91-ولا أرى تهييج العامة وتحريضهم على حكامهم-وإن جاروا- لامن فوق المنابر، ولا غير ذلك، لأن ذلك خلاف هدي السلف الصالح، بل المشهور عنهم النهي عن ذلك، والمنابر يدعى من فوقها للإجتماع والإئتلاف، وتَرْكِ الفرقة والإختلاف، والعامة يحتاجون إلى إصلاح أمر دينهم، أما إِخْبَارُهم بما لا يحسنون فهمه ولا علاجه-مع تحريضهم-فإنه يُفْسِدُ أمر العامة والخاصة، ومن فعل ذلك فلا هو للحق اتبع، ولا منكراً أزال، ولا دعوة أبقى، ولا واقعاً أدرك، وعَمَلُه هذا تَقَرُّ بِهِ أعين الحاقدين المتربصين بالإسلام وأهله-وإن ظن أنه يحسن صنعاً-فيجب علينا النصح بحكمة دون تهييج، والصبر دون رضاً بالمنكر، والدعاء بالصلاح للحكام-دون ركون إلى دنياهم-لأن صلاحهم صلاح للبلاد والعباد، فإن أصلحهم الله عزوجل، وإلا فعلينا بالتوبة إلى الله عزوجل وطاعته، كما في قوله تعالى:)إن الله لا يغير مابقوم حتى يغيروا مابأنفسهم([الرعد:11]ولنعلم أن ظلمهم ابتلاء من الله عزوجل-بسبب ذنوبنا أو غير ذلك-، فليحذر أمرؤ أن يكون سبب فتنة،أو يكون من أبواق الفتن، التي تنتهي بسفك الدماء بين أهل الإسلام.
92-وأرى السمع والطاعة للحاكم المسلم في المعروف-وإن ظلم-ولا أرى شق عصا المسلمين، فإذا أمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة، إلا إذا غلب على ظن أهل العلم أن ذلك يؤول إلى مفسدة أكبر، فتُدفع المفسدة الكبرى بإرتكاب المفسدة الصغرى، وأعتقد أن إثارة الفتن والإفتئات على ولاة الأمور، مفسدته أكبر من المنكر الذي يُراد تغييره-فنؤدي الذي علينا ونسأل الله الذي لنا، والسعيد من وُعظ بغيره، والقلوب بين اصبعين من أصابع الرحمان، فلو أقبلنا على الله عزوجل، رفع الله عنا ما نعجز عنه، فلا نتعلق بما نعجز عنه، ونترك ما نستطيعه، فـ)لا يكلف الله نفساً إلا وسعها([البقرة:286].
93-ومع تَفَرُّقِ المسلمين، وكون كل دولة يحكمها إمام، فأرى أن يُسْمَع ويُطاع-في المعروف-للإمام المسلم في سلطانه، ولا يجوز الخروج عليه، وأن يُتَعاون معه في رد المظالم، وإقامة الحدود، ووضع الأمان في الأرض، لأن ذلك أخف الضررين، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولو أبَيْنَا إلا أن يتنازلوا لإمام واحد،-والواقع أنهم لا يتنازلون-أدى ذلك إلى فساد أكبر، وضياع مابقي في الناس من خير، ومع ذلك فلا يجوز أن نغفُل عن الدعوة إلى جمع كلمة المسلمين، ليكونوا أمة واحدة، كما أمر الله عزوجل.
94-وأعتقد أن الحريصين على الخير للحكام والشعوب المسلمة-وإن كان فيهم ظلم وجهل وانحراف-هم الذين ينصحونهم إذا أخطأوا، ويعينونهم إذا أصابوا، ويُقِيلون عثرتهم، ويسترون عورتهم، دون طمع في دنياهم، بل مع زهد وتعفف، وإنما يفعلون ذلك خشية ازدياد الفتن، واتساع الخرق على الراقع، وإزالة مابقي من خير في الناس، و"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريء مانوى".
