تدرج القواعد القانونية - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الجامعة و البحث العلمي > الحوار الأكاديمي والطلابي > قسم أرشيف منتديات الجامعة

قسم أرشيف منتديات الجامعة القسم مغلق بحيث يحوي مواضيع الاستفسارات و الطلبات المجاب عنها .....

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

تدرج القواعد القانونية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2010-12-31, 09:39   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
yacine414
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










New1 تدرج القواعد القانونية

هذه المذكرة تحمل عنوان مبدأ تدرج القواعد القانونية وآثاره على الوظيفة القضائية





المقدمة
"إن الدستور يجسم عبقرية الشعب الخاصة، ومرآته الصافية التي تعكس تطلعاته و ثمرة إصراره ونتائج التحولات الاجتماعية العميقة التي أحدثها، وبموافقته عليه يؤكد بكل عزم وتقدير أكثر من أي وقت مضى سمو القانون"
بهذه الكلمات كشف الدستور الحالي في ديباجته اعتناقه لمبدأ(سمو القانون )أو(مبدأ المشروعية) باعتباره قمة الضمانات الأساسية لحقوق الإنسان وما ينبثق عنها من حقوق وحريات، إذ يبلور هذا المبدأ أحد عناصر دولة القانون وأساس تميزها عن دولة الواقع البوليسية أو الاستبدادية، ومن المستقر عليه أن سيادة أو سمو القانون تتحقق بخضوع كل السلطات العامة في الدولة للقانون خضوع المحكمين له، وذلك أن الدولة لا تكون قانونية إلا حيث تخضع فيها جميع الهيئات العامة لقواعد القانون في جميع مظاهر نشاطها، وهو ما سوف يترتب عليه ضمان وحماية الحقوق والحريات من أي تعسف أو تغول ، باعتبار ذلك يمثل الهدف المرجو والغاية المبتغاة من بناء دولة القانون.
وفي الحقيقة إن القانون بمعناه الواسع هو في جوهره تعبير عن إرادة الدولة، فهذه الإرادة دون غيرها تمثل المصدر الوحيد للقواعد القانونية، ولكن الدولة لا تعبر عن إرادتها بأسلوب واحد بعينه، وإنما تخـتلف طرق التعبـير عن إرادة الدولة باختلاف السلطة العامة الموكل إليها التعبـير عن هذه الإرادة ، ومن هنا تتعدد مصادر القاعدة القانونية .
وإذ لا يقتصر إنشاء القواعد القانونية على سلطة أو هيئة عامة واحدة في الدولة، فإنه يكون محتملا وقوع التعارض أو التناقض بين هذه القواعد، ومن ثم التنازع بين السلطات أو الهيئات التي تولت تقريرها، وليس من شك في أن ظاهرة (التعارض القانوني) تشكل مفترضا عاما وشاملا ( )، ذلك أن القانون الوضعي من إنشاء بشري، وأن الجهات المنشئة لهذا القانون متعددة، وهو ما يجعل تعارض القواعد القانونية الوضعية ظاهرة عامة وشاملة تعرفها كل الأنظمة القانونية.
ولذلك لم يكن غريبا أن يقف غالبية الفقه في وجه نظرية (كمال التشريع) ( )التي ظهرت في ألمانيا كأثر الفلسفة هيغل، التي تأثر بها الفقه القانوني ولا زال البعض يرددها ومن هؤلاء الفقيه الكبير كلسن، فهذه النظرية لقيت من النقد ما لم تلقه نظرية غيرها، ذلك أنها لا تعترف بقصور التشريع لنقص في النصوص أو غموضها أو تعارضها، وفي ذلك تناقض مع طبيعة الأشياء ومجافاة للمنطق، نظرا للطابع البشري للتشريع، ولتعدد الهيئات الموكل لها سن القواعد القانونية في الدولة، وبالطبع لا يمكن للقائمين على صناعة القواعد القانونية استيعاب مضمون النظام القانوني ككل، وهو ما سوف يترتب عليه بالطبيعة التعارض بين القواعد القانونية، ومفاد ذلك أن ظاهرة تناقض القواعد القانونية أمر لا مناص منه، مما يفرض التساؤل عن الآليات الكفيلة بإزالة هذا التعارض ؟ وبصورة خاصة ما هو دور القضاء في هذا الشأن؟
ومن الواضح أن هذه الظاهرة قد لا تكون مشكلة، وذلك إذا كان التعارض بين نص عام وآخر خاص أو بين نص سابق وآخر لا حق، إذ سوف يعمد القاضي إلى مبدأ النص الخاص يقيد النص العام بالنسبة للحالة الأولى، مبدأ النص اللاحق يلغي السابق بالنسبة للحالة الثانية، ويستبعد أحد النصين ليطبق النص الثاني على القضية المعروضة عليه، ولكن الإشكال قد يثور بصدد قواعد قانونية ليست لها نفس المرتبة الإلزامية، فيكون أحدها نص دستوريا أو اتفاقيا دوليا والثاني نصا تشريعا عاديا أو لائحيا، أو يكون أحدها نصا تشريعيا والثاني لائحيا، فما هي الآلية القانونية الكفيلة بحل هذا التعارض؟
ولابد من التأكيد على أن التزام القاضي بحل إشكالية التعارض القانوني بين النصوص القانونية غير المتساوية في المرتبة الإلزامية ليست مزية منه، بل هو التزام قانوني ملقى على عاتقه وذلك لعدة اعتبارات أهمها :
أولا: أن القاضي هو حجر الزاوية، والضمانة الأكيدة لبناء دولة القانون، هذه التي لا معنى لها أمام عدم انسجام التنظيم القانوني للدولة، فجوهر وظيفة القاضي تطبيق القانون بمعناه الواسع، وليس له حرية تطبيق بعض القوانين والإعراض عن بعض أو تعطيله دون مسوغ مشروع، فمن أخص مهامه تحقيق وحدة النظام القانوني وتكامله، ومفاد ذلك انه غير جائز للقاضي الاحتجاج بوجود قاعدتين متناقضتين أو متعارضتين، بل واجبه هو التوفيق بينهما أو حل هذا الإشكال، لآن القول بغير ذلك يمثل إخلالا بمبدأ الشرعية وإنكارا للعدالة، فالقاضي هو السلطة المنوط بها تفسير القانـون وتطـبيقه، وعليه إذا ما عرض له عارض أي إذا ما اكتشف غموضا أو تعارض أو نقصا في التشريع الذي يهم بتطبيقه أن يتصدى لهذا العارض، ويسعى إلى إزالته ليمهد السبيل إلى التطبيق الصحيح للقانون، ولا شك أنه يؤدي هذا الدور ويقوم بهذا الواجب وفقا لضوابط قانونية محددة لا تفسح مجالا لتعسف.
ثانيا: أن القاضي يجب عليه العمل على تحقيق العدالة في كل قضية يفصل فيها، وذلك من خلال تطبيقه القانون( )، هذا الأخير الذي يندرج ضمنه كل القواعد القانونية العامة والمجردة، وهي التي تعارضت بينها فأي القواعد القانونية سيطبق ؟
لابد أن التزام القاضي بتحقيق العدالة والعمل على تحقيقها في كل قضية، يفرض عليه الفصل في هذا الإشكال وفق معيار محدد، يجعل حكمه مسببا وبالتالي محصنا ضد النقض والإبطال من الجهات القضائية العليا، ولا بد أنه سيصل لاستبعاد إحدى هذه القواعد القانونية ليطبق الأخرى بما يراه محققا للعدالة وموافقا للقانون.
ثالثا: وأن القاضي ملتزم بالإجابة على كل الدفوع تحت طائلة عدم التسبيب الذي يجعل حكمه معرضا للنقض والإبطال، فإذا أثير أمامه دفع من أحد المتقاضين بأن النص المراد تطبيقه عليه مخالف للنص الذي يعلوه في الدرجة مما يجعله غير دستوري أو غير مشروع ، فإن القاضي ملزم بالرد على هذا الدفع طالما رآه جديا.
وعلى ذلك، فإن القاضي يطبق القانون بالمفهوم الذي ينصرف للقواعد القانونية، مهما كان مصدرها دستورا أو تشريعا عاديا أو فرعيا أو مبادئ عامة للقانون أو عرفا أو اتفاقيات دولية أو مبادئ العدالة والقانون الطبيعي، فالقاضي مطالب بتطبيق كل هذه القواعد القانونية، وهي التي قد تتعارض وعليه أن يحدد أيها يجب استبعاده، وأيها يجب تطبيقه، وهو ما يفرض البحث عن آلية موحدة يلتزم بها القضاة في هذا المجال، سعيا لانسجام الأحكام القضائية وتوحيد الاجتهاد القضائي، ومن هنا بدت ضرورة التوصل إلى قاعدة ما تحقق في آن واحد الترابط بين كافة القواعد القانونية التي يتكون منها التنظيم القانوني للدولة، وحل إشكاليات واحتمالات وقوع التعارض آو التناقـض فيما بين هذه القواعـد، وقد تحقق ذلك فعلا عن طريق تقرير قاعدة أو مبدأ (تدرج القواعد القانونية )( )، وهو من أهم المبادئ التي أسفر عنها الأخذ بمبدأ المشروعية في الدولة القانونية، ذلك انه إذ كان مقتضى مبدأ المشروعية خضوع كل من في الدولة سلطات عامة وأفراد لأحكام القانون- بمعناه الواسع -واحترام الأفراد للقانون أمر تكفله السلطة العامة بما تملكه من وسائل الجبر والإلزام، ويبقى التساؤل حول الآلية الكفيلة بإلزام السلطات العامة بالخضوع لأحكام القانون؟
ولذلك فإنه تأسيسا على مقتضيات مبدأ المشروعية ولكفالة احترام السلطات العامة للقانون والالتزام بأحكامه استقر الأمر على أن ذلك يكفله مبدأ تدرج القواعد القانونية، فكيف يحدث ذلك؟
هذا الإشكال تناوله الفقه والقضاء المقارن واستقر فيه على موقف ثابت ومستقر، بينما لا يزال القضاء الجزائري يراوح مكانه بالنسبة لهذا الموضوع إذ لم نجد سوى عدة قرارات قضائية تشير إلى هذه المسألة وتكرس هذا المبدأ، والحقيقة انه لم يبق أي تبرير أمام القضاء الجزائري حتى لا ينخرط في هذا المسار، وخصوصا في إطار المسعى الحالي للسلطات العامة الإصلاح العدالة، كإحدى آليات تكريس دولة القانون وبناء الحكم الراشد.
وبناء على ذلك فإن القاضي الجزائري مطالب اليوم بأن يكون شجاعا، ويساهم بفعالية في هذا المسعى بالعمل على تحقيق انسجام النظام القانوني للدولة، وذلك بإزالة التعارض القانوني كلما طرح عليه هذا الإشكال، وبالطبع فإن وسيلته في ذلك هي (مبدأ تدرج القواعد القانونية ) الذي سيجد فيه حلا لإشكال التعارض، بما يجعله يضحي بالقانون الأدنى فيستبعده لصالح القانون الأسمى الذي يعتمده لحل النزاع المعروض عليه، ولا شك أن هذا الطرح يبدو بسيطا عند إطلاقه بعمومه، ولكن عند التفصيل والتطبيق يثير جملة من الإشكاليات والاعتراضات، التي تصل أحيانا لحد الإطاحة بالمبدأ وإعادة النظر في مضامينه ونتائجه .
إن هذا الموضوع يفرض نفسه ليس فقط لندرة الدراسات حوله وخصوصا في الجزائر، بل ولعلاقته المباشرة بالعمل القضائي باعتباره الوسيلة الوحيدة لحل عديد الإشكاليات التي تـثار أمام القاضي يوميا، وهو إحدى الوسائل لتأكيد سلطة القضاء المستقلة وتوسيع مساحة عمله ووظيفته .
وترتيبا على ذلك يتوجب دراسة هذا الموضوع من خلال الإجابة على عدة تساؤلات، تتعلق بماهية هذا المبدأ أي مضمونه والنتائج المترتبة عليه، وبالتالي كيف تترتب القواعد القانونية المشكلة للتنظيم القانوني في الدولة؟ أهي من درجة واحدة؟ أم لها مراتب متعددة؟ وما هو الأساس أو المعيار الذي يعتمد في هذا الترتيب؟ وما هي نتائج ذلك على عمل السلطات العامة؟ وبصورة خاصة ما هي نتائجه على الوظيفة القضائية ؟أي هل يملك القضاء سلطة إخضاع القاعدة الأدنى للقاعدة الأعلى؟ وبالتالي هل يملك رقابة دستورية القوانين؟ ورقابة اتفاقية القوانين؟ ورقابة مطابقة القانون العادي للقانون العضوي؟ وما هو تأثير المبدأ على وظيفة القاضي التقليدية في مراقبة مشروعية اللوائح؟
كل تلك التساؤلات تتم الإجابة عنها بالاعتماد على منهجية مزدوجة، تقوم على التحليل والمقارنة :
- التحليل للمبادئ والنصوص القانونية،واستخلاص المقدمات والنتائج المتعلقة بمبدأ التدرج القانوني.
- والمقارنة بما هو عليه الوضع في العمل القضائي من خلال الأحكام التي آمكن الحصول عليها .
وبالطبع لن نكتفي بما هو عليه الوضع عندنا، بل يتم اللجوء إلى القانون و القضاء المقارن، مع التركيز على فرنسا ومصر كنموذجين مختارين في هذا المجال .
وهو ما يجعل الدراسة تبحث المبدأ من زاويتين:
الزاوية الأولى: تحديد ماهية المبدأ أي مضمونه ونتائجه (الفصل الأول) الذي نفصل فيه مضمون المبدأ بتحديد المرتبة الإلزامية لكل مصدر من المصادر الرسمية للقواعد القانونية، مبتدئين بالترتيب الإلزامي للقواعد القانونية المكتوبة، وبعدها ترتيب القواعد غير المكتوبة(المبحث الأول) ثم تحديد النتائج المترتبة على ذلك الترتيب الإلزامي بالنسبة لعمل السلطات العامة في الدولة، مبتدئين بنتائج سمو القواعد الدستورية، لكونها متميزة بصورة خاصة عن نتائج ترتيب القواعد القانونية الأخرى (المبحث الثاني) .
والزاوية الثانية: تتعلق بدور القضاء في تكريس المبدأ وما ينجر عنه من أدوار رقابية جديدة (الفصل الثاني) مبتدئين بدور القضاء في الرقابة الدستورية على القوانين، هل يختص بها أم يمتنع عليه التعرض لدستورية القوانين، وما هي الوظائف التي يلعبها القاضي أثناء ممارسته الرقابة الدستورية(المبحث الأول) ثم التعرض لدور القضاء في الرقابة على تدرج القواعد القانونية الأخرى ابتداء من الرقابة على اتفاقية القوانين، وبعدها الرقابة على مشروعية القواعد اللائحية(المبحث الثاني).


الفصل الأول ماهية مبدأ تدرج القواعد القانونية























يسود الدولة المعاصرة مبدأ المشروعية باعتباره إحدى ضمانات دولة القانون، إذ تغدو السيادة لحكم القانون وحده، و هو ما يكفل حماية جدية للحقوق و الحريات، و من المستقر عليه أن مدلول القانون ينصرف إلى كافة القواعد القانونية السارية في الدولة- أيا كان مصدرها و شكلها -إذ تشكل تلك القواعد جميعها عناصر المشروعية في الدولة.
واعتبـارا لكـون مصادر القاعدة القـانونية متعددة، إذ لا يقتصر إنشاء القواعد القانونية على سلطة أو هيئة عامة واحدة في الدولة، فإنه يكـون محتمـلا وقوع التعارض أو التنـاقض بيـن هذه القواعد، و بالتالي يصبح من الضروري البحث عن قاعدة ما تحقق في آن واحد الترابط و الانسجام بين كافة القواعد القانونية التي يتكون منها التنظيم القانوني للدولة، و حل إشكالات و احتمالات وقوع التعارض فيما بين هذه القواعد، و قد توصل الفـقه و بعده القضـاء إلى مبدأ تدرج القواعد القـانونية باعتبـاره كفيـل بكـل ذلك، و استقـر الأمر على اعتباره إحدى عنـاصر دولة القانون و ضماناتها و ترتيبا على ذلك يتعين تحديد مضمون هذا المبدأ (المبحث الأول) و حصر نتائجه (المبحث الثاني)
المبحث الأول
مضمون مبدأ تدرج القواعد القانونية
تأسيسا على مقتضيات مبدأ المشروعية، ولكفالة احترام السلطات العامة للقانون، استقر الأمر على ضرورة ترتيب القواعد القانونية التي تكون عناصر المشـروعية في مراتب متعددة متتالية، بحيث يسمو بعضها على البعض الأخر، في تدرج يشمل كافة هذه القواعد التي تمثـل التنظـيم القـانوني للدولة، فتخضع القاعدة الأدنى مرتبة للقاعدة الأعلى منها مرتبة، فلا تستطيع مخالفتها و إلا عدت غير مشروعة ( )، ويتفق الفقه والقضاء أن تدرج القواعد القانونية هو تدرج شكلي من ناحية، وهو تدرج للمرتبة الإلزامية لتلك القواعد:
- التدرج الشكلي للقواعد: والذي يرتكـز على مرتـبة السلطـة التي أصـدرت القـاعدة القانونية، والإجراءات المتبعة في ذلك.
- تدرج المرتبة الإلزامية للقواعد القانونية: والذي يعني أن بعض القواعد يتمتع بقوة إلزامية أعلى مما تتمتع به القواعد الأخرى التي تليها في المرتبة.
والحقيقة أن مظاهر التدرج تقتصر حقا على القوة القانونية للقـاعدة، أو قـوتها أو مرتبتها الإلزامية( )، ومقتضى ذلك أن مبدأ تدرج القواعد القانونية يشمل كافة القواعد القانونية، سواء منها ما كان مدونا (المطلب الأول) أو كان غير مدون (المطلب الثاني) ذلك أن مبدأ تدرج القواعد القانونية يتضمن تدرج التشريعات إلى جانب تدرج القواعد القانونية الأخرى.

