وقال أبو العباس القرطبي – رحمه الله - :
وقوله ( وهو أشده عليَّ ) إنما كان أشد عليه لسماعه صوت الملك الذي هو غير معتاد ، وربما كان شاهَدَ الملَك على صورته التي خُلق عليها
كما أخبر بذلك عن نفسه في غير هذا الموضع ، وكان يشتد عليه أيضاً ؛ لأنه كان يريد أن يحفظه ويفهمه مع كونه صوتا متتابعا مزعجاً ، ولذلك كان يتغير لونه
ويتفصد عرقه ، ويعتريه مثل حال المحموم ، ولولا أن الله تعالى قواه على ذلك ، ومكَّنه منه بقدرته : لما استطاع شيئا من ذلك ، ولهلك عند مشافهة الملك ؛ إذ ليس في قوى البشر المعتادة تحمل ذلك بوجه .
" المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم " ( 6 / 172 ) .
وقال المباركفوري – رحمه الله - :
( وهو أشده علي ) أي : هذا القسم من الوحي أشد أقسامه على فهم المقصود ؛ لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة ، أشكلُ من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود
وفائدة هذه الشدة : ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى ورفع الدرجات .
" تحفة الأحوذي " ( 10 / 79 ) .
ج. أن يتمثل له رجلاً ، قد يُرى من الصحابة ، كما في حديث جبريل المشهور ، وقد تمثل للنبي صلى الله عليه وسلم بصورة الرجل الغريب ، فسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان .
وقد لا يُرى منهم ، كما جاء عن عائشة رضي الله عنها : أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ... وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ ) .
رواه البخاري ( 2 ) ومسلم ( 2333 ) .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعاني من التنزيل عليه بالوحي ، ويظهر ذلك بالعرق الذي كان يسيل من جبهته وجبينه في اليوم الشديد البرد
إلا أن بعض صور الوحي كانت عليه يسيرة كتشكل جبريل بصورة رجل ، إلا أن أشدَّها عليه صلى الله عليه وسلم كانت مجيئ الوحي على مثل صلصلة الجرس – كما سيأتي - .
وكانت تحصل مع النبي صلى الله عليه وسلم بنزول الوحي عليه أحوال ، يراها ويسمعها ويشعر بها من حوله من أصحابه رضي الله عنهم ، وفي بعضها معاناة شديدة ، ومن ذلك :
1. أنهم كانوا يسمعون عند وجهه دويّاً كدويّ النحل .
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدوي النحل " .
رواه الترمذى ( 3173 ) .
ويمكن أن يكون صوت دوي النحل باعتبار ما يسمعه من حول النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما هو صلى الله عليه وسلم فيسمعه كصلصلة الجرس .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :
فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس ؛ لأن سماع الدوي بالنسبة إلى الحاضرين - كما في حديث عمر " يُسمع عنده كدوي النحل " - والصلصلة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين ، وشبهه هو صلى الله عليه وسلم بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه .
"
فتح الباري " ( 1 / 19 ) .
2. أن جبينه وجبهته تفيضان بالعَرَق حتى في اليوم الشديد البرد .
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : " وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا " .
رواه البخاري ( 2 ) ومسلم ( 2333 ) ولفظه : " ثُمَّ تَفِيضُ جَبْهَتُهُ عَرَقًا " .
( يفصم ) : ينقطع .
( يتفصد ) : يسيل .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :
وفي قولها في اليوم الشديد البرد دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي لما فيه من مخالفة العادة وهو كثرة العرق في شدة البرد ، فإنه يشعر بوجود أمر طارئ زائد على الطباع البشرية .
" فتح الباري " ( 1 / 21 ) .
وعن عائشة – في حديث البراءة من الإفك – قالت :
حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ فِى الْيَوْمِ الشَّاتِ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الذي أُنْزِلَ عَلَيْهِ .
رواه مسلم ( 2770 ) .
( الجمان ) هو حب من فضة يعمل على شكل اللؤلؤ ، وقد يسمى به اللؤلؤ .
3. أنه يثقل وزنه صلى الله عليه وسلم جدّاً حتى إن البعير الذي يكون عليه يكاد يبرك ، وحتى خشي زيد بن ثابت على فخذه أن ترضَّ وقد كانت فخذه رضي الله عنه تحت فخذ النبي صلى الله عليه وسلم .
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : " إِنْ كَانَ لَيُوحَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَتَضْرِبُ بِجِرَانِهَا " .
رواه أحمد ( 41 / 362 ) وصححه المحققون .
زاد البيهقي في " دلائل النبوة " ( 7 / 53 ) قولها " مِن ثقل ما يوحي إلى رسول الله " .
الجِران : باطن عنق الناقة .
قال السندي – رحمه الله - :
قوله ( فَتَضْرِبُ بِجِرَانِهَا ) - بكسر الجيم - : باطن العنق ، والبعير إذا استراح مدَّ عنقه على الأرض .
حاشية " مسند أحمد " ( 41 / 362 ) .
وعن زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قال
: " ... فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنَّ تَرُضَّ فَخِذِي " .
رواه البخاري ( 2677 ).