95-وأعتقد أن الأمة كطائر له جناحان: أحدهما العلماء والآخر الأمراء، فلا بد من رجوع الأمراء للعلماء، ولابد من نصح العلماء للأمراء، وإدراكهم الأمور من جميع جوانبها، حتى لايُوَسَّد الأمر إلى غير أهله، ويفلت الزمام من أيدي أهل الحل والعقد، إلى رؤوس الفتن والعياذ بالله، فلا يجوز إطلاق اللعن والتشهير بولاة الأمور، لأن ضرر ذلك عظيم في الحال والمآل-وإن كانت هناك مواقف مخزية يندى لها الجبين-،كما لا يجوز رمي الحكام لكل من ينصحهم-بدون تهييج ولا فتن-بأنهم ارهابيون ومخربون، لأن النصيحة تصفية للمجتمع مما يضر به في الدنيا والآخرة، وواجب شرعي، لا يجوز كتمانه ولا الإعراض عنه،(ولا يجوز أن نسمي الحق باسم الباطل).
والحق وسط بين طرفين، فلا نبالغ في سوء الظن، ولا نتكلف الدفاع والتأويل بما لايُقبل، إنما الواجب أن ننصح لله عزوجل، ونصبر ونَنْبِذ ألوية الفتنة، رجاء ماعند الله سبحانه، وتفويت الفرصة على المتربصين بأمتنا الدوائر.
96-وأنصح من ولاه الله أمر المسلمين، أن يتقي الله سبحانه في أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأن يرفُق بهم ولا يشق عليهم، وأن يحكم بينهم بما أنزل الله، ففيه صلاح الدنيا والآخرة، وهذا واجب شرعي، وأن يحذر الأهواء المردية، وأن يكون خير راع لهذه الرعية،(فإن لم يفعل فقد خاب وخسر، وضل ضلالاً بعيداً) وعليه أن يتذكّر قول الله عزوجل:)وتلك الأيام نداولها بين الناس([آل عمران:140].
97-ولا يحل لأحد أن يطيع أحداً في معصية الله عزوجل، فطاعة الله أحق، وأمر الله آكد.
98-وأرى أن فَصْل الدين عن الدولة ضلالة ومروق، وأثر من آثار الغزو الفكري لهذه الأمة، وأرى أن السياسة من الدين، لكن المقصود بذلك السياسة الشرعية، التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، أما أنظمة الغرب أو الشرق فلا أُقِرُّ منها إلا ماوافق الكتاب والسنة، وماخالف الكتاب والسنة وقواعد أهل العلم بهما، فمردود ولا كرامة، لكن علاج ذلك يكون بالحكمة والموعظة الحسنة، فإن قُبل من الناصح، وإلا فليصبر، وليتق الله عزوجل، ولا يسبب فتنة بين الشعوب المسلمة وحكامها وجيوشها، فيصدق عليه قول القائل:
رام نفعاً فَضرَّ من غير قصدٍ ومن البر مايكـــــون عقوقـــــــــــاً
99-وأعتقد أن جميع شئون الحياة لابد وأن تُحْكَم بما جاء في الكتاب والسنة، ولا يجوز الخروج عنهما في كثير أو قليل، وأما أمور الدنيا فقد أباح لنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم التصرف فيها بما يعود علينا بالمصلحة ولا يخالف الشرع فقال:"أنتم أعلم بأمور دنياكم".
100-وأعتقد أنه يجب التحاكم إلى شريعة الله عزوجل في كل كبيرة وصغيرة ظاهرة وخفية، ولا يجوز التحاكم إلى أعراف دولية، ولا إلى دساتير جاهلية، ولا إلى اسلاف وعادات قبليّة، ولا غير ذلك، فيما خالف الشرع، قال تعالى:)إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون([يوسف:40]وقال جل ثناؤه:)أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله( [الشورى:21]وقال سبحانه:)فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً([النساء:65]،(كل ذلك بتفاصيل معروفة عند أهل العلم).