المطلب الأول
تدرج القواعد القانونية المكتوبة
تمثل القواعد القانونية المكتوبة أو المسنونة من طرف السلطة المعهود إليها بسن القوانين، المصدر الأول للمشروعية في الدولة، والمستقر عليه فقها وقضاء أن ثمة ثلاثة أنواع من القواعد القانونية المكتوبة، وذلك بالنظر إلى السلطة التي قامت بسنها:
- القواعد الدستورية: التي تضعها السلطة التأسيسية.
- والقواعد التشريعية: التي تتولى السلطة التشريعية سنها.
- والقواعد اللائحة: التي تتولى السلطة التنفيذية وضعها.
- ونظرا لاعتراف الدستور في المادة 132 منه بسمو المعاهدات على القانون ، فمعنى ذلك إدراج
القواعد الاتفاقية الدولية ضمن التنظيم القانوني للدولة.
ومن ثم فمبدأ التدرج التشريعي( ) – الذي يتضمنه مبدأ التدرج القانوني – يقصد منه : أن تأتي القواعد الدستورية في المقدمة بسبب سمو الدستور (الفرع الأول) ثم تأتي بعدها القواعد الاتفاقية الدولية بسبب سمو المعاهدات المصادق عليها على القانون (الفرع الثاني) وبعدها القواعد التشريعية الصادرة عن السلطة التشريعية المختصة، والتي لا بد أن تأتي منسجمة مع القواعد الدستورية والقواعد الاتفاقية الدولية (الفرع الثالث) وتليها بعد ذلك القواعد اللائحية الصادرة عن السلطة التنفيذية، والتي يجب أن تأتي مطابقة للقواعد القانونية الأعلى منها كلها (الفرع الرابع).
الفرع الأول
القـــواعــد الدســتورية
تقوم دولة القانون على وجود نظام دستوري يحمي حقوق الإنسان وما ينبثق عنه من حقوق وحريات من جهة، ووجود ضمانات فعالة تكفل التكريس الفعلي لهذا النظام الدستوري، بحيث تخضع له السلطات العامة خضوع المحكومين له، ويأتي (مبدأ سمو الدستور)على رأس هذه الضمانات، إذ لا يتصور قيام دولة القانون دون هذا السمو. وهو ما تم تكريسه في ديباجة دستور 1996 التي جاء فيها: "إن الدستور فرق الجميع وهو القانون الأساسي الذي يضمن الحقوق والحريات الفردية والجماعية ويحمي مبدأ حرية اختيار الشعب ويضفي الشرعية على ممارسة السلطات ...".
فيتأكد من ذلك سمو الدستور، وبالتالي تموضع القواعد الدستورية في قمة الهـرم القـانوني في الدولة، ولذلك فمن الضروري تحديد مدلول القواعد الدستورية (أولا) ومرتبتها بين القواعد القانونية طبقا لمبدأ تدرج القواعد القانونية (ثانيا).
أولا: مدلـول القـواعـد الدستورية:
يقصد بالقواعد الدستورية: مجموعة القواعد القانونية الواردة في الوثيقة الدستورية والتي تبين نظام الحكم في الدولة، وتحدد الحقوق والحريات العامة للأفراد، وتقرر الأسس والأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة، ويستند هذا المفهوم على المعيار الشكلي الذي يرى أن القواعد الدستورية مصدرها الوحيد هو (الوثيقة الدستورية).
ويعترض بعض الفقه على هذا المفهوم، ويرى أن القواعد الدستورية هي مجموعة القواعد القانونية التي تبين نظام الحكم في الدولة وتحدد الحقوق والحريات العامة للأفراد، سواء وردت في الوثيقة الدستورية وهـو الأصل، أو وردت في وثائـق أخـرى يطـلق عليها أحيـانا إعلانـات الحقـوق أو المواثيق، كما قد يرد بعضها في مقدمات الدساتير ذاتها. فالقواعد الدستورية حسب هذه الاتجاه الذي يعتمد على المعيار المادي( ) هي التي تنشئ وتنظم السلطات العامة جميعها، وتحدد نطاق اختصاص كل منها وكيفية ممارسة هذه الاختصاصات. ولكن هذا الرأي محل جدل فقهي وقضائي، بحيث يتجه الرأي الراجح إلى إخراج القواعد الواردة في إعلانات الحقوق أو المواثيق أو مقدمات الدساتير من (القواعد الدستورية) ويدرجها ضمن (المبادئ العامة للقانون) التي نـراها لاحقا باعتبارها مصدرا أخر للقانون، وهو المبادئ العامة للقانون والتي نراها لاحقا.
ثانيا: مرتبة القـواعـد الدستـورية:
تمتاز القواعد الدستورية بالسمو والسيادة لاعتبارات عدة ( )، وهي:
1- أنها تصدر عن المشرع الدستوري أي السلطة التأسيسية، وهي أعلى سلطة في الدولة بحيث لا تعلوها سلطة أخرى، وهو ما يجعلها غير مقيدة بأي قيد في وضعها للدستور، أي أنها سلطة غير مشروطة، إذ لا تتقيد بأية قواعد أخرى تعلوها بل هي السلطة العليا والسيدة، ، وهو ما يجعل التشريع الصادر عنها أي القواعد الدستورية سيدة، وهي المصدر الأساسي لكل قاعدة قانونية أخرى.
2- أن الدستور هو الذي يحدد فكرة القانون الرسمية في الدولة، وهو ما يجعله بمثابة الإطار القانوني العام لكل حياة الدولة،كما انه يعين الأشخاص والهيئات التي يكون لها حق التصرف باسم الدولة ، بشروطهم وصفاتهم لا بشخوصهم وأسمـائهم ، ثم يحدد الطريق الشرعي للوصول إلى السلطة، ووسائل وحدود ممارسة الاختصاصات الدستورية لكل هيئة.
3- كما أن جمود الدستور يؤكد هذا السمو، وهذا خلافا للدساتير المرنة، حيث لا تمتاز حينئذ بالسمو اللازم للقواعد الدستورية، ويعتبر الدستور الجزائري دستورا جامدا، ومثله جميع الدساتير العربية وكذلك الدستور الفرنسي والدستور الأمريكي .
4- وقد نص الدستور نفسه على هذا السمو صراحة، إذ جاء في ديباجة الدستور 1996 (إن الدستور فوق الجميع ، وهو القانون الأساسي الذي يضمن الحقوق والحريات الفردية والجماعية، ويحمي مبدأ حرية اختيار الشعب، ويضفي الشرعية على ممارسة السلطات ويكفل الحماية القانونية ورقابة عمل السلطات العمومية في مجتمع تسوده الشرعية ويتحقق فيه تفتح الإنسان بكل أبعاده).
وجاء في المادة 182 من دستور 1996 انه "يصدر رئيس الجمهورية نص التعديل الدستوري الذي أقره الشعب، وينفذ كقانون أساسي للجمهورية".
وترتيبا على ما سبق فإن الدستور هو السيد، وبالتالي تتموضع القواعد الواردة فيه في قمة الهرم القانوني للدولة، وهو ما يقود إلى نتيجة أساسية مفادها خضوع كل القواعد القانونية في الدولة للقواعد الدستورية، سواء من حيث الشكل أو من حيث الموضوع. وهذا السمو تم الاعتراف به وتكريسه من طرف القضاء المقارن في مختلف الدول، فمما قررته محكمة التمييز اللبنانية "وبما أن الدستور الذي هو النظام الأساسي للبلاد ينطوي تحت مفهوم القانون العام لا القانون الخاص ويتعلق بالنظام العام بحيث يجب مراعاته دوما تحت طائلة البطلان كما لا يجوز مخالفة أحكامه حتى من طريق القوانين العادية إذا كانت غير دستورية" ( ) وكذلك المحكمة الإدراية العليا –السورية التي قررت أنه نظرا "لما يتميز به الدستور من طبيعة خاصة تضفي عليه صفة القانون الأعلى وتسمه بالسيادة، فهو بهذه المثابة سيد القوانين جميعها بحسبانه كفيل الحريات وموئلها ومناط الحياة الدستورية ونظام عقدها..." ( ) وهو ما كرسه أيضا القضاء في مختلف الدول، ورغم انه لا يوجد حكم أو قرار قضائي يكشف حقيقة موقف القضاء الجزائري من هذه المسألة لكن لا يسعه إلا أن يفعل ما سبقه إليه القضاء المقارن من اعتراف بسمو القواعد الدستورية وتكريس نتائجه.
الفرع الثاني
القـواعـد الاتفاقـيـة الدولـية
لقد أخذت المعاهدة مبكرا مكانا مميزا في النظم الداخلية كأحد مصادر المشروعية فكان لها ذات قوة القانون بل سمت عليها حسب بعضها الآخر، و الحقيقة أن الدساتير لم تفعل أكثر من تقنين فكر القضاء و رؤيته لوضع المعاهدة في النظام القانوني الداخلي فقبل المشرع الدستوري كرس القضاء أن "المعاهدة ليست عقدا خاصا و لا قانونا و لكنها تتميز بقوة القانون" إذ جاء في حكم محكمة النقض الفرنسية الدائرة المدنية المؤرخ في 24/06 /1839 ( ) :
« les traites passes entre les nations ne sont pas de simple actes administratifs et d’exécution… ils ont le caractère de loi »
و هو ما تم تكريسه في دساتير العديد من الدول، إذ اعترفت للمعاهدات الدولية بقوة القانون أو جعلتها أسمى منه، و بالتالي أدرجتها ضمن مصادر و عناصر المشروعية. و في نفس الاتجاه قرر الدستور الجزائري هذا المبدأ إذ نصت المادة 132 من دستور 1996 على أن : "المعاهدات التي يصادق عليها رئيس الجمهورية حسب الشروط المنصوص عليها في الدستور تسمو على القانون".
و تبعا لذلك يتوجب تحديد مضمون القواعد الاتفاقية الدولية (أولا) و مرتبتها بين القواعد القانونية الأخرى طبقا لمبدأ تدرج القواعد القانونية (ثانيا).
أولا: مدلول القواعد الاتفاقية الدولية:
طبقا لنص المادة 132 من الدستور، فإن هذا الأخير لم يعترف بالقانون الدولي بمختلف مصادره، إذ لم ينص إلا على المعاهدات الدولية، و أهمل باقي المصادر كالعرف الدولي و القضاء الدولي، وعلى ذلك فلا يمكن إدماج قواعد القانون الدولي ماعدا القواعد الواردة في المعاهدات ضمن القانون الداخلي الجزائري، على أن الدستور وضع شروطا حتى تجاور القواعد الاتفاقية الدولية عناصر النظام القانوني الداخلي كمصدر للمشروعية فيه،و هو ما يفرض التعرض لمفهوم المعاهدة الدولية (I) و الإجراءات اللازمة لإدراجها ضمن النظام القانوني الجزائري (II).
I- مفهوم المعاهدة الدولية( ): عرفت اتفاقية فيينا للمعاهدات المبرمة سنة 1969 في مادتها الثانية في فقرتها الأولى المعاهدة بكونها :"اتفاق دولي يعقد بين دولتين أو أكثر كتابتا و يخضع للقانون الدولي سوءا تم في وثيقة واحدة أو أكثر و أيا كانت التسمية التي تطلق عليها" و أضافت الفقرة الثانية لنفس المادة أن:" التعريفات الواردة بالفقرة الأولى لا تخل بأي تعريفات أو معاني أخرى تعطى لها في القانون الداخلي لأي دولة". فهل هناك تعريف خاص في القانون الجزائري للمعاهدات؟ و هل تندرج ضمن المعاهدات المقصودة في المادة 132 من الدستور المعاهدات المعقودة مع المنظمات الدولية؟ إن القانون الجزائري اعترف بالمفهوم الدولي للمعاهدات لكونه اعترف بها دون أن يقدم لها تعريفا خاصا به، و هو ما يفرض الاستناد إلى التعريف سالف الذكر، على أنه يجب أن يوسع مفهوم المعاهدة ليشمل أيضا الاتفاقيات المبرمة مع المنظمات الدولية باعتبارها أشخاصا دولية، و هو ما كرسته اتفاقية فيينا لسنة 1986 التي تتعلق بالاتفاقيات المبرمة بين غير الدول.
و على ذلك فيشترط لنكون بصدد معاهدة دولية أن تكـون مبـرمة بين أشخاص القانون الدولي دولا و منظمات دولية، فيندرج فيها الاتفـاقيات المعقودة بين الجـزائر و الاتحاد الأوربي، أو بين الجزائر و منظمة التجارة العالمية، باعتبار كلا من الاتحاد الأوربي و منظمة الغات أشخاصا دولية.
II-إدراج المعاهدة في القانون الداخلي: رغم التكريس الدستوري للمعاهدات باعتبارها أسمى من القانون فإن المشرع الدستوري لم يعتبرها قانونا و ذلك بالنظر بخصوصية وضعها و أدوات إنشائها المختلفة عن تلك التي تنشيء القانون، و تبعا لذلك اشترط الدستور إجراءات تدخل بها المعاهدة في النظام الداخلي إعلانا بأن قدومها هو بإذن السيادة الوطنية و ليس مفروضا مباشرة للقواعد الدولية( )، فما هي هذه الإجراءات؟
طبقا للمادة 132 سالفة الذكر، يجب أن تكون المعاهدة -حتى تسمو على القانون- محل تصديق من طرف رئيس الجمهورية (1) و أضاف المجلس الدستوري الجزائري ضرورة نشر المعاهدة لتصبح جزء من التنظيم القانوني الوطني (2).
1-اتخاذ مرسوم التصديق على المعاهدة الدولية: لقد فرض الدستور على رئيس الجمهورية احترام الإجراءات السابقة على إصدار مرسوم التصديق، وذلك قصد توزيع الاختصاص بين رئيس الجمهورية والبرلمان في مجال المصادقة عل المعاهدات الدولية، وفي ذلك دلالة عن تطبيق مبدأ فصل السلطات بمعناه المرن، لوجود تعاون بين السلطات في مجال المعاهدات الدولية، على أنه يجب التمييز بالنسبة لهذه الإجراءات بين حالتين:
الحالة الأولى: و تتعلق بالمعاهدات المنصوص عليها بالمادة 131 من الدستور، ففي هذه الحالة بعد أن يوقع رئيس الجمهورية على هذه المعاهدات يتوجب عليه عرضها على البرلمان بغرفتيه، و يشترط أن تصدر منه موافقة صريحة عليها، و معنى ذلك أنه يجب على رئيس الجمهورية قبل إصدار مرسوم المصادقة أن يحصل على قانون الموافقة من البرلمان، و بالنسبة لاتفاقيات السلم و الهدنة فيجب قبل عرضها على البرلمان أن يخطر المجلس الدستوري، للفصل في مدى دستوريتها طبقا لنص المادة 97 من الدستور.
الحالة الثانية: و يتعلق الأمر بالمعاهدات الأخرى و التي يمكن لرئيس الجمهورية المصادقة عليها دون اتخاذ الإجراءات سالفة الذكر.
2-نشر المعاهدة المصادق عليها: لم يشر الدستور إلى إجراء النشر كشرط لسمو المعاهدة على القانون، وهو ما يثير التساؤل عن مدى إلزامية شرط النشر لنفاد المعاهدة واندراجها ضمن القانون الوطني الجزائري؟
بالرجوع إلى المرسوم المؤرخ في 10/11/1990 الذي يحدد صلاحيات وزير الخارجية، نجد أن المادة 10 منه تنص على أنه: " يسعى وزير الخارجية إلى المصادقة على الاتفاقيات والاتفاقات والبروتوكولات واللوائح الدولية التي توقع عليها الجزائر أو التي تلتزم بها كما يسعى إلى نشرها" فهذا النص جعل وزير الخارجية يسعى لنشر المعاهدات، وهو المصطلح الذي يثير مشاكل تتعلق بطبيعة الالتزام الملقى على عاتق وزير الخارجية في هذا المجال، والملاحظ أن صياغة المادة توحي بأن الأمر لا يرقى إلى درجة الالتزام وإنمـا هو مجرد اختيار لا أكثر، خصوصا مع وجود فقرة "لا يشمل النشر كل المعاهدات التي أبرمتها الجزائر" كمـا أن مصطـلح (يسعى) لا يفـيد الإلزامية أو الجبر( ). ولكن المجلس الدستوري تدخل من خلال قراره المؤرخ في 20 أوت 1990 ( ) أي قبل صدور المرسوم المشار إليه أعلاه ليصرح: "ونظرا لكون أية اتفاقية بعد المصادقة عليها ونشرها تندرج في القانون الوطني وتكتسب حسب المادة 123 من الدستور – لسنة 1989 المقابلة للمادة 132 من دستور 1996- سلطة السمو على القوانين ويمكن كل مواطن جزائري أن يتذرع بها أمام الجهات القضائية" فنص على وجوب نشر المعاهدة المصادق عليها كشرط أولي لاندراجها ضمن القانون الجزائري، وعلى ذلك فالمعاهدة لا تكتسب طابعها الإلزامي على الواجهة الداخلية ولا تطمح إلى التطبيق إلا بعد نشرها، ولكن في الميدان توجد عدة حالات تثير إشكاليات عدة، إذ وجد إما مرسوم التصديق فقط أو مرسوم النشر فقط دون نص المعاهدة في الجريدة الرسمية، وستكون النتيجة لو أعملنا الحل الذي ارتآه المجلس الدستوري هي استبعاد المعاهدة عن التطبيق ومنع الأفراد من الاستناد عليها للمطالبة بحقوقهم رغم علمهم بإبرامها من طرف الجـزائر. ونظرا لخطورة هذه التنيجة، يتوجب التمييز بين وضعين:
الوضع 01: عدم ظهور مرسوم التصديق ومرسوم النشر ونص المعاهدة في الجريدة الرسمية:
في هذه الحالة لا يمكن إطلاقا للمتقاضي – رغم علمه بها- الاعتماد على المعاهدة أمام جهات القضاء وذلك لعدم توفر المعاهدة على كل الشروط التي تسمح بإدراجها ضمن القانون الجزائري .
الوضع 02: ظهور مرسوم النشر في الجريدة الرسمية دون نشر نص المعاهدة :
هنا نميز بين حالات:
الحالة 1: ظهور مرسوم التصديق فقـط في الجريدة الرسمية: فمعناه أن الشرط الخاص بالنشر لم يتم، وهو ما يثير التساؤل عن مدى نفاذ المعاهدة، ومن حيث المبدأ لا يمكن الاعتداد بالمعاهدة أمام القضاء الوطني ، إلا أن المحكمة العليا في غرفتها الجزائية في قرارها المؤرخ في 14/02/1967 ( ) اعتمدت على المعاهدة للفصل في المنازعة المعروضة أمامها، ولم تبد اهتماما لشرط نشر المعاهدة. وفي نفس الإطار فإن نفس الغرفة أصدرت قرارا لها بتاريخ 22/02/2000 ( )كرست فيه موقفها السابق، فهي اعتمدت على معاهدة دولية دون إشارة إلى شرط النشر من أساسه وهو ما يفهم منه أنه الغرفة الجزائية للمحكمة العليا ترى كفاية شرط التصديق لاندراج المعاهدة في القانون الجزائري ونفاذها .
الحالة 02: حالة ظهور مرسوم النشر فقط في الجريدة الرسمية دون نص المعاهدة: وهذا يثبت على ألأقل أن إجراءات إدراج المعاهدة ضمن القانون الداخلي قد تمت فعلا، وأن عدم نشر نص المعاهدة لا يمكن أن يمنع الاستناد إليها أمام القضاء، ويملك القاضي هنا السلطة لتأجيل البت في المنازعة، وطلب إظهار نص المعاهدة من وزير الشؤون الخارجية .
والتحليل السابق يكشف عن إشكالية حقيقية فيما يتعلق بالنشر، ويتوجب على المشرع التدخل للنص صراحة على إلزامية النشر، كما هو حال الأنظمة المقارنة.( )
وللملاحظة فإن الغرفة المدنية للمحكمة العليا خلافا للغرفة الجزائية درجت على الإشارة الصريحة لنشر نص المعاهدة في الجريدة الرسمية، ومن ذلك القرار المؤرخ في 05/09/2001 ( ) الذي جاء فيه:
"وبناء على المرسوم الرئاسي رقم 89/67 المؤرخ في 16 ماي 1989 المتعلق بانضمام الجزائر إلى الاتفاقية المنوه إليها أعلاه .
وبعد الإطلاع على أحكام المادة 11من الاتفاقية المذكورة أعلاه والمنشورة بالجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية عدد 11 المؤرخ في 26/02 سنة 1997 ..."
وهو ما أكدت عليه في قرارها المؤرخ في 11/12/2002 ( ) .
ومهما يكن فبعد اتخاذ إجراءات إدراج المعاهدة في التنظيم القانوني الوطني تصبح مصدرا من مصادر القانون، باعتبار أن القواعد التي تتضمنها المعاهدة هي قواعد قانونية ملزمة بذاتها، وهو ما يفرض التساؤل عن مكانتها بين القواعد القانونية الأخرى طبقا لمبدأ تدرج القواعد القانونية؟
ثانيا: مرتبة القواعـد الاتفاقية الدوليـة:
لم تترك المادة 132 من دستور 1996 مجالا للتردد حول مكانة القواعد الاتفاقية الدولية ، بنصها على مبدأ "سمو المعاهدات الدولية المصادق عليها وفق الشروط الدستورية على القانون" و هو المعنى الذي أكده المجلس الدستوري في قراره سالف الذكر، إذ قرر أنه: "ونظرا لكون أية اتفاقية بعد المصادقة عليها و نشرها تندرج في القانون الوطني و تكتسب حسب المنادة 123 من الدستور-لسنة 1989 المقابلة للمادة 132 من دستور 1996 –سلطة السمو على القوانين".
ونفـس الشيء فعلـه القضاء الجـزائري، إذ كرست المحكمة العليـا بغـرفتيها المدنية و الجـزائية – طبقا للقرارات المذكورة سلفا- مبدأ سمو المعـاهدة على القـانون باستبعـادها القانون المخالف لها، و الفصل في النزاع طبقا لما قررته المعاهدة، و معنى ذلك أن المعاهدة باستيفاء الإجراءات التي سبق ذكرها، تصبح مصدرا للمشروعية و الحقوق، و تـكون قواعـدها أسـمى من القواعد التشريعية و اللائحية، و لكنها أقل درجة من الدستور إذ لا يجوز لها مخالفته، و دليل ذلك هو خضوعها للرقابة على دستوريتها.( ) غير أن المجلس الدستوري في قراره السابق الإشارة إليه، قام بمراقبة دستورية قانون الانتخابات لسنة 1989 ليس فقط بالنظر إلى الدستور، وإنما أيضا على ضوء المعاهدات الدولية التي أبرمتها الجزائر، و هي خطوة جريئة و مفاجئة في نفس الوقت، إذ خرج المجلس الدستوري عن دوره في مراقبة مدى دستورية المعاهدات والقوانين والتنظيمات، و ابتدع دورا جديدا يتمثل في مراقبة مدى مطابقة القوانين للمعاهدات، و قد اعتمد المجلس الدستوري على المادة 123 من دستور 1989 المقابلة للمادة 132 من دستور 1996 ليجعل المعاهدة نصا مرجعيا، و يقحمها فيما أسماه الفقه (الكتلة الدستورية) وبالتالي أصبحت هذه الأخيرة في نظر المجلس الدستوري تتكون من الدستور والمعاهدات التي صادقت عليها الجزائر.( )
و لكن هذا ليس معناه إعادة النظر في سمو الدستور، لكون المجلس الدستوري بموقفه ذلك لم يغير الترتيب المنصوص عليه في المادة 132 من الدستور، وإنما ابتدع تبريرا لبسط رقابته على مدى مطابقة القانون للمعاهدات الدولية، فمادام هو يختص بمراقبة الدستورية، فإنه يجب عليه للتمسك باختصاص المطابقة بين القانون و المعاهدات أن يمنح الصفة الدستورية لهذه الأخيرة.( )
الفرع الثالث
القـواعـد التشـريعيـة
طبقا لمبدأ الفصل بين السلطات الذي يمثل إحدى ضمانات وعناصر دولة القانون، فإن السلطة التشريعية تتولى بحكم تخصصها الدستوري بسن القواعد القانونية العامة، التي يتم بها رسم الخطوط العامة للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الدولة، وتخصص الهيئة التشريعية في وضع القوانين – القواعد التشريعية- أمر طبيعي اقتضاه مبدأ السيادة الشعبية، باعتبار أن هذه الهيئة تضم ممثلين للإرادة الشعبية صاحبة السيادة في الدولة الديمقراطية.( ) وهكذا، فإن القاعدة القانونية التي تقررها الهيئة التشريعية، على مقتضى الإجراءات الدستورية المقررة لذلك، تأخذ مكانها إلى جانب القواعد الدستـورية في سلم تدرج القواعد القـانونية في الدولة، وتقـوم مصـدرا ثانيا للمشروعية فيها، ولأجل ذلك من الضروري تحديد مدلول القواعد التشريعية (أولا) ومرتبتها بين القواعد القانونية طبقا لمبدأ تدرج القواعد القانونية (ثانيا).
أولا: مدلـول القـواعـد التشـريعية:
يقصد بالقواعد التشريعية: القوانين التي تسنها السلطة التشريعية في الدولة( )، أي البرلمان بغرفتيه المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة هذا من حيث الأصل، ورئيس الجمهورية في إطار التشريع بأوامر( )، وترتيبا على ذلك فإن تحديد مدلول القواعد التشريعية يفرض دراسة مجال القواعد التشريعية (I) ودرجاتها (II ) .
-Iمجال القواعد التشريعية: يتوجب على السلطة التشريعية وهي تسن القواعد القانونية، أن تقررها على مقتضى أحكام الدستور، فإذا تجاوزت فيما تسنه من قوانين حدود المبادئ الدستورية المقررة في الدولة، عد ذلك انحرافا منها في أدائها لوظيفتها، واعتبر تشريعها غير دستوري، ومن القيود الدستورية على سلطة التشريع ،التحديد الحصري لمجال التشريع، وذلك كما يلي:
1- تحديد المسائل التي يشرع فيها البرلمان: وهي المسائل الواردة في المادتين : 122 و123 من دستور 1996، وما خرج عن هذه المسائل يخرج عن مجال التشريع، ويندرج ضمن مجال التنظيم، إذ تنص المادة 125 من دستور 1996 على انه: "يمارس رئيس الجمهورية السلطة التنظيمية في المسائل غير المخصصة للقانون".
2- اقتصار دور البرلمان على وضع المبادئ أو القواعد العامة ) بالرجوع للنص الدستوري نجد أنه ألزم السلطة التشريعية بسن القواعد القانونية بطريقتين:
الأولى: وضع القانون بقواعده العامة والتفصيلية، كمثل مسألة القواعد المتعلقة بالتنظيم القضائي وإنشاء الهيئات القضائية، وقواعد قانون العقوبات، والإجراءات الجزئية، والنظام الجمركي ..الخ.
والطريقة الثانية: وضع المبادئ العامة أو القواعد الأساسية فقط، ويترك المجال للسلطة التنفيذية لتكملها بمقتضى سلطتها التنظيمية، ومنها القواعد العامة المتعلقة بالبيئة وإطار المعيشة والتهيئة العمرانية، ففي هذا النوع الأخير نلاحظ أن الدستور ضيق مجال القواعد التشريعية، لصالح القواعد التنظيمية.
3- اقتصار دور البرلمان على التنظيم دون المنع: لقد كرس المؤسس الدستوري حقوقا وحريات للإنسان والمواطن، بحيث لا يمكن للسلطة التشريعية المساس بها، فلا تملك إلا سلطة تنظيمها دون تجاوز دلك إلى منعها، لكون المنع من اختصاص المؤسس الدستوري، ومثال ذلك ما تنص عليه المادة 32 من دستور 1996: "الحريات الأساسية وحقوق الإنسان والموطن مضمونة" فلا يجوز المساس بها بالمنع وإنما يجوز تنظيمها، والمادة 36 من نفس الدستور: "لا مساس بحرمة حرية المعتقد وحرمة حرية الرأي" وغير ذلك من الحقوق والحريات.
II- درجات القواعد التـشريعـية: يختص بسن القواعد التشريعية البرلمان بغرفتيه، وذلك بموجب قوانين عادية أو قوانين عضوية، كما يجوز لرئيس الجمهورية استثناء وضع هذه القواعد بموجب أوامر، فنكون أمام ثلاثة أنواع من القواعد التشريعية يتوجب تحديد مرتبة كل نوع منها في التدرج القانوني.
إن المعيار الشكلي هو المعتمد في ذلك، وهو يجعل القانون بنوعيه العضوي والعادي أسمى من الأوامر التشريعية، بحكم أنها صادرة عن السلطة المختصة أصلا بالتشريع، فتكون أسمى من القواعد الموضوعة من طرف جهة أخرى بحكم الاستثناء لا الوضع الطبيعي، وتكون للقوانين العضوية سموا على القوانين العادية نظرا للإجراءات الخاصة بالتصويت عليها وبالرقابة عليها قياسيا بالإجراءات المعتمدة بشأن القوانين العادية، وعلى ذلك فالقوانين العضوية أسمى من القوانين العادية، وهي بدورها تسمو على الأوامر التشريعية :
1-القانون العضوي: وهذا النوع ابتدعه دستور 1996وميزه عن القانون العادي في موضوعاته وإجراءاته،( ) فالموضوعات التي تندرج ضمن القانون العضوي تتعلق بمسائل تقترب من المسائل الدستورية، كالحريات وتنظيم السلطات العامة، وهو ما دفع بالبعض للقول بكون القوانين العضوية تحتل مكانة وسط بين ما هو أساسي (الدستور) وعادي من القوانين، والإجراءات الخاصة بها تختلف عن الإجراءات الخاصة بالقوانين العادية، إذ تتم الموافقة عليها بالأغلبية المطلقة من طرف غرفتي البرلمان، وتخضع للرقابة الإلزامية لمدى مطابقتها للدستور قبل صدورها، خلافا للقوانين العادية التي تخضع للرقابة الاختيارية على دستوريتها.
2-القانون العادي: ويتحدد مجاله حصرا بالمسائل المذكورة بالمادة 122 من دستور 1996، ويوافق عليها البرلمان بالإجراءات العادية ،أي الأغلبية البسيطة، ولا تخضع لرقابة المطابقة الإلزامية، بل تخضع لرقابة الدستورية، والتي قدي تكون سابقة أولا حقه، ورقابة الدستورية محددة المسائل فيما رقابة المطابقة شاملة، وهي رقابة اختيارية.( )
3- الأوامر التشريعية: أجـاز دستور 1996 لرئيس الجمهورية التشريع عن طـريق أوامر رئاسية،( ) أثناء غيبة البرلمان، أو في الظروف الاستثنائية، واشترط عليه أن يعرض هذه الأوامر على البرلمان في أول دوره له، للموافقة عليها بالنسبة للأوامر الصادرة أثناء غيبة البرلمان، أي بين دورتيه أو أثناء شغوره، ولم يشترط ذلك بالنسبة للأوامر المتخذة في الظروف الاستثنائية، أو الأوامر التشريعية المتعلقة بقانون المالية، ونظرا لهذا التمييز يرى بعض الفقهاء أن الأوامر المتخذة أثناء غيبة البرلمان تبقى مجرد أعمال تنظيمية إدارية، والموافقة البرلمانية عليها هي التي تضفي عليها الطابع التشريعي، وخلافا لذلك يرى اتجاه آخر في الفقه، أن هذه الأوامر لها قيمة القانون ولو لم تعرض على موافقة البرلمان، فبمجرد صدورها ونشرها تصبح نافذة باعتبارها قوانين، إذ تصدر في المجال المخصص للتشريع، وأما الأوامر الصادرة في الظروف الاستثنائية، أو المتعلقة بقانون المالية، فلا جدال في كونها قوانين بمجرد صدورها ونشرها إذ لا تعرض على الموافقة البرلمانية.
ثانيا: مرتبة القواعـد التـشريعـية:
يرى اتجاه في الفقه أن القواعد التشريعية تمتـاز بالسيادة والسمو( )، لصدورها عن السلطة التشريعية، أي عن ممثلي الشعب، وبالتالي فلا يوجد ما يميز الدستور عن القانون الصادر عن البرلمان في المرتبة، أو في القوة، إذ لكل منهما صفة القاعدة القانونية الملزمة، ولكن من الناحية العملية تعتبر السيادة للقانون، مادام أنه صدر وفقا للإجراءات القـانونية عندما يتضمن أحكـاما تعـارض الدستور، بحيث ليس هناك من وسيلة لإزالة هذا التعارض. ولكن هذا الطرح منتقد فقها وقضاء وقانونا، ذلك أن سمو الدستور مبدأ مسلم به في مختلف الأنظمة القانونية، ويستتبع ذلك أن القانون يأتي في المرتبة التالية بعد الدستور، ولا يعتبر منتجا لآثاره إلا إذا جاء موافقا للدستور شكلا وموضوعا، ويترتب على ذلك أيضا أن تكون القـواعد الاتفـاقية الدولية أسمى من القـواعد التشريعية، وذلك إعمالا للنص الدستوري الذي كرس سمو المعاهدات المصادق عليها على القانون.
والخلاصة أن القواعد التشريعية الصادرة عن البرلمان تترتب بعد القواعد الدستورية والقواعد الاتفاقية الدولية، طبقا لمبدأ سمو الدستور ومبدأ سمو المعاهدات على القانون، فيما تأتي تلك القواعد قبل القواعد اللائحية، طبقا لمبدأ المشروعية الذي يجعل القواعد التشريعية ملزمة للسلطة التنفيذية .
الفرع الرابع
القـواعـد اللائحيــة
تعتبر اللوائح عنصرا من عناصر المشروعية، باعتبارها أحد مصادر القواعد القانونية في نظامنا القانوني، وفقا للدستور الذي يعترف بحق السلطة التنفيذية في وضعها، وبالتالي فإن القواعد اللائحية تعتبر قواعد قانونية واجبة التطبيق، وتندرج ضمن النظام القانوني للدولة، وهو ما يفرض التساؤل عن مدلول القواعد اللائحية (أولا) ومرتبتها بين القواعد القانونية طبقا لمبدأ تدرج القوانين (ثانيا).


أولا: مدلول القواعـد اللائحيـة:
يقصد بالقواعد اللائحية( ) تلك القواعد التي تجد مصدرها في النصوص الصادرة عن السلطة التنفيذية، في شكل مراسيم أو قرارات أو تعليمات أو منشورات أو مقررات، ويسميها الفقه (اللوائح) باعتبارها قرارات إدارية تتضمن قواعد عامة ومجردة وغير شخصية، تصدرها السلطة التنفيذية باعتبارها تمارس السلطة العامة، ولذلك فإن اللوائح تعد عملا تشريعيا، لكون القواعد القانونية التي تتضمنها هي قواعد عامة مجردة شأنها في ذلك شأن أي قاعدة قانونية أخرى، وهو ما يجعلها أحد عناصر البناء القانوني في الدولة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن اللوائح تعد عملا إداريا طبقا للمعيار العضوي المعتمد فقها وقضاء( ). وعلى ذلك فالقرارات الفردية والأعمال المادية للإدارة تخرج عن مضمون اللوائح التي تمثل قواعد عامة مجردة و ملزمة لجميع الأشخاص المخاطبين بها( )، تماما مثل القواعد التشريعية، وتوجد ثلاثة أنواع للوائح، فهناك اللوائح التنظيمية (I) وهناك اللوائح التنفيذية (II) ولوائح الضبط (III).
Iـ اللوائح التنظيمية: مكن المؤسس الدستوري رئيس الجمهورية من الإنفراد بمباشرة الاختصاص التنظيمي، وهو ما جاءت به المادة 125/1 من دستور 1996، والتي تقرر أنه: "يمارس رئيس الجمهورية السلطة التنظيمية في المسائل غير المخصصة للقانون"، فالسلطة التنظيمية الممنوحة لرئيس الجمهورية لها صبغة تشريعية و اختلفت عن السلطة التشريعية التي يملكها استثناء، و يباشر ها بمقتضى أوامر تشريعية، إذ تندرج هذه الأخيرة في إطار المجال المخصص للبرلمان، فيما يخرج اختصاصه التنظيمي عن ذلك المجال و يباشـره رئيس الجمهورية معتمدا على السند الـدستوري وحده، وهو ما يجعل ما يصدره رئيس الجمهورية في هـذا الإطـار ليس في وسع البرلمان تعديله أو إلغاءه، لعدم اندراجه في مجال القانون المخصص للبرلمان.
II-اللوائـح التنـفيـذية: إن المادة 125/2 من دستور 1996 منحت لرئيس الحكومة السلطة للتدخل في الإنتاج التشريعي للبرلمان باعتباره الواقف على تنفيذ القوانين طبقا للمـادة 85 من دستور 1996، ولذلك فرئيس الحكومة يختص بإصدار مراسيم تنفيذية لكي يحدد بمقتضاها الشروط والضوابط لتطبيق القوانين الواردة في صياغة غير قابلة للتنفيذ، فيتطلب إكمالها بمراسيم أو قرارات إدارية، وعلى ذلك فاللوائح التنفيذية هي تلك اللوائح التي تتضمن الأحكام التفصيلية أو التكميلية اللازمة لتيسير تنفيذ القوانين ( )، وهي بهذا المعنى اختصاص طبيعي للسلطة التنفيذية بحكم وظيفتها المتمثلة في تطبيق وتنفيذ القانون .
III– لوائح الضبـط الإداري: ويقصد بها تلك اللوائح التي تصدرها السلطة التنفيذية بقصد المحافظة على النظام العام بعناصره المختلفة، فهي قواعد قانونية تضعها السلطة التنفيذية للمحافظة على الأمن العام والسكنية العامة والصحة العامة والآداب العامة، دون أن تستند في ذلك إلى قانون فتجئ لتنفيذه بل هي لوائح مستقلة( )،غرضها صيانة النظام العام كلوائح تنظم المرور، ومراقبة الأغذية، وغيرها، وتصدر هذه اللوائح من رئيس الجمهورية أو رئيس الحكـومة أو من الـوزراء أو المديرين أو الولاة أو رؤساء البلديات كل في مجال اختصاصه.
ثانيا: مرتبـة القـواعـد اللائحيـة:
إن اللوائح احد عناصر المشروعية، مما يوجب إدراجها في التنظيم القانوني للدولة، كما تمثل من زاوية أخرى أعمالا إدارية تخضع لمبدأ المشروعية وحدوده وقيوده، وخصوصا ما يترتب على تدرج القواعد القانونية من نتائج، سواء صدرت هذه اللوائح في الظروف العادية (I) أم في الظروف الاستثنائية (II).
I – مرتبة اللوائح في الظروف العادية: رغم اتصاف القواعد اللائحية بميزات القاعدة القانونية، إلا أنها تعد وفقا للمعيار العضوي أعمالا إدارية، فلا تتساوى مع القواعد التشريعية، فهذه الأخيرة أقوى منها، لكونها تسري على السلطات الإدارية ذاتها طبقا لمبدأ المشروعية في الظروف العادية، التي تقتضي خضوع السلطة اللائحية للقواعد القانونية الأسمى منها، سواء كانت دستورية أو اتفـاقية دولية أو تشريعية، وهذا الطرح مسلم به في الفقه والقضاء، إلا بالنسبة للوائح التنظيمية الصادرة عن رئيس الجمهورية، فإن البعض حاول وضعها في نفس المرتبة الإلزامية مع القواعد التشريعية الصادرة عن البرلمان، لكون تلك اللوائح مستقلة عن القانون، ولا يمكن للبرلمان وضع قواعد في المجال المخصص لها ولا تعديلها ولا إلغاءها، لكنه طرح منتقد، إذ لا علاقة بين استقلالية رئيس الجمهورية في وضعها عن القانون وبين مرتبتها الإلزامية، وعلى ذلك فاللوائح الصادرة في الظروف العادية مهما كان نوعها تقع في مرتبة أدنى من القواعد التشريعية ( ).
II-مرتبة اللوائح في الظروف الاستثنائية: يترتب على وقوع الظروف الاستثنائية قيام حالة الضرورة التي تبيح للسلطة التنفيذية أن تتخذ الإجراءات الإستثنائية اللازمة لمواجهة هذه الظروف، ويطلق الفقه عليها (أعمال الضرورة) هذه التي يندرج ضمنها (لوائح الضرورة) تأسيسا على صدورها إبان قيام حالة الضرورة، وتتبلور آثار نظرية الضرورة في ارتفاع القوة القانونية لتدابير الضرورة، بما فيها لوائح الضرورة التي تصبح لها قوة القانون في تدرج القواعد القانونية، ويترتب على ذلك انه يجوز للسلطات الإدارية مخالفة القانون في إصدارها، بل لها إمكانية إلغاء أحكام القانون أو تعديلها لكونها في جوهرها أعمالا تشريعية، وتتمتع بقوة القانون في الظروف الاستثنائية( ).
على انه ليس معنى ذلك أن السلطة التنفيذية تتحرر من كل قيد أثناء الظروف الاستثنائية، بل أخضعها الدستور إلى بعض الضوابط التي لا يمكن الخروج عنها استنادا لهذه الظروف، وتلك الضوابط يسميها الفقه (المشروعية الاستثنائية) التي تصدر في نطاقها اللوائح الاستثنائية( ).
المطلب الثاني
تدرج القواعد القانونية غير المكتوبة
من المستقر عليه في الفقه والقضاء، أن مبدأ المشروعية يعني (سيادة حكم القانون)، وهو في الحقيقة تعريف مناسب تماما لمبدأ المشروعية، خاصة وان المؤسس الدستوري قد اعتنقه في دستور 1996 إذ جاء في ديباجته أن الحكم في الدولة أساسه سمو القانون، ويشمل هذا القانون كافة القواعد القانونية السارية في الدولة أيا كان مصدرها وشكلها، فتندرج فيها القواعد القانونية المكتوبة أي الصادرة عن السلطات العامة المختصة بسن القواعد القانونية، سواء كانت دستورية أو اتفاقية دوليـة أو تشـريعية أو لائحية، كما تندرج فيها قواعد أخرى تم تعريفها بطريقة سلبية بالقول بكونها (غير مكتوبة) أي خلاف تنلك القواعد الموضوعة من طرف السلطات العامة.
ولا شك أن هذه القواعد الأخيرة أي غير المكتوبة، تعتبر قواعد قانونية، سواء بالنسبة لمبادئ الشريعة الإسلامية (الفرع الأول) أو القواعد العرفية (الفرع الثاني) أو مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة (الفرع الثالث) وكذلك المبادئ العامة للقانون (الفرع الرابع) وهذه القواعد القانونية غير المكتوبة ذكرتها المادة 01 من القانون المدني، باستثناء المبادئ العامة للقانون فقد غفلت عنها رغم الاتفاق الفقهي والقضائي بشأنها( ).
الفرع الأول
مبادئ الشريعة الإسلامية
تعددت المواضع التي أشار فيها دستور 1996 على المرجعية الأساسية للشعب الجزائري والمتمثلة في (الإسلام) ففي ديباجته جاء أن: " الإسلام من المكونات الأساسية لهوية الشعب الجزائري" وأن "الجزائر أرض الإسلام " كما قررت المادة 02 منه أن "الإسلام دين الدولة "وحددت المادة 08 منه أن إحدى غايات المؤسسات التي يختارها الشعب هي المحافظة على الهوية بما فيها الإسلام، ومنعت المادة 06 منه هذه المؤسسات من إتيان السلوك المخالف للخلق الإسلامي، ويلتزم رئيس الجمهورية في اليمين التي يؤديها بأن "يحترم الدين الإسلامي ويمجده" وفي المادة 176 منه جاء انه: " لا يمكن لأي تعديل دستوري أن يمس الإسلام باعتباره دين الدولة "واستنادا إلى كل ذلك نصت المادة الأولى من القانون المدني على انه: "وإذا لم يوجد نص تشريعي حكم القاضي بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية" وهي النصوص التي تقرر أن الشريعة الإسلامية مصدرا للقانون الجزائري، وعنصرا من عناصر المشروعية فيه، وهو ما يفرض تحديد مدلول مبادئ الشريعة الإسلامية (أولا) ومرتبتها بين القواعد القانونية الأخرى طبقا لمبدأ تدرج القوانين (ثانيا)
أولا: مدلول مبادئ الشريعة الإسلامية:
لقد اختلفت الآراء حول المقصود من عبارة (مبادئ الشريعة الإسلامية) ( ) المنصوص عليها في المادة 01 من القانون المدني، وخصوصا بالجمع بينها وبين قانون الأسرة التي تحيل إلى (أحكام الشريعة الإسلامية ) وكذلك نصوص الدستور التي ورد بها مصطلحات (الإسلام دين الدولة ) و(الخلق الإسلامي ) فما المقصود بهذه التعبيرات؟
لا شك أن المقصود من الإسلام أو الشـريعة الإسلامية أو الخلق الإسلامي إنما هو الجانب التشريعي أو الأحكام، باعتبارها تتوفر على خصائص القاعدة القانونية، وهو ما يصلح معه إدراجها ضمن مصادر القانون الرسمية، خلافا للجانب الديني البحت والمتعلق بالعقائد والعبادات فلا معنى لإدراجه في نصوص الدستور أو القانون، والمقصود بالمبادئ أي كليات الشريعة التي نصت عليها نصوص الوحي القطعية في الثبوت والدلالة أي القرآن والسنة، وهو ما يخرجها عن دائرة الخلاف، عكس الأحكام الجزئية فتتعدد بشأنها الآراء والمذاهب، وهو ما يجعل الإحالة عليها غير مجدية( ).
وترتيبا على ذلك يتعين القول بكون ما ذهب إليه بعض الفقه من كون المقصود من مبادئ الشريعة الإسلامية كمصدر للقانون، هو القواعد الكلية المشتركة بين مذاهب الفقه المختلفة، هو قول خلط بين الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي، إذ الأول عبارة عن مبادئ عامة مصدرها القرآن والسنة، فيما يمثل الفقه الإسلامي ذلك الاجتهاد التفسيري والتفصيلي لتلك النصوص، فهو مجرد آراء اجتهادية بشرية، فلا يكون لها ذات الإلزام الذي تتصف به الأحكام الواردة في نصوص الوحي، هذا ناهيك عن بطلان الرأي القائل بكون المقصود بها هو آراء الفقهاء أو مذاهب الفقه الإسلامي كلها، إذ المبادئ كليات فيما الآراء والمذاهب جزئيات وتفصيلات.
وعلى ذلك، فلمبادئ الشريعة الإسلامية خصائص القاعدة القانونية، من عمومية وتجريد وغاية اجتماعية تنظيمية وجزاء، فيكون لها القابلية للتنفيذ دونما حاجة إلى تدخل المشرع أو القضاء( ).
ثانيا: مرتبة مبادئ الشريعة الإسلامية:
إن التسليم بالطبيعة القانونية لمبادئ الشريعة الإسلامية، والاعتراف لها بكونها احد عناصر المشروعية، يفرض التساؤل عن مرتبتها بين مصادر القانون الأخرى طبقا لمبدأ تدرج القواعد القانونية؟
الرأي الذي يدافع عنه اتجاه في الفقه وجرى العمل به، هو كون مبادئ الشريعة الإسلامية ليست أكثر من مصدر مادي للتشريع من جهة، ومصدر رسمي احتياطي يلجأ إليه القاضي إذا عازه النص التشريعي من جهة أخرى، غير أن هذا الرأي تعوزه الأسانيد القانونية الكفيلة بالإقناع به ، عكس الرأي الثاني الذي يرى في تلك المبادئ مصدرا رسميا للقانون، وأضفى عليها الطابع الدستوري، مما يجعلها أسمى من القواعد التشريعية واللائحة وكذلك القواعد الاتفاقية الدولية، وهذا الرأي يستند إلى الدلالة الحقيقية للنصوص الدستورية والتشريعية التي تحكم هذه المسألة، فمبادئ الشريعة الإسلامية تعد مصدرا رسميا احتياطيا للقانون حسب اتجاه في الفقه (I) وتعد مبادئ عامة للقانون ذات طبيعة دستورية حسب الاتجاه الآخر (II) .
I -الاتجاه الأول: مبادئ الشريعة الإسلامية مصدرا احتياطيا للقانون: يرى جانب من الفقه أن مبادئ الشريعة الإسلامية تعتبر مصدرا رسميا احتياطيا للقانون يأتي بعد التشريع، وهو ما يفرض على القاضي أن لا يلجأ إليها إلا عندما يعوزه النص التشريعي الذي يفصل به في النزاع، ويستدل على ذلك بأمرين:
الأمر الأول: مدلول المادتين01 من القانون المدني و 222 من قانون الأسرة، فالمادتين تحيلان القاضي إلى مبادئ أو أحكام الشريعة الإسلامية إذا عازه النص التشريعي.
الأمر الثاني: مدلول النصوص الدستورية، فالدستور في ديباجته أو المادة 02 منه وجه المشرع للاقتباس من الإسلام واستلهام أحكامه وهو يسن التشريعات، فلا إلزامية لمبادئ الشريعة الإسلامية لا بالنسبة للمشرع ولا بالنسبة للقاضي، ومعنى ذلك أن النص الدستوري في المادة 02 لا يخاطب القاضي بل المشرع، وبالتالي فلا تأثير لهذا النص الدستوري على مكانه مبادئ الشريعة الإسلامية التي تبقى مصدر احتياطيا للقانون طبقا لنص المادة الأولى من القانون المدني.
ويضيف أصحاب هذا الرأي أن النص الدستوري ليس أكثر من تأكيد لإحدى الحقائق الاجتماعية، وهي أن ديانة الشعب الجزائي هي الإسلام، وبالتالي يرشد ويوجه السلطة التشريعية إلى استلهام أحكام هذه الديانة في تشريعاتها، لا على سبيل الإلزام بل الاختيار.
الاتجاه الثاني: مبادئ الشريعة الإسلامية مبادئ دستورية: يرى طائفة من الفقهاء وعلى رأسهم الأستاذ عبد الرزاق السنهوري وكمال عبد الواحد الجوهري والدكتور سامي جمال الدين وغيرهم كثير، أن النصوص الدستورية تكرس الطابع الدستوري لمبادئ الشريعة الإسلامية( )، وبالتالي فهي مبادئ عامة للقانون بل تأتي على رأس تلك المبادئ، وهو ما يجعلها تـأتي في الترتيـب بعد الدستور، وقبل باقي مصادر القانون الأخرى، ويستند هذا الاتجاه إلى الحجج التالية:
الحجة الأولى: المدلول الحقيقي لنص المادة 02 من دستور 1996، والذي جاء فيه أن: "الإسلام دين الدولة" فهذا النص لا يقصد به الجانب الديني العقيدي باعتباره يشير إلى ديانة الشعب الجزائري، بل هو يشير إلىالنظام التشريعي في الإسلام، باعتباره النظام الملزم لكل السلطات والمؤسسات في الدولة، ومما يؤكد هذا الرأي أن مصطلح الدين في اللغة والمصطلح القرآني لا يقصد منه العقيدة والعبادات، وإنما التشريع والقانون، ويكفي للتدليل على ذلك قوله تعالى: "ومَا كَانَ لِيَأخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ المَلِك " ( )أي في نظامه وقانونه، وقوله تعالى : "الزَانِيَةُ والزَانِي فَاجلِدُوا كُل وَاحد مِنهُمَا مَائة جَلدَة ولاَ تَأخُذْكُم بِهِمَا رَأفَة فِي دِين الله.."( ) ودين الله هنا تشريعه الجنائي بتحريم الزنا والمعاقبة عليه، فصار الدين بمعنى الأحكام أو المبادئ المشكلة لما يطلق عليه الشريعة الإسلامية، وأما العقيدة فيطلق عليها في المصطلح القرآني الإيمان لا الدين، وأن الدولة في المصطلح الدستوري لا يقصد بها الشعب، بل ما تظهر به الدولة بعد تكونها من مظـاهر سياسة أي السلطات الثلاث، ومظـاهر قانونية أي النظام القانوني، فالدولة بهذا المعنى هي تعبير عن نظام أو بناء قانوني ومؤسساتي، وعلى ذلك فالمقصود من المادة 02 من الدستور هو أن النظام التشريعي الإسلامي هو القانون الأعلى،والمشروعية العليا التي تنبثق منها كافة القواعد القانونية في الدولة، فتكون أحكام الشريعة الإسلامية مصدرا رسميا شكليا للقانون، وتأخذ مرتبة المبادئ الدستورية، فلا يعلوها إلا الدستور، بينما تكون أسمى من القواعد الاتفاقية الدولية والتشريعية واللائحية( ) ، ولا شك أن الخطاب موجها لكافة سلطات الدولة، فالمادة 08 من الدستور تلزم المؤسسات العامة بان تجعل إحدى غاياتها المحافظة على الإسلام، باعتباره إحدى مكونات هوية الشعب الجزائري، والمادة 09 منه قررت أنه لا يجوز لهذه المؤسسات أن تقوم بالسلوك المخالف للخلق الإسلامي، والمادة 76 منه تفرض على رئيس الجمهورية في اليمين التي يؤديها أن يلتزم بحماية الدين الإسلامي وتمجيده، وفي نفس الاتجاه ألزمت المادة 178 المؤسس الدستوري أثناء تعديله أحكام الدستور أن لا يمس الإسلام باعتباره دين الدولة، ومعنى ذلك أن الخطاب بنص المادة 02 من دستور 1996 هو خطاب موجه للدولة بكافة مؤسساتها وسلطاتها، بأن تجعل من أحكام الشريعة الإسلامية قانونها الأعلى، وتأكيدا على ذلك يضيف أصحاب هذا الاتجاه أن المادة 02 وردت في باب الأحكام العامة، وهذه الأحكام لا تخاطب المشرع وحده كما يقول أصحاب الاتجاه الأول، بل توجه الخطاب لكافة سلطات الدولة بما فيها القضاء، وخصوصا إذا نظرنا إليها بالموازاة مع النصوص الدستورية سالفة الذكر .
الحجة الثانية: الطبيعة القانونية لنص المادة 02 من دستور1996: إن القول بان النص الدستوري المتمثل في المادة 02 قد ورد على سبيل الإرشاد والتوجيه، وليس الإلزام مردود عليه، لكون نصوص الدستور بطبيعتها لا تحمل هذا المحمل إلا بقرينة، وان المادة 02 وردت في صدر أحكام الدستور، مما يجعلها نصا آمرا لكل السلطات العامة في الدولة، وان هذه المادة وردت في باب المبادئ العامة التي تحكم المجتمع الجزائري ،وهو ما بجعلها تأتي في قمة المبادئ العامة للقانون، والتي يعترف لها الفقه بالطابع الدستوري، ويجعلها من النظام العام، ومعنى ذلك أن النص الدستوري الوارد في المادة الثانية لا يقدم توجيهات بل يفرض التزامات لا سبيل إلى مخالفتها لكونها من النظام العام، وتتمثل هذه الالتزامات في ضرورة الرجوع إلى مبادئ الشريعة الإسلامية عند سن القواعد القانونية أو عند تطبيقها، ومعنى ذلك أن هذه المبادئ أسمى من القواعد القانونية الأخرى بما فيها القواعد الاتفاقية الدولية والقواعد التشريعية، وبالتالي فعلى المشرع أن يرجع إليها عند سنه التشريعات أو الموافقة على الاتفاقيات الدولية، وإذا خالفها عد ذلك مخالفا للدستور.
وبالتأكيد فإن النص الدستوري رتب ذات الالتزام على القاضي مثله مثل المشرع تماما، باعتبار أن مبادئ الشريعة الإسلامية تمتاز بالطابع الدستوري، وبالتالي فإن القاضي وهو يراقب مدى مطابقة النص التشريعي لمبادئ الشـريعة الإسلامية، فإنه يقوم بذلك إعمالا لنص دستوري، فيكون كأنه يطابق بين النص التشريعي والدستور( ).
وخلاصة ما سبق، أن المقصود من مبادئ الشريعة الإسلامية هو الأحكام القطعية الواردة في القرآن والسنة، وليس الأحكام الفقهية التي استنبطها الفقهاء، وان هذه المبادئ تتمتع بميزات وخصائص القاعدة القانونية، وهو ما يجعلها قابلة للنفاذ بذاتها ودونما حاجة إلى تقنينها من طرف المشرع، ذلك أنها أضحت بالنص الدستوري مصدرا رسميا للقانون في الجزائر، باعتبارها من المبادئ العامة للقانون الكامنة والمستقرة في ضمير ووجدان الشعب الجزائري، وأنها بهذه الصفة تتمتع بقوة إلزامية تجعلها تأتي بعد الدستور، وتعلوا باقي القواعد القانونية الأخرى في تدرج القواعد القانونية( ).
الفرع الثاني
القـواعـد العـرفـيـة
اعترف المشرع في المادة الأولى من القانون المدني بالعرف كمصدر للقانون، وكذلك المادة الأولى مكرر من القانون التجاري، كما أحالت عديد المواد الأخرى إلى القـواعد العـرفية، ومنها المادة 387،388،389 من القانون المدني التي أوردت عبارة: "ما لم يوجد اتفاق أو عرف يقضيان بغير ذلك" وبالتالي فقد اعترف المشرع للقواعد العرفية بكونها قواعد قانونية ملزمة بذاتها دوما حاجة إلى تدخل القاضي أو المشرع، وهو ما يفرض تحديد مدلول القواعد العرفية (أولا) ومرتبتها بين القواعد القانونية طبقا لمبدأ تدرج القواعد القانونية(ثانيا)
أولا: مـدلـول القـواعـد العرفـية:
يقصد بالقواعد العرفية تلك القواعد القانونية الناشئة عن سلوك مضطرد للأفراد أو الهيئات بخصوص أمر ما على نحو معين، مع اعتقادهم بان هذا السلوك ملزم لهم، وهذا الاعتقاد هو الذي يمنح العرف طابعه القانوني، وعلى ذلك، فالقواعد العرفية هي قواعد قانونية (I) غير مسنونة (II)
I- القـواعـد العرفيـة قـواعـد قانونيـة: لا شك أن الاعتراف للقواعد العرفية بكونها قواعد قانونية، معناه الاعتراف بأن العرف مصدرا من المصادر الرسمية للقانون، وبالتالي تكون لهذه القواعد العرفية قوة إلزام ذاتية دونما حاجة لتدخل المشرع أو القاضي، ويترتب على الاعتراف بالقواعد العرفية كقواعد قانونية عدة نتائج منها: أن القواعد العرفية ملزمة للأفراد ولو كانوا يجهلونها، وكذلك الشأن بالنسبة للهيئات العامة، والتزام المحكمة بتطبيق القواعد العرفية من تلقاء نفسها ودونما انتظار التمسك بها من احد المتقاضين، ويكون تطبيقها وتفسيرهـا بنفس طريقة تطبيق وتفسير القـواعد القانونية الأخرى، وأن القاضي يخضع لرقابة المحكمة العليا على صحة تطبيق العرف طالما ثبت لدى القاضي وجوده.
II-القواعد العرفية غير مسنونة: إن القواعد العرفية هي قواعد قانونية ملزمة، رغم أنها لم تصدر عن السلطة المختصة في الدولة بالتشريع، بل هي قواعد غير مسنونة استقرت في ضمير المجتمع على أنها ملزمة، فتكون القواعد من إنشاء ضمير المجتمع وليس المشرع.
ثانيا: مـرتبـة القـواعـد العـرفـيـة:
إن الاعتراف للعرف بكونه مصدرا رسميا للقانون، يفرض البحث عن مرتبته الإلزامية بين مصادر القانون الأخرى( )، و هذه المسألة تحكمها المادة الأولى من القانون المدني، والمادة الأولى مكرر من القانون التجاري، إضافة لعديد المواد المدنية والتجارية الأخرى التي تحيل إلى قواعد العرف، وبناء على تلك المواد فإن القواعد العرفية تأتي بعد التشريع ومبادئ الشريعة الإسلامية،فيكون العرف مصدرا رسميا احتياطيا ( )يأتي بعد التشريع ومبادئ الشريعة الإسلامية، ويترتب على ذلك أن القاضي لا يلجأ إلى القواعد العرفية إلا إذا عازه النص التشريعي، ولم يجد مبدأ من مبادئ الشريعة الإسلامية يحكم المسألة(I) على أن أولوية التشريع على العرف إنما تتعلق بالقواعد الآمرة في التشريع لا القواعد المكملة (II).
I- أن القاضي لا يلجأ إلى القواعد العرفية إلا إذا عازه النص التشريعي ولم يجد مبدأ من مبادئ الشريعة الإسلامية يحكم المسألة، ومعنى ذلك أن التشريع ومبادئ الشريعة الإسلامية أسمى من القواعد العرفية .
II- أن أولـوية التشريع على العرف إنما تتعلق بالقـواعد الآمرة في التشريع لا القواعد المكملة أو المفسرة، فتلك القواعد يلاحظ أن المشرع جعل القواعد العرفية مفضلة عليها، لكونها قواعد لا إلزامية لها إلا عند غياب العرف أو الاتفاق، ومن ذلك ما نصت عليه المادة 387 من القانون المدني التي نصت على أنه: "يدفع ثمن البيع في مكان تسليم المبيع مالم يوجد اتفاق أو عرف يقضي بغير ذلك".
الفرع الثالث
القـانــون الطـبـيعي
اعتبر المشرع الجزائري القانون الطبيعي من بين مصادر القانون الرسمية، وذلك ما نصت عليه المادة الأولى من القانون المدني التي نصت على أنه :" فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة " كما نص في عديد المناسبات على قواعد العدالة، ومنها المادة 65 و107 و110 من القانون المدني، ويلتزم رئيس الجمهورية والقضاة في اليمين التي يؤدونها أثناء تنصيبهم بالسعي لتحقيق مبادئ العدالة، وهو ما يفرض تحديد المقصود من القانون الطبيعي(أولا) ومرتبته بين مصادر القانون الأخرى في تدرج القواعد القانونية (ثانيا).
أولا:مدلـول القانـون الطبـيعي:
تحيل المادة الأولى من القانون المدني إلى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، فما هو القانون الطبيعي؟ وما هي قواعد العدالة ؟أهما شيئان مختلفان ؟ أم شيء واحد يدل عليه لفظان ؟
يتفق الفقه( ) على أن لفكـرة القانون الطبيعي جـذورا في المدنيات القديمة، أي لدى اليونان والرومان، وانتقلت منها إلى القانون الكنسي ثم إلى القانون الفرنسي القديم فالحديث، و منه انتقلت إلى القوانين الحديثة، لكن أول ما ظهرت هذه الفكرة كنظرية متميزة على يد القديس توما الإكويني، وفي القوانين الحديثة أبرز الفكرة الفقيه جرو تيوس باعتباره مؤسس القانون الطبيعي الحديث، والذي عرف القانون الطبيعي بقوله: "القاعدة التي يوحي بها العقل القويم والتي بمقتضاها يتعين الحكم بأن عملا معينا ظالم أو عادل لكونه مخالفا أو موافقا للمعقول، وبأن الله منشئ الطبيعة ينهى عنه أو يأمر به.."
وقد بدأت فكرة القانون الطبيعي كنظام قانوني متكامل ينظم جميع علاقات الناس في مختلف البلاد والعصور، نظاما موجودا في الطبيعة ويصل إليه الإنسان من طريق العقل، ويشمل أمرين:
الأول: هو المبادئ الأساسية قليلة العدد، والتي تشكل ما يسمى لدى الفقه القانون الطبيعي المبدئي، الثاني: هو مجموعة كاملة من القواعد التفصيلية التي يتكون منها ذلك النظام القانوني الأزلي.
ومعنى ذلك أن عبارة القانون الطبيعي تدل على معنيين :
المعنى الأول: المبادئ الأساسية قليلة العدد، والتي يطلق عليها الفقه القانون الطبيعي المبدئي.
المعنى الثاني: القواعد التفصيلية المتفرعة عنها لتحقيق العدالة في الحالات الخاصة، ويتضمنها ما يسميه الفقه القانون الطبيعي التطبيقي أو الثانوي أو قواعد العدالة.
وهذا الازدواج في المفهوم، هو الذي يفسر لنا الخلاف الفقهي بشأن القانون الطبيعي، ويقف وراء العديد من الانتقادات الموجهة إليه، ويأتي على رأس هذه الانتقادات أنها فكرة فلسفية غامضة.
ويظهر أن المشرع الجزائري بالإحالة الواردة في المادة الأولى من القانون المدني من أنصار القانون الطبيعي، متجاوزا بذلك الجدل الفقهي حوله وما وجه إليه من انتقادات، ولكنه مع ذلك رأى أن يجمع بين الفكرتين، حيث أحال إلى المبادئ القليلة العدد التي لا تتغير، كما قصد بقواعد العدالة الإحالة إلى القواعد التفصيلية التي يستطيع القاضي أن يفرعها على تلك المبادئ الثابتة لتحقيق العدالة في كل حالة على حدة.


ثانيا:مرتبـة القانـون الطبيـعي:
إن المادة الأولى من القانون المدني منحت للقانون الطبيعي –مبادئ وقواعد تفصيلية – مركزا بين المصادر الرسمية للقانون، وجعلته مصدرا رسميا احتياطيا( ) يأتي بعد التشريع ومبادئ الشريعة الإسلامية والقواعد العرفية، لأن القاضي لا يعود إلى القانون الطبيعي إلا حيث لا يجد نصا تشريعيا ولا مبدأ في الشريعة الإسلامية ولا قاعدة عرفية، وذلك معناه، أن المشرع وإن جارى أنصار القانون
الطبيعي واعتبره مصدرا رسميا للقانون، فهو لم يجارهم في المرتبة الممنوحة له في سلم التدرج القانوني، إذ يرى أنصار القانون الطبيعي أن مبادئ القانون الطبيعي تهيمن على النظام القانوني كله وتمثل المثل الأعلى الثابت المشترك بين جميع البشر، تماما مثلها مثل القواعد الدستورية، بل أعلى منها، وعلى النقيض من ذلك هاجم أنصار المذهب التاريخي فكرة القانون الطبيعي، ورأوا أنه من العبث البحث عن قواعد قانونية اعتمادا على افتراضات فلسفية غامضة وفضفاضة، ولذلك دعوا إلى الاستغناء عن فكرة القانون الطبيعي، وتوسطا بين أنصاره ومنتقديه، اعترف المشرع الجزائري أسوة بالمشرع الفرنسي وغيره من التشريعات المقارنة، بمركز المصدر الرسمي الاحتياطي للقانون الطبيعي.
والحقيقة أن عبارة القانون الطبيعي وقواعد العدالة لاترد القاضي إلى ضابط يقيني، وإنما هي تلزمه أن يجتهد رأيه حتى يقطع عليه سبيل النكول عن القضاء، وهي تقتضيه في اجتهاده هذا أن يصدر عن اعتبارات موضوعية عامة لا عن تفكير ذاتي خاص، فتحيله إلى مبادئ وقواعد كلية تنبه تارة إلى القانون الطبيعي وتارة إلى العدالة. وإزاء ذلك آثر المشرع أن يبقي على هذا التعبير، وييسر على القضاء أسباب الاجتهاد، ففي كنف مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة أنشأ القضاء الفرنسي وبعده القضاء المصري و غيرهما نظرية متكاملة للمبادئ العامة للقانون، وهي مصدر آخر للقواعد القانونية في الدولة من إنشاء القضاء، كانت فكرة القانون الطبيعي وقواعد العدالة وراء إنشائها، وهو موضوع الفرع التالي.
الفرع الرابع
المبـادئ العامـة للقانـون
إضافة للقواعد القانونية سالفة الذكر، يذكر الفقه و القضاء نوعا آخر من القواعد القانونية غير المكتوبة أي التي لم تضعها السلطات المختصة بالتشريع في الدولة، و يتعلق الأمر بما يطبق عليه الفقه و القضاء المبادئ العامة للقانون، و إنما تأخر الحديث عنها تماشيا مع النص القانوني الوارد في المادة الأولى من القانون المدني حيث أغفل الإشارة إليها، فاقتضت المنهجية تأخير الحديث عنها إلى ما بعد دراسة القواعد القانونية التي كرسها المشرع، فالمبادئ العامة للقانون إنشاء قضائي محض، و رغم ذلك يتفق الفقه و القضاء على اعتبارها قواعد قانونية ملزمة، فتكون جزء من عناصر المشروعية.
وبالنظر لسكوت المشرع عن هذه المبادئ، وندرة الأحكام القضائية الجزائرية التي تكرسها وتستند عليها في قضائها، فإنه من اللازم تحديد مدلول هذه المبادئ(أولا) ومرتبتها الإلزامية بين مصادر القانون الأخرى طبقا لمبدأ تدرج القواعد القانونية (ثانيا).
أولا: مـدلـول المبـادئ العامـة للـقانـون:
تعرف المبادئ بكونها ( )مجموعة من الوقائع العامة التي تتغير ببطء في مجموعها، ويكون لها جموداًَََ نسبيا عند تطورها مع بقية الوقائع، وتقف المبادئ على حدود القانون حيث تحكمه وترشد القاضي الذي عادة ما يكون باعثا لها، فالمبادئ العامة للقانون هي قواعد غير مشرعة، يستنبطها القضاء من المقومات الأساسية للمجتمع وقواعد التنظيم القانوني في الدولة، ويقررها في أحكامه باعتبارها قواعد قانونية ملزمة، ولذلك عرفت بكونها: " مجموعة من القواعد القانونية الأساسية أو الجوهرية التي تلتزم الإدارة بمراعاتها في قراراتها الفردية وأيضا اللائحية في كل مظاهرها، وتكون لها بالتالي قوة قانونية ولكنها مع ذلك غير مكتوبة فهي لا تستند مباشرة لنص قانوني مكتوب وإنما تجد مصدرها المباشر في القضاء" وعرفها الأستاذ De Laubadére في مؤلفه عن القانون الإداري بقوله:" أن اصطلاح المبادئ العامة يطلق على عدد من المبادئ التي لا تظهر مصاغة في نصوص مكتوبة ولكن يعترف بها القضاء باعتبارها واجبة الاحترام من الإدارة وأن مخالفتها تمثل انتهاكا للمشروعية".
وأشار الأستاذ نفسه قائلا:
« on appelle ainsi un certain nombre de principes qui ne figure pas dans textes...mais que la jurisprudence reconnaît comme devant être respectes par l’administration leur violation constituant une illégalité »( ).
فهو يعتبرها المصدر غير المكتوب الأكثر أهمية لقواعد المشروعية، ومن كل تلك التعريفات السابقة يمكننا استخلاص أن هذه المبادئ أنشأها القضاء (I) ورغم ذلك تعتبر قواعد قانونية ملزمة(II).
I- المبادئ العامة للقانون نظرية قضائية: بمعنى أن الفضل في استخلاصها وتقريرها كقواعد قانونية ملزمة يرجع لمجلس الدّولة الفرنسي من خلال أحكامه، ثمّ صارت تلك المنهجية معتمدة في قضاء عديد الدول كمجلس الدولة المصري، وفي القضاء الجزائري نجد أن مجلس الدولة قد كرسها في عديد قراراته، ومنها القرار المؤرخ في 27/07/1998( )الذي جاء في إحدى حيثياته: "حيث أن القاضي مثله مثل كل موظف للدولة يستفيد وجوبا بحقوق مضمونة دستوريا وأن القاضي الإداري ملزم بمراقبة احترام هذه الضمانات" وهي الحيثية التي تبين أن مجلس الدولة استند إلى مبدأ عام، وهو مبدأ المساواة وفي قرار لاحق مؤرخ في 17/01/2000 أكد مجلس الدولة هذا الاتجاه( ).
II- المبادئ العامة للقانون نظرية مستقلة( ): رغم أن المبـادئ العـامة للقـانون قواعد غير مكتوبة، أنشأها القضاء، إلا أنها قواعد أساسية وجوهرية، بمعنى أنها تكاد تفوق أهميتها الموضوعية أهمية القواعد المكتوبة، فهي حسب مفوض الحكومة Letourneur مبادئ كبرى، ويصفها أيضا مفـوض الحكومة Gentot في تقـريره عن حكم Dame David في 04/10/1974 بـأنها تعبر أو تعكس الأفكار المقبولة من الكافة، والتي تؤسس نظامنا القانوني ( )،ويكفي أن نذكر أمثلة لها ليتبين مدى أهميتها واستقلاليتها كمصدر من مصادر القانون، كمبدأ المساواة أمام القانون و المساواة أمام القضاء ومبدأ احترام حقوق الدفاع ومبدأ الحقـوق المكتسـبة ومبـدأ تدرج القواعد القانونية، فالمبادئ العـامة للقـانون تمثل مجموعة قانونـية متكـاملة يكشفها ويصيغها القضاء اعتمادا على القواعد القـانونية، وأسس نظام الحكم في الدولة ونظمها المختلفة التي تتضمن الخطوط العريضة والاتجاهات العامة، بحيث تكون المبادئ القانونية العامة بمثابة تفسير من جانب القضاء للضمير العام ولإرادة المشرع .
ثانيا: مرتبة المبادئ العامة للقانون:
لقد اختلف الفقه والقضاء حول مرتبة هذه المبادئ بين القواعد القانونية الأخرى، إذ يرى الأستاذ Letourneur أن لها على وجه الخصوص قيمة القانون المكتوب أي قيمة التشريع العادي، فتكون ملزمة لكافة السلطات على اختلاف درجاتها حتى رئيس الجمهورية، ومادامت كذلك فإنه لا يحق إلاّ للمشرع وحده مخالفتها، أماّ اللوائح فلا يجوز أن تأتي مخالفة لها لكونها أقل مرتبة منها في تدرج القواعد القانونية. وهذا الاتجاه يجد تبريره في كون فرنسا قبل دستور 1958 لم يكن متصورا منح أي نوع من الرقابة على دستورية القوانين للقضاء، وبالتالي لايمكن منح تلك المبادئ قيمة دستورية لأن في ذلك اعتراف بنوع من الرقابة الدستورية للقضاء.
غير أنه بعد دستور 1958 في فرنسا، بدأ الخلاف يظهر بين الفقهاء حول القيمة القانونية للمبادئ العامة، حيث ظهر الرأي الذي يعليها إلى مرتبة القواعد الدستورية، فتكون أعلى من التشريع الصادر من البرلمان، وهو ما أكده مجلس الدولة الفرنسي في عديد أحكامه، فمثلا إزاء قوانين التطهير الإداري التي لم تعط للموظفين حق الدفاع ولا أي ضمانات جدية، أعلن مجلس الدولة ضرورة أن تحترم إجراءات التطهير مبدأ احترام حقوق الدفاع عكس نصوص القانون، وفي قضية تمّ الطعن فيها أمام مجلس الدولة الفرنسي بدعوى تجاوز السلطة ضد قرار المكتب المكلف بمراقبة وإعلان نتائج انتخاب أعضاء المجلس الأعلى للقضاء والذي قراراته غير قابلة للطعن فيها حسب المادة08 من قانون 1947( ) ومما جاء في حيثياته : « qu’en l’absence de tout prescription édictant expressément une solution contraire les disposition précités, qui excluent uniquement le recours de plein *******ieux ne sauraient avoir pour conséquence de les priver du recours pour excès de pouvoir qui leur est ouvert en cette matière comme dans tout les autres en vertu dés principes généraux du droit ».
بل ذهب مجلس الدولة الفرنسي لما هو أبعد، عندما أقر بأحقية الطعن بتجاوز السلطة في قرار إداري نص القانون صراحة على أنه غير قابل للطعن إداريا و قضائيا، لكون ذلك الطعن قائما و لو دون نص ما دام يضمن احترام الشرعية إذ جاء في إحدى قراراته( ) :
« le recours pour excès de pouvoir ….a pour effet d’assurer conformément aux principes généraux du droit le respect de la légalité »
و في نفس الاتجاه، نجد القضاء الجزائري يقضي في قراراه المؤرخ في 27 /07/1998 ( )سالف الذكر بأن "القاضي مثله مثل كل موظف للدولة يستفيد وجوبا بحقوق مضمونة دستوريا و أن القاضي الإداري ملزما بمراقبة احترام هذه الضمانات" فمجلس الدولة استند إلى مبدأ المساواة لاستبعاد صريح نص المادة 99/02 من القانون الأساسي للقضاء القديم، إذ قبل الطعن في قراراه التأديبي بتجاوز السلطة خلافا لما نصت عليه المادة من عدم قابليته للطعن، و هو ما أكد عليه في قرار لاحق بتاريخ 17/01/2000 ( )إذ قرر أن "الطعن من أجل تجاوز السلطة موجود حتى و لو لم يكن هناك نص و يهدف إلى ضمان احترام مبدأ القانونية طبقا للمبادئ" فمجلس الدولة رجع إلى المبادئ القانونية العامة لاستبعاد نص المادة 99/02 من القانون الأساسي للقضاء القديم، و هو ما يكشف أن مجلس الدولة الجزائري ساير موقف مجلس الدولة الفرنسي من كون المبادئ العامة للقانون هي مبادئ دستورية فلا يجوز للمشرع مخالفتها.
ومن ثم فإن نظرية المبادئ العامة للقانون بحكم تعريفها و خصائصها هي نظرية غير مكتوبة، فتطبق حتى في غياب النص، و تستمد قوتها الملزمة من السلطة الخلاقة للقاضي الإداري، فهي تحل محل النص التشريعي الغائب، بل و تضمن تفسيرا ملائما لقواعد المشروعية للنص التشريعي المعيب، كما تضمن الوحدة و الانسجام للنظام القانوني، إذ تفرض سلطانها حتى على التشريعات الصادرة عن السلطة التشريعية، بل و تعتبر هذه المبادئ وسيلة القاضي لبسط رقـابته الدستـورية على القـوانين و اللوائح و لو بصورة غير مباشرة.
وخلاصة ما سبق أن القواعد القانونية بنوعيها المكتوبة وغير المكتوبة تتدرج فيما بينها من حيث قوتها الإلزامية إلى عدة مراتب يعلوا بعضها البعض، وذلك حسب الترتيب التالي:
-فتأتي القواعد الدستورية في قمة التدرج القانوني.
-تليها المبادئ العامة للقانون وفي مقدمتها مبادئ الشريعة الإسلامية.
-وبعدها القواعد الاتفاقية الدولية.
-وتليها القواعد التشريعية التي تأتي في مقدمتها القوانين العضوية فالأوامر التشريعية المتعلقة بقوانين المالية أو الصادرة في الظروف الاستثنائية والقواعد اللائحية الصادرة في الظروف الاستثنائية وبعدها الأوامر التشريعية في الظروف العادية .
-ثم القواعد اللائحية الصادرة في الظروف العادية.
-وبعد ذلك القواعد العرفية .
-وأخيرا تأتي قاعدة الهرم القانوني مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة.
المبحث الثاني
نتائج مبدأ تدرج القواعد القانونية
إذا كان مقتضى مبدأ المشروعية هو خضوع السلطات العامة لحكم القانون خضوع الأفراد له، فإن أهم الضمانات الكفيلة بذلك هو مبدأ تدرج القواعد القانونية، إذ أن النتيجة الطبيعية له هي خضوع كل سلطة عامة تنشئ القواعد القانونية أو تنفذها إلى أحكام القواعد القانونية التي تعلوها مرتبة، حتى يكون عملها مطابقا لمبدأ المشروعية، فإذا خرجت عليها وخالفت نتائج تدرج القواعد القانونية، فإنها تفقد أعمالها قيمتها القانونية فتجيء باطلة ولا تترتب آثارها المبتغاة منها( ) .
وعلى ذلك فمن الضروري تحديد النتائج المترتبة على تدرج القواعد القانونية، ونظرا لأهمية وخصوصية القواعد الدستورية فستتم دراسة نتائج المرتبة التي منحت لها في سلم التدرج القانوني (مطلب أول ) ثم دراسة نتائج التدرج القواعد القانونية الأخرى(مطلب ثاني ).
المطلب الأول
نتائـج سـمو القـواعـد الدسـتورية
إذا تقرر سمو القواعد الدستـورية على كل القواعد القـانونية السارية المفعول في الدولة، فمؤدى ذلك، هو خضوع كل القواعد القانونية لأحكام القواعد الدستورية، سواء من حيث الشكل أو من حيث الموضوع، ومعنى ذلك أن مبدأ سمو القواعد الدستورية هو مبدأ عام يتوجب على جميع السلطات العامة في الدولة احترامه، والنزول عند مقتضياته( ). وقد جاء في ديباجة دستور 1996: "أن الدستور فوق الجميع وهو القانون الأساسي الذي يضمن الحقوق والحريات الفردية والجماعية، ويحمي مبدأ حرية اختيار الشعب، ويضفي الشرعية على ممارسة السلطات، ويكفل الحماية القانونية ورقابة عمل السلطات العمومية في مجتمع تسوده الشرعية ويتحقق فيه تفتح الإنسان بكل أبعاده" وعلى ذلك فكل سلطة عامة ملزمة بالخضوع لقواعد الدستور سواء كانت سلطة تشريعية (الفرع الأول) أو سلطة تنفيذية (الفرع الثاني ) أو سلطة قضائية (الفرع الثالث ) .
الفرع الأول
خضوع السـلطة التـشريعية للقـواعـد الدسـتورية
ما دام أن القواعد الدستورية والمبادئ العامة للقانون بما فيها مبادئ الشريعة الإسلامية التي تأتي في مقدمتها باعتبارها ذات طابع دستوري، تأتي في مرتبة أسمى من القواعد القانونية الأخرى بما فيها القواعد التشريعية الصادرة عن السلطة التشريعية، فما هي نتائج هذا الترتيب ؟
إن المرتبة تلك تقود إلى نتيجة أساسية مفادها خضوع السلطة التشريعية عند سنها القواعد القانونية لأحكام القواعد الدستورية والمبادئ العامة للقانون ذات الطابع الدستوري، أي أن تكون كل أعمالها ضمن الحدود المقررة في الدستور فتخضع له شكلا (أولا) وموضوعا (ثانيا) .
أولا: الخـضوع الشـكلي للقـواعـد الدسـتوريـة :
ومعناه أن يصدر التشريع عن السلطة التشريعية في نطاق اختصاصها (I) وعلى مقتضى الإجراءات المقررة في الدستور لإصدار ره (II)
I- احترام قواعد الاختصاص: ذلك أن الدستور حدد المجال الذي تختص السلطة التشريعية بالتشريع في نطاقه( )، فلا يجوز لها سن قوانين خارجه، إذ يعد ذلك مخالفة لمبدأ الفصل بين السلطات، وخروجا عن مجال اختصاصها وبالتالي يجئ قانونها مخالفا للدستور، فتنص المادة 122 من الدستور: " يشرع البرلمان في الميادين التي يخصصها له الدستور وكذلك في المجالات الآتية ..." وحددت المادة ثلاثون مجالا يختص البرلمان بالتشريع فيها بموجب قوانين عادية، وأضافت المادة 123 :"إضافة للمجالات المخصصة للقوانين العضوية بموجب الدستور يشرع البرلمان بقوانين عضوية في المجالات الآتية ..."وحددت المادة سبعة مجالات للقوانين العضوية ، ثم قررت المادة 125من الدستور أن المسائل التي تخرج عن المجال المخصص للقانون والمحجوز للسلطة التشريعية يندرج ضمن الاختصاص التنظيمي الممنوح لرئيس الجمهورية، وإضافة إلى ذلك فإن البرلمان لا يندرج في اختصاصه التشريعي إلا وضع القواعد العامة والمبادئ الأساسية فحسب ، فلا يمتد اختصاصه لوضع القواعد التفصيلية، وذلك لكون الدستور أحيانا يمنحه الاختصاص بوضع المبادئ الأساسية فقط، ويبقي المجال لوضع باقي القواعد التفصيلية للسلطة التنفيذية بمقتضى سلطتها اللائحية (التنظيمية)، ومنها الاختصاص بوضع القواعد العامة المتعلقة بالبيئة وإطار المعيشة والتهيئة العمرانية والنظام العام للغابات والأراضي الرعوية طبقا لنص المادة 122 من الدستور، ففي مثل هذه الحالات يتوقف دور البرلمان على وضع القواعد العامة والمبادئ الأساسية فقط، ضف إلى ذلك أن هناك حقوقا وحريات لا يمكن للسلطة التشريعية ولا لغيرها المساس بها، إذ لها سلطة تنظيمها فحسب، ولا يمكنها منعها، إذ المنع من اختصاص المؤسس الدستوري وحده، ولو صدر تشريعا عن البرلمان يمنع واحدا من تلك الحقوق والحريات، فإنه يكون مشوبا بعيب عدم الاختصاص وبالتالي غير دستوري، وعلى ذلك فاختصاص السلطة التشريعية يتحدد بمجال حصري لا يجوز تجاوزه، لأن في ذلك اعتداء على اختصاص السلطة التأسيسية (المجال المحجوز للدستور )أو عل اختصاص السلطة التنفيذية ( المجال المخصص للتنظيم).
ومن زاوية أخرى، فإن السلطة التشريعية لا يمكنها تفويض اختصاصها بالتشـريع، ذلك أنها لا تمارس حقا شخصيا، ولكنها تمارس اختصاصات دستوريـة باعتبارهـا مفـوضة مـن طرف الشعب، ومؤدى ذلك أنه لا يجوز لها أن تفوض هذا الاختصاص، وتقوم في وجه تفويض الاختصاص التشريعي استحالة دستورية سببها أن هذا التفويض يقع خلافا لما صرح به الدستور، الذي منح سلطة التشريع لجهة محددة، فإذا قامت تلك الجهة بتفويض اختصاصها لجهة أخرى، فإنها بذلك قد عدلت الدستور فيما يتعلق بتوزيع الاختصاصات المقررة فيه بإرادتها المنفردة، وبالإجراءات العادية، وفي ذلك مخالفة للقواعد المتعلقة بتعديل الدستور. وعلى ذلك فإنه لا يجوز للبرلمان تفويض اختصاصه الذي منحه إياه الدستور لغيره طالما لم يبح له الدستور ذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولا يحتج للرد على هذا الرأي بما أجازه الدستور لرئيس الجمهورية من التشريع بأوامر في حالات معينة، إذ يعد ذلك تفويضا دستوريا استثنائيا لا يجوز أن يفوض ولا أن يقاس عليه( ).
II- احترام الشكل والإجراءات الدستورية: من المستقر عليه فقها وقضاء أن احترام السلطة التشريعية للشكل والإجراءات المقررة دستوريا لإصدار القوانين يمثل الشرط الأساسي لوجود القانون، بحيث إذا خرجت السلطة التشريعية عن مقتضى الإجراءات الدستورية عند قانونها غير موجود، وغير واجب النفاذ والتطبيق، فحتى يكون التشريع دستوريا يجب أن يكون قد استوفى الشكل الذي أوجبه الدستور واهم مسائل الشكل في التشريع هي الإجراءات الـتي يجـب إتبـاعها لاستصدار التشريع من البرلمان، وهذه الإجراءات تجد أسسها مدونة في الدستور، وتفصيلاتها مبسوطة في النظامين الداخليين للمجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة، وتتعلق الإجراءات الدستورية بزمان ومكان وكيفية فحص مشروع القانون والتصويت عليه والأغلبية اللازمة لإقراره ونظام اجتماع المجلسين ونصاب صحة الاجتماع، ونحو ذلك. والغالب أن الإجراءات الواردة في الدستور جوهرية، يترتب على مخالفتها بطلان التشريع، فيما تتنوع الإجراءات الواردة في النظامين الداخليين إلى إجراءات جوهرية، وأخرى غير جوهرية، فتكون تنظيمية فحسب، ولا يترتب على مخالفتها بطلان التشريع.

ثانيا: الخضـوع الموضـوعي للقواعـد الدسـتورية:
ويقصد به( ) أن تظل السلطة التشريعية أثناء ممارستها وظيفة التشريع وفيه لثقة الشعب، من خلال احترامها لإرادته التي ضمنها في الدستور، باعتبار أن الشعب هو مصدر السلطة التأسيسية، فيتوجب على السلطة التشريعية أن تلتزم باحترام القيود الموضوعية الواردة بالدستور(I) وأن تعمل من خلال ما تضعه من تشريعات على تحقيق المصلحة العامة (II)
I-التزام السلطة التشريعية بالقيود الدستورية: تنص المادة 98 من الدستور عل أن: "البرلمان له السيادة في إعداد القانون والتصويت عليه" وبالتالي فله الحرية في التـدخل لسن التشـريع وقتما يشاء، وأن يضمنه من المسائل ما يشاء، ويقتبس الأحكام التي يدرجها في تشريعه من أي مصـدر شاء، وهذا الطرح يعد مقتضى طبيعيا لكون السلطة التشريعية معبرة عن إرادة الشعب، وهو صاحب السلطة الحرة والسيدة، فيكون لممثليه ذات السيادة في وضع التشريعات، غير أنه يلاحظ أن الدستور أورد قيودا على اختصاص البرلمان بالتشريع، ويتعين على البرلمان احترامها نزولا عند مبدأ تدرج القواعد القانونية، ومن هذه القيود الموضوعية:
1-قيود متعلقة بالحريات والحقوق العامة: فلا يجوز له نقضها أو إلغاؤها أو الانتقاص منها، ومن ذلك ما تنص عليه المادة :29 من دستور 1996: " كل المواطنين سواسية أمام القانون ولا يمكن أن يتذرع بأي تمييز يعود سببه إلى المولد أو العرق أو الجنس أو الرأي أو أي شرط أو ظرف آخر شخصي أو اجتماعي " فحق المساواة حق عام مطلق لا يجوز تحديده، وإذا صدر تشريع يحدد من هذا الحق بأن يجعـل لطـائفة من المواطنين امتيـازا على غيـرها من الطوائف مما يخـل بحق المساواة، أو أعفى طائفة منهم من بعض الواجبات والتكاليف كان غير دستوري،والمادة 45 منه: "كل شخص يعتبر بريئا حتى تثبت جهة قضائية نظامية إدانته مع كل الضمانات التي يتطلبها القانون " فإذا وضع البرلمان تشريعا يقيم التجريم على قرائن فإنه يعد مخالفا لقرينة البراءة التي لا ترتفع إلا بحكم جنائي نهائي تصدره هيئة قضائية عادية في محاكمة عادلة احترمت فيها الضمانات القانونية، عد ذلك التشـريع مخـالفا للدستور، كحالة التشريع الجمركي الذي أقام الإدانة على قرائن مما يعد مخالفـا لهـذا النص الدستوري، وقد عرضت نصوصا مشابهة للنصوص الجمركية الجزائرية على المحكمة الدستورية العليا المصرية فحكمت بعدم دستورية تلك النصوص التي أقامت الإدانة على قرائن قانونية، و هكذا الشأن مع كل الحقوق و الحريات الفردية و الجماعية المكرسة دستوريا.
2- قيود غير متعلقة بالحقوق والحريات( ): وردت كذلك نصوصا دستورية كثيرة تتعلق بمجالات عدة، و منها ما نص عليه نص المادة 02 من دستور 1996: "الإسلام دين الدولة" فلو صدر تشريع يجعل دين الدولة غير الإسلام أو جاء التشريع مخالفا للنصوص القطعية في الإسلام، عد ذلك التشريع باطلا لمخالفته للدستور، ونص المادة 14 منه: "المجلس المنتخب يراقب عمل السلطات العمومية" فلو جاء تشـريع يحصن السـلطات العمـومـية من رقابة المجلس المنتخب عد غير دستوري، ونص المادة 142: " ينظر القضاء في الطعن في قرارات السلطات الإدارية" فلو صدر تشـريعا يقيد السلطة القضائية في هذا المجال أو يحصن القرارات الإدارية أو نوعا منها من رقـابة القضاء، كـان باطلا لمخـالفته الدستور، فالتشريع الصادر عن البرلمان، لا يجوز أن يتعدى على هذه المبادئ أو القيود الموضوعية.
3-إلزامية تدخل البرلمان لتنظيم بعض الموضوعات: الأصل أن المشرع حر في اختيار الوقت الملائم للتدخل في تنظيم الموضوعات والمسائل التي ينبغي التدخل بشأنها، حتى و لو كانت هذه الموضوعات مما تدخل في النطاق المحتجز له، لأن احتجاز بعض الموضوعات للقانون لا يتطلب بالضرورة تدخل البرلمان لتنظيمها، غير أن ثمة موضوعات يظهر من النص الدستوري بشأنها أن المشرع ليس له حرية التدخل أو عدمه، وهي الموضوعات التي لم يتدخل الدستور لاحتجازها للبرلمان فقط، بل تطلب علاوة على ذلك أن يتدخل القانون لكفالـتها أو لضمانها، و مثال ذلك ما ورد بالمادة 23 من الدسـتور: "عدم تحيز الإدارة يضمنه القانون" فهذا النص يفرض على المشرع التدخل لضمان عدم تحيز الإدارة، و المادة 32: "الحريات الأساسية و حقوق الإنسان و المواطن مضمونة" و المادة 33: " الدفاع الفردي أو عن طريق الجمعية عن الحقـوق الأسـاسية للإنسـان و عـن الحريات الفردية و الجماعية مضمون" ففي هذه النصوص الدستورية و غيرها حرص الدستور على كفالة ما يشير إليه من ضمانات و أسس و قواعد تتصل بضمان هذا الحق أو تلك الحرية، و بالتالي يقع على السلطة التشريعية التزاما بالتدخل لكفالة تلك الحقوق أو الحريات.
II-التزام السلطة التشريعية بتحقيق المصلحة العامة: يجب على السلطة التشريعية أن تخضع لروح الدستور، وذلك بأن تظل أثناء ممارستها وظيفة التشريع متحسسة لتطلعات الأمة، ساعية لتحقيق المصلحة العامة بعيدا عن الأهواء السياسية، و الميولات الحزبية الضيقة، بمعنى أنه يجب على السلطة التشريعية أن تضع نصب عينيها ضرورة استخدام اختصاصاتها لتحقيق الأهداف المبتغاة من منحها إياها، فالسلطة التشريعية ليست مقيدة فحسب بالأساليب، و لكن أيضا عبد الرزاق السنهوري بالأهداف التي ترمي إليها، و هو ركن الغاية أو الهدف في العمل التشريعي حسب الأستاذ الذي كان وراء إنشاء نظرية :"الانحراف في استعمال السلطة التشريعية"( ) .و قد جاء في دستور 1996 عديد النصوص التي تفرض على السلطة التشريعية أن تعمل من أجل تحقيق المصلحة العامة، و بالتالي استبعاد بعض العوامل الذاتية و الشخصية في التشريع، و منها نص المادة 08:" يختار الشعب لنفسه مؤسسات غايتها ما يأتي:
- المحافظة على الاستقلال الوطني و دعمه.
- المحافظة على الهوية، و الوحدة و الوطنية، و دعمهما.
- حماية الحريات الأساسية للمواطن، و الازدهار الاجتماعي و الثقافي للأمة.
- القضاء على استغلال الإنسان للإنسان.
- حماية الاقتصاد الوطني من أي شكل من أشكال التلاعب أو الاختلاس، أو الاستحواذ، أو المصادرة غير المشروعة" ونص المادة 100:" واجب البرلمان في إطار اختصاصاته الدستورية، أن يبقى وفيا لثقة الشعب و يظل يتحسس تطلعاته" وبالتالي فيجب أن يكون التشريع موافقا لروح المجتمع، و أن يسـعى لتحقيق المصـلحة العـامة، و إلا اعتبـر ذلك بحق مخالفـة التشريع للدستور، و انحرافا في استعمال السلطة التشريعية، فإذا قصد البرلمان من وراء التشريع الذي يضعه غير هذه الغايات، فإن ذلك يعد منه انحرافا في استعمال السلطة التشريعية، و يعتبر التشريع غير دستوري.
الفرع الثاني
خضوع السلطة التنفيذية للقـواعـد الدستورية
لقد تضمن الدستور قواعد خاصة بتنظيم السلطة التنفيذية، واختصاصاتها، التي من بينها، المساهمة في سن القواعد القانونية، سواء منها التشريعية أو اللائحية وذلك في نصوص مواده 70 إلى 97، وبالنظر للمرتبة التي سبق تقريرها للقواعد القانونية الصادرة عن السلطة التنفيذية، التي لا تصل إلى مرتبة القواعد الدستورية، في كل الأحوال عادية كانت أم استثنائية، فإن ذلك معناه هو خضوع السلطة التنفيذية وهي تضع القواعد التشريعية أواللائحية للدستور شكلا وموضوعا ( )، وهذا الخضوع يظهر في شكلين فقد يكون خضوعا مباشرا (أولا) أو غير مباشر(ثانيا).
أولا : خضوع السلطة التنفيذية غير المباشر للقواعد الدستورية :
إن السلطة التنفيذية عليها التزام التدخل لوضع القواعد اللائحية التنفيذية اللازمة لكفالة تنفيذ القوانين، وفي هذا الإطار لا يمكنها أن تتولى عملا تشريعيا، وإلا تكون قد تجاوزت الأحكام الدستورية، وترتيبا على ذلك، فإن خضوعها للدستور، يظهر من خلال خضوعها للتشريع الذي تقوم على تنفيذه، فلا تملك سوى وضع القواعد اللازمة لتنفيذه، وبالتالي لا تملك إضافه قواعد تشريعية ولا تعديل تلك المكلفة بتنفيذها، كما لا تملك الاعتراض على تنفيذها. وقد طبقت المحكمة العليا هذه القاعدة في قرارها المؤرخ في 09/10/2002 ( ) الذي جاء فيه : "حيث أن المادة 85 من المرسوم المتضمن إنشاء السجل العقاري يلزم المدعي بإشهار عريضة افتتاح الدعوى بالمحافظة العقارية و إلا كانت باطلة
حيث أن إجراء شهر العريضة االافتتاحية للدعوى قد استحدثه مرسوم 76/63 المؤرخ في 25/03/1976 الذي يتعلق بتأسيس السجل العقاري ولم ينص عليه كل من قانون الإجراءات المدنية والقانون المتضمن إعداد مسح الأراضي العام وتأسيس السجل العقاري.
وبذلك يكون المرسوم المنوه إليه قد استحدث شرطا جديدا لصحة العريضة الافتتاحية لم يرد لا في قانون الإجراءات المدنية ولا القانون المتضمن إعداد مسح الأراضي العام ومن ثمة يوجد التعارض بين القانون والمرسوم المشار إليه " وقد رتبت المحكمة العليا على هذه النتيجة أن واجب القضاء هو إعمال التشريع الأعلى وطرح التشريع الأدنى، وهو استنتاج سليم قانونا، ولكن كان يمكنها أيضا التعرض لطبيعة المرسوم التنفيذي الذي أضاف شرطا بما يعد تعديلا للقاعدة التشريعة التي جاء بقواعد تنظم كيفية تنفيذها، فتكون هذه الإضافة غير دستورية، وبالتالي يكون المرسوم التنفيذي باطلا بالنسبة لهذه المسألة، ويتعين استبعاده لا لتعارضه مع القانون فحسب، بل لتجاوزه الحدود الدستورية أيضا.
وخلاصة ذلك، أن السلطة التـنفيذية تخضع للدستور عن طريق خضوعها للتشريع الذي تقوم على تنفيذه، فتضع القواعد اللائحية اللازمة لتنفيذه دونما إضافة قواعد تشريعية ولا تعديل لتلك المكلفة بتنفيذها، ولا الاعتراض على تنفيذها، تحت طائلة مخالفة الدستور. وهو ما عبر عنه الأستاذ ( )((Albert socque : « le caractère subsidiaire de respect de la constitution par rapport ou respect de la loi »
وهو ما يطلق عليه فقـه القانـون العام : نظرية الحاجز التشريعيLa théorie de la loi écran ) التي بموجبها لا تخضع الهيئة التشريعية للدستور إلا عن طريق خضوعها للتشريع الذي تقوم على تنفيذه، وبالتالي يترتب على مخالفتها إياه عيب عدم المشروعة لا عيب عدم الدستورية .
ثانيا: خضوع السلطة التنفيذية المباشر للقواعد الدستورية :
يرى البعض أن خضوع السلطة التنفيذية للدستور يتم في الأصل بطريق غير مباشر كما سبق بيانه، غير أن هذا الرأي محل نظر، إذ قد يكون خضوع السلطة التنفيذية للدستور خضوعا مباشرا دون وساطة المشرع ، فتكون العلاقة بين القواعد اللائحية والقواعد الدستورية مباشرة، وذلك بالنسبة للوائح المستقلة، والتي تندرج فيها اللوائح التنظيمية،ولوائح الضبط ،ولوائح الضرورة التي تصدر متمتعة بقوة القانون، إضافة للأوامر التشريعية الصادرة عن رئيس الجمهورية، فكل تلك اللوائح والأوامر تجد أساسها مباشرة في نصوص الدستور، دونما حاجة إلى العبور عن طريق القانون، وترتيبا ذلك فإنها إذا خالفت الدستور صارت مشوبة بعيب عدم الدستورية لا عدم المشروعية، رغم كونها أعمالا إدارية بحسب المعيار العضوي، وهذا الحكم ينسحب أيضا على الحالة التي تكون فيها بعض النصوص الدستورية متضمنة أحكاما وقواعد تصلح للتنفيذ المباشر دونما حاجة لصدور قواعد تشريعية لكفالة تنفيذها، ومثالها النصوص الدستورية المتعلقة بحقوق وحريات الإنسان والمواطن، فهي تكفلها في مواجهة جميع الهيئات العامة في الدولة، وبالتالي تخاطب بوجه خاص السلطة التنفيذية، فتحرمها من حق اتخاذ الإجراءات الإدارية المحظورة وإلا خرجت عن الدستور، واتصف عملها بعدم الدستورية. ومثال ذلك نص المادة 44 من الدستور التي تمنح للمواطن الحق في ااختيار موطن إقامته والانتقال عبر التراب الوطني والدخول إلى التراب الوطني والخروج منه بحرية، فلو صدر قرار إداري يقضي بإبعاد مواطنين، فإنه يكون مخالفا لهذا النص الدستوري، ويكون مشوبا بعيب عدم الدستورية ( ).وبناء على ما سبق، فإن القواعد اللائحية التي تجئ مخالفة للدستور يلحقها عيبان:
-عيب عدم الدستورية: إذا كانت المخالفة مباشرة للقواعد الدستورية أو للمبادئ العامة للقانون ذات الطابع الدستوري .
-عيب عدم المشروعية: إذا كانت المخالفة غير مباشرة.
وثمة رأي في الفقه يرى أن العيب كل الأحوال هو عيب عدم المشروعية لكونه يتضمنن عيب عدم الدستورية.
الفرع الثالث
خضوع السلطة القضائية للقواعد الدستورية
تأسيسا على مبدأ تدرج القواعد القانونية، تلتزم كل سلطة عامة تنشئ أو تنفذ أو تطبق القواعد القانونية باحترام نتائج هذا المبدأ، ومن بينها تقرير سمو القواعد الدستورية، وفي ذلك احترام لمبدأ الشرعية، الذي يشكل أساس القضاء، فيقع على كافة جهات القضاء- سواء منها المنتمية لسلك القضاء العادي أم الإداري- عبء تطبيق القواعد القانونية، وعلى رأسها القواعد الدستورية على ما يعرض عليها من منازعات .
وعـلى ذلك فالسلطة القضـائية مخاطبة بالخضوع للقواعد الدستورية( )، والنزول عند مقتضياتها، بل وتطبيقها مباشرة دون وساطة القواعد التشريعية متى كانت تقبل ذلك، غير أن هذا الرأي غير مستساغ من البعض، فالقاضي لا يخضع إلا للقواعد التشريعية بالنسبة إليهم، وهو ما يفرض مناقشة هذه المسألة لبيان مدى التزام القاضي بالخضوع للقواعد الدستورية مباشرة (أولا) ثم تحديد مظاهر هذا الخضوع (ثانيا).


أولا : التزام القاضي بالخضوع للقواعد الدستورية :
يرى فريق من الفقه أن القاضي لا يخاطب سوى بالخضوع للقواعد التشريعية، وبالتالي فلا يتصور مخاطبته مباشرة بالقواعد الدستورية، إذ جاء في نص المادة 138من الدستور أن: "السلطة القضائية مستقلة وتمارس في إطار القانون " و نص المادة 147 منه: "لا يخضع القاضي إلا للقانون "
ويضيف أصحاب هذا الرأي اعتبارا آخر لإلزام القاضي بالخضوع للقواعد التشريعية وحدها، فلا يكون له أن يطبق القواعد الدستورية للفصل في النزاعات، ولا للأفراد الاستناد مباشرة إلى تلك القواعد لتأسيس طلباتهم أو دفوعهم، وهذا الاعتبار هو مبدأ فصل السلطات، الذي يقصر عمل القضاء على تطبيق القواعد القانونية الصادرة عن السلطـة التـشريعية وحدها، بل هناك من ذهب إلى ما هو أكثر غلوا، حيث لا يعتبر الدستور قانونا لانعدام الجزاء على مخالفة قواعده، باعتباره ينظم العلاقة بين الحكام والمحكومين، فلا يمكن أن يلزم الحاكم لعدم صدوره من سلطة أعلى منه، وبالتالي فالتشريع الصادر عن البرلمان هو وحده القانون.
ولكن هذا الرأي محل نظر، إذ أن مخاطبة القاضي بتطبيق القانون ينصرف إلى القانون بالمفهوم العام بما فيه الدستور، بل هو القانون الأساسي في الدولة، وهو فوق الجميع، ويضفي الشرعية على ممارسة السلطات، حسب ما ورد بديباجة دستور1996، وتنص المادة 60 منه على أنه: "يجب على كل شخص أن يحترم الدستور وقوانين الجمهورية " ونص المادة 140 منه: "أساس القضاء مبادئ الشرعية والمساواة " وتنص المادة 80 من القانون الأساسي للقضاء: "يجب على القاضي أن يصدر أحكامه طبقا لمبادئ الشرعية والمساواة .." ويلتزم القاضي بموجب يمينه التي يؤديها قبل توليه وظائفه بأن يحكم وفقا لمبادئ الشرعية والمساواة، ولا شك أن الشرعية ينصرف معناها إلى كل القواعد القانونية مهما كان مصدرها ، بما فيها القواعد الدستورية .
ثم إن تطبيق القاضي للقواعد الدستورية، ونزوله عند مقتضياتها، هو مقتضى وظيفة القاضي باعتباره حاميا للشرعية، وضامنا للحقوق والحريات المكفولة دستوريا، فلا يعد ذلك متعارضا مع مبدأ فصل السلطات، طالما لم يتدخل بنفسه لسن القواعد القانونية أو تعديلها أو تعطيل تنفيذها أو إلغائها، بل كل ما في الأمر أنه قام بتطبيق قاعدة قانونية تم وضعها من طرف السلطة التأسيسية، إذ مقتضى وظيفته ذلك، وأما ما ذهب إليه البعض من كون قواعد الدستور تعتبر مجرد توجيهات لا إلزامية لها، لانعدام الجزاء على مخالفتها، وبالتالي لا تكون قواعد قانونية، فهذا الرأي لا معنى له، لكون القواعد الدستورية تمتاز بكامل سمات القواعد القانونية( )، ويترتب على مخالفتها جزاء وهو عدم دستورية القانون المخالف لتلك القواعد الدستورية، ويوقعها سواء المجلس الدستوري أو القضاء باستبعاده القانون غير الدستوري والامتناع عن تطبيقه للفصل في النزاع، ومعنى ذلك أن القواعد الدستورية هي قواعد قانونية ملزمة للقضاء، بحيث يترتب على مخالفتها بطلان الحكم الصادر عنه، ويمنح للجهات القضائية العليا سلطة نقضه وإبطاله.
ثانيا: مظاهر خضوع القاضي للقواعد الدستورية :
مما سبق ذكره، فإن القاضي يجب عليه الالتزام بالقواعد الدستورية (I) والامتناع عن تطبيق أي قانون مخالف لها (II)
I-التزام القاضي بالخضوع للقواعد الدستورية: لقد تناول الدستور تنظيم السلطة القضائية في الفصل الثالث من الباب الثاني في المواد : 138 إلى 158، والتي تؤسس السلطة القضائية وتضع لها الحدود التي لا يجوز لها مجاوزتها، ويضاف إلى ذلك مواد أخرى متفرقة في الدستور تتعلق بتنظيم العمل القضائي، وتفرض على القضاء مبادئ وأحكاما لا يجوز تجاوزها، مثله مثل كل السلطات العامة في الدولة، وخصوصا المواد المتعلقة بحقوق الإنسان والمواطن وحرياتهما، والتي تمثل مبادئ دستورية عليا لا يجوز المساس بها، وعلى ذلك يفرض مبدأ سمو الدستور أن تكون أعمال القضاء ضمن الحدود الدستورية فتخضع للدستور شكلا (1) موضوعا (2)
1-الخضوع الشكلي للقواعد الدستورية: لقد حدد الدستور اختصاص السلطة القضائية، كما نص على إجراءات واجبة الاحترام، وتتمثل فيما يلي:
أ-احترام قواعد الاختصاص: يتوجب على القضاء التقيد بمجال الاختصاص المحدد دستوريا، وإلا عد عمله تدخلا في عمل باقي السلطات، كما لا يجوز له تفويض اختصاصه هذا، ولكن من الواجب التساؤل عن وظيفة القضاء التي يتحدد بها مجال اختصاصه؟
تنص المادة 139 من الدستور: "تحمي السلطة القضائية المجتمع والحريات وتضمن للجميع ولكل واحد المحافظة على حقوقهم الأساسية" وتنص المادة 143 : "ينظر القضاء في الطعن في قرارات السلطات الإدارية " والمادة 146 : "يختص القضاة بإصدار الأحكام" وهذه النصوص الدستورية تلقي بظلالها على تحـديد الـوظيفة القضائية باعتبارها إحدى وظـائف الـدولة الثلاث: التشريع والتنفيذ و القضاء، فما هو دور القضاء؟
يتجه الرأي الغالب في الفقه أن الهدف من القضاء ودوره هو تطبيق القانون، وهو مقتضى طبيعي لفكرة فصل السلطات، فالسلطة التشريعية تضع القانون، والسلطة التنفيذية تنفذه بما يحقق المصلحة العامة، والسلطة القضائية تطبقه فيما يعرض لها من منازعات، فمهمة القضاء هي إعادة الاستقرار إلى النظام القانوني، وذك بإيقاع الجزاء المقرر فيه للنشاط القانوني لأطراف نزاع معين عندما يحدث اعتداء على حق من الحقـوق، أو عندما يحدث شـك في سلامة سير القـانون لاختلاف في تفسيره أو لاختلاف في تقدير حقوق الأطراف المتنازعة، ففي هذه الأحوال يتولى القضاء رد العلاقات بين الأطراف المتنازعة إلى أوضاعها التي تتفق مع أحكام القانون، وتأمر بما هو مقرر لها من جزاءات موضوعية أو إجرائية أو زجرية .
وعلى ذلك فالقضاء كمرفق عام يكتسي صبغة متميزة، لكونه يسهر على حماية النظام القانوني والحقوق و الحريات الدستورية، من خلال كفالة تطبيق القانون أثناء الفصل في المنازعات، فالمهمة الأساسية للقضاء هي إحقاق حكـم القانون، وذلك بالفصل في جميع المنازعات بين الأفراد في ما بينهم أو بينهم وبين الدولة، ولا يملك القضاء للقيام بتلك المهمة سوى وسيلة إصدار الأحكام، فالقضاء يتحدد اختصاصه في إصدار الأحكام في المنازعات المختلفة بما يحمي الشرعية والمساواة ويضمن الحقوق والحريات، وعلى ذلك فيندرج ضمن اختصاصات السلطة القضائية مراقبة تصرف الأفراد والسلطات العامة، وإلزامها بالخضوع لحكم القانون وذلك بمناسبة النزعات المعروضة عليها، ولذلك تنص المادة 143 من الدستور على أن القضاء يختص في النظر في شرعية قرارات السلطات الإدارية، وهو ما يثير التساؤل عما إذا كان لا يمكن إدماج الرقابة الدستورية في اختصاص السلطة القضائية، وهو ما نراه في الفصل الثاني .
ب- احترام الشكل والإجراءات الدستورية: ثمة قواعد إجرائية تم رفعها إلى مرتبة المبادئ الدستورية بالنص عليها في الدستور، ومنها المادة 141 من الدستور التي تفرض أن يصدر القضاء أحكامه باسم الشعب، والمادة 144 التي تفرض تعليل الأحكام القضائية وينطق بها في جلسة علانية، والمادة 151 التي تكرس الحق في الدفاع وتجعله مضمونا في القضايا الجزائية، والمادة 152 التي تجعل المحكمة العليا ومجلس الدولة هيئتين مقومتين لأعمال المجالس القضائية والمحاكم أو الجهات القضائية الإدارية حسب الحالة، ومعنى ذلك أن الإحكام الصادرة عن القضاء تخضع للرقابة على مدى مطابقتها للقانون من طرف المحكمة العليا ومجلس الدولة، إضافة إلى كون القضاء الجزائري يقوم على ازدواجية القضاء فهناك القضاء الإداري والقضاء العادي، فهذه القواعد الإجرائية وغيرها ملزمة للقضاء بموجب النصوص الدستورية التي كرستها ولو لم توجد نصوصا تشريعية تنص عليها .
2- الخضوع الموضوعي للقواعد الدستورية ( ): لقد تضمن الدستور قواعد يتوجب على القضاء الخضوع لها، وتتعلق:
أ- بالهدف أو الغاية التي يقصدها القضاء من وراء أحكامه، والمتمثلة حسب الدستور في حماية المجتمع والحريات وضمان المحافظة على الحقوق الأساسية الفردية والجماعية (المادة 139) ، وهو ما يفرض حماية المتقاضي من أي تعسف أو أي انحراف يصدر من القاضي (المادة 150) كما يقتضي استقلالية السلطة القضائية (المادة 138) وحماية القاضي من كل أشكال الضغوط والتدخلات والمناورات التي قد تضر بأداء مهمته أو تمس نزاهة حكمه (المادة 148) .
ب- بالقيود التي يتوجب على القضاء التقيد بها وهو يؤدي وظيفته، وهي قيود فرضها الدستور لضمان الحقوق والحريات التي لا يجوز الاعتداء عليها لا من القضاء ولا من غيره، ومنها نص المادة 36: "لا مساس بحرمة حرية المعتقد وحرمة حرية الرأي" و نص المادة 38: "لا يجوز حجز أي مطبوع أو تسجيل أو أية وسيلة أخرى من وسائل التبليغ والإعلان إلا بمقتضى أمر قضائي" ونص المادة 40: "تضمن الدولة عدم انتهاك حرمة المسكن فلا تفتيش إلا بمقتضى القانون وفي إطار احترامه ولا تفتيش إلا بأمر مكتوب صادر عن السلطة القضائية المختصة " ونص المادة 45: "كل شخص يعتبر بريئا حتى تثبت جهة قضائية نظامية إدانته مع كل الضمانات التي يتطلبها القانون" ونص المادة 46: "لا إدانة إلا بمقتـضى قانـون صـادر قبل ارتكاب الفعل المجرم " ونص المادة 48: "يخضع التوقيف للنظر في مجال التحريات الجزائية للرقابة القضائية ولا يمكن أن يتجاوز مدة ثمان وأربعين ساعة. يملك الشخص الذي يوقف للنظر حق الاتصال فورا بأسرته ولا يمكن تمديد مدة التوقيف للنظر إلا استثناءا ووفقا للشروط المحددة بالقانون " ونص المادة 60 : "لا يعذر بجهل القانون" فالقضاء يجب عليه النزول عند مقتضى هذه النصوص الدستورية وغيرها طالما قررت قواعد تخاطب القضاء مباشرة أو تمنح حقوقا محددة للأفراد، فتطبق دونما حاجة لنص تشريعي يقررها.
II- امتناع القاضي عن تطبيق القواعد التشريعية المخالفة للدستور: إن الملفت للنظر هو خلو الدستور من الإشارة إلى أية رقابة قضائية على دستورية القوانين، خصوصا وأن القاضي هو المطبق والمفسر للقانون، فإذا تقدم أحد الأطراف في المنازعة المعروضة على القضاء بدفع متعلق بعدم دستورية القانون المراد تطبيقه على قضيته، ففي هذه الحالة تتخذ الرقابة على دستورية القوانين شكل دفع، وهو ما يضع القاضي أمام مسألة أولية يجب الفصل فيها قبل الفصل في موضوع النزاع مالم يوجد نص يقضي بغير ذلك، وإن عدم الرد على هذا الدفع يجعل القاضي منكرا للعدالة، فرقابة القاضي لدستورية القوانين هنا إنما هي إعمالا لحق الدفاع المكرس دستوريا، كما أن القضاء يختص بحماية المجتمع والحريات والحقوق الفردية والجماعية من أي اعتداء عليها، ولو وقع الاعتداء من طرف السلطة التشريعية ذاتها، ويضاف إلى ذلك أن القضاء أساسه الشرعية والتي تتضمن من بين عناصرها القواعد الدستورية، وطالما لم يوجد نص يمنع القاضي من رقابة دستورية القوانين عن طريق الدفع الفرعي، فمعنى كل ذلك أن القاضي مختص بالبت في هذا الدفع، أي أنه ينزل عند مقتضى مبدأ تدرج القواعد القانونية، الذي يفرض عليه الامتناع عن تطبيق النص التشريعي المخالف للدستور باعتبار سموه على كل القواعد القانونية في الدولة، فهو يغلب القانون الأعلى ويهمل القانون الأدنى طبقا لمبدأ التدرج( ) .وسوف يتم تفصيل هذه المسالة في الفصل الثاني .









 


 

الكلمات الدلالية (Tags)
القانونية, القواعد, تخرج


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 09:47

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc