشَّاكرينَ الصَّالحينَ، الذين إذا أُعطوا شكروا، وإذا أذنبوا استغفروا، وإذا نَسوا تذكَّروا، وأن يُعيذنا من الفتن ما ظهرَ منها وما بطنَ، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميعِ المسلمينَ، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريمٌ.
هذا باب "صَرِيْحِ الطَّلاَقِ وَكِنَايَتِهِ"، فبعد أن استهللنا ما يتعلَّق بكتاب الطَّلاق في ذكر ما يتعلَّق بمَن يصحُّ طلاقه ومَن لا يصح طلاقه، وكم يملك الحرُّ من الطَّلاق وكم يملك العبد، وما يتعلَّق بطلاق السُّنَّة وطلاق البدعة، ومتى يكون طلاق سنةٍ ومتى يكون طلاق بدعةٍ، وأيضًا الكلام على هذا المصطلح -سنَّة الطَّلاق وبدعته- وسبب اختصاصه بذلك، على ما جرت الإشارة إليه في الدَّرس الماضي.
وهنا شرعَ المؤلِّف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- في ألفاظ الطَّلاق، فقال: (بابُ صَرِيْحِ الطَّلاَقِ وَكِنَايَتِهِ)، يعني: الألفاظ الصَّريحة في الطَّلاق وألفاظ الكناية.
فصريحُ الطَّلاقِ: هو الذي لا يحتمل غير الطَّلاق.
وأمَّا الكناية: فهو اللفظ الذي يحتمل الطَّلاق ويحتمل غيره، فيُمكن أن يُراد به الطَّلاق، ويُمكن أن يُراد به غير الطَّلاق.
فإذا قال رجل لزوجته: "أنتِ طالق"، فالكلُّ يعلم أنَّ المقصود بذلك حلُّ عقدِ الزَّوجيَّة.
أما لو قال لزوجته: "اُخرجي"، فقد يقصد بذلك أن تبعد عنه، وقد يقصد أن تخرجَ خروجًا لا ترجع بعدَه -الذي هو حلُّ عقد النِّكاح وهو الطَّلاق.
إذن؛ اللفظ الأوَّل يحتمل الطَّلاق لا غير، واللفظ الثَّاني يحتمل الطَّلاق ويحتمل غيره، فما كان لا يحتمل إلَّا الطَّلاق فهذا الذي يُعبِّر عنه الفقهاء بصريح الطَّلاق، وهو عند الحنابلة لفظٌ واحدٌ "الطَّلاق" وما تصرَّف منه بما يكون صالحًا للطَّلاق، وستأتي الإشارة إلى ذلك.
وأمَّا ألفاظ "فَارقتكِ، سرَّحتُكِ" فليست عند الحنابلة مِن ألفاظِ صَريحِ الطَّلاقِ، وإن كانت عندَ بعضِ الفقهاء تدخل في صريحِ الطَّلاق.
قال المؤلِّف: (صَرِيْحُهُ: لَفْظُ الطَّلاَقِ ومَا تَصَرَّفَ مِنْه، أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ مُطَلَّقَةٌ أَوْ طَلَّقْتُكَ).
ويقول أهل العلم: إنَّ المرأة تَطلُق بلفظ "أنتِ الطَّلاق" بصيغة المصدر، ولكن لا تَطلُق بلفظ الأمر، فلو قال: "طلِّقي، أو اُطْلُقي"، فلا تَطلُق؛ لأنَّ المقصود هو إيقاع الطَّلاق، وقوله: "طلِّقي، أو اُطْلُقي" ليس إيقاعًا، وإنما هو أمرٌ بالطَّلاق، فالأمر لا يدخل في ذلك.
ولو قال: "طَلِّقي" وقصَدَ توكيلها في الطَّلاق فهذه مسألة ثانية، فإذا قالت: "طلَّقتُ نفسي" فإنَّها تطلق.
اللَّفظ الثَّاني من ألفاظ الطَّلاق التي لا تدخل: لفظ اسم الفاعل، مثل قوله: "أنتِ مُطلِّقَة"، يعني: وقع منكِ الطَّلاق، والطَّلاقُ لا يقعُ من المرأةِ، وإنَّما الطَّلاق الذي يحصُل به الفِراق هو الطَّلاق الذي يقع عليها، فإذا قال: "أنتِ مُطلَّقةٌ" يقع به الطَّلاق، ولكن لو قال" أنتِ مُطلِّقَة" هذا لا يحصل به طلاق.
ومثل ذلك: لفظ المضارع، فلو قال: "أنتِ تطلقين"، فإنَّ هذا ليس إيقاعًا عليها، وإنَّما هو وعدٌ بالطَّلاقِ أو نحوه، وإن كان هذا اللفظ عند بعضهم يحتمل؛ لأنَّه يكون كالإخبار، كأنَّه يقول: أخبرتُكِ بأنَّ الطَّلاق واقعٌ عليكِ، كأنَّه الآن يجري عليكِ؛ لأن المضارع دالٌّ على الحصولِ في الحالِ.
إذن؛ لفظ "الطَّلاق" وما تصرَّفَ منه ممَّا يصلح لإيقاع الطَّلاق فإنَّه يحصل به، سوى الألفاظ الثلاثة التي ذكرناها.
أمَّا بلفظ الماضي والمصدر واسم المفعول، ونحو ذلك؛ فإنَّه يقع به الطَّلاق متى ما صدرَ من الزَّوجِ هذا اللفظ.
لقائل أن يقول: ماذا لو أنَّ الزَّوج قاله على سبيل الهزل، فما الحكم؟
نقول: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالعتَاقُ» ، هذا من جهةٍ.
لو قال: أخطأتُ، أردتُّ أن أقول لها: أنتِ طاهر -يعني متطهِّرة من الحيض- فسَبَقَ لساني فقلتُ: أنتِ طالق!
فيقول أهل العلم: إنَّ هذا لفظ طلاق والأصل إيقاعه، لكنَّه يُقبَل منه ديانة -فيما بينه وبين الله؛ لأنَّ الله أعلم بنيَّته- ولكن لو عُرِضَ إلى القضاء فإنَّ القاضي يحكم بالظَّاهر، فما دام أنَّه قال: "أنتِ طالقٌ" وصدر منه هذا اللفظ، فيُجري عليه ما ترتَّبَ عليه من أثرٍ.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ).
يترتَّب على التلفُّظ بلفظِ الطَّلاق أنَّه يقع به الطَّلاق في كلِّ حالٍ، نوى أو لو لم ينوِ، جادًّا أو هازلًا؛ يقع الطَّلاق في كلِّ الأحوال، ما دام أنَّه تحرَّكت شفته أو نطقَ فمه بهذه الألفاظ: "أنتِ طالقٌ، أنتِ الطَّلاق، أنتِ مُطلَّقةٌ، طلَّقتُكِ"؛ فإنَّه يقع منه الطَّلاق، وتكون زوجته قد وقع عليها لفظ الطَّلاق، ودخلت في عدَّتها، ويترتب عليها ما يترتب على الطَّلاق، إن كانت الطَّلقة الأولى أو الثَّانية فيكونُ طلاقًا رجعيًّا، له أن يُراجعها في العدَّة على ما سيأتي، وإن كانت الثَّالثة من تطليقاتها فإنَّه طلاقٌ بائنٌ لا رجعة فيه إلا بعد أن تتزوَّجَ زوجًا آخر.
ثم قال: (وَمَا عَدَاهُ مِمَّا يَحْتَمْلُ الطَّلاَقَ فَكِنَايَةٌ لاَ يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَهُ)، انتهينا من صريح الطلاق والآن نتكلَّم على كنايته.
الكناية: هو اللفظ الذي يحتمل الشَّيء ويحتمل سواه.
فكناية الطَّلاق: اللفظ الذي يحتمل الطَّلاق ويحتمل غيرَ الطَّلاق.
فإذا قال: "أنتِ بتَّةٌ"، البتَّة يعني: المقطوعة، فقد يقصد بذلك أنَّها مقطوعة من الأولاد، أو مقطوعة من الوالدين، فلا والد لها ولا والدة، فيحتمل ذلك ويكونُ معنًى صحيحًا، ويُمكن أن يكون قد قصدَ به الطَّلاق، فقوله: "أنتِ بتَّةٌ" يعني: مبتوتةٌ منِّي، وليس بيني وبينكِ نكاحٌ؛ فيكونُ طلاقًا.
إذن هو يحتمل الطَّلاق ويحتمل غيره، فإذا كان يحتمل الطَّلاق ويحتمل غيره فهو لَفظ من ألفاظ الطَّلاق ولكنَّه مَشروطٌ.
وشرطه: أن تكون من المُتكلِّم نيَّةٌ، وشرطُ هذه النِّيَّة أن تكون مقارنة للقول، فإذا قال: "أنتِ بتَّةٌ" وقد استقرَّ في قلبه حينما نطق بهذه الكلمة أنَّه قصدَ مَقطوعة من النِّكاح، أو مبتوتة من النِّكاح؛ فهذا طلاقٌ.
أمَّا إذا لم ينوِه، أو نوى الطَّلاق بعدَما لَفِظَ به، فقال مثلًا: "أنتِ بتَّة"، ثم قال: قصدتُّ بها الطَّلاق الآن؛ فنقول: لا يصح الطَّلاق بلفظِ الكناية إلا أن يكون بنيَّة مُقترنةٌ به؛ لأنَّ اللفظ حينما وقع قد وقع بدونِ نيَّة؛ فإذن يحتمل الطَّلاق ويحتمل غيره، ولا تنفع النِّيَّة اللاحقة، بل لابدَّ أن تكون النِّيَّة مُقارِنَة للفظِ حينما لفظَ به فيكون طلاقًا.
ذكر بعض أهل العلم أنَّ الكناية ربَّما احتفَّت بغيرِ النِّيَّة وحُمِلَت على الطَّلاق، مثل حال الغلط.
فإذا قال رجل لزوجته: "الحقي بأهلك" وقال: ما نويتُ الطَّلاق، ولكنَّه حال غضب.
يقول العلماء: إنَّ حال الغضب قرينةٌ دالَّةٌ على أنَّه لم يُرد ذهابها إلى أهلها، وإنَّما أراد بذلك وقوع الطَّلاق.
وقرينة الغضب ممَّا قد يرد فيها الخلاف؛ لأنَّه قد يقول: "الحقي بأهلكِ" ويقصد بذلك أنَّها تذهب لأهلها حتى لا يكبر الإشكال بينهما ويعظُم الأمر، فإذا كان كذلك فقد نوى غيرَ الطَّلاق، فإذا كان قد نوى غير الطَّلاق فلا يقعُ بذلك، وهو مُديَّنٌ في هذا فيما بينه وبينَ الله تعالى.
وألفاظ الكناية لا تقع إلا أن يُقر بأنَّه الطَّلاق، فإذا قال: "أنتِ بتَّة أو بتلة"، أو لفظ بأي لفظٍ، ثم قالت المرأة: طَلَّقَني. فقال الزَّوج: ما طلَّقتُها. فقالت الزَّوجة: قال كذا...، وهذه من ألفاظ الكناية -والمرأة فقيهة تعرف ألفاظ كناية الطَّلاق وصريحه وهي تريد الخلاص منه- فقال الزَّوج: أنا ما نويت؛ فنَكِلُه إلى ذمَّتِهِ وأمانتِهِ، فيكون بينه وبينَ الله، فإذا قال: أنا نويتُ الطَّلاق فإنَّ الطَّلاق يقع، وإن قال: أنا لم أنوِ الطَّلاق؛ فنقول: لا يقع الطَّلاق ولا يلزمه طلاقٌ بذلك، ويحكم القاضي بعدم نفاذ الطَّلاق ما دام أنَّه لم يُقرَّ بنيَّةٍ مقارنةٍ لذلك.
{حتى ولو كان مقرونًا بالغضب؟}.
الغضب قرينةٌ على الطَّلاق، ولكن إذا جاءت عنده نيَّة وقال: أنا ما قصدتُّ ذلك، فيحتمل ألا تكون، وإن كان الحنابلة يُطلقونَ أنَّ الغضب يقع معه كناية الطَّلاق على الإطلاقِ، ولكن هو محتملٌ لِمَا ذكرنا.
قال: (فَلَوْ قِيْلَ لَهُ: أَلَكَ امْرَأَةٌ؟ قَالَ: لاَ، يَنْوِيْ اْلكَذِبَ، لَمْ تَطْلُقْ)؛ لأنَّه سُئِلَ فقال: "ليست لي امرأة"؛ لأنَّهم يقولون: إنَّ السُّؤالَ معادٌ في الجوابِ، فإذا قيل له: "ألكَ امرأة؟ فقال: لا"، فكأنه قال: ليس لي امرأة، وهذه اللفظة ليست صريحة في الطَّلاق، فليس فيها لفظ "طلاق" ولا ما تصرَّف منه.
إذن هي كناية في الطلاق، فإذا أراد الكذب لم تطلُق، أمَّا إذا أراد أنَّه لا زوجة له فكانَّه نوى تطليقها، فلأجل ذلك قال المؤلف: (فَلَوْ قِيْلَ لَهُ: أَلَكَ امْرَأَةٌ؟ قَالَ: لاَ، يَنْوِيْ اْلكَذِبَ)، يعني: لم ينوِ الطلاق. قال: (لَمْ تَطْلُقْ)، أمَّا لو نوى الطَّلاق فإنَّها تطلُق لِمَا قلنا من أنَّ هذه اللفظة لفظٌ من كنايات الطَّلاق، فتُحمَل على الطَّلاق إذا نوها.
وبناء على ذلك لو قيل له: "أطلَّقتَ امرأتك؟ فقال: نعم، وهو لم يُطلِّقها" فإنَّها تطلق؛ لأنَّ السُّؤال مُعاد في الجواب، كأنَّه قال: نعم طلَّقتُ امرأتي، فهذا لفظٌ صريحٌ في الطَّلاق، ولا معنى له إلا الطَّلاق، وبناء على ذلك يقع.
ثم قال المؤلف: (وَإِنْ قَالَ: طَلَّقْتُهَا، طَلُقَتْ وَإِنْ نَوَى اْلكَذِبَ)، مثلما قلنا: لو قيل له: "ألكَ امرأة؟ فقال: طلَّقتها"، أو قيل له: "أطلَّقت امرأتك؟ فقال: نعم"، فإنَّ هذا يكون كما لو صرَّحَ بالطَّلاق، فيقع الطَّلاق ولو لم يكن قد نواه.
{بعض الناس يقولها أشبه ما يكون بالمزح، فيقال له: هل طلَّقت امرأتك؟ فيقول: نعم. فهل يقع الطلاق}.
هذا ليس فيه مزح، فإذا قيل له: "أطلَّقت امرأتك؟ فقال: نعم"؛ فهذا كأنَّه قال: نعم طلَّقتُ امرأتي، ومَن لَفِظَ بالطَّلاق فقد وقع عليه.
فهذه أمور ليس محلًّا للعبِ ولا للهزلِ، وهي أمورٌ عظيمة يترتب عليها أشياء كبيرة، فلا ينبغي للإنسان أن يتساهل بذلك البتَّة، ويتجنَّب إيرادها إلا على وجهٍ مَقصودٍ صحيحٍ، وإلَّا فإنَّ هذا قد يُدخله في نفقٍ تلحق به تبعته في الدنيا والآخرة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ قَالَ لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ، أَوْ بَرِيَّةٌ، أَوْ بَائِنٌ، أَوْ بَتَّةٌ، أَوْ بَتْلَةٌ، يَنْوِيْ طَلاَقَهَا طَلُقَتْ ثَلاَثًا إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ دُوْنَهَا، وَمَا عَدَا هَذِهِ يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةً إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ ثَلاَثًا)}.
هذا شروعٌ من المؤلف في ألفاظ كنايات الطَّلاق، وكأنَّه أشار -وإن لم يصرح بذلك تصريحًا ظاهرًا إلى أنَّ كناية الطَّلاقِ على قسمين:
- إمَّا أن تكون كناية صريحة.
- أو كناية خفيَّةٌ.
فبدأ المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- بالكناية الصَّريحة، كقوله: (أَنْتِ خَلِيَّةٌ، أَوْ بَرِيَّةٌ، أَوْ بَائِنٌ، أَوْ بَتَّةٌ، أَوْ بَتْلَةٌ)؛ فهذه ألفاظ دالَّة على انقطاع الزَّوجيَّة من كلِّ وجهٍ.
فقوله: "أنتِ خليَّةٌ" يعني: خاليةٌ من الأزواج، فلا زوجَ لكِ.
وقوله: "أنتِ بريَّةٌ" يعني: بريئةُ من الزَّوجيَّة، فليسَ ذمَّتكِ عقد زوجيَّة ولا تبعاتها.
وقوله: "أنتِ بائنٌ"، البينونة من الانقطاع التَّام.
وقوله: "أنتِ بتَّةٌ، أو بتلةٌ"، يعني: مقطوعة.
فكلُّ هذه ألفاظ كناية في الطَّلاق، وهي كناية مُغلَّظَة أو كناية صريحةٌ، وبناء على ذلك فإنَّها تحتمل الطَّلاق البائن الذي هو ثلاث تطليقات وذلك إذا نواه.
فإذا قال: نويتُ الطَّلاق. فنقول: تقع ثلاث طلقات.
وقول الحنابلة من كون ألفاظ الكناية يقع بها ثلاث تطليقات فيه إشكال، فقد يُقال: كيف أنَّ صريحَ الطَّلاق وهو اللفظ الذي وُضِعَ للطَّلاق أصالةً لا يقع به إلا واحدة؛ فيكف توقعون بالكناية التي تحتمل الطَّلاق وتحتمل غيره ثلاث تطليقات؟
والحقيقة أنَّ هذا مبني عندهم على أمرين:
أولًا: أنَّ جمعٌ من الصَّحابة حكمَ بذلك، فجاء ذلك عن ابن عمر وغيره.
فقالوا: لَمَّا حكم بذلك الصَّحابة ولم يُعرَف لهم مخالفٌ كان المصير إلى قولِ الصَّحابة؛ لأنَّه وإن لم يكن إجماعًا سكوتيًّا فإنَّه قول صحابي، وقول الصَّحابيِّ حُجَّة في المشهور عنهم.
ثانيًا: إنَّ هذه ألفاظ دالَّةٌ على الانقطاع التَّام الذي لا اتِّصال بعدَه أو لا رجعةَ فيه، فإذا نواها فقد نوى الطلاق الأشد، بخلاف لفظ الطَّلاق، فإنَّه يدلُّ على مُطلَق الانفصال، فقد يدل على الانفصال الذي يُمكن فيه الرَّجعَة، وقد يدل على ما هو أشد من ذلك، فلأجل ذلك حملوه على ثلاث تطليقات، والأصل عندهم أقوال الصحابة -رضوان الله عليهم وأرضاهم.
ثم قال: (يَنْوِيْ طَلاَقَهَا طَلُقَتْ ثَلاَثًا إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ دُوْنَهَا).
أمَّا إذا قال: أنا نويتها طلاق، ولكن نويت بقولي: "بتَّةٌ" أنَّها طالقٌ واحدة. فنقول: نعم.
لكن لو قال: أنا نويتُ الطَّلاق، وسكتَ وقد تلفظ بهذه الألفاظ، فنقول: هذه الألفاظ وقد حكمَ فيها الصَّحابة بثلاث تطليقات، فيقع عليكَ ما حكم به الصَّحابة -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
ثم قال: (وَمَا عَدَا هَذِهِ يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةً)، يعني: ما عدا الألفاظ التي هي مغلَّظةٌ في الكناية أو صريحةٌ في كناية الطلاق.
أمَّا الكناية الخفيَّة فقد أشار إليها المؤلِّف إشارةً ولم يقف عندها ولم يسردها، وسبب ذلك أنَّها كثيرة، ولذلك عدَّ الحنابلة فيها عشرين لفظًا، منها: "أُخرُجي، أو تحجَّبي"؛ لأنَّه إذا قال: "تجَّبي" فكأنَّها محرَّمةٌ عليه، أو قال لها: "غطِّي شعركِ"، أو نحوًا من هذه الألفاظ.
وقالوا: إنها خفيَّة؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لإحدى زوجاته: «الْحَقِى بِأَهْلِكِ»، وهذا من ألفاظ الكنايةٌ في الطَّلاق، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يصدر منه تطليقات ثلاث، فعلمنا أنَّ الكنايات الخفية هي طلقةٌ واحدة كما في حديث الجونيَّة التي طلقها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقوله: «الْحَقِى بِأَهْلِكِ»، لمَّا قالت له: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ. فَقَالَ لَهَا: «لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الْحَقِى بِأَهْلِكِ»)، فأخذوا من هذا أنَّها تطليقة واحدة، فألحقوا بذلك كل الكنايات الحفية.
ويقولون: إنَّ هذا هو الأصل، فإذا قال: إنه نوى الطَّلاق، فيقع الطَّلاق ونُجري عليه واحدة.
ولكن لو قال: أنا قصدتُّ بقولي: "تغطِّي أو تحجَّبي" ثلاث تطليقات؛ فنمضيها عليه؛ لأنَّه قصد الطلاق، واللفظ يحتمل التَّطليقة الواحدة ويحتمل الثلاث تطليقات، فنُمضي عليه ما نوى، لكن لو نوى الطَّلاق مُطلقًا ولم ينقدح في نفسه عددٌ معيَّنٌ فنقول: ما دام أنَّها كناية خفيَّة فإنها تقع طلقةٌ واحدة.
{مرَّ معنا سابقًا أنَّ جمع الثَّلاث طلقات في لفظ واحد من الطَّلاق البدعي، فهل ألفاظ الكناية هذه تُعد من الطلاق البدعي؟}
المقصود ببدعيَّة جمع الثلاث طلقات في لفظ واحدٍ أنه محرَّم -كما قلنا فيما مضى- وهذا مذهب جمهور أهل العلم، خلافًا للشافعيَّة، فجمع الثَّلاث طلقات محرَّمٌ سواء كان ذلك بلفظِ الطلاق كأن يقول: "أنتِ طالقٌ ثلاثًا"، أو بتكراره كأن يقول: "أنتِ طالق، طالق، طالق"، وقصد التَّأسيس لا التَّأكيد، أو قال: "أنت طالق وطالق وطالق"، أو قال: "أنتِ طالق، ثم طالق، ثم طالق"، أو كان ذلك بالكنايات ونوى بها التَّطليقات الثَّلاث، أو من الكنايات الظَّاهرة التي يقع بها تطليقات ثلاث؛ نقول: هي تقع ثلاث، وهو آثمٌ في كلِّ ما قلناه؛ لأنَّه فَعَلَ ما لا يجوز له فعْلُه، والله -جلَّ وعَلَا- قال: ï´؟الطَّلَاقُ مَرَّتَانِï´¾ [البقرة:229]، ثم قال: ï´؟فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىظ° تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُï´¾، فلا يجوز إيقاع الطلاق مُتتابعًا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، طَلُقَتْ وَاحِدَةً، وَإِنْ لَمْ تَخْتَرْ أَوِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، قَالَتْ عَائِشَةٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: قَدْ خَيَّرَناَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَفَكَانَ طَلاَقًا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ إِلاَّ فِي الْمَجْلِسِ، إِلاَّ أَنْ يَجْعَلُهُ لَهَا فِيْمَا بَعْدَهُ، وَإِنْ قاَلَ لَهَا: أَمْرُكَ بِيَدِكِ، أَوْ طَلِّقِيْ نَفْسَكِ، فَهُوَ فِيْ يَدِهَا حَتَّى يَفْسَخَ أَوْ يَطَأَ)}.
هذه مسألةٌ لطيفةٌ جدًّا.
مسألة التَّخيير أن يجعل لها الاختيار فيقول: "اختاري"، فعندَ أهل العلم أنَّ هذا يحصل به الطَّلاق إذا اختارت، وإلَّا فلا شيء؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيَّرَ زوجاته فاخترنَه، فلو كان مجرَّد التَّخيير طلاقًا لكنَّ قد طلُقنَ بمجرد التخيير لهنَّ، ولكن ما جاء في الحديث الذي في الصحيحين أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيَّرهنَّ فلم يُعتَبر ذلك طلاقًا.
قال: (وَإِنْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، طَلُقَتْ وَاحِدَةً)، إذن التَّخيير ليس طلاقًا حتى ينضمَّ إليه شيء آخر وهو اختيارها، كأن تقول: "اخترتُ نفسي، اخترتُ الطلاق، اخترتُ فراقك"، فإذا قالت شيئًا من ذلك طَلقَت، فالتَّطليق لم يكن بمجرَّد التَّخيير، وإنَّما بالاختيار الذي وقع منها بعدَ جعل التَّخيير إليها.
ثم قال: (وَإِنْ لَمْ تَخْتَرْ أَوِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ)، إذن لو قال لها: اختاري؛ فسكَتَت. نقول: ليس بطلاق.
أو قالت: اخترتُ الزَّوجيَّة، أو اخترتُ بيتي، اخترتُ زوجي؛ فنقول: هذا لا يعتبر شيء، ولم يقع بذلك طلاق، ولا يلحقها شيء.
وكما قلنا: إنَّه قد جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه خيَّرَ أزواجه فاخترنه -رضوان الله تعالى عليهنَّ وأرضاهنَّ.
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا خيَّرَ أزواجه فكلهنَّ كنَّ يقلنَ: ما قالت عائشة؟ لأنَّهن يعرفنَ حب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعائشة، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما خيَّرَ عائشة فكأنه كان مُشفقًا أن تختار نفسها وهو يريدها، فقال لها: «فَلاَ عَلَيْكِ أَنْ لاَ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ»؛ لأنَّه يعرف أنَّ أبويها لن يأمرانها إِلا بالبقاء والمكث في الزَّوجيَّة.
ثم يقول المؤلف: (وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ إِلاَّ فِي الْمَجْلِسِ).
هذا قيدٌ مُهمٌّ، فإذا قال لها: "اختاري" فمناط الاختيار إنما هو الحال ما داما في المجلس، فإذا تفرَّقا انتهى هذا الخيار، فلو أنَّها اختارت بعدَ ذلك وقالت: اخترت، أو لَمَّا خرجت من المجلس اتصلت بأخيها أو بأختها أو بأحد فقال لها: اختاري نفسك؛ فنقول: لا، التخيير بمثابة العقد وليس بمثابة التَّوكيل، وبناء على ذلك إمَّا أن يحصل على الفور، وإلَّا فلا حُكمَ له، فما داموا في المجلس فهي على اختيارها، فإذا اختارت نفسها طلقت، ولكن إذا خرجت من المجلس انتهى التَّخيير، ولو اختارت نفسها ألف مرَّةٍ فلا ينفع ذلك؛ لأنَّ التَّخيير قد انتهى محلُّه وفات موضعه، إلا في حالٍ واحدة؛ وهي أن يجعل لها ذلك، وهذا إذا ما قال لها: اختاري، ولكِ ذلك مدَّة سنةٍ، أو شهرًا، أو متى ما شئتِ؛ فيبقى لها الاختيار حتى ينزعه منها؛ لأنَّ التخيير بمثابة العقد -كما قلنا- فكأنه قال: اشتريتُ منك، فإذا كانا في المجلس وقَبِلَ؛ تمَّ البيع، ولكن إذا تفرَّقا من المجلس انتهى الخيار.
قال المؤلف: (إِلاَّ أَنْ يَجْعَلُهُ لَهَا فِيْمَا بَعْدَهُ)، كأن يقول لها: شاوري نفسكِ أسبوعًا ولكِ الخيار، فهذا التَّخيير لها، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعائشة «فَلاَ عَلَيْكِ أَنْ لاَ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ»، واستئمارها لأبويها سيحتاج إلى وقتٍ لأن تذهب إليهما وتشاورهما وترد في ذلك وتأتي.
إذن إذا جاء التَّخيير فالأصل فيه أن يكون على الفور، ولا يتجاوز المجلس، فإذا تجاوز المجلس فإنَّ التَّخيير انتهى، وإن اختارت نفسها فلا أثرَ لذلك ولا حكمَ له ولا تطليق، إلا في حالٍ واحدةٍ وهو أن يقول لها: اختاري ولكِ الخيار يومًا، أو لكِ أبدًا، أو متى ما اخترتِ نفسكِ فأنتِ كذلك، أو أن يقول: سنة، أو شهر، أو سنةً، أو وقتًا، أو أن يعلقه على شيء كأن يقول: إلى أن تشاوري أبويكِ، أو تراجعي نفسكِ أو نحو ذلك.
ثم قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- تتميمًا للمعنى: (وَإِنْ قاَلَ لَهَا: أَمْرُكَ بِيَدِكِ، أَوْ طَلِّقِيْ نَفْسَكِ، فَهُوَ فِيْ يَدِهَا حَتَّى يَفْسَخَ أَوْ يَطَأَ).
قوله: (وَإِنْ قاَلَ لَهَا: أَمْرُكَ بِيَدِكِ، أَوْ طَلِّقِيْ نَفْسَكِ)، هذا ليس بابه باب التَّخيير، وإنَّما بابه باب التَّوكيل، وباب التَّوكيل مفتوح.
فإذا قال لها: أمركِ بيدك. فقالت: طلَّقتُ نفسي اليوم، أو غدًا، أو بعدَ أسبوعٍ، أو بعدَ شهرٍ.
أو قال: طلِّقي نفسك. فقالت: طلَّقت نفسي -في نفس الموضع- أو بعدما كبُرَ ولدها، أو بعد عشرُ سنوات؛ فهي كذلك، إلا أن يحصلَ منه ما يدلُّ على نقض التَّوكيل بأن يفسخه، فيقول: ما طلقتِ نفسكِ ولا اخترتِ فانتهى الأمر.
فنقول: هذه وكالةٌ قد فُسِخَت.
قال: (أَوْ يَطَأَ)؛ لأنَّ الوطء دليلٌ على إقباله عليها وعدم الرَّغبةِ عنها، فكأنَّه فَسخٌ فِعليٌ، وبناء على ذلك إذا وطئها فكأنه قال: لا تُطلِّقي نفسكِ وأنا أُريدكِ.
فكأن المؤلف يقول: إنَّ لفظَ التَّخيير هو كالعقد المقيَّد بالمجلس، إلا أن يجعل لها أكثر من ذلك، أمَّا لفظ التَّوكيل وما ماثله من قوله: "طلقي نفسك، أو أمرك بيدكِ، أو جعلتُ الطَّلاق إليكِ، أو وكَّلتُكِ في طلاق نفسكِ، أو نحوها من العبارات"؛ فهي مفتوحةٌ، فمتى ما طلَّقَت نفسها طلَقَت، إلا أن يفسخ ذلك فيقول: فسختُ وكَالتكِ، أو فسختُ تطليقكَ لنفسكِ، أو ليس لكِ على نفسكِ عصمَةٌ ولا تطليق؛ أو أن يحصل منه الفسخ بالفعل بأن يطأها. فلمَّا جمع المؤلف بينَ هذين اللفظين أرادَ أن يُبينَ الفرقَ بينهما.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ تَعْلِيْقِ الطَّلاَقِ بِالشُّرُوْطِ.
يَصِحُّ تَعْلِيْقُ الطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ، بِشُرُوْطٍ بَعْدَ النِّكَاحِ وَالْمِلْكِ، وَلاَ يَصِحُّ قَبْلَهُ، فَلَوْ قَالَ: إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلاَنَةً، فَهِيَ طَالِقٌ، أَوْ إِنْ مَلَكْتُهَا، فَهِيَ حُرَّة، فَتَزوَّجَهَا أوْ مَلَكَهَا؛ لَمْ تَطْلُقْ، وَلَمْ تَعْتِقْ)}.
الفقهاء -رَحَمَهُم اللهُ تَعَالَى- أطالوا في باب الطلاق، فذكروا تعليق الطَّلاق على أمرٍ حاضرٍ، أو أمرٍ مُستحيلٍ، أو أمرٍ يتكرَّرُ وقوعه، أو نحو ذلك.
هل كان هذا من الفقهاء -رَحَمَهُم اللهُ تَعَالَى- تكلفًا؟
لا، ولكن لَمَّا كانت أحوال النَّاس في التَّطليق مختلفةٌ جدًّا، وَتُعْرض للفقيه مسائل قد لا يكون قد أدركها أو عرفها، فلأجل ذلك اجتهد الفقهاء في أن يجمعوا أكثرَ ما يمكنُ من المسائل التي تزيد من مِرَان الطَّالب، وقوَّة ملكته الفقهيَّة، وإحصاء الوقائع التي حصلت في عهودهم أو قبلها، لأنَّها يُمكن أن تتكرَّر، فإيراد كثير من الألفاظ أن التَّفنُّن في ذلك، وحشو كتب الفقه بمزيد من ذلك ليس من باب التَّكلُّف كما يظن البعض، وإنَّما لَمَّا كانت أحوال النَّاس في التَّطليق متنوِّعَة ويأتيك من الأسئلة ما لم تحسب له حسبان؛ أراد الفقهاء أن يُهيِّؤا الطَّالب لأن يكون عنده من كلِّ الأبواب ما يُعرَف به.
تعليق الطَّلاق يكون بأداة التَّعليق "إنَّ، إذا"، وستأتي الإشارة إلى بعض هذه الأدوات التي هي أدوات الشَّرط.
كثير من الناس لا يعرف الفرق بين الحلف بالطَّلاق وتعليق الطلاق. فما الفرق بين تعليق الطلاق والحلف بالطَّلاق؟
تعليق الطلاق والحلف بالطلاق شيءٌ واحدٌ من جهة التَّركيب، فإذا قال: إذا طلعَ اليومُ فأنتِ طالق، أو إن قمتِ فأنتِ طالق.
فالأوَّل: تعليق للطَّلاق.
والثَّاني: حلف بالطَّلاق.
إذن تعليق الطَّلاق والحلف بالطَّلاق كلُّه مشتملٌ على ألفاظ الشَّرط وتعليق الشَّرط، ولكن الفرق بينهما شيءٌ واحد؛ فإذا كان الطَّلاق الذي عُلِّقَ على أمرٍ لا مدخلَ للمرأة فيه، كأن يعلقه على طلوع الشَّمس، فالمرأة لا تستطيع أن توقف الشمس، أو قال لها: إن ولدتِّ ذكرًا فأنتِ طالق؛ فهي لا تستطيع أن تغيِّر ما في بطنها؛ فهذا تعليق للطلاق.
أمّا إذا كان المُعلَّق عليه يحتمل تصديقًا أو تكذيبًا، أو أمرًا أو نهيًّا وزجرًا فهذا يُسمى حلف بالطلاق، كأن يقول: إن قمتِ فأنتِ طالق؛ فكأنه يقول لها: لا تقومي، فهو زجرٌ عن القيام، فهو ليس حلف؛ لأنَّ الحلف في الشَّرع يكون بأحرُف القسَم مقرونة بلفظ الجلالة "والله، تالله، بالله"، وألفاظ الطلاق ليس فيها حلف، فهي ليست حلفًا، وإنَّما سموه حلفًا بالطَّلاق على سبيل التَّجوُّز، وذلك لأنَّ فيها معنى الحلف، فكما أنَّ الإنسان إذا حلف ألا يأكل طعامًا أنَّ هذا زجرٌ له عن أكله، أو أنَّه يذهب إلى كذا، أنَّه حملٌ له على الذهاب، أو تصديق أو تكذيب في الأخبار ونحوها، فكذلك التَّعليق في مثل هذه الأحوال يُساوي الحلف من جِهةِ أنَّه أمرٌ أو نهيٌ أو تصديقٌ أو تكذيب.
بعض الناس يقول: إنَّ الطَّلاق حلفٌ بغير الله، لا؛ ليس حلف بغير الله.
فلْيُعلَم الفرق فقط: أنَّ التَّعليق في الطلاق والحلف بالطَّلاق متفقان من أنَّهما مشتملانِ على أحرفِ الطَّلاق وعلى أسماء الشَّرط، وغاية الفرق بينهما أنَّ هذا تعليق على أمرٍ لا مدخل للمرأة فيه ولا أثر لها فيه، وأمَّا الحلف ففيه حثٌّ، كأن يقول: "إن خرجتِ من الدَّار فأنتِ طالق"، فهذا حلف بالطَّلاق، أو قال: "إن خلعتِ حجابكِ فأنتِ طالق"، فهذا أيضًا حلف بالطَّلاق، أو قال: "إن ذهبتِ إلى كذا أو كذا فأنتِ طالق"، فهذا حلف بالطلاق؛ لأنَّه حثٌّ لها أو زجرٌ عن ذهابٍ ونحوه.
الحلف بالطلاق عند ابن تيمية: إن قصدَ به اليمين أو أجراه مجرى اليمين؛ فعليه كفارة يمين.
والمذهب عند الحنابلة وعند جمهور أهل العلم: أنَّ مَن حلف بالطَّلاق إذا وقع المعلَّق عليه أو المحلوف به من خروجها أو قيامها، أو كشفها لوجهها، أو غير ذلك من الأمور؛ فإنَّه يقع الطَّلاق لا محالة.
وهنا مسألةٌ مُهمَّة لأنَّ كثيرٌ من النَّاس يُخطئ فيها، وهي: أنَّ تعليق الطلاق سواء كان ذلك على سبيل التعليق المجرد أو كان على سبيل الحلف واليمين؛ فإنَّه لا رجوع فيه البتَّة، ولأجل ذلك ينبغي لكثيرٍ من النَّاس ألا يلفظَ به، بعض النَّاس يُريد أن يُؤدِّب زوجته فيقول: "إن خرجتِ إلى السُّوق فأنتِ طالق"، كيف تفعل ذلك؟! إن لم تخرج اليوم ذهبت غدًا، وإن لم تذهب غدًا ذهبت الشهر القادم، وإن لم تذهب الشهر القادمة ذهبت بعد سنة!
فنقول: إنَّ مَن لفظ بالتَّعليق لا يُمكن له أن يردَّه، فلا يقول لها: رجعتُ؛ لا؛ لأنَّ حقيقة التَّعليق أنَّه إيقاع، كأنَّها رصاصة رميتَ بها، فهي الآن خرجت، فقط متى تصيب الهدف، فكما أنَّ هذه الرصاصة إذا خرجت لن تستطع ردَّها فكذلك لفظ الطلاق المعلق إذا خرج منك لم تستطع ردَّه، فلأجل ذلك نوصِي وينبغي لطلبة العلم أن يوصوا الناس ألا يلجؤوا إلى ذلك، حتى ولو كان من المرأة مشاغبة في أمرٍ، أو إتعابٌ في شأنٍ أو نحوه، فإنَّ هذا يوشك أن يولجك مولجًا صعبًا، ويوردك موردًا فيه الحرج، فليتنبَّه النَّاس لذلك، وكم من النَّاس الذين يدعون على أنفسهم بالويل والثبور؛ لأنَّهم علقوا هذه الألفاظ، والأعجب في هذا أنَّ كثيرًا مِنَ النَّاس يلجأ إليه! وهذا جهلٌ منهم بالأحكام، واستخفاف بالطَّلاق، وقلَّةٌ في الرُّجولَة، وإلا فإنَّ الرَّجل يستطيع أن يحكم زوجه ويؤدِّبها، وأن يحملها على الخير، وأن يبعدها عن أشياء كثيرة بما دون الطَّلاق.
ومَن عَرَفَ الأثر المترتب عليه فإنَّه يوشك ألا يلجأ إلى ذلك البتَّة، وهذه من المور المهمَّة للغاية لكثرة وقوعها بينَ النَّاس.
قول المؤلف: (يَصِحُّ تَعْلِيْقُ الطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ)، أوردَ العَتَاق على سبيل التَّكميل والتَّسوية، فلو قال لعبده: إن ذهبتَ إلى المسجد فأنت حرٌّ، فعلَّقَ العتق بذهابه إلى المسجد، أو بإسلامه، فإن قال: إن أسلمت لله -جلَّ وعَلَا- فأنتَ حرٌّ، أو علَّق العتق على أسباب أخرى.
إذن عليق الطَّلاق والعَتَاق بشرطٍ صحيح، ويُعتبر حال كون الإنسان مالكًا له، فإن قال شخص لامرأة -وهي ليس زوجته: إن خرجتِ فأنت طالق؛ ثم تزوَّجها، فالطلاق لا يقع، لأنَّه حين علق الطلاق لم يكن يملك عليها طلاقًا.
ولو قال لامرأة في الشَّارع: أنتِ طالق؛ لم تطلق، فكذلك إذا علَّق طلاقها لم تطلق، فإذا كان الطلاق المنجَز لم يقع فكذلك الطَّلاق المعلَّق لم يقع ولم ينعقد.
وبناء عليه لو قال: إن تزوجتُ فلانة فهي طالق، أو قال لامرأة: إن خرجتِ فأنت طالق، ثم تزوَّجها؛ فنقول: لا طلق، لأنَّ الطَّلا فرعٌ عن النِّكاح، فلمَّا لم يكن منه نكاح فبناء على ذلك لم يكن منه طلاق.
ولو أنَّه تزوَّجها بعد ذلك فنقول: إنَّ حال التَّلفُّظ بالطَّلاق وإيقاعه لم يكن أهلًا لذلك، وبناء على ذلك لا يصح الطَّلاق.
وكذلك العِتَاق والمِلك، فلو قال: إن ذهبتَ إلى المسجد فأنت حرٌّ لوجه الله، أو إن أسلمت فأنت حرٌّ إلى وجه الله؛ ثمَّ اشترى العبد، فقال: أنا أُسلِمُ الآن. فنقول: مِلكُكَ باقٍ ولا يؤثر إعتاقك له قبل ملك له في شيء، وإن أردتَّ إعتاقه فلكَ أن تعتقه مرَّة ثانية.
فلأجل ذلك قال المؤلف: (يَصِحُّ تَعْلِيْقُ الطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ بِشُرُوْطٍ بَعْدَ النِّكَاحِ وَالْمِلْكِ، وَلاَ يَصِحُّ قَبْلَهُ، فَلَوْ قَالَ: إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلاَنَةً، فَهِيَ طَالِقٌ، أَوْ إِنْ مَلَكْتُهَا، فَهِيَ حُرَّة، فَتَزوَّجَهَا أوْ مَلَكَهَا؛ لَمْ تَطْلُقْ، وَلَمْ تَعْتِقْ).
إذن اللفظ الذي حصل من التَّعليق قبل النِّكاح فلا أثر له، ولو أن نكحها بعدَ ذلك ثم حصلَ المعلَّق عليه من طلوع الشَّمسِ أو من خروجٍ، أو من قيامٍ، أو من ذهابٍ إلى أهلها، أو غير ذلك من الشُّروطِ؛ فلا ينفذ طلاقه، لأنَّه طلَّقها حال كونه ليس مالكًا لذلك.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَأَدَوَاتُ الشَّرْطِ سِتٌّ: إِنْ، وَإِذَا، وَأَيُّ، وَمَنْ، مَتَى، وَكُلَّمَا وَلَيْسَ فِيْهَا مَا يَقْتَضِيْ التِّكْرَارَ إِلاَّ "كُلَّمَا")}.
أي "كلَّمَا" ليست من أدوات الشَّرط.
وهذه الألفاظ التي ذكرها الفقهاء هي الأشهر، وإلَّا فإنَّ أدوات الشَّرطِ كثيرةٌ جدًّا، ويعدُّها أهل اللغة والنَّحو في موضعها من كتب النَّحو، ولكن لكثرة الحاجة إليها أشار المؤلف إلى ذلك.
فيقول: هذه أدوات الشَّرط التي يحصل بها تعليق الطلاق.
فإذا قال: "إذا خرجتِ فأنتِ طالق، إذا قمتِ فأنتِ طالق، أيُّ واحدةٍ منكنَّ ذهبت فهي طالقٌ، متى ما أكلتِ الخبزَ فانتِ طالقٌ، مَن دخلت دار جارتها فهي طالقٌ، أو كلَّما سبَبتِ زوجكَ فأنتِ طالق".
فهذه أدوات الشَّرط، وإذا علَّقها فهذا تعليق للطلاق، وهذه الألفاظ تعدُّ حَلفًا بالطَّلاق على ما قلنا من أنَّ فيها زجرٌ أو حثٌّ، سواء كانت على الحلف أو على مجرَّد التعليق الخارج عن إراد المرأة، كأن يقول لها: "إن جاء زيدٌ فأنتِ طالق"، فهي لا تستطيع أن تذهب وتجيء بزيد. أو قال لها "إذا طلعت الشَّمس فأنتِ طالق، أو إذا جاء المطر في هذا اليوم فأنت طالق"، فهذه أدوات الشَّرط التي يحصل بها التَّعليق، أو الحلف بالطلاق.
قال المؤلف: (وَلَيْسَ فِيْهَا مَا يَقْتَضِيْ التِّكْرَارَ إِلاَّ "كُلَّمَا")، يعني لو قال: "كلما قمتِ فأنتِ طالق"، فإذا قامت طلُقَت، فإذا قامت مرَّة ثانية تطلق الطَّلقة الثانية، وإذا قامت ثالثة طلُقَت الثلاث طلقات وبانت منه.
إذن الأصل أنَّه إذا علَّق الطَّلاق بأدوات الشَّرط كلها، فإذا وقع الشرط حصلت تطليقة، ثم تنحل اليمين، إذا إذا كان التَّعليق بــ "كلَّما" على ما ذكرنا من المثال الذي سمعتموه.
{قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَكُلُّهَا إِذَا كَانَتْ مُثْبَتَةً، ثَبَتَ حُكْمُهَا، عِنْدَ وُجُوْدِ شَرْطِهَا فَإِذَا قَالَ: إِنْ قُمْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَامَتْ، طَلُقَتْ، وَانْحَلَّ شَرْطُهُ)}.
قوله: (وَكُلُّهَا إِذَا كَانَتْ مُثْبَتَةً)، يعني: في حال الإثبات وليس في حال النَّفي.
مثال حال الإثبات، إن قال لها: "إن قمتِ فأنتِ طالق، أو إن تعرَّيتِ فأنتِ طالق، أو إن خرجتِ فأنت طالق"؛ فالأصل أنَّ الزَّوجية باقية، فإذا جرى منها المُعلَّق عليه -وهو خروجها إلى السُّوق، أو تعرِّيها- فيقع الطَّلاق، فإذا وقع الطَّلاق فالأصل أنَّه طلاق رجعي إن لم يكن طلَّقَها قبل ذلك، وبناءً على هذا فله أن يُراجعها، فإذا راجعها فخرجت إلى السُّوقِ مرَّةً ثانية أو تعرَّت فلا يقع عليها طلقة ثانية، لأنَّ هذا الشَّرط ينحلُّ بمرَّةٍ واحدة، لأنَّ األفاظ الشَّرط كلها سوى "كلَّما" لا تقتضي التَّكرار.
وحال النفي، كأن يقول لها: "إن لم تقومي فأنتِ طالق".
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا قُمْتِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، طَلُقَتْ كُلَّمَا قَامَتْ)}.
أمَّا "كلَّمَا" فهي بخصوصها التي تدلُّ على التَّكرار مثلما قلنا، فإذا قال لها: "كلَّما أكلتِ الثُّومَ فأنتِ طالق"، فإذا أكلت الثّوم طلُقَت، فإذا ردَّها أو لم يردَّها فأكلت الثوم مرَّةً ثانية حالَ العدَّة وقعت الطَّلقة الثَّانية، فإذا أكلته ثالثة حال العدَّة أيضًا وقعت الطَّلقة الثالثة.
ولعلَّنا نقف عند هذا، أسأل الله لي ولكم التَّوفيق والسَّداد، وأسأل الله أن يجزيكم خيرًا، وأن يرفعكم بالعلم، وأن يزيدكم منه، وأن يوفقكم لتحصيله، وأن يُعقبكم العمل به، وأن يجعلنا من أهل الهُدَى والتَّعليم، وأن يجزي الإخوة القائمين على هذه الأكاديمية خيرَ الجزاء على ما بذلوا، وعلى ما فعلوا، وعلى ما أحسنوا، وعلى ما نشروا من الخير، وأن يجعل هذا المنار باقيًا إلى يوم القيامة، منيرًا للنَّاسِ في العلم، ومُظهرًا للهُدَى، ومبقيًا لسنَّة المطصفى -عليه الصَّلاة والسَّلام- وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:35   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

عُمْدَةُ الفقه (6)
الدَّرسُ السَّابِعُ (7)
فضيلة الشَّيخ/ د. عبد الحكيم بن محمد العجلان
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاكَ الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات.
{نبدأ في هذه الحلقة -بإذن الله- بمسائل تابعةٍ لتعليق الطَّلاق بشروط.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَأَدَوَاتُ الشَّرْطِ سِتٌّ: إِنْ، وَإِذَا، وَأَيُّ، وَمَنْ، مَتَى، وَكُلَّمَا، وَلَيْسَ فِيْهَا مَا يَقْتَضِيْ التِّكْرَارَ إِلاَّ كُلَّمَا، وَكُلُّهَا إِذَا كَانَتْ مُثْبَتَةً، ثَبَتَ حُكْمُهَا، عِنْدَ وُجُوْدِ شَرْطِهَا، فَإِذَا قَالَ: إِنْ قُمْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَامَتْ، طَلُقَتْ، وَانْحَلَّ شَرْطُهُ، وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا قُمْتِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، طَلُقَتْ كُلَّمَا قَامَتْ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّين.
أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جلَّ وَعَلا- أن يجعلنا مِن عبادِهِ الشَّاكرين وأوليائه الصالحين، وأن يُعيننا على ما يكونُ سببًا لصلاحنا في الدُّنيا والدِّين، وأن يحفظنا مِنَ الفتن ما بقينا يا ربَّ العالمين، ووالدينا وجميع المسلمين.
أيُّها الإخوة الكرام؛ لا يزال الحديث مَوصولًا فيما ذكرَه المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- في هذه الأبواب التي فرَّع فيها مسائل في الطَّلاق، وسبق أن قلنا: إنَّ سببَ ذلك لَمَّا كانت أحوال النَّاس تتنوَّع، وإيقاع الطَّلاق يكون على صُورٍ مختلفةٍ وأنواعٍ شتَّى؛ احتاج الفقهاء -رَحَمَهُم اللهُ تَعَالَى- أن يُقرِّبوا للفقيه وأن يُبيِّنوا لطالب العلم ما يُمكن أن يكونَ عونًا له في حلِّ ما يلحق النَّاس في مسائلهم، وما ينتابهم في واقعهم، وما يكون به صلاح دينهم، وبقاء نكاحهم، وأحكام طلاقهم، وهذا قد مرَّت الإشارة إليه.
وأظنُّ أنَّنا استهللنا بابَ تعليق الطلاق بشروط، وذكرنا أدوات الشَّرط، وأنَّ المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر ستًّا منها، وهي مبثوثةٌ أكثر من ذلك في كُتبِ اللغة، وذكرها النُّحاة -رَحَمَهُم اللهُ تَعَالَى.
وهذه المباحث مأخذها في الجملة مأخذٌ لغوي، يعني: أنَّ حكمَ الفقهاءِ لها مبنيٌّ على حكمِ أهل اللغة فيها، فدلالتها اللغويَّة مُعتبرةٌ عندَ الفقهاء باعتبار أصلِ اللغة واللسان العربيِّ؛ لأنَّ هذا هو الأصل.
فقال المؤلف: إنَّ هذه الأدوات لا تقتضي التَّكرار، يعني: مَن علَّقَ طلاقَ امرأتِهِ بواحدٍ من هذه الأدوات فإنَّه إذا وقعَ المُعلَّق عليه وقعت الطَّلقة، ثم انحلَّ الشَّرط، يعني: أنَّها لو قامت مرَّةً ثانية، أو لو خرجت -إذا كان قد علَّق الطَّلاق على الخروج بــ "إن، أو إذا، أو متى، أو أيُّ، أو نحو ذلك" فإذا خرت طلَقَت، ثم انحلَّت اليمينُ؛ إِلا "كلَّما"؛ لأنَّها دالَّةٌ على التَّكرار في أصلِ اللغة، وفي استعمال القُرآن في كتاب الله -جلَّ وَعَلا- فبناءً على ذلك فإنَّه إن قال: "كلَّما قمتِ فأنتِ طالق"، فإذا قامت الأولى طلقَت، ثم إذا قامت الثَّانية طلقة ثانية، ثُمَّ إذا قامت ثالثة طلقة ثالثة؛ فلا تنحلُّ اليمينُ البتَّة، وذلك لأنَّ "كلما" دالَّةٌ على التَّكرار، وتعلُّق الطلاق بذلك في كلِّ حالٍ من أحوال قِيامها، وهذا مرَّت الإشارة إليه.
هذا في حال كون أدواتِ الشَّرط مثبتةٌ، ولذا قال: (وَكُلُّهَا إِذَا كَانَتْ مُثْبَتَةً، ثَبَتَ حُكْمُهَا، عِنْدَ وُجُوْدِ شَرْطِهَا). ومثَّل لذلك بنحو ما قلنا.
ثم بعد ذلك أراد المؤلف أن يُبيِّن الحكم فيما إذا كان التَّعليق في حالِ النَّفي، فإنَّ لها حكمًا يخصُّها، أو اختلافًا في دلالتها اللغويَّة، وبناء على ذلك كان ترتيب الفقهاء عليها في الحكم مُختلفًا تبعًا لاختلاف المعنى اللغوي، أو ما يعتبره أهل اللغة والنَّحوِ.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كَانَتْ نَافِيَةً، كَقَوْلِهِ: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، كَانَتْ عَلى التَّرَاخِيْ فَلاَ يَقَعُ الطَّلاَقُ إِلاَّ فِيْ آخِرِ أَوْقَاتِ اْلإِمْكَانِ)}.
قوله: (وَإِنْ كَانَتْ نَافِيَةً)، يعني: إذا اجتمع مع أداة الشَّرط حرف النَّفي "لم" كأن يقول: "إن لم أُطلِّقكِ فأنتِ طالق"، "متى ما لمْ أُطلِّقكِ فأنتِ طالق"، فهذه لها أكثر من حال، فلا يخلو أن تكون الأداة التي استُعمِلَت في ذلك هي حرف "إِنْ"، فإذا استُعمِلَت مَنفيَّةً فإنَّها تدلُّ على التَّراخي، وعليه يكون معنى قوله: "إن لم أُطلِّقكِ فأنتِ طالق" أنَّها تبقى زوجته اليوم وغدًا وبعد غد...، إلى آخر أوقات الإمكان، فإذا جاء عند موتِهِ بحيثُ اشتدَّ عليه الموت ووقعَ به؛ ففي هذه الحال نتيقَّن أنَّه لمْ يُطلِّقها، فوقع المعلَّق عليه وهو عدمُ التَّطليق.
إذن؛ المعلَّق عليه: عدم التَّطليق، وهو هنا ليس في حدٍّ محدود ولا في وقتٍ مُعيَّن، وعلى قول أنَّ "إنْ" دالَّةٌ على التَّراخي فيكون الوقت مُتسعًا ولا يُحدَّد بحدٍّ ولا يُلزَم بوقتٍ، فبناء على ذلك فإنَّنا نقطع بحصول المعلَّق عليه إذا قارنته الوفاة، فنعلم أنَّ هذا هو الوقت الذي نقطع أنَّه لم يُطلقها فيه، فيحصل المعلَّق عليه وتطلُقُ طلقةً عند ذلك. فهذا واضحٌ من جهة المعنى ومن جهة حصول المعلَّق عليه.
قال المؤلف: (إِذَا لَمْ يَنوِ وَقتًا)، هذا قيدٌ مهمٌّ، أمَّا إذا قال: "إن لمْ أُطلقكِ فأنتِ طالق" وكان قد نوى اليوم فإنَّ نيَّته مُعتبرة، فإذا مَضى ذلك اليوم ولم يُطلِّقها فهي طالقٌ، وهذا يحصل أحيانًا، كأن يقول له بعض مَن حضر: لماذا تطلقها؟ اتَّقِ الله واصبر؛ فأراد أن يقطع الطَّريق عليهم فقال: "إن لم أُطلِّقها فهي طالق" ويقصد بذلك اليوم الذي هو فيه. فنقول: إنَّ نيَّته مُعتبرة.
وكذلك إذا احتفَّت بقرينة تدلُّ على أنَّه أرادَ الطَّلاق في آنِه، كأن يقول: أنا سأُطلقها الآن. فيقولون له: اصبر إلى بعد أسبوع، فقال: "إن لم أُطلقها فهي طالق"، فدلَّ ذلك على أنَّه أرادَ في آنِه ذلك الذي هو المجلس القائم.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَسَائِرُ اْلأَدَوَاتِ عَلى اْلفَوْرِ، فَإِذَا قَالَ: مَتَى لَمْ أُطَلِّقْكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَمْ يُطَلِّقْهَا، طَلُقَتْ فِيْ اْلحَالِ، وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا لَمْ أَطَلِّقْكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَمَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُ طَلاَقُهَا فِيْهِ ثَلاَثًا وَلَمْ يُطَلِّقْهَا، طَلُقَتْ ثَلاَثًا إِنْ كَانَتْ مَدْخُوْلًا بِهَا)}.
قوله: (وَسَائِرُ اْلأَدَوَاتِ عَلى اْلفَوْرِ)، أي أدوات "إذا، وأي، ومتى، ومَنْ"؛ لأنَّ "كلما" أصلًا دالَّةٌ على التَّكرار سواءٌ في حالِ الإثبات أو في حالِ النَّفي، فالمؤلف الآن يتكلَّم على حال النَّفي، وحال النَّفي مُفصَّلة، فــ "إنْ" لها وضعها؛ لأنها دالَّةٌ على التَّراخي وليست على الفور، وأمَّا سائر الكلمات فهي دالَّةٌ على الفور، فإذا قال: "متى لم أُطلِّقكِ فأنتِ طالقٌ" فمضى وقتٌ لم يقل فيه "أنتِ طالق" فتَطُلق.
لقائل أن يقول: ما الفَرق بينهما؟
نقول: إنَّ الفرقَ مثلما قلنا قبلَ قليل: إنَّ مردَّ هذا إلى أصلِ اللُّغة، ولذلك اعتمد الفقهاء -رَحَمَهُم اللهُ تَعَالَى- في هذا على قولِ النُّحاةِ وأهلِ اللُّغة فقالوا: إنَّها دالَّةٌ على الفور إذا اقترنت بنفيٍّ، فحكم الفقهاء تبعًا لذلك؛ لأنَّ المتكلِّم بذلك عربي ويلحقه ما يلحق المعاني العربيَّة، وما اشتملت عليه الألفاظ العربية في ذلك.
وقد نظم في ذلك بعضُ أهل اللغة نظمًا، فقال: إنَّ "إِنْ" دالَّةٌ على التَّراخي ما لم يدل عليها قرينة، وأنَّ سائر الألفاظ تكون على الفور على نحو ما ذكرَ المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- تبعًا للفقهاء الذين تبعوا في ذلك قول النُّحاة.
ثم يقول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا لَمْ أَطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَمَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُ طَلاَقُهَا فِيْهِ ثَلاَثًا وَلَمْ يُطَلِّقْهَا، طَلُقَتْ ثَلاَثًا إِنْ كَانَتْ مَدْخُوْلًا بِهَا).
إذا قال: "كُلَّمَا لَمْ أَطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ" فإذا وقَفَ ولم يُطلقها؛ إذن طلَقَت، ثم مضى زمنٌ ولم يطلِّقها طلَقَت، ثم مضى زمنٌ ولم يطلِّقها طلَقَت، فبناء على ذلك تتبعها ثلاث طلقات.
إذا قيل: هي الآن طلقت بالأوَّلةِ وهو يقول: "كُلَّمَا لَمْ أَطَلِّقْكِ"!
فنقول: هذا الذي حصل به التَّطليق ليس هو إيقاع وإنَّما هو وقوع الطَّلاق، فكأنَّه يقول: إذا لم أقل: "أنتِ طالق" فأنتِ طالق؛ ففي هذه الحالة لم يحصل منه لفظ: "أنتِ طالق" إذن المعلَّق عليه أن يقول: "أنتِ طالق"، وهو لم يقلها؛ فمعنى ذلك أنَّه كلَّما مَضى وقتٌ فإنَّها تقع عليها تطليقة حتى تجتمع الثَّلاث تطليقات.
لماذا لا تطلق أكثر؟
قالوا: لأنَّ أكثر الطَّلاق ثلاث، وإلَّا فإنَّ "كلما" دالَّةٌ على العَودِ والتَّكرارِ، فلو كانَ قد بقيَ لها طلاقٌ لكانَ واقعًا.
الفرق بين إيقاع الطَّلاق ووقوع الطَّلاق.
الغالب أنَّ إيقاع الطَّلاق ووقوع الطَّلاق يكونان مُقترنان، فإذا قال: "أنتِ طالق" فهذا لفظ الطَّلاق وإيقاع للطَّلاق.
لكن لو وجدَ امرأته مُستلقيه، فقال لها: "أنتِ طالق" فهنا إيقاع للطَّلاق، فلمَّا حرَّكناها وجدناها ميتةً، فهنا حصل إيقاع الطَّلاق ولم يحصل وقوع الطلاق.
أحيانًا يقول الزوج: "إنْ قمتِ فأنتِ طالق" وهي جالسة، فهنا حصل إيقاع الطلاق ولم يحصل وقوع الطَّلاق، فإذا قامت وقع الطلاق، وإيقاع الطلاق مُتقدِّم، ولكن الحال الذي قامت فيه صارَ فيه وقوعٌ للطلاق لا إيقاع له.
ودائمًا تُشكل هذه المسائل على بعض الطلاب إذا تكلموا على إيقاع الطَّلاق ووقوع الطَّلاق، وأنا دائمًا أُمثِّل للطلاب إيقاع الطَّلاق ووقوعه بمثل البندقيَّة التي يُصطاد بها، فإذا أطلقت رصاصة فهذا إيقاعٌ، ومتى ما أصابت صيدًا فهذا وقوع، قد يتقارنان وقد يتباينان، وقد يحصل إيقاع بدون وقوع، وقد يتأخر الوقوع عن الإيقاع.
قال المؤلف: (إِنْ كَانَتْ مَدْخُوْلًا بِهَا)؛ لأن الغير مدخول بها تطلق بمجرَّد الطَّلقَة الأولى وتَبين لأنَّها لا عدَّة لها، وسياتي التنبيه عليه في أول الباب الذي سيذكره المؤلف بعد ذلك.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا وَلَدْتِ وَلَدًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَوَلَدَتْ تَوْأَمَيْنِ، طَلُقَتْ بِاْلأَوَّلِ، وَبَانَتْ بِالثَّانِيْ؛ لاِنْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِهِ، وَلَمْ تَطْلُقْ بِهِ)}.
هذا تنويع في الأمثلة، وانتقالات إلى بعض الصُّور التي يحصل بها التَّطليق.
قال: (وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَوَلَدَتْ تَوْأَمَيْنِ، طَلُقَتْ بِاْلأَوَّلِ، وَبَانَتْ بِالثَّانِيْ).
لأنَّها لَمَّا ولدت الولد الأوَّل وقعت عليها الطَّلقة الأولى، وكما علمنا أنَّ "كلما" دالة على التَّكرار، فإذا ولدت الولد الثَّاني فسيقع عليها، ولكن عندنا أمرٌ آخر، فإنَّه لَمَّا أوقع عليها الطَّلاق الأوَّل بولادتها الأولى فإنَّها بقيَت في عِدَّة؛ لأنَّها حامل وعدَّة الحامل الوضع، فحينما وضعت الثَّاني انتهت العدَّة قبل أن تقع عليها الطَّلقة الثَّانية، إذن الطَّلقة الثَّانية وافقت امرأةً أجنبيَّةً قد بَانت منه، وبناء على ذلك لم تقع.
لماذا لم تُفِد "كلما" التَّكرار في هذا المثال؟
سبب ذلك لا أنَّ "كلَّما" لا تدلُّ على التَّكرار؛ لكنَّها لَمَّا ولدت الولد الثاني صادف انقضاء عدَّتها، فصارت الطلقة قد وقعت على أجنبيَّة، فلم تكن مؤثِّرَةً كما سبق أن ذكرنا في أول كتاب الطلاق أنَّه لو طلَّقَ أجنبيَّةً فلا شيء في ذلك.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ قَالَ: إِنْ حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، طَلُقَتْ بِأَوَّلِ اْلحَيْضِ، فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ لَمْ تَطْلُقْ بِهِ)}.
إن قال: "إِنْ حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ" فإنَّها أوَّل ما يكون منها نزولٌ للدَّمِ فإنَّها تطلق؛ لأنَّ الأصل في نزول الدَّم من ذلك المخرج هو نزول دمِ الحيض، فهذا هو المعتاد؛ فلأجل ذلك حكمنا بأنَّ هذا الدم دم حيضٍ فوقع بهِ الطَّلاق.
قال: (فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ)، كأن كشفَت الطَّبيبةُ عليها فوجدت بذلك جرحًا داخل المخرج مثلًا، أو أنَّه كان دمَ فسادٍ، أو أنَّها كانت حاملًا فنزلَ منها دم؛ فإنَّ دم الحامل لا يعتبر حيضًا في المشهور من المذهب عند الحنابلة وقول جماهير أهل العلم.
وبناء على ذلك فإنَّ الأصل أنَّ هذا الدم هو دم حيضٍ، وبناء على ذلك أوَّل ما نراه نحكم بوقوع الطَّلقة، ومتى ما تبيَّنَ خلافه تبيَّنَّا أنَّ المعلَّق عليه لم يقع، فبناء على ذلك فإنَّ الطَّلاق لم يحصل، ولا زالت المرأة في عصمةِ زوجها.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ قَالَتْ: قَدْ حِضْتُ، فَكَذَّبَهَا، طَلُقَتْ، وَإِنْ قَالَ: قَدْ حِضْتِ، فَكَذَّبَتْهُ، طَلُقَتْ بِإِقْرَارِه)}.
قوله: (وَإِنْ قَالَتْ: قَدْ حِضْتُ، فَكَذَّبَهَا، طَلُقَتْ)؛ لأنَّ الأصل أنَّ الحيض يُعلم من جهتها، فهي مؤتمنةٌ على ذلك، فنقول: إنَّ القول قولها؛ لأنَّها معها الأصل في تلك الحال.
ثم يقول: (وَإِنْ قَالَ: قَدْ حِضْتِ، فَكَذَّبَتْهُ، طَلُقَتْ بِإِقْرَارِه)، كأنَّه أقرَّ على نفسه أنَّه طلَّقها، فعاملناه بالأغلظ؛ لأنَّه اعترف على نفسه بما هو أشد، فبدلَ أن كانَ الطَّلاق مُعلَّقًا فكأنَّه اعترف بأنَّ الطلاق كان مُنجَّزًا وواقعًا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ قَالَ: إِنْ حِضْتِ، فَأَنْتِ وَضَرَّتُكِ طَالِقَتَانِ،فَقَالَتْ:قَدْ حِضْتُ، فَكَذَّبَهَا، طَلُقَتْ دُوْنَ ضَرَّتِهَا)}.
لأنَّ الإقرار عند الفقهاء حُجَّة قاصرة، يعني: حجَّةٌ على المقرِّ دونَ غيره، فبناء على ذلك إذا قالت: "قَدْ حِضْتُ" فهنا إخبارٌ عن ما يترتب عليه طلاقها وطلاق ضرتها، فإقرارها على نفسها مقبولٌ؛ لأنَّ الإنسان لا يُتَّهمُ في نفسه، ولكن إقرارها على غيرها فيه جناية عليها، فلذلك لا يُقبَلُ إلا بالبيِّنَة، فإذا أُقيمَت البيِّنَة على أنَّها قد حاضَت طلقت ضرَّتها، وإلا فلا.
أنا أريد أن أُنبِّه على مسألة، وهي أنَّ الفقهاء -رَحَمَهُم اللهُ تَعَالَى- يذكرونَ أحيانًا مسائل لا أنَّهم يوافقون عليها ولا أنَّها جائزة في بعض الأحوال؛ فمثلًا قوله: "إنْ حضتِّ فأنتِ طالق" فهذا طلاق بدعي؛ لأنه وقوع للطلاق في الحيض، فكأنه تقصَّدَ أن يقع عليها طلاق في الحيض فهو آثمٌ، فالفقهاء لم يتكلموا على مثل هذه المسألة من جهةِ التَّكليف؛ لأنَّه قَد مَرَّ أنَّهم قالوا: إنَّ هذا طلاق بدعي ومحرم ولا يجوز، فهو لا يحتاج أن يُعيد هذا الكلام مرة أخرى، ولكن هنا بيانٌ للحكم الوضعي، أنَّه حصلَ منه تعليق الطلاق متى يحصل وقوع الطَّلاق، ففي هذا المسألة إذا حاضت حكمنا بأنَّها طُلقت، وإذا كان قد علقَ الطَّلاق بحيضها وحيض ضرَّتها، فنقول: بمجرد إقرارها على نفسها يثبت طلاقها، وأمَّا طلاق ضرتها فلا يكتفى في ثبوته مجرد إقراها بل لابدَّ من البيِّنَة، فإمَّا أن تُقيم البيِّنَة، كأن ينظر إليها من النِّساء اثنتنا فيعلمان أنَّها قد حاضَت فعلًا، فيُخبران بذلك فيحصل الطلاق.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ ماَ يَخْتَلِفُ بِهِ عَدَدُ الطَّلاَقِ وَغَيْرُهُ)}.
تقدَّمت الإشارة إلى هذا الباب، وهي كم يملك الإنسان من الطلاق، فالحر يملك ثلاث طلقات، والعبد يملك اثنتين.
والعادة أنَّ الفقهاء يذكرون في هذا الباب كم يملك الحر وكم يملك العبد من الطَّلقات، ولكن هنا المؤلف ذكر جملة من المسائل فيما يتعلق باختلاف عدد الطلاق من حال امرأةٍ إلى أخرى، ولم يذكر هنا المؤلف كم يملك الحر والعبد من عدد الطلاق؛ لأنَّه قد ذكره في استهلال كتاب الطلاق، فلأجل ذلك دخل مباشرةً في تفاصيل مسائل تتعلق باختلاف عدد الطَّلاق، سواء كان في ذلك الحر أو العبد، أو كان ذلك فيما يتعلق بالمدخول بها من غير المدخول بها، وما يتبع ذلك من أحوال.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الْمَرْأَةُ إِذاَ لَمْ يُدْخَلْ بِهَا تُبِيْنُهَا اْلطَّلْقَةُ، وَتُحَرِّمُهَا الثَّلاَثُ مِنَ اْلحُرِّ، وَاْلاِثْنَتَانِ مِنَ اْلعَبْدِ، إِذَا وَقَعَتْ مَجْمُوْعَةً، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ)}.
تقدَّم معنا المرأة المدخول بها في باب الصَّداق، وذكرنا أنَّ الدخول بالمرأة يحصل بأمرين:
• أمرٍ مجمع عليه: فإذا جامع المرأة فبإجماع أهل العلم أنَّه قد دخل بها، وبناء على ذلك فإنَّ هذه لا اختلاف في أنها يتعلَّق بها أحكام المدخول بها.
• وأمرٍ مختلف فيه: إذا كان قد خلا بها، بمعنى أنَّه قد أغلقَ الباب، وأرخى السِّترَ ولم يحصل منه جماع، فهل يُحكم في هذه الحال بالدُّخولِ أولا؟
الجمهور على أنَّ الدخول لا يتحصَّل إلا بحقيقة الوقاع والجماع.
وأمَّا الحنابلة فقالوا: إنَّ هذا وإن لم يكن جماعًا إلَّا أنَّه في حكم الجماع؛ لأنَّ هذه الأشياء خفيَّة، والشَّرعُ إنَّما يحكم في الأشياء بظواهرها، والزَّوج الذي دخلَ على امرأته لأوَّلِ وهلةٍ لا ينفكُّ مِن جماعها، وهذا هو قول الخلفاء، فقضَى الخلفاء الرَّاشدون أنَّ مَن أرخى سترًا، وأغلق بابًا فقد وجبَ المهرُ، وعليها العدَّة، فرتَّبوا آثار الدُّخول عليها بمجرد إغلاق الباب وإرخاء الستر، وهذا هو مَشهور المذهب عند الحنابلة.
إذن قوله: (الْمَرْأَةُ إِذاَ لَمْ يُدْخَلْ بِهَا)، فبناء على أنَّ المؤلف حنبلي فهو يقصد سواء جُومِعَت أو أُرخيَ السِّتر وأُغلقَ الباب؛ فإنَّه يعتبر أنَّه قد دُخِلَ بها فتتعلَّق بها الثَّلاث تطليقات وأحكام المدخول بها -على ما تقدَّم.
وهذه التي لم يُدخَل بها تَبينُ بواحدة، فإذا قال لها: "أنتِ طالقٌ" بانَت؛ لأنَّها لا عدَّة لها، فإنَّ الله -جلَّ وَعَلا- قال: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَاï´¾ [الأحزاب:49]، فدل ذلك على أنَّ المرأة التي طُلِّقَت ولم يُدخَل بها لا عدَّة عليها، فمعنى ذلك أنَّه طلاقٌ بائنٌ، فتكفي فيها واحدةٌ.
قال: (تُبِيْنُهَا اْلطَّلْقَةُ، وَتُحَرِّمُهَا الثَّلاَثُ)، فلو أوقع الثَّلاث عليها فتحرمها عليها.
ما الفرق بين قوله: (تُبِيْنُهَا) وقوله: (وَتُحَرِّمُهَا الثَّلاَثُ)؟
(تُبِيْنُهَا)، أي: بمجرد أن قال لها: "أنتِ طالقٌ" انتهت، فلو أنه قال: "أنتِ طالقٌ" من هاهنا وقال وَلِيُّها: زوَّجتُكَ يا فلان. فقال: قبلتُ، وشهدوا؛ صحَّ نكاحهما؛ لأنَّها لا عدَّة عليها.
أمَّا قوله: (وَتُحَرِّمُهَا الثَّلاَثُ)، يعني: لو أنَّ هذا الذي تزوَّجها ولم يدخل بها طلَّقها ثلاث تطليقات فإنه لا يجوز له أن ينكحها بعد ذلك حتى تنكِحَ زوجًا غيره، لكن بيَّنَ المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- أنَّها لا تقع عليها الثَّلاث تطليقات دائمًا، وإنَّما في صورٍ خاصَّة.
فقال: (إِذَا وَقَعَتْ مَجْمُوْعَةً، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثاً)، أو قال: "أنتِ طالق عددَ نجوم السَّماء، أو أنتِ طالق بمثل هذا الحصى -وكان في يده عشرُ حصياتٍ"، فهنا تطلق ثلاثًا؛ لأنَّه طلقها مجموعةً، فوقعت عليهًا في آنٍ واحدةٍ.
أمَّا لو أنَّه لفِظَ بلفظٍ يكونُ مُرتَّبًا أو يكون فيه مقدَّمٌ ومؤخَّر، فإنَّها لا تقع عليها؛ لأنَّ الطَّلقة الأولى وقعت والثَّانية جاءت بعد بينونتها، فلأجل ذلك لو قال: "أنتِ طالقٌ فَطَالِق"؛ نقول: طلَقَت بالأولى وبانَت، والطَّلقة الثَّانية وقعت على أجنبيَّة.
لو قال: "أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ" فكذلك، فهذه وقعت حالَ كونها أجنبيَّة، وبناء على ذلك لا تقع.
لو قال: "أَنْتِ طَالِقٌ بَل طَالِقٌ"، فهذه الطَّلقة الثَّانية بعد الأولى، وبناء عليه لا تقع إلا طلقة واحدة.
لكن لو قال: "أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ"، فالواو دالة على مُطلق الاجتماع، وفي اللغة العربيَّة أنَّ اللفظ إنَّما يعتبر بكماله لا بأوَّله.
لقائل أن يقول: إنَّ قوله: "أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ"، فهو نطق الأولى ووقع بها الطَّلاق، فلماذا وقعت الثَّانية والثَّالثة؟
نقول: لأنَّ العبرة بالجملة كاملة.
لو قال شخص لآخر: لي عليه خمسون ألفًا إلا عشرةً.
فلو قلنا: إنَّ هذا إقرارٌ بالخمسين، فمعنى ذلك أنَّ الاستثناء غير مُعتبر، ولكن لما كان الاعتبار في العربية بجملة الكلمة فمعنى ذلك أنَّ الإقرار الذي أقر به هو أربعين فقط -خمسين إلا عشرة.
فكما أنَّنا نعتبر هذه الكلمة في جملتها، فكذلك هنا؛ ولذا نقول: إنَّ قوله: "أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ" وإن تأخَّرت في النطق بها، لكنها في حكم اللفظ الواحد باعتبار أن الواو دالًّةٌ على مُطلق الاجتماع والجمع، ولا تدلُّ على ترتيبٍ، ولا تأخيرٍ، ولا تعقيبٍ مثل: "الفاء" أو "ثم" وما ماثلهما.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ أَوْقَعَهُ مُرَتَّباً، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ، أَوْ ثُمَّ طَالِقٌ، أَوْ طَالِقٌ بَلْ طَالِقٌ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ إِنْ طَلَّقْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، أَوْ كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ كُلَّمَا لَمْ أُطَلِّقْكِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَأَشْبَاهَ هَذَا، لَمْ يَقَعْ بِهَا إِلاَّ وَاحِدَةً)}.
ربَّما ترونَ أنَّ هذه الأمثلة فيها شيء من الصُّعوبة والوعورة، وهي يسيرةٌ جدًّا، ولكنَّها تحتاج من الطَّالب إلى شيءٍ من الترَّكيز والدُّربَة، فمَن عرف الأصلَ هانت عليه الفُروع والأمثلة كلها.
وهذا الكلام في غير المدخول بها، وهو يُفرِّع على أنَّها تَطلُق بواحدة وتَبين، ولا يقع عليها طلاق بعد ذلك، ثم نقل مسألة أخرى وهي أنَّه يُمكن أن تقع عليها الثَّلاث تطليقات في حال اجتماعها في لفظٍ واحدٍ، أو كون اللفظ مُتفرقًا لكنَّه دالٌّ على الاجتماع، أو ليس فيه دلالةٌ على التَّرتيب، فلمَّا أنهَى هذه الأمثلة التي دلَّت على وقوع اللفظ مجموعًا أراد أن يُبين الأمثلة التي تُقابل ذلك، وهي التي فيها نوع ترتيبٍ، فبناءً على ذلك لم يحصل بها طلاقٌ.
فقال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ أَوْقَعَهُ مُرَتَّباً، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ).
كل الكلام الآن في غير المدخول بها، فإذا قال: "أَنْتِ طَالِقٌ فَطَالِقٌ" فنقول: هذه طَلقَت طَلقة واحدة؛ لأنَّ الفاء هنا دالَّةٌ على التَّرتيب، فمعنى ذلك أنَّ الطَّلقة الثَّانية وقعت بعد الطَّلقة الأولى، وهي قد بَانت بالطَّلقة الأولى؛ فإذن هذه الطَّلقة الثانية لغوٌ ولا اعتبار بها، فلا تُعدُّ عليها.
المثال الثَّاني: لو قال: "أنتِ طالقٌ ثُمَّ طَالِقٌ"، فجملة "ثُمَّ طَالِقٌ" لاغية؛ لأنَّ هذه المرأة غير مدخول بها، وحرف "ثم" دال على التَّرتيب، فبناء على ذلك لَمَّا وقعت عليها الطَّلقة الأولى بانت، فالطَّلقة الثَّانية حصَلَت عليها بعد بينونتها، وكونها أجنبيَّة فلم يقع عليها طلاقٌ.
قال: (أَوْ طَالِقٌ بَلْ طَالِقٌ)، كذلك هذه صورةٌ من الصُّور التي يقع فيها على غير المدخول بها طلقة واحدة، والثانية لا تقع؛ لأنَّ "بل" هنا ليست مثل: حروف العطف، ولكنَّها حرف إضرابٌ، دالٌّ على الإضراب عن القول الأول والانتقال إلى الثَّاني، والانتقال إلى الثَّاني هو انتقالٌ بعدَ الأول، فلمَّا قال لها: "أنت طَالِقٌ" وقعت الطلقة، ثم لَمَّا قال: "بَلْ طَالِقٌ" معنى ذلك أنَّه أضرب عن الكلام الأوَّل، فكأنَّه أرادَ إنشاء طلاقٍ جديد أو كلامٍ جديد، فمعنى ذلك أنَّ حقيقة هذه الجملة أنَّها وقعت بعد الجملة الأولى، ولَمَّا كانت المرأة غير مدخول بها و "بل" هنا دالَّةٌ على الإضرابِ، فكأنَّ اللَّفظ الثَّاني وقع بعد اللفظ الأوَّل، فوقع على أجنبيَّة، وبناء على ذلك لا يقع بها الطَّلاق.
قال: (أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ)، هذا القول نوع من الأساليب العربيَّة الفَصيحة، وله مسلكان:
• إما أن يُراد به التَّأكيد، فإذا قال: "أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ" فأراد باللفظ الثَّاني تأكيدَ الأوَّلِ، سواء كانت مدخولًا بها أو غير مدخولٍ بها فلا يقع عليها إلا طلقة واحدة؛ لأنَّ اللفظ الثَّاني إفهامٌ للأوَّل، وقد قصدَ باللفظ الأوَّل إيقاع الطَّلاق وتأسيسه، واللفظ الثَّاني قصد به تأكيد الطَّلاق وإفهامها به، وبناء على ذلك لا تقع إلا طلقةٍ واحدةٍ.
• أو يُراد به التَّأسيس، فإنَّ الأصل في الكلام هو التَّأسيس وإفادة معنًى جديد، فبناء على ذلك فإنَّ قوله: "أَنْتِ طَالِقٌ" ثانية كأنَّه أراد معنًى جديدًا، أو إرادةً ثانية لإيقاع طلقةٍ ثانية، فهذا هو الذي يُحمَل عليه الكلام.
إذن الأصل هو التَّأسيس، أمَّا التَّأكيد شيءٌ زائد يُطلَب في بعضِ الأحوالِ، والأصل أن يُحمَل الكلام على أصله، والكلام في أصله هو أن تُعتبَر كل جملةٍ تأسيسًا، كأن يقول: "أعطوني طعامًا، أعطوني شرابًا"، فلا يُمكن أن نقول: إنَّ قوله: "أعطوني شرابًا" تأكيدًا للجملة الأولى؛ لأنَّها جملة بعدَ جملة، وكلٌّ دالّ على معنًى.
فنقول: سواء كان هذا الكلام الذي وقع بمعنًى واحد، أو كان الكلام بأكثر من معنى؛ فإنَّ الأصل هو التَّأسيس، وقوله: "أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ" يُمكن أن يُحمل المعنى على أنَّه تأكيدٌ، ويُمكن أن يبقَى على أصله.
والصَّواب: أن يبقى على الأصل إلا أن تأتي منه بيِّنة أو نيَّة أو قَرينة دالَّة على أنَّه أراد التَّوكيد، كأن يقول: "أنتِ طالق" فقالت: نعم! قال: "أنتِ طالق" كأنَّه أراد إِفْهَامَها بذلك، فلو قال: إنَّه أراد الإفهام فهذا ظاهرٌ جدًّا.
قال: (أَوْ إِنْ طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، أَوْ كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَلَّقَهَا)، كل هذه الجمل مثل الأولى.
فقوله: "إِنْ طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ" الآن علَّق تَطليقها على إيقاع الطَّلاق، ثُم أوقعَ الطَّلاق، فلمَّا قال: "أنتِ طالق" فقد حصلَ المعلَّق عليه؛ فكأنه أوقع طلقتان، فبَانَت المرأة؛ لأنَّها غير مدخول بها بقوله: "أنتِ طالق"، والمعلَّق عليه وقعَ حالَ كونها غير زوجة، فبناء عليه تقع طلقة واحدة فقط.
قال: (أَوْ كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثمَّ طلَّقَهَا)، هذا القول هو إيقاع للطَّلاق معلَّقٌ على التَّطليق، فما دامَ ليس هناك تطليق فلا زالت هذه الجملة تنتظر متى تصادف هذه المرأة، فإذا قال: "أنتِ طالق" جاءت هذه الكلمة لتطلق عليها فلم تصادف زوجة فلم تقع.
وحتى تفهموا؛ افترضوا الصُّورة التَّالية:
قال لها: "كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ" فجلَست تنتظر، بعد ذلك لم يطلِّقها ولكن دخلَ بها، ثم طلَّقها، فتقع طلقتان؛ لأنَّها مدخول بها.
ذكرنا المدخول بها حتى تقارن في الفرق بين الصُّورتين.
قال: (أَوْ كُلَّمَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَأَشْبَاهَ هَذَا، لَمْ يَقَعْ بِهَا إِلاَّ وَاحِدَةً).
تنبيه! كثير من نُسَخ كتاب "عمدة الفقه" فيه خلل وسقطٌ كثير واختلاف في العبارة، وقد يُفضي إلى ضدِّ المراد، ولأجل ذلك ننتبه.
إذا قال للمدخول بها: "كُلَّمَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ"، ثم مضى وقتٌ ولم يُطلِّقها وقعت بها واحدة، ثم إذا مضى وقت ثانٍ ولم يُطلقها وقعت عليها الطلقة الثانية، وهكذا..
وأمَّا إن كانت غير مدخول بها فلمَّا وقعت عليها الطلقة الأولى، ثم جاءت الثَّانية لتقع عليها؛ لأنَّ "كلما" دالة على التَّكرار- صارت الزَّوجة أجنبيَّة، وبناء على ذلك لم يقع عليها أكثر من واحدة، مع أنَّ "كلَّما" دالَّةٌ على التَّكرار، ولم يمنع حصول الطَّلاق عليها مرَّة بعدَ مرَّة إلا أنَّها صارت أجنبيَّة عنه وبائنةً منه بينونةً كاملة، فلم يقع بها إلا طلقةً واحدةً.
أودُّ من الإخوة إذا جرى لهم شيء من الإشكال أو نحوه أن يُرسلوا على بريد البرنامج، فإذا نطرنا أنَّ بعض الجُمَل كثر فيها الإشكال فيُمكن أن نعيدها -إن شاء الله- في درسٍ لاحقٍ لهذا الدَّرس حتى نتيقَّنَ من حصول المقصود، وهو فهم هذه الألفاظ التي ربَّما تتردَّدُ في الطَّلاق، وتكونُ ممَّا يحتاج إليه المتعلِّم والفقيه، حتى يُعالج أمرَ النَّاس بما يحصل به مقصود الشَّارع من إيقاع الطَّلاق على مَن استحقَّه، وبقاء الزَّوجيَّة لمَن سلِمَت له الزَّوجيَّة ولم يُصادف الطَّلاق محلَّه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُوْلاً بِهَا وَقَعَ بِهَا، جَمِيْعُ مَا أَوْقَعَهُ).
فكأن المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقول: إنَّ هذا الكلام الذي تقدَّم في الأمثلةِ كلِّها في غير المدخول بها، أمَّا إن كانت مدخولًا بها؛ فكلُّ هذه الأمثلة تقع عليها ثلاث تطليقات إذا كانت من الحرِّ، وأمَّا إذا كانت من العبد فتقع عليها طلقة واحدة.
والأمثلة التي ذكرناها في غير المدخول بها من باب أَوْلَى أَوْلَى أن تقع على المدخول بها، فعلى سبيل المثال:
ïƒک لو قال: "أنتِ طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ" فتقع على المدخول بها ثلاث تطليقات.
ïƒک لو قال: "أنتِ طالقٌ ثلاثًا" تقع ثلاث تطليقات، وهذا هو مشهور المذهب وقول جماهير أهل العلم، خلافًا لقول شيخ الإسلام ومَن قالَ بقوله، وما عليه الفتوى عند بعضِ مشايخنا، وما جرى عليه العمل عندنا على قول ابن تيمية، ولكن عند الفقهاء هو وقوع الثَّلاث تطليقات بلا شك.
ïƒک لو قال: "أنتِ طالقٌ فطالقٌ فطالقٌ" أو قال: "أنتِ طالقٌ ثم طالقٌ ثمَّ طالقٌ" بلا شك أنها تقع ثلاث تطليقات في المشهور من مذهب الحنابلة، كما هو قول جمهور أهل العلم.
ïƒک لو قال لها: "كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثمَّ طلَّقَهَا"، تقع عليها التطليقة التي أوقعها بقوله: "أنتِ طالق"، ثم تقع عليها طلقة ثانية بقوله: "كُلَّمَا طَلَّقْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ".
هذه جملة من المسائل المتعلِّقة بهذا، ولعلَّنا نقف عند هذا الحد حتَّى تهنأ العقول وتسكن النُّفوس قليلًا بكثرة هذه الأمثلة التي تتباين بها الفهوم، أو قد يحصل بها شيء من الاضطراب، أو قد يكون فيها تماثل وتقارب وفروق دقيقة، فلا نحتاج إلى أن نُشكِل عليكم أكثر بما يحصل به عليكم شيء من ازدحام المعلومات.
أسأل الله لي ولكم دوام التَّوفيق والسَّداد، وأسأل الله أن ينفعنا، وأن يوفِّقنا، وأن يلهمنا الصَّواب والرَّشاد في العلم والعمل والهُدَى، وأن يُجنِّبنا الضَّلال والزَّلل، وأن يجزيكم خيرًا على مشاهداتكم ومتابعاتكم، وأن يجزي الإخوة القائمين على هذا البناء العلمي خير الجزاء، وأن يُعينهم على الاستمرار والثَّابت، وأن يكونوا ناشرين للعلم، داعينَ إليه، هادِينَ العباد لسبيله، مُبينين لسُنَّةِ نبيِّنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن يجعلنا على هذه الخُطَى سائرين غير زائغين ولا مُنحرفين، وأن يختم لنا بالعلم، وأن يُظهرَ بنا العلم، وأن يُبقينا عليه حتى نلقاه، فربُّنا جوادٌ كريمٌ، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمد.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:35   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

عُمْدَةُ الفقه (6)
الدَّرسُ الثَّامِنُ (8)
فضيلة الشَّيخ/ د. عبد الحكيم بن محمد العجلان
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاكَ الله، وأنا مسرورٌ بأن أكون معكم في هذه اللقاءات العلميَّة والمدارسات الشَّرعيَّة لمسائل تمتُّ الحاجة إليها، ونستعين بالله -جلَّ وعلا- على تجليتها وإيضاحها، عسى الله أن ينفعنا وأن ينفع الإخوة جميعًا بكلِّ خيرٍ.
{نُكمل في هذه الحلقة -بإذن الله- ما ابتدأناه في الحلقة الماضية لمسائل تابعة لِمَا يختلف به عدد الطَّلاق وغيره.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَنْ شَكَّ فِي الطَّلاَقِ أَوْ عَدَدِهِ، أَوِ الرَّضَاعِ أَوْ عَدَدِهِ، بَنَى عَلى اْليَقِيْنِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريمٌ.
أمَّا بعدُ؛ فأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يفتح لنا العلوم، وأن يرزقنا الفُهوم، وأن يُعيذنا من مضلَّات الفتنِ، وأن يحعلنا على هذا الحقِّ سائرين مُهتدين مُنتفعينَ، غَير زائغينَ ولا مُنحرفين، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريم.
قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ شَكَّ فِي الطَّلاَقِ).
حصولُ الشَّكِّ في الطَّلاق من المسائل المهمَّة والتي تكثرُ الحاجة إليها، هل طلَّقتُ أم لم أُطلِّق؟ أو حصل منِّي كذا؛ فالأصل عدمُ الطَّلاق، والأصل بقاء النِّكاح، وهذا بابٌ من الشَّيطان يدخل به ليُفسد على الإنسان طُمأنينته، وقد يتسوَّغُ بذلك لإفساد الزَّوجيَّة بينهما، فإنَّه لايزال ببعض ضِعاف النُّفوس موسوسًا:
ليست زوجة لك.
لقد طلَّقتها، ومقامُك بها مقامٌ محرَّمٌ؛ حتى يقول الإنسان: أطلقها حتى أَسْلَم!
فيوقعه الشَّيطان في الشَّركِ ويحصل عليه البلاء!
فنقول: مَن جاءه الشيطان فشكَّ هل طلَّق أو لم يُطلِّق؛ فالأصل عدم وقوع الطَّلاق، وهذا بالنِّسبَةِ لمن عنده وَسوسة، أمَّا مَن هو مُوَسوَسٌ به -ويصح أن يُقال مُوسوِسٌ به، باعتبار أنَّ الوسوسة حاصلةٌ عنده فيصح نسبتها إليه- فينبغي له ألَّا يُلقيَ للشيطَانِ بالًا؛ لأنَّه لا يزال به في الوسوسة في الطَّلاق، ثُمَّ ينتقل به إلى شيءٍ أعظم حتى يصل به إلى أصل عقيدته ودينه، فلا ينبغي له أن يفتح هذا الباب.
ولذلك جاء بعض مَن حصلت بهم الوسوسة إلى الإمام ابن عقيل -رَحِمَهُ اللهُ- فقال له: يا إمام، إنِّي أنغمسُ في نهرِ دجلة، ثُمَّ أرى أنِّي لم أغتسل! فقال: لا صلاةَ عليك. قال: كيف ذاك يا إمام؟ فقال الإمام: أنتَ مجنون.
فأراد الإمام أن يقطع عليه هذا الدَّابر، وأن يُبينَ له أنَّه إمَّا أن يستقيمَ على أمرٍ صحيحٍ، وألَّا يُذعنَ لشيطانه الذي يسيطر عليه حتى تعظم منه الوساوس، والذي يُسمَّى عند أهل الطِّبِّ "الوسوسة القهريَّة"، فمتى ما كانَ من الإنسانِ دُربة إلى ألا يُلقيَ للشيطان بالًا فإنَّه ينجو.
وبالمناسبة أبينُ على أنَّه ليس أحدٌ منَّا ينجو من ذلك، يعني الذي تحس به أنتَ أو يُحس به الآخر أو يحس به الثالث يأتيني في الوضوء، ويأتيني في الصَّلاة، ويأتيني في الزَّكاة، ويأتيني فيما يتعلق بأمر الطَّلاق والنِّكاح وغيرها؛ كلنا ياتيه، ولكن مِن النَّاس مَن يمنع هذا الباب، ويقطع دابر الشَّيطان في ذلك، امتثالًا لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ: أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا؛ فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ المَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا» ، فليس المقصود هو حقيقة سماع الصوت، وإنَّما أن يحصلَ منه يقينًا بذلك، حتى ولو أحسَّ بحركةٍ في وكاء السَّه -الذي هو مخرج الرِّيح- فإنَّ الشَّيطان يأتي فينفخ في مقعدته، أو يسحبُ شعرةً فيها، فهذا من حبائل الشيطان -نسأل الله السَّلامة والعافية.
إذن؛ مَن قطعَ هذا الدَّابر سَلِمَ، ومَن كان ضعيفًا إمَّا في ديانته أو في قلبه وعقله؛ ففي الغالب أنَّه لا يسلم، فبعض النَّاس قوي في ديانته ولكنه ضعيفٌ في عَقله، وبعضهم يجتمع له الضَّعفُ فيهما جميعًا، فلا يزال ميدانًا للشيطانِ يلعبُ به كيف يشاء، وكم من النَّاس الذين حصلَ منهم تطليقٌ وضياع أُسَرهم وتفرُّق بيوتاتهم بسببِ ذلك!
فنقول: أمَّا إذا كان مُوسوسًا به فهو أحرى ألا يعتبر بذلك البتَّةَ.
وهنا مسألةٌ أعظمُ من ذلك وأظهر، وهي أنَّ الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعالَى- يقولون: مَن طلَّقَ بقلبه ولم ينطق بلسانه فلا طلاق عليه.
بمعنى: أن يجلس الشَّخص فيقول بالطَّلاق في نفسه، فيقطع في نفسه ويقول: هذه زوجةٌ لا يُمكن أن تبقَى عندي!
فقطَعَ بالتَّطليقِ، ولكنَّه لم يلفظ به، ولم يتكلم به؛ فنقول: إنَّ الطلاق لا يقع، ولذلك ينصُّ الفقهاء على أنَّ الطلاق لا يقع بالقلب، حتى ولو انعقد قلبه عليه وأيقنَ أنَّه فاعله؛ لأنَّ مُتعلَّق الطَّلاق هو الإيقاع، ولا يكون الإيقاعُ إلَّا باللفظ، أو ما يقوم مقامه كالكتابةِ لأخرسٍ أو غيره، أو كتابةً لمَن أراد الطَّلاق، فلو كتبَ: "أنت طالقٌ" ولم يُرد الطلاق؛ فلا يقع ذلك، وهذه مسألةٌ مرَّت الإشارة إليها.
قال: (وَمَنْ شَكَّ فِي الطَّلاَقِ أَوْ عَدَدِهِ)، كأن يقول: أنا طلَّقتُ وكنت غضبانًا، ولا أدري هل قلتُ أنتِ طالق واحدة أو ثنتين أو ثلاث!
فنقول: يرجع إلى اليقين، فاليقين أنَّها واحدة، وما زاد مشكوكٌ فيه، وبناء على ذلك تحتسب عليه في مثل هذه الحال طلقة واحدة.
قال: (أَوِ الرَّضَاعِ)، فلو قالت امرأة: أنا لا أدري أرضعتُ ثلاث رضعات أو خمس!
فنقول: اليقين ثلاث، والتَّحريم لا يكون إلَّا بخمسٍ، فكأنَّها لم تُرضعه رضاعًا مُحرِّمًا، وهكذا في كلِّ شيءٍ؛ لأنَّ الأصل هو الذي يُرجَع إليه عند حصول الشَّكِّ، ويرتفعُ به هذه الأوهام، ويُطرَد به دابر الشَّيطان.
فهذه مسألةٌ مُهمَّة، ومِن أكثرِ ما يحتاج إليه الناس، سواء في ذلك عموم النَّاس، أو مَن عندهم وسوسة وهم أكثر في هذا الباب أسئلةً ومراجعةً للعلماء، ومناقشةً لهم في ذلك، ولو أنَّهم اكتفوا بهذا الأصل لاستراحوا وأراحوا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ قَالَ لِنِسَائِهِ: إِحْدَاكُنَّ طَالِقٌ، وَلَمْ يَنْوِ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا،أُخْرِجَتْ بِاْلقُرْعَةِ)}.
لو قال لنسائه: (إِحْدَاكُنَّ طَالِقٌ) وهو لم ينوِ واحدةً بعينها؛ فهنا نرجع إلى ما ذكرناه سابقًا، فهذا الزَّوج حصل منه إيقاع الطَّلاق، وقوله: (إِحْدَاكُنَّ) يعني: واحدة من هذه الأربع، ولم يكن ثَمَّ تعينٌ لا بنيَّةٍ ولا بإشارة كأن يقول: (إِحْدَاكُنَّ طَالِقٌ) ويُشير إلى واحدةٍ ويقصدها، فبناءً على ذلك نقول: هذا الإيقاع قد وقع، وحصلت التَّعميةُ في العينِ المطلَّقةِ، وبناء عليه نُخرجها بالقرعَة؛ لأنَّها هي الطَّريقُ إلى فكِّ الخصومةِ عند استواء الحقوق، فليست إحداهنَّ أولى من الأخرى بالبقاء في الزَّوجيَّة، وليست إحداهنَّ أولى من الأخرى في وقوع الطَّلاق.
بعض النَّاس يقول: ما ذنب هذه أو هذه؟
نقول: لأنَّه قال: (إِحْدَاكُنَّ طَالِقٌ) فهو أوقعَ الطَّلاق على إحدى زوجاته غيرَ مُعيَّنةٍ؛ فاحتجنا إلى التَّعيين، والتَّعيين إنَّما يُعرف إمَّا بالنِّيَّةِ أو بالقرينةِ أو بالإشارة، أو بالقصد بقلبه؛ فإذا لم يكن شيءٌ من ذلك؛ فنقول: إنَّ الطَّلاق قد وقعَ ولابدَّ أن يتوجَّه إلى واحدةٍ منهنَّ؛ فيُقرَع بينهنَّ، فمن أصابها سهمُ القُرعةِ وقع الطَّلاق عليها.
{ما الحكم لو كان يتمنَّى واحدة من هؤلاء لكنَّه ما عيَّنها ولم يقصدها؟}.
ما دام لم يقصدها فلا يقع عليها الطلاق، ولكنَّ لو قال: (إِحْدَاكُنَّ طَالِقٌ) وهو يريدُ فلانة، ولكنَّه استحيى أن يقول: "غير فلانة، أو دون فلانة"؛ فنقول: ما دام أنَّه لم يُعيِّن فهي واحدةٌ من زوجاته اللاتي توجَّه إليهنَّ التَّطليق، فتدخل معهنَّ في القرعة، سواء حصلَ الطَّلاق عليها أو على غيرها، فلابدَّ من أن يوقَع الطلاق في محلِّه؛ لأنَّه خرج من أهله -الذي هو زوجٌ يملك الطلاق ووجَّهه إلى نسائه- فلمَّا لم تُعرَف فالقرعةُ هي المصيرُ عند استوائهنَّ في الاستحقاق وما يترتب على الطلاق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ طَلَّقَ جُزْءًا مِنِ امْرَأَتِهِ مُشَاعًا أَوْ مُعَيَّنًا،كَإِصْبَعِهَا أَوْ يَدِهَا،طَلُقَتْ كُلُّهَا، إِلاَّ السِّنَّ وَالظُّفْرَ وَالشَّعْرَ وَالرِّيْقَ وَالدَّمْعَ وَنَحْوَهُ لاَ تَطْلُقُ بِهِ)}.
قوله: (وَإِنْ طَلَّقَ جُزْءًا مِنِ امْرَأَتِهِ مُشَاعًا)، كأن يقول: "بعضكِ طالقٌ، أو نصفكِ طالقٌ، أو جزءكَ طالقٌ"، أو كان جزءًا مُعيَّنًا، كأن يقول: "يدكِ طالقٌ، صدركِ طالقٌ، عينكِ طالقٌ، أنفكِ طالقٌ، رجلكِ طالقٌ"، فسواءٌ هذا أو هذا؛ فإنَّها تطلق كلها؛ لأنَّه أوقع الطلاق عليها، والطلاق كلٌّ لا يتجزَّأ، فلمَّا كان قد أوقع جُزءًا فإنَّه يَسري إلى جميعها، فبناء على ذلك تطلق المرأة طلقةً كاملة.
ومثل ذلك لو جزَّأَ الطَّلقة فقال: "أنتِ طالقٌ نصف طلقة، أو ربع طلقة"، نقول: تقع طلقة كاملة؛ لأنَّه لا يُتصوَّرُ وقوع بعض الطَّلقة، وبناء على ذلك لو أوقع ربع طلقة أو ثلث طلقة أو أكثر أو أقل؛ تكون طلقةً كاملة.
وهكذا لو قال: "أنتِ طالقٌ طلقةً ونصف"، فنقول: إذا لم يُرد بذلك التَّأكيد -كما في عرف بعض النَّاس- فإنَّ النِّصفَ هنا يُكمَّل، فتكون عليه طلقتان.
من قال لزوجته: (أنتِ طالقٌ طلقةً ونصف) ولم يُرد التأكيد فحينئذٍ .......
لا يقع الطلاق – يقع الطلاق بما ذكر فقط – تقع طلقتان كاملتان
ثُمَّ استثنى من ذلك المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- مسائل، فقال: (إِلاَّ السِّنَّ وَالظُّفْرَ وَالشَّعْرَ وَالرِّيْقَ وَالدَّمْعَ وَنَحْوَهُ)، كأنَّه يقول: إنَّ الأشياء التي يُمكن انفصالها من المرأة في حال الحياة، وبناء على ذلك إذا أوقع الطلاق عليها وكان هذا الشيء يُمكن أن ينفصل؛ فلا يَسري الطلاق إلى جميعها.
فإذا قال: "ظفركِ طالق" فالظِّفر يُقص فلا يَسري إلى الجميع، فلم يكن مُتَّصلًا بها اتِّصالًا لا ينفصلُ منها بحالٍ من الأحوال.
ومثل ذلك لو قال: "شعركِ طالق" فالشَّعر يُقصُّ ويُحلق، فهو في حُكم المنفصل لا في حُكم المتَّصل، وبناء على ذلك لا يقع بنحو ذلك طلاق.
ولو قال شخص لامرأته: "شعركِ طالقٌ، أو سِنُّكِ طالقٌ، أو ظفركِ طالقٌ"؛ فهذه أشياء تنفصل عنها، وجرت العادة بانفصالها، وبناء على ذلك لا يُحكَمُ بأنَّ الطَّلاق وقع عليها.
ومثل ذلك الرِّيق، فيُمكن أن يُخرج الإنسانُ ريقَه، وكذلك الدَّمع ينفصل عن الإنسان عادةً.
وقوله (وَنَحْوَهُ)، يعني لو قال: "بولكِ طالق، عَرَقُكِ طالقٌ"، فهذه كلها أشياء تنفصل، وبناء على ذلك لا يقع بها طلاق.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيْقَةٍ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ هَذَا، طَلُقَتْ وَاحِدَةً)}.
لو قال: "أنتِ طالقٌ ذرَّةً من طلقةٍ، أو واحدة في المائة من طلقةٍ، أو ربعَ طلقةٍ"؛ فكلُّ ذلك يقع به تطليقةٌ كاملة مثلما قلنا قبل قليل.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باَبُ الرَّجْعَةِ)}.
الحمد لله أن أنهينا كتاب الطَّلاق.
ولَمَّا انتهينا من كتاب الطَّلاق نأتي إلى باب الرَّجعةِ، وباب الرَّجعةِ مُتعلِّقٌ بالطَّلاق لا بالخُلعِ، والخُلع لا رجعةَ فيه؛ لأنَّه إمَّا طلاقٌ بعوضٍ أو فسخٌ بعوضٍ على ما سبقَ توضيح ذلك وتبيينه، فبناء على ذلك لا رجعةَ فيه.
كيف يعود من خالع زوجته إلى الزَّوجيَّة؟
نقول: له طريقٌ واحد، هو أن يخطبها، فيعقد عليها عَقدًا جديدًا بمهرٍ جديدٍ وشهودٍ ونكاحٍ جديدٍ، كأنَّه لم يتزوَّجها قبلُ، ثُمَّ تعود إلى ما تكون عليه من تطليقاتها، فإذا كان قد طلَّقها واحدة بقيَ لها اثنتان، وإذا كان قد طلَّقها اثنتان بقيَت له واحدة، أمَّا لو كان قد طلَّقها ثلاثًا فلا يجوز له أن يرجع إليها حتى تَنْكِح زوجًا غيرَه.
وقلنا: متى تقع الثلاث تطليقات بالخلع؟
الإجابة: إذا كان الخلع بلفظ التَّطليق في آخر تطليقاتها الثَّلاث على قولِ الحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ.
أمَّا الرَّجعةُ فهي: حُكمٌ من الأحكام التي تثبتُ للزوجِ على زوجته إذا طلَّقها في أحوالٍ مخصوصة؛ لأنَّنا ذكرنا أنَّ غير المدخول بها لا عدَّةَ عليها، فبناءً على ذلك تَبِين، فلا رجعة عليها البتَّة.
والمراجعة لها أصلٌ صحيحٌ في الشَّرع، فالنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لعمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ((مُرْه فَليُراجِعَهَا))، فراجعها بعدَ تطليقها.
والله -جلَّ وعلا- يقول: ï´؟وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَظ°لِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًاï´¾ [البقرة:228]، والتَّقييدُ بإرادة الإصلاح نفيٌ لطرائق أهل الجاهليَّة الذين كانوا يُطلِّقونَ نساءهم، وإذا قاربت أن تنتهي عدَّتها راجعها ثُمَّ طلقها، حتى يُضارَّ بها ويمنعها مِن التَّزويج، وتكون مُعلَّقةً لا هي مُزوَّجةً ولا هي مُطلَّقة!
فنقول: الرَّجعة حق، ولكن بشرطِ ألَّا يكون الزوج قد قَصَدَ بذلك المضارَّةَ والإضرار بها -نسأل الله السَّلامة والعافية- والإجماع مُنعقدٌ على ذلك.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، بَعْدَ الدُّخُوْلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ، أو العَبد أقل مِن اثْنَتَينِ؛ فَلَهُ رَجْعَتُهَا مَا دَامِت فِي العِدَّة) لقوله تعالى: ï´؟وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًاï´¾ [البقرة: 193])}.
إذن عندنا امرأة مَدخول بها وامرأة غير مدخولٍ بها.
فإذا كانت غير مدخولٍ بها: فلا رجعة عليها.
والسبيل إليها لا يخلو:
ïƒک إن كان طلقها طلقة أو طلقتين، مثل أن يقول: "أنتِ طالقٌ طلقة، أو أنتِ طالقٌ طلقتين"، فله أن ينكحها بعقدٍ جديد، ولا رجعة عليها؛ لأنَّه ليس عليها عدَّة، فلم يكن له عليها رجعة، وهذا محل إجماع بين أهل العلم لا يختلفون فيها.
ïƒک أو يكون قد طلَّقها ثلاثًا، وسيأتي الكلام عنها.
إذن؛ محل الكلام في الرَّجعةِ إنَّما هو في المدخول بها، وأن يكون الطلاق طلاقًا رجعيًّا لا خُلعًا، فلا تكون الرَّجعة في الطَّلاق الخلعيِّ، ولا تكون لمن طلَّق زوجته ثلاثًا، ولا تكون في غير المدخول بها، ولا تكون بعدَ العِدَّة -على ما سيأتي تفصيله.
قال: (وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، بَعْدَ الدُّخُوْلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ)، أمَّا إذا كان بعوضٍ -وهو الخلع- فإنَّه لا رجعة فيه -على ما ذكرنا- لأنَّها إنَّما دفعتَ ما دفعت لتفتدي بنفسها ولا يكون له سبيلٌ عليها.
وقوله: ( أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ)؛ لأنَّه إذا طلَّقها ثلاثًا فإنَّها لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره؛ لقول الله -جلَّ وعلا: ï´؟فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُï´¾ [البقرة:230].
ويدل على ذلك: مَا ذُكر مِن قصة الصَّحابي الذي طلَّق امرأته ثلاثًا ثُمَّ تزوجت المرأة من ابن الزبير، ثُمَّ أرادت أن ترجع إلى زوجها، فقال لها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» .
فإذن المطلقة ثلاثًا لا يُمكنها أن ترجع إلى زوجها إلَّا أن تتزوَّج ويطأها الزَّوج الثَّاني، ويكون النِّكاح نكاح رغبةٍ لا نكاح تحليل ثُمَّ يُطلقها، فبعد ذلك يُمكن للزوج الأول أن يتزوجها بعقدٍ جديدٍ، ولا رجعة له عليها.
إذن إذا طَلَّق الرَّجل امرأته بعد الدخول بغيرِ عِوضٍ أقلَّ مِن ثلاث، صحَّت المراجعَة، يعني: سواء كان قد طلَّقها طلقةً أو اثنتين فله أن يُراجعها في العدَّة.
وكذلك العبد لو طلقَ زوجته أقل من طلقتين -يعني: واحدة- لأنَّ العبد لا يملك إلَّا طلقتين، وبناء على ذلك لو طلَّقَ زوجته طلقةً واحدةً ثُمَّ أراد أن يُراجعها فله ذلك.
قال المؤلف: (فَلَهُ رَجْعَتُهَا مَا دَامِت فِي العِدَّة)، والمقصود بقوله: (رَجْعَتُهَا)، أنَّه لا سبيل لأحدٍ أن يمنعه منها، ولا يُمكن لأحدٍ أن يحولَ بينه وبينها، فإذا كانت في العِدَّةِ وكانت أقل من تطليقاتٍ ثلاثٍ لمدخولٍ بها وأراد زوجها أن يُراجعها، فلا يحتاج فيها إلى استشارتها ولا إلى استئذانها ولا علمها، ولا علم أبيها، ولا رضاه، ولا رضا أحد مِن قرابتها؛ فإذا قال: "راجعتها، أو راجعتُ زوجتي، أو راجعتُكِ"، وهي مُطلقة أقل مِن ثلاث تطليقات، ولا زالت في العِدَّة، وكان الطَّلاق بغيرِ عِوضٍ؛ ففي هذه الحال رجعَت الزَّوجيَّة، لقول الله -جلَّ وعَلا: ï´؟وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًاï´¾.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالرَّجْعَةُ: أَنْ يَقُوْلَ لِرَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ: اشْهَدَا عَلَيَّ أَنِّيْ قَدْ رَاجَعْتُ زَوْجَتِيْ أَوْ رَدَدْتُهَا أَوْ أَمْسَكْتُهَا مِنْ غَيْرِ وَلِيٍّ، وَلاَ صَدَاقٍ يَزِيْدُه، وَلاَ رِضَاهَا، وَإِنْ وَطِئَهَا، كَانَ رَجْعَةً)}.
المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- يُبيِّنُ الرَّجعة التي يحصل بها العودُ إلى النِّكاح، وهو أن تحصل باللفظ لا بالفعل، وهو هنا يحكي التَّمامَ والكمال، وهو أن يقول الزوج "راجعتُكِ"، وأن يُشهد على ذلك اثنين لقول الله تعالى: ï´؟وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِï´¾ [الطلاق:2]، فالشَّهادة هُنا مُستحبَّةٌ وليست واجبة فإذا فعل ذلك فهذه الرَّجعة التي لا غضاضة فيها ولا إشكال، وهي أكمل ما تكون.
لو قال: "راجعتُكِ" ولم يُشهِد على ذلك؛ فنقول: الرَّجعةُ صحيحة، والزَّوجيَّة باقية، وليس للمرأة بعد ذلك أن تتزوَّج، وانقطعت عليها عدَّةُ الطَّلاق، ورجعَت إلى ما كانت عليه قبل التَّطليق.
سؤال: لِماذا لم يكن الإشهادُ واجبًا وقد قال الله تعالى: ï´؟وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْï´¾؟
قال أهل العلم: لَمَّا لم يكن الإشهاد واجبًا على التَّطليق فمن باب أولى أَّلا يكون واجبًا على الرَّجعة، فلأجل ذلك كان الإشهادُ على الرَّجعة مُستحبًّا كما هو المذهب وعليه جمهور أهل العلم.
ومع ذلك نقول: لا ينبغي أن يُراجِع بدون إشهادٍ؛ لأنَّ هذا يقطع دابر الخلاف، ولئلَّا تتطاول ضعاف النُّفوس فيدَّعي أنَّه راجعها ولم يكن قد راجعها فيعود إلى امرأةٍ لا تحل له ونحو ذلك، ولكن من جهة الأصل أنَّ المراجعة تحصل بقول: "راجعتُكِ"، وأنَّه لا يُشتَرطُ فيها إشهاد، ولكن الإشهاد تمامها وكمالها، وسواء قال بلفظ: "راجعتُكِ، أو رددتكِ، أو رددتُّها، أو أمسكتُها".
ثُمَّ يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- إنَّ الرجعة ليست عقدًا، وليست إنشاءً، وإنَّما هي عودٌ، ولذلك قال: (مِنْ غَيْرِ وَلِيٍّ، وَلاَ صَدَاقٍ يَزِيْدُه، وَلاَ رِضَاهَا)، هذا ما يترتَّب على قولنا أنَّ الرَّجعةَ ليست عقدًا أو ليست إنشاءً، وإنَّما هي إرجاع الشَّيءِ إلى مكانه، وعودته إلى ما كان عليه، فلا تتوقَّفُ لا على رضا الولي ولا على الصَّداق، ولا على رضا المرأة، ولا اعتبار شيء من ذلك البتَّة.
ثُمَّ قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ وَطِئَهَا كَانَ رَجْعَةً).
هل تحصل الرجعة بالفعل أو لا؟
هذا محل كلامٍ لأهل العلم:
- فالحنابلة -رَحِمَهُم اللهُ- صاروا إلى أنَّ الرَّجعَة تتأتَّى بالفعل، فإذا جامعها فكأنَّه قد راجعها، وهو أبلغُ ما يكونُ عندهم. فيقولون: كما أنَّ المراجعة تكون بالقول فكذلك تكون بالفعل.
- الجمهور يقولون: لابدَّ من لفظِ الإرجاع، بدليل قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعَهَا»، فأمره بمراجعتها، والمراجعة لا تُعرف بالقلب، فلمَّا كانت شيئًا مُستكنًّا في النَّفسِ فلابدَّ من اللفظ، والفعل قد لا يتمحَّضُ في المراجعة وإنَّما قد يكونُ أتاها على إرادة السُّوء، وقد يكون أراد غير ذلك، فالأصل أن يقول: "راجعتُكِ".
شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- صار وسطًا بين هذا وهذا فقال: "تكون الرَّجعة بالفعل أو بالوطء بالنيِّة".
وعلى كلِّ حالٍ نقول: ينبغي ألا يُصار إلى الرُّجوع بالفعل لمحلِّ الخلاف فيه، وأحوط للإنسان في نفسه، ثُمَّ إنَّه شيء ليس بمكلِفٍ أن يقول: "راجعتُكِ".
ولكن لو أنَّ شخصًا راجع زوجته في نفسه، ثُمَّ جامعها دون أن يقول؛ فيبعد أن نقول من أنَّ تلك الرَّجعة لا تصح؛ لأنَّه قولٌ مُعتبرٌ عند أهل العلم، وله أصلٌ من جهة النَّظرِ والاستدلال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالرَّجْعِيَّةُ زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا الطَّلاَقُ وَالظِّهَارُ، وَلَهَا التَّزَيُّنُ لِزَوْجِهَا وَالتَّشَرُّفُ لَهُ، وَلَهُ وَطْؤُهَا وَاْلخَلْوَةُ بِهَا وَالسَّفَرُ بِهَا)}.
الطَّلاق الرَّجعي هو: طلاقُ المدخولِ بها طلقةً أو طلقتين في زمنِ العدَّة.
فبناء على ذلك: هذا الذي طلَّق زوجته طلقةً، ثُمَّ بعد أسبوعٍ من تطليقها أرادت أن تُسافر معه فهي زوجته، وهو محرمٌ لها، ولو أنَّها ماتت لورثها لأنَّها زوجته، ولو أنَّه مات لورثته لأنها زوجته.
ولو أنَّه قال لها: "أنتِ طالقٌ" مرةً ثانية فيلحقها طلاقٌ؛ لأنَّه طلَّقَ زوجةً له.
إذن؛ لا زالت عُلقة الزَّوجيَّة باقيةٌ، فزمن العدَّة هو زمن انتقالٍ حتى تترتَّب على الزَّوجة أحكام الطَّلاق بعد انتهاء العدَّة، أمَّا ما دامت في العدَّة فلا زالت آثار النِّكاح باقيةٌ، غيرَ أنَّه لا يقسم لها، فلو كان عنده أكثر من زوجة ثُمَّ طلق واحدةً طلاقًا رجعيًّا، فزمن العدَّة ليست ممَّن يقسم لها.
قال المؤلف: (وَلَهَا التَّزَيُّنُ لِزَوْجِهَا وَالتَّشَرُّفُ لَهُ)، لعلَّه يراجعها، وترق نفسه إليها، أو أن يستحسن منها شيئًا ونحو ذلك فيعود إليها.
قال: (وَلَهُ وَطْؤُهَا)، يعني: له وطؤها بناء على قولهم: إنَّ الرَّجعة تكون بالوطء، فإذا وطئها فهي رجعةٌ بالفعل، أمَّا عند الجمهور فلا يجوز وطؤها حتى تكون منه مراجعة.
وقوله: (وَاْلخَلْوَةُ بِهَا وَالسَّفَرُ بِهَا)، كما ذكرنا جواز ذلك إذا كانت في زمن العدَّة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِذَا ارْتَجَعَهَا عَادَتْ عَلى مَا بَقِيَ مِنْ طَلاَقِهَا، وَلَوْ تَرَكَهَا حَتَّى بَانَتْ ثُمَّ نَكَحَتْ غَيْرَهُ، ثُمَّ بَانَتْ مِنْهُ، وَتَزَوَّجَهَا اْلأَوَّلُ رَجَعَتْ إِلَيْهِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلاَقِهَا)}.
قوله: (وَإِذَا ارْتَجَعَهَا عَادَتْ عَلى مَا بَقِيَ مِنْ طَلاَقِهَا)، يعني: لو أنَّ شخصًا طلَّقَ امرأتَه طلقةً أو طلقتين ثم راجعها فنقول: هذه زوجته التي قد طُلِّقَت طلقة أو طلقتين محسوبةٌ عليه، فبناء على ذلك لا يبقى له إلا طلقتين، وإذا كان قد طلقها اثنتين فلا يبقى له إلا واحدةٌ.
قوله: (وَلَوْ تَرَكَهَا حَتَّى بَانَتْ ثُمَّ نَكَحَتْ غَيْرَهُ، ثُمَّ بَانَتْ مِنْهُ، وَتَزَوَّجَهَا اْلأَوَّلُ رَجَعَتْ إِلَيْهِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلاَقِهَا)
مثال: لو أنَّ شخصًا قال لزوجته: "أنتِ طالقٌ"، ثم انتهت عدتها ولم يُراجعها فهي الآن أجنبيَّةٌ عنه، ولها أن تتزوَّج وتستتر عنه، وليس بينهما أيُّ علاقةٍ.
والفرق بين مَن طُلِّقَت ثلاثة ومَن طُلِّقَت واحدة: أنَّ المطلقة واحدة أو اثنتين يُمكن أن يخطبها فيتزوجها، فلو أنَّه تزوجها فإنَّها تعود إليه بما كانت عليه من تطليقات، فإن كان طلقها واحدة بقي له اثنتان، وإن كان طلقها اثنتان بقيت له واحدة.
وبعض الناس يظن أنَّ المرأة لا تبينُ إلا بالثَّلاث تطليقات، وهذا كما قلنا سابقًا: إنَّه نتيجة بعضُ إفرازات هذه الثَّقافات الحاضرة وأعفان الفنِّ والمشاهدات المحرَّمَة في المسلسلات وغيرها؛ والصواب أنَّ المرأة إذا طُلِّقَت واحدة وانتهت عدَّتها بانت من زوجها وصارت أجنبيَّة عنه، ولكن أنت جعلت لنفسك طريقًا عليها، أنَّك لو رقَّت نفسُك إليها أو هفت نفسكَ لبيت الزَّوجيَّةِ معها فيُمكنك أن تطرق بابهم وأن تخطبها من أبيها، وأن تتزوَّجها بعقدٍ وشاهدين وصداقٍ جديدٍ، وكذلك لو كانت مُطلقة طلقتين.
ولكن إذا كانت مُطلقةً ثلاث تطليقات؛ فلابدَّ أن تنكح زوجًا ثانٍ -كما قلنا قبل قليل.
متى تبينُ الزَّوجَة؟
إذا انتهت العدَّة بثلاث حِيض، أو بوضع الحمل إن كانت حاملًا، على ما سيأتي من أحكام العدد في الباب الذي بعده.
نقول: إذا بانت منه:
- فإمَّا أن يتزوَّجها هو مباشرةً.
أو تكون هي تزوَّجت زوجًا ثانٍ، ثم تزوجها الأولُ بعدَ ذلك.
فلو تزوجها بعدَ زوجٍ ثانٍ، وكان قد طلقها طلقة أو طلقتين؛ فهي تعود على ما كان من عدد تطليقاتها، فهذا هو الأشهر والأصح، ولذلك قال المؤلف: (وَلَوْ تَرَكَهَا حَتَّى بَانَتْ ثُمَّ نَكَحَتْ غَيْرَهُ، ثُمَّ بَانَتْ مِنْهُ)، يعني: طُلِّقَت وانتهت عدَّتُها من الزَّوج الثَّاني. (وَتَزَوَّجَهَا اْلأَوَّلُ رَجَعَتْ إِلَيْهِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ طَلاَقِهَا)، فإذا كان طلقها واحدة بقيت ثنتان، وإذا كان طلقها اثنتين بقيت واحدة.
إذن؛ اتَّضحَ معنا أنَّ:
ïƒک غير المدخول بها:
إذا طُلِّقَت بانت، وله أن يتزوَّجها بعقدٍ جديدٍ بشرطِ ألا يكون قد أوقع عليها ثلاث تطليقات.
ïƒک المدخول بها:
* إذا طلقها طلقة أو طلقتين، فإن كانت في العِدَّة فهو أحق بها، وله مراجعتها بدون رضاها ولا رضا وليها، ولا يُحتاج فيه إلى إذنٍ ولا غير ذلك، أمَّا إذا انقضت عدَّتها فيجوز له أن ينكحها سواء تزوَّجَت أو لم تتزوَّج، فإذا طرَقَ بابَها فهو خاطبٌ من الخطَّاب، وإذا تزوَّجها تعود إليه بما بَقِي من طلاقِها، إن كان طلقها في الزَّواج الأول طلقة تبقى لها اثنتان، وإذا كان طلَّقها طلقتين تبقى واحدة، ولا يختلف إذا ما كانت تزوَّجت بعدَه أو لم تتزوَّج.
* إذا طلَّقها ثلاثًا تبينُ منه بمجرَّد التَّطليق، ويجب عليها أن تبقى مُدَّة العدَّة لحرمة النِّكاح الأوَّلِ، فإذا انتهت العدَّة جاز لها أن تتزوَّج مَن شاءَت من الأزواج غير زوجها الأوَّل، وإذا أراد زوجها الأول أن يتزوجها فلابدَّ أن تكون تزوَّجَت زواجَ رغبةٍ، وأن تكونَ قد وُطئَت في ذلك الزَّواج، ثمَّ طُلِّقَت، ثم يخطبها فيتزوَّجها، وتعود عليه بطلقات ثلاثٍ جديدات.
أظن أنَّه بهذا يكون اتَّضحَ كلُّ ما يتعلَّق بكلِّ الصُّور المتصوَّرة في مُراجعة المرأة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِذَا اخْتَلَفَا فِيْ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَاْلقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِيْنِهَا إِذَا ادَّعَتْ مِنْ ذلِكَ مُمْكِنًا)}.
إذا اختلفا في انقضاء عدَّتها فالقول قولها؛ لأنَّ هذا إنَّما يُعلَم مِن جِهتها، فهي التي تحيض، وهي التي تحسب لنفسها، والأصل أنَّ المرأة مُؤتمنةٌ على ذلك، فإذا ادَّعَت أنَّ عدَّتها قد انقضَت فلا يخلو:
ïƒک إمَّا أن تكون دعواها في وقتٍ لا يُمكن انقضاء العدَّة فيه، وهي أقل مِن ثمانية وعشرين يومًا؛ فلا نُصدِّقها.
ïƒک وإمَّا أن تكون ثمانية وعشرين يومًا فإنَّ ذلك صحيحٌ؛ لأنَّ علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَضى في ذلك بالصِّحَّة، فلو كانت امرأة حيضتها يومٌ وليلة وأقل ما يكون من الطُّهرِ ثلاثة عشر يومًا، فحاضَت حيضة، ثُمَّ بقيت ثلاثة عشر يومًا ثُمَّ حاضت حيضةً ثانية؛ فهذه خمسة عشر يومًا، ثُمَّ طهرت ثُمَّ بقيت ثلاثة عشر يومًا، ثُمَّ حاضت حيضةً فطهُرت؛ فهذه ثمانية وعشرين يومًا، فمعنى ذلك أنَّه يُمكن هذا، فلمَّا قيل لعلي: إنَّها انقضت عدَّتها، قال: "إن جاءت ببينةٍ من أهلها صدَّقناها"، فجاءت المرأة بأن عادتها يومٌ وليلة، فصدَّقها علي -رضي الله عنه- وأمضى انتهاء عدَّتها.
إذن؛ إذا ادَّعت المرأة انقضاء عدَّتها وكان ذلك ممكنًا صدَّقناها، حتى لو قال الزوج: لا يُمكن أن تنقضي عدَّتها وأنا أريد مُراجعتها! فنقول: انتهى الأمر؛ لأنَّ هذا يُعرف مِن جهتها وهي مُصدَّقةٌ ومؤتمنةٌ في ذلك، فالقول قولها في ذلك مع يمينها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنِ ادَّعَى الزَّوْجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا أَنَّهُ كَانَ قَدْ رَاجَعَهَا فِيْ عِدَّتِهَا، فَأَنْكَرَتْهُ، فَاْلقَوْلُ قُوْلُهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، حُكِمَ لَهُ بِهَا)}.
قوله: (وَإِنِ ادَّعَى الزَّوْجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا أَنَّهُ كَانَ قَدْ رَاجَعَهَا فِيْ عِدَّتِهَا، فَأَنْكَرَتْهُ، فَاْلقَوْلُ قُوْلُهَا)؛ لأنَّ الأصل أنَّه لم يراجعها، ولكن إن أتَى ببيِّنةٍ كأن يقول: أنا في اليوم الفلاني راجعتها وهي لا زالت في العِدَّة؛ فنحكم له بذلك.
وبناء على ذلك: إذا أقام البيِّنة التي هي شاهدين، أو أنَّه في يوم الخامس عشر من شهر كذا قد راجع الزَّوجة، وهي قالت: إنَّها انقضت عدتها في عشرين من محرم؛ فنقول: هي زوجته؛ لأنَّ هذا دلَّ على إقامة البيِّنَة.
أمَّا إذا لم تكن بيِّنَة فالأصل أنَّ العدَّة قد انتهت، وأنَّ المراجعَة لم تثبت، فدعواه بأن المراجعة قد حصلت لا تُصدَّق إلا ببينة، فيكون الكلام في ذلك مُتَّسقًا واضحًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَزَوَّجَتْ، رُدَّتْ إِلَيْهِ، سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا الثَّانِيْ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ)}.
إذا انقضت عدَّةُ المرأة ثُمَّ تزوَّجَت، وما علمَت أنَّ زوجها قد كان راجعها، فجاء الزَّوج الأول وقال: أنا راجعتها، فقالت: لا، لم تُراجعني، وقد تزوجتُ.
فيقول له القاضي: هل عندك بيِّنة؟ قال: نعم، عندي إمام المسجد وفلان مِن خِيرة النَّاس يشهدون، ولكن حيلَ بيني وبين الوصول إليها، إمَّا بسجنٍ أو بمرضٍ، أو سفرٍ، أو شيءٍ مانعٍ من الرجوع، أو كان مُهدَّدًا بغير ذلك؛ فإذا أقامَ البيِّنةَ أنَّه قد راجعها، فنحن نتبيَّن أنَّها زوجته، وأنَّ النِّكاح الثَّاني وقع على وجهٍ خاطئ؛ لأنَّه نكحها وهي زوجة، فبناء على ذلك نقول: إنَّها تعودُ إلى زوجها الأول سواء دخل بها الثَّاني أو لم يدخل بها.
ما حال نكاحها الثاني؟
نقول: هو يسمَّى بوطء الشُّبهة؛ لأنهم يظنون أنَّ نكاحها صحيح، فبناء على ذلك ليس عليهما في ذلك حدٌّ ولا تعزير، ولو وُلِدَ لها من ذلك النِّكاح فيُنسَب إلى زوجها، كما في أحكام وطء الشُّبهةِ على ما ذكره الفقهاء -رحمهم الله تعالى- فيذكرون ذلك في مواطن مُختلفة، فأحيانًا يذكرونَه في العِدَد، وأحيانًا يذكرونه في أحكام اللقيط وما يتعلَّق به.
{شيخنا أحسن الله إليكم.
ما الحكم لو راجعها وأشهدَ على ذلك ولكن لم يُخبرها، ثُمَّ أظهرَ البيِّنَة بعد انقضاء عدَّتها؟}.
قلنا: إنَّ إخبارها ليسَ ممَّا يترتَّب عليه حُكمٌ، ما دام أنَّه أقام البيِّنة على المراجعة، فلأجل ذلك ترى أنَّ الألفاظ التي ذكروها ليست بلازمة أن تكون للمخاطبة مثل: "راجعتُكِ"، بل إذا قال: "أمسكتُ زوجتي، رددتُ زوجتي، راجعتُ زوجتي"، وأشهد على ذلك فيكفيه، وكان ذلك كافيًا في حُصول الرَّجعة وثبوت النِّكاح.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باَبُ اْلعِدَّةِ)}.
العدَّة من الأحكام المتعلقة بالطَّلاق بعدَ النِّكاح، وذلك أنَّ العدَّة دالَّةٌ على عِظَم هذا العقد وما يترتب عليه، وأنَّه جُعل له وقتًا لا تنتقل المرأة إلى زوجٍ آخر حتى تُمضيه، وذلك حتى يُعظِّم النَّاس هذا النِّكاح، ثُمَّ مَا يتعلق به من المصالح، ومن ذلك العِلم ببراءة رحمها؛ لئلا تختلط الأنساب فيسقي الرَّجلُ الثَّاني ماءَ غيره ممَّا حملت به من الزَّوج الأوَّل فيحصل بذلك اختلاط الأنساب وضياعها، ففي العِدَدِ مَصالح كثيرة، ولذلك أبانَ الله -جل وعلا- في كتابه وفصلها في قوله تعالى: ï´؟وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ غڑ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّï´¾ [البقرة:228]، وقال -جل وعلا- في سورة الطلاق: ï´؟وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ غڑ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ غڑï´¾ [الطلاق:4]، فالآيات ظاهرة الدِّلالة على أنواع العِدَدِ وبيانها، فالفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ- جمعوا هذه الأنواع وهذه الأحكام في هذا الباب بعدَ كتاب الطَّلاق؛ لأنَّه أحوجُ ما يكونُ إلى بيانه، وما فيه من أحكام، وما يلزم المعتدَّة من أحكامٍ شرعيَّة ومسائل فقهيَّة بيَّنوها هنا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلاَ عِدَّةَ عَلى مَنْ فَارَقَهَا زَوْجُهَا فِي اْلحَيَاةِ قَبْلَ اْلمَسِيْسِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالى: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوْهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّوْنَهَاï´¾)}.
بيَّن المؤلف الحال الأولى وهي التي لا عدَّة عليها، وهذه قد ذكرناها وأعدنا الكلام فيها أكثر من مرَّة في هذا الدرس وفي الذي قبله، وهي غير المدخول بها، وقلنا: إن المدخول بها هي التي لم تُجامَع ولا خلاف في ذلك، ولم يخلُ بها زوجها خلوة بإرخاء ستر أو إغلاق باب -على المشهور من مذهب الحنابلة خلافًا للجمهور- فإنَّ الجمهور يرون أنَّه إذا خَلا بها فإنها غير مَدخولٍ بها وبناء على ذلك فلا عدَّة عليها، والحنابلة يرون أنَّ ذلك يعد دخولاً باعتبار قول الصَّحابة، وعليها العدَّة ولها أحكام المدخول بها، فلأجل ذلك قال المؤلف: (وَلاَ عِدَّةَ عَلى مَنْ فَارَقَهَا زَوْجُهَا فِي اْلحَيَاةِ قَبْلَ اْلمَسِيْسِ وَالْخَلْوَةِ)، فتكون أنَصَّ على مَذهبِ الحنابلة، وهذا ظاهرٌ من جهةِ الدَّليل، قال: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوْهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّوْنَهَاï´¾ [الأحزاب:49].
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْمُعْتَدَّاتُ يَنْقَسِمْنَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ إِحْدَاهُنَّ: أَوْلاَتُ اْلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، وَلَوْ كَانَتْ حَامِلاً بِتَوْأَمَيْنِ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى تَضَعَ الثَّانِيَ مِنْهُمَا)}.
إذا طُلِّقَت المرأة الحامل فالطلاق واقع عليها، وهو طلاق صحيحٌ سنُّيٌّ وليس ببدعي ولا مُحرَّم -على ما تقدمت الإشارة إليه- كما جاء في حديث ابن عمر «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَائِلًا»، والمرأة الحائل هي: الحامل. أو كما جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذن أجلُ الحامل إلى وضع حملها، ومتى ما وضعت الحمل انقضت عدَّتها، وبعض الفقهاء يُعبر بتعبيرٍ أخصٍّ وقد نصَّ عليه المؤلف فقال: (أن تضَعَ كلَّ حَملَها)، فإذا كانت المرأة حملت باثنين فبوضع الثاني، وإذا كانت حملت بثلاثة فبوضع الثالث، وفيما مضى ليس كالآن، ففيما مضى إذا كانت المرأة حاملًا بتوأمين أو ثلاثة ليس بلازمٍ أن تتابع في الوضع فتضع الأوَّلَ والثَّاني في دقائق؛ لا، لأن لم يكن في أمورهم ما يُستعان به من آلاتٍ جدَّت أو أشياء وُجدت، فكانت المرأة ربَّما تضع الأوَّل ثُمَّ تجلس شهرًا!
فنقول: إن كان حاملًا باثنين فانقضاء عدَّتها بوضع الحمل الثَّاني، وإن كانت حاملًا بثلاثة فبوضع الثَّالث، وهكذا؛ لأنَّها لا تزال حاملًا، ويصدق عليها أنَّها حامل، ووضعها لبعض الحمل لا يخرجها عن كونها حاملًا، والله -جل وعل- يقول: ï´؟أَوْلاَتُ اْلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّï´¾، يعني كلُّ حملهن وما في بطونهن جميعًا، فإذا وضعت ذلك كله فإنَّ عدتها تنتهي.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَاْلحَمْلُ الَّذِيْ تَنْقَضِيَ بِهِ اْلعِدَّةُ وَتَصِيْرُ بِهِ اْلأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ، مَا يَتَبَيَّنَ فِيْهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ اْلإِنْسَانِ)}.
هذه المسألة مرَّت بنا كثيرًا، وهي: ما الحمل الذي تنقضي به العدَّة، وما تصير به الأمَةُ أمَّ ولدٍ؟
هو: ما تبيَّنَ فيه خلق الإنسان، فإمَّا أن تضعه كاملًا، أو تضعه قد نفخت فيه الروح، وإمَّا أن تضعه ولم تُنفَخ فيه الرُّوح ولكنَّه ممَّا تخلَّقَ، أو تضع دمًا مُتجمِّعًا؛ فهذه كلها لا إشكال فيها.
أمَّا الإشكال ما لو وضعت ما تبيَّن فيه خلق إنسان، فلا يخلو:
- إذا كان هذا ظاهرًا فهو محلٌّ ظاهرٌ في الحكم بأنَّ عدَّتها انتهت، كأن تضعَ يدًا أو رِجلًا، أو رأسًا، ونحو ذلك.
- أمَّا لو تبيَّنَ فيه خلقُ الإنسان لو حكمت القوابل بذلك، فإذا وضعت مثلًا قطعة لحم، وقالت القوابل اللاتي يلينَ النِّساء عند الولادة: إنَّ هذا حمل، وهذا أصلُ يدِه أو رجلِه أو فتاق عينه وهكذا...؛ فإذا كان على هذا النَّحو فنحكم بأنَّ هذه المرأة قد وضعت حملها وانتهت عدَّتها.
أمَّا لو كانت وضعت دمًا فمعنى ذلك أنَّ عدتها لم تنتهِ، وتنتقل إلى الاعتداد بالحِيَض -على ما سيأتي بيانه.
أظن أنَّ الوقت انتهى ولم يبقَ فيه متَّسعٌ، وأرجو أن تكون هذه المسألة قد اتَّضحَت، أسأل الله لي ولكم دوام التَّوفيق والسَّداد، وأشكرُ لكم حسنَ إنصاتكم أيُّها الإخوة المشاهدون والمشاهدات، وأسألُ الله أن يعيننا لما يكون فيه الصَّواب والخير والهدى، وأن يسددنا ويُلهمنا الحقَّ وما بيَّنه الفقهاء على وجهٍ صحيحٍ صائبٍ غير خطأٍ ولا خللٍ ولا وهمٍ، وأن يعفو عنَّا التَّقصيرَ والخَلل، وصلَّى والله وسلَّم وباركَ على نبيِّنا محمدٍ.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:36   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

عُمْدَةُ الفقه (6)
الدَّرسُ التَّاسِعُ (9)
فضيلة الشَّيخ/ د. عبد الحكيم بن محمد العجلان
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان؛ فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
حيَّاكَ الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من باب العِدَّة، وقد أخذنا في الحلقة الماضية بعض المسائل.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلاَ عِدَّةَ عَلى مَنْ فَارَقَهَا زَوْجُهَا فِي اْلحَيَاةِ قَبْلَ اْلمَسِيْسِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالى: ï´؟يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوْهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّوْنَهَاï´¾)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّينِ.
أمَّا بعدُ، فأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يعمر قلوبنا بالعلم، وأن يرزقنا اقتفاء السُّنَّة، وأن يزيدنا مِنَ الهُدى، وأن يجعل ما تعلَّمناه حُجَّةً لنا لا حُجَّةً علينا، وأن يُعقبنا أجرًا في الآخرةِ ورفعةً عنده، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريم، ووالدينا والمسلمين.
كنَّا استهللنا في آخر اللقاء الماضي أوَّلَ الكلام على باب العدَّة، وقد فاتَ علينا أن نذكر ما يتعلق بتعريف العِدَّة.
العدَّة من العَدَدِ، وذلك لِما اشتملت عليه من اعتداد المرأة وحسابها لعدد أيَّام تربُّصها وانتظارها.
وتُجمَع على "عِدَد" و "عِدَّة" لتنوُّع العدد، فمنها عدَّة المتوفَّى عنها زوجها وهي حامل، وعدَّة المتوفَّى عنها زوجها وهي غيرُ حاملٍ، وعدَّة المفارَقَة وهي يائسة، وعدَّة المفارقَة وهي من ذوات الأقراء، وعدَّة الأمَة، وعدَّة الحرَّة؛ كل ذلك له تفاصيل مختلفة، فلأجل ذلك يُعبِّر الفقهاء بــ "العِدَدِ" أحيانًا وبــ "العِدَّة" كما عبر المؤلف، وهو اسم جنس يشمل ذلك كلَّه.
السؤال الأول:
اتفق الفقهاء على عدم وجود عدة للمرأة إذا مات عنها زوجها وهي حامل.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/wNAzcDgCPgQ

وحقيقةُ العدَّة: هي تربُّصٌ محدودٌ شرعًا، وهي تلزَم كلَّ امرأةٍ مُزوَّجة، حصل لها فراقٌ في الحياة أو بالممات، وربَّما أُلحِقَ بذلك أيضًا بعضُ مَن ليست بزوجةٍ، كالوطء بشبهةٍ فإنَّه مُوجِبٌ للعدَّة.
والوطء بشبهةٍ كأن يُجامعَ شخصٌ امرأةً يظنُّها زوجته، فهذه المرأة بعدَ هذا الجماع تبقى عدَّة ثلاثة أشهر -أو ثلاثة قروء- بحسبِ حالها، وذلك أنَّ هذا الوطء يُلحَق به النَّسب، فلأجل ذلك اعتُبرَت له العدَّة، وربَّما تأتي الإشارةُ إلى ذلك لاحقًا.
وعلى كلِّ حالٍ؛ فهذا هو أصلُ العدَّة من جِهةِ معناها، ومَن يدخل فيها، وسيأتي تفاصيل ذلك بإذن الله -جلَّ وعَلا.
السؤال الثاني:
مَنْ وَطِئَ امرأةً يظنها زوجته ثم تبين أنها ليست بزوجته، فليس عليها عدة.
خطأ
https://www.youtube.com/embed/RiGgiRVJJ_E

حتى ولو كان الفراق بفسخٍ أو بخلعٍ ونحوه، كأن يكون فسخًا من أجل عيبٍ من عيوبِ النِّكاحِ، أو يفسخ الحاكم النِّكاحَ لأجلِ عدمِ قيام الزَّوجِ بالنَّفقةِ، أو لغيرِ ذلك من الأسباب التي تقتضي فسخًا بينَ الزَّوجين.
وأصلها في كتاب الله -جلَّ وعَلا- من قوله: ï´؟وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍï´¾ [البقرة:228]، وقوله: ï´؟وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا غ– فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِï´¾ [البقرة:234]، والآيات في ذلك مَعلومة، والسُّنَّة أيضًا في ذلك ظاهرة، وفيها أحاديث كثيرة عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والله -جلَّ وعَلا- يقول: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّï´¾ [الطلاق:1] ممَّا يدلُّ على اعتبار العدَّة في ذلك، وهو محل إجماعٍ واتِّفاقٍ بينَ أهل العلم.
مَرَّ بنا أنَّ غير المدخول بها لا عدَّة عليها، سواء قلنا: إنَّ الدُّخول يكون بالجماع -كما هو مذهب الجمهور- أو قلنا: إنَّ الدُّخولَ يتأتَّى بالخلوَة، فإذا خلا بها فعندَ الحنابلة تكون مَدخولًا بها؛ وبناء على ذلك تلزمها العدَّة.
وعند الجمهور: أنَّ الخلوة غير محصِّلة للدخول، وبناء على ذلك تعتبر في حكم غير المدخول بها، وبناء على ذلك لا تلزمها عدَّة.
إذن؛ إحدى المسألتين محل اتِّفاقٍ وإجماع، وهي التي لم يُدخل بها ولم يُجامعها زوجها.
والمسألة الثانية في غير المدخول بها ولم يجامعها ولكنَّه خلا بها خلوةً حصل بها إرخاءٌ للستر وإغلاق ٌللباب وهي عالمةٌ به؛ لأنَّهم ينصُّونَ على أنَّها لابدَّ أن تكون عالمة به، أمَّا إن كانت غير عالمة أو مُكرَهة فلا تتحقق العدَّة في مثل ذلك.
واشترطوا شرطًا مُهمًّا، وهو أنَّ العدَّة إنَّما تكونُ لامرأةٍ يُوطأ مثلها، أمَّا التي لا يوطأ مثلها فلا حاجة لها إلى العدَّة، ومثل ذلك: إن كان هو لا يولَد له، كأن يكون ابن عشر سنين، فإذا كان أقلَّ من عشر سنين وحصلَ فراق بينهما بطلاقٍ أو فسخٍ أو نحوه؛ فلا عدَّة في مثل تلك الحال.
وقبل أن نأتي إلى التفصيل في المعتدات؛ أحب أن أنبه إلى مسألةٍ مُهمَّة ذكرها بعض الفقهاء، وهي سبب العدَّة.
أولًا: جعل الله -جلَّ وعَلا- العدَّة تعظيمًا لعقد النِّكاح، وهي مُشتملة على التَّعبُّدِ لله، وعلى معنًى معلوم، وهذا ظاهر من جهة أن افترضَ على المرأة الاعتداد، فهي تقوم به استسلامًا لأمرِ الله، واقتداءً بسنَّة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقالوا: لأجل خلو رحمها من ماء الرجل ومن الحمل، لئلا تختلط الأنساب.
ولذلك يقولون: في بعض العِدَدِ يكون الأمر تعبُّدًا محضًا، كأن يموت عنها زوجها وهو ممَّن لا يُولد لمثله، فالمرأة تتربَّص فترة العدَّة مع عِلمنا قطعًا أنَّ رحمها خالٍ من الحمل.
ثانيًا: قال بعضهم: إنَّ للعدَّة معنًى محضًا، وهو إذا مات عن حاملٍ أو طلَّق حاملًا؛ فإنَّ رحمها مشغول بحملٍ.
السؤال الثالث:
من مات عنها زوجها وهو ممن لا يولد لمثله فليس عليها عدة باتفاق.
خطأ

ثالثًا: أن الأمر مُشترك بين التَّعبُّدِ والمعنى، ولكن التَّعبُّد أكثر، كأن تكون امرأة توفي عنها زوجها، ومثلها تحمل، ولكن أمضت الأقراء الثلاثة؛ فيكون المعنى هنا أظهر؛ لأنَّها يُمكن أن تكون حاملًا، ويُمكن ألَّا تكون، فإذا كان الزوج ممن يطأ مثله، وهي من ذوات الأقراء فإذا مات عنها زوجها فإنَّها تتعبَّد لله، وللتَّأكُّد من خلوِّ الرَّحم، ولكن إذا ذهبت الأقراء الثلاثة فيُتيَقَّن أنَّها ليست بحاملٍ، ومع ذلك تُكمل العدَّة تعبُّدًا لله -جلَّ وعَلا.
{أحسن الله إليكم.
المذهب الذي يقول: إنه إذا أُرخيَ الستار أو أغلق الباب؛ فهذه تعتبر خلوة؛ ما يحصل الآن من كتب العقد وتكون المرأة في بيت أهلها؛ فهل عليها عدَّة؟}.
هو لم يدخل عليها، حتى ولو أتى إلى أهلها وجلس إليها في مجلسٍ أو في مكانٍ عامٍ، أو في ركنٍ من أركانِ البيت ولكن لم يُغلَق بابٌ؛ فهذا لا يُعتَبر خلوة يُحكَم فيها بالدُّخول، ولو ركبَت معه في سيارة، فالظاهر فيها أيضًا أنها ليست خلوة؛ لأن الناس يرونهما، وبمحضرٍ من الناس، وتذهب وتجيء، ولا يتحقق فيها الخلوة في مثل تلك الحال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَالْمُعْتَدَّاتُ يَنْقَسِمْنَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:
إِحْدَاهُنَّ: أَوْلاَتُ اْلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، وَلَوْ كَانَتْ حَامِلاً بِتَوْأَمَيْنِ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى تَضَعَ الثَّانِيَ مِنْهُمَا، وَاْلحَمْلُ الَّذِيْ تَنْقَضِيَ بِهِ اْلعِدَّةُ وَتَصِيْرُ بِهِ اْلأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ، مَا يَتَبَيَّنَ فِيْهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ اْلإِنْسَانِ)}.
إذا كانت المرأة حاملًا فعدَّتها بوضع حملها، أو بعبارة أدق حتى يكون الأمر واضحًا: بوضع كلِّ حملها.
فتشتمل على الجملة الأولى والجملة الثانية، فيما لو كانت حاملًا بتوأمين، فإذا وضعت الأول ولم تضع الثاني، أو وضعت الثاني وبقي في بطنها ثالثٌ فعدتها لازالت باقية.
وكذلك لو كانت حاملًا بواحدٍ فخرج بعض الحمل، كرأسه ويده وبقيت رجلاه؛ فنقول: لا زالت في عدَّتها، فلو قال: "راجعتُكِ" ورجله لم تخرج بعدُ؛ فقد وافقت الرَّجعةُ وقتَ العدَّةِ فتكون زوجة وتعود الزَّوجيَّة كما كانت.
يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَاْلحَمْلُ الَّذِيْ تَنْقَضِيَ بِهِ اْلعِدَّةُ وَتَصِيْرُ بِهِ اْلأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ، مَا يَتَبَيَّنَ فِيْهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ اْلإِنْسَانِ).
قلنا: إنَّ ماتبيَّن فيه خلق الإنسان:
ïƒک إمَّا أن يكون واضحًا: إذا ولدت ولدًا كاملًا، أو ولدت ولدًا تخلَّقَ حتى ولو كان ميِّتًا، بل لو وضعَت ما ظاهره أنَّه قطعة لحمٍ ولكن النساء والقوابل يعلمنَ أنَّ هذا مبدأ رجلٍ أو عينٍ أو رأسٍ ونحوه؛ فإنَّه يُحكَم بأنَّ هذا ولدٌ تنقضي به العدَّة.
ïƒک أو تضع مُضغة لحمٍ، فلا تنتهي عدَّتها، وبناء على ذلك ننتظر حتى ينتهي دمها الذي هو دم فسادٍ، ثُمَّ تحيض ثلاث حيضات إذا كانت من أهل الحيَض، ثم تنقضي عدَّتها.
ويقولون: إنَّ الغالب مما يبدأ فيه التَّخلُّق هو واحد وثمانون يومًا؛ لأنَّها تكون نطفة أربعين، ثُمَّ مضغة أربعين، ثُمَّ علقة وهي بداية التَّخلُّ؛ لأنَّ المضغة هي قطعة لحمٍ كأنَّها مضغة من اللحم الممضوغ، فما يبدأ التَّخلَّق إلَّا بعدَ ذلك.
ويذكر الفقهاء بالمناسبة هنا مسألة: هل يجوز إلقاء النطفة؟ وهو ما يُسميه الناس الآن الإجهاض، فهل هذا جائزٌ أو ليسَ بجائز؟
الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- يقولون: ما قبل الأربعين يومًا هذا لا حرج فيه، إذا كان بدواءٍ مُباحٍ، وقبل الأربعين وبرضا الزَّوجين؛ لأنَّ الحق لهما، فكما أنَّه يجوز للإنسان أن يعزل عن زوجته، وكما يجوز للمرأة أن تتعاطى موانع للحمل إذا لم يكن فيها مَضرَّة؛ فكذلك يجوز لها إلقاء هذه النُّطفَة؛ لأنَّها لا حكمَ لها، كأنها المني الذي خرج من زوجها، سواء وُضع في رحمها أولا.
وبعد الأربعين يجري فيه الخلاف إلى أن تُنفَخ فيه الرُّوح، فإذا نُفخت فيه الروح فلا يجوز؛ لأن له حرمةٌ وحق.
السؤال الرابع:
الإجهاض قبل الأربعين يوم جائز إذا لم يكن فيها مضرَّة للمرأة.
صواب
https://www.youtube.com/embed/fgWiTMMIE_Q

وما بينَ هذا وذاك؛ منهم مَن يُغلِّب الحرمَة، وهذا هو مشهور مذهب الحنابلة، ومنهم من يجعل فيه فُسحةً، وهو مذهبٌ لبعضِ الشَّافعيَّة، ولكن لا ينبغي أن يُصارَ إلى ذلك؛ لأنَّ الظَّاهر أنَّه لَمَّا تخلَّقَ بقيَت له حُرمَةٌ، ولذلك تصير المرأة نُفساء بعدَ وضع ما تبيَّن فيه خلق الإنسان.
{إلقاؤها قبل الأربعين هل هو جائزٌ بالإجماع؟}.
لا أعرف قولًا مَشهورًا في المنع منه، ولكن ربَّما نُقل عن بعض المعاصرين أنَّه يُشدِّد في ذلك، وهذا لا وجه له الحقيقة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الثَّانِيْ: اللاَّتِيْ تُوُفِّيَ أَزْوَاجُهُنَّ، يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَاْلإِمَاءُ عَلى النِّصْفِ مِنْ ذلِكَ، وَمَا قَبْلَ الْمَسِيْسِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ)}.
قال تعالى: ï´؟وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًاï´¾ [البقرة:234]، فإذا كانت المرأة غير حاملٍ ومات زوجها فإنَّها تبقى أربعة أشهرٍ وعشرًا.
وعدَّة كلِّ حاملٍ بالوضع، سواء كانت بفسخٍ أو بطلاق أو بموت، متى ما وضعت انتهت العدَّة، فلو أنَّه مات أوَّل النَّهار ووضعت آخر النهار انتهت عدَّتها، ولو بقي الجنين في بطنها سنةً فإنَّها تكونُ في عدَّةٍ حتى تضع ذلك الحمل.
وهذا محل إجماعٍ بين أهل العلم، خلافًا لقولٍ لابن عباس جرى أهل العلم على خلافه، وهو أن تتربَّصَ لأبعد الأجلين، فلو وضعت قبل انتهاء الأربعة أشهر وعشرًا فإنَّ ابن عباس يقول: إنها تكمل الأربعة اشهرٍ وعشرًا.
إذا لم تكن حاملًا فنأتي إلى التفصيل، فبدأ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بالمتوفَّى عنها زوجها: إذا كانت الفُرقَة عن وفاة وليست حاملًا؛ فإنَّها تتربَّصُ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا للآية.
السؤال الخامس:
أجمع أهل العلم على أنَّ المرأة إذا مات زوجها وهي حامل فعدتها ......
أربعة أشهر وعشرا – بأبعد الأجلين – أن تضع ما في بطنها
https://www.youtube.com/embed/H145-qVhpDg

يقول المؤلف: (وَمَا قَبْلَ الْمَسِيْسِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ).
يعني: التَّربُّص أربعة أشهرٍ وعشرًا سواء للمدخول بها أو غير مدخولٍ بها، فلو أنَّ شخصًا عقدَ على زوجه ثمَّ مَات؛ فعلى المرأة أن تتربَّصَ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا، ولو أنَّ شخصًا عقدَ على زوجته وهو الصين وهي في أقصى الأرض من جهة الغربِ؛ فإنَّ ذلك يُوجب عليها أن تتربَّصَ أربعة أشهرٍ وعشرًا.
إذن المفارقة في مثل هذه الحال مُوجبةٌ لهذه العدَّة بكلِّ حالٍ ما دامت أنَّ الفرقة بالوفاة؛ ولأنَّ الفرقةَ بالوفاة يترتب عليها التَّوارث ويترتب عليها بقاء حقوق الزَّوجة على زوجها ونحو ذلك، فكان الإحداد والعدَّة ثابتةٌ بكلِّ حال.
السؤال السادس:
المرأة التي قد توفى عنها زوجها ولم يكن قد دخل بها ......
ليس عليها عدة – عدتها ثلاث حيضات – أربعة أشهر وعشرًا
https://www.youtube.com/embed/xQfP93l3SbM

ثم يقول المؤلف: (وَاْلإِمَاءُ عَلى النِّصْفِ مِنْ ذلِكَ).
لو كانت التي تُوفيَ عنها زوجها أمةً؛ فإنَّ تربصها شهران وخمسةُ أيَّامٍ.
ومردُّ ذلك إلى ما ذكرناه سابقًا من قول الله -جلَّ وعَلا: ï´؟فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِï´¾ [النساء:25]، أنَّ أهل العلم اقتفاءً بأقوال الصحابة -رضوان الله عليهم- حكموا بأنَّ الإماء والعبيد على النصف من الأحرار والحرائر في كل ما يُماثلهم، واستثنوا من ذلك مسائل قليلة، ربَّما تأتي معنا إشارةٌ إلى واحدةٍ منها.
وبناء على ذلك نقول: لو كانت التي تُوفيَ عنها زوجها أمةً؛ فإنَّها تتربص شهرين وخمسةَ أيَّامٍ.
وإذا كانت مُبعَّضة -وهي التي بعضها حر وبعضها أمة- فإنها تتربَّص شهرين وخمسة أيام، ثُمَّ الباقي بحسب ما فيها من الحريَّة، فإذا كانت ثلاثة أرباعها حرٌّ فتزيد -مثلًا- شهران وثلاثة أيام؛ لأنَّها في الأصل شهر ويومين ونصف، والأيَّام تُكمَّل، فلا يكون نصف يومٍ؛ بل يُكمَّل يومًا كاملًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الثَّالِثُ: الْمُطَلَّقَاتُ مِنْ ذَوَاتِ اْلقُرُوْءِ، يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوْءٍ، وَقُرْءُ اْلأَمَةِ حَيْضَتَانِ)}.
قول المؤلف: (الثَّالِثُ: الْمُطَلَّقَاتُ).
إذن؛ عدَّة المطلقة في الحياة وهي من ذوات الأقراء.
وأصله في قول الله -جلَّ وعَلا: ï´؟وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍï´¾ [البقرة:228]، فهذا ظاهر من جهة الدلالة، واعتبار القُروء لهنَّ لا إشكال فيه ولا خلاف، وإنَّما محلُّ الكلام راجعٌ إلى تحديد القُرء.
ما هو القُرء؟
هذا فيه خلافٌ عريض، وأصل هذا الخلاف هو أنَّ القُرء من حيث الأصل في العربية من الألفاظ ذوات الأضداد، فيُطلَق على الحيض، ويُطلق على ضده وهو الطُّهر.
بعض أهل العلم سلك مسلك اعتبار الأصل في العربية وهو الطُّهر.
وبعضهم قال: إنَّ الاستعمال الشَّرعي للقُرء في الحيض أكثر، ولذلك نقول: هو الحيض، وهذا قولُ أكابر الصَّحابَة، جاء عن الخلفاء الأربعة، وعن غيرهم كثير، كأبي الدرداء، وعبادة بن الصَّامت، وغيرهم كثير.
ثُمَّ إنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا، ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي»، وهي إنَّما تدع الصلاة أيام حيضها، وفي هذا أحاديث مماثلة لذلك.
ثُمَّ قالوا: إنَّ العدَّة للمرأة ثلاثة قُروء، يعني: ثلاثة قُروء كاملة، فإذا جعلناها حيضًا فإنَّها يصدق عليها أنها تمكث ثلاث حيض كاملة؛ لأنَّه إذا طلقها في هذا الطهر فابتدأت حيضةً ثُمَّ انتهت، ثُمَّ ابتدأت حيضةً ثُمَّ انتهت، ثُمَّ ابتدأت حيضة ثُمَّ انتهت؛ فتمَّت الثلاث حيض ويُحكَم بعدها بانتهاء عدَّتها، وبينونتها من زوجها.
وقال مالك والشافعي: إنَّ القُرء هو الطُّهر رجع إلى قول عائشة أنَّها فسَّرَت الأقراء بالأطهار، وقالوا: إنَّ أصله كذلك في العربية، واستدلوا بقول الله -جلَّ وعَلا: ï´؟فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّï´¾ [الطلاق:1]، والمطلقةُ إنَّما تُطلَّق في طهرها، وبهذا أمر الله -جلَّ وعَلا- فدلَّ على أنَّ القُرء هو الطُّهر.
نقول: بناء على ذلك فإنَّ المرأة إلَّا قرئين وشيء؛ لأنَّه إذا كان طلقها في طُهر، وبقي من الطهر لحظة ثُمَّ حاضت، وهذه اللحظة يعتبرونها طُهرًا كاملًا ذهب مِن عِدَّتها، ثُمَّ طهرت فحاضت فهذا قرءُ ثانٍ، ثُمَّ إذا انتهت مِن حَيضها فطهرت وانتهى إلى الحيض فإنَّ ابتداء الحيض هو انتهاء عدتها.
فبناء ذلك نقول: إنَّه طهران وشيء، فلم يصدق عليها ما جاء في الآية من قول الله -جلَّ وعَلا: ï´؟وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍï´¾ [البقرة:228].
ولذلك ذهب الحنابلة وأبو حنيفة وهو قول جمع من السلف وأكثر الصَّحابة وهو قول الخلفاء الراشدين أنَّ الأقراء بمعنى الحيض.
وعلى كل حال فإنَّ هذه المسألة من المسائل التي فيها الخلاف قوي، وتجاذب الأدلة فيها ظاهر، فمن قال بواحدٍ من القولين كان قولًا مُعتبرًا، ولا غضاضة عليه في أن يذهب إلى هذا أو ذاك.
ولكن ما ذهب إليه الصحابة أحبُّ إلينا، وما اعتبره الخلفاء أكثر طمأنينةً لأنفسنا، فلأجل ذلك نقول: إنَّ الأقراء كما قالوا: هي الحِيَض.
وبناء على قول الحنابلة، فإذا انتهت حيضتها الثالثة فطهرت؛ فإنَّ العدَّة تنتهي، ولكن هل تنتهي العدَّة بانقطاع الدَّم أو بالاغتسال؟
ظاهر النَّص أنَّه إذا انتهت الأقَراء انتهت العِدَّة، وهذا قول لبعض الفقهاء.
ولكن الذي عليه أكابر الصَّحابة أنَّها لا تنتهي عدَّتها حتى تغتسل، فلو أنَّها تأخَّرَت في الاغتسال ساعة أو ساعتين فقال: "راجعتُكِ" فيقولون: إنَّ المراجعة صحيحة.
ولو لم تغتسل يومًا، كأنَّها كانت ترتجي أن يُراجعها وقالت: "راجعني" أو أرسلت إليه رسولًا، أو جعلت وسطيًا وشفيعًا؛ فراجعها فتصح الرَّجعة، لكن طبعًا هي مخلَّةٌ بما أوجبَ الله عليها من أداء الصَّلاة والتَّطهُّر وفعل ما يجب عليها فِعله.
السؤال السابع
ذهب أكابر الصحابة إلى أنَّ عِدَّةَ المرأة المطلقة تنتهي .....
ببدء نزول دم الحيضة الثالثة – بانقطاع دم الحيضة الثالثة – باغتسال المرأة من حيضتها الثالثة
https://www.youtube.com/embed/nfKm4DV3b8c

فهذا من المسائل المهمَّة؛ لأنَّ بعض النِّساء إذا قرُبَ انتهاء عادتها تتطلَّع إلى أن تعود إلى زوجها، فربما تبعث رسولًا، وربما تبذل سببًا، فلا يأتي الأمرُ إلا بعد انقضاء حيضها وقبل اغتسالها.
مِن أينَ لكم أن تقولوا: إنَّه تبعٌ للقرءِ، وهو في الحقيقة انتهى؟
نقول: إنَّ الصحابة حكموا بذلك، وحُكم الصَّحابة مبنيٌّ على أنَّ التَّابعَ تابعٌ، وأنَّ المرأة لو طهرت من حيضها ولكنَّها لم تغتسل فإنَّه لا يجوز لزوجها قربانها، وهي لا تزال أيضًا ممنوعة من الصَّلاة ونحو ذلك حتى تغتسل، فكأن ذلك جُعل في حكم العادة باعتبار أنَّ جملةً من الأحكام تتعلَّق بذلك، فأجروا ذلك في هذه الحال.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقُرْءُ اْلأَمَةِ حَيْضَتَانِ).
عدَّة الأمة حيضتان، وهذا ظاهرٌ مِن جهة أنَّ الأمَة على النِّصف من الحرَّة، ولكن لا يُمكن لنا أن نعرف الحيضة والنِّصف، فلأجلِ ذلك ذكرَ بعضُ أهل العلم وهو قولٌ لبعضِ السَّلف أنَّ الحيضَة تُكمَّل، وأنَّ الكسرَ يُجبَر، فما دامت أنَّها حيضة ونصف، فنجعلها حيضتين تامَّتين، وبناء على ذلك تنتهي عدَّتها بهذا، وهو المشهور مِن المذهب عند الحنابلة، كما هو قول الصَّحابة، وهو ما عليه جماعة من السلف -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الرَّابِـــــعُ: اللاَّئِيْ يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيْضِ، فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَـــــةَ أَشْهُرٍ، وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ، وَلِلأَمَةِ شَهْرَانِ)}.
قول المؤلف: (اللاَّئِيْ يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيْضِ، فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَـــــةَ أَشْهُرٍ).
المرأة إذا كبرت انقطعَ دمُ حيضها، وذكرَ أهل العلم في وقتِ انقطاع حيضها كلامًا، هل هو محدَّدٌ بحدٍّ أو لَا؟
ïƒک فمنهم مَن جعلَ الخمسينَ حدًّا محدودًا لكلِّ النِّساء.
ïƒک ومنهم مَن فرَّق فقال: نساء العرب ينتهينَ عند الخمسين، وغيرهنَّ عندَ الستِّين لبرودة دمائهم.
وفيه خلافات، ولكن على كلِّ حالٍ فالأصلُ أنَّ التَّحديد بالخمسين، وأكثر النِّساء إمَّا أن تفقد العادة قبل ذلك، وإمَّا أن تضطرب عند الوصول إلى هذه المدَّة.
أيًّا كان؛ فالتي يئِسَت مِن حيضها وانقطع؛ فإنَّ عدتها تكون بالأشهر، وأصل ذلك هو قول الله -جلَّ وعَلا: ï´؟وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍï´¾ [الطلاق:4].
قال المؤلف: (وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ)، يعني: والنَّساء اللاتي لم يبلغنَ سنَّ المحيض وهنَّ الصَّغيرات، فإنها لو طلقها زوجها فإنَّ عدتها بالأشهر.
وبناءً على ذلك لو أنَّ شخصًا تزوَّج امرأة وهي بنتُ خمسِ سنين فطلَّقها، فلا عدَّة عليها؛ لأنَّنا قلنا في أوَّل الحلقة إنَّه لابدَّ أن تكون ممَّن يوطأ مِثلها، فمَن لا يوطأ مِثلها لا عِدَّة عليها.
أمَّا لو كانت ممَّن يُوطأ مثلها كبنتِ تسع أو بنت عشر -والنِّساء قد يختلفن في احتمالهنَّ لذلك من عدمه- فعدتها ثلاثة أشهرٍ.
وهنا مَسألة مهمَّة، وهي: لو أنَّ المرأة كانت صغيرة فاعتدت ثلاثة أشهر، فلما انقضى شهرين وشيء ولم يبقَ إلا يوم ثُمَّ ابتدأها حيض فبلغت؛ فينتفي عنها الحكم الأول وتَشرع في الحكم الثَّاني وهو أن تعتدَّ بثلاث حِيض.
ومثل ذلك اللاتي يئِسنَ: فلو أنَّ امرأةً اعتدَّت حيضتان، ثُمَّ بلغت سنَّ اليأس؛ فإنَّها تنتقل بعد ذلك إلى الاعتداد بالأشهر.
السؤال الثامن
لو أنَّ المرأة اعتدت بحيضتين ثم بلغت سن اليأس؛ فإنَّها تنتقل بعد ذلك إلى الاعتداد بالأشهر.
صواب
https://www.youtube.com/embed/5TnPxn-EDwI


قول المؤلف: (وَلِلأَمَةِ شَهْرَانِ).
للأمَة شهران باعتبار أنَّها بدلُ الحِيَض.
بعض أهل العلم قال: هل يُمكن أن نقول إنَّ العدَّة شهر ونصف؛ لأنَّها على النِّصف من الحرَّة، والأشهر يُمكن قسمها؟ أو نقول إنَّ الشهرين بدلٌ عن الأقراء، لَمَّا كانت حيضتان فإنَّها تكون شهران؟
فمنهم مَن قال بهذا، ومنهم مَن قال بذاك، وظاهرُ كلام المؤلِّف أنَّه سلكَ مَسلك الشَّهرين بدل الحيضتين، فلأجل ذلك لَمَّا كانت حيضتان فتكون عدَّتُها شهرين.
وهذا هو كلامهم في ذلك، يعني أنَّها تبعٌ للحِيَض، وإلَّا فالأصل أنَّها ما دامت على النِّصف؛ فإذا كانت الحرَّة تعتد بثلاثة أشهر؛ فإنَّ الأمَة تكون شهرًا ونصف، ولكن قالوا: إنَّ هذا بدل الحيض، وهي تعتد بحيضتين فبناء على ذلك تكون عدُّتها شهرين.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيُشْرَعُ التَّرَبُّصُ مَعَ اْلعِدَّةِ فِيْ مَوَاضِعَ ثَلاَثَةٍ:
أَحَدُهَا: إِذَا ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لاَ تَدْرِيْ مَا رَفَعَهُ، فَإِنَّهَا تَتَرَبَّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ تَعْتَدُّ عِدَّةَ اْلآيِسَاتِ، وَإِنْ عَرَفَتْ مَا رَفَعَ اْلحَيْضَ، فَإِنَّهَا لَمْ تَزَلْ فِيْ عِدَّةٍ حَتَّى يَعُوْدَ اْلحَيْضُ، فَتَعْتَدَّ بِهِ)}.
يقصد حكم ما يستوجب التَّربُّص أو النَّظر، أو أنَّه ينضم إلى العدَّة شيءٌ آخر يُحتاج إليه ليُحكَم بعدَّة المرأة ودخولها فيه.
أوَّل هذه المسائل التي ذكرها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ما إذا ارتفع حيض المرأة ولا تدري ما رفعه.
إذا بلغَت النِّساء سنَّ المحيض تأتيها عادةٌ مُطَّرِدة، وهذا غالب النِّساء، وإذا ارتفع عنها الحيض إمَّا أن يكونَ ذلك بسببٍ مُعتادٍ كحملٍ، أو يكون ذلك بتعاطي علاجٍ وعقاقير ونحوها، وإمَّا أن يكون ذلك بسببٍ لا تدري ما هو.
فإذا كان انقطاع الحيض بأسبابٍ معلومةٍ كرضاعٍ وحملٍ، وعقاقير وغيرها، فهذا معلوم، ولكن إذا لم تدري ما سببه فتكون في حيرة، فالأصل أنَّها من ذوات الأقراء، والحال أنَّها لا تحيض، فهذا محلُّ نظرٍ وتحيُّر:
- فإمَّا أن نحكم عليها بأن تعتدَّ بالأقراءِ وهي لا تحيض، وعليه فربما تدوم مدَّةً طويلةً ولا يأتيها الحيض، فيفوت عليها انتهاء عدتها وتعرضها للإنكاحِ وغيره.
- وإمَّا أن نحكم بأنَّ عدَّتها مُباشرة بالأشهر، فقد تكون حمَلت من حيثُ لا نشعر، فتُزوَّج بعدَ ثلاثة أشهرٍ وهي حامل!
فلأجلِ ذلك قال أهل العلم: إنَّها تتربَص تسعة أشهرٍ لنَتَيقَّنَ أنَّها ليست حاملًا؛ لأنَّ الأهمَّ في العدَّة هو العلم ببراءة الرَّحم وعدم حملها، وهذا حكم عُمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأَرضَاه- قال الإمام الشَّافعي: "وتلقَّاه أهل العلم غير مُنكرين لذلك، ولا يُعرَف له مُنكر".
وبناء على ذلك كان قول عمر كالإجماع، وبناء عليه فأي امرأة ارتفع حيضها ولم تدري ما سببه فإنَّها تمكث تسعةَ أشهرٍ، ثمَّ تشرع في العدَّة وهي ثلاثة أشهر؛ لأنَّها بعدما مَكَثت التِّسعة أشهر لم تأتها العادة فتعتدَّ بها، ولا تبيَّنَ حملُها فنحكم بأنَّها حاملٌ فتكون عدَّتها بوضع حملها، فبعد التِّسعة أشهر نحكم بأنَّها تعتد ثلاثة أشهر، فهذا ما يتعلَّق بالتَّربُّص.
ولاحظ هنا أنَّ المؤلف قال بكونها تتربَّص مع العِدَّة، فهذا شيءٌ احترازي وحكم به عمر، وحكم الخلفاء الرَّاشدين نافذٌ لقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي»، وحُكي فيه الإجماع باعتبار ما ذكره الشافعي من كونه لم يُنكره أحدٌ مع اجتهاده والعلم به، وعلى ذلك تَتَابَع أهلُ العلم في القول بهذا.
إذا قال قائل: هل نحتاج إلى مثل هذا في هذه الأوقات؟ أو إذا جدَّ لنا في هذه الأوقات من إمكان العلم بعدمِ الحَمل بأيسرِ السُّبل وأيسرها مِن هذه التَّحاليل والاختبارات المختلفة أنواعها، والقطع بالحمل أو بعدمه، فإنَّ المرأة إذا ارتفعَ حيضُها فبمجردِ أن تجري بعض الفحوصات والتَّحاليل يُعلم أنَّها ليست حاملًا قطعًا، ويُمكن أن يقطع بذلك الأطباء!
مِن خلال ذكر المؤلف لهذه المسألة أنَّه لم يحكم بأنها داخلةٌ في العدَّة، وإنَّما جعله تربُّصٌ سابقٌ للعدَّة، فالمقصود منه تحصيلُ اليَقين بعدمِ الحَمل حتى ننتقلَ إلى أن تكونَ مِن ذوات الأشهر، أو مِن اللاتي يئسنَ من المحيض، وألا نطالبها بالعدَّة بالأشهر مع كَونِها حاملًا، فإذا تيقَّنَّا بأنَّها حامل فمقتضى كلامهم أنَّ الأمر يكون في مثل هذا أيسر، فإذا قُطع بعدمِ حملها فإنَّها تعتد بالأشهر، وتكون في سعةٍ مِن أمرها، وهذا يُقال على سبيلِ النَّظرِ والتَّفقُّه لا على سبيل التَّقرير والفُتيا، ومَن احتاجت إلى ذلك فإنَّها تستَفتي لاختلاف الأحوالِ، ولأنِّي لستُ ممَّن يُفتي.
أو يُقال: ما دامَ أنَّ المسألة قد حكمَ فيها عمر، وجَرى فيها الأمر كالإجماعِ، وتتابَع على ذلك العمل؛ فإنَّه يصعب على الإنسان التَّسوُّر والحكم بأنَّها تنتقِل إلى الاعتدادِ بالأشهر مُباشرةً، وبناء عليه نقول: حتى لو قطعنا بعدم حملها بهذه الفحوصات والتَّحاليل فإنَّ ذلك لا يعني عدم تربُّصها تسعة أشهر ثم ثلاثة أشهر.
وإن كانَ المعنى الأوَّل أظهر، وهو متَّسقٌ مع إيراد المؤلِّف هنا، وهو ظاهرٌ في مَلحَظ عمر في الحكم بتسعةِ أشهر هو القطع بعدمِ الحمل، وهذا يتأتَّى في هذه الأوقات بما هو أيسر، فيُمكن أن يكون الأمر كذلك.
وفيما مَضى كانَ الحكم بالحملِ صعب، وما كان فيه شيء يُعرَف، ولذلك فإنَّ بعضَ النِّساء إذا انتفخ بطنها، أو إذا تغيَّرَت بعضُ صفاتِها أو نحو ذلك؛ يَرد عند النَّاس إشكال هل هي حامل أو ليست بحامل؛ لأنَّ بعض الحوامل قد تحمل وهي تحيض، وقد ينقطع الحيض لعلَّةٍ ويحصل مع ذلك انتفاخٌ لبطنها ونحوه، والحال أنَّها عليلةٌ وسقيمةٌ، وليس أنَّها حامل وصحيحةٌ، ولكن الأمور في مثل هذه الأوقات في الجملة أيسَر، ولكن لا ينبغي أن يُترَك مثل هذا الحكم أو لا يُدرَّس؛ لأنَّ أحوال النَّاس ليست على حدٍّ سواء، فيُوجَد الآن من النَّاس مَن لا يتيسَّر له القطع بهذه الفحوصات كمَن هم في القرى النَّائية أو الغابات ونحوها، وأيضًا يُمكن أن تتغيَّر مثل هذه الفحوصات أو تقل أو يجد ما يدل على عدم دقَّتها؛ فالمهم أنَّ الحكم لابدَّ أن يُقرَّرَ على ما ثبتَ وعلى ما قرَّره الفقهاء، ويُمكن ذكر ما يُحتاج إليه بحسب الحال والمناسبة فيذلك كلٌّ بما يُوافقه ويُلائمه.
قال المؤلف: (وَإِنْ عَرَفَتْ مَا رَفَعَ اْلحَيْضَ، فَإِنَّهَا لَمْ تَزَلْ فِيْ عِدَّةٍ حَتَّى يَعُوْدَ اْلحَيْضُ، فَتَعْتَدَّ بِهِ).
هذه هي الحال المقابلة للحال الأولى، وهي أن يكون قد ارتفع حيضها وهي في الأصل من ذوات الحِيَض، ولكن السَّبب الذي لأجله ارتفع حيضها معلوم، إمَّا أنَّها مُرضع، والمرضع لا يأتيها دم الحيض، وإمَّا أن تكون تتعَاطَى بعضَ العقاقير، وأهل الطِّب يعرفون أنَّ بعضَ العقاقير تمنعُ جريان الحيض، أو لغير ذلك من الأمور التي تعرفها النساء.
فنقول: إن كانَ السَّببُ معلومًا فإنَّ عدَّتها لا تنتهي إلا بحيَضِها؛ لأنَّها يُمكنها أن تمنع ما يحول بينها وبينَ الحِيَضِ فتنزل عليها دورتها، فتعتدَّ بذلك، فلا مشقَّة عليها في مثل هذه الحال، وإلَّا فإنَّها تنتظر إلى أن تكون من الآيسات، ونصَّ على هذا ابن تيمية وغيرُ واحدٍ من أهل العلم؛ لأنَّها كأنَّها هي التي حالَت بينها وبينَ عدَّتها، ولذلك قال المؤلف: (وَإِنْ عَرَفَتْ مَا رَفَعَ اْلحَيْضَ، فَإِنَّهَا لَمْ تَزَلْ فِيْ عِدَّةٍ حَتَّى يَعُوْدَ اْلحَيْضُ)، وإن طَالت المدَّة، أو تقطع هي السَّبب حتى يعود الحيض، أو تبلغ سنَّ الإياس ثم تعتد بعدَّة الآيسات وهي ثلاثة أشهر، وذلك لأنَّها لا عذر لها في هذا، وليست بحاجةٍ لأن تُجعَل مثل المسألة الأولى -والله أعلم.
السؤال التاسع:
إذا عرفت المرأة سبب رفع الحيض فإنها لَمْ تَزَلْ في عِدَّةٍ حتى يعود اْلحَيضُ، فتعتدَّ به.
صواب
https://www.youtube.com/embed/wL7sl1vszU8

{قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (الثَّانِيْ: امْرَأَةُ اْلمَفْقُوْدِ الَّذِيْ فُقِدَ فِيْ مَهْلَكَةٍ، أَوْ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ، فَلَمْ يُعْلَمْ خَبَرُهُ. تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِيْنَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ)}.
المفقود لا يخلو من حالين:
ïƒک إمَّا أن يُفقَد في حالٍ غالبها السَّلامة.
ïƒک وإمَّا أن يُفقَد في حالٍ غالبها الهلكة.
فبدأ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بالحال الأولى، وهي أن يكون فُقِدَ في حالٍ غالبها الهلكة، كأن يكون فُقِدَ في إبحار سفينة، فالغالب أنَّه غارق، أو فُقِدَ في حالِ التحام الصَّفين، أو كان بينَ أهله وفجأة لم نجده، فالغالب أنَّه في حالِ هلكةٍ.
ويشترط في هذه الأمثلة وما ماثلها: أَلَّا يُعلَم خبره.
أمَّا إذا فُقِدَ حال التِحَام الصَّفين ثم عُلِمَ أنَّه أسير؛ فهذا لا يُعَدُّ مَفقودًا، أو فُقِدَ في إبحارٍ ثم عُلِمَ أنَّه ركنَ إلى جزيرة فبقيَ فيها حتى ولو انقطع خبره؛ لكن يُعلَم أنَّه حيٌّ، أو ذهبَ من أهله فأرسلَ لهم رسالة أو بشيء؛ فنقول: إنَّه غير مُنقطعٍ ما دام يوجد ما يحصل به الصِّلَة.
فهنا تتربَّص المرأة أربع سنين، وفي هذه الأربع سنين هو في حُكم الحي، فلو مات أحد أقاربه فإنَّه يرثه، وزوجته زوجة له، وتجب لها النَّفقة مِن ماله، وهذا حُكم عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وبعض الصَّحابة فيمَن فُقِدَ وغالبُ حالِه الهلَكَة.
السؤال العاشر:
امْرَأَةُ المَفقُودِ الَّذِي فُقِدَ في مَهْلَكَةٍ، ولم يُعلَم خَبَرُه؛ عليها أن......
تَتَرَبَّصُ أربع سنين، ثُمَّ تَعتَدّ لِلوَفَاة - تَتَرَبَّصُ أربع سنين، وليس عليها عدة وفاة – تعتدَّ بعدة الوفاة فقط.
https://www.youtube.com/embed/v_ra-otJhFs

ثُمَّ بعد الأربع سنين تعتدُّ للوفاةِ، وبعد انتهاءِ الأربع سنين منذ أن فُقِدَ لا تحتاج إلى حكم حاكم، فلو أنَّه فُقِدَ ولم يسألوا عنه، ثُمَّ بعد سنةٍ ذهبت وسألت القاضي؛ فتبتدئ الأربع سنين منذ فُقِدَ، ثُمَّ تعتد بعد الأربع سنين، فإذا اعتدَّت فإنَّها في خلو من هذا الزَّوج، ويحل لها أن تتزوَّج، وأن تفعل ما تفعل المرأة التي لا زوجَ لها.
نكتفي بهذا القدر، أسأل الله لي ولكم دوام التَّوفيق والسَّداد، وأسألُ الله أن يعمِّر أوقاتنا بالعلم، وقلوبنا بالهدى، وأن يوفِّقنا للعمل والتَّعليم، وأن يعقبنا الخير في الدُّنيا والأخرى، وأن يجزي كلَّ مَن كانَ سببًا في مثلِ هذه اللقاءات والاجتماعات، وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على النبي الأمين.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 08:36   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

عُمْدَةُ الْفِقْه (6)
الدَّرسُ العاشِر (10)
فضيلة الشيخ/ د. عبد الحكيم العجلان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، حياكَ الله.
{سنكمل في هذه الحلقة -بإذن الله- باب العدَّة.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّانِيْ: امْرَأَةُ اْلمَفْقُوْدِ الَّذِيْ فُقِدَ فِيْ مَهْلَكَةٍ، أَوْ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ، فَلَمْ يُعْلَمْ خَبَرُهُ. تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِيْنَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ. وَإِنْ فُقِدَ فِيْ غَيْرِ هَذَا، لَمْ تَنْكِحْ حَتَّى تَتَيَقَّنَ مَوْتَهُ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابهِ وسلِّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّين.
لا يزال الحديث موصولًا فيما ذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- في المعتدَّات، وكنَّا في آخر الدَّرس الماضي قد شَرعنا فيمَن تتربَّص بين يدي العدَّة، فذكرنا التي ارتفع حيضُها ولم تَدرِ سببه، والمرأة التي ارتفع حيضُها وعلمَت سببه فإنَّها تبقى حتى يعود إليها حيضها، أو تبلغ سنَّ الإياس فتعتدَّ به.
ثمَّ ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- امرأة المفقود التي فُقدَ زوجها ولم يُعلَم خبرُه، فإنَّ أهل العلم ذكروا فيه حالين:
الحال الأولى: أن يُفقَد في حالٍ الغالب فيها الهلكَة، وقد ذكروا لذلك أمثلةً أشرنا إليها في الدَّرس الماضي، كأن يُفقَد في التحام معركةٍ، أو يُفقَد في سفينة في عَرَض البحر، أو فُقِدَ فجأةً وهو بينَ أهله ولم يُعلَم له خبرٌ؛ فالغالب في هذه مثلِ هذه الأحوال أنَّها مواضع هَلكةٍ، وأنَّه لا يسلمُ مَن فُقدِ فيها، ومع ذلك فإنَّ الفقهاءَ ذكروا مُدَّةً يحصلُ معها اليقين مع الحال الذي احتفَّت به بأنَّ فلانًا قد ماتَ، وأنَّه يكاد ينعدم رجاء رجوعه، فلأجل ذلك قالوا: (فُقِدَ فِيْ مَهْلَكَةٍ، أَوْ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ، فَلَمْ يُعْلَمْ خَبَرُهُ)، يعني: انقطعَت عنه الأخبار فلم يُعلَم أيُّ شيءٍ عنه، فإذا احتفَّ هذه الحال الذي هلكَ فيها وهذه المدَّة التي انتظرَه أهلُه فالغالبُ أن يُقطَع بهلاكهِ، فإذا قُطع بهلاكِهِ فبناء على ذلك يُنتظَر أربعَ سنين، ثُمَّ بعدها تتربَّصُ المرأة كما تتربَّصُ التي أخبرَت بوفاة زوجها أربعةَ أشهرٍ وعشرًا، فإذا انقضَت فإنَّها تحلُّ للأزواج.
إذن عِدَّتُها بعدَّة المتوفَّى عنها زوجها لا تكون إلَّا بعدَ تربُّصها هذه المدَّة، وهذا قضاء عُمر وعُثمان وعلي وابن عباس وابن الزبير، ولذلك يقول الإمام أحمد: "أي شيءٍ يقول مَن لم يقل بهذا"، يعني: هذا أمرٌ ثابتٌ وظاهرٌ وبيِّنٌ، قضَى به الصَّحابة -رضوان الله تعالى عليهم وأرضاهم.
وكما قلنا في الدَّرس الماضي: إنَّه في مُدَّة التَّربُّص -الأربع سنوات- حُكْمه حُكم الأحياء، وأنَّ زوجته في هذه المدَّة يُنفَق عليها مِن مَاله، ويُقام عليها ممَّا بيده.
مسألة: لو أنَّ المرأة ارتفعت إلى القَاضي بتضرُّرها ببقائها، إمَّا لكونها لا يُنفَق عليها، ولا شيء يوجد مِن ورائه يُمكن بيعه ويُنفَقُ عليها منها؛ أو لكونها لا تَصبر عن زوجٍ، فتريدُ مَن يقوم بإعفافها والقيام بحقِّها ونحو ذلك؛ فإنَّ للقاضي النَّظر في فَسخِ النِّكاح، فإذا فسخَ القاضي النَّكاح فإنَّها تَعتدّ عِدَّة المطلَّقة بحسبِ حالها، فإذا كانت من ذوات الأقراء فإنَّها تعد بثلاثة قروء، أو تعتد بثلاثةِ أشهرٍ إذا كانت صغيرةً أو آيسة، بحسبِ حالها على ما تقدَّم بيانه فيما مضى.
{أحسن الله إليكم..
هل يُنظَر في هذه المسألة إلى قضاءِ عُمر على أنَّه حُكمٌ، أو نرجع إلى قضاء القاضي؟}.
الذي استقرَّ عليه قولُ أهل العلم ومِن ذلك الإمام أحمد أنَّه قال: "جاء هذا عن خمسة من أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
فهو ممَّا ثبتَ، وسنَّة الخلفاء الراشدين مأمورٌ باتِّباعها، فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» ، ثمَّ إنَّ هذا ممَّا يشتهر، فكان كالإجماع السُّكوتي، فلا يسع لإنسان أن يُخالفَهُ أو يصير إلى سواه.
الحال الثَّانية: قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ فُقِدَ فِيْ غَيْرِ هَذَا، كالمسافر للتِّجارة)، يعني: لو أنَّ شخصًا سافرَ للتِّجارة فانقطَعَ خبره.
ويَلحظ الإخوة المشاهدين والمشاهدات أنَّ الفَقْدَ في هذه الأزمنَة لم يكن مثل الأزمنَة الماضية، فإذا فارقَ الإنسانُ قريته في الأزمنة الماضية لا يكاد يأتي له خبرٌ بسهولةٍ، لتباعدِ الأماكن وعدم حُصولِ ما يُسَهِّلُ التَّواصل، حتَّى كتابة الرسالَة ليس مِن الأمر اليسير باعتبار أنَّ أكثر النَّاس لا يعرفون الكتابة، وإلى عهد قريبٍ كان في بعض بلداننا بعض كبار السِّن يسألون بعضهم بعضًا: ولدك تعلم يكتب الخط أو ما تعلَّم؟!
إذن؛ ليست الحالُ كما يَتصوَّر البعضُ كيف يكون هذا الفَقدُ، قد يكون الآن نادرًا أو قليلًا ، أو لا يُتصوَّر كثيرًا، ولكن فيما مَضى كان كثير الوقوعِ، ويُبتَلى به النَّاس في أحوالٍ كثيرة، فلو أنَّ بعض النَّاس يهرب مِن جُوعٍ أو مِن فَاقةٍ، أو مُصيبةٍ نزلَت عليه أو على أهله، أو يُتَّهم في شيء فيخافون من تَبعةِ ذلك؛ فقد يُهاجر، أو بعض النَّاس إذا ذهبَ فأنِسَ في مكانٍ لم يعد يلتفت إلى أهله!
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ فُقِدَ فِيْ غَيْرِ هَذَا، كالمسافر للتِّجار)، إنسانٌ سافرَ للتَّجارة في بلاد السِّندِ أو بلاد الهند، بلادٍ قريبةٍ أو بعيدةٍ؛ فأنِسَ بتلك البلاد ولم يرجعْ إلى أهلهِ وانقطعَ خبرُه، أمَّا إذا لم ينقطعْ خبرُه كأن يتَّصل بأهلهِ أو حتَّى لو لم يتَّصل بأهله ولكن يأتي شخصٌ ويقول: أنا سافرت إلى المكان الفلاني فقابلتُ فلانًا، أو قابلتُ فلانًا وقال إنَّه رأى فلانًا -الذي هو مفقود- فهذا لا يُعتَبر انقطاعَ خبرٍ.
وانقطاعُ خبرِهِ هو ألَّا يأتي عنه شيء، حتى لا يُعرَف أحيٌّ هو أو ميِّتٍ، أمَّا إذا عُرِفَ على حالٍ، أو كانَ خبرُه غيرَ مُنقطعٍ؛ فبناءً على ذلك يُحكَم بأنَّه في حال الحياة.

وبناءً على ذلك نقول: إنَّ المرأة لا تَنكِحَ حتَّى تتيَّقنَ موته، وقد حكمَ أهلُ العلم في مثل هذه المسألة بأن يضربون له تسعين عامًا منذُ ولادته، فإذا كانَ مثلًا حالَ فقده كان عمره واحدُ وسبعون سنةٍ، فيُنتظر تسعة عشرة عامًا حتَّى يُحكَم بفقده؛ لأنَّ الغالب أنَّ النَّاس في الأحوال المستقرَّة لا يبلغونَ التِّسعين، فإذا انضمَّ إلى ذلك فقدٌ فالغالب -أو اليقين- أنَّه لا يبلغ ذلك المبلغ، والأصل أنَّه لا يُحكَم بموته إلَّا بيقينٍ، وهذا جاء عن عليٍّ وعن بعضِ أهل العلم.
وهذا يأتي عليه بعض الإشكال؛ فيُقال: لو فُقِدَ وعمره تسعة وثمانين فلا يُنتَظر إلا سنة واحدة؟
نقول: الذي فُقِدَ وعمره تسعة وثمانين فالغالب أنَّه تنقطع حاله وتذهب حياته، ومع ذلك نقول: إنَّ هذا هو الأصل، وهذا الذي جاء به الأثر، وهو مُعتبرٌ في الجملَة، وقد يرى القاضي في حالٍ خاصَّةٍ ما يحتفٌّ بها ممَّا قد يزيد فيه عامًا أو ينقص أو نحو ذلك، بحسبٍ ما يحتفُّ بذلك من الأحوال والقرائن.
ومثل ذلك لو فُقد وهو ابن واحدٍ وتسعين، أو ابن تسعين؛ فهل نقول لا يُنتظر؟
لا، يُنتَظر ولكن قد يُقال: إنَّ هذا مردَّه إلى القاضي باعتبار أنَّ ما جاء عن السَّلف والصَّحابة إنَّما هو فيما دون ذلك، أو هذه حالٌ مسكوتٌ عنها فيُنظَر فيها.
كذلك نقول: إنَّ هذا الحكم من جهة الحكم بموته واعتدادها بأربعةِ أشهرٍ وعشرًا، لكنَّها لو تضرَّرَت ولم تعد تصبر فيُمكنها أن ترتفع إلى القاضي لطلبِ الفَسخِ، فيفسخ القَاضي النِّكاح، سواء قلنا من أنَّ القاضي يلي ذلك فيفسخ النِّكاح هو، أو يُحضِر أحدًا من أوليائه فيتولَّى تطليقها، على قولٍ لبعض الفقهاء.
المهم أنَّ المرأة يُمكن لها أن تفسخ منه في حالٍ إذا كانت لا يُمكنها أن تَصبرَ على البقاءِ معه، سواء كانَ ذلك لأمرِ نفقةٍ، أو كانَ ذلك للإعفافِ، أو كانَ ذلك لأنَّها لا تأنَس وحيدةً مُنفردَة، أو لكونها تطلع إلى ولدٍ وحملٍ ونحوه، فأيًّا كان السببُ فإنَّها يُمكنها أن ترتفع إلى القاضي ويفسخ النكاح في مثل تلك الحال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّالِثُ: إِذَا ارْتَابَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّتِهَا؛ لِظُهُوْرِ أَمَارَاتِ اْلحَمْلِ، لَمْ تَنْكِحْ حَتَّى تَزُوْلَ الرِّيْبَةُ، فَإِنْ نَكَحَتْ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، وَإِنِ ارْتَابَتْ بَعْدَ نِكَاحِهَا، لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُهَا إِلاَّ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهَا نَكَحَتْ وَهِيَ حَامِلٌ)}.
كما قلنا: إنَّه فيما مضى لم تكن الأمور التي يُتبيَّن بها الحمل مِن الأمور الظَّاهرة المقطوع بها، وإنَّما هي أماراتٌ وعلاماتٌ قد تظهر بحيث يغلب على الظَّنِّ تحقُّق الحملِ ونحوه، كأن تنقطع عنها العادة ويحصل لها انتفاخٌ، ويأتيها ما يأتي النِّساء من مُقدِّمات الحمل ونحوه من أشياء تعلمها النِّساء، وقد لا يكون كذلك.
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (إِذَا ارْتَابَتِ الْمَرْأَةُ)، يعني: حصل عندها ريبة هل هي حامل أو ليست بحاملٍ؟ وهذا لمن ابتدأ عدَّتها بالحيَض أو بالأقراء -كما تقدَّم بنا- وهنا ذكر المؤلِّف حالين، وترك الحال الثَّالث لظهوره.
فأمَّا الحال الأولى: إذا ارتابت وهي لا زالت في العدَّة، يعني: بعدَ أن حاضت حيضةً أو حيضتين رأت في بطنِها تحرُّكًا، فليست كلُّ النِّساء تحيض كل شهرٍ، فبعض النِّساء لا تأتيها الحيضة إلَّا كل ثلاثة أشهر، فلو أنَّها أحسَّت انتفاخًا، أو ظهرت عليها الأمارات التي تألف من نفسها أنَّ تلك الأمارات هي مُقدِّمات حملِهَا؛ ففي مثل هذه الحال إذا كانت في أثناءِ العِدَّة فلا شكَّ أنَّها لا تنتهي عِدَّتُها إلَّا بيقينٍ، واليقينُ أن تذهب عنها هذه الرِّيبة ويرتفع عنها هذا الشَّك، فإمَّا أن تنتظر حتى يتبيَّن أنَّها حامل فتضع الحمل، أو يُقطَع من أنَّها غير حامل فتكمل العدَّة التي ابتدأتها من الحيض ونحوه.
الحال الثَّانية: هي التي تُقابل الأولى، وهي أنَّها لَمَّا انقضت عدَّتها بالأقراء تزوَّجت وعقدت النِّكاح، ثم بعدَ أن عقدَت النِّكاح استعجلها شيءٌ مِن انتفاخِ البَطنِ، ولا يُمكن أن يكون هذا الانتفاخ مِن أثَرِ زَواجها الجديد، فرأت على نفسها مُقدِّمات الحمل، فهنا نقول: هذه أماراتٌ وشكوكٌ، وعندنا عقدٌ صحيحٌ قطعًا مبنيٌّ على انتهاء عِدَّةٍ صحيحةٍ وهي ثلاثة قروء، فلا يُنقَضُ اليقينُ بالشَّكِّ، فيبقى النَّكاح على ما هو والزَّوجيَّةُ بحالها، ولا يُلتَفت إلى الشُّكوك في إنهاء عقد الزَّوجيَّة.
ولكن مع ذلك يقول الفقهاء -رحمهم الله تعالى: يجب على الزَّوج أن يتريَّث، فلا يُجامعها ولا يطأها؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» ، فعندنا الآن شُبهة أنَّها قد تكون حاملًا مِن غيره، فننتظر لئلَّا تختلط الأنساب وتشتبه الأمور، فينتظر الزَّوجُ ولا يُجامِعَ زوجتَه ولا يُقاربها حتى يتبيَّن، فإذا تبيَّنَ أنَّها حامل فعند ذلك تبيَّنَّا أنَّ عقدَ النِّكاحِ عليها كانَ باطلًا؛ لأنَّ نكاحَ المعتدَّة باطلٌ -كما سيأتي في الجملة التي ذكر المؤلِّف بعد ذلك- فنُبطل هذا النِّكاح، وتعود المرأة لتُكمل عدَّتها حتى تلد.
وإمَّا أن يُتبيَّن أنَّ هذه المقدِّمات إنَّما هي شيءٌ عارضٌ لا حقيقةَ له، فتعود المرأة بانتظام حيضتها ونحو ذلك، ونقول: إنَّ الزَّوجيَّة بحالها، وللزَّوج بعدَ ذلك أن يطَأَها ويأتِيَها كسائر الأزواج.
الحال الثَّالثة: هي الحال التي بينَ هذين، وهي أن تكون انتهت عدَّتُها ثلاثة قروءٍ، لكن لم تتزوَّج، ورأت بعدَ انتهاء العدَّة ما هو مُقدِّماتٌ للحمل، سواء قلنا: انتفاخ البطن، أو ما تجده النساء من شعورٍ وتغيُّرٍ في بعض أحوالها وهذا معلومٌ لدى النِّساء؛ فهنا يقول الفقهاء: عليها أن تنتظر في أصح القولين، لاحتمال أنَّ الدَّم الذي نزلَ منها يُمكن أن يكونَ دمَ حيضٍ فتنتهي به العدَّة، ويُمكن أن يكونَ دمَ فسادٍ، فلمَّا كان الأصل أنَّه دمَ حيضٍ لكن قابلَه ما قد يرفع هذا اليقين وهو أنَّ الحامل لا تحيض؛ فما دام أن جاءتنا مُقدِّمات فإمَّا أن نتيقَّن أنَّها ليست حاملًا فنقول: إنَّ هذا دمَ حيضٍ، أو نتيقَّن أنَّها حاملًا فيتبيَّن أنَّ ذلك دمَ فسادٍ، فلمَّا كانَ الأمر في ذلك متأرجحًا فيقولون: إنَّ الانتظارَ في مثلِ هذه الحال والتربُّص حتَّى يتبيَّنُ حالها واجبٌ مُتعيِّنٌ، لئلَّا تتزوَّجَ فيتبيَّنَ أنَّها كانت حاملًا، فإمَّا أن تُدخل على زوجها ولدًا ليسَ له وتختلط الأنساب، أو أنَّها تعودُ على نكاحها بالبطلان إذا تبيَّن أنَّها حاملًا قبل ذلك.
ولَمَّا كان الأمر محلِّ ريبةٍ، والنِّكاحُ لا يكون إلَّا على أمرٍ مُتيقَّنٌ، ومثلها لم يُتيَقَّنُ عدتها؛ فبناء على ذلك لا يحل نكاحها، وهذا هو الأشهر من القولين، وإن كان بعضهم يقول: ما دامت انتهت عدَّتها فلا يُلتفت إلى مثل هذه الشُّكوك، وهذا قول، وكلُّ هذا متصوَّرٌ كثيرًا فيما مضى، ولكنَّه أقل ما يكون في مثل هذه الأزمنة، لَمَّا صارَ ما يُفحَص به النساء ويؤول إليه من النَّتائج من وجود حملٍ من عدمه هو مِن أيسر ما يكونُ في الطِّبِّ، وأوضح ما يكونُ في العلمِ، فيُعلَم بحملها من عدمه، فيكون الكلام في مثل هذه الأمور يسيرًا وسهلًا وظاهرًا، لا كما ذكره الفقهاء ممَّا أوردوا فيه من الإشكالات وصارَ فيه من الأخذ والرَّدِّ والقول ومخالفته، فرحم الله عُلماء الإسلام جزاءَ ما بذلوا واجتهدوا في المسائل حتى يُحرِّروها على أدقِّ ما يكون مع ما يحتفُّ بها من الإشكالات ويُداخلها من التَّعارضات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَتَى نَكَحَتِ الْمُعْتَدَّةُ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا)}.
لو أنَّ المعتدَّة شَرَعت في عدَّة، سواء كانت من عدَّة طلاق، أو عدَّة فسخ حاكمٍ، أو خلعٍ، أو كانت عدَّة وفاة؛ فتزوَّجَت في أثناء عدَّتها، فإنَّ نكاحها باطلٌ مجمعٌ على بُطلانه، فلا حكم لذلك النِّكاح ولا أثر له؛ لأنَّها فعلت شيئًا مُجمَعٌ على خلافه، فلا يجوز لها فعل ذلك، وتُعزَّر لو كانت قد فعلته قصدًا؛ لأنَّ بعض النساء لا تدري أنَّ عدَّتها قد انتهت كأن تظن أنها انتهت بحسابها ثُم تزوَّجَت، ثُم جاءتها أختها وقالت لها: تذكرين حصل كذا أو كذا، فأنتِ الآن لازلتِ في العِدَّة، وإنَّما انتهى من حيضتك اثنتان، فتبيَّنَ لها، أو بعض النساء ممَّن عادتها ليست متتابعة، فتحيض بعدَ حيضةٍ ثم تطهر ثم تأتيها تكملةُ الحيضَة فتظنَّها حيضتين فتحسبها، فتسأل بعض أهل العلم فيقولون: إنَّ بين الحيضتين ثلاثة عشر يومًا، وهو ما يُسمَّى عند الفقهاء بتَلفِيقِ الحيضَةِ، وهي أن تُجمِّع بعضُ النِّساء الأيام التي ينزل معها الدَّم والأيَّام التي ينزل فيها، حتَّى تُجعل حيضة واحدة، فإذا تبيَّن ذلك فإنَّنا نُبطل النِّكاح ولا يكون عليها تَبعَةٌ؛ لأنَّها مَعذورةٌ في هذا إذا لم يكن منها تقصير أو إخفاءٌ لذلك الأمر وعدم إظهارٍ له، أو لم تكن عالمة بذلك.
إذن؛ أيًّا كانَ الأمر فإنَّها لو نكحت وهي مُعتدَّةٌ فنكاحها باطل، فإن كان ذلك قصدًا منها فهي آثمةٌ ويُمكن تعزيرها، وإن كان ذلك بخطأ أو جهلٍ أو غير ذلك فإنَّه يُفرَّقُ بينهما ولا يكون ذلك النِّكاح صحيحًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُوْلِ، أَتَمَّتْ عِدَّةَ اْلأَوْلِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُوْلِ، بَنَتْ عَلى عِدَّةِ اْلأَوَّلِ، مِنْ حِيْنِ دَخَلَ بِهَا الثَّانِيْ، وَاسْتَأْنَفَتِ اْلعِدَّةَ لِلثَّانِيْ)}.
إذا نكحت المرأة وهي مُعتدَّةٌ فمعنى ذلك أنَّ عندنا من حالها أمران:
ïƒک عدَّةٌ لم تُكملها.
ïƒک وزواج لم يصح لها.
وبناءً على ذلك نُفرِّق بينهما، ثُمَّ إذا فُرِّق بينهما فيقول أهل العلم: إنه يُبدَأُ بالأوِّل فالأوَّل، فالأوَّل الذي اعتدَّت منه انقضت من عدَّتها حيضة وبقيت لها حيضتان، فتُكمل حيضتين، ثُمَّ إذا أكمَلت حيضتين فإنَّها تعتدُّ للثَّاني، وإذا كان بقِيَت لها حيضة فتُتمُّ حيضتان ثم تعتدّ للثَّاني، ولذلك يقول المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ: (بَنَتْ عَلى عِدَّةِ اْلأَوَّلِ، مِنْ حِيْنِ دَخَلَ بِهَا الثَّانِيْ، وَاسْتَأْنَفَتِ اْلعِدَّةَ لِلثَّانِيْ)، فالبدخول كأنَّ العدَّة الأولى توقَّفت، وبناء على ذلك إذا فُرِّقَ بينهما تحتسب العدَّة إلى دخول الزوج الثاني، وتُكمل عدَّتها، فإذا انتهت بدأت عدَّةً جديدةً لهذا النِّكاح الثَّاني؛ لأنَّ لكلِّ حقٍّ حكمه. هذا إذا كانت قد دخل بها.
أمَّا إذا لم يكن قد دخلَ بها فإنَّه لا أثر له، فتُكمل عدَّتها للأوَّل، ولا عدَّة للنِّكاح الثَّاني ولا أثر له في ذلك، وبناء على ذلك ليس علينا إلَّا أن نُفرِّقَ بينهما، وتُتم عدَّة الأوَّل. وهذا قد جاء عن الصَّحابة، أنَّ امرأة تزوَّجت رجلًا ثانيًا، ثُمَّ تبيَّنَ وجودُ زوجها الأوَّل؛ ففُرِّقَ بينهما، وكذلك إذا كانت في عِدَّة؛ فإنَّ العدَّة حقٌّ أن تُكمَل، فتُتمُّ عدَّة الأوَّل، ثمَّ تعود إلى عدَّة الثاني فتُكملها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَهُ نِكَاحُهَا بَعْدَ قَضَاءِ اْلعِدَّتَيْنِ)}.
هذا الشَّخص الذي نكحَ المرأة نكاحًا باطلًا هل له أن ينكحها أو لا؟
فيه خلاف، وجاء عن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه حرَّم عليه نكاحها، والمؤلِّف هنا قال: إنَّ له نكاحها، فكيفَ ذلك؟
قالوا: إنَّ ما جاء عن عمر قابلَه ما جاء عن عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فحكمَ عليٌّ بأنَّ له أن يتزوَّجها، فلأجل ذلك جازَ، ثُمَّ إنَّ الذي جاء عن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رُويَ أنَّه رجعَ عنه، وبناء على ذلك ترجَّح في المذهب عندَ الحنابلة وهو الذي ذكره المؤلِّف هنا وهو أنَّه لا يُحال بينه وبينَ نكاحها، وأنَّها لا تحرم عليه بعدَ انقضاء عدَّتها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ مِنْ أَحَدِهِمَا، اْنقَضَتْ بِهِ عِدَّتُهُ، وَاعْتَدَّتْ لِلآخَرِ)}.
كيف يُعرَف ذلك؟
في بعضِ الأحوالِ يتبيَّن أنَّه لأحدِهما لا محالة، فلو أنَّها بعدَ أن تزوَّجَت الثَّاني ولدت ولدًا لأقل من ستةِ أشهرٍ وعاشَ؛ فمعنى ذلك أنَّنا نقطع يقينًا أنَّه لا يُمكن من الزَّوج الثَّاني؛ لأنَّ الزَّوج الثَّاني ما دخلَ بها إلَّا بعدَ ذلك، فلا يُمكن أن تحمل وتأتي به لستة أشهر؛ لأنَّ الولد لا يعيش لأقل من ستة أشهر، فنتيقَّن أنَّه للأوَّل، وبناء على ذلك لو وضعت هذا الولد نقول: انتهت عدَّة الأوَّل، فتستأنف عدَّةً للثَّاني.
وهنا يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ مِنْ أَحَدِهِمَا، اْنقَضَتْ بِهِ عِدَّتُهُ، وَاعْتَدَّتْ لِلآخَرِ)، والحكمُ كذلك لو قُطِعَ من أنَّه للثَّاني، وذلك بأن تَأتي به بعدَ أربعِ سنين مِن فراقها للأوَّل، فإنَّ المرأة لا يُمكن أن تحمل لأكثر مِن أربع سنين، وهذا بناء على قول الحنابلة أنَّه يُمكن أن يكون الحمل أربع سنوات، والآن العلم له كلام في هذا، ولكن هو مُشتهرٌ عند السَّلف، فقد نُقِلَ عن الإمام أحمد والشَّافعي وغير واحدٍ، وربَّما نُقلت وقائعُ كثيرةٌ في الأزمنةِ الماضيةِ -والنِّساء تعرف ذلك- مِن كون بقاء المرأة تحمل سنةً أو سنتين أو أكثر مِن ذلك، ولكن العلم الحديث يقول: لا يُمكن أن يزيد عن أحد عشر شهرًا.
وعلى كلِّ حالٍ؛ لا يُمكن القطع بعلومِ الطِّبِّ ونحوها؛ لأنَّها تتجدَّد، وما كان مقطوعًا به في بعضِ الأحوالِ يكون غير مقطوعٍ به في حالٍ أخرى، وما دامَ أنَّه ثبتَ في الوجودِ حالٌ من الأحوالٍ فإنَّنا نحكم به، وهذا ثبت فيما مضى، وأيضًا يُذكر في تتابع الأيَّام وفي تأريخ الأمم، وحتى فيما يتسامع به النَّاس مِن أخبار والديهم وأجداهم، وقد سمعنا مِن أهالينا شيئًا من ذلك، وذكر ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- شيئًا من ذلك؛ فأيًّا كان فهو فيما مضى كان أكثر مدَّة للحمل أربع سنين، فلو افترضنا أنَّها لَمَّا نكحت الثاني وبقيت معه خمس سنوات ولدَت، فهنا نتبيَّن قطعًا أنَّه من الثَّاني لا من الأوَّل، وبناء عليه تنتهي عدتها من الثاني، وتعتد للأوَّل وتكمل عِدَّتها ثلاثة قروء، ثُمَّ للثَّاني أن ينكحها بعدَ ذلك؛ لأنَّ نكاحها كان باطلًا.
لقائل أن يقول: كيف يكون الولد ولد الزَّوج الثَّاني؟
نقول: هذا يُسمَّى عند الفقهاء بـ "الوطء بشبهةٍ"، فلو ظنَّت أنَّها انقضت عدتها فنكحها، فهذا النِّكاح صحيح، وبناء على ذلك فالوطء بشبهة يندفع به الحدُّ، ويثبت به النَّسب، وتُقرُّ به العدَّة، وسواء كانت الشبهة راجعة إلى العقد، فظنُّوا أنَّ العقدَ صحيحًا وهو ليس بصحيحٍ، أو راجعةً إلى الحال، كما لو دخل شخصٌ على بيته راجعًا من سفرٍ، ولم يكن في الزمان الأوَّل كهرباء، فيدخل في ظُلمةٍ شديدةٍ، فلو أنَّه وجدَ امرأةً على فراشه فجامعها يَظُنُّها زوجته، ثُمَّ تبيَّن أنَّها ليست زوجةً له، فهذا وطءٌ بِشُبهةٍ، وبناء على ذلك لو وُلِدَ لها فيكونُ ولدًا له، ويثبت نسبه، ويدفع عنه الحد، وتعتد هي ثلاثة أشهرٍ.
{سؤال للفائدة: بعضهم يقول: لِمَ تصيرون إلى أقوالِ الفقهاءِ في أكثر مُدَّة الحملِ سنتين أو أربع سنوات؛ بالرَّغم أنَّ الطِّبَّ يقول: إنَّ أكثر المدَّة أحد عشر شهرًا؛ فربما هذه الإشكالات التي تقع من رحمة الله أن يُدفَع بها كثير من هذه الإشكالات}.
الفقهاء -رحمهم الله- لا ينظرونَ إلى حالٍ واحدةٍ، فما يُوجَد عندنا مِن أحوالٍ تتكشَّف بها الأمور ولا يوصل إلى مثل هذه الحدود هي أحوال خاصَّة، إذا وُجدَ عندنا من التَّيسرات ونحوها فقد لا يوجَد عند غيرنا، ونحن لا نتعلم الفقه وندرسه لي ولك، أو لمجتمعٍ صغيرٍ، أو لوقتٍ قصير، فالفقهاء كانوا يدرسون العلم لوقته، وما بعدَ وقته، وللمكان الذي عاشوا فيه، ولأبعدِ الأماكن عنهم، ولمن كان أقل منهم حالًا، ولمن كانوا أحسن منهم حالًا؛ فذكروا في كلِّ تلكم الأحوال أبعدها، حتى تشملَ هذا وذاك، وحتى لا يحتاج المتعلم للفقه الذي يدرس كتبهم إلى مزيد بحثٍ، فبمجرَّد أن يدرسَ ما ذكروه فإنَّه يُمكن أو يطبق ما حفظه مما ألَّفوه.
ثمَّ ما الذي يُدرينا أنَّ الطبَّ يبقى على ما هو عليه! فيُمكن أن تذهب كثير من هذه الإمكانات لأيِّ سببٍ من الأسباب، فإذا تعطَّلت موارد الطَّاقة، وإذا تعطَّلت أسباب هذه التَّقنية، وإذا تعطَّلت أشياء كثيرة؛ يُمكن أن تقف أشياء كثيرة، ولذلك جاء في بعضِ الأدلَّة أنَّ الأمور يُمكن أن تعود إلى ما كانت عليه من سابق الأمر، وثم أيضًا يُمكن أن توجَد حتى الآن، فلو جئنا إلى بعض البلدان ونحن لسنا بحاجةٍ إلى التَّسمية؛ لأنَّ التَّسميةَ في بعضِ الأحيانِ قد يظنها البعض ازدراءً لتلك الدِّيار؛ ولكن قد لا يتأتَّى لهم مثل هذه الإمكانات، ولو وُجدَت في بلدانهم ولكنه لا يتأتى لبعض النَّاس أن يصل إلى مثل هذا التَّيسير، ونحن مُهمَّتنا أن نُبيِّنَ الفقه، ثم إنَّ الفقه يُحفظُ تعبُّدًا لله -عزَّ وَجَلَّ- وتعلُّمًا لتيسير وقائعِ النَّس، وما قد يجد من الأزمان والأماكن واختلافها، فلأجل ذلك نُدرسه على هذا النحو.
وفيه مسألة أخرى: كثيرٌ ما يُقال: إنَّ الفقهاء يتكلَّفون، إن الفقهاء يتعمَّقون، إنَّ الفقهاء يذكرون ما لا يُتصوَّر وقوعه، وأنَّهم يفرضون من المسائل ما هو أشبه بالخيال!
فنقول: إنَّ هذه الدَّعوة ليست صحيحةً على إطلاقها، وليست سِمةً غالبةً في كُتُبِهم، فإنَّ الفقهاء -رحمهم الله تعالى- يدرسون العلم بحسب ما يحتاجه النَّاس، لكن مهما كان من تصوري أو تصوُّركَ أو تصوُّر فلانٍ الذي حكمَ على الفقهاء بأنَّهم يتكلَّفون لأنَّه تصوُّرَه ضيِّق، أو لأنَّه يظن أنَّ النَّاس لا يحتاجون إلَّا إلى ما يحتاجه هو؛ فهذا ليس بصحيحٍ.
ثمَّ إنَّ الفقهاء إذا ذكروا المسألة فإنَّهم يذكرونها بواقعها الكثير، ويذكرونها بحدودها القليلة، حتى تكون حدًّا محدودًا وأمرًا ظاهرًا بيِّنًا، فهذا كثير، وقد يظن النَّاس أنَّ أبعدَ ما يكون من هذه المسألة في هذا الطَّرف وأبعد ما يكون في هذه المسألة في هذا الطَّرف أنَّه نادر أو شاذٌّ؛ وبناء على ذلك هذا لا يُعتبر.
هل وُجدَ الفقهاء بعض التَّكلُّفات؟
نقول: نعم، وهذا لا يخلو منه علم، فالعلم لحقَ به ما يُكمِّله ولحق به ما ينبغي أن يُجرَّدَ عنه.
واشتهر ذلك في مدرسة أهل الرأي، ومدرسة أبي حنيفة، وكان له طريقة في التَّدريس انتفع بها الطُّلاب مِن جهةِ تقويةِ مَلَكَتهم الفقهيَّة، وأثَّرَت على تصورهم للعلم، وإن كان بعض تلك الوقائع لم تكن بمتوقع حصولها، فأيًّا كان ذلك فإنَّ هذا قد وُجدَ في حالٍ ضيِّقة، وله مسوِّغاته عند أهل العلم، واعتذروا لأبي حنيفة لأنَّه كان بعيدًا عن موارد الأحاديث والنَّقل والنُّصوص، ووُجد في مجتمعٍ كثُرَت فيه تغيُّراتهم من الأعاجم وفارس ونحوها، فوقعت وقائع كثيرة، فكان أبو حنيفة دائرٌ بين أمرين:
• بينَ أن يُعمل النَّظرَ والرأيَ والأقيسَةَ، وهذا قد يعوزه إلى زيادةٍ في حُسنِ النَّظرِ وتقليب المسائل وإبداء الرأي ونحوه.
• أو بينَ الوقوف الذي يُفضي إلى حيرة النَّاس في كثيرٍ من وقائعهم، فحصل منه الاجتهاد.
فنقول: إنَّه اجتهد بسببٍ، وهو فيما اجتهدَ فيه مأجور، وقد تكون بعض المسائل التي سواءٌ وُجدَت في مذهب أبي حنيفة أو مذهب مالك أو مذهب الشافعي أو مذهب الحنابلة؛ مُتكلَّفات أُلحِقَت بكلِّ مذهبٍ، وهذا لا يخلو منه علم، ولكن ليست كثيرةً، وليست إلَّا نادرةً، ولبعضها ما يُسوِّغها، وبعضها مما لحق بها، فيُعتَذَرُ للعلماء ويُطلَبُ لهم المغفرة، فإنَّهم ما اجتهدوا إلَّا رجاء تقريب العلم وتسهيله وتذليله وذكر غرائب مسائله، وعسى الله أن يتجاوز عنَّا وعن علماء المسلمين، أن يغفر لنا ولهم ما عملوا وما قدَّموا وما اجتهدوا وما تفقَّهوا وما يسَّروا وما ألَّفوا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُوْنَ مِنْهُمَا، أُرِيَ اْلقَافَةَ، فَأُلْحِقَ بِمَنْ أَلْحَقُوْهُ مِنْهُمَا، وَانْقَضَتْ بِهِ عِدَّتُهُا مِنْهُ، وَاعْتَدَّتْ لِلآخَرِ)}.
الحال الثالثة: أنَّها لَمَّا تزوَّجَت الثَّاني وكان نكاحها في العدَّة -وهو نكاحٌ غيرُ صحيحٍ- وهي الآن هي حامل، وهذا الحمل ولدته لأكثر من ستَّةِ أشهرٍ ولأقل من أربع سنوات، فيُمكن أن يكونَ من الأوَّل، ويُمكن أن يكونَ من الثَّاني، فبناء على ذلك يقول المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ: أنَّه يُرى القَافَة، وهم أناسٌ يعرفون الأنسابَ بالشَّبه، فإذا رأوا فلانًا يقولون: هذا ابن فلانٍ؛ بل بعضهم يعرفُه بالقدم، وهذا جاء في السَّنُّة، فلمَّا كثُرَ كلام بعض مَن تكلَّمَ في نسب أسامة بن زيد من أبيه، لكونِ زيد فيه بياض، وكان أسامة فيه سوادٌ وسُمرَة، فرآه مزجَّج المدلجي فقال: إنَّ هذه الأقدام لمن بعض؛ ففرح النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى سُرِّيَ عنه، وقال لعائشة: «أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» ، فكأنَّها انطفأت بذلك نار الشُّبهة التي ربَّما أثَّرَت فيهم.
فأخذ من هذا أهل العلم أنَّ اعتبار الأشباه والحكم بها في الشَّرع قد جاء، إذن هم قومٌ يعرفونَ الأنسابَ بالشَّبهِ، سواءٌ كانوا من آل مرَّة -وهي مشهورة فيهم- أو كانوا من غيرهم، ولا يختصُّ بهم -كما يذكر الفقهاء- فمتى وُجدَ شيءٌ من ذلك فإنَّه يُحكَم به، ويُشترطُ أن يكونَ عدلًا، ولأهل العلم فيه كلام، وذكروا ذلك في أحكام اللقيط، وأظن أنَّها مرَّت بكم في دراسة هذا الكتاب.
إذن؛ من جهة النَّظر يُحكَمُ به، فإذا رآه القافة وقالوا هذا ولدُ فلانٍ فإنَّه يُلحَقُ به؛ وللفقهاء طريقة في ذلك، أنَّهم يحتبرونهم أولًا ويأتون بأناسٍ ليسوا لآبائهم، ثم يأتون بغيرهم، ويُجربوا عليهم الإصابَة ويعلموا الدِّقَّة والمعرفة، فإذا ألحقوه بفلانٍ لحق به، وإذا ألحقوه باثنين لحق بهم؛ لأنَّه جاء ذلك عن الصَّحابة في أكثر من واحدٍ ألحقه القافة باثنين، فيُلحَق بهما، وإذا نفوه عنهم فهذا هو محل الإشكال، يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فَأُلْحِقَ بِمَنْ أَلْحَقُوْهُ مِنْهُمَا).
لقائلٍ أن يقول: هل يقوم الآن بعض ما جدَّ في العلم من تحاليلٍ وفحوصاتٍ مخبريَّةٍ يُمكن الاستدلال بها على أنَّ هذا ابن فلانٍ أو ابن فلانٍ؟
نقول: إنَّ مَردَّ هذا العلم إلى الحكم بمقدِّمات الأمور، وبعض ما ثبتَ بالتَّجربةِ وصولها إليه، وهذا القدر موجودٌ في القافة، وقد حكمَ به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بل وربَّما كانَ أدقَّ منه وأظهر، فإذا كان الأمر كذلك فإنَّ مُقتضَى ما جاء في الشَّرعِ من الحكم بالقافة وإجراءِ ما حكموا به وترتيب آثاره عليه يقتضي أنَّ ما جدَّ من مثل هذه التَّحاليل المسمَّاة بـالحمض النووي (dna)، ونحوها، ويُمكن أيضًا أن توجد بعض الأشياء التي تقارب ذلك وتكون صالحةً للحكمِ، ويُمكن أن تُجرَى على هؤلاء فيُبيَّن أهو ولدٌ لهذا أم للآخر، فإذا قضينا أنَّه ولد أحدهما فإنَّها يُعتَدُّ للآخر.
بقيت مسألة: إذا كانت المرأة فراشًا لشخصٍ، وجاء الولد بوجهٍ حرامٍ؛ فهنا لا يكون فيه قافة، فالولد للفراش وللعاهر الحجر كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإنَّما ذكر الفقهاء هنا مسائل تتعلَّق بأنَّ لكل واحدٍ وجهٍ استمسكَ به، ولم يكن أحدهما بأولى من الآخر، أمَّا مَن كانت فراشًا للرجل والولد لا وجه له البتَّةَ فإنَّ ذلك لا حكم له، ولم يعتبره الفقهاء متعلقٌّ به بحالٍ من الأحوال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بابُ الإِحْدَادِ)}.
الإحدَادُ له ارتباط بالعدَّةِ من جهةِ أنَّه حالٌ من أحوالِ المعتدَّة التي تعتدُّ من وفاة زوجها بما جاء في الشَّرعِ بما تجتنبه وتتبعه من الأحكام التي اختصَّت بها، فهذا هو مناسبة ذكر باب الإحداد بعدَ أحكام العدَّة.
والإحداد هو: اجتناب المرأة لِمَا يُرغِّبُ في نكاحها ويُزيِّنُها ويُجمِّلُها، وحقيقته تركُ ما يُرغِّبُ في نكاح المرأة ويزيد من جمالها ويدعو إلى النَّظرِ إليها.
وحقيقة الإحداد الشَّرعي: تربُّصُ المرأة المدَّة المفروضَة عليها شرعًا مُتجنِّبَةً لكلِّ ما يدعو إلى نكاحها ويُرغِّبُ في النَّظرِ إليها، وهو حاصلٌ بأربعةِ أشياء سيذكرها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- هنا.
وأصل الإحداد جاء في قول الله -عزَّ وَجَلَّ: ï´؟وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا غ– فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ غ— وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌï´¾ [البقرة:234]، وذلك أنَّ أهل الجاهليَّة كانت لهم حالٌ أشدَّ من ذلك، فكانت المرأة تجلسُ سنةً ولا تغتسل، ولا تخرجُ من بيتٍ، فجاء الشَّرعُ بالإبقاء على الإحداد على وجهٍ صحيح لا يُضرُّ بالمرأةِ ويَظهر به تعظيم الزَّوجة لزوجها، وقيامها بحقِّ هذا العقد، فلأجل ذلك كانت مشروعيَّة الإحداد.
ونجعل هذا الباب والدُّخول فيه في مقدَّمة الدَّرس القادم، أسأل الله لي ولكم التَّوفيق والسَّداد، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-24, 21:09   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
عديل 13
عضو جديد
 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيك مشكور










رد مع اقتباس
قديم 2019-04-25, 13:51   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عديل 13 مشاهدة المشاركة
بارك الله فيك مشكور
وفيك بارك الله









رد مع اقتباس
قديم 2019-05-07, 07:53   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

عُمدة الفقه (6)
الدَّرسُ الحَادي عَشر (11)
فضيلة الشَّيخ/ د. عبد الحكيم بن محمد العجلان

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاك الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات.
{سنشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- مِن باب الإحداد من كتاب عمدة الفقه للموفِّق ابن قدامة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باَبُ اْلإِحْدَادِ
وَهُوَ وَاجِبٌ، عَلى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَهُوَ: اجْتِنَابُ الطِّيْبِ وَالزِّيْنَةِ، وَالْكُحْلِ بِاْلإِثْمِدِ، وَلُبْسِ الثِّيَابِ الْمَصْبُوْغَةِ لِلتَّحْسِيْنِ، لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تَحِدُّ امْرَأَةٌ عَلى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إِلاَّ عَلى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلاَ تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوْغًا إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلاَ تَكْتَحِلُ، وَلاَ تَمَسُّ طِيْبًا، إِلاَّ إِذَا اغْتَسَلَتْ، نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ»)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلهِ وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ؛ فأسألُ الله -جلَّ وعلا- أن يزيدنا مِن العلم وأن ينفعنا به، وأن يعقبنا التَّوفيق فيه، وأن يجعلَنا هداةً مهتدينَ، غيرَ ضالِّينَ ولا مُضلِّينَ، متَّبعين لهديِ نبيِّنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبه مُستنِّينَ، وأن يوفِّقنا لذلك أبدًا ما حيينا يا ربَّ العالمين.
بابُ الإحدادِ -كما ذكرنا في آخرِ الدَّرس الماضي- هو مناسبٌ ذكره بعدَ باب العدَّةِ؛ لأنَّ من المعتدَّات مَن يلزمها مع العدَّةِ إحدادٌ، ومَن يتعلَّقُ بها حكمُ اجتناب الزِّينةِ -على ما سيأتي تفصيله -بإذن الله جلَّ وعلا.
وأصل الإحداد في كتاب الله -جلَّ وعَلا- في قوله تعالى: ï´؟وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًاï´¾ [البقرة: 234]، وقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث أم حبيبة: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ علَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إلَّا علَى زَوْجٍ، فإنَّهَا تُحِدُّ عليه أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرًا» ، وذلك لأنَّ أمَّ حبيبةَ لمَّا توفِّيَ أخوها أبو سفيان بقيَت ثلاثة أيَّامٍ، ثم دعَت بشيءٍ من الطِّيب فتطيَّبَت به، وقالت: "إنِّي كُنْتُ عن هذا لَغَنِيَّةً، لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ:..." ، ثم ذكرت هذا الحديث.
هذا مِن جِهَةِ مشروعيَّةِ الإحدادِ، وهو محلُّ إجماعٍ بينَ أهلِ العلمِ، ولذلك قالَ المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهُوَ وَاجِبٌ)، يعني أنَّه فرضٌ لازمٌ على كلِّ امرأةٍ أن تُحادَّ على زوجها، وهذا الحِداد سواء كان بعدَّةِ أربعةِ أشهرٍ وعشرًا إن كانت قد تُوفيَ عنها زوجها وهي غيرُ حامل، أو كان إحدادها في وقت زمنِ عدَّتها إذا كانت حاملًا حتى تضع حملها؛ فإنَّها تُحادَّ تلك المدَّة كلها، حتى إذا انقضت عدَّتُها انقضَى إحدادُها.
فبناءً على ذلك؛ لو أنَّ امرأةً كانت حاملًا فمات زوجها فهي تعتدُّ ويلزمها الإحداد وهو اجتناب الزِّينة وما سيأتي تفصيله في هذا الباب؛ فإذا وضعت من الغدِ فنقول: انتهت عدَّتها وذهب إحدادها.
ولو أنَّ امرأةً مات زوجها ولم تعلم به إلا بعدَ سِتَّةَ أشهرٍ؛ فنقول هنا: انقضَت عدَّتُها وفات إحدادها؛ لأنَّ الإحداد والعدَّة هي المدَّة التي تَلِي مدَّة الوفاة، كما أنَّ العِدَّة لِمَن طلَّقها زوجها أو خَالعها هي المدَّة التي تَلِي هذا الفسخَ أو هذا الطَّلاق؛ فلو أنَّها لم تتنبَّه لها إلى بعدَ أن انتهت فلا تبدئه مِن جديد، ولا يجبُ عليها أن تستأنفه مِن أوَّلِهِ، بل ذهبَ محلُّه، فإن كان ذلك بتفريطٍ منها فهي آثمةٌ، وإن كانَ ذلك بغيرِ تفريطٍ فليس عليها شيء.
على سبيل المثال: لو أنَّ امرأةً لم تعلم بوفاةِ زوجها إلَّا بعدَ ستَّةَ أشهرٍ؛ نقول: ليس عليها شيء، وانتهت عدَّتها وانتهى إحدادها، ولها أن تتزوَّجَ من يومها هذا، وتلبس ما شاءت من الثِّياب وتتطيَّب بأحسنِ ما أرادت مِن الأطيابِ.
ولو أنَّ امرأةً عَلِمت أنَّ زوجها قد ماتَ، ولكنَّها لا تحبُّه ولا تألفُه، فقالت: والله لا يستحقُّ إحدادًا! حتى إذا انتهى إحدادها جاء مَن ذكَّرها وخوَّفها، كيف تفعلين ذلك وهذا حقُّ الله -جلَّ وعَلا؟! فأرادت أن تستعيد ذلك؛ فنقول: فات محلُّه، وليس عليكِ إلَّا أن تستغفري الله -جلَّ وعَلا- وأن تطلبي العفوَ والمغفرة، فإنَّه ممَّا يفوتُ محلُّه ولا يُمكن استدراكه، ولا يكون له قضاء.
السؤال الأول:
المرأة التي لم تعلم بوفاة زوجها إلَّا بعدَ مُضِى ستَّة أشهرٍ من وفاته؛ يجب عليها قضاء العدَّة اتفاقًا.
(خطأ)
https://www.youtube.com/embed/CGawDLV1hHE

قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهُوَ وَاجِبٌ عَلى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا)، سواءٌ اعتدَّت بالأشهر، أو كانت حاملًا فاعتدت بوضع حملها.
هل يكون إحدادٌ على غير الزَّوجِ؟
نقول: كما في ظاهر الحديث: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ علَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إلَّا علَى زَوْجٍ، فإنَّهَا تُحِدُّ عليه أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرًا»، فمن مات له أخٌ أو أبٌ أو أمٌّ أو ابنٌ أو قريبٌ أو صديقٌ أو حبيبٌ؛ فإنَّه في اليوم الأوَّلِ والثَّاني والثَّالث له أن يتبذَّلَ، ويتركَ ما اعتاده من طِيبِ اللباسِ والطِّيب ونحو ذلك، لكن لا يجوز له أن يزيدَ على ذلك؛ لأنَّ هذا مخالفٌ لهدي النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيه إظهارُ عدمِ الرضَا بقضاءِ الله وقدره، وإنَّما كان هذا لِضعفِ النُّفوسِ، فإنَّ النُّفوسَ لابدَّ أن تأسَى على فِراق حبيبها، فأذن لها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قدرٍ مألوفٍ ومعهودٍ، لكن لَمَّا كان أمرُ الزَّوجية أعظم، ولَمَّا كانَ للزَّوجِ على زوجته حقٌّ أكبرٌ؛ فإنَّه جُعِلَ له خصوصيَّةٌ في ذلك وصارت هذه المدَّة التي هي أربعةُ أشهرٍ وعشرًا.
السؤال الثاني:
لا يجوز للمرأة الإحداد على غير زوجها باتفاق.
(خطأ)
https://www.youtube.com/embed/ZrxO4ID8-sI

ثم ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعالى- وقال: (وَهُوَ: اجْتِنَابُ الطِّيْبِ وَالزِّيْنَةِ، وَالْكُحْلِ بِاْلإِثْمِدِ، وَلُبْسِ الثِّيَابِ الْمَصْبُوْغَةِ لِلتَّحْسِيْنِ).
حقيقةُ الإحداد: تركُ الزِّينَة والطِّيبِ، والكُحل بالإثمدِ، ولُبس الثِّيابِ المصبوغةِ، فليسَ للمرأة أن تتزيَّنَ بلُبسِ حليٍّ، أو بأن تجعل في وجهها ما يُكسبه حُمرة، كما يقول الفقهاء "إسفيداج"، وهي كلمة ليست عربيَّةٌ، ومثل ما يقولون "مكياج" أو نحوه، فكلها ليست عربيَّة، ولكنَّها كلماتٌ يُقصَدُ بها ما يحصل به التَّجميل؛ فإنَّ هذه أشياء لا تفعلها المرأة، ولذلك نهى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تكتَحِلَ المرأة بالإثمدِ الذي يحصلُ به تجميلٌ للعينِ وتزيينٌ لها، وأمَّا ما كانَ مِن غيره ممَّا لا أثرَ له، وإنما يُجعل طبًّا وتطبُّبًا فهذا يُفهَم من كلام المؤلف الإذن فيه، وأنَّه لا يحصل به ما يحصل بغيره من التَّزيُّن والتَّجمُّل.
كذلك مِن أعظم ما يكون به التَّجمُّل والرَّغبة في النكاح وميل الرجال إلى النساء هو في الطِّيب، ولمَّا كانت والمحادَّةُ ممنوعةٌ من كلِّ ما يدعو إلى نِكَاحها، وهي آسفةٌ على ما فاتَ من زوجها ونحو ذلك؛ فإنَّها لا تتطيب، ولأجل هذا جاء في الحديث "وَلاَ تَمَسُّ طِيْبًا".
والأطياب منها ما هو معلومٌ ظاهرٌ، سواءٌ مِن الأطيابِ المصنَّعة، أو كان مثل البخور ونحوه.
ومن الأطياب مَا يلتَصِقُ بالمنظِّفاتِ والأدهانِ، وهي كثيرةٌ في هذه الأحوالِ، فإذا وُجدَ بعضُ الصَّوَابينَ التي فيها رائحةٌ معطَّرة فإنَّها تمتنع منها، وهذه الرَّوائح سواء كانت في الأدهان -الكريمات أو اللوشن- أو في الصَّوَابين أو الشَّامبو الذي يُستعمل لغسيلِ الشَّعر وتنظيفه؛ فهذه على ثلاثة أحوال:
• منها ما هو مقطوعٌ به أنَّه ليس له رائحة، فهذا لا إشكال فيه.
• ومنه ما هو رائحته زكيَّةٌ ويُعلَم أنَّه نوعُ طيبٍ، ومقصودُ الرَّائحة به، فهذا يُمنَع منه.
• ومنه ما هو محلُّ إشكالٍ.
ونحن نُطِيلُ هنا لكثرةِ الحاجة إليه، وضابط الفقهاء هنا: أنَّ مَا كانت رائحته زكيَّة ويتَّخذه النَّاس عادةً طيبًا فلا يجوز استعماله، ففي الأصلِ أنَّ رائحة الفواكه طيِّبَة ولكن ما يتَّخذونها طيبًا، مثل رائحة النعناع مثلًا فهي طيبة ولكن لا تُتَّخذُ طيبًا، فهذا عادة.
وبعض الرَّوائح هنا تكون متردِّدَةٌ، فالأصلُ أنَّها جائزة، ولكن إذا قوِيَ عند الإنسان التَّجمُّل بها والتَّطيُّب كان النَّاس عادة يستنشقونها ويستطيبون برائحتها، فينبغي لهم أن يمتنعوا عنها.
ولذلك لَمَّا كانت أكثرُ أحوالِ الكريمات والأدهان والصَّوابين في هذه الأوقات معطَّرةٌ بعطرٍ تتوق له النَّفس وتألفه وتقصد بذلك تغيير رائحتها به؛ فينبغي أن يجتنب في مثل تلك الحال، كما هو الحال أيضًا في حال الإحرام في أنَّ الإنسان لا يجوز له أن يمسَّ فيه طِيبًا.
واستُثنيَ في الطِّيبِ حالٌ واحدة، وهي إذا اغتسلت المرأة من حيضها، فإنَّ الحيض له رائحة كريهة، فلأجل ذلك يُطلب قطع هذه الرَّائحة، ولذلك لا يتأتَّى بأيِّ شيءٍ، فلذلك أذن لها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تغتسل بنبذةٍ مِن قسطٍ أو أظفارٍ، ويسميه بعضهم "الكُسْت" هو نوعٌ من البخور، فتتبخَّر به النساء لتذهب به رائحة الحيضِ أو ما يبقى من أثرٍ في الفرجِ وحوله من رائحةٍ كريهةٍ، فتُقطَعُ بمثل ذلك، فهذا شيءٌ استُنيَ من عموم الطِّيب، وإلَّا فالأصلُ أنَّ المرأةُ لا تطيَّبُ في تلك الحال البتَّة.
قال المؤلف: (وَلُبْسِ الثِّيَابِ الْمَصْبُوْغَةِ لِلتَّحْسِيْنِ).
الحقيقة أنَّ الثِّياب المصبوغة على حالين:
- منها ثياب مصبوغةٌ للتَّجمُّلِ.
- ومنها يُصبَغ لإرادةِ عدمِ ظهورِ الوَسَخِ، مثل الأسود والكُحْلِي؛ فالغالب أنها تلبَس حتى لا يَبين فيها وسخٌ أو قذرٌ، فلو لبست المرأة هذه الثياب فلا شيء فيها، لكن اللون الأخضر والأزرق والألوان البهيَّة والزَّهية ونحوها، فإنَّها تُمنَع منها؛ بل قالوا: لو كان اللون الأسود مما يُتجمَّل به فإنَّه يُجتَنَب.
ولأجل ذلك تعرف النساء أنَّ أنواعًا من السَّواد يكون فيها بريق، فينبغي أن تجتنبه، وأما ما كان منها دون ذلك، وإنما هي شيءٌ فيه هدوءٌ وامتصاص للأوساخ والأقذار حتى لا تتبيَّنُ بسهولةٍ فلا تضطرَ إلى غسله مرَّة بعدَ مرَّةٍ في وقتٍ قصيرٍ؛ فنقول: لا غضاضة عليها في لبسه.
إذا كان الشيء أبيضًا من أصله وليس فيه تجمُّل، فبعضهم يقول: لا بأس به باعتبار أنَّ أصله جميل، وليس للتَّجمُّل، وليس من الألوان التي صُبِغَت وطُلِبَ التَّزيُّن بها.
وبعضهم قال: حتَّى الأبيض فإنَّه يُجتَنب.
وعلى كلٍّ حالٍ؛ نتخلَّصُ من هذا: أنَّ المحادَّة لا تختصُّ بلونٍ معيَّنٍ، لكنَّها لا تتقصَّدُ شيئًا فيه زينةٌ وجمالٌ، ولا تلبس ممَّا جرت العادة باتِّخاذه لذلك، فما كان لونًا باهتًا أو غامقًا كالأسودِ ونحوه كالكُحلِيِّ، أو كان اللونُ مِن نفسِهِ فيه بياضٌ لم يُقصَدُ به ذلك فلا بأسَ بلبسه.
وبناءً على ذلك فالألبسة التي فيها قصٌّ وتزويقٌ ونقش ونحوها، فهذه تكون ثياب زينة حتى لو كان من لونه نفسه، لكنَّه يعتبرُ للتَّحسِينِ والتَّجمُّلِ.
وقوله هنا : (وَلُبْسِ الثِّيَابِ الْمَصْبُوْغَةِ لِلتَّحْسِيْنِ)، فكلُّ ما كانَ شأنه شأنَ التَّحسينِ، سواء كان ذلك بصبغٍ أو كان ذلك بخياطةٍ وحياكةٍ؛ فإنَّه ينبغي أن تجتنبه المرأة، وأمَّا ما كانَ ليس فيه جمالٌ أو جمالُه مِن نفسِه كالأبيضِ فرخَّصَ فيه بعضهم، وقالوا لا غضاضةَ على المرأةِ إذا لبسته على ذلك النَّحو.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلاَ تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوْغًا إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ» الثَّوب العَصْب هو ما لا يكون به شيءٌ من التَّجمُّل.
قال: «وَلاَ تَكْتَحِلُ»، ذكرنا ما يتعلَّق بالكحل.
السؤال الثالث
المقصود بالثوب العصب في الحديث: (وَلاَ تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوْغًا إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ):
(هو ما تعصبه المرأة على رأسها – هو ما لا يكون فيه شيءٌ من التَّجمُّل – هو ما كان زينته من نفسه)
https://www.youtube.com/embed/rXLtqSAho8E

قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَلَيْهَا الْمَبِيْتُ فِيْ مَنْزِلِهَا الَّذِيْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا اْلعِدَّةُ وَهِيَ سَاكِنَةٌ فِيْهِ، إِذَا أَمْكَنَهَا ذلِكَ)}.
قوله: (وَعَلَيْهَا الْمَبِيْتُ فِيْ مَنْزِلِهَا الَّذِيْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا اْلعِدَّةُ)، وهذا أصله جاءَ في قصَّة فريعة بنت مالك لمَّا أرادت أن تتحوَّل مِن بيتها، فسألت النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأذن لها، حتى إذا خرجت أمرها فرجعَت، فقال لها: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» ، فتبقى المرأة في بيتها الذي جاءها فيه خبرُ زوجها إلى أن تنتهي العدَّة.
والمقصود ببيت زوجها، أي: الذي تسكنه، فلو أتَاها وهي عندَ أهلها أو عندَ أخيها؛ فإنَّها تعودُ إلى بيتِها الذي تسكن فيه مع زوجها، وهذا هو الأصل، فتبقى المرأة في بيتها المدَّة التي تُحادُّ فيها، سواء كانت بأربعة أشهرٍ وعشرًا، أو كانت أمةً بشهرين وخمسة أيام، أو كانت حاملًا بوضع حملها.
السؤال الرابع:
الواجب على المرأة المتوفى عنها زوجها أن تعتَّد في بيت الزَّوجية.
(صواب)
https://www.youtube.com/embed/HbNSWOb7oDk

نلاحظ مسألةً مهمَّة، والفقهاء نصُّوا على مثل هذه المسائل، وما يتعاطاه العوام وما يتردَّدُ بينَ بعضِ النَّاسِ اليوم وينضم إلى ذلك من جهالاتٍ كثيرةٍ يُضيِّقُ بها النَّاس على أنفسِهم ويُلحقونَ بها أنواعًا من الحَرجِ لا أصل له في الشَّرعِ، كأن لا تُكلِّمُ قريبًا، ولا تَظهرُ على محرمٍ، ولا تصادفُ نورَ القمرِ، وتطرحُ غطاءً على رأسها؛ فكلُّ ذلك لا أصلَ له، وإنَّما مَا وجب عليها هو أن تترك ثياب الزِّينة، وتمتنع مِن الطِّيبِ تلك المدَّة، ولا تكتحل، ولا تتطيَّب، ولا تخرج من بيتها إلا لحاجةِ.
قال: (وَعَلَيْهَا الْمَبِيْتُ فِيْ مَنْزِلِهَا الَّذِيْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا اْلعِدَّةُ)، والكلام هنا إنَّما هو في المبيت، لكن لو أرادت أن تخرج في نهارها فلا غضاضةَ عليها، لو احتاجت مثلًا لِشِرَاء حاجاتها حتى لو وُجدَ غيرها يقوم به، لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أذن لتلك المرأة أن تجذَّ نخلها؛ بل لو أنَّه لو حصلَ أن ضاقَ صدرُها أو اغتمَّت نفسُها، فرأت أن تخرجَ إلى بعضِ صويحبتها في بيتِ هذه أو تلك؛ فلا غضاضةَ عليها، لأنَّ بعض نساء الأنصار كنَّ يجتمعن حتى إذا غابت الشَّمس ذهبَت كلُّ امرأةٍ إلى بيتها، ولأجل ذلك عبَّر المؤلف وقال: (وَعَلَيْهَا الْمَبِيْتُ فِيْ مَنْزِلِهَا)، فلذلك لا يُشدَّد إذا احتاجت للذِّهاب إلى الطَّبيب مِن باب أولى، إذا كان لها وظيفة واحتاجت إليها ولم تجد بُدًّا من الذَّهاب إليها، وإلا انقطع رزقها وما تعيش به على ولدها، فلا بأس عليها.
إذن؛ هذه أمورٌ إذا احتاجَت إليها فإنَّه لا غَضَاضةَ عليها في شيءٍ مِن ذلك البتَّة.
السؤال الخامس:
لا يجوز للمرأة المتوفى عنها زوجها الخروج من بيتها حتى ولو كان خروجها من باب الضرورة.
(خطأ)
https://www.youtube.com/embed/nP2pbwhbMQs

قال: (وَعَلَيْهَا الْمَبِيْتُ فِيْ مَنْزِلِهَا الَّذِيْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا اْلعِدَّةُ وَهِيَ سَاكِنَةٌ فِيْهِ، إِذَا أَمْكَنَهَا ذلِكَ)، أمَّا إذا لم يُمكنها ذلك كأن تكون في مكانٍ بحيث تخاف ولا يُؤمَن عليها، أو كانَ المكانُ مستأجرًا وليس عندها ما تكتريه به فتبقى، ولم يرضَ ذلك الرَّجلُ أن يُبقيها ولا أن يُنظِرها، أو انتهت المدَّة ولم يُرد أن يُجدِّد لها وأمرها أن تخرج؛ ففي تلك الأحوال كلِّها يُمكن أن تتحوَّل، ولكن الأصل أنَّه ما دامَ أمكنها أن تبقَى في بيتها فإنَّها لا تخرج منه، حتى لو وجدت شيئًا مِن المشقَّة أو البُعدِ عن أهلها أو نحو ذلك، ولكن إذا ترتَّب على ضررٌ أو خوفٌ أو لم يتيسَّر لها أن تبقى كأن تكون في دارٍ متسأجرةٍ فتحوَّل عنه ولا تُمكَّن منه أو لا تجدُ أجرةً عليه؛ فلا بأسَ عليها في التَّحول.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ خَرَجَتْ لِسَفَرٍ أَوْ حَجٍّ؛ فَتُوُفِّيَ زَوْجُهَا وَهِيَ قَرِيْبَةٌ، رَجَعَتْ لِتَعْتَدَّ فِيْ بَيْتِهَا، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ مَضَتْ فِيْ سَفَرِهَا)}.
لو أنَّ المرأة خرجَت لسفرٍ أو لحجٍّ، ثم أُخبِرَت أنَّ زوجها ماتَ، يقول المؤلِّف: إذا كانت قريبة فإنَّها في حكم المقِيمَة، فلا يشقُّ عليها الذَّهاب، والإحدادُ متعيِّنٌ في هذه الحال، والحجُّ يُمكنها في حالٍ ثانيةٍ، ولا يضيقُ وقتُه؛ بل يتَّسعُ في مثل حكمها، وبناء على ذلك ترجع إلى بيتها.
يقول المؤلف: (وَإِنْ تَبَاعَدَتْ)، يعني: إن كانت في نِصف الطَّريق، أو بعدَ أن قطعت شوطًا لا بأسَ به، أو كانت بمكَّة أو ما قاربها؛ فإنَّها لا يلزمها الرُّجوع، ولذلك قال المؤلف: (مَضَتْ فِيْ سَفَرِهَا)؛ بل إذا كانت قد خافت فوات الحجِّ وهي قد قربَت منه فالأولى لها أن تكمل حجَّها؛ لأنَّهما واجبان، أحدهما وجب عليها وهو الإحداد، والثَّاني وجبَ عليها وهو إتيان تلك الفريضة، وليس أحدهما بأولى مِن الآخر، فكان ما تلبَّست به وشَرعَت فيه أولى، وبناءً على ذلك تُكمل ما مضت فيه من حجٍّ؛ ولأنَّ الأمرَ هنا يتعلَّق فقط بلزوم المسكن، وأمَّا الأشياء الأخرى فإنَّها لازمةٌ لها سواءٌ بقيَت في بيتها أو كانت في حجِّها، مِن اجتناب الزِّينة، وعدم تجمُّلِ ثيابٍ.
لقائل يقول: هي محرمةٌ؟
نقول: ليس كلُّ وقتها إحرامٌ، فإذا خرجَت مِن إحرامها فكذلك يلزمها ألَّا تتجمَّل ولا تتزيَّن ولا تتطيَّب، ولا تكتحل بإثمدٍ ونحوه.
السؤال السادس:
لو خرجت المرأة للحجِّ ثم أخبرت بوفاة زوجها بعد أن قربت من مكة، فالأولى في حقها ....
(العودة لبيتها لقضاء عدَّتها – إكمال الحج – البقاء في مكة مدَّة العدة كلها)
https://www.youtube.com/embed/ELbSF48gKiE

هنا مسألة: ما يتعلَّق بالتَّنظُّفِ والاغتسالِ؛ فهذا لا حدَّ للمرأةِ فيه، فسواءٌ اغتسلت كلَّ يومٍ أو كل يومٍ مرتين، أو أقلَّ مِن ذلك أو أكثر؛ فلا غضاضة عليها، لأنَّها ليست ممنوعةً من النَّظافة ولا تكميلها، وإنما هي ممنوعة من الزِّينةِ وما شابهها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلاَثاً مِثْلُهَا، إِلاَّ فِيْ اْلاِعْتِدَادِ فِيْ بَيْتِهَا)}.
المطلَّقة ثلاثًا -البائن- هل يلزمها الإحداد أو لا يلزمها؟ هل يجب عليها اجتناب الزينة أو لا يجب عليها؟
لمَّا قال المؤلف (وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلاَثاً)، فمَا بالُ المطلَّقة واحدة أو اثنتين؟
المشهورُ عند الفقهاءِ أنَّ الأولَى للرَّجعيَّة أن تتزيَّن، لأنَّ ذلك أدعَى لزوجها أن يعودَ إليها؛ فإذن هذه قد انتهت.
بقي عندنا المطلقة ثلاثًا؛ هل هي مثل المحادَّة التي مات عنها زوجها أو لا؟
ظاهرُ كلامِ المؤلِّف في ذلك أنَّه شبَّهها بها في أحد الحالين، وهو اجتناب الزِّينة ونحوها، ولم يُشبِّهها في اللُّبث في البيت، وقد جاء هذا في قصَّة فاطمة بنت قيس لمَّا تحوَّلت عند أو شُريكٍ، ثم حولها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى بيتِ ابن أم مكتومٍ، وقال: « فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ» ، فدلَّ على أنَّها لا يلزمها أن تبقى في بيت الزَّوجيَّة.
هل عليها المحادَّة أو لا؟
هذه المسألة فيها قولان لأهلِ العلم، ونحا المؤلِّفُ إلى أنَّها تجتنب الزِّينة، ولكن المشهور من المذهب أنَّ هذا لا يجب عليها، وإنَّما الخلاف في أنَّه مباحٌ أو مسنونٌ، ولعلَّ مَن ذهبَ إلى أنَّ المرأةَ تُحادُّ في مثل تلك الحال؛ فإنَّه يقول: إنَّ المرأة حالَ عدَّتها وهي بائن لا تَطلَّعُ إلى النِّكاح لأنَّها ممنوعة منه، فتطلُّعها بالتَّزيُّن والتَّجمُّلِ ونحو ذلك يُزري بها ويُلحق بها التَّهمة، فكأنَّهم ذهبوا إلى أنَّها مثل المتوفى عنها زوجها، فيجب عليه أن تجتنبَ الزِّينة.
ونقول: ليس شيءٌ في ذلك واجبٌ، وليس شيءٌ في ذلك متحتِّمٌ، والأمرُ دائرٌ بينَ الإباحةِ والاستحباب، وعلى كلِّ حالٍ؛ فحفظًا لنفسها، ولئلا يُتطاوَل عليها، فاقتصارها على ما تحتاج إليه من نظافةٍ ونحوها أولى من التَّجمُّل ونحوه، أو على الأقل تترك المبالغة في ذلك وتتفاداه حتى تنتهي عدتها، والله أعلم.
السؤال السابع:
المشهور من مذهب الحنابلة أنَّ المعتدَّة من ثلاث تطليقات يجب عليها الإحداد وأن تمتنع من الزينة.
(خطأ)
https://www.youtube.com/embed/MRM6eV9fcHw

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باَبُ نَفَقَةِ اْلمُعْتَدَّاتِ
وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ، أَحَدُهَا: الرَّجْعِيَّةُ، وَهِيَ: مَن يُمْكِنُ زَوْجُهَا إِمْسَاكَهَا، فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى)}.
بعضُ أهلِ العلم يذكر هذا الباب تبعًا للمعتدَّة، وبعضُهم يذكره في كتابِ النَّفقات؛ فيجمع كلَّ ما يتعلَّق بالنَّفقات جميعًا، والمؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مشَى على خلافِ ذلك، فذكرَ نفقةَ الزَّوجة في أحكامِ عِشرة النِّساء -كما تقدَّم معنا- وذكرَ نفقةَ الأقارب في بابِ النَّفقات، وذكر نفقةَ المعتدات في بابٍ مخصوصٍ في كتابِ العدَّة ونحوها، وهو الذي ذكره المؤلف هنا.
فأوَّلهنَّ الرَّجعيَّة، وهي مَن كانَ إمساكها ممكنٌ للزَّوج، وهي ألا تكون قد طُلِّقَت بعوضٍ أو خالعَها زوجُها، ولا أن يكونَ قد فسخَ القاضي نكاحهما، ولا أن تكونَ بُتَّ طلاقُها -يعني: ثلاث تطليقات- فإذا كانت مُطلقةً واحدةً أو اثنتين، ولم يكن فيه عوض، ولم يكن فسخٌ من حاكم؛ فهذه مَن يُمكن رجعتها، وبناء على ذلك إذا كان يُمكن رجعتها فلها النَّفقة والسُّكنَى؛ لأنَّها زوجةٌ من الزَّوجات، ولأنها محبوسةٌ على زوجها حتى تنقضي عدَّتها، فبناء على ذلك فلها العدَّة، وهذا لا اختلاف فيها بينَ أهل العلم، أنَّ الرَّجعيَّة زوجة، وأنَّ لها ما للزَّوجات.
لقائلٍ أن يقول: الزَّوج لا يستمتع بها، وقد ذكرنا أنَّ النَّاشز لا نفقة لها!
نقول: فرقٌ بينَ النَّاشز وبينَ الرَّجعيَّة، فالنَّاشز هي التي استدعت لنفسها إسقاط النَّفقة؛ لأنَّها ترفَّعَت على زوجها ولم تؤدِّ حقَّه، أمَّا الرَّجعيَّة المطلَّقة ما طلبت الطَّلاق ولا سعَت إليه، وهو الذي طلَّقها، وهي محبوسةٌ لأجله هذه المدَّةِ، فتعظيمًا لهذا العقد، ولعلَّه أن يقع في قلبه محبَّةُ إرجاعها، فبناءً على ذلك كان لها النَّفقة والسُّكنَى؛ لأنها زوجةٌ من الزَّوجات.
{ما الحكم إذا بانت البينونة الصُّغرَى، فهل تستمر النَّفقة؟}.
إذا انقضت عدتها انتهت النفقة، فلا عُلقَةَ بينهما، وبناءً على ذلك لا تستحق نفقةً لنفسها.
السؤال الثامن:
الصواب أنَّ نفقة المعتدَّة من طلاق رجعي ......
(واجبة على الزوج – غير واجبة على الزوج – يجب فيها النصف فقط على الزوج)
https://www.youtube.com/embed/84xsYuNU5mE

{قال: (إِنْ أَسْلَمَ زَوْجُ اْلكَافِرَةِ أَوِ ارْتَدَّتْ امْرَأَةُ اْلمُسْلِمِ فَلاَ نَفَقَةَ لَهُمَا)}.
إذا أسلمَ زوجُ الكافرة وهي لم تسلم وباقيةٌ على كفرها، فيقول الفقهاء: لا نفقة لها، وإن كانت الفرقةُ قد جاءت من جهةِ الزَّوج، لكن لَمَّا كانت هي التي تأخَّرَت في الإسلام، وهي مأمورةٌ بالإسلام؛ فكأنَّها هي التي استدعت على نفسها ذهاب نفقتها.
ومثل ذلك لو ارتدَّت المسلمَةُ سيُفرَّق بينهما، وكأنَّها هي التي استدعَت تفويت نفقتها، فبناء على ذلك لا نفقةَ لهما، والعكسُ بالعكس.
قال المؤلف: (وَلَوْ أَسْلَمَت امْرَأَةُ اْلكَافِرِ)، فإنَّها يُفرَّق بينهما لأجل إسلامها، فالفرقةُ جاءت من جهتها، لكن يقولون مع ذلك أنَّ لها النَّفقة؛ لأن الكافر يلزمه الإسلام، فكأنَّه هو الذي تأخَّر وتوانى عن أداءِ ما يجبُ عليه من الإسلام، وهي أدَّت ما عليها من دخولها في الإسلام، وبناء على ذلك يلزمه النفقةُ لها.
ومثل ذلك قوله: (أَوِ ارْتَدَّ زَوْجُ اْلمُسْلِمَةِ)، فهو الذي استدعَى الفرقة، والمسلمة ثابتةٌ على دينها مُستحقَّةٌ لحقِّها، فلأجل ذلك قال المؤلف (فَلَهَا نَفَقَةُ اْلعِدَّةِ)؛ لأنهم فعلوا ما يجب عليهم.
السؤال التاسع:
لو أسلم أحد الزوجين فإنَّ النفقة تجب على الزوج في كل حالٍ.
(خطأ)
https://www.youtube.com/embed/fGW2Eskh2J4

{قال: (الثَّانِيْ: اْلبَائِنُ فِيْ اْلحَيَاةِ بِطَلاَقٍ أَوْ بِفَسْخٍ، فَلاَ سُكْنَى لَهَا بِحَالٍ، وَلَهَا النَّفَقَةُ إِنْ كَانَتْ حَامِلاً، وَإِلاَّ فَلاَ)}.
قوله (اْلبَائِنُ فِيْ اْلحَيَاةِ بِطَلاَقٍ أَوْ بِفَسْخٍ، فَلاَ سُكْنَى لَهَا بِحَالٍ)، أي: التي طُلِّقَت طلاقًا بائنًا سواء كان ذلك بطلاقٍ أو فسخٍ أو خلعٍ؛ فلا سُكنَى لها، وهذا أظهر ما يكونُ، وهو محلُّ اتِّفاقٍ بينَ أهل العلم، ففي حديث فاطمة بنت قيسٍ «لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ» ، وفي بعض الروايات «إلا أن تكوني حاملًا»، ذلك أن زوجها أرسل إليها شيئًا، فكأنَّها استقلَّته وكرهته وردَّته، فذكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألا نفقة لها ولا سُكنَى غير أن ذلك كان إحسانًا منه.
وعلى كلِّ حالٍ؛ فليس لبائنٍ سُكنَى البتَّة ما دامت طُلِّقَت ثلاثًا أو بانت بخلعٍ، أو بفسخٍ أو انتهت عدَّتُها فلا حقَّ لها البتَّة.
هل تكون لها نفقة أو لا؟
إن كانت غير حاملٍ فلا نفقة لها للحديث، وأما إن كانت حاملًا فإنَّ لها النَّفقة، لأنَّ النَّفقة حقٌّ لهذا الولد وهو ولد الزَّوج، والنَّفقةُ عليها لِقيام ذلك الحمل وثباتٌ له وإنعامٌ عليه، وهذا واجبٌ عليه، فلذلك تجب لها في مثل تلك الحال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّالِثُ: الَّتِيْ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا عَنْهَا، فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا وَلاَ سُكْنَى)}.
التي تُوفيَ عنها زوجها لا نفقة لها ولا سُكنَى، هذه من أكثر المسائل التي يكثُر عليها الكلام، ويزيدُ فيها النِّقاش ونحوه.
فكونه لا نفقة لها فهذا ظاهرٌ من جهةِ أنَّها وارثة، فما كان من ميراثها فهو لها، وما زاد عن ذلك فإنَّه قدرٌ يزيد على حق الورثة، فالأصل أنَّ لكلِّ وارثٍ حقًّا، فبناء على ذلك لا نفقة لها البتَّة.
هل تجب لها السُّكنَى أو لا؟
هذه المسألة فيها إشكالٌ من جهة أنَّ المرأة مُطالبةٌ بالبقاء في بيتها الذي جاء خبر زوجها فيه، وأنَّ بقاءها في هذا البيت لحق زوجها، فهي جلست في البيت حدادًا على زوجها، وبناء على ذلك هل تكون لها السُّكنَى أو لا؟
من أهل العلم مَن قال: لا سُكنَى لها -كما هو مشهور المذهب هنا- وهو قول أبي حنيفة وجماعة من أهل العلم.
ومنهم من يقول: إنَّ لها النفقة، وهو قولٌ لمالكٍ وقولٌ عند الشَّافعي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
وسببُ ذلك: منهم من قال: لأنَّها وارثة، وأنَّ هذا حقٌّ للزَّوجيَّة فيلزمها أن تقوم به، ومنهم من سلكَ مسلكًا آخرَ وهو أنَّها لمَّا كان بقاؤها لحقِّ الزَّوج فإنَّ السُّكنَى في التَّركةِ ثابتة، وبناء على ذلك لا تُحوَّل من هذا البيت إذا كان بيتًا للزَّوجِ، وإذا كان مكترًى فإنَّها يُدفَعُ لها مِن التَّركةِ قدرَ هذه المدَّة حتى تنتهي عدَّتها فتتحوَّل، لأنَّها بقيَت لأجله.
السؤال العاشر:
ذهب ..... إلى أنَّ المتوفى عنها زوجها لا سُكنى لها.
(أبو حنفية – مالك – الشافعي)
https://www.youtube.com/embed/2eJUPnpQCiY

فهذه مِن المسائل التي يكثر فيها الكلام ويُعاد فيها الحديث، وهي مِن المسائل التي جرى فيها خلافٌ بينَ أهلِ العلم، فهذا إشارةٌ إليه، ونحن لا نُحبُّ ذكرَ الخلافات كثيرًا، لأنَّها لا تزيد إلَّا تشعُّبًا وتشتُّتًا، وكثيرٌ مِن النَّاسِ إذا نُقِلَت له الخلافات يَظنُّ أنَّه في فُسحةٍ مِن الأمرِ فيأتي هذا أو يأتي ذاك؛ وهذا إنَّما هو الهوَى، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «استفتِ قلبكَ» ، فلا يخلُ المتلقِّي لذلك إمَّا أن يكونَ مِن أهلِ العلم الذي يستطيع أن يُمايزَ بينَ الأقاويل ويعرفَ الرَّاجحَ مِن المرجوح، وله منزلةٌ رفيعةٌ لا يقدرُ عليها إلَّا الخُلَّص من النَّاس والقلَّة منهم، فإذا عَلِم مِن نفسه ذلك واجتمعت له آلةُ النَّظرِ والاجتهادِ؛ فهو موكولٌ إلى نظرِهِ واجتهادِهِ ومؤتمنٌ على ذلك.
وإن لم يكن قد بلغَ هذه المرتبة -وهو غالب حالنا- فإنَّ الإنسان لا يسعه إلَّا أن يعملَ بقولِ مَن يثقُ به، فإن كانَ على مذهبٍ معروفٍ معتبرٍ فأخذَ بهذا المذهب المعتبر فهو على ما هو عليه، وإن كانَ له مُفتٍ في بلدِه يعلم ديانَته وتمامَ علِمِه وحُسنَ نظرِهِ ولا يشكُّ فيه، ويرتفع عنه أن يكون صاحبُ هوًى، أو قائلٌ بالجهلِ؛ فأخذَ بقوله فهو في سلامةٍ وعافيةٍ.
وأمَّا إن بدا يتنقَّل من قولِ هذا إلى قولِ ذاك بزعمِ أنَّ هذا قولٌ للشَّافعي وذاك قولٌ لأحمد، ويسعه القول بهذا أو بذاك؛ فلا، فإنَّ هذا هو تتبُّع الرُّخَص، ومنَ تتبَّعَ الرُّخَصَ فسَقَ، كما نصَّ على ذلك الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- بل جاء عنهم ما هو أشدُّ من ذلك، ونحن في زمانٍ كثُرَ المتقوِّلةُ على العلماء، وربَّما تجمَّل بذلك بعضُ مَن يخرجون في الشَّاشاتِ وينقلون للنَّاس الأقاويل والخلافات، بعضهم يُريد بذلك تقريب النَّاس للشُّررورِ وتسهيلها عليهم، وأنَّ هذا يوجد فيه قولٌ، وهذا يُوجَد فيه قولٌ، ولا تُلزموا النَّاس بهذا ولا بكذا وكذا؛ ثم يقع على النَّاس أنواعٌ من الجهالات؛ فهذا بابٌ من أبواب السُّوء والجهل، وإمَّا أن يذكر ذلك على سبيلِ النَّقل ونحوه ويظن أنَّ ذلك خيرٌ وهو ليس بخيرٍ، لأنَّه تشتيتٌ لعوامِّ النَّاس، وهم لا يعرفون أنَّ هذا القول أصوب من هذا، أو أنَّ هذا العالمَ أتمَّ من هذا العالم، فيُفضِي بهم إلى أن يأخذوا مِن هنا وهناك، فيحملهم في بعض الأحوال على أن يقولوا بالهوى، فهذه مسألةٌ مهمَّةٌ وبابٌ خطيرٌ.
ولذلك تَلحظون أنَّنا في كلِّ الشَّرحِ نتجنَّبُ الخلافَ قدرَ الاستطاعةِ، مع علمنا من أنَّ المتلقِّين لمثل هذه الدروس تختلف مذاهبهم ومشاربهم وديارهم وبلدانهم، لكن لمَّا كانَ الأصل الأصيل للتَّعلُّمِ والتَّعليم عند أهل العلم المتقدِّمين والمتأخِّرينَ على اختلاف مذاهبهم أنَّ الطالب في أوَّلِ درجاتِ تأهُّله إنَّما يأخذ المسألةَ على قولٍ واحدٍ، وأنَّه لا يسعه الانتقال إلى الخلافات وذكر الأقاويل، فجرينا هنا قدرَ الاستطاعةِ على ذلك.
وفي بعض المسائل نذكر الخلاف لكثرة الخلاف فيها وشهرته، فلابدَّ مِن الإشارةِ إليه حتَّى تُعلَم منزلة هذه المسألة مِن بين المسائل، لكن مَن صارَ على مذهبٍ مِن المذاهب فلا تخلو بعض المذاهب في بعض الأحوال القليلة مِن أقوالٍ شاذَّة، فإذا تنبَّه إلى قولٍ شاذٍّ لعالمٍ سابقٍ في الفَضلِ، أو جرت الفتيا والعمل على خلاف ذلك فذهب إلى محلِّ العمل ونحوه وما جرت عليه الفتيا فلا غضاضةَ عليه، ولا يُناقضُ ذلك ما ألِفَه مِن كثرة الذِّهاب إلى قولِ ذلك الإمام، لكن لا يكون متشهيًا متنقِّلًا، لأنَّ كثيرًا مِن النَّاسِ في هذا الزَّمان مَن يتشهُّونَ بالأقاويل، ويتفكَّهون بذكر خلافاتِ العلماء ليسَ لشيءٍ إلَّا لأنَّه وجدَ فيه قولَ فقيهٍ.
فنقول: هذا لا يكون صحيحًا، ولا يكون معتبرًا، ومَن أراد السَّلامة في دينه فإنَّه يلتزم ما يكون به السَّعي على منهج أهل العلم، وفي ذلك غُنيةٌ له وسلامة، والله الموفق، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ.
{جزاكم الله خيرًا يا شيخ.
وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
قديم 2019-05-07, 07:53   رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
احمد الصادق
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي

عُمْدَةُ الْفِقْهِ (6)
الدَّرسُ الثَّاني عَشر (12)
فضيلة الشَّيخ/ د. عبد الحكيم بن محمد العجلان
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، وحيَّاكَ الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله لنا ولكم التَّوفيق والسَّداد.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من باب استبراء الإِمَاءِ مِن كتاب "عمدة الفقه" للإمام الموفق ابن قدامة.
قال -رحمه الله: (باَبُ اسْتِبْرَاءِ اْلإِمَاءِ.
وَهُوَ وَاجِبٌ فِيْ ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ:
أَحَدُهَا: مَنْ مَلَكَ أَمَةً، لَمْ يُصِبْهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّين.
أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يزيدنا من العلم، وأن يرفعنا بالعلم، وأن يُوفقنا للتَّعليم، وأن يزيدنا من العمل، وأن يعقبنا فيه فضلًا في الدُّنيا، ورفعةً في الآخرة، إنَّ ربنا جوادٌ كريم.
كنَّا في الدرس الماضي أتينا على ما يتعلَّقُ بالعِدَدِ وما أُلحِقَ بها من الكلام على الإحداد.
ثُمَّ شرعَ المؤلف -رحمه الله تعالى- في مسألة مُقاربة، أو هي من باب العِدَدِ، وهي استبراء الإماء، فإنَّ العِدَدَ في حقِّ المزوَّجات، والاستبراء في حقِّ الإماء المملوكات، وَلَمَّا كانا يشتركان في أمرٍ وهو شغلُ الأرحام أو المباضعةِ والمجامعةِ التي تُفضي إلى حصول الولد، وذلك له حقٌّ وحرمة؛ فإنَّه كان من الأهمِّيةِ بمكانٍ أن يُذكَر بابُ الإماء واستبراء أرحامهنَّ حيثُ يُذكر ما يتعلَّقُ بطلبِ براءة أرحام المزوَّجاتِ إذا طُلِّقنَ، أو حصلَت مُفارقة بفسخٍ أو موتٍ أو سوى ذلك -على ما تقدَّم.
إذن؛ هذا الباب ظاهرة مناسبته واتصاله بكتاب العِدَدِ، وتسميته استبراء هو نوع اصطلاح في هذا الباب مقارنة للعِدَدِ، وذلك اتِّباعًا لِما جاء في الكتاب والسُّنَّة، فجاء في السُّنَّة أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا جاءت سبايا أَوْطَاس؛ قال: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً» ، يعني: تُطلب براءة رحمها بأن تحيض حيضةً -على ما سيأتي بإذن الله -جلَّ وعَلا.
فهذا هو الأصل من السُّنَّة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يختلف في ذلك أحدٌ من أهلِ العلم.
وربما يكون باب استبراء الإماء مُتوجِّهٌ أصالة إلى طلب براءة الرَّحمِ، وأنَّه غير مشغولٍ بحملٍ لمالكٍ سابقٍ، أمَّا العِدَد ففيه شائبة للتَّعبُّد ومعرفة حق ذلك الحق وتعظيمه وبيان كِبَرِ شأنه، وفيه أيضًا طلب براءة الرَّحم، وقد ذكرنا في بداية باب العِدَدِ ما يتعلق بأنواع ذلك، وقلنا: إنها أربعةُ أصنافٍ:
ïƒک منها التَّعبُّد المحض.
ïƒک ومنها معنًى محض.
ïƒک ومنها معنى يغلب فيه جانب التَّعبُّد، وذلك إذا تمَّت الحيَض ومع ذلك لم تزل في عدَّتها كمن تُوفي عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا.
ïƒک منها ما فيه معنى التَّعبُّد، ولكن يغلب فيه جانب طلب براءة الرَّحم، فتنتظر حت تنتهي عدتها.
فعلى كل حالٍ؛ فإنَّ باب الاستبراء علاقته ظاهرة بباب العدَدِ.
واستبراء الإماء يكون لِمَن ملكَ أمةً، وسيأتي بيان متى يحصل الاستبراء.
قال المؤلف: (وَهُوَ وَاجِبٌ فِيْ ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ)، وذلك لِما جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً»، فهذا نهيٌ من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صريح.
ومن جهة المعنى: ففيه ما يتعلق باختلاط الأنساب لو تُرِكَ، فلو أنَّ شخصًا كانت له أمة فوطئها، ثُمَّ باعها فوطئها المشتري فحبلت، فلا يُدر أهو من البائع أم من المشتري، فيترتب عليه اختلاط الأنساب وفساد الأمر، وحصول الاشتباه، وذلك فيه إشكالٌ ظاهر؛ فلأجل ذلك ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- هذه المواضع على سبيل الاختصار.
قال: (أَحَدُهَا: مَنْ مَلَكَ أَمَةً، لَمْ يُصِبْهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا).
عندنا مسألة هي كالمقدِّمة لهذه المسألة:
الأصل أنَّ الشَّخص إذا دخلت عليه أمةٌ فإنَّه لابدَّ أن يستبرئها لحديث البخاري في قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً»، واحتياطًا لنفسه، وصيانةً لِمَائِه ألَّا يَدخل على غيره أو يَدخل غيره عليه.
ومن جهة أخرى: أنَّ البائع إذا أراد أن يبيع أمةً فإنَّه لابدَّ أن يَستبرئها، وهذا من وجه وهو أنَّ المشتري يُمكن أن يشتريها ليطأها فيستبرئها، ويُمكن أن يكون اشتراها فقط للخدمة والاستخدام والانتفاع بها فلا يَستبرئها، فإذا لم يستبرئها ولم يُلقِ لذلك بالًا فحبلت؛ فنحن لا ندري هل حبلت من هذا أو هذا؟!
فلابدَّ أن يكون البائع على يقينٍ أنَّه حين باعها وهي خاليةٌ من أن يكون لها تعلُّقٌ به، أو فيها ماءٌ من مائه أو شيءٍ من ذلك، وجاء عن عبد الرحمن بن عوفٍ أنَّه باعَ أمةً له قبل أن يستبرئها فعاتبه عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ولذلك كان المشهور من المذهب عند الحنابلة أنَّ البائع يستبرئ أمته قبل أن يبيعها، لكن الاستبراء الذي هو لازمٌ وهو متحتِّمٌ على وجهٍ أظهر وأبينُ هو استبراء المالك لها إذا أراد أن يطأها.
{قال -رحمه الله: (الثَّانِيْ: أُمُّ اْلوَلَدِ وَاْلأَمَةُ الَّتِيْ يَطَؤُهَا سَيِّدُهَا، لاَ يَجُوْزُ لَهُ تَزْوِيْجُهُمَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهُمَا)}.
سبق لنا أن ذكرنا من هي أمُّ الولد، وهي التي ولدت من سيدها، فإذا كان سيدها يطأها فولدت؛ فإنها تسمى أمُّ ولد؛ لأنها أمة من الإماء، لكنَّها ستؤول إلى العتق بموت سيدها، فإن رغب سيدها عن الاستمتاع بها ونحو ذلك وأراد أن يُزوِّجها على شخص حتى تلد له، فيكون الولد مملوكًا له، أو يُريد الإحسان إليها في إعفافها إذا لم يكن له رغبةٌ فيها، فأيًّا كان سببُ ذلك سواء كان هذا أو ذاك؛ فإنَّه إذا أراد أن يُزوجها فهي أمةٌ من الإماء، ولها حكم الإماء، وبناء على ذلك لا يُزوِجها حتى يستبرئها.
ومن سوى أم الولد من الإماء، فإن كان يستمتع بها سيدها ثم أراد أن يزوجها؛ فلابدَّ أن يستبرئها؛ لأنَّه ليس على الزَّوج أن يستبرئ، والأصل أنَّ الزوجة تدخل على زوجها ليستمتع بها ويبتدئ بذلك ويشرع فيه، وبناء على ذلك كان استبراء الأمة المُرادُ تزويجها على سيدها قبل أن يُزوِّجها.
{قال -رحمه الله: (الثَّالِثُ: إِذَا أَعْتَقَهُمَا سَيِّدُهُمَا أَوْ عَتَقَا بِمَوْتِهِ، لَمْ يَنْكِحَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَا أَنْفُسَهُمَا)}.
قوله: (إِذَا أَعْتَقَهُمَا سَيِّدُهُمَا)، يعني: سواء كانت أم ولد أو أمة، فإذا أعتقها السيد وقال: أنتِ حرَّة لوجه الله أيُّتها الأمة، أو أنت حرة لوجه الله يا فلانه -وهي أم ولده- ففي هذه الحال لا يجوز لها أن تتزوَّجَ أو تنكح حتى تستبرئ نفسها، وذلك لأنها لو تزوجت فإنَّ الزوج سيطؤها، ولو وطئها الزَّوج فحبلت فلا يُدرَى -إذا لم تستبرئ نفسها- أحبَلُها تجدد بوطء الزوج لها أو أن حبلها كان من استمتاع سيدها السَّابق بها!
فلمَّا كان الأمر في ذلك مُختلطًا أو مُشتبهًا كان لابدَّ من الاستبراء، مع أنَّه ينبغي للسَّيد قبل إعتاقهما أن يستبرئهما كذلك.
{قال: (وَاْلاِسْتِبْرَاءُ فِيْ جَمِيْعِ ذلِكَ بِوَضْعِ اْلحَمْلِ إِنْ كَانَتْ حَامِلاً، أَوْ حَيْضَةٍ إِنْ كَانَتْ تَحِيْضُ، أَوْ شَهْرٍ إِنْ كَانَتْ آيِسَةً أَوْ مِنَ اللاَّئِيْ لَمْ يَحِضْنَ، أَوْ عَشْرَةِ أَشْهُرٍ إِنِ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لاَ تَدْرِيْ مَا رَفَعَه)}.
ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- الأحوال التي يجب فيها الاستبراء، وهي ثلاثة أحوال، وقلنا: إنَّ البائع يجب عليه الاستبراء، وذكر الأشياء المتعينة والتي يترتب عليها اختلاط النَّسب ونحوه، والأمر فيها أظهر.
ثم انتقل إلى ما يحصل به الاستبراء، متى نقول: إنَّ هذه أمةٌ قد استُبرئَت، أو عُلِمَ أنَّها خليَّةٌ من الحمل ونحوه؟
يقول المؤلف: (وَاْلاِسْتِبْرَاءُ فِيْ جَمِيْعِ ذلِكَ بِوَضْعِ اْلحَمْلِ إِنْ كَانَتْ حَامِلاً)، فمَن كانت حاملًا فإنَّها إذا وضعت حملها عُلِمَ أنَّ رحمها بريئةٌ، وأنَّه ليس فيه نطفةٌ لأحد سابق، وأنَّ لمن ملكها أو تزوجها سواء في حال رقِّها أو بعدَ عتقها فإنَّه يأمن أن يكون لمَن سبقه في بطنها حملٌ أو نحوه.
ثم يقول المؤلف: (أَوْ حَيْضَةٍ إِنْ كَانَتْ تَحِيْضُ)، إذا لم تكن حاملًا فإنَّها إذا حاضت حيضةً فإنَّها يُعلم أنَّها ليست حاملًا، لأن الحمل إنَّما يُعرَف بارتفاع الحيض، وجاء عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أنها قالت: "وهل تعرف النساء الحمل إلَّا بذهاب حيضهن؟!"، وهذا أمرٌ معروفٌ ومستقرٌّ عندَ النساء، وهذا هو ما جاءت به السنَّة الصريحة كما قلنا في الحديث الذي عند البخاري في سبايا أوطاس: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً».
قال المؤلف: (أَوْ شَهْرٍ إِنْ كَانَتْ آيِسَةً).
أمَّا إذا كات آيسة، وهي التي بلغن سنَّ الإياس فلم يعُد حيضها يأتيها؛ فإنَّه يحصل استبراؤها أن تبقى شهرًا، ووجه ذلك أنَّ هذا بدلٌ عن الحيض، ولمَّا كان الاستبراء بوضع الحمل أمرٌ مُتحقق ولازمٌ وواجب، فإنه يُؤال إلى بدله عند عدمه.
قال: (أَوْ مِنَ اللاَّئِيْ لَمْ يَحِضْنَ)، فإنَّ الصغيرة تكون عدَّتها بشهر.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- أنَّها إذا كانت ممن ارتفع حيضها ولم تدرِ سببه، قال: (أَوْ عَشْرَةِ أَشْهُرٍ إِنِ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لاَ تَدْرِيْ مَا رَفَعَه). فإنَّها تمكث تسعة أشهر؛ لأنَّ هذه هي مدَّةُ الحمل، وهي لا تختلف في ذلك من كونها حرَّة أو تكون أمة -كما تقدَّم معنا في بقاء الحرة تسعة أشهر- ثم بعد ذلك تمكث شهرًا كحيضةٍ؛ لأنَّ انتظار التسعة أشهر إنَّما هو تربُّص وليست عدَّة كما تقدَّم بنا، ومرَّ بنا الكلام في إمكانية الاكتفاء بذلك بالفحوصات التَّحاليل المخبريَّة التي يحصل بها اليقين بعدم حصول الحمل.
أمَّا إذا كان الحيض قد ارتفع سببه؛ فكما تقدَّم أيضًا أنَّها تمكث حتى يعود إليها حيضها فتستبرئ بحيضةٍ، ثم تكونُ حِلًّا لاستمتاع سيِّدها، أو زوجها إن رغبت في التَّزويج ونحوه.
{قال -رحمه الله: (كِتاَبُ الظِّهاَرِ.
وَهُوَ: أَنْ يَقُوْلَ لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيْ، أَوْ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلى التَّأْبِيْدِ. أَوْ يَقُوْلَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأَبِيْ، يُرِيْدُ تَحْرِيْمَهَا بِهِ، فَلاَ تَحِلُّ لَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ، بِتَحْرِيْرِ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَإِطْعَامُ سِتِّيْنَ مِسْكِيْنًا)}.
ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كتاب الظِّهار؛ لأنَّه ممَّا يتعلق به حُرمة النساء بوجهٍ من الوجوه، وأصله كان طلاق أهل الجاهليَّة، فكان الواحد إذا أراد أن يُطلِّق امرأته قال لها: "أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيْ"، ثم هي لا مُطلقةٌ، ولا هي مُزوَّجة يُستمتع بها، ولا تأنسُ بزوجٍ، ولا هي مُطلقةٌ تحل للأزواج فتنظر فيما يكتبُ الله -جلَّ وعَلا- لها.
فلمَّا كان في ذلك من البلاء والأذيَّة والاستبداد والظُّلمِ للمرأة؛ كان محرَّمًا في الشَّرع، ولذلك قال الله -جلَّ وعَلا: ï´؟وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًاï´¾ [المجادلة:2]، وهو عند أهل العلم محرمٌ إجماعًا؛ بل هو من كبائر الذنوب، فلا يجوز للإنسان أن يلفظ بهذه اللفظة؛ لأنها مُحرمة ومنكرٌ من القول وزورًا، وهي كبائر الذنوب، وهي من عادات أهل الجاهليَّة، ولا تليق عادات أهل الجاهليَّة بأهل الإسلام، ويترفَّع عنها أهل الإيمان، وهذا لا إشكال فيه ولا اختلاف؛ بل هو محل إجماعٍ في أنَّه محرَّمٌ، ولأجل ذلك لَمَّا كان من الحُرمة بهذه المنزلة جعل الله -جلَّ وعَلا- في مُتعاطيه كفَّارةً، وبالغ فيما يجبُ في تلك الكفَّارة.
وَلَمَّا لم يزل بعض الناس يأبى إلا أن يتعاطى مثل هذا المحرَّم؛ أراد الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- أن يُبينوا ما يدخل فيه وما لا يدخل، فإذا قال لها: (أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيْ) فإن هذا هو الظِّهار الذي جاء الشرع بتحريمه.
وحقيقة هذه الكلمة: أنَّ هذه المرأة التي أحل الله له أن يستمتع بها، وأن يطأها وأن يكون فوقها؛ قد حرَّمها هو على نفسه.
ومعنى: (أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيْ)، أي: أنَّ ركوبك عليَّ حرامٌ كحرمة ركوبي على ظهر أمي -نسأل الله السلامة والعافية.
ولَمَّا كان بهذا المعنى فهو داخلٌ في الظِّهار، وهذا محلُّ إجماعٍ أنَّ مَن قالها فإنَّه تعلَّقَ به حكمُ الظِّهار، وأنَّه فاعلٌ للمحرم، وأنه يحرم عليه وطء زوجته حتى يُكفِّر، وأنَّ كفارته بالعتق أو الصيام شهرين أو الإطعام، على ما سيأتي من ترتيب ذلك والكلام فيه.
ثم قال: (أَوْ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلى التَّأْبِيْدِ)، كأنَّ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقول: إنَّ هذا اللفظ لا يختص بالتَّشبيه بالأم، بل لو شبَّهها بأخته أو عمَّته أو خالته؛ فكل ذلك داخلٌ في مثل هذا الحكم في قول أكثر أهل العلم، حيث إنهم يقولون: إنَّ المعنى في ذلك واحدٌ، فلا يختلف بينَ أن يُشببها بأمِّه أو يُشبهها بأخته؛ بل حتَّى لو شبَّهها بمن تحرم عليه على سبيل التَّحريم المُحدَّد لا المؤبَّد، كأخت زوجته أو نحو ذلك، فإنَّ هذا داخل في حكم الظِّهار.
ثم قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أَوْ يَقُوْلَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّيْ)، وفي نسخة أخرى: (أَوْ يَقُوْلَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأَبِيْ)؛ فقوله: (أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّيْ) فيه نوع تشبيه، وهذا التشبيه يحتمل معنيين:
ïƒک إمَّا أن يكون المعنى: أنتِ عليَّ كأمِّي في الحبِّ والاحترام والكرامة والقُرب والاهتمام، إلى غير ذلك.
ïƒک وإمَّا أن يكون المعنى: أنتِ عليَّ محرَّمةٌ كما تحرُمُ عليَّ أمِّي.
ما الفرق بين لفظ: (أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّيْ) ولفظ: (أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيْ)؟
قوله: (أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيْ) نصَّ فيه على الظَّهْر، والظَّهرُ محلُّ الرًّكوب، فتبيَّنَ أنَّ المراد في ذلك التشبيه لها بالرُّكوب، فالأمُّ محرمٌ ركوبها، فكذلك نصَّ على تحريم ركوب الزَّوجة.
أمَّا قوله: (أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّيْ) فهو أعم، ولأجل ذلك حصل فيه الاختلاف.
وعلى كل حال؛ قال أهل العلم: إذا قال: (أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّيْ) فإنَّه يكون ظهارًا، ولكن لو ادَّعى عند القاضي أنَّه أراد الإكرام وأراد معنًى صحيحًا فإنَّ اللفظ يحتمله، وإذا كان اللفظ يحتمله فإنَّه يُقبل منه ذلك.
بعض أهل العلم يقول: إلَّا أن تكون ثَمَّ قرينة مانعة، كأن يكون قالها في حال غضبٍ، أو أراد الإزدراء بها وإقصاءها.
ولكن الأصل أنَّ اللفظ يحتمله؛ لأنَّه في حال الغضب كأنَّه غضب منها وأراد أن يُبيّن أنَّه مهما غضب منها فهي محل الإكرام والاهتمام.
أمَّا لو كان اللفظ: (أَنْتِ عَلَيَّ كَأَبِيْ) فهذا لفظٌ فيه إشكال؛ هل هو داخلٌ في الظهار أو لا؟
لَمَّا نقل الفقهاء لفظ: (أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيْ)؛ لأنَّه اللفظ المشهور، وهو الذي جاءت به الأحاديث ودلالات النُّصوص، وهو الذي نزلت فيه الآي التي تُتلى إلى يوم القيامة.
ثُمَّ بعد ذلك ذكر أهل العلم ألفاظًا مُشابهة، إمَّا لكونها فيها معنى التَّشبيه، وقد تكون مكتملة للأركان -المشبَّه والمشبَّه به ونحوه- وقد يكون فيها شيءٌ من البُعد، فبعض أهل العلم في قوله: (أَنْتِ عَلَيَّ كَأَبِيْ) قالوا: هذا ظهار، فإنَّ إتيان الأم محرم وكذلك إتيان الأبِ، فلأجل ذلك نقل الحنابلة أنَّ مَن قال ذلك فإنَّه مُظاهر.
والقول الثَّاني عند الحنابلة وهو قول جماعة من أهل العلم؛ بل نقل أنَّه هو المذهب عند الحنابلة، وهو المُحقَّق عندهم: وهو أنَّه إذا شبَّهها بمَن لا يحصُل به تلذُّذٌ وليس محلًّا للاستمتاع كالميتة أو الخنزير، فقال لها: "أنتِ عليَّ كالميتة، أو أنتِ عليَّ كالخنزير"؛ فهذا لا يكون ظِهارًا؛ لأنَّ مثل هذه المشبَّه بها ليست محلًّا للاستمتاع، فغاية ما يكون ألَّا يكون ذلك ظهارًا، وإنَّما هو تحريم، والتَّحريم كاليمين المحرِّمَة، فيكون قوله محرمٌ، ولكن كفارته كفارة يمينٍ، لقول الله -جلَّ وعَلا: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُï´¾ [التحريم:1]، وهذا جاء عن بعض الصَّحابة، كما جاء عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وذكر بعض أهل العلم ألفاظًا نحوًا من هذه الألفاظ، فلا نريد أن نطيل فيها، خاصَّة وأنَّ ذلك من الأمور التي يُمكن أن تعاطيها بصورةٍ قليلة، إلَّا عندَ بعض البوادي ومَن في حكمهم، فقد يتعاطونَ ذلك.
ومن الألفاظ المشتهرة قوله: "أنتِ عليَّ حرامٌ"، فهذا القول ليس فيه تشبيه كالظِّهار، ولكن فيه تحريم، وهذا التَّحريم ينصرف إلى تحريم الظِّهار؛ لأنَّه حرَّم زوجته، والأصل أنَّ تحريم الزَّوجة يكون بالظِّهار؟ أو أنه يكون كاليمين؟
المشهور من المذهب عند الحنابلة وهو قول جمهور العلماء أنَّه يكون ظهارًا، وفي هذا كلامٌ لأهل العلم طويل، وبعضهم ينتقلون إلى قولٍ آخر، لكن لا ينبغي التيسير فيه ولا التسهيل لكثرة ما يأتي على ألسنة بعض الناس تساهلًا واستهتارًا، ثم بعد ذلك لا يعتبرون أنَّهم فعلوا شيئًا، فلابدَّ من صدِّ الناس عن التَّمادي في مثل هذا والاسترسال فيه، ولأجل ذلك إذا قال واحدٌ مثلَ هذه المقالة فإنَّه يُمكن أن يُقال: إنَّ مردَّ ذلك للافتاء ليحكموا هل يجعلوه على الأصل أنَّه كالظِّهار، أو يُحيلوه إلى كونه فيه كفارة يمين.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَلاَ تَحِلُّ لَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ)، يعني: مَن أتَى مثل هذا القول فإنَّ الزوجة محرَّمةٌ عليه، ولذلك لَمَّا جاء سلمة بن صخر فقال: "إنِّي ظاهرتُ من امرأتي شهرَ رمضان، وإني رأيتُ خُلخالها في ضوء القمر فأتيتها"، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ» .
إذن مَن تعاطى الظِّهار فإنَّ الزَّوجة تحرُم عليه، وأنَّه لا يجوز له إتيانها إلَّا بعد أن يُكفِّر، وقوله تعالى: ï´؟وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌï´¾ [المجادلة:3]، فلأهل العلم في تفسير العود كلام طويل:
- منهم من يقول: الجماع، وبناء على ذلك إذا جامعَ تعيَّنَ عليه فعل الكفارة، وهذا ظاهر وهو قول جمع من الصَّحابة، ولكن يجب عليه عند العزم على إتيانها أن يُكفر، لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ»، وبناء على ذلك مَن قال هذه الكلمة لا يجوز له أن يأتي زوجته، فإن طلَّقها بعدَ ذلك انتهى الأمر، وإن لم يُطلقها ولم يُكفر عن يمينه فإنه لا يقربها، ولها أن تُطالبه بالفسخ؛ لأنَّ فيه إضرارٌ بها، فإذا أراد أن يعود فنلزمه بالكفارة، فإن كان قد وطئها، فتكون الكفارة قد تحققت عليه، ومع ذلك يبقى ممتنعًا عنها حتى يُكفر.
ثم يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بِتَحْرِيْرِ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَإِطْعَامُ سِتِّيْنَ مِسْكِيْنًا).
هذا بيان لخصال الكفارة في الظِّهار ثلاثة أشياء على الترتيب:
الأول: الإعتاق، وهو تحرير رقبة، وهذا هو نصُّ الآية في كتاب الله -جلَّ وعَلا.
الثاني: صيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع إعتاق رقبة لكونه غير مالك، ولا يستطيع أن يشتريها، أو لكونها غير موجودة كهذه الأزمنة، فينتقل إلى الصيام، ولا يأتيها حتى يصوم شهرين مُتتابعين.
الثالث: الإطعام لمن لا يستطيع الصيام، ولا يَقربها حتى يُكفِّر، لقوله تعالى: ï´؟فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًاï´¾ [المجادلة:4]، وليس فيها "من قبل أن يتماسَّا"، ولكن قال أهل العلم: إنَّ الآية كُرِّرَت حيثُ احتيج إلى التكرار، وتُرك حيث لم يُحتَجْ إليه، فإنَّ الله -جلَّ وعَلا- أعاد قوله: ï´؟مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّاï´¾ في الإعتاق وفي الصيام، لئلا يُظن أنَّه مُتعلق فقط بالإعتاق، ثم لم يُعده في الإطعام لعدم الحاجة إلى ذلك؛ لأنه واجبٌ في خصال الكفارة السابقة، فيكون الإطعام كذلك، ولأنَّ الإطعام أيضًا لا يأخذ وقتًا، فكان الأمر أيسر في عدم ذكر هذا القيد مع اعتباره أصالةً، وهو قول أكثر أهل العلم.
قال تعالى: ï´؟فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًاï´¾ [المجادلة:4] ، وكل ذلك من قبل أن يتماسَّا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَحُكْمُهَا وَصِفَتُهَا كَكَفَّارَةِ اْلجِمَاعِ فِيْ شَهْرِ رَمَضَانَ)}.
يعني أن الأحكام المتعلقة بالكفارة وصفتها ككفارة الجماع في شهر رمضان، فأغنى ذلك عن إعادة هذا والكلام عليه، لئلا يكون ذلك نوعُ تكرار، والكتاب مبناه على الاختصار وعدم الإسهاب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنْ وَطِئَ قَبْلَ التَّكْفِيْرِ، عَصَى، وَلِزَمَتْهُ اْلكَفَّارَةُ الْمَذْكُوْرَةُ)}.
مثلما قلنا: إنَّ مَن ظاهرَ فلا يجوز له أن يمسَّ امرأته، لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ»، فإنَّ فعلَ فقد عصَى، فيكون عصيانه في قول الظِّهار وعصيانه في إتيانها قبل التَّكفير، ثم إذا كان قد أتاها فقد تعين عليه الكفارة، أمَّا إذا لم يكن قد أتاها فمثلما قلنا: إنه متى ما أراد العود فإنَّه تلزمه الكفارة حتى تحل زوجه.
لقائل أن يقول: كيف يُفِّرُق قبل أن يفعل المحلوف عليه، وهو إتيان المظاهر منها؟
نقول: لما جاء في كفارة اليمين «فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ يَمِينَكَ»، فيجوز فعل الكفارة قبل وجوبها وتعيُّنها، وكذلك في الظِّهار.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ مِرَارًا، وَلَمْ يُكَفِّرْ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ)}.
مَن ظاهر من امراته مرارًا كأن يقول: "أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيْ"، ثم يأتي من الغد ويقول: "أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيْ" وهكذا يفعلها مرات وكرَّات؛ فإنَّ عليه كفارة واحدة، كمَن حلف وأعاد اليمين مرة بعدَ مرة، ولكن بشرط أن يكون قد كفَّر عن الظِّهار الأول، فإذا كان قد كفَّر عن الظِّهار الأول فإنه يلزمه كفارةٌ أخرى، لكن لو لم يكن قد كفَّرَ فكفَّارةٌ واحدة تكفيه، وهذا قد جاء عن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه أفتى فيمن ظاهرَ من امراته أكثر من مرة أنَّ عليه كفارة واحدة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ ظَاهَرَ مِنْ نسائِهِ بِكَلِمةِ واحدةٍ فكفَّارةٌ واحدةٌ، وَإِنْ ظَاهَرَ مِنْهُنَّ بِكَلِمَاتٍ، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ يَمِيْنٍ كَفَّارَةٌ)}.
لو كان له أكثر من زوجة، كأن يكون له زوجتان أو ثلاث أو أربع فظاهر منهنَّ فقال: "أنتنَّ عليَّ كظهر أمِّي، أو زوجاتي عليَّ كظهرِ أمِّي"، أو غير ذلك من الألفاظ المقاربة لهذا اللفظ المفيد لهذا المعنى؛ فنقول: إذا ظاهر من نسائه بكلمة واحدة تلزمه كفارة واحدة، كمن حلفَ على أكثر من شيء فقال: "والله لا أشربُ وماءً ولا آكل سمنًا"، فلا يعني أنه إذا شرب ماءً يُكفِّر وإذا أكل سمنًا يُكفِّر؛ بل هي يمينٌ واحدةٌ لها كفارةٌ واحدة، فكذلك إذا ظاهرَ مرَّةً من أكثر من زوجةٍ فهو ظهارٌ واحدٌ وقع على أكثر من عينٍ.
ولكن لو كان قد ظاهر من كل واحدة بلفظٍ مُستقر، فإنَّ اللفظ اختلف والعين اختلفت، فلمَّا كان ظهارًا بألفاظٍ على أعيانٍ مُتباينةٍ كان لكلِّ يمينٍ حكمها، ولكلِّ ظهارٍ حكمه، فبناء على ذلك إذا أراد أن يأتي الأولى فيُكفِّر عنها كفارة ظهار، وإذا أراد أن يأتي الثانية فيُكفِّر عنها كفَّارة ظهار، فيكون عليه عن كلِّ واحدةٍ كفَّارة، ولا تُجزئ عنهنَّ كفارةٌ واحدة كما في المسألة الأولى، فبنهما فرقٌ لِمَا ذكرنا من أنَّ هذه أيمانٌ وظهارٌ مُتعدِّدٌ على أعيانٍ مُختلفة، فكان لكلِّ واحدٍ منها حُكمه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ أَوْ حَرَّمَهَا، أَوْ حَرَّمَ شَيْئًا مُبَاحًا، أَوْ ظَاهَرَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا أَوْ حَرَّمَتْهُ، لَمْ يَحْرُمْ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِيْنٍ)}.
قوله: (ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ)، إذا قال لأمته: "أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيْ". قوله: (أَوْ حَرَّمَهَا)، كأن قال لها: (أنتِ عليَّ حرام)؛ فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: إنَّه لا يكون حكمها حكمُ المظاهر منها، وأنَّ الظهار إنما هو في الأزواج، وهذه ليست زوجة، والذي كان عند أهل الجاهليَّة إنَّما كان الظهار من الزوجة؛ لأن الزوجة هي التي لها حقٌّ وحرمة، فبناء على ذلك لو جرى من السيد على إمائه شيءٌ من مثل هذه اللأفاظ، فلا يكون ذلك ظهارًا، ولا تترتب عليه أحكامه، ولكن يكون قد فعل محرَّمًا من جهة أنَّه حرَّم على نفسه ما أحلَّ الله -جلَّ وعَلا- وهذا يدخل في قوله الله -جلَّ وعَلا: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُï´¾ [التحريم:1]، وبناء على ذلك مَن حرَّمَ امته أو ظاهر منها فعليه كفارة يمينٍ.
ومثل ذلك لو حرم الإنسان على نفسه شيئًا مُباحًا، وهذا يحصل كثيرًا حتى لو بغير لفظ اليمين، لو قال: "لا أكلتُ هذا التَّمرَ أبدًا، أو هذا العسل حرامٌ عليَّ أن يدخل بطني أو أن أتذوَّقه".
نقول: إنَّ مثل هذا هو تحريم لشيءٍ أحلَّه الله، وتضييقٌ لِمَا وسَّعه الله عليه، وبناء على ذلك تكون كفارته كفارةُ يمينٍ لهذه الآية، ولما جاء عن ابن عباس وجاء عن غير واحدٍ من السلف وحكم به الفقهاء، فتكون عليه كفارة يمين.
والمؤلف قال هنا: (لَمْ يَحْرُمْ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِيْنٍ)، أراد أن يُبيِّن أنَّه ليس بظهار، وأنَّ كفارته كفارة يمين.
ثم قال: (أَوْ ظَاهَرَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا أَوْ حَرَّمَتْهُ)، كأن تقول المرأة لزوجها: "أنتَ عليَّ كظهر أبي".
نقول: الظهار الذي جاء في الشرع لم يكن في جانب المرأة، وأنَّ الظهار نزل على ما كان عليه أهل الجاهليَّة، وكان المُظاهِر في أهل الجاهليَّة هو الرجل، وهو الذي يكون منه الإيذاء للمرأة والتضييق عليها، فمن حيث الأصل لا يكون من المرأة ظهار؛ لأنَّ الذي جاء به الحكم على بساطِ حالٍ مَعلومةٍ معروفةٍ، فتعلَّقَ الحكمُ بها، فهذا ما يتعلق بأصل ذلك.
ثم قال: (لَمْ يَحْرُمْ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِيْنٍ)، لو قالت المرأة: "أنتَ عليَّ كظهر أبي"، فهذا محل خلاف، والمشهور من المذهب عند الحنابلة أنَّ عليها كفارةُ ظهارٍ وإن لم يكن ظهارًا عندهم، وأصل ذلك أنَّ عائشة بنت طلحة -وهي من حسناوات العرب وكان يتطلع إليها الوجهاء، فأراد مصعب بن الزبير أن يتزوجها- فقالت: "إن تزوجت مصعبًا فهو عليَّ كظهرِ أبي"، ويأبى الله إلَّا أن تتزوَّج مصعبًا، فجرى في ذلك سؤال بعض أهل ذلك الزمان من التابعين ومن الصحابة، فحكموا أنَّ عليها إعتاقًا وأن يأتيها زوجها.
ومشهور المذهب: أنَّ عليها كفارة ظهار.
والحقيقة وإن كان يُحتاج إلى أن تُراجع ألفاظ ذلك الأثر؛ فحتى في كفارة اليمين فيها إعتاق؛ فلأجل ذلك ذهب بعض أهل العلم أنها كفارة يمينٍ؛ لأنه ليس بظهار، وأنَّ الذي جاء في الأثر يُمكن أن يُحمل على أنه كفارة يمين، وعلى ذلك قول المؤلف هنا -وإن كان خلاف مشهور المذهب عند الحنابلة- وهو قول شيخ الإسلام وجمع من أهل العلم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَاْلحُرُّ وَالْعَبْدُ فِي اْلكَفَّارَةِ سَوَاءٌ، إلَّا أَنَّهُ لا يُكفِّرُ إِلَّا بِصِيَامٍ)}.
في نسخة أخرى: (وَاْلحُرُّ كالْعَبْدِ فِي اْلكَفَّارَةِ سَوَاءٌ، إلَّا أَنَّهُ لا يُكفِّرُ إِلَّا بِصِيَامٍ)، يدل هذا على أن العبد والحر سواء في الكفارة، وقوله (إلَّا أَنَّهُ لا يُكفِّرُ إِلَّا بِصِيَامٍ)، إنما هو في العبد.
وتقدَّم الكلام عن الحر من جهة الأحكام وهو الأصل، ولكن لو جرى من العبدِ ظهارٌ، كأن زوَّجَ السَّيِّدُ عبدَه فظاهرَ من زوجته فيكون كذلك؛ لأنَّه نكاح، كما أنَّ أحكام الطلاق تجري على العبيد كما تجري على الأحرار؛ فكذلك ما يكون من إجراء هذه الألفاظ المحرَّمة فإنه يتعلق به حكمها، ويلحقه تبعتها، فيكون آثمًا وقد فعلَ محرَّمًا، ويجب عليه الامتناع من زوجه، وعليه الكفَّارة، ولكن لَمَّا كانت الكفَّارةُ منها ماليّ وهو ليس من أهل التَّملُّك ولا يجد المال فتكون كفارته بالصيام، لأن هذا هو الذي يُمكنه، وهو الذي يليق به في حاله حيثُ لا ملكيَّة للعبد، فلأجل ذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (إلَّا أَنَّهُ لا يُكفِّرُ إِلَّا بِصِيَامٍ).
{أحسن الله إليكم شيخنا..
ذكرتم أنَّ من ألفاظ الظِّهار "أنتِ عليَّ حرامٌ"، يحصل في هذه الأزمنة أن يقول "عليَّ الحرام"، وبعضهم ما يدري أنه قد يكون لفظ ظهار}.
قوله: "أنتِ عليَّ حرام" لا إشكال في أنه ظهار في مشهور المذهب، وهو قول جماهير أهل العلم.
لكن لفظ "عليَّ الحرام" إذا خاطب به زوجته يُمكن أن يُلحق بذلك، وإذا لم يُخاطب به زوجته فهو محتملٌ أنه يُحرِّم كلَّ شيءٍ ومنها الزَّوجة، ويحتملأنَّه لم يقصد بذلك الزَّوجة، فيحصل بذلك الإشكال.
وكل هذه من سبيل الشيطان، ومن الأقاويل السَّيّئة، وأنا في عادتي ألَّا أتكلمُ فيها إفتاءً ولا تبيينًا للحكم بالنسبة للأحوال الخاصَّة على سبيل الإطلاق لكثرة ما فيها من الإشكال.
وبعض أهل العلم يُحيلها إلى أنها كفارة يمينٍ، ولكن لا يخلو هذا اللفظ من أنَّ صاحبه قد أدخل نفسه مدخلًا ضيِّقًا، وقد لحق به من التَّبعةِ ما الله به عليم، وهو يوشك ان يكون قد حمَّل نفسه من تبعة الظِّهار ما هو بيِّنٌ، ولكن القطع بهذا أو بذاك محلُّ نظرٍ، ومَن جرى منه شيءٌ من ذلك يستغفر الله ويتوب إليه، ثم يستفتي؛ لأنِّي أتحفَّظُ أنَّ أقولَ فيها شيئًا، والله يتولَّانا برحمته.
{لكن في الجملة يا شيخنا مما يجري به اللسان في الطَّلاق، وهذه الألفاظ عمومًا؛ فما نصيحتكم؟}.
النَّصيحةُ أن يُؤدَّبَ النَّاسُ وأن يُعلَّم النَّاسُ أنَّ هذه ألفاظٌ مسؤولة، وأنَّها أقاويلٌ بها تبعةٌ في الدُّنيا وفي الآخرة، ولها تعلُّقات بالزَّوجات، ولها تعلُّقات ببقايا عقدة النِّكاح، ولها تعلقٌ بفعل الإنسان للمحرَّم، وعليه تبعةٌ عندَ الله -جلَّ وعَلا- فلأجلِ ذلك ما دامَ أنَّ أهلَ العلم يستسهلون مثل هذا، وكل مَن سأل أجبناه بانه فيه كفارة يمين أو نحو ذلك؛ لم يزل النَّاس في هذا الجانب.
وينبغي ألَّا يُسهَّل للنَّاس في هذا حتى يرتجعوا، وحتى لا يجعلوا نساءهم ألعوبةً، كلَّما ارتفعَ شيءٌ حرَّم، وكلَّما خفضَ شيءُ حرَّمَ، كلَّما خرجَ من البابِ حرَّم، وكلَّما دخلَ حرَّم، كلَّما تحرَّك هواءٌ حرَّم! أي شيءٍ هذا!! فما جعلَ الله المرأة كأيسر وأحقر ما تكون حتى يجعلها الرجل على لسانه!
بعضهم يجعل الطَّلاق والظِّهار ونحوه من هذه الألفاظ هي نوع سبابٍ وشتام، فيشتم بها زوجه، أو يشتم بها غيرَ زوجتهِ أو أهلَها او نحو ذلك؛ كلُّ هذا بلاءٌ عظيمٌ، فلذلك لو أنَّه عُظِّم على النَّاس حتى مَن وقعَ فيه علم أنَّه وقع في أمرٍ عظيمٍ، وأنَّه لا يكاد يخرج منه بأمرٍ يسيرٍ، فإنَّ النَّاس إذا رأوا مَن وقعَ في ذلك لَحِقَ به مِن الضِّيق والحرجِ ما لَحِقَ؛ فإنَّهم يرتدعون أن يفعلوا مثل تلك الأفعال، أو يقعوا في مثل تلك الأمور.
أظن أنَّ هذا المجلس هو آخر المجالس في هذا الفصل، ولعلَّنا أن نَقِفَ عند كتاب اللعان.
وبينَ يدي هذا الختام؛ أستبيحكم عذرًا على ما يكونُ مِن ضَعفٍ أحيانًا في شرحٍ، أو اقتضابٍ في الوقوفِ على مسألةٍ ونحوها، خاصَّةً أنَّ البضاعةَ في العلمِ بضاعةٌ قليلةٌ، وأنَّ الذِّهن مكدودٌ، وأنَّ النَّفسَ ضعيفةٌ، ويعترينا ما يعترينا مِن النَّقصِ كما هي حالةُ البشرِ، والله يتولَّانا برحمته.
ولا يسعني في ختام هذه المجالسِ إلَّا أن أسألَ الله -جلَّ وعَلا- أن يزيدكم مِن العلم،ِ وأن يرفعكم به، وأن يجعله خالصًا لوجههِ، وأن يعقبكم فيه درجةً عليَّةً في الدُّنيا والآخرة، وأن يبلِّغكم فيه ما يكونُ تيسيرًا وتسهيلًا، وتوفيقًا وفقهًا، وخيرًا وهدًى، وألَّا يجعله حجَّةً علينا يومَ نلقاهُ، ونعوذُ بالله مِن الخذلان أو أن يكونَ حُجَّةً علينا عند لقاء الرَّحمن، وأن يغفرَ لنا ذنوبنا ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا وجميع المسلمين.
ثم إنِّي أشكرُ لكم ما جعلتموه لنا مِن الوقت حتَّى تجلسوا إلينا وتسمعوا ما نذكره مع ضَعفٍ في المقالة وقلَّةٍ في العلمِ، والله يتولَّانا برحمته، وحسبنا أنَّها مجالس علم، نرجوا أن تكون فيها بركة، وأن يكون فيها أجرٌ وأثرٌ عند الله -جلَّ وعَلا.
كما أنِّي أشكرُ كلَّ مَن تسبَّبَ في مثلِ هذه اللقاءات، وفتحَ لنا مثل هذه القنوات التي نصل إليكم وتصلونَ إلينا، ونتواصى على الخير والبرِ والتَّقوى، وأسأله -سبحانه وتعالى- أن يجزيهم خير الجزاء، وأن يرفعهم بذلك، وأن يزيدَهم مِن العلم،ِ وأن يفتحَ لهم أبوابَه وأن ييسِّر لهم نشرَه، وأن يبقيهم منارةً عاليةً شامخةً في هذا الخيرِ مظهرةً له، باقية ما بقي النَّاس إلى يومِ القيامة، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريم، كما نسألُ الله -سبحانه وتعالى- أن يُعيدَ لقاءنا بكم مرَّاتٍ وكراتٍ على خيرٍ وهُدًى، وبرٍّ وتُقى، على العلمِ وطلبِ ما يكون به النُّهى، إنَّ ربنا جوادٌ كريم، والله المسؤول أن يعفو عني تقصيري، وأن يغفر لي ولإخواني ولأحبابي وللمسلمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمدٍ.
{وفي ختامِ هذا الفصل نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.










رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 21:18

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc