الوعي اللغوي - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الثّقافة والأدب > منتدى اللّغة العربيّة

منتدى اللّغة العربيّة يتناول النّقاش في قضايا اللّغة العربيّة وعلومها؛ من نحو وصرف وبلاغة، للنُّهوضِ بمكانتها، وتطوير مهارات تعلّمها وتصحيح الأخطاء الشائعة.

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

الوعي اللغوي

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2013-09-06, 12:50   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
leprence30
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي الوعي اللغوي

الوعي اللغوي

تحرير المشتقات من مزاعم الشذوذ (1)

هذه اللغات البشرية جمعاء، لا ريب عندي في أنها - في أصلها - إلهامٌ وتوقيف، وليست مواضعةً واصطلاحًا وقعت لأجناس البشر بالحكمة، وغرست في جِبلَّتهم غرسًا، ونَمَت معهم في عهود التاريخ المتعاقبة، ثم استحدثوا إبَّان استبحارِهم في التمدُّن والعمران المواضعةَ والاصطلاح، وخرجوا إلى التصنيع والتفريع، ومضت كل أمةٍ - على تراخي الزمن وانبساطه - في الاتساع بلُغَتها على وَفْق طبيعتها وما تدعو حاجتها إليه من شيء، فاشتقَّت لفظًا من لفظ، وفرَّعت الفروع من الأصول، من غير أن تخرج عليها، أو تبتعد عن جذورها، جاريةً في ذلك على إلهام الفطرة، ووحي الشعور العنصري المستكِنِّ في غرائز الشعوب والأمم.

ومن شأن ذلك استبقاء الأصول والوقوف عندها، ومراعاتها مراعاة دقيقة، والتجافي عن الدَّخيل ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً في كلِّ ما يُراد الاتساع فيه من شيء.

وعلى حجم مادة اللغة - وطبيعتها في التصرف والمرونة - يكونُ حجم قواعدها وضوابطها التي تستنبطُ منها بالاستقراء والملاحظة والتحديد، كما يشهد لهذا (نَحْوُ) هذه اللُّغات في اتساعه وتبحُّره في لغة، وضيقه وتحجُّره في لغة أخرى.

ومما لا ريب فيه أن اللغة العربية - في حدود ما أعلمه - هي أوسع اللغات التي تتكلَّم بها أجناس البشر على الإطلاق، غَزُرَت مادتها غزارة تفوقُ الوصف، وتنوَّعت أوزانها في الأسماء والأفعال، وتعدَّدت فيها صور الاشتقاق وصِيَغُه، فلا جَرَمَ أن يكون (نَحْوُها) أوسعَ (نحوٍ) عرَفته اللغات.

ولقد بلغ صنع النحو العربي مداه في أقصر مدة تتاح لمثله ولمثل اللغة العظيمة التي استُنبط منها، وصِيغ صياغتَه الدقيقة البارعة الباهرة على غير مثال سابق، بفضل العباقرة العمالقة الأوائل الذين نبغوا إبَّان الانبعاث العربي الإسلامي، إلى جانب مَن نبغ من أعاظم قادة الفتح وساسته، فتباروا جميعًا في إقامة صروح الدولة العالمية الجديدة.

هؤلاء نشَروا الدعوة إلى الله، وأسَّسوا المُلْك العظيم، وأولئك أقبَلوا على لغة الدعوة والدولة يُدَوِّنونها، ويضعون مُعْجَمها، ويستنبطون نحوَها، ويبتكرون علومها وآدابها وفنونها، فلم تَكَدْ تنتصف المائة الثانية حتى بلَغوا الذروة في كل ما أثَّلوه من ذلك، ومنه هذا (النحو) الذي استنبطتْه قرائحُهم بالاستقراء والملاحظة، وظهر في صورته الفخمة الرائعة في (كتاب) أبي بشر سيبويهِ مولى الحارث بن كعب، وقد انصبَّ فيه جهد علماء العربية، منذ رسمت أوَّليَّته التي حصرت أجناس الكلم الثلاث - الاسم والفعل والحرف - إلى أن انتهى به مؤسسُه الحقيقي (الخليل بن أحمد الفراهيدي) إلى الذروة، ومنه في الأغلب استمدَّ تلميذه سيبويه مادة كتابه العظيم، الذي شهد أهل العلم أنه أكمل كتاب في بابه، وقد يكون - كما قال أبو العباس المُبرِّد - الكتاب الذي لم يُعمَل كتابٌ في علم من العلوم مثلُه، وإنه لكذلك حقًّا، تجلَّت فيه عبقرية هذه اللغة العربية تجلِّيَ عبقرية أهلها، ومستنبطي قواعدها وضوابطها في الاستقراء والملاحظة والتأصيل والتفريع.

على أن هذا النحو العربي، على ما بلغه من القوة والروعة في هذا الكتاب العظيم، لم يستغنِ إطلاقًا عن المتابعة والتعقب؛ لاتساع اللغة العربية وغزارة مادتها، فظلَّ العقل العربي يعتمل في تحديد مقاصده، وتبيين حدوده، حتى جاء زمان تقاصر فيه جهد الخَلَف عن جهد السَّلَف في كل شأن من شؤون الحياة، وغلب التقليد على الاجتهاد والإبداع، فوقف (النحو) في جملة ما وقف من الأشياء عند ما انتهى إليه، إن لم نَقُل: تراجَع عن عهده، واقتصر الجهدُ فيه على ترديد عبارات الأوائل وشرحها، وعلى مُماحكات لفظية لا طائل تحتها في الغالب ولا جديد.

وقد توهَّم ناس هالَهم ما تكدَّس من كتبه أن هذا النحو قد نضج واحترق، فلا سبيل لأحد إلى أن يجتهد فيه، أو يحرِّر شيئًا منه، أو يأتي فيه بنظر جديد.

ومن الواضح أن هذه النظرة إلى النحو العربي إنما تدلُّ على الاستغراق في إكبار جهد النحاة السالفين، كما تدل على جمود الفكر وعلى الجهل بطبائع الأشياء، فما عُرِف من سنن الله في الأشياء أن يبلُغَ شيء ما حدًّا من الكمال يقف الجهد عنده، وواقع النحو العربي - على جلالة ما انتهى إلينا من كتبه - لا يمتنع على التعقب والملاحظة والتجديد، فما تزال قوانين من قوانينه مفتقرة إلى استقراء جديد، وأنظار جديدة مستقلة؛ لتحريرها ووضعها في النصاب الصحيح.

ومَرَدُّ ذلك لا إلى عيبٍ في فقه صانعيه، ولكن إلى أمرٍ هو فوق قدرة الإنسان، ذلك هو تعذُّر الإحاطة التامَّة الشاملة بجميع لغات القبائل ولهجاتها، على عِظَم ما تلقَّفوه منها من الأفواه، فدوَّنوه، وبنَوا عليه هذا النحو.

يشهد لما أقول ما أُثِر عن الإمام محمَّد بن إدريس الشافعي من قوله: "لا يحيط باللغة إلا نبي"، أو كما قال، وما حدَّث به يونس بن حبيب عن أبي عمرو بن العلاء، قال: "ما انتهى إلينا مما قالت العرب إلا أقلُّه، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير".

ومن ضياع هذه الكثرة الكاثرة من اللغة، كان منشأُ الاضطراب في أقوال النحاة ثم اصطراعهم وتعدُّد مذاهبهم، وكان من ذلك أن عزَلوا طوائف من الألفاظ عن القواعد العامة، وعدُّوها كغرائب الإبل لا تنضوي إلى سرب، ودوَّنوها على أنها شواذُّ على غير قياس، مفارِقاتٌ لما عليه غيرها في الحكم، وتناقَلها خالف عن سالف، وقلَّما حاولوا بحثها وضمَّها إلى جماعتها، وما بحثوه منها اضطربوا فيه اضطرابًا شديدًا، وذهبوا فيه طرائق قِددًا، ولم يلتقوا عند رأيٍ بعينه، ينفي عنها صفة الشذوذ، ويُضفِي عليها صفة القواعد الجامعة المانعة.

ولا ريب في أن بحث هذه "الظاهرة" - ظاهرةِ الشذوذ المنتشرة في كتب النحاة ودواوين اللُّغَويين - مطلبٌ صعب وعسير جدًّا، يدعو تذليلُه إلى جهد شاقٍّ وصبر عظيم، ولا بدَّ من احتمال ذلك فيما يجب أن يستأنف من درس النحو العربي، وبحثه مجددًا؛ للمِّ ما تشعَّث من أقوال النحاة فيه، وتصحيحها، وتبيين حدوده على نحوٍ أدقَّ وأعمق مما هي عليه.

ومن أهم ما استرعى نظري في كتب النحاة واللغويين من دعاوى الشذوذ، هذه المزاعم التي تلحق بالمشتقات.

وإذا جاز الشذوذ والاستثناء في بعض الحالات، وقُبِل عند انبهام معالم السبل إلى معرفة الأسباب، فليس طبيعيًّا ولا معقولاً أن يكون شيء منه في هذه المشتقات، إلا أن تكون هنالك علة مستكنَّة خافية، وهي مما يجب أن تبحث وتزاح؛ ذلك أن الاشتقاق قياس مطَّرد في النظام اللغوي، لا يُتصور تخلُّفُ فرد من أفراده، ولا بد له أن يتسق ويجري في مجراه إلى غايته، لا ينقطع عن نظائره، ولا يتحوَّل عن النظام.

يشهد لهذا قانونُه النفسي عند العرب، كما تشهَدُ له ضوابطه الوضعية المستنبطة من هذا القانون، وهو شيء كان متوارَثًا عندهم سليقةً ونَجْرًا، لا يُخِلُّون به، ويتناكرون ما يخلُّ به كما يتناكرون زيغ الإعراب.

حدَّث عبدالملك بن قُريب الأصمعي، قال: "سمعتُ أبا عمر الجَرْمي يقول: ارتبتُ بفصاحة أعرابي، فأردت امتحانه، فقلت بيتًا، وألقيته عليه، وهو:
كم رأينا من (مُسْحَبٍ) مُسْلَحِبٍّ
صاد لحمَ النُّسورِ والعقبانِ

فأفكر فيه، ثم قال: "رُدَّ عليَّ ذكر (المسحوب)" حتى قالها مراتٍ، فعلمت أن فصاحته باقية".

ويعني هذا أن الاشتقاق قانون نفسي مستقر لا يتغير، كان العرب يُحسُّونه بالطبع وقوة النفس ولطف الحس، ويُجْرون كل نوع منه على قانونه نسقًا واحدًا مطردًا متتابعًا، لا ينحرفون عنه ولا يغيرونه.

فهذا الأعرابي حين سمع (المُسْحَب) في البيت الذي صنعه أبو عمر الجَرْمي ليمتحنَ فصاحته قبل أن يأخذ اللغة منه - قد نبَّهَه حسُّه إلى امتناع اشتقاق (مُسْحَب)، اسم مفعول من سحب الثلاثي المتعدي، بدلاً من (مسحوب) الذي هو قياسه في نفسه، فأباه طبعُه، واستعصم بالقانون الذي فُطِر عليه.

وهذا هو القانون الذي يحكم لغة العرب، ولا سيما مشتقاتها، فلا مناص من ملاحظته، والاحتكام إليه فيما نتدارسه من قضاياها، فما نشز عليه وجاء على خلافه، لزم التوقفُ فيه إذا كان واردًا عن الفصحاء، وكان رواتُه ثقاتٍ أثباتًا، ووجب بحثُه وردُّه إلى قانونه.










 


رد مع اقتباس
قديم 2013-09-06, 12:51   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
leprence30
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي المنظومة النحوية الصغرى

المنظومة النحوية الصغرى

حَدُّ الكَلَامِ مِنهُمُو قَد سُمِعَا
لَفظٌ مُرَكَّبٌ مُفِيدٌ وُضِعَا
وَهْوَ مُقَسَّمٌ إِلَى أَقسَامِ
اِسمٍ وَفِعلٍ ثُمَّ حَرفٍ سَامِ
وَقَسَّمَ الإِعرَابَ أَهلُ العَزمِ
لِلرَّفعِ وَالنَّصبِ وَخَفضٍ جَزمِ
رَفعٌ بِضَمٍّ أَلِفٍ وَاوٍ وَنُونْ
جَرٌّ بِكَسرٍ فَتحَةٍ يَاءٍ يَكُونْ
نَصبٌ بِفَتحَةٍ وَيَا وَكَسرِ
وَأَلِفٍ وَحَذفِ نُونٍ يَجرِي
جَزمٌ بِتَسكِينٍ وَحَذفٍ يُعلَمُ
وَالفِعلُ لَا الأَسمَا يَقِينًا تُجزَمُ
وَالجَرُّ بِاسمٍ لَا بِفِعلٍ وَقَعَا
وَالرَّفعُ وَالنَّصبُ بِهَذَينِ مَعَا
أَقسَامُ الَافعَالِ ثَلَاثَةٌ فَعُوا
اَلأَمرُ وَالمَاضِيُ وَالمُضَارِعُ
مَاضٍ وَأَمرٌ يُبنَيَانِ سَرمَدَا
وَارفَع مُضَارِعًا إِذَا تَجَرَّدَا
وَلْتَنصِبَنَّهُ -هُدِيتَ- وَاجزِمِ
إِن جَاءَ بَعدَ نَاصِبٍ أَو جَازِمِ
وَلْتَبنِ إِن بِنُونِ تَوكِيدٍ تُلِي
أَو نِسوَةٍ كَنَحوِ يَسأَلنَ العَلِي
وَالفَاعِلَ ارفَعَن وَيَأتِي مُظهَرَا
كَجَاءَ صَالِحٌ وَيَأتِي مُضمَرَا
وَإِن حَذَفتَهُ فَأَوجِبَنَّا
تَأخِيرَكَ المَفعُولَ وَارفَعَنَّا
وَالمُبتَدَا ارفَعَن كَذَاكَ الخَبَرُ
مِثَالُهُ مُحَمَّدٌ مُنتَصِرُ
وَإِنَّمَا الخَبَرُ يَأتِي مُفرَدَا
كَأَحمَدٌ مُوَفَّقٌ إِلَى الهُدَى
وَغَيرَ مُفرَدٍ وَذَا أَنوَاعُ
أَربَعَةٌ حَقًّا كَمَا يُذَاعُ
ظَرفٌ وَجَرٌّ جُملَةٌ إِسمِيَّهْ
رَابِعُ هَذِي جُملَةٌ فِعلِيَّهْ
اَلخَبَرَ انصِب وَارفَعَنَّ المُبتَدَا
بِكَانَ أَو أَصحَابِهَا لِتَرشُدَا
وَعَكسُهُ لِإِنَّ مَع ذَوِيهَا
كَإِنَّ رَبَّ العَرشِ مُصطَفِيهَا
وَانصِبهُمَا مَعًا بِظَنَّ أَو بِمَا
رَافَقَهَا كَظَنَّ زَيدًا عَالِمَا
عَطفٌ وَتَوكِيدٌ وَنَعتٌ بَدَلُ
تَوَابِعٌ كَجَاءَ ذَا وَالبَطَلُ
وَبَدَلٌ أَقسَامُهُ تُلتَقَطُ
كُلٌّ وَبَعضٌ وَاشتِمَالٌ غَلَطُ
مَا "رُبَّ" تَدخُلُ عَلَيهِ النَّكِرَهْ
وَغَيرُهُ مَعرِفَةٌ مُنحَصِرَهْ
فِي خَمسَةٍ ذُو "أَل" ضَمِيرٌ عَلَمُ
أَسمَا إِشَارَةٍ مُضَافٌ لَهُمُ
وَنَصبُ مَفعُولٍ بِهِ لَا بُدَّا
مِنهُ كَلَازَمَ التَّقِيُّ الزُّهدَا
كَذَاكَ مَفعُولٌ لَهُ وَمَعْهُ
كَسِرتُ وَالجَيشَ لِنَنأَى عَنْهُ
وَالمَصدَرَ انصِب مِنهُ مَعنَوِيُّ
مَا وَافَقَ الفِعلَ هُوَ اللَّفظِيُّ
وَالظَّرفُ مَنصُوبٌ لَهُ نَوعَانِ
هُمَا الزَّمَانِيُّ مَعَ المَكَانِي
اِسمٌ مُبَيِّنٌ لِمَا قَد أُبهِمَا
مِن هَيئَةٍ حَالٌ مُنَكَّرٌ سَمَا
لَكِنَّمَا التَّميِيزُ لِلذَّوَاتِ
مُبَيِّنٌ مِثَالُهُ سَيَاتِي
لَنَا عَلَيهِ أَربَعُونَ دِرهَمَا
وَكَونُهُ مُنَكَّرًا تَحَتَّمَا
إِلَّا سِوَى غَيرُ خَلَا مَعْهُنَّا
عَدَا حَشَا فَاستَثنِيَنْ بِهِنَّا
فإِن يَكُ الكَلَامُ مُوجَبًا وَتَمْ
مِن بَعدِ إِلَّا نَصبُهُ قَدِ انحَتَمْ
إِن يَكُ مَنفِيًّا وَكَانَ تَامَا
أَبدِل أَوِ انصِبَنْ فَعِ الكَلَامَا
أَو كَانَ نَاقِصًا فَأَعرِب حَسْبَمَا
يُوجِبُ فِيهِ العَمَلُ اعرِف وَاعلَمَا
وَحُكمُ مَا استَثنَت سِوَى وَغَيرُ
-نَحوُ أَتَوْا سِوَى الهُمَامِ- الجَرُّ
حَشَا عَدَا خَلَا انصِبَنْ وَجُرَّا
إِذَا بِهَا استَثنَيتَ حُكمٌ قَرَّا
اِنصِب بِ"لَا" مُتَّصِلًا مُنَكَّرَا
مِن غَيرِ تَنوِينٍ بِإِفرَادٍ جَرَى
وَأَوجِبِ التَّكرَارَ وَالإِهمَالَا
لَهَا إِذَا أَبصَرتَ الِانفِصَالَا
وَإِن تَكَرَّرَت بِوَصلٍ جَازَا
إِعمَالُهَا او إِهمَالُهَا جَوَازَا
لِخَمسَةٍ قَد قَسَّمُوا المُنَادَى
مُفردُ الَاعلَامِ كَيَا جُمَادَى
نَكِرَةٌ مَقصُودَةٌ وَالضِّدُّ
ثُمَّ المُضَافُ وَالشَّبِيهُ بَعدُ
فَالأَوَّلَانِ ابنِهِمَا بِالضَّمَّهْ
وَالبَاقِيَ انصِبَنْ كَيَا ذَا الهِمَّهْ
وَالخَفضُ وَاقِعٌ بِحَرفِ الجَرِّ
وَبِالإِضَافَةِ كَنَجلِ البَرِّ
وَتَبَعِيَّةٍ. بِحَمدِ اللَّهِ
تَمَّ مُصَلِّيًا عَلَى الأَوَّاهِ









رد مع اقتباس
قديم 2013-09-06, 12:52   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
leprence30
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي في أحوال اللغة العربية في الصين الحديثة

في أحوال اللغة العربية في الصين الحديثة

العلاقات العربية - الصينية قديمة قدم التاريخ نفسه، المروي منه والمكتوب. إنها تعود الى ما قبل ظهور الإسلام، حيث كان التجار العرب، هم أول من بادر إلى إنشاء هذه العلاقة، وبنائها بناءً شبه محكم، لأجل إنجاح تجارتهم عبر البحار، وكسب ثقة تجار الأسواق الصينية وناسها، عاماً بعد عام.

وبدورهم كان التجار الصينيون يتركون موانئهم أيضاً، لتصل سفنهم التجارية إلى موانئ البحار العربية، محملةً بالخزف الصيني، والقيشاني، وبالحرير، خيوطاً ونسيجاً، وكذلك بالفضة والذهب، واليشم.. علاوة على صنوف كثيرة من الأدوية الصينية، العشبية منها، وغير العشبية إلخ... لتعود إلى بلادها، محملة بالخيول العربية، واللبان، والبخور العربي والإفريقي، والعاج، والتمور، وبعض المنسوجات القطنية، وغيرها من البضائع، التي تفتقدها الأسواق الصينية.

ويذكر المسعودي في "مروج الذهب" أن سفن الصين، كانت تصل قبل الإسلام إلى مدينة الحيرة، على نهر الفرات في العراق، وهي عاصمة المناذرة الموالين للفرس. ويذكر ابن عبد ربه في "العقد الفريد"، أن النعمان بن المنذر، ملك الحيرة، رأى في إيوان كسرى وفداً من الصين.

وبعد ظهور الإسلام، وبحسب مراجع تاريخية صينية، فإن أول بعثة أرسلت من الجانب العربي- الإسلامي إلى الصين، كانت في العام 651 ميلادية، أي في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وكانت طبيعة البعثة، دينية، تدعو حكام الصين للدخول في الدين الحنيف، وأن الذي حمل الدعوة المذكورة وقتها، هو سعد بن أبي وقاص. وتلت هذه البعثة، بعثات عديدة منذ مئات السنين.

هكذا إذن، مع التجار العرب، قبل الإسلام وبعده، استمرت العلاقات العربية- الصينية، وتقوت تجارياً وثقافياً، بخاصة بعدما استقر عدد كبير من التجار العرب المسلمين في الصين، وتزاوجوا، وأنجبوا أجيالاً صينية مسلمة، وصل تعدادها إلى ما يزيد على الثلاثين مليون مسلم اليوم.

وفي زمن أسرة يوان ( 1264- 1368)، أخضع المغول الصين كلها تحت سلطتهم القوية، فقامت جيوش جرارة منهم بحملاتٍ متوالية على غرب آسيا، وأسرت أعداداً كبيرة من الجنود، والمثقفين، والفنيين المهرة المسلمين، وعادت بهم إلى الصين، فأقاموا في البلاد متفرقين في مختلف أنحائها. ومن خلال هؤلاء المسلمين، وغيرهم ممن سبقهم من تجار عرب مسلمين، بدأ دخول اللغة العربية، وانتشارها، وتعلمها بالضرورة، باعتبارها لغة الإسلام والقرآن الكريم.

ومع حكم أسرة تانغ الصينية (618- 907) ازدهر أكثر تعليم العربية في الصين، وبخاصة من خلال المساجد، التي تحولت إلى مراكز، أو معاهد لتعليم لغة الضاد، يدرسها، بالإضافة إلى رجال الدين المسلمين، كل من تضلع من هذه اللغة، التي يعتبرها البرفسور تشو وي ليه (أستاذ الدراسات الدولية في جامعة شانغهاي والخبير بالعلاقات العربية - الصينية) "من أجمل لغات العالم، وإنني سعيد بأنني تعلمت هذه اللغة الجميلة، وأبحرت في كنوز آدابها القديمة والحديثة، وأعجبت كثيراً بأشكال حروفها، و إيقاعات ألفاظها".

رواد العربية في الصين:
من جهة أخرى، يعتبر شوي تشينغ قوه، وهو أستاذ، وباحث، في كلية اللغة العربية في "جامعة الدراسات الأجنبية في بكين"، أحد أبرز المهتمين بتاريخ لغة الضاد في بلاد الصين، بوجهيه القديم والحديث، وله العديد من الدراسات في هذا المضمار اللساني. وقد قرأ له كاتب هذه السطور أكثر من دراسة في أحوال اللغة العربية، وخصوصاً في الصين الحديثة، نعرف من إحداها، أن اللغة العربية، لم تدخل المدارس الصينية، إلا في أوائل القرن العشرين، متزامنةً مع حركة الثقافة الجديدة، التي اجتاحت البلاد كلها، فأنشئ العديد من المدارس الابتدائية والثانوية الإسلامية في المناطق المأهولة بالمسلمين، وفي بعض المدن الكبرى، مثل بكين وشانغهاي، تدرَّس مواد ثقافية وعلمية باللغتين: الصينية والعربية في وقت واحد. والجدير ذكره إن هذه المدارس قد خرجت عدداً من رواد اللغة العربية في الصين، أمثال عبد الرحمن ناجون، ومحمد مكين، اللذين سافرا إلى جامعة الأزهر في مصر، لمواصلة دراستهما بعد تخرجهما من المدارس الثانوية الإسلامية، ثم عادا إلى الصين لنشر اللغة العربية والثقافة العربية - الإسلامية في جامعاتها.

وبدأ تعليم اللغة العربية في الجامعة الصينية في العام 1943 م. عندما عُين الأستاذ عبد الرحمن ناجون، بعد تخرجه من جامعة الأزهر، حاملاً شهادة "العالمية"، أستاذاً في الجامعة المركزية (جامعة نانكينج اليوم)، فألقى دروس اللغة العربية على الطلاب كمادة اختيارية، مستخدماً الكتب المنهجية، التي ألفها بنفسه. كما ألقى محاضرات حول التاريخ العربي، والثقافة العربية الإسلامية، في نطاق برنامج الجامعة.

وفي العام 1946، أنشئ تخصص اللغة العربية للمرة الأولى في الجامعة الصينية، حيث استقدمت جامعة بكين، الأستاذ محمد مكين، زميل عبد الرحمن ناجون الأزهري، لإنشاء شعبة اللغة العربية في قسم اللغات الشرقية في الجامعة، وقبلت دفعات أولى من الشبان الصينيين (من مسلمين وغير مسلمين) لدراسة اللغة العربية كتخصص. وقد صار هؤلاء الطلاب بعد تخرجهم كوادر، وعلماء، أو أساتذة، وأسهموا إسهاماً كبيراً في إقامة العلاقات بين الصين الجديدة والدول العربية، وفي تعريف الصينيين بالثقافة العربية - الإسلامية.

وبعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية في العام 1949، وبالتوازي مع تطور العلاقات بين الصين الشعبية والدول العربية، أنشأت الحكومة، تخصص اللغة العربية في جامعات ومعاهد عدة، منها معهد الشؤون الديبلوماسية، وجامعة الاقتصاد والتجارة الخارجية، وجامعة الدراسات الأجنبية في بكين، والمعهد العسكري للغات الأجنبية في لويانغ، ومعهد العلوم الإسلامية الصيني، وجامعة الدراسات الدولية في شانغهاي، ومعهد اللغات في بكين، والمعهد الثاني للغات الأجنبية في بكين. وقد أعدَت هذه الجامعات والمعاهد، آلافاً من الأكفاء، الذين يعملون في مجالات مختلفة، ويسهمون في تطوير العلاقات الصينية - العربية، ومنهم وزراء، وسفراء، وجنرالات، وأساتذة، ومدراء شركات، وإعلاميون ورجال دين إلخ..

ومنذ تسعينيات القرن العشرين، ومع تطور الاقتصاد الصيني، وزيادة الانفتاح على العالم الخارجي، كثر التبادل الاقتصادي والتجاري بين المناطق الصينية المختلفة والدول العربية، فبدأت بعض المقاطعات الصينية تهتم بإعداد مترجمين للغة العربية. ونتيجة لذلك، تم إنشاء قسم تخصص اللغة العربية في خمس جامعات إقليمية، ومعظمها في المناطق الواقعة غرب الصين، حيث يتكثف وجود القوميات المسلمة.

ولا بد من التنويه هنا، أن فرص التوظيف لطلاب اللغة العربية في الصين، تعتبر جيدة بشكل عام، ولاسيما في بعض الجامعات المهمة، نظراً للعلاقات الطيبة، والتبادلات المكثفة بين الصين والدول العربية في مختلف المجالات في الوقت الراهن.

ومن أجل ضمان ورفع نوعية التعليم، كونت وزارة التربية والتعليم الصينية لجاناً مختلفة، لتوجيه وتقييم أعمال التدريس في الجامعات، ومنها "اللجنة الوطنية لتوجيه تدريس اللغات الأجنبية في الجامعات"، وتتبع لهذه اللجنة، "فرقة اللغة العربية"، التي تقوم بتنسيق وتوجيه تعليم العربية في الجامعات. وتحت إشراف وتنظيم هذه "الفرقة"، شاركت مجموعة من الأساتذة المتمكنين في جامعات عدة، في تأليف "منهج تعليم اللغة العربية في الجامعات الصينية"، الذي صدر في العام 1991.

كما تم إنشاء "مجمع اللغة العربية في الصين للتعليم والدراسات" في العام 1985، والذي انضمت إليه مختلف الجامعات، التي تدرس اللغة العربية. وينظم المجمع سنوياً فعاليات متعلقة بتعليم اللغة العربية، كعقد دورات، وندوات علمية، وإقامة مسابقات الخطابة، أو الإنشاء، أو الترجمة، أو العرض الفني بين طلبة الجامعات.

المساعدات العربية:
وبيَن البرفسور شوي تشينغ قوه، أن قضية اللغة العربية في الصين، حظيت بمساعدات عربية كبيرة. فمنذ تأسيس الصين الجديدة، أوفدت الدول العربية خبراء وأساتذة، ومدرسين إلى الصين، لإلقاء الدروس العربية، أو مشاركة الزملاء الصينيين في تأليف القواميس، والكتب المنهجية، أو إجراء التنقيح اللغوي على أعمال المترجمين الصينيين. وكان من بين هؤلاء الموفدين، أسماء أدبية لامعة كالروائي السوري الشهير حنا مينه، والشاعرين السوريين: عبد المعين الملوحي، وسلامة عبيد، والمفكر الفلسفي العراقي هادي العلوي، والمترجم الفلسطيني محمد نمر عبد الكريم.

وساعدت "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم" على تنظيم دورتين تدريبيتين لأساتذة اللغة العربية، غير الناطقين بها، من جامعات آسيا في بكين. كما وقع العديد من الجامعات العربية اتفاقيات حول التبادل الأكاديمي مع نظيراتها الصينية.

وفي السنوات الأخيرة، لقي تعليم اللغة العربية في الصين اهتماماً متزايداً من طرف البلدان، والحكومات، والهيئات العربية. فقد تبرع الراحل، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الرئيس السابق لدولة الإمارات العربية المتحدة، بمنحة لبناء "مركز الإمارات لتدريس اللغة العربية والدراسات العربية- الإسلامية" في جامعة الدراسات الأجنبية في بكين، وهو عبارة عن بناءٍ ذي خمسة طوابق، بكامل تجهيزاته اللازمة، ومكتبة عربية.

وأهدت المملكة العربية السعودية معملاً لغوياً إلى جامعة بكين. كما ساعدت في إنشاء "صندوق محمد مكين للدراسات الإسلامية" فيها. وتبرعت غرفة التجارة والصناعة في دبي، لإنشاء "صندوق دبي- شانغهاي لتعليم اللغة العربية" في جامعة الدراسات الدولية في شانغهاي.

كما أهدت حكومة مصر إلى "معهد الدراسات الشرق الأوسطية" في الجامعة، مكتبة تحمل اسم سوزان مبارك، تضم آلاف الكتب العربية.

المصدر: نشرة "أفق" عن مؤسسة الفكر العربي.










رد مع اقتباس
قديم 2013-09-06, 12:53   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
leprence30
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي حل مشكلة اسم الآلة

]حل مشكلة اسم الآلة

ولَشد ما يستشعر الإنسانُ الضِّيق والحرج حين يستعمل هذه الأشياء، فيتعذَّر عليه الوقوع على أسماء عربية لها، أو يقع لبعضها على أسماء عامية أو معرَّبة، ومنها ما أصابه أشنع التحريف فأفسد معناه، كالذي سمِعتُه ذات يوم من عاملٍ في مصنع كان يعالج أداةً عطبت في "سيارة"، فسألته عن اسمها، فرأيته يتردَّد، ثم قال بعد لَأْيٍ بسذاجةٍ العامي البريء: اسمها - أكرمك الله - "نَذْل"، وهو لا يعلم أن أصلها الإنكليزي "Needle"، ومعناه الإبرة، ولم يخطر بباله أن يفكِّر فيما يقال لهذه الأداة التي تشبه الإبرة "نَذْل"، بحيث لجأ إلى التأدب مع مخاطَبه وإكرامه عن ذكرها له حين اضطرَّه إلى إسماعه إياها، استجابة لسؤاله، ومثل هذا كثير.

والمشكلة القائمة تُحلُّ بوسيلتين:
الوسيلة الأولى: هي أن يُسْتَحيا القديم، ويلاءم بينه وبين الحاضر من غير قسرٍ ولا إعنات، فتستعمل الألفاظ العربية التي نُسِيت في معانيها الأصلية، وفيما يُشبِه معانيها الأصلية، أو يكون لها بها صلة غير المشابهة.

ولا ريبَ في أن التوسُّع في أوضاع اللغة القومية حتى تَفْرُهَ وتُغنِي نفسها، أبقى على حياتها وأضمن لدوام شبابها وتجدده من السماح للدخيل باقتحامها واحتلال مكانها كما يَوَدُّ "ناس" أن يكون!

إن دواوين اللغة العربية تَفِيض بأسماء الآلات، والأدوات، والأثاث، والرياش، والماعون، وألفاظ الشؤون العامة التي تشتدُّ حاجة الناس إليها، وقد استخرجتُ من كنوزها ما استطعتُ، وجعلتُه على طرف الثُّمَام[1] من متناوليه، ليستعملوه في التعبير عن المعاني الجديدة، وفي إطلاقه على المسميات المستحدَثة على النحو الذي أشرت إليه، وهو سبيل مسلوك في اللغة منذ القديم.

والوسيلة الأخرى: هي وسيلة الاشتقاق الذي هو في اللغة العربية أشبه بـ"المولد" "Generator" في الصناعات الآلية، ما يفتأ يولِّد لها الطاقة بعد الطاقة، ويمدُّها بالقوة والقدرة على الحركة والعمل ما تحرك، فكما أن هذا هو شأن "المولِّد" في الصناعات الآلية، فكذلك الاشتقاق في اللغة العربية، يمادُّها ما امتد بأهلها البقاء على وجه الزمن، ويساعدها على نموِّها وتطوِّرها دائمًا، وعلى إسعاف الحياة بما تطلب منها من ألفاظ.

وسبيل هذه الوسيلة سبيل لاحبة معروفة، قد عبَّدتها اللغة العربية بفطرتها المستقيمة، ونوَّعت الآلات التي تبلغ براكبها غايته البعيدة في سهولة ويُسْرٍ، لكنها تحيَّفها الخالفون وجاروا عليها، فضيَّقوها، وألقوا فيه الحسك والشوك، وقصروا سلوكها على آلة معقدة مغلقة، مثقلة بالقيود، بطيئة الحركة كراحلة صديق الشاعر القاهري الظريف "البهاء زهير":
تمشي فتحسبُها العيو
ن على الطريق مشكَّلَهْ
مقدارُ خطوتِها الطوي
لةِ حين تسرعُ أنملَهْ
وتخالُ مدبرةً إذا
ما أقبَلَتْ مستعجلهْ
تهتزُّ وهي مكانها
فكأنَّما هي زلزلهْ

وأعني بهذه الآلة، قاعدة (اسم الآلة) كما وردت في كتب النُّحاة، وما أريد بما أصف من حالها غير الجدِّ الذي يمكِّننا من النهوض بأداء الأمانة.

على أن بحث اسم الآلة هذا في جملته وأساس تناوله، لم يتوسَّع فيه النحاة من قدماء ومحدثين ما توسعوا في غيره من مباحث النحو واللغة؛ لأن الحياة القديمة لم تكن تدعو لبحثه وتُلحُّ في تعميقه، فأوجز الأوائل فيه الكلام إيجازًا شديدًا، ونقله الأواخر عن نهجه في لغة العرب، فقيَّدوا مُطْلقَه، وحرَّموا مباحه، وحجروا به واسعًا.

أما وقد تجدَّدت حياتنا على نحوٍ يتطلَّب منا الاستبحار في كل شيء، ومن ذلك اللغة، فلا مناص لنا من أن نُعِيد النظر في قاعدة (اسم الآلة) هذه، وأن نبحثها بحثًا جديدًا وعميقًا، يوضح غموضها، ويكشف معالم ميدانها الفسيح، وينتهي بها إلى غايتها من الانتفاع بها في توسيع مادة اللغة في جانب من أهم جوانبها بالقياس إلى الحياة الحاضرة.
♦ ♦ ♦

بُحثت هذه القاعدة في كتب النحو على طريقتين مختلفتين، وسارت بها كل منهما على منهج بحثها في سائر أبواب النحو.

أولاهما ما أسميه الطريقة العربية؛ لأنها تقوم على الاستقراء اللغوي ومراعاة استعمالات العربية الأصيلة، فتقعِّد ولا تعقِّد.

والأخرى ما أسميه الطريقة الأعجمية؛ لأنها تسير على منهج من التعليل المنطقي قلما تلتفت معه إلى الاستقراء اللغوي، وتفرض شروطًا تحرم أنواعًا من مباح الاستعمالات العربية، فتقعِّد وتعقِّد.

1- فأما الطريقة العربية، فقد تناولتها من ناحية أَبْنِية بعض صيغها الاشتقاقية التي تلحق أولها ميمٌ مكسورة، للتفريق بينها وبين صِيَغ أسماء المكان والمصدر التي تكون على مثالها وتفتح ميمُها؛ إذ كانت العرب تفرِّق بين دلالات الصِّيَغ المتشابهة بالحركات وغيرها، فتقول مثلاً: "مِقَصٌّ" للشيء الذي يُقَصُّ به، و"مَقَصٌّ" للمصدر والموضع الذي يكون فيه القص، لم تذهب إلى أبعد من ذلك، ولا إلى أكثر منه مما يستدعيه البحث التفصيلي.

فقال سيبويه - من أئمة نحاة البصرة الأوائل - في "الكتاب"، وأوجز:
"باب ما عالجتَ به: أما المِقَصُّ فالذي يُقصُّ به، والمَقصُّ المكان والمصدر، وكل شيء يعالج به، فهو مكسور الأول، كانت فيه تاء التأنيث أو لم تكن، وذلك قولك: مِحْلَب، ومِنْجَل، ومِكْسَحة، ومسلة، والمصفى، والمخرز، والمخيط، وقد يجيء على مفعال، نحو مقراض، ومفتاح، ومصباح، وقالوا: المِفْتَح، كما قالوا المخرز، وقالوا المسرجة كما قالوا المكسحة".

وقال الكِسائي من أئمة الكوفيين في "كتاب ما تلحن فيه العوام":
"وما كان من الآلات مما يوضع ويرفع، مما في أوله ميم، فاكسر الميم أبدًا على مِفعل ومِفعلة، تقول: هذا مِشمل، ومِثقب، ومِقود، ومِنجل، ومِبرد، ومِقنعة، ومِصدغة، ومِجمرة، ومِسرجة، ومِشربة، ومِرفقة، ومِخدة، ومِحسة، ومِظلة، فهذا كله مكسور الأول أبدًا، سوى مُنخل، ومُسعط، ومُدهن، ومُدق، ومُكحلة، فإن هذه الأحرف جاءت عن العرب بضم الميم".

وقال ثعلب في "الفصيح"، وابن السكيت في "إصلاح المنطق":
"كل اسم في أوله ميم زائدة على مِفعل ومِفعلة، مما ينقل أو يعمل به، فهو مكسور الأول، نحو: مِطرقة، ومِروحة، ومِرآة، ومِئزر، ومِحلب للذي يحلب فيه، ومِخيط، ومقطع، إلا أحرفًا جِئْنَ نوادر بالضم في الميم والعين، وهن مُدهن، ومُنخل، ومُسعط، ومُدق، ومُكحلة، ومُنصل وهو السيف".

ذلك هو منحى الأوائل في المسألة، وهو يتلخص في أمرين:
(أ) أن القصد هو بحث بناء مِفعَل ومِفعَلة، وضبط حركة الميم التي تلحقهما بالكسر لما ينقل أو يعمل به من الأسماء، وبالفتح للمكان والمصدر؛ إذ كانت العوامُّ تلحن في ذلك فتفتح ميم مِفعَل ومِفعَلة مما يُنقل أو يُعمل به، وإنما هي بالكسر، وليس القصد أن يحصر اشتقاق اسم الآلة بهذه الصيغ الثلاث حسب، فإن ذلك لا دلالة عليه في هذه النقول.

(ب) عبَّر سيبويه عن "الآلة" لا بلفظها، بل بملحوظها؛ وهو قوله: "ما يعالج به"، وأتى الكسائي بصريح لفظها مجموعًا "الآلات"، غير أن مفهومها عنده هو "ما يوضع ويرفع"، فهل يفيد هذا التعبير ما أفاده تعبير سيبويه؟ أو يفيد معنى "الأداة" كما أفهمها منه؟ وبين "الآلة" و"الأداة" فرق لا شبهة فيه، سأفصله في موضعه من هذا البحث. وقول ثعلب وابن السكيت، "مما يُنقل أو يُعمل به"، نص على هذا التفريق، فكأن ثعلبًا وابن السكيت قد استدركا بهذا الملحظ الجديد على قاعدة سيبويه الساذجة ما نقص منها، ودلاَّ به أيضًا على ما فاته من المواءمة بين المعنى العلاجي والتمثيل له؛ لأن من أمثلته "المحلب" للذي يحلب فيه، وهو وعاء يكون فيه الشيء ولا يعالج به كما يعالج بالمقص مثلاً، وشتّان ما هما، فذلك "أداة"، وهو "آلة". وهذا الملحظ هو في الوقت نفسه تصحيح لكلام الكسائي أيضًا.

هذا، وقد تردَّد لفظ "الآلة" في كلام الفراء المتوفَّى سنة 276هـ في التفريق أيضًا بين دلالتي حركة ميم مفعل ومفعلة بالكسر والفتح، نقله ابن قتيبة في "أدب الكاتب - ط. السلفية 433"، فقال: "قال الفراء: يقال: مَرقاة ومِرْقاة، والفتح أكثر، وكذلك مَسقاة ومِسقاة، مَن جعلهما (آلة تستعمل) كسر؛ مثل: مِغرفة، ومِقدحة، ومِصدغة؛ ومَن جعلهما موضعًا للارتقاء وللسَّقي، نصب"، عنى فتح الميم فيهما.

وذكر اصطلاح (اسم الآلة) عليُّ بن عيسى الرُمَّاني المتوفَّى سنة 384هـ في "كتاب شرح سيبويه" مدرجًا بعد قول سيبويه "باب ما عالجت به"، ثم جعله جار الله الزمخشري - وقد يكون غيره سبقه إليه - عنوان الباب في "المُفصَّل".

(2) وأما الطريقة الأعجمية، فقد تناولت القاعدة على منهج بحثِها بالتحليل المنطقي، وفرض الشروط التي تُحرِّم المباح من الاستعمالات العربية، ووضعت لها تعريفات على أنحاء تتقارب في أشياء وتتباعد في أخرى.

ولعلِّي لا أبعُدُ عن الصواب إذا زعمت أن الزمخشري هو واضعُ أساس الطريقة الأعجمية لاسمِ الآلة، وإن كان تعريفه له يُوهِم لأول وهلة أنه بسبيل من نهج الأوائل، إن لم يكن غيره سبقه إلى ذلك.

ونص تعريفه:
"اسم الآلة: هو اسم ما يعالج به الشيء وينقل، ويجيء على صيغة: مِفْعَل، ومِفْعَلَة، ومِفْعال".

والشطر الأول من التعريف منقول من الطريقة العربية، من ثعلب وابن السكِّيت، مع فرق واحد، هو "الواو" في نصه، و"أو" في نصَّيهما كما رواه السيوطي، ولكن شطره الآخر قد عدل به عن طريقة الأوائل في تناول الباب من جهة التفريق بين دلالة حركة ميم مفعل ومفعلة بالكسر والفتح إلى حصر الاشتقاق بهذه الصيغ الثلاث (التي أخذها من سيبويه، ولم ينبِّه كما نبَّه سيبويه على قلة مفعال، فجعلها كلها على مستوى واحد من الشيوع) دون غيرها من صيغ الآلة الاشتقاقية المتعدِّدة في اللغة العربية، وهذا القيد الذي يحرِّم ذلك، هو من صميم القيود التي فرضتها الطريقة الأعجمية، ولم يقل به الأقدمون.

ثم جاء الخالفون فأضافوا إليه قيودًا جديدة، وصاغوا قاعدتهم صياغات منوعة، ران عليها الاختلاف والاضطراب، وهي كثيرة لستُ بسبيل نقلِها إلى هذا المكان، وإنما حسبي منها أن أنقُلَ ما يجمع أصولهم فيها لأدُلَّ على فسادها بالقياس إلى الاستعمالات اللُّغَوية عند العرب.

قال صاحب روح الشروح على "المقصود":
"أما اسم الآلة، فاسم مشتق مِن يفعل لما يعالج به الفاعل المفعول، ولذا لا يبنَى إلا من الفعل الثلاثي المتعدي".

وقال الزنجاني صاحب "العِزِّيِّ":
"وأما اسم الآلة، وهو ما يعالج به الفاعل المفعول لوصول الأثر إليه، فيجيء على مثال: مفعل، ومفعلة، ومِفعال؛ كمحلب، ومكسحة، ومِفتاح".

وقال السعد التفتازاني:
"وقد عُلم من تعريف الآلة أنها إنما تكون للأفعال العلاجية، ولا تكون للأفعال اللازمة؛ إذ لا علاج لها".

وقال الشيخ زكريا في "شرح الشافية":
"الآلة للفعل الثلاثي، وهي اسم لما يستعان به في الفعل المشتقة هي منه، تجيء على مفعل، ومفعال، ومفعلة بكسر أولها، والأصل في الآلة مفعال، والآخران منقوصان منه، كالمحلب، والمفتاح، والمكسحة لما يستعان به في الحلب، والفتح، والكسح".

وقال صاحب "الهمع 1/168":
"بناء الآلة مطَّرد على مِفعَل بكسر الميم وفتح العين، ومفعال ومفعلة كذلك، كمشفر، ومجدح، ومفتاح، ومنقاش، ومكسحة، والمُفعُل بضمتين، والمَفعَل بفتحتين، والفِعال بالكسر: يحفظ ولا يقاس عليه، كمُنخُل، ومُسعُط، ومُدهُن، وإراث آلة تأريث النار، أي إضرامها، وإسراد ما يسرد به، أي يخرز".

وقال بعض الشراح:
"المفعلة لا تنقاس".

وقال نظام الدين النيسابوري:
"وهذه الأوزان؛ أي مِفْعال، ومِفْعَل، ومفعلة، قياسية، لا من حيث إنه يجوز أن يشتقَّ كل منها من أي فعل اتفق وإن لم يسمع، بل من حيث إن كلاًّ منها إن كان قد ورد السماع به في فعل معيَّن أمكن أن يطلق هو على ما يمكن أن يستعان به في ذلك الفعل، كالمفتاح، فإن كل ما يمكن أن يفتح به البيت يسمَّى مفتاحًا، وإن لم يكن الآلة المعروفة بذلك".

وتتلخص هذه النقول ونحوها مما لم أنقُلْه في ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أنها تحصر اشتقاق اسم الآلة بالفعل، وبأن يكون معلومًا وثلاثيًّا متعديًا، وتمنعه من اللازم والمزيد، ومن أسماء الأعيان، وإن ورد في كلام العرب عشرات بل مئون من الأسماء المشتقة منها.

الأمر الثاني: أنها تقصر الأوزان الاشتقاقية على: مفعل، ومفعال، ومفعلة، على اختلاف في أيها هو الأصل.

الأمر الثالث: أنها اختلفت في قياسيتها، فقال الأكثرون: يطرد مفعل ومفعال ومفعلة، وقاس بعضهم على مفعل ومفعال، ومنع القياس على مفعلة، واشترط بعضٌ آخر السماعَ فيها كلها، ومنعوا أن يطبَّق القياس ويعمل به إلا في المسموع، فكادوا يبطلون القياس، ويسدُّون بابه في شأن اسم الآلة.

ثلاثة مذاهب في ثلاثة أوزان!

وألاحظ على ذلك أن الأمرين الأول والثاني منقوضان بدلالة الاستقراء اللُّغوي على خلافه، وأن الأمر الثالث لم يَرجِع بحثه إلى طبيعة اللغة، وإنما يرجع إلى التعليل المنطقي الذي هو أساس الطريقة الأعجمية في النحوِ العربي وإلى دعوى كثرة الورود وقلَّته، ومن أجل ذلك اختلفوا فيه ولم ينتَهوا به إلى رأيٍ جميع.

وهذا وذاك لا يصح أساسًا لقاعدة، ولا يصح كذلك أن يسمَّى ما يبنَى على مثله "قاعدة"؛ فإن القواعد إنما تُبنَى على استقراء الجزئيات ومناحي اللغة في استعمالاتها، وأن تكون إلى هذا جامعة مانعة، متفقًا عليها كما جرى عُرْف العلماء، وأين هذا مما كشفته من أمرها؟!

بل إنني لأذهبُ في ناحية الاستقراء إلى أدنى مراتبِه في الباب، وأريد استقراء أقوال علماء اللغة الأوائل فيه، لا الاستقراء اللُّغوي العام، فلا أجد أصحاب هذه "القاعدة" قد مارَسوه، فنحن إذا عُدْنا إلى مقدِّمته من أقوال هؤلاء العلماء في الكلام على الطريقة العربية، وعَرَضنا "القاعدة" عليها، اهتَدَينا إلى أنهم إنما عَرَفوا منها قول سيبويه وحدَه في المعنى العلاجي الذي استنبطوا منه شرط اشتقاق اسم الآلة من الفعل الثلاثي المتعدي دون غيره، وقول سيبويه ليس هو وحدَه في الباب، فإن إلى جانبه أقوالاً لغيره من علماء اللغة الأثبات، الذين قصروا جهدَهم كلَّه على الاستقراء والتعميق في اللغة، تصحِّح قول سيبويه كما شرحتُه آنفًا، فهل عرَفوها ثم تخيَّروا منها كلام سيبويه ورجَّحوه عليها؟

وإذا كان ذلك، فهل من حقهم أن يفعلوه، وأن يرجِّحوا قولاً على قولٍ دون أن يذكروا عِلَّة ترجيحه؟ أَوَليس من حقِّ اللغة وحق أصحابها بها أن يطالبوا بأداء أمانتِها في صدق، وأن يأخذوا بحُجَزِ الباحثين أن ينطلقوا مع الأهواء، أو يتسكَّعوا في الدراسات القاصرة؟ أو أقول: إن القوم لم يعرفوا أقوال هؤلاء العلماء كما يدل عليه ظاهر حالهم، فيتحقق لذلك رأيي في أنهم لم تكن لهم تجربة حتى في أدنى مراتب الاستقراء، تُخوِّلهم أن يضعوا "قواعد اللغة العربية" على هذا النحو من التحجير الذي تأباه طبيعة العربية، ولا تقرُّه مناحي استعمالات أصحابها العرب؟

ولستُ أعجبُ بعد هذا لشيءٍ عجبي لمثل هذه "القاعدة" المعوِّقة أن تسلك سبيلها إلى الأذهان، ثم تجتاز العصور حتى تبلغ عصرنا وتكون فيه "نافذة المفعول"!

ولكنَّ هذا العجب يزول حين نردُّ الأمر إلى طبيعة التقليد الذي يتقيَّد بحل مألوف عن تعصُّب، وتكون منه عند صاحبه عادة التسليم لكل مقروء؛ بحيث لا يخطر بباله أن يفكِّر في بحثه ونقده، للخلوص إلى الحقيقة التي هي مطلب الإنسان المثقف.

وإذ وصلتُ بالبحث إلى أثر المسألة في عصرنا، فقد لزمني استيفاؤه أن أعرِضَ لظاهرة من نقدها عند عالم لُغَويّ مفكر[2]متعمِّق في اللغة، مُدرِك لحاجات العصر، نقل نتائجها عنده على النحو الذي اهتدى له إلى (مجمع اللغة العربية) في بداية إنشائه قبل ثمانية وعشرين عامًا، ورمى في جملة نقده إلى صوغ اسم الآلة من كل فعل ثلاثي أو غيره، متعدٍّ أو لازم، ومن أسماء الأعيان أيضًا، ولكنه وقف فيه عند ترجيح أقوال اللُّغويين على أقوال النحاة ولم يتعمَّق، ولم يرجع إلى أقوال النحاة القدماء وطريقتهم في بحث اسم الآلة، ولم يبيِّن أسرار الاشتقاق من هذه الأشياء ودلالات الفروق التي تنشأ من كل نوع منها، ووقف أيضًا عند بحث الصيغ الثلاث: مفعلة ومفعل ومفعال، ولم يتعرَّض لصيغة أخرى يضيفها إليها، وبحثه هذا على ما ذكرت من نقصه، صادف ما يستحقه من عناية، فنوقش، وشايعه عليه فريق من الأعضاء، وعارضه آخرون معارضةً شديدة، لماذا؟ لأن أقوال النحاة لا تقبل الردَّ، وقد فاتهم أن اجتهادات النحاة أنفسهم قد تخالفت، وناقض بعضهم بعضًا، فكيف لا يردُّ الخاطئ؟ وأين تبقى قاعدة الأصوليين في ردِّ القولين المتعارضين: "إذا تعارضا تساقطا"؟ أفلا ينبغي أن يسقط ما تساقط من نفسه؟

ولم ينتهِ "مجمع اللغة العربية" من مناقشة الموضوع إلى نتيجة حاسمة، وإنما انتهى إلى قرار بإقرار القاعدة، ونوَّه المقرِّر - أو شارح القرار - بـ"عِظم بركته"، وقال بالنص: "إن (مجمع اللغة العربية الملكي) وجد في الأوزان الثلاثة سِدادًا من عَوَز، ولم يتوسَّع في صوغ اسم الآلة من أي فعل أو اسم عين، وإنما راعى جمهرة المسموع" إلى آخر كلامه.

ولكن "مجمع اللغة العربية" في الناحية العملية لم يجد يومئذٍ في هذه الأوزان الثلاثة سِدادًا من عَوَز، فخالفها في أحيان كثيرة إلى أوزان أُخَر من نوع فاعلة وفعَّالة، صاغ عليها عشراتٍ من أسماء الآلات والأدوات، يتعرَّفها متتبِّع دراساته في مجلته، ومحاضر جلساته، ومجموعات مصطلحاته في غير عناء، وهو قد فعل هذا كما فعل كثير من الباحثين والمترجمين فعلَه من قبل ومن بعد، دون أن يتخذ فيها قرارًا، أو يتذكَّر هذا القرار فيرتد إليه وينزع عن إباحة ذلك!
♦ ♦ ♦

بعد هذا التفصيل الذي لم يكن بُدٌّ من تأسيسه للوصول إلى تحرير المسألة، أمضي بالبحث إلى غايته، فأقرِّر أولاً: أوزان أسماء الآلة والأداة، لا تنحصر في ثلاثة كما توهمه قاعدة النحاة، وإنما هي كثيرة سأوردها في البحث.

وأقرر ثانيًا أن العرب قد اشتقت عليها كلِّها من الأفعال المتعدية واللازمة، ومن الثلاثية وغير الثلاثية، ومن المصادر، ومن أسماء الأعيان، ولهذا سرٌّ دقيق سأكشفُه.

وما وسِع العربَ من التصرُّف بعقلها في لغتها وتنويع أوزان كلامها واشتقاقاته، ينبغي أن يَسَعنا أيضًا، فلا يُحرَّم علينا ما أحلُّوه لأنفسهم، ولا يحجَّر علينا الواسع مما توسعوا فيه، ما لم نُرِد الخروج على مقاييسهم، ونحن إلى ذلك في دهرِنا أحوج منهم إليه.

والعرب إذ تتوسَّع في لغتها بالاشتقاق وتنويع صيغه، إنما تتصرَّف بحرية تجري مع غريزتها اللغوية في إقامة دلالة الألفاظ على المعاني ورموزها عن الفروق التي تميز معنى عن معنى، فتشتق مثلاً الاسم من الفعل المتعدي، وتريد به المعنى العلاجي الذي يوصل أثر الفعل في منفعلِه؛ كالمِقص، والمنشار والمكسحة، والسِّداد، والحاملة، والساطور، والقذَّافة.

وتشتق من الفعل اللازم لتدلَّ على قيام المعنى بنفسه، وأن مدلوله هو غير مدلول المشتق من الأفعال المتعدية؛ كالمعزف، والمسرجة والمصباح، والسراج، والماثلة، والدراجة.

وتشتق من الاسم الجامد وتقصد اختصاصه به، كالمخصرة من الخصر؛ لأنه يسند بها، والمِخدَّة من الخد، والمِصدغة من الصُّدْغ، والمورَكة من الوَرِك، والمِرفقة من المِرفَق؛ لأنها تتخذ لها وتوضع تحتها.

ولا ريب في أن جميع هذه المعاني الاشتقاقية المتنوِّعة الأخذ والدلالات قائمةٌ في النفس دائمًا، ومحتاج إليها في الاستعمالات أبدًا، وإنما يقوَى بعضُها ويكثُر، ويضعُف بعضٌ آخر ويقلُّ على حسب ما يتوافر له من الدواعي والحاجات أو يقل، فقد تشتدُّ الحاجة في زمنٍ إلى نوع من الألفاظ يستكثر بالوضع والاشتقاق، وقد تضعُف الحاجة في زمنٍ إلى هذا النوع، وتشتد إلى نوعٍ آخر، فيضعف الأول وتضيق دائرته، ويموت كثير من ألفاظه، ويتَّسِع الثاني وتكثر أفراده وتقوَى أسرته، وقد تشتدُّ الحاجة في زمنٍ آخر إلى هذه الأنواع جميعًا، فتستعمل كلها، وتستكثر أفراد كل نوع استكثارًا لا يُحَدُّ.

وهكذا تسير اللغة في مَوكِب الحياة، وتَجرِي مع الحاجة صُعُدًا أو صَبَبًا على حسب الأطوار التي تتجدَّد أو تتقلَّب عليها الحياة في نظامِها العام.

واللغة نظام تابع في مساراته لهذا النظام العامِّ، تجري بسبيل لا تَحِيد عنه، وليس بمُجْدٍ في بناء قواعدها وضوابطها أن تُقصَرَ النظرةُ على كثرة ورود الشيء وقلَّتِه دون استكناهِ هذا السر الذي كشفناه.

أما الأصل الذي جرى عليه البَصْرِيون وخالفوهم من مقلِّدة النّحاة، فهو من أفسد الأشياء، أوقعهم في أشياء من التناقض والاضطراب، وانتهى بهم إلى الحكم على كثير من ألفاظ اللغة بالشذوذ، وقيد حرية التصرف فيما كانت العرب تتصرَّف فيه، وحرَّم المباح من الاستعمالات العربية الأصيلة أن يقاس عليها، حتى عُدَّ المقيس على ما يظنُّونه قليلاً شاذًّا أو عاميًّا، كما زنَّ[3] الزَّبِيدي (المزولة) بالعامية[4]، مع أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم تَجُرَّ إلى مفسدة، وأية مفسدة في إرادة اطِّراد الاشتقاق على مقاييس كلام العرب في المشتقات دون المرتجلات، كثر ورودها أو قل؟ ولماذا يكون المقيس على القليل شاذًّا أو عاميًّا؟

فليس ما ذهبوا إليه من هذا الأصل في بناء الضوابط، وإنما الأصلُ هو ما تبينته من سر النظام اللغوي في أصل الطبيعة العربية من حيث مناحيها في الكلام، فهو الذي ينبغي أن تبنَى عليه الأحكام، لتساير الضوابط المستحدَثة الفطرة اللُّغوية، ولينتفع بكل مورد من موارد اللغة على وَفْقِ النظام الطبيعي الذي خلقت منه وعليه.

وأقرِّر بعد هذا وذاك أن هذا التقسيم الذي أستحدثه، هو كما يلائم كل الملاءمة السر اللغوي الذي أرادته العرب في تنويع أوزان أسماء الآلة والأداة، وتنويع ما تشتق منه، يلائم كل الملاءمة طبيعة الحياة الصناعية وحاجاتها في العصر الحاضر أيضًا؛ إذ هي تضع أمامنا أجهزة وآلات وأدوات، يختلف بعضها عن بعض، ويفرِّق أصحاب الصناعات بينها بحسب وظائفها، فيطلقون لفظة "Qutfit" على هيكل الشيء الصناعي، ويقابله في اللغة العربية لفظة (الجهاز)، بالفتح والكسر، ومنه جهاز العروس، وجهاز السفر، وجهاز الراحلة.

ويطلقون لفظة "instrument" على ما يعالج به ويكون واسطة بين الفاعل ومنفعلِه في وصول أثره إليه، كالمنشار والمثقب، والمولد والمكثف، ويقابله في اللغة العربية لفظة (الآلة).

ويطلقون لفظة "tool" على كل جزء صغير في الجهاز والآلة، وعلى ما يرتفق به من المتاع والأثاث والرياض والماعون ونحو ذلك، ويقابله في اللغة العربية لفظة (الأداة).

وواضح أن لفظة (الجهاز) في اللغة العربية ليست نصًّا على أمثال هذه الهياكل الصناعة المستحدثة، ولكنها بسبيل من النص في إطلاقها عليها بالمشابهة، وهو استعمال عربي صحيح، يكثر في اللغة العربية، وهو من أهم وسائل توسيعِها لا يحتاج إلى كلام جديد فيه.

وأما (الآلة) و(الأداة)، فإن كلام المعاجم والمتداول من كتب اللغة فيها، وبعضها ناقل عن بعض، موجزٌ إيجازًا شديدًا، لا يخرج عن تفسير الآلة بالأداة، والأداة بالآلة، ولا يشير إلى فرق ما بينهما، إلا قليلاً يؤخذ بالاستنتاج، كقول الزبيدي في مستدركات التاج: "والآلة ما اعتملت به من أداة".

ومؤدَّى كلام هذه المعاجم أن الآلة والأداة لفظان مترادفان، أوقعتهما العرب على معنى واحد، كما نقول: السيف والعضب، والأسد والليث والغضنفر، والخمر والراح والقرقف، وهو مذهب لبعض علماء اللغة في المترادفات.

والصحيح ما عليه الأكثرون، ومنهم ابن الأعرابي وثعلب وابن فارس، وهو أنَّ كل لفظ من المترادفات، فيه ما ليس في الآخر من معنى وفائدة؛ لأن كثرة الألفاظ للمعنى الواحد إذا لم تكثر بها صفات هذا المعنى، كانت ضربًا من العبث الذي تجلُّ عنه هذا اللغة الحكيمة المحكمة، ويتساوق مع هذا المذهب ما قدَّمتُ آنفًا من قول ثعلب وابن السكِّيت: "ما يعتمل به أو ينقل"، الذي استنتجت منه إرادتهما التفريق بين الآلة والأداة، بدليل التمثيل للقاعدة بأسماء تنوَّعت دلالات ما اشتقت منه من تعدية ولزوم.

فلا جَرَمَ أنَّ بين (الآلة) و(الأداة) فرقًا؛ لأن الآلة التي يعالج بها وتكون واسطة بين الفاعل ومنفعلة في وصول أثره إليه، هي غير الأداة التي يرتفق بها.

وهذا القول بوجود الفرق بينهما إنما يجري بسبيل من دلالة تنويع العرب الاشتقاق في هذا الباب من الأفعال المتعدِّية التي تفيد العلاج تارةً، ومن اللازم وغيره تارةً لإفادة معنى آخر، وفائدته عظيمة في حل المشكلة حلاًّ يلائم فطرة اللغة في إطلاق حرية اشتقاق أسماء الأجهزة وأسماء الآلات وأسماء الأدوات من الأفعال والأسماء التي تلائم معانيها ووظائفها.

وقديمًا فرَّق أصحاب العلوم بين الآلة والأداة، وهو مما نستأنس به في هذا الشأن، فاستعملوا كلاًّ منهما في معنى خاص، فأطلقوا (الآلة) على العلوم الآلية؛ لأنها في عرفِهم هي الواسطة بين الفاعل ومنفعلِه في وصول أثره إليه، وقالوا: إن إطلاق (الآلة) على العلوم الآلية كالمنطق مثلاً - مع أنها من أوصاف النفس - إطلاقٌ مجازي، وإلا فالنفس ليست فاعلة للعلوم غير الآلية، لتكون تلك العلوم واسطة في وصول أثرها إليها، وأطلقوا (الأداة) على الحرف المقابل للاسم والفعل، وهو ما فعله النحاة والمنطقيُّون.

وكما أقرِّر إطلاق الاشتقاق في هذا الباب انسياقًا مع أغراض اللغة في تنويع دلالات المشتقات بحسب تنوع ما تشتقُّ منه من الأفعال وغيرها، ومع أغراض الصناعات الآلية المختلفة في العصر الحاضر، وأنا معتقد صحَّة مذهبي ومعي الحجج التي أطمئن إليها - أقرِّر كذلك إضافة أوزان أخرَ اشتَقَّ عليها العرب إلى مُثَلَّث "مفعلة، ومفعل، ومفعال"، تنفيسًا للغة من كرب التضييق عليها من غير مسوِّغ، وفتحًا للمسالك الكلامية أمام الناطقين بها من غير نظر إلى كثرة أو قلة، ما دام كلام العرب قد جرى به، كما هو مذهب الكوفيين في إجازة القياس حتى على المثال الواحد المسموع، وإن لم أحبَّ أن أغرقَ مثلَهم هذا الإغراق في الإطلاق في كل باب، كما لم أحب أن أجمد جمود الخالفين من النحاة النازعين إلى مذهب البصريين في التقيد.

[1] من المَثَل: "هو على طرف الثُّمام" يُضرَب لما يوصل إليه من غير مشقة، والثُّمام: نبت لا يطول فيشق على المتناول.
[2]العلامة الشيخ عبدالقادر المغربي، يرحمه الله.
[3] زنَّه بكذا: ظنَّه، وأزنته بكذا اتهمته به.
[4] قال في تاج العروس (ز و ل): "والمزولة: آلة للمنجِّمين، يعرف بها زوال الشمس، والجمع مزاول، عاميَّة".











رد مع اقتباس
قديم 2013-09-06, 12:54   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
leprence30
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي الآلة والأداة في اللغة العربية

]الآلة والأداة في اللغة العربية
]في ضوء عبقرية اللغة ومطالب التمدن الحديث

كل كائن حيٍّ، يدخلُ عالم الحياة طفلاً، ثم يتدرَّج إلى الشباب، فالكهولة، فالشيخوخة التي تُسلِم إلى الفناء، إلا كائنًا واحدًا كان استثناءً من القاعدة، ذلك هو هذه اللغة؛ فإنها دخلتْ عالم الحياة طفلةً كما تدخلُها الأحياء كافة، ثم درجت في مراحلها التأريخية، حتى اكتملت قوَّتها، فوقفت لا تَريمُ عند شباب دائم لا يَشِيب، بل يَشِبُّ شِبابًا[1]، ويتجدَّد على هرم الزمن، آخذًا في نموِّه صعدًا على نظام الارتقاء، ذلك بما استكنَّ في طبيعة تكوينِها من القوة التي تعطيها الحياةَ الدائمة من باطنها الحي، وتحفظ عليها شباب السن، مع استبقائها متميزة في نفسها.

وُلِدت هذه اللغة الكريمة العظيمة في زمنٍ قديم لا يُعرَف أوَّله، واجتازت مراحل تطوُّرها الطبيعي التاريخي، حتى شارَفَت الجاهلية الأخيرة مكتمِلة النضج، تتفصَّد عروقها فتوَّة وقوة وحياة، ومتميزة باستعلانِ الشأن واستعلائه، بصيرورتها عمود القومية ولسان مفاخرها ومآثرها في الوجود.

ثم نزل بها "التنزيل" لتكونَ عمود الدعوة العظمى، ولسان الشريعة والعقيدة والحضارة والفكر، وانساحت مع العظماء الفاتحين العرب في جنبات الأرض شرقًا وغربًا، وامتدَّت معهم امتداد المحيط الأعظم لا تُدرَك شواطئه، فجَرَت على يَبَس الصعيد هنا وهناك ماءً وجَنًى، واستسلمت لسحر بيانها الأفئدةُ، فتناغى بها مَن ليسوا من أهلها، واستجابت لكل نداء، وتلوَّنت بلون كل إناء، وكان لها على كل لسان مذاق.

وبعد أن وَسِعت كتاب الله لفظًا وغاية، آية آية، ووَفَت بمطالب الإسلام العظمى في الدعوة والتبشير والفتح، جَرَت مع السياسة والإدارة أشواطًا بعيدة، واستلهمتها الحضارة والنفس الإنسانية كما استلهمها الدين عقيدةً وشريعة ونظامًا، فأمدَّتهما بما طمحتا إليه من إبانة، وما أدركها في طريقها الطويل وَناءٌ، ونهضت بمنطق "أرسطو"، وعبَّرت فأحسنت التعبير عن فلسفة "الإغريق"، وثقافات "الصين" و"الهند"، وأساطير "فارس"، وانداحت دائرتها للعلوم والفنون والآداب التي عرَفتها عصور العرب الذهبية، وكانت تُربِي على ثلاثمائةٍ عدًّا، بينها كثير مما لم يهتدِ إليه أهل التمدُّن الحديث إلا بعد أن نضج تمدُّنهم في المائة التاسعةَ عَشْرةَ الميلادية؛ كالسياسة المدنية والشرعية، وتدبير المنزل والاقتصاد السياسي، والعمران، والاجتماع، وفنون الحرب وآلاتها، ونحو ذلك من مبتكرات العقل التي جالت فيها أقلام القوم، وأتت منها بالبدائع والروائع.

وكما عَذُبت في فمِ ابن البادية وانسجَمت مع نوازعه وأفكاره وطبيعة بداوتِه، وأبانت فأجادت الإبانة عن مقاصده ورغباته وأهوائه، عَذُبت كذلك في فمِ الحضري المثقَّف الذي رَبِي في أحضان الترف والنعيم، وأسلست قيادَها لمطالب معيشته، ونوازعه النفسية، وخطراته الفكرية والشعورية، وحاجاته العمرانية والمدنية، وتلوَّنت بألوان حياته في جدِّه وهزله، ومدَّت له من أسبابها في كل شأن ما شاء، وما خانته في أربٍ من آرابِه.

حتى إذا انحسر سلطان العرب من هنا ومن هناك، وتراجع التمدُّن العربي الإسلامي أمام طوفان الغُزَاة - المغول والصليبيين والإسبان - انحسر سلطانها من الشرق والغرب، وسال سَيْل العُجْمة في الأوطان العربية، وهَجَمت الألفاظ الأعجمية الدَّخِلية على الألفاظ العربية الأصيلة في الدواوين، فأبعدَتْها منها جملةً، وزاحمت لغة التخاطب في المنازل والأسواق والمجتمعات، فاحتلَّت آلافٌ من مواضعاتِها مكانَ المواضعات العربية في التجارة والصناعة والزراعة ونحوها من شؤون الحياة.

وأعان على ذلك شيوعُ الجهل والأمِّية في الناس، وخمود جَذْوَة القومية العربية، وفُتُور الحماسة للغة العربية، بما رَزَأت به الدُّولُ الأعجمية الباغية تلك المجتمعاتِ؛ من سد منافذ المعرفة بوجوه أجيالها الناشئة، وتغليب سلطان لغاتها على سلطان اللغة العربية، تغليبًا حصرها في دائرة ضيِّقة بين أسوار عالية تحجب عنها الأُفُق الذي تطمح ببصرها إليه.

حتى إذا تنفَّس فجر هذا العصر، وبدأت الأمَّة العربية تتنسَّم نسيم الحرية، وتحاولُ أن تسترجِعَ الذاهب من سلطانها السياسي والقومي والاجتماعي.. كانت المدنيَّة العصرية قد دَخَلت الأقطار العربية على حظوظ متفاوتة من القوة والضعف، بعلومها، وفنونها، وصناعاتها، ومخترعاتها، وضروب أثاثها ورياشها وآنِيَتها، وصنوف مطاعمها ومشاربها؛ وطَفِقَت تفرضُ على اللغة العربية أسماءها الدخيلة التي تميزها أفواجًا إثر أفواج، كما تفرضُ نفسها على الحياة العربية بكل مقوِّماتها ومفاهيمها ومسمياتها وأعيان آلاتها وأدواتها في مختلف مظاهر الحضارة.

هنا وقفتِ اللغةُ العربية أمام حالة جديدة خطيرة من غزوِ اللغات الأوربية الحديثة بعد غزوِ اللغات الشرقية القديمة، تؤذنُها بشرٍّ مستطير أثيم، واحتلالٍ لُغَوي أجنبي مقيم، وتقتضيها الاستعصام بقُوَاها الطبيعية لدَحْر هذا الغزو وهزيمته.

وبدأت في غمرةِ الموقف تتأمَّل تأمُّل المستبصِر في العواقب، ما الذي تصنعه: هل تأذن لهذه الألفاظ الأعجمية الدخيلة أن يسيل سيلُها عليها، وتغرقَها بصِيَغها وأشكالها ولُغَاتها، بل رطاناتها المتعدِّدة، عن طواعية واستسلام؟ أو تقبلها كلها أو بعضها بعد إخضاعها لأصول التعريب، كما فعلت إبَّان تاريخها المديد، حين اتصلت بشعوب الأرض اتصال الند بالند، أو اتصال الغالب بالمغلوب، فأخذت قليلاً وأعطت كثيرًا، وما فرَّطت من مقوِّمات شخصيتها الأصيلة بشيء؟ أو تضطلع بما تطلبه الحياة منها من ألفاظ عربية خالصة تؤدي المعاني الأجنبية بالنقل وبالاشتقاق من صميم مادَّتها الأصيلة، وهي بها فارهة وغنية أكبر الغنى؟

وفي هذا نشِب الخلاف بين اللُّغَويين وجماعات من الدارسين والباحثين، فذهب كل فريق مذهبًا ينبع من طبيعة دراسته وتلقِّيه ووعيه الخاص، ثم لم يلبث أن خفَّت حدَّته، وطَفِق يزول رويدًا رويدًا كلما تطوَّرت الحياة العقلية والعلمية، وازداد الشعور القومي، حتى سيطر الرأي الذي يحقِّق سلطان اللغة العربية وقدرتها على الاستقلال بنفسها في التعبير عن الخلجات والأفكار، وعن شؤون الحياة جليلِها ودقيقِها، وعن مطالب العلوم والفنون والصناعات، مستغنيةً بثروتها عن الاستعارة من اللغات، إلا ما تقضي به الضرورة في بعض الحالات.

على أنه ينبغي أن نذكرَ في صراحةٍ تامَّة أن المدى أمام اللغة العربية في هذه الأشياء ما يزال بعيدًا، وأنه كلما قَرُبَ بعُدَ؛ ذلك لأن الحضارة تزداد في كل يوم تقدمًا وانبساطًا واتساعًا وتعقُّدًا بكثرة ما يتطور أو يتجدد من شؤونها، ولا سيما شؤون الفنون والصناعات والمخترعات، وذلك كله يتقاضى علماء اللغة أن يدأبوا ويواصلوا الدأب، وأن يضطلعوا دائمًا في غير تلبث ولا وَناء، بمجهود عنيف مستمر يتكافأ مع حركة الإنتاج المتدفق، وحوافزه السريعة التي لا تستأني ولا تعرف البطء؛ لأن الحياة العصرية مدفوعة بالحركة والسرعة والنشاط الذي لا يفتر، ومَن ونى عن الاندفاع معها خلفته وراءها، فيظل في الساقة أو وراء الساقة منبتًّا.

وإن أوَّل ما يتقاضى علماء اللغة المبادرة إلى التعبير عنه، وتسميته تسميات عربية دقيقة، هو ما يدور بين الناس من أسباب العيش ووسائله، وما يكون اتصاله بحياتهم أقرب من غيره، وما لا ينفصلون عن تناوله واستعماله لحظةً من اللحظات؛ من أجهزة، وآلات، وأدوات كهربية وبخارية، يمارسونها في المصانع، أو يرتفقون بها في المنازل والفنادق والمطاعم، وهي وما إليها من صنوف الرِّياش والأثاث والماعون من الكثرة والتنوع، والتعقيد والشيوع، بالمكان الذي لا يوصف، ومعظمها لا يتطلب تسميات عربية فصيحة مأنوسة تسُوغها[2] الأذواق.

[1] الشِّباب، بالكسر: النشاط.
[2] في اللغة: "ساغ الشراب سوغًا وسواغًا سهل مدخله، وسغته أسوغه، وسغته أسيغه، لازم ومتعدٍّ".










رد مع اقتباس
قديم 2013-09-06, 12:57   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
leprence30
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي الأدب إمتاع وانتفاع

]الأدب إمتاع وانتفاع

إن من بين أهم المشكلات التي يُعانيها المجتمع المغربي اليوم بإجماع الباحثين والدارسين مشكلة العزوف عن القراءة؛ حيث أصبح الكتاب زينة للبيت فقط، ونِسب القراءة المسجَّلة اليوم في صفوف الشباب جِد مُخجِلة، بل مُخزية يستحيي المرء من ذِكْرها، ما جعل الكثيرين يدقون ناقوس الخطر، ويُعلِنون قُرب إفلاس أمة اقرأ إن لم نقل إفلاسها حقيقة، والأدهى والأمرُّ من هذا كله أن البعض يُحاوِل تبرير هذا العزوف بأسباب واهية غير منطقيَّة، كضعف القدرة الشرائية للمواطن، وغلاء سعر الكتب، ومنافسة التكنولوجيا الحديثة للكتاب، أما فشو الأميَّة وانتشارها بين أفراد المجتمع، فأول ما يلجأ إليه الكتَّاب والمُبدِعون لتبرير فشَلهم الذريع في استقطاب القراء والجمهور، الأمية مُنتشِرة فعلاً، لكن ما بال الفئة المثقَّفة هي الأخرى عازفة عن القراءة، وظُلْم ذوي القربى أشد مضاضة، جُلُّ الأساتذة اليوم لا يقرؤون ولا يُطالِعون إلا نادرًا، وإن طالعوا يُطالِعون عناوين الصحف والمجلات، إنه تقاعُد قبل الأوان، ولعل التبرير الأمثل لهذه الظاهرة كامن في الأدب نفسه، أي فيما يُبدِعه الكتاب من نصوص إبداعيَّة، أو لنقُلْ بشكل آخر في المُبدِع، معروف أن الأمة العربية منذ القِدَم أمة أميَّة لا تقرأ ولا تكتب، لكن هذا لا يمنعنا من المقارنة بين ماضيها وحاضرها، والدور الذي كان ينهض به الأدب في المجتمع، لقد كان الأدب في الماضي مصدر إمتاع وانتفاع للأفراد والنفوس، بحيث يجعل قارئه يُحِس بمتعة ولذَّة تعتريه من قفاه إلى أخمص قدميه كلما استمع للنص الأدبي أو أعاد قراءته، إنه يسمو به إلى عالم آخر، عالم الخيال، عالم بلا حدود، بالإضافة إلى أنه يزرع فيه قِيَمًا إنسانيَّة سامية تُساعِده على أن يحيا حياة سعيدة، إنه يُهذِّب النفوسَ المتمرِّدة الثائرة على أصحابها أو على المجتمع؛ لذلك حفظ لنا التاريخ جملةً من النصوص الإبداعيَّة المتميزة، استطاعت العيش والصمود والخلود لا لشيء إلا لسرٍّ كامن فيها هي بالذات لا في قارئها كما يَتوهَّم مُبدِعونا.

إن النصوص الإبداعيَّة القديمة تَحرِص على محاولة تقديم أجوبة لنفوس حيرى أضنتها نوائب الدهر وصُنوفه بإرشادها وتوجيهها ومساعدتها على شقِّ طريقها، إنها بخلاصة قناديل تضيء لا لتحترق فقط، بل لتصنع من يُشعِل قناديل أخرى تضيء في المستقبل، أما الأدب اليوم في شخص مُبدِعيه، فهو عاجز عن لَعِب هذا الدور الأصيل والمتأصل في الأدب، وإلا فما سرُّ ما يشهده العالم اليوم من دمار وخراب نتيجة حروب فتَّاكة، أشعلت فتيلها نفوس قاصية خرجت عن سيطرة الأدباء، أو لنَقُل عجز الأديب عن تطويعها ولَجْم عِقالها، فالنفس كالطفل كما نعلم، تحتاج إلى مَن يتعهَّدها بالرعاية والتوجيه.

وبالرجوع إلى النصوص الإبداعية اليوم نجد أن الأدباء يَهتمُّون بشكل كبير بالإمتاع أكثر من الانتفاع؛ لذلك نجد تأثيرها محدودًا ضيقًا، آنيًّا لحظيًّا، سَرعان ما يتلاشى؛ إذ لا يَنفُذ إلى أعماق النفس الإنسانية ليُحاوِرها ويُذكي القيم النبيلة فيها، فيصبح الأدب بذلك ملهاة أكثر منه طبيبًا شافيًا، ما أحوجنا اليوم إلى أدب تنتفع به النفس وتستمتع، فبانتفاع النفس يُعيد الأديب وصْل ما انقطع، يُوجِد لنفسه جمهورًا تواقًا وفيًّا، لا يخشى تفلُّته أبد الدهر، وبذلك يكون قد أسهم في تشكيل ذلك الجمهور وصناعته، وَفْق نظرته وفَهْمه لمعنى الأدب الحقيقي.

إن نظريَّة الفن للفن التي تبنَّاها بعض أدبائنا بفعل الاحتكاك الثقافي والانفتاح، أسهمت بشكلٍ واضح في تعميق الهُوَّة بين المُبدِع والمُتلقِّي، وهو ما أدَّى إلى إنتاج مُتلقٍّ مشوَّه المبادئ والقيم والذوق.











رد مع اقتباس
قديم 2013-09-06, 12:58   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
leprence30
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي مصدر المؤول بحث في التركيب والدلالة (2)

المصدر المؤول
بحث في التركيب والدلالة (2)

العنصر الثاني: (أنّ) المُشددة:
ومِن يتأمَّل البِنية التركيبيَّة التي يردُ فيها هذا العنصرُ المصدريُّ يتبدَّى له صلاحيةُ هذا العُنصر للدخولِ على كلِّ تركيبٍ لُغوي، رُكناه المبتدأُ والخبرُ، شريطة أنْ يكونَ المبتدأ اسمًا صريحًا، ويكون ذلك عندَما يحتاج الموقفُ إلى إضفاءِ معنًى دلاليٍّ على هذا التركيبِ الإسناديِّ، هو توكيدُه، وتقوية معْناه، فيجنح المتكلِّم إلى هذا العُنصر المصدريِّ الذي يُحيل التركيبَ كلَّه إلى رُكن إفراديٍّ شاغِل لوظيفةٍ إعرابيَّة خاصَّة بالمفرَدِ، غير أنَّ الفردَ هنا ذو سِمات دلاليَّة وتركيبيَّة خاصَّة؛ لذا كان مِن الحتْم النظرُ في التراكيبِ التي يكون فيها للتعرُّف على تلك السِّمات؛ حتى يُمكنَ وضْعُ الضوابط الخاصَّة به في المواقِع التركيبيَّة المتباينة، وقدْ حاول نحويُّونا في جهدٍ مشكور وضْعَ الضوابطِ الخاصَّة بالتراكيب التي يَشغلُها هذا العنصرُ المصدريُّ في الوظائفِ النحويَّة المتعدِّدة؛ فقد نصُّوا مثلاً على أنَّه إذا كان المبتدأُ مصدرًا مؤولاً مِن (أنّ ومعموليها)، وجَب أن يكونَ العنصرُ الخبريُّ له شِبهَ جملةٍ مُقدَّمًا عليه تقول: عندي أنَّك فاضل، ومِن أمثلة ذلك في القرآن قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً ﴾ [فصلت: 39]، وهذا قيدٌ تركيبيٌّ يَضبط ورودَه في تلك الوظيفة، كما نصُّوا على أنَّه إذا شغَل وظيفةَ الخبر تحتَّم أنْ يكونَ المبتدأ مِن أسماء المعاني، في مقابلِ أسماء الأعيان، أو الجُثَث، وحُجَّتهم في ذلك أنَّ هذا العنصرَ بتأويلِ المصدر، والمصدر معنًى، ولا يُخبر عن أسماء الأعيان بالمعاني، كما منَعوا وقوعَ (أنّ ومعموليها) صِفة لاسم عيْن مُعلِّلين ذلك بنفس التعليل السابِق مِن أنَّ فتْح الهمزة "يؤدِّي إلى وصف أسماء الأعيان بالمصادِر"[1]، وأيضًا نصُّوا على امتناعِ وقوعِ (أنّ ومعموليهما) في موقِع الحال؛ لأنَّ المصدرَ المؤوَّل منها مِن معموليها معرفة، وشرْط الحال التنكير، هكذا نصَّ الأزهريُّ في شرحه على التوضيح[2]، أمَّا الرضيُّ فقد نصَّ على أنَّ المصدرَ الذي يَتبوَّأ مقعدَ الحال هو الصريح، لا المؤوَّل به[3].

كما يذكُر ابنُ يعيش أنَّه "لا يَحسُن وقوع (أنّ) المشدَّدة بعد (لعلّ)، إذا كانتْ طمعًا أو إشفاقًا، وهذا أمرٌ مشكوك في وقوعِه، و(أنّ) المشدَّدة للتحقيق واليقين، فلا تقَع إلا بعدَ العلم واليقين"[4]، ورُوِي عنِ الأخفش إجازتُه لذلك "على التشبيه بـ(ليت)، إذْ كان الترجِّي والتمني يتقاربان"[5].

وقدْ مضَى بنا طرَفٌ مِن أقوالهم صوَّر لنا الضوابطَ الدلاليَّة للأفعال التي تقَع (أن ومعمولاها) في وظيفةِ المفعول لها عندَما نصُّوا على وجوبِ أن تكونَ مِن الأفعال الدالَّة على اليقين والعِلم ونحوهما، "ممَّا معناه الثبوتُ والاستقرار؛ ليتطابَق مَعْنَيَا العامِل والمعمول، ولا يَتناقضَا"[6]؛ ولذا وجدْنا سيبويه - والرِّواية للرضيِّ - يُضعِّف أنْ يسبق (أنّ) أفعال؛ مِثل: أرْجو، وأطمع، وأخشى، مُعلِّلاً ذلك بأنَّ الفِعل الذي يدخُل على (أنّ) المفتوحة - مشدَّدةً كانتْ أو مُخففةً - يجب أن يُشاكِلها في التحقيق[7].

ولعلَّه مِن أجْل ذلك نصَّ النحاةُ على أنَّه "لا يَحسُن وقوع (أنّ) المشدَّدة بعد (لعل) إذا كانتْ طمعًا وإشفاقًا، وذلك أمرٌ مشكوك في وقوعِه، وأنّ المشدَّدة للتحقيقِ، واليقين...، وقدْ أجازَ الأخفشُ ذلك على التشبيه بـ(ليت)؛ إذْ كان الترجِّي والتمنِّي يتقاربان"[8]، كما سوَّغ الزمخشريُّ دخولَ فِعل الحسبان على (أنّ) التي للتحقيق بقوله: "حسبانهم لقوَّته في صدورهم منـزَّلٌ منـزلةَ العِلم"[9]، ولَم يَخرج على هذا العُرْف السائدِ بينهم إلا الرضيُّ - فيما أعلم - إذ أجاز أن تَقَع (أنّ) معمولةً لأفعالِ التحقيق، أو لأفعالِ الشكِّ أو التمني، ممثلاً لذلك بقوله: شَككتُ في أنَّك مسلم، وردَّ التعليل الذي ساقه عن جار الله مِن "أنَّ الفعل الذي يدخُل على (أن المفتوحة) مشدَّدةً كانت أو مخفَّفةً، يجب أن يُشاكلِها في التحقيق بقوله: "وفيه نظَر لقوله:
وَدَّتْ وَمَا تُغْنِي الوَدَادَةُ أَنَّنِي
بِمَا فِي ضَمِيرِ الحَاجِبِيَّةِ عَالِمُ

وفي نهْج البلاغَة: وددتُ أنَّ أخي فُلانًا كان حاضرًا، وكذا في تعليلِ المصنِّف للمَنْع مِن ذلك بقوله: لو قلت أتمنَّي لكان كالمتضادِّ، قال: "لأنَّ التمنِّي يدلُّ على توقُّف القيام، و(أن) تدلُّ على ثبوتِ خبرِه وتحقُّقه"، ولَم يسلِّم الرضيُّ بهذا التعليل؛ لأنَّه رأى في المعنى الدلالي لـ(أنّ) رأيًا مختلفًا عنهم، فهو لا يُسلِّم بأن (أنّ) تدلُّ على ثبوتِ الخبر وتحقُّقه، بل على أنَّ خبرها مبالَغ فيه مؤكَّد، ومِن ثَمَّ يصحُّ أن يُثبت هذا المؤكَّد، نحو قولك: تحقَّق أنَّك قائم، وأنْ يُنفَى، نحو قولك: لَم يثبتْ أنَّ زيدًا قائمٌ، "كما ذكَرْنا أنَّه لو كانَ بيْن معنى التمنِّي، ومعنى (أن) تَنافٍ أو كالتنافي، لَم يجز ليتَ أنَّك قائم"[10].

ونَحنُ بدورنا لا نُسلِّم برأي الرضيِّ هذا؛ لِما فيه مِن الخَلْط والاضطراب، ويتمثَّل هذا الخلْط فيما يلِي:
1- ما ساقَه مِن جواز وقوعِها بعد فِعل الشكِّ لا يُسلَّم له؛ لأنَّها لَم تكُنْ فيه شاغِلة لوظيفية المفعول، وإنَّما كانتْ مجرورةً بحرف الجر، وليس هناك ضابطٌ دَلالي، أو سِمة تفريعيَّة تمنع وقوعَ المصدر المؤوَّل من (أنْ) المصدريَّة، أو (أنّ) المشدَّدة بعد حرْف جرٍّ، وإذًا الجِهة منفكَّة.

2- في ردِّه على المصنِّف - وهو ابنُ الحاجِب - قدْ خلَط بين فِعلين سماتهما الدلاليَّة متباينة، فالمصنِّف منَع وقوع (أن) بعدَ فِعل التمنِّي، لا فِعل الودادة الذي احتجَّ به عليه، وهما - فيما أرى - مختلفانِ دلاليًّا، ففعْل التمنِّي يدلُّ على توقُّف المعنى - على حدِّ قولِ ابنِ الحاجب - أو تعذُّره - على حدِّ فهمي - وفِعل الودادة خاطرٌ يترقَّب وقوعَ معموله، أو يُرجَى حدوثُه، وقد يَتحقَّق؛ ولذا وقَع على المصدر المؤوَّل مِن (أن) ومعموليها في البيت، وفي المثل الذي ورَد في "نهج البلاغة".

3- ما ذَكره مِن تفسيرٍ دلالي لـ(أنّ) مِن أنها تدلُّ على أنَّ خبرَها، مُبالَغ فيه مؤكَّد، ومِن ثَمَّ فقدْ يُثبت هذا المؤكَّد، وقد يُنفى، أردُّ عليه بمِثل ما ردَّ به الإمام عبدُالقاهر مِن أنَّ فِعل العِلم والتحقيق حتى في سِياق النفي، لا يكونُ معه إلاَّ المشدَّدة، مع أنَّ النفي لا يُثبِت العِلم ولا يُحقِّقه في الواقِع اللُّغوي، مُعلِّلاً ذلك بقوله: "لأنَّ كونه غيرَ ثابتٍ لمن تحدَّث عنه، لا يُخرِجه عن حقيقتِه"[11].

وأخيرًا فإنَّ المثال الذي ساقَه شاهدًا على وقوع (أن) بعدَ التمني، ليس دليلاً له؛ لأنَّها - فيه - لَم تقعْ بعدَ فِعل التمني الذي منَعَه ابنُ الحاجب، بل بعدَ الحرْف (ليت)، ووقوعها بعدَ (ليت) جائِز، بدليل ما سُقناه عنِ الأخفش مِن إجازة وقوعها بعدَ (لعل) تشبيهًا لها بـ(ليت).

ثم إنَّ ممَّا يؤيِّد ما أقرَّه النحاة - ونحن معهم - مِن قيْد دلالي للأفعال العامِلة في المصدر المؤوَّل مِن (أن ومعموليها)، تَراجُعَ الرضيُّ نفسه عندَ حديثه عن (أن) المخفَّفة، مع أنَّ حُكمَ المخفَّفة في التأكيد والتحقيق حُكمُ الثقيلة - فيما يَذكُر ابنُ يعيش "لأنَّ الحذفَ إنما كان لضربٍ مِن التخفيف"[12]، فقد قصر الرضيُّ الضابطَ الدلاليَّ نفْسَه الذي ذكَره النحاةُ للمشدَّدة، قائلاً بأنها إذا خُفِّفت "تقاصرتْ خُطاها، فلا تقَع مجرورةَ الموضع كالمشدَّدة، ولا تقول عجبتُ مِن أن ستخرج، ولا تقع إلا بعدَ فِعل التحقيقِ كالعَلم، وما يؤدِّي معناه؛ كالتبيين والتيقُّن، والانكشاف والظهور، والنَّظر الفِكري، والإيحاء والنِّداء، ونحو ذلك، أو بعدَ فِعل الظنِّ بتأويل أنْ يكون ظنًّا متآخيًا للعلم"[13]، فهذا النصُّ يبرز في وضوحٍ السمةَ السياقيَّة للأفعال التي يَشغَل المصدرُ المؤوَّل من (أن) المخفَّفة من الثقيلة موقعَ المفعول فيها، وهي السِّمة السياقيَّة لـ(أنّ) المشدَّدة أيضًا، ولا فرْقَ بيْن الاثنين إلا في التخفيف.

وأخيرًا: ماذا عن الضوابطِ التركيبيَّة لهذا العنصر المصدريِّ في صورته المخفَّفة؛ حيث صارَ شبيهًا بالعنصر الثنائيِّ الوضْع (أن)، وبخاصَّة إذا وقَع بعدَ أفعال سِماتها الدلالية لا تُفيد تحقيقًا؟ كأفعال الشكِّ والظنِّ والمحسبة؛ مِثل الأفعال: ظننت، حسبتُ، خِلت، شَككت؛ إذ مِن المعلوم أنَّ تلك الأفعالَ لا تَثبت على حالة دلاليَّة واحدة، فقد تَجنح صوبَ التحقيق حينًا، فتُصبح متآخيةً لأفعال التحقيق، وصوبَ الظنِّ أحيانًا، فتتآخَى مع أفعال الرَّجاء والخوف؛ ذلك أنَّ معنى الظنِّ - كما يذكُر ابنُ يعيش - أنْ يتعارض دليلانِ ويترجَّح أحدُهما دون الآخَر، وقدْ يَقوَى المرجّح، فيستعمل بمعنى العِلم واليقين، وقد يَضعُف، فيُضحي ما بعدها مشكوكًا في وجودِه، وحينها يحتمل ألاَّ يكون كأفعالِ الخوفِ وأنْ يكون مِثلها.

وعليه، فالعُنصر المصدريُّ المعمول لهذه الأفْعال يحتمل الوجهين معًا، فقدْ يكون (أن) المخفَّفة، أو الثنائية الوضْع، وللحقِّ فإنَّ النُّحاة قدْ وضَعوا ضوابطَ فاصلةً بيْن العنصرين معلومةً ومتداولةً بينهم، ولولا محدوديةُ البحث لعرضتُ لها، كما أنِّي شعرتُ أنَّ عرْضي لها سيكون مِن باب التَّكْرار المعيب.

يبقى أنْ أُشيرَ إلى أنَّ المصدر المؤوَّل مِن (أنّ ومعموليها) إذا تبوَّأ مقعدَ الفاعل، فإنَّ فِعله يَشترك مع فِعل المصدَر المؤوَّل من (أنْ) الثنائية في سِماتها الدلاليَّة التي تتَّسم بسمة (+ حالة انفعالية)؛ مِثل الأفعال: أعجب - أسعد - أغْضب - أرْضى - سرّ، كما أنَّ سِمةً أخرى لها هي سِمة (- شخصي)؛ مِثل الأفعال: بلغ - أتى - وصل؛ إذ يَجنحُ هذا النوعُ مِن الأفعال عندما يكون فاعِلُها مصدرًا مؤوَّلاً مِن (أنّ ومعموليها)، إلى هذه السِّمة الجديدة.

[1] الشيخ خالد الأزهري؛ "شرح التصريح على التوضيح"، (1/ 216)، القاهرة دار إحياء الكتب العربية، د. ت.
[2] السابق، (216).
[3] الرَّضي؛ "شرح الكافية"، (2/ 349).
[4] ابن يعيش؛ "شرح المفصَّل"، (8/ 86).
[5] السابق، (8/ 86).
[6] السابق، (8/ 77).
[7] الرضي؛ "شرح الكافية"، (2/ 232).
[8] ابن يعيش؛ "شرح المفصَّل"، (8/ 86).
[9] الزمخشري؛ "الكشاف"، (1/ 663).
[10] الرضي؛ "شرح الكافية"، (2/ 232).
[11] عبدالقاهر الجرجاني؛ "كتاب المقتصد في شرح الإيضاح"، (2/ 487).
[12] ابن يعيش؛ "شرح المفصَّل"، (8/ 77).
[13] الرضي؛ "شرح الكافية"، (3/ 232 - 233).











رد مع اقتباس
قديم 2013-09-06, 12:58   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
leprence30
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي التدوير في الشعر.. دراسة في النحو والمعني والإيقاع (2)

التدوير في الشعر.. دراسة في النحو والمعني والإيقاع (2)

البَنْد والإِفصاح عن التَّدْوير:
مِمَّن تناول درس هذه الظاهرة الأستاذ عبدالكريم "الدجيلي" في كتابه الموسوم بعنوان "البَنْد في الأدَب العربي - تاريخه ونصوصه"[1]، وخلاصة ما توصَّل إليه مِن تحديد الشكل الإِيقاعي لهذا الفن يبين من قوله في مقدِّمة كتابه (ص: ف): "البَنْد، لونٌ مِن ألوان الأدب العربي وضرب مِن ضروبه وُجِد أخيرًا نتيجةَ خروج عن عمود الشِّعر التقليدي، فهو ليس بالموزون المقفَّى فيعدُّ مِن باب الشِّعر العربي المعروف، ولا هو بالذي قدِ انتزعتْ عنه هاتان الصِّفتان - الوزن والقافية - فيكون من قبيل النَّثْر وبابه، فهو إذن الحلقة الوُسطَى بين النظم والنثر"، وحول جريانه على وزن معيَّن يقول في "ص" "والبَنْد - كما قلنا سابقًا - يقتضي أن يكونَ جريه على بحْر الهزَج وأجزاء هذا البحر مفاعيلن "4" مرات للبيت، وأكثر البنود التي عثرتُ عليها في تتبُّعي هي على هذا البَحْر، وخاصَّة المتأخِّر منه ولم يخرجْ عن هذه القاعدةِ إلا قلَّةٌ قليلةٌ مِن ناظمي البنود كما ترَى في هذا السِّفْر"؛ يقصد بذلك كتابِه.

وكلامه يُسلِم إلى كون البَنْد فنًّا يجمع بين حدي الوزن والقافية، يضيع فيه حدُّ التقسيم الشَّطري، وتغيب القافية كثيرًا، وتظهر - إنْ ظهرت - على استحياء، ويُسلِم إلى كون الوزن الغالب لهذا الفنِّ هو الهزَج، وقد بان في كتابه اتصال فنِّ البَنْد بالفارسية، وهذا ما جعل الهزَج سبيلاً إليه، فالهزَج مِن الأوزان التي لها باعٌ في الشِّعر الفارسي.

وفي تحديدِ نِظام البَنْد الإِيقاعي يرى أنَّ البنود التي ترتكز على الهزَج يغلب عليها حسبَ تتبعه لها أن تبدأَ بزِيادة سببٍ أو وتد، واعترَف بأنَّه لا يعلم سرَّ هذه الزِّيادة حين قال في "ص": "ولا أعلم السببَ في هذه الزيادة، فهل هي مِن مستلزمات النَّغَم والإِيقاع؟ وكل ما أعرِفه في هذا السبب أنَّ أرْباب البنود جروا على هذه الزِّيادة في أوَّل كل بَنْد، والمتأخِّرون هم أكثرُ التزامًا بهذه الزِّيادة".

ولعلَّ هذه النقطةَ الأخيرة في تصوُّر حدِّ هذه الزيادة ورسْم البَنْد على تصور إيقاع الهزَج وحْده، جعَل الشَّاعِرة الحصيفة نازك الملائكة تُدرك عن وعيٍ الخطأَ الذي وقَع فيه "الدجيلي" مِن خلال رسمه لحدود البَنْد.

فكيف كان تصوُّر " نازك" لهذا الفن؟
في معرِض الحديث عن بدايات إيقاعيَّة كانت تمهيدًا لنِظام الشِّعر الحرّ، أخذتْ "نازك" من فنِّ البَنْد سبيلاً إلى ذلك لانتفاء حدودِ الشَّطرية فيه؛ ففي كتابها الرائد "قضايا الشِّعر المعاصر" الذي أعلنتْ فيه عن نِظام الشِّعر الحر تقول "ص: 8": "والواقِع أنَّ الشِّعر الحر قد ورَد في تاريخنا الأدبي، وقد كشَف الأدباء المعاصرون، ومِن أوائلهم عبدالكريم "الدجيلي" في كتابه المهم "البَنْد في الأدب العربي" تاريخَه ونصوصه، كشفُوا أن قصيدة مِن هذا الشِّعر قد وردتْ منسوبةً إلى الشَّاعِر ابن دُرَيد في القرْن الرابع الهجري، وهذا نصُّها وقد رواه الباقلاني في كتابه "إعجاز القرآن" وأدرجه كما يدرج النثرَ الاعتيادي، ولكني أوثر أنه أدرجه إدراجَ الشِّعر الحرّ"، وعلى نهج "الدجيلي" قامت "نازك" بتخطيطٍ لنص ابن دُرَيد يُوازي تخطيطَ الشِّعر الحر، وأفصحتْ "نازك" عن أنَّ هذه المقطوعةَ لم ترد عن طريق الهزَج وحده؛ حيث كان " الدجيلي" قد تصوَّر خُلْطتها متمسكًا بوزن واحدٍ لها في نِطاق البَنْد.

لقد أكَّدتْ "نازك" أنَّ أعظم إرهاص لنِظام الشِّعر الحر هو ما يُعرَف بالبَنْد، بل على حسب قولها: "لا بل إنَّ هذا البَنْد هو نفسُه شِعرٌ حرٌّ؛ للأسباب التالية:
1- لأنَّه شِعر تفعيلة لا شِعر شطر.
2- لأنَّ الأشطرَ فيه غيرُ متساويةِ الطول.
3- لأنَّ القافية فيه غير موحَّدة، وإنما ينتقل الشَّاعِر مِن قافية إلى قافية دون نِظام أو نموذج محدَّد"[2].

وقد بان مِن خلال قراءتي ل" نازك" أنَّ لها على جملة ما تصوَّره " الدجيلي" عدَّةَ أمور:
"أ" وجدتْ أنَّ البَنْد ليس موسومًا بوزن واحد هو الهزَج فالرمَل شريكه، يسلِم إلى ذلك جملةُ النصوص التي أوردَها "الدجيلي" في كتابه.

"ب" وجدتْ أنَّه يرتكِز على ثُنائية وزنين متداخلين هما الرمَل والهزَج. فالبَنْد يزاوج بيْن علاقة البَحرين عن طريق اطِّراح سبب في تتالي التفعيلات، وتوضيح مرادها يبدو مِن خلال التصوُّر التالي الذي أعْرِضه من خلال فَهْمي إيَّاها:

لو وقَّعْنا بادئين بالرمَل: فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن؛ فإنَّ بالإِمكان اطِّراح السببَ الخَفيف الأول "فا" ليصبح الباقي على نحو:
علاتن فاعلاتن فاعلاتن، والحسبة بنِظام المداخَلة، وهو أمرٌ متصوَّر في علاقات الخليل الإيقاعيَّة يمثل ركيزةً في فهم النِّظام الدائري لديه - تكون: علاتن فا/ علاتن فا/ علاتن... وهي بمنظور جمع الوحدات: مفاعيلن مفاعيلن مفاعي... وهكذا يولد الهزَج من الرمَل، والرمَل من الهزَج باطِّراح ذلك السبب الذي بان في استخلاص البَحْر من دائرته، وقد واكب الشَّاعِر - كما أرى - حركةَ الاستخلاص، وفي هذا الفَهم تقول "نازك": "ومِن الحق أن نقول: إنَّ الذين كتبوا عن البَنْد قدِ انتبهوا جميعًا إلى أنَّ هذا الوزن ليس هو الهزَج، على الرغم مِن أنَّ هناك في البنود كلها تفعيلاتٍ كثيرة مِن الهزَج، وحيَّرهم ذلك فابتدعوا له تخريجًا غريبًا في بابه، فقالوا: إنَّ هذا الوزنَ هو الهزَج بزِيادة سببٍ خفيف في أوله كما يلي:
أَيْ/ يُهَا اللاءِ/ مُ فِي الْحُبِّ/ دَعِ اللَّومَ
مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن

وهذا شيءٌ غير مسموعٍ في العَروض العربي، فلسْنا نعرف في الشِّعر حرفًا إلا وهو داخل في وزن الشَّطر والبيت"[3]، والتعليق هنا رغم سلامته تنقصُه الدِّقة في تصوُّر رفْض الزِّيادة.

"جـ" أدركتْ "نازك" إمكانَ تقسيم البَنْد إلى وحدات، وقد تلمَّستُ في قراءتها للبَنْد إحساسًا ما بتَقْفيَةٍ بانَ ذلك عندَ عرْضها لنموذج بَنْد ابن الخلفة، وهو أظرفُها وأحفلها بالعفويةِ في إحساس "نازك"، ففي تقطيعها الداخلي لهذا البَنْد أبرزت جملةَ قوافٍ على نحو:
أَهَلْ تَعْلَمُ أَمْ لاَ أَنَّ للحُبِّ لذَاذَاتٍ

ووالتِ الأشطر بعدَها مختومة بالكَلمات: جوى مات/ كمالات/ مقالات.

وحين أَوردتِ التركيبَ الذي يقول:
فَكَمْ قَدْ هَذَّبَ الحُبُّ بَلِيدًا

وضعتْ هذا الكمَّ في نِطاق كم بعدَه منتهٍ بكلمة توازي النهاية السابِقة هي كلمة "رشيدًا".

وهكذا حاولتْ "نازك" أن تتصوَّر بَنْدا مِن البنود تصور الشِّعر الحُر وزنًا وقافية.

"د" أدركتْ أنَّ استخدام إيقاع البَنْد بهذه المراوحة بيْن الهزَج والرمَل لا يكفي لإِبداع البَنْد، وإنَّما ينبغي إلى جانبِها "تحسس مُرْهفٌ للإِيقاع والوَزن، بحيث يُدرك الشَّاعِر الوسيلةَ الموسيقيَّة الفذَّة التي يمكن بها أن تجتمعَ التفعيلتان دون أن يحسَّ القارئ بغرابة الانتقال"[4]، وقد بيَّنتْ براعةَ الانتقال مِن خلالِ تَحليلها لبَنْد ابن الخلفة السابِق.

"هـ" وصلت إلى مقياس عَروضي للبَنْد قالت فيه: "إنَّ القاعدة العروضيَّة للبَنْد هي أنَّه شِعرٌ حرٌّ تتنوَّع أطوال أشطره، ويرتكز إلى دائرة المجتلب مستعملاً منها الرمَل والهزَج معًا"[5]، ووضعتْ مقياسًا يبدو أنه تحرَّك من خلال بَنْد ابن الخلفة السابقِ على نحو:
مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلْ
مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلْ
مفاعيلن مفاعيلْ
مفاعيلن مفاعيلن فعولن
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن
فاعلاتن
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن[6]

هذا مجملٌ ما أفصحتْ عنه "نازك" حولَ ظاهرة البَنْد معتمدةً على نصوص "الدجيلي"، مخالِفةً له في تذوُّقه الإِيقاعي، متفقة معه في كون البَنْدِ الأبَ الشرعيَّ لإيقاع الشِّعر الحرِّ.

وما قامت "نازك" بتصوره وما ابتغاه "الدجيلي" بجمعه وحدْسه لنا عليه بعضُ ملاحظات، ففي جُلِّ ما جاءت به "نازك" صوابٌ لا شك فيه، فقد أصابتْ حين تصوَّرت أنَّ إيقاع البَنْد يزاوج بين بحورِ دائرة واحدة مُبَيِّنة سبيل هذا التوارد، وأصابتْ أيضًا حين تصوَّرتْ ك"الدجيلي" البَنْد سبيلاً إلى تصوُّر إيقاع جديدٍ منبثق عنه هو إيقاعُ الشِّعر الحر حيث كانتْ من روَّاد تقنينه تنظيرًا وإبداعًا، لكن يبدو أنَّها في تحقيق مقياس لوزن البَنْد وقعتْ في بعض ترخُّصات:
الأوَّل: لم يكُن لها حق في رفْض الزيادة التي قال بها دارسو البَنْد كي يتصوَّروا الهزَج أساسًا له، فقد خانها الصوابُ حين حكَمت على هذه الزيادة بأنَّها أمر غير مسموع في العروض العربي ناسيَة أنَّ في نِظام العروض زيادة شَبيهة بها تأتي نادرًا في مطلع القصائد تُسمَّى بالخزْم[7] لا حساب لها في وزن البيت، منها ما دلَّل به العَروضيُّون على هذه الظاهرة من قول الشَّاعِر:
اشْدُدْ حَيَازِيْمَكَ لِلْمَو
تِ فَإِنَّ الْمَوْتَ لاَقِيكَا

وهي مُقارِبة للزِّيادة التي وجدتْ في مطلع البَنْد الذي يقول:
أيُّهَا اللاَّئِمُ فِي الْحُبِّ
دَعِ اللَّومَ عَنِ الصَّبِّ

فهي بتقسيم الهزَج:
أيُّهَا اللاَّئِمُ فِي الْحُبِّ
دَعِ اللَّومَ عَنِ الصَّبِّ

فكما زِيدت "اشْدُدْ" في مطلع البيت الأول زيدت "أي" في مطلع هذا البَنْد، بَنْد ابن الخلفة الذي جعلتْه "نازك" محوَر دراستها عن البَنْد.

الثاني: حين تصوَّرتْ مقياسًا لعروض بَنْد يُنْسَج عليه ويصبح نِظاما، لم تعتمد البنود كلها سبيلاً لفرض هذا المقياس، وقد اقتطعت جزءًا من بَنْد أسلَمها إلى النِّظام الذي وصلت إليه. وحول رؤية هذا البَنْد نقول فيه إنَّ مطلعه رمَل إنْ نفينا وجود زيادة في مطلعه. يقول البَنْد: "أيها اللائم في الحب، دع اللوم عن الصبّ، فلو كنت ترى الحاجبي الزُّجِّ فويْق الأعْيُن الدُعْج، أو الخد الشقيقي، أو الريق الرحيقي، أو القَد الرشيقي الذي قد شابهَ الغُصن اعتدالاً وانعطافًا.."[8].

وفيه تَتردد الإِيقاعات على النحو الآتي:
يبدأُ رمَلاً: أيها اللائم في الحب دعِ اللَّوم عن الصبِّ فلو، وهي:
فاعلاتن فعلاتن فعلاتن فعلاتن

كنت ترى الحاجبي الزُّجِّ فُويْق الأعين الدُّعج أو الخد الشقيقي، وهي:
فعلاتن فاعلاتن فعلاتن فاعلاتن فعلاتن فاعلاتن، هذا مع افتراض إفراد الياء في كلمة "الشقيقي"؛ لأنَّ تشديدها يتابع وصل بحر الرمَل.

[1] لمؤلفه الأستاذ عبدالكريم الدجيلي - مطبعة المعارف - بغداد 1378هـ - 1959م.
[2] "قضايا الشِّعر المعاصر" (ص: 12).
[3] السابق (198)، ولم يكن التقطيعُ الوارد لدَى نازك بحاجةٍ إلى إشباع، فالتفعيلات مكفوفة على نحوِ مفاعيل، وهذا ملمَس الهزَج ومذاقه الاستعمالي.
[4] السابق (200).
[5] السابق (202).
[6] السابق 202.
[7] لابن رشيق في كتابه "العمدة" (1/ 41) كلامٌ مفصَّل عن ظاهرةِ الخزم.
[8] "البَنْد في الأدب العربي" (67).











رد مع اقتباس
قديم 2013-09-06, 13:00   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
leprence30
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي المعاني النحوية والدلالات لعلامات الوقف في المصحف الشريف

المعاني النحوية والدلالات لعلامات الوقف في المصحف الشريف

في المصحف الشريف علاماتٌ للوقف، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمعاني النحوية والمعاني الدلالية، وكلُّها يدور حول مراعاة تمام المعنى وصحته، ودفع اللَّبْس، والتمييز بين المعاني المتداخلة وجهات الكلام.

وسوف نورد - فيما يأتي - تعريفًا بكل رمزٍ من رموز الوقف، ونعقبه بدراسة نحوية لكلٍّ منها:
أولاً: الوقف اللازم ورمزه "م".
وهو الوقفُ على كلمةٍ لو وصلت بما بعدها لأوهَمَ وصلُها معنًى غير المراد، ويكون هذا الوقف في وسط الآية، وفي آخرها، وسمِّي الوقفُ على هذه المواضع وما شاكلها لازمًا؛ للزومِه وتحتُّمِه، من أجل سلامةِ المعنى، وحُسن التلاوة، وإحكام الأداء[1].

ويأتي هذا الوقفُ للتمييز بين أشكال الكلام المختلفة، ولإزالة اللَّبس بينها، والفصل بين جهات الكلام؛ كالتمييز بين كلام الله - عز وجل - وكلامِ الكفار؛ كقوله - تعالى -: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًاۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾ [البقرة: 26].

فالوقفُ اللازم على ﴿ مَثَلاً ﴾ ليفصلَ بين كلام الكفار، وكلام الله - عز وجل - وتكون جملة: ﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ﴾ جملة مستأنفة، ولو وُصِل الكلامُ لكانت صفة لـ: ﴿ مَثَلاً ﴾، ولأفادَتْ أنه مِن كلامِ الكفَّار، وهو غيرُ صحيح[2].

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍۘ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ [المائدة: 73].

فالوقف اللازم على ﴿ ثَلاَثَةٍ ﴾ يميِّز بين قول النصارى القائلين بالتثليثِ، وقول اللهِ - سبحانه وتعالى - ردًّا لقولهم، ولو وصل الكلام لأوهم أن يكونَ ذلك مِن كلامهم، فيؤدي إلى التناقض، والواو على الوقفِ اللازم تُشعِر بالاستدراك؛ لأن ما بعدها عكس حُكْمِ ما قبلها.

ومن ذلك قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِۘ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124].

فالوقف اللازم على ﴿ رُسُلُ اللَّهِ ﴾ يفصِلُ بين كلامينِ؛ كلام الكافرين (كفَّار قريش)، وكلام الله عز وجل، وجملة:﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124] تُعَدُّ ابتدائية، ولو وصل الكلام لكان هذا من تتمَّةِ قولهم، فيؤدي إلى فساد المعنى، وهو الجمعُ بين ما يدلُّ على الكفر، وما يدل على الإيمان.

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْۘ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [يونس: 65].

فالوقف اللازم على ﴿ قَوْلُهُمْ ﴾ يدفعُ إيهامَ أن ما بعده مِن قولهم، وإنما الصحيح أنه من قول الله - سبحانه وتعالى - وعليه فجملة: ﴿ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ ابتدائيةٌ، ولو وصل الكلام لكانت الجملةُ في محل نصب مفعول به للقول، فيترتب عليه الجمعُ بين متناقضين، وهما الكفر والإيمان[3].

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُۘ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾ [آل عمران: 7].

فالوقفُ اللازم على لفظ الجلالة ﴿ اللَّهُ ﴾ يمنَعُ وهم أن الراسخين في العلم يعلمون تأويلَه، وهو رأي الجمهور[4]، وعليه فالواو استئنافية، ﴿ الرَّاسِخُونَ ﴾ مبتدأ، مخبَرٌ عنه بـ: ﴿ يَقُولُونَ ﴾، وعلى الوصل تكونُ الواو عاطفةً، و﴿ الرَّاسِخُونَ ﴾ معطوفًا على لفظ الجلالة، وجملة ﴿ يَقُولُونَ ﴾ حالاً منهم، وقد ذهب إلى هذا قلةٌ مِن أهل العلم[5].

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْۘ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [المائدة: 5].

فالوقف اللازم - في بعض طبعات المصحف - يمنع اللَّبسَ الواقع من عطف ﴿ الْمُحْصَنَاتُ ﴾ على ﴿ طَعَامُكُمْ ﴾؛ لأنه يؤدي إلى مخالفة الحُكم الشرعي، وهو تحليلُ المحصنات من المؤمنات لأهل الكتاب، ولكن الوقفَ يجعل الجملة مستأنَفة، ويكون خبرُ ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ ﴾ محذوفًا، تقديره: "حلٌّ لكم كذلك إذا آتيتموهن أجورهن...."، أو يكون قوله: ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ ﴾ معطوفًا على قوله: ﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ﴾، وتكون جملة ﴿ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ﴾ مقحَمة بين المتعاطفين، وقيل: ﴿ الْمُحْصَنَاتُ ﴾ معطوفٌ على ﴿ الطَّيِّبَاتُ ﴾؛ فهو من عطف المفردات، من عطف الخاصِّ على العام، وهو وجه حسَنٌ أيضًا[6].

ومن الوقف اللازم أيضًا - واللَّبس فيه واقع في حرفٍ مثل الواو، فلا يتميز كونُها استئنافية أو عاطفة إلا به - قولُهُ تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواۘ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [البقرة: 212].

فاللَّبس واقع في الواو؛ حيث يتطرَّقُ إلى القارئ وهمُ أنها عاطفة إذا وصلها، ويؤدي إلى الفساد في المعنى بتقييد سخرية الكافرين مِن الذين آمنوا والذين اتقوا بالحال ﴿ فَوْقَهُمْ ﴾، وبالظرف ﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾، وليس هذا هو المرادَ، بل المرادُ أنهم يَسخَرون منهم في الحياة الدنيا، وأن الذين اتَّقوا فوقهم يوم القيامة، فالوقف اللازم على ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ يترتَّبُ عليه أن تكونَ الواو استئنافيةً لا عاطفة[7].

وقد يكون الوقفُ اللازم لإزالة اللبس، ولدفع الوهم الحاصل في موقع الجملة؛ ففي قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌۘ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [النساء: 171].

الوقف اللازم على ﴿ وَلَدٌ ﴾ يمنع إيهامَ أن الولد الذي نُزِّه عنه - عز وجل - موصوفٌ بأن له ما في السموات وما في الأرض، ويثبت أن هذه الصفةَ لله - سبحانه وتعالى - وحده، والجملة على هذا استئنافيةٌ لا محلَّ لها من الإعراب، ولو وصل الكلام لكانت الجملةُ في محل رفع لـ: ﴿ وَلَدٌ ﴾، ويؤول هذا إلى اختلال المعنى، ووقوع اللَّبْس، وإثبات ولدٍ ليس له ما في السموات وما في الأرض[8].

وقد يكون الوقفُ اللازم لإزالة اللَّبس الحاصل في الفاعل؛ فمن ذلك قوله - تعالى -: ﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌۘ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [العنكبوت: 26].

فالوقف اللازم على ﴿ لُوطٌ ﴾ يزيل اللَّبس في الفاعل بين ﴿ آمَنَ ﴾ و﴿ قَالَ ﴾، فيجعل لكل فعلٍ فاعلاً مستقلاًّ؛ فالذي ﴿ آمَنَ ﴾ هو ﴿ لُوطٌ ﴾، والذي قال: ﴿ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ﴾ هو إبراهيمُ - عليه السلام - والوصلُ يوهم أن الفاعلَ واحدٌ، وخاصة أن الفاعل في ﴿ قَالَ ﴾ ضميرٌ مستتر، والأصل أن "الضمير يعود على أقرب مذكور".

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَۘ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [الأنعام: 36].

فالوقف اللازم على ﴿ يَسْمَعُونَ ﴾ يدفع وهم أن الواو بعده عاطفة؛ لأن هذا يؤدي إلى التناقض، وهو التسوية بين الأحياء والموتى في الاستجابة، أما الوقف، فيجعل الواو استئنافية، ويكون ﴿ الْمَوْتَى ﴾ مبتدأ مخبَرًا عنه بقوله: ﴿ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ﴾، وهو المراد[9].

وقد يكون اللَّبس في التركيب واقعًا في صيغة الفعل، فيختلط على القارئ كونه للأمر أو للمضارع، ومن ذلك قوله - تعالى -: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُواۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2].

فالوقف على ﴿ تَعْتَدُوا ﴾ يدفع إيهام عطف فعل الأمر ﴿ تَعَاوَنُوا ﴾ على المضارع ﴿ تَعْتَدُوا ﴾؛ بل هو معطوفٌ على النهيِ المتقدِّم في صدر الآية.

وقد يكون اللَّبسُ واقعًا في الجملة بين كونها صفةً، وكونها استئنافية؛ كما في قوله - تعالى -: ﴿ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَۘ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ﴾ [هود: 20].

فالوقف اللازم على ﴿ أَوْلِيَاءَ ﴾ يمنع إيهامَ أن جملة ﴿ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ﴾ صفةٌ لقوله: ﴿ أَوْلِيَاءَ ﴾، ويفيد نفي الأولياء مطلقًا، وأن جملة ﴿ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ﴾ استئنافية مستقلَّة عما قبلها.

وهكذا يتبين أن الوقفَ اللازم يميز بين المعاني الملتبسة، والصور المتداخلة، كما أنه يحقق سلامة المعنى وحسن الأداء، وهو مرتبط في كل ذلك بالمعاني النحوية، والتوجيهات الإعرابية.

ثانيًا: الوقف الممتنع أو القبيح، ورمزه "لا":
ويعني الوقف الذي لا يفهم السامعُ منه معنى، ولا يستفيد منه فائدةً يحسُن سكوتُه عليها؛ لشدة تعلُّقه بما بعده من جهتي اللفظ والمعنى معًا.

ويلاحظ أن هذا الرمز "لا" يأتي غالبًا في المواضع التي تكونُ فيها الجمل مكتملة الأركان من حيث الظاهر، ولكنها ليست في الحقيقة مستقلةً في المعنى، وإنما متعلقة بما بعدها، ومن ثم يأتي هذا الوقفُ لمنع الفصل بين القَسَم وجوابه مثلاً؛ كما في قوله - تعالى -: ﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 145].

فلا يجوز الوقفُ على ﴿ الْعِلْمِ ﴾؛ لأنه يؤدي إلى الفصل بين القَسَم وجوابه، فهذا من نوع الوقف القبيح، وإنما نص العلماء على هذه الكلمة دون غيرها؛ لأن القارئَ قد يستسيغ الوقف هنا لطول التركيب، أو لاستيفاء الجملة الصغرى أركانَها النَّحْوية، فيأتي هذا الرمزُ بمثابة التنبيه له إلى مراعاة عدم الوقف.

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ﴾ [النحل: 38].

فالرمز "لا "على ﴿ أَيْمَانِهِمْ ﴾ ينبِّه القارئ إلى مجيء الجواب بعده.

وقد يكون الرمز "لا" موضوعًا لمنع الفصل بين الصفة والموصوف، كما في قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ﴾ [الأعراف: 164].

فإن الرمز "لا" يشير إلى منع الوقف على ﴿ قَوْمًا ﴾؛ لئلاَّ يفصل بين الصفة وهي جملة ﴿ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ ﴾، والموصوف وهو ﴿ قَوْمًا ﴾؛ ولأن ذلك يؤدي إلى فساد المعنى، وهو أنهم عُوتِبوا لأنهم يعظون قومًا، وليس هذا هو المراد، بل المراد أنهم عُوتِبوا لأنهم وعظوا قومًا لا رَجاء منهم.

وقد يكون الرمز "لا" موضوعًا لمنع الفصل بين المبتدأ والخبر كما في قوله - تعالى -: ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].

فالرمز "لا" موضوع عند ﴿ مَعَهُ ﴾؛ وذلك لأنه مظِنة الوقف؛ نظرًا لطول التركيب، وهو أمر غير جائز؛ لمجيء خبر المبتدأ بعده، وهو ﴿ أُولَئِكَ ﴾.

وقد يُوضَع الرمز "لا" لمنع الفصل بين الحال وصاحبها، كما في قوله - تعالى-: ﴿ هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [النحل: 76].

فإن الرمز "لا" يشير إلى منع الوقف على "بالعدل"؛ لئلاَّ يترتب عليه الفصل بين الحال وصاحبها، وهو يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، ولأنه به تتم المعادلة أو التسوية بين الرجلين، فالأبكم لا يقدر على شيء، وهو كَلٌّ على مولاه، أينما يوجِّهْه لا يأتِ بخير، والآخر يأمرُ بالعدل وهو على صراط مستقيم، فقد أُسنِد إلى الرجل الأول وصفان: أنه ﴿ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ ﴾، وأُسنِد إلى الرجل الثاني وصفان مقابلان للسابقين، وهما: أنه ﴿ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ﴾، وهذه تقابل وصف الأبكم بأنه لا يقدر على شيء، والثاني أنه ﴿ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾، وهي تقابل وصف الأبكم بأنه ﴿ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ ﴾؛ أي: إنه مشتَّت غير مستقيم.

أو يكون عدم الوقف لمنع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه كما في قوله - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ [الأنفال: 51، 52].

فالرمز "لا" على ﴿ فِرْعَوْنَ ﴾، يشير إلى منع الفصل بين المعطوف، وهو ﴿ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾، والمعطوف عليه، وهو ﴿ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾؛ حتى يتوجَّه الإخبار بالفعل ﴿ كَفَرُوا ﴾ إليهم جميعًا، أما الوقف على ﴿ فِرْعَوْنَ ﴾ فيفيد توجُّه هذا الإخبار إلى ﴿ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ فقط.

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: 53].

فالرمز "لا " على ﴿ بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ يشير إلى منع الفصل بين المعطوف، وهو ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾، والمعطوف عليه، وهو ﴿ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً... ﴾، وهو أيضًا يشعر بتمام الكلام؛ لأن الجملة عنده قد طالت، وتم معناها، إلا أن لها تعلقًا بما بعدها؛ فلذلك حسُن الوصلُ، ولم يحسُن الابتداء بما بعده؛ لأن "أنَّ" المفتوحة لا تأتي في أول الكلام.

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ ﴾ [المائدة: 106].

فالوقف الممنوع عند ﴿ قُرْبَى ﴾، وهو يشير إلى منع الفصل بين المعطوف عليه، وهو ﴿ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا ﴾، والمعطوف، وهو ﴿ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ ﴾، وإنما احتِيج إلى التنبيه على ذلك لإقحام إن الشرطية بينهما، وهي ﴿ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا... ﴾.

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 3].

فالرمز "لا" على ﴿ الْمُشْرِكِينَ ﴾ يُشِير إلى منع الفصل بين المعطوف عليه وهو الضمير المستتر في ﴿ بَرِيءٌ ﴾، أو محل ﴿ أَنَّ ﴾ واسمها من جهة، والمعطوف وهو ﴿ وَرَسُولُهُ ﴾ من جهة أخرى، أما الوقف، فإنه يؤدِّي إلى أن يكون المبتدأ ﴿ رَسُولُهُ ﴾ خاليًا عن الخبر.

وقد يكون لمنع الفصل بين البدل والمبدل منه، كما في قوله - تعالى -: ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ﴾ [التوبة: 25].

فالرمز "لا" على ﴿ حُنَيْنٍ ﴾ يشير إلى منع الفصل بين البدل ﴿ إِذْ ﴾، والمبدل منه وهو ﴿ يَوْمَ حُنَيْنٍ ﴾؛ وذلك لأنهما مترابطان في المعنى، أما الوقف، فإنه لا يُفِيد سبب تخصيص ﴿ يَوْمَ حُنَيْنٍ ﴾ بالنصر، إنما تأتي هذه الفائدة من مجيء البدل بعده ووصل الكلام.

أو لمنع الفصل بين الفعل وفاعله، ومنه قوله - تعالى -: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ [الأنفال: 50].

فالرمز "لا" يشير إلى منع الوقف؛ لئلاَّ يفصل بين الفعل وفاعله، ولو ابتدئ بالملائكة لعاد الضمير من ﴿ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ على غير عائد، فالكلام متصل بما قبله.

أو يكون لمنع الفصل بين الفعل والمفعول به، كما في قوله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [النور: 6].

فالرمز "لا" على ﴿ بِاللَّهِ ﴾ يُشِير إلى منع الفصل بين جملة ﴿ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ وعاملها، وهو ﴿ شَهَادَاتٍ ﴾، أو ﴿فَشَهَادَةُ﴾؛ لأنها مفعول لـ﴿ شَهَادَاتٍ ﴾، علق عنه باللام في الخبر.

ومثله قوله - تعالى -: ﴿ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النور: 8].

ويكون كذلك لمنع الفصل بين المتسدرَك والمستدرَك عليه، ومنه قوله - تعالى -: ﴿ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ﴾ [الأنفال: 42].

فالرمز "لا" على ﴿ الْمِيعَادِ ﴾ لمنع الفصل بين جملة ﴿ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ﴾، وبين ما استدرك به عليه، وهو قوله: ﴿ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ﴾، فهو من تتمة الكلام.

وهكذا يتضح أن علماء الوقف قد وَضَعُوا هذا الرمز لتأكيدِ اتصال الكلام بعضه ببعض، وخاصة في المواضع التي يُتوهَّم أن الكلام قد تم عندها، أو يسوغ الوقف فيها؛ لطول التركيب أو لضيق النَّفَس ونحو ذلك.

ثالثًا: الوقف الجائز ورمزه "ج":
وهو علامة للوقف الجائز جوازًا مستوي الطرفين، ويلاحظ أن موضع الوقف عند هذا الرمز يكون محتملاً للوقف والوصل على السواء؛ وذلك لأن التعلُّق النحوي فيه يكون متوسطًا من جهة اللفظ والمعنى بما بعده، فليس هذا بالتعلق القوي لفظًا بحيث يكون الوصل أولى، فإن هذا هو محل الوقف الجائز مع كون الوصل أولى، والذي يُرمَز له بالرمز "صلى"، ولا هو بالتعلق الضعيف، بحيث يكون الوقف أولى، وهو الذي يرمز له بالرمز "قلى".

وحين نتتبَّع مواضع هذا الرمز، نجد أن الجُمَل التي تأتي بعده تكون مستقلَّة عمَّا قبلها استقلالاً نَحْويًّا لفظًا ومعنى، ولكن بينها وبين ما قبلها تعلُّق من جهة المعنى العام، كما نرى في الآيات الآتية:
قوله - تعالى -: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ ﴾ [البقرة: 115].

ففي هذه الآية نجد أن جملة ﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ تامة نحويًّا، والجملة التي بعدها مستقلة عنها، والفاء استئنافية فيها، لكنها من جهة المعنى العام مرتبطة بها؛ لأنه إذا كان لله المشرق والمغرب فيستوي حينئذٍ أن يتوجَّه الإنسان إلى أي جهة منهما؛ وكذلك قوله - تعالى -: ﴿ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾، جملة اسمية مكتملة نَحْويًّا بمبتدئها وخبرها، والجملة التي بعدها مستقلة عنها نحوًا ودلالة، لكنها تأتي بمثابة التوضيح لِمَا قبلها، أو إضافة معنى جديد يتعلق بالمضمون العام لسياق الآيات.

وفي قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍۚ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [الأنعام: 159].

نجد أن جملة ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ﴾ جملة ابتدائية، ولذلك بُدِئت بـ﴿ إِنَّ ﴾ المكسورة الهمزة، والجملة التي قبلها مستقلة عنها نحوًا، لكنهما متصلتان من جهة المعنى العام.

وكذلك قوله - تعالى -: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍۚ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىۚ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [الأنعام: 164].

فالوقفات هنا عند جُمَل تامة نحوًا ودلالة، ولكنها مرتبطة بما بعدها من حيث المعنى العام، وقد تبدأ بعد هذا الرمز (ج) "بواو، وفاء، وثم"، ولكنها من قبيل عطف الجمل أو الاستئناف.

وكذلك قوله - تعالى -: ﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ﴾ [الكهف: 18].

فالواو في ﴿ وَنُقَلِّبُهُمْ ﴾ تحتمل أن تكون استئنافية، وأن تكون عاطفة.

وكذلك قوله - تعالى -: ﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُۚ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ [الكهف: 23، 24].

فالواو في ﴿ وَاذْكُرْ ﴾ تحتمل العطف والاستئناف، فالعطف يقتضي الوصل، والاستئناف يقتضي القطع.
وكذلك قوله - تعالى -: ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًاۚ وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 33].

فالواو في ﴿ وَفَجَّرْنَا ﴾ محتملة للعطف والاستئناف.
ومن ذلك قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِۚ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ ﴾ [البقرة: 49].

وذلك أن جملة ﴿ يُذَبِّحُونَ ﴾، يحتملُ فيها أن تكون في محلِّ نصب حال من فاعل ﴿ يَسُومُونَكُمْ ﴾، وأن تكون استئنافية لا موضعَ لها من الإعراب، وقعت جوابًا عن سؤال نشأ من جملة ﴿ يَسُومُونَكُمْ ﴾، ولا مرجِّح لأحد هذين الوجهين على الآخر، بل هما سواء.

ومن أمثلته أيضًا الوقف على كلمة ﴿ حَسِيسَهَا ﴾ من قوله - تعالى -: ﴿ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَاۚ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ﴾ [الأنبياء: 102]؛ لأن جملة ﴿ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ﴾، يحتمل أن تكون في محلِّ نصب على الحال من فاعل ﴿ يَسْمَعُونَ ﴾، وأن تكون استئنافية لا موضعَ لها من الإعراب.

وكذلك قوله - تعالى -: ﴿ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 280].

ويلاحظ أن الانقطاعَ بين الجُمَل في الوقف الجائز يكون على درجة أقلَّ من الوقوف السابقة؛ كالوقف اللازم والكافي، ويكون الاتصال فيه أقوى من غيره من الوقوف.

وقد تكون الصلة بين ما بعده وما قبله صلةَ خبرٍ بمخبر عنه، أو حالٍ بصاحبها، أو معطوفٍ بمعطوف عليه، أو جوابًا لقسمٍ أو سؤال، أو بقية كلام أو قصة.

فمثال ما يكون خبرًا قوله - تعالى -: ﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ﴾ [الكهف: 26].

فجملة ﴿ لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾، خبر للفظ الجلالة ثانٍ في محل رفع.
وكذلك قوله - تعالى -: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ﴾ [الكهف: 58].

فجملة ﴿ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ﴾ خبر ثالث لـ ﴿ رَبُّكَ ﴾.

ولكن ينبغي التنبيه إلى أن جملة الخبر في مثل هذا الوقف لا تكون خبرًا أول؛ لأن الخبر الأول يكون شديد الاتصال بالمخبر عنه، فلا يحسنُ الوقف قبله.

ومثال الحال قوله - تعالى -: ﴿ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ﴾ [الكهف: 18].

فجملة ﴿ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ... ﴾ حال من الضمير في ﴿ وَنُقَلِّبُهُمْ ﴾؛ ولذلك حسن الوصل، كما يمكن أن تكون جملة مستأنفة، فيجوز الوقف.

ومثال الجملة المعطوفة على ما قبلها قوله - تعالى -: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ﴾ [الكهف: 28].

هنا نجد أن الوقف موجود عند موضع العطف، والعطف يقتضي المشاركة.

ومنه أيضًا قوله - تعالى -: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46].

فالوقف الحسن هنا كائن قبل حرفِ العطف؛ لاكتمالِ أركان الجملة نَحْويًّا، غير أن الواو بعدَها عاطفة، والجملة بعدها معطوفة على ما قبلها، ومن ثَمَّ حسن الوصل كذلك.

ومنه قوله - تعالى -: ﴿ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ﴾ [الكهف: 56].

فجملة ﴿ وَاتَّخَذُوا ﴾ معطوفة على ما قبلها، ومتَّفقة معها في الخبرية.

ومثال جواب القسم قوله - تعالى -: ﴿ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ﴾ [الكهف: 14].

فجملة ﴿ لَقَدْ قُلْنَا... ﴾ هو جواب قسم محذوف، والتقدير: "والله لقد قلنا إذًا شططًا"، وهي متصلة في المعنى بما قبلها؛ لأنها بمثابة الردِّ على ما يُفهَم من سياق الكلام السابق، كأنهم قالوا: لن ندعو من دونه إلهًا، لقد قلنا إذًا شططًا، فلأجل هذه الصلة كان الوقف على ﴿ إِلَهًا ﴾ حسنًا، وكان الوصل بما بعده أولى.

ومثال جواب السؤال قوله - تعالى -: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ [الكهف: 83]، فلأجل الصلة بين السؤال والجواب، كان الوصل أولى.

ومثال كون ما بعد هذا الوقف من بقية كلام سابق أو بقية قصة سابقة: قوله - تعالى -: ﴿ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾ [الكهف: 22].

فجملة ﴿ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ ﴾ هي من تتمة كلامهم.

وكذلك قوله - تعالى -: ﴿ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ﴾ [الكهف: 98].

فجملة ﴿ فَإِذَا جَاءَ... ﴾ هي من تتمَّة كلام ذي القَرْنين؛ ولذلك كان الوصل أَولَى، فنجدُ أن هذا النوع من الوقف يأتي بين الجُمَل التي لها صلة بما قبلها، في الوقت الذي يكون ما قبلها مكتفيًا بنفسه من حيث المعنى.

والحاصل أن هذا الوقف يأتي في المواضع التي يكون ما قبلها متعلقًا بما بعدها لفظيًّا ومعنويًّا، إلا أن التعلق اللفظي ليس بين الأركان النحوية الأساسية؛ وإنما بين الجُمَل ومكمِّلاتها، أو التوابع ومتبوعاتها، أو الجُمَل التي تحتاج إلى توضيح، أو تفسير، أو تعليل، وأكثرُ ما يكون ذلك في أثناء الآيات، وخاصة المدنية منها.

[1] شرح طيبة النشر في القراءات العشر؛ لأبي القاسم النويري 1/ 334.
[2] الفريد في إعراب القرآن المجيد 1/ 259، والبيان في غريب إعراب القرآن 1/ 44.
[3] - انظر البرهان في علوم القرآن للزركشي 1/ 345، 358 - 359.
[4] - البحر المحيط 2/ 384، والكشاف 1/ 413، ومعاني الفراء 1/ 191، والقطع لابن النحاس 21 - 213، والطبري 3/ 122.
[5] - منهم محمد بن جعفر بن الزبير، والربيع بن أنس، وعلي بن سليمان؛ انظر: القطع 225، والطبري 3/ 122 والبرهان 1/ 247 - 348، وتفسير مجاهد 1/ 122.
[6] - التبيان للعكبري 1/ 420.
[7] - البيان في غريب إعراب القرآن؛ لأبي البركات بن الأنباري 1/ 149.
[8] - انظر منار الهدى؛ للأشموني 113، والقطع 279.
[9]- انظر: شرح طيبة النشر 1/ 331، ومنار الهدى 130، والقطع 304، والبرهان 1/ 353، والفريد 2/ 144.











رد مع اقتباس
قديم 2013-09-06, 13:03   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
leprence30
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي اللغة العربية في نظر السلف الصالح [1]

اللغة العربية في نظر السلف الصالح [1]

"ما ذلَّتْ لغةُ شعب إلا ذلَّ، ولا انحطَّت إلا كان أمره في ذَهاب وإدبار"؛ مصطفى صادق الرافعي.

ملخص البحث:
جاء هذه البحث ليضع بين يدي القارئ الكريم مجموعة نقاط أساسيَّة، تدور حول اهتمام السلف الصالح باللغة العربية، وجاء هذا البحث في مقدمة، وأربعة مطالب وخاتمة، في المقدمة بيَّن الباحث خُطَّة البحث، وفي المطلب الأول: حِرْص السلف الصالح على اللسان العربي الفصيح، وتحدَّث الباحث فيه عن الآثار الواردة عن سلفنا الصالح في حبِّهم للغة العربية، واهتمامهم بها، وحثهم على تعلُّمها.

والمطلب الثاني:
نظرة إلى أسباب نشأة النحو العربي ومفهومه، وفيه تكلَّم الباحث عن المفهوم الرشيد للنحو، وأسبابه ونشأته، وعن قضيَّة تأثُّره بالعلوم اليونانيَّة أو غيرها، وخلص إلى أن النحو علم عربي خالص النشأة، ولكنه تأثَّر بالمنطق اليوناني تأثُّر تطوُّر، والمطلب الثالث: نظرة إلى الترجمة، ومدى جدواها في حياة المسلم، وذكَر البحث بعض المسلَّمات، منها: أن الترجمة من لغة إلى لغة - مهما تكن دقتها - لا تحمل كل ما في اللغة الأم من معانٍ، خاصة إذا كانت اللغة الأم أقل ثراء من اللغة المُترجَمة، ثم ساق البحث قضية من القضايا الفقهيَّة للتدليل على أنه لا بديل للمسلم - أي مسلم - عن تعلُّم اللغة العربيَّة؛ لأنها لغة دين، وأما المطلب الأخير، فقد مال إلى الشِّق التربوي، ليبين جهد سلفنا الصالح في قضية تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، (ابن خلدون نموذجًا) وتبيَّن من العَرْض أنه تَعامَل مع اللغة من ناحية سلوكيَّة، تعتمد على حفظ النصوص، وتحليلها وفَهْمها، وهذا يُسمَّى عنده "صفة" والمداومة على ذلك تنقُل المتعلِّم من الصفة إلى "الحال"، ثم إلى "الملكة"، وكان المطلب الرابع بعنوان تربية الملكة اللسانية عند ابن خلدون، ثم جاءت خاتمة البحث، وفيها ذِكْر لنتائج البحث، ومنها الترجمات لا تفي بحاجات الأمم، خاصة أمة الإسلام، وهي سبب من أسباب تمزُّقها وضعْفها وإصلاح اللغة العربيَّة لن يكون من منطلق فردي، وإن كانت المُنطلَقات الفرديَّة مهمة، ولم يكن السلوكيون أسبق إلى نظريَّتهم من علمائنا، فنظرية المَلَكة اللسانيَّة عند ابن خلدون، تُعبِّر عن الفكرة نفسها.

المقدمة
الحمد لله رب العالمين، منزل الكتاب بلسان عربي مبين، وأصلي وأسلِّم على خير خلقه أجمعين، معلم البشريَّة الخير، ومُخرِج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط الله العزيز الحميد.

وبعد، فإن اللغة هي الشاهد على النصر، وهي هويَّة أبنائها؛ لأنها وعاء الثقافة، ومعيار القوة والضَّعف لأي مجتمع من المجتمعات، فإن كان المجتمع قويًّا كان للغته القوة، وإن كان ضعيفًا كان للغته الضعف، والدلائل على ذلك كثيرة.

ونحن المسلمين يجب علينا أن ننظر إلى الوراء قليلاً لنتعرَّف على اعتناء السلف الصالح باللغة العربية، وحرصهم عليها، لنجسَّد واقعنا، وننطلق منطلقًا صحيحًا في تصحيح مسار هذه اللغة.

ويأتي هذا البحث في مقدمة وأربعة مطالب، وخاتمة:
المطلب الأول: حرص السلف الصالح على اللسان العربي الفصيح.
المطلب الثاني: نظرة إلى أسباب نشأة النحو العربي، ومفهومه.
المطلب الثالث: نظرة إلى الترجمة، ومدى جدواها في حياة المسلم.
المطلب الرابع: تربية المَلَكة اللسانية عند ابن خلدون.

المطلب الأول: حرص السلف الصالح على اللسان العربي الفصيح:
اللغة العربية من ثوابت الأمة الإسلاميَّة، لا يمكن أن تتخلَّى عنها، بل إن تعلُّمها واجب على المسلم؛ لأنها أداة الدين، ولا يَصِل إنسان إلى فَهْم هذا الدين فهمًا صحيحًا إلا عن طريق هذه اللغة الغراء، ومن القواعد الفقهية "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، وفَهْم الدين لا يكون إلا باللغة العربية؛ لذا فتعلُّمها واجب على كل مسلم، وقد حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك أشد الحرص، حتى إنه سمع رجلاً يَلحَن فقال: ((أرشدوا أخاكم))؛ (كنز العمال، 1989م، رقم الحديث 2809) وفي رواية ((فقد ضل)).

وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يأمر أصحابه أن يتعلَّموا العربية، كما كان يأمرهم أن يتعلَّموا الفرائض، فكان يقول: "تعلَّموا العربية؛ فإنها من دينكم، تعلَّموا الفرائض؛ فإنها من دينكم"، فقدَّم - رضي الله عنه - تعلُّم العربية على تعلُّم الفرائض، لما يعلمه لها من فضل في معرفة الدين والفقه.

كما روي عنه أنه مرَّ على قوم يرمون نبلاً فعاب عليهم، فقال أحدهم: يا أمير المؤمنين، "إنا قوم متعلمين" - والصحيح، مُتعلِّمون فقال: لحْنكم أشد عليَّ من سوء رميكم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((رحِم الله امرأ أصلح من لسانه))؛ (اتفاق المباني، 1985م، ص137).

ومما روي عنه أيضًا، وقد كان حريصًا على ضبْط اللسان العربي؛ لأنه الوعاء الذي نزل به القرآن، والسبيل الأول إلى فَهْمه فهمًا صحيحًا، واستنباط أحكامه استنباطًا سديدًا - أن الحصين بن أبي الحر، وقيل: أبو موسى الأشعري - أرسل إليه كتابًا، فلحن في حرف فيه، فكتب إليه عمر - رضي الله عنه -: أن قنِّع كاتبك سوطًا؛ (البيان والتبيين، 1968م، ص321)، وفي بعض الروايات أمر بعزله.

وكان الحسن بن أبي الحسن - من التابعين - إذا عثَر لسانه بشيء من اللحن، قال: أستغفر الله، فسئل في ذلك، فقال: مَن أخطأ فيها - أي في العربية - فقد كذب على العرب، ومن كذب فقد عمل سوءًا، والله - عز وجل - يقول: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110].

وكان الفراء يُفضل النحو على الفقه، وروي عنه أنه زار محمد بن الحسن، فتذاكرا في الفقه والنحو، ففضَّل الفراء النحو على الفقه، وفضَّل محمد بن الحسن الفقه على النحو، فبدأ الفراء يُدلِّل على صحة قوله، فقال: قَلَّ رجل أنعم النظر في العربية، وأراد علمًا غيره إلا سَهُل عليه.

فأراد محمد بن الحسن أن يُبطِل حجَّتَه، فقال له: يا أبا زكريا، قد أنعمت النظر في العربية، وأسألك عن باب من الفقه، فقال الفراء: هات على بركة الله، فقال ابن الحسن: ما تقول في رجل صلى فسها في صلاته، وسجد سجدتي السهو، فسها فيهما؟ فتفكَّر الفراء ساعة، ثم قال: لا شيء عليه، فقال له محمد: ولمَ؟ قال: لأن التصغير عندنا ليس له تصغير، وإنما سجدتا السهو تمام الصلاة، وليس للتمام تمام، فقال محمد بن الحسن: ما ظننتُ أن آدميًّا يَلِد مثلك؛ (معجم الأدباء، 1993م، 1: 17).

وكان الإمام الشافعي يتكلَّم عن البدع، فسئل عن كثرتها في زمانه، فقال "لبُعدْ الناس عن العربية"، وقد عدَّ الإمام ابن تيميَّة تعلُّم اللغة العربية من الفروض الواجبة، فقال: "إن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فَهْم الكتاب والسنة فرض، ولا يُفهَم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"؛ (اقتضاء الصراط، 1419هـ - 1999م 1: 424)، وأما الإمام ابن حزم، فقد ألزم من أراد أن يتعلَّم الفقه تعلُّم النحو واللغة، فقال "لزم لمن طلب الفقه أن يتعلَّم النحو واللغة، وإلا فهو ناقص مُنحط لا تجوز له الفُتيا في دين الله - عز وجل"؛ (الإحكام، مطبعة العاصمة بالقاهرة،1: 208).

وفي هذا العصر أضحى كثير من الناس يتعلَّمون الفقه، ويتركون اللغة والنحو، ولهذا السبب كثرت زلاتهم؛ لأنهم تركوا أداة فَهْم الدين.

ولما كان عصر الدولة الأموية، وبدأ اللحن يظهر وينتشر، إلى أن وصل الأمر أن يُعَد مَن لا يلحن، فقالوا: أربعة لم يلحنوا في جِد ولا هزل: الشعبي، وعبدالملك بن مروان، والحجاج بن يوسف، وابن القرية، والحجاج أفصحهم، يأتي الخليفة المثقَّف عبدالملك بن مروان ويقول: "اللحن في الكلام أقبح من التفتيق في الثوب، والجُدَري في الوجه"؛ (العقد الفريد، 1404 هـ = 1983م، 308: 2).

ولما قيل له: "لقد عجل إليك الشيب يا أمير المؤمنين، قال: شيَّبني ارتقاء المنابر، وتوقُّع اللحن"؛ (العقد الفريد،2: 308).
فالنحو يبسُط من لسان الألكن
والمرء تُكرِمه إذا لم يلحنِ
فإذا طلبتَ من العلوم أجلَّها
فأجلُّها منها مقيمُ الألسن

بل إن أبا عمرو بن العلاء كان يقول: "لَعِلمُ العربية هو الدين بعينه، فبلغ ذلك عبدالله بن المبارك، فقال: صدق؛ لأني رأيت النصارى قد عبدوا المسيح لجِهْلهم بذلك، قال الله - تعالى - في الإنجيل: ((أنا ولَّدتك من مريم، وأنت نَبِيي))، فحسبوه يقول: أنا ولَدتك، وأنت بُنَيي، بتخفيف اللام، وتقديم الباء، وتعويض الضمة بالفتحة، فكفَروا"؛ (معجم الأدباء، 1: 10).

ولم نكن - نحن أبناء الإسلام - بمعزِل عن هذا التحريف والزيغ، لولا أن الله - عز وجل - تكفَّل بحفظ دينه وكتابه الكريم، وهيَّأ لأبناء هذه الأمة من العلماء مَن يحفظون لهم دينهم، ويُدوِّنون لهم عِلمَهم، فهذا الأعرابي يسمع القارئ يقرأ قوله تعالى في سورة التوبة: ﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 3][2] ، بكسر اللام، فقال أوَبرِئ الله من رسوله؟ فبلغ ذلك عمرَ بن الخطاب - رضي الله عنه - فأمر ألا يقرئ القرآن إلا مَن يُحسِن العربيَّة"؛ (صبح الأعشى، 1987م،1: 206).

فالقارئ إذا قرأ: "أن الله بريء من المشركين ورسولُه"؛ بالرفع في رسوله، "فقد سلك طريقًا من الصواب واضحًا، وركب منهجًا من الفضل لائحًا، فإن كسر اللام من "رسولِه" متعمِّدًا كان كفرًا بحتًا"؛ (معجم الأدباء، 1: 10).

وكانت هذه هي البداية التي جاءت في إثرها علوم العربية، وخاصة النحو الذي تكاد تُجمِع الروايات على أنه نشأ تلبية لحاجات المجتمع الإسلامي، والذي بات اللحن فيه ظاهرة تُخشى - أو قل إن شئتَ -: باتت تُهدِّد اللسان العربي، وهذا هو موضوع المطلب الثاني.

المطلب الثاني: نظرة إلى أسباب نشأة النحو العربي ومفهومه:
إن ظاهرة تفشي اللحن في البلاد الإسلاميَّة، والتي كانت نتيجة طبيعيَّة لانتشار الإسلام بين الأعاجم، كانت السبب الرئيس في نشأة النحو، ونشأ النحو بمفهوم أرشد مما هو عليه الآن، فالنحو عند نشأته كان يُقصَد به "ترتيب العرب لكلامهم الذي به نزل القرآن، وبه تُفهَم معاني الكلام التي يُعبَّر عنها باختلاف الحركات، وبناء الألفاظ"؛ (الإحكام، 2: 693)، وحذَّر أبو حامد الغزالي بقوله: "يفهَم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال إلى حد يميِّز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله وحقيقته ومجازه وعامِّه وخاصه ومُحكَمه ومتشابهه ومُطلَقه ومقيَّده ونصه وفحواه ولحنه ومفهومه"؛ (المستصفى، 12: 4).

فكان مقصود النحو أوسع مما هو عليه الآن، وكان يُسمى علم العربية، وليس مقصورًا على العلامة الإعرابيَّة التي تكون على أواخر الكلمات فحسب، بل إن نظرتنا إلى النحو على أنه العلم بضبط أواخر الكلمات تُعَد شلاًّ للنحو، وذَهابًا بقيمته العلميَّة، ونحن نحتاج إلى أن نعود ببحثنا النحوي وتعليمه من الطلاب في الجامعات إلى حقيقته التي بدأها سيبويه، وقد اختلف المؤرخون في واضع النحو الأول، لكنهم اتفقوا - أو كادوا أن يتَّفِقوا - في سبب الوضع، وهو تفشِّي اللحن، وقد وقف العلماء من نشأة النحو مواقف مُتباينة، فمنهم من جعلها نشأة عربيَّة خالصة، وأن النحو قد نبت عند العرب كما تنبُت الشجرة في أرضها، وأنه أنقى العلوم العربيَّة عروبة، ومنهم من جعل النحو نقلاً عن اليونان وغيرهم من الهنود والسريان، ولا ناقة فيه للعرب ولا جمل"؛ (النحو العربي، 1979 م).

وفكرة تأثُّر النحو العربي بالمنطق اليوناني وغيره، سواء الطبيعي منه أو الصوري أخذت مساحة كبيرة من الدراسات العربية، وكُتبت فيها البحوث والرسائل العلمية، وقد يكون مؤيدوها أكثر من معارضيها، رغم أن أول كتاب في النحو لسيبويه، المتوفى على أرجح الأقوال 180هـ، والذي يُعَد كتابه دستور النحو العربي، أو قرآن النحو العربي، بينما لم تُترجَم كتب المنطق اليوناني ترجمة مُنظَّمة إلا في عهد المأمون، الذي حكم من عام 198 إلى 218 من الهجرة النبوية؛ أي بعد ثمانية عشر عامًا من موت المؤلف الأول للنحو، وإن وجدت تَراجم قبل هذا العهد، لكنها كانت لكتب الطب والكيمياء، وكانت هذه الترجمة بأمر من خالد بن يزيد، ولم تُنظِّمها الدولة، مما جعلها محدودة.

وما نَميل إليه أن نشأة النحو هي نشأة خالصة العروبة، ولكن الدراسات النحْويَّة تأثَّرت بالمنطق والفلسفة والعلوم اليونانيَّة بعدما نُقِلت إلى العربية في عهد المأمون، فالتأثر تأثُّر تطور وليس تأثر نشأة.

ولو نظرنا إلى كتاب سيبويه لوجدناه بعيدًا كلَّ البعد عن المنطق اليوناني، وأنه كان يَصِف الظواهر اللغويَّة ليَصِل منها إلى القواعد الكليَّة، فانظر - مثلاً - إلى تعريف الجملة عند سيبويه، سوف تجده تعريفًا وصفيًّا، وليس تعريفًا معياريًّا محدَّدًا كما هو الحال في المنطق، فسيبويه يعرفها على أنها: المسند والمسند إليه، ثم يَصِف المُسنَد والمسند إليه فيقول: "وهما ما لا يغني واحد منهما عن الآخر، ولا يجد المتكلم منه بدًّا، فمن ذلك الاسم المبتدأ والمبني عليه، نحو قولك: عبد الله أخوك، وهذا أخوك، ومثل ذلك: يذهب عبد الله، فلا بد للفعل من الاسم كما لم يكن للاسم الأول بُد من الآخر في الابتداء"؛ (الكتاب 1408هـ 1988م،1: 23)، فسيبويه هنا وصف ولم يُعرِّف، وهو أبعد ما يكون عن تعريفات علم المنطق، ثم جاء المبرد (ت: 285)، وأضاف أنها الفعل مع الفاعل، وعلَّل ذلك بقوله: "لأنها جملة يَحسُن السكوت عليها، وتجب بها الفائدة للمخاطب"؛ (المقتضب،1: 146)، فالمبرد هنا يَنصُّ على أن شرط الجملة عنده أن تفيد فائدة يَحسُن السكوت عليها، ويُعَد أوَّل من استخدم مصطلح الجملة المفيدة هو ابن السراج (ت: 316هـ)، وهي عنده تتكوَّن "فعل وفاعل، أو مبتدأ وخبر"؛ (الأصول، 1: 64)، ويُعَد المصطلح حتى هذا العصر مجرَّد وصف يَصدُر من العلماء.

إلا أنه بنشاط حركة الترجمة تمت المزاوَجة بين العلوم، فكل علمٍ أخذ من الآخر ما يُناسبه ويبلِّغه الكمال، ومع بداية القرن الرابع الهجري بدا تأثُّر النحاة بالمنطق اليوناني واضحًا في مصطلحاتهم وبعض تفريعاتهم، حتى قال أبو حيان: "لولا أن الكمال غير مستطاع، لكان يجب أن يكون المنطقي نحْويًا، والنحوي منطقيًّا"؛ (المقتبسات، ص 123).

فلو سلَّمنا بهذا التأثر لقلنا: إنه تأثر في الاصطلاحات، "وفيما عدا ذلك - كما يقول كارل بروكلمان - لا يمكن إثبات وجوهٍ أخرى من التأثر الأجنبي، لا من القواعد اللاتينية، ولا من القواعد الهندية"؛ ( تاريخ الأدب، 2: 124).

وهنا يكون الصَّرح النحوي قد استوى على سوقه، يُعجِب اللغويين، ويغيظ المناطقة وأصحاب النظريات الجدلية، وهنا نُدرِك أيضًا العناء الذي واجهه النحاةُ في بناء هذا الصرح الممرَّد بلآلئ العلم، ولكن يعن لنا - هنا - بعض الأسئلة، وهي: هل يجوز لنا أن نُفرِّط في هذا البناء الشامخ، ونستخدم لغات أو لهجات بعيدة كل البُعد عن رُوح اللغة العربية الفصحى؟ أو هل يَصِح لنا أن نتخلَّى عن هذا التراث العظيم، لندرس الفقه والتفسير والحديث، بلغة غير اللغة العربية؟ أو بصيغة أخرى: هل تكفي ترجمة اللغة العربية إلى اللغات الأخرى لنفهم بها هذا التراث العظيم؟ وللإجابة عن هذا السؤال ننتقل إلى المطلب الثالث.

المطلب الثالث: نظرة إلى الترجمة، ومدى جدواها في حياة المسلم:
وننطلق في هذا المطلب من بعض المُسلَّمات:
المسلمة الأولى: أن اللغة العربيَّة هي أكثر لغات العالم ألفاظًا، وأوسعها معاني.

المسلَّمة الثانية: أن الترجمة من لغة إلى لغة - مهما تكن دقتها - لا تحمل كل ما في اللغة الأم من معانٍ، خاصة إذا كانت اللغة الأم أقل ثراء من اللغة المترجمة.

المسلمة الثالثة: أن المسلِم يتعبَّد الله باللغة العربية، ولن تَسلَم له العبادة إلا بتعلم العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فقيامه واجب.

المسلمة الرابعة: لو سلَّمنا بجواز ترجمة القرآن بالمعنى، فكلٌّ يُترجِم حسب فَهْمه، ومن ثم تختلف الترجمات، فأي الترجمات تُمثِّل القرآن!

المسلمة الخامسة: لا تجوز خطبة الجمعة بغير العربيَّة إلا لضرورة، ويجب على المسلم - كل مسلم - أن يسعى في إزالة الضرورات؛ لأن الضرورات حالات استثنائية، لا ينبغي لها أن تدوم.

وكان المسلمون الأوائل إذا دخلوا بلدًا عرَّفوا أهله أحكام الدين وعباداته، ثم علَّموهم لغته - اللغة العربية - إلى أن غلب العجم على العرب، وسلبوهم المُلْك، فوقفت الدعوة، وضعف العلم بالعربية، حتى جاء الترك، فمنعت حكومتهم اللغة العربية، لقطع صِلة رعاياها بالدين، وإبعاد الناس عن تراثهم وثقافتهم؛ ( تفسير المنار، 1367 هـ، 9: 210).

وهنا سأكتفي بتوضيح مسلك من مسالك المسلِم في حياته مع ربه - عز وجل - لنتعرَّف على مدى جدوى هذه الترجمات في حياة المسلم، وهذا المسلك يتكرَّر في حياة المسلم مرة واحدة كل أسبوع، ألا وهو: "خطبة الجمعة"، فهل تجوز بلغة غير العربية أم لا؟

الحنفية قالوا: "تجوز الخطبة بغير العربية، ولو لقادر عليها سواء كان القوم عربًا أو غيرهم"؛ (الفقه على المذاهب الأربعة، 1424 هـ 2003 م، 1: 355)، ودليلهم يعتمد على الرأي، وهو أن المقصود الموعِظة، وهي مشتركة بين اللغات.

إلا أن الإمام محمد رشيد رضا - صاحب المنار في تفسير القرآن - ذكَر أن هذا قول شاذٌّ، وأن الإمام أبا حنيفة - رضي الله عنه - رجع عنه، ولم يُجِزه إلا في الضرورة الشخصية؛ ( تفسير المنار، 9: 213).

فالحنفية إذًا لا يجيزون الخطبة بغير العربية مطلقًا، وإنما يُجيزونها لضرورة فقط.

وأما المالكية، فيشترطون في الخطبة أن تكون باللغة العربية؛ لأن وقوعها بغير العربية لغو، ولو كان القوم عجمًا لا يعرفون العربية، والخطيب يعرفها ويعيها وجبت عليهم، ولا يكفي أن يُلقيها من غير فَهْم، فإن لم يوجد فيهم من يُحسِن العربية بحيث يؤدي الخطبة بها سقطت عنهم الجمعة؛ (الموسوعة الفقهية، 19: 180 و35: 283)، (الفقه على المذاهب الأربعة،1: 355)، وكان الإمام مالك يقول: "مَن تكلَّم في مسجدنا بغير العربية أخرجناه منه"، فكيف بمن خطب؟!

فالجمعة تَسقُط عند المالكية عمن عجز عن العربية، وكفى بهذا الحكم عقابًا لمن ترك اللسان العربي.

أما الحنابلة فقالوا: "لا تَصِح الخطبة بغير العربية، إن كان الخطيب قادرًا عليها، فإن عجز عن الإتيان بها أتى بغيرها مما يُحسِنه، سواء كان القوم عربًا أو غيرهم، ولكن الآية التي هي ركن من أركان الخطبتين لا يجوز له أن يَنطق بها بغير العربية، فيأتي بدلها بأي ذكْر شاء بالعربية، فإن عجز سكت بقدر قراءة الآية"؛ (الفقه على المذاهب الأربعة،1: 355).

فالحنابلة يُجيزون الخطبة بغير العربية للضرورة، ومِثل جواز الخطبة بغير العربية - في هذا المذهب - كمثل جواز أكل الميتة، ويجب على المضطر أن يسعى لإنهاء حالة اضطراره.

وأما الشافعية، فقد أخَّرتُ مذهبهم؛ لأنه مذهب البلاد، وهم قد ذهبوا في "الأصح من مذهبهم إلى أنه يشترط أن تكون بالعربية، فإن لم يكن ثَم مَن يُحسِن العربية، ولم يمكن تعلَّمها، خطب بغيرها، فإن انقضت مدة إمكان التعلم - ولم يتعلموا - عصوا كلهم ولا جمعة لهم، بل يصلون الظهر"؛ (الموسوعة الفقهية، 11: 171 و19: 180).

فالمذهب الشافعي يُمهِل القوم مدة تكفي لتعلُّمهم العربية، ويجيز لهم الخطبة بغير العربية في هذه المدة، فإن قصروا ولم يتعلَّموها أَثِموا جميعًا، ولا جمعة لهم بعد ذلك حتى يتعلَّموا العربية، ويؤدونها ظهرًا.

إلا ما كان من الإمام النووي - غفر الله له - حيث ذهب إلى أن الخطبة بغير العربيَّة مكروهة كراهة تنزيه؛ لأن المقصود الوعظ، وهو حاصل بكل اللغات؛ (المجموع، النووي، 522: 4، والموسوعة الفقهية، 11: 172).

وكأن هذا المذهب - غير الإمام النووي - جمع بين مذهبي المالكية والحنابلة، فأجازها في حالة العجز لأجل مسمى، ثم منعها بعد هذا الأجل، وحرمهم منها.

إذًا فمعظم الأئمة على منع الخطبة بغير العربية، إلا للضرورة التي يجب أن تزول، والخطبة فرض، فكيف يؤدي المسلم هذا الفرض بغير العربية؟!

ناهيك عن أن المسلم الذي يعبد الله بلغة غير اللغة العربية مقطوع عن ثقافته وتُراثه انقطاعًا يُداني التمام، ومن المحال أن تحوي أية ترجمة في العالم هذه الثقافة الإسلامية بأمانة ودقة كما هي، بل إن غالبية البلاد الإسلامية غير العربية - إن لم تكن كلها - تكتفي بترجمة الكتب التي لها صِلة مباشرة بممارسة النُّسك، من صلاة وصيام وحج، أما أنها تترجم التراث بكل ما يَحمِله من سمات العبقرية الإسلامية فلا، هكذا يكون المسلم محرومًا من تراثه وثقافته، مقطوعًا عن عالمه وإخوانه، وقد صرَّح الإمام الشافعي في رسالته "أن إقامة هذا الدين في عباداته وتشريعه وحكومته تتوقَّف على معرفة اللغة العربية، وأن هذه اللغة قد جعلها شرع الإسلام لغة المسلمين كافة وأوجب عليهم تعلُّمَها".

فهذا هو موقف السلف من اللغة العربية؛ ولذا لم يتركوا تعليم العربية للأقدار تديره، أو للأهواء تَعبَث به، وإنما خطوا له خطوطًا، ورسموا له مِنهاجًا لا يقل جدة وصحة عن المناهج "التربولغوية" الحديثة، وقد يكون أبرز مَن اشتغل برأس هذا المِنهاج ابن خلدون، فقد وضح معالم هذا المنهاج، واقترح طرقًا، ونبَذ أخرى، وعمل ابن خلدون كتبت فيه بعض الدراسات، وما زال في حاجة إلى دراسات أخرى، وفي المطلب التالي نعطي نبذة عن بناء المَلَكة اللسانية عنده.

المطلب الرابع: تربية المَلَكة اللسانية عند ابن خلدون:
يرى ابن خلدون أن المَلَكة اللسانية في اللغة غير صناعة اللغة، ويُقصَد بصناعة العربية النحو والصرف، أي القواعد؛ لأن المعرفة عن الشيء ليست هي معرفة الشيء نفسه، "فمعرفة قوانين هذه قوانين الملكة ومقاييسها، هي عِلم بكيفية، لا نفس كيفية، فليست نفس المَلَكة، إنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصناعات علمًا نظريًّا، ولا يُحكِمها عملاً تطبيقيًّا"؛ (المقدمة، 2005م، 5: 306).

وهذا ما يأخذ به العلم الحديث، فطرائق التدريس الحديثة تُهمِّش - إن جاز لي استخدام هذا المصطلح - دراسة القواعد، وتجعلها عابرة في ثنايا الدرس اللغوي وتحليله، ويذهب ابن خلدون إلى أن الطريقة المُثلى في تعليم اللغة هي حفظ كلام العرب، وفَهْمه واستيعابه، ثم التفقه فيه، وسوف تكون النتيجة هي إنتاج الكلام العربي.





وابن خلدون لم يبيِّن لنا ما يحدث داخل المخ الإنساني لكي يصنع لنا من المدخلات اللغوية منتجًا لغويًّا جديدًا، وفي الحقيقة هي عملية مُعقَّدة، ومُعجِزة، وكل ما يكتب حولها فإنه على سبيل الحدس المؤيد بتجرِبة من التجارب التي قد تَصدُق وقد تَكذِب، ولو نظرنا إلى طالب اللغة العربية أو أية لغة من الأعاجم للاحظنا طفوليته في اللغة؛ إذ يسأل عن أشياء تبدو لصاحب اللغة أنها طفولية، وهي كذلك"؛ لأنها نتجت من طفل لغوي.

وعلماء التشريح يرون أن اللغة عند الطفل تبدأ بالصرخة الأولى، فهي تعبير منه عن الوحشة التي انتابته بفِقدانه مصدر حياته وأمانه، ثم لا تلبث هذه الصرخة أن تكون هي أداة تعبيره عما يُحِسه أو يتغيَّاه، ثم تنمو عنده مَلَكة الإشارة، فتكون لغته، وفي هذه المرحلة يُحاول الطفل التوفيق بين إشاراته والمصطلحات الخارجيَّة، ثم يحدث العكس، ومما أثبتته التجارب أن إدراك الطفل لما تنطوي عليه الإشارة باليد أو النظر أو الإشارة العامة المتعلِّقة بالذوق العام أسرع من إدراكه لما تنطوي عليه الإشارة المتعلِّقة بالسمع.

ثم تأتي مرحلة المحاكاة، فيُقلِّد بعضًا مما يسمعه، وتبدأ هذه المرحلة بأصوات لا تُفهَم، إلا أنها تحمل معاني قد يلتفت إليها ذووه، وقد لا يَلتفتون، وكل هذا ليس إلا محاولات فطرية فطره الله عليه، لتكوين الجهاز الصوتي لديه، ثم تتحوَّل هذه الأصوات غير المفهومة إلى أصوات مفهومة، لكنه لا يعيها أو على الأقل لا يعي أكثرها، ثم تأتي بعد ذلك مرحلةُ الوعي والملاحظة، وفيها يبدأ الطفل في الربط بين الأشياء الماديَّة ومسمياتها، فهو يُدرِك الأسماء قبل الصفات والأفعال.

ولوحِظ أن الطفلَ يستخدم صيغةَ الزمن الحاضر، دون الماضي أو المستقبل؛ إذ لا صِلة له بهما، وهو ما يلاحِظه الباحث مع طلابه - أيضًا - فلو قلت لطلاب: كتبت الدرس؟ يرد عليك قائلاً: نعم، أنا تكتب، وهو يريد: نعم، كتبت.

وعندما يتجاوز الطفل الحاضر يتجاوزه إلى الماضي؛ "إذ إنه عايَنه وشاهَده، أما المستقبل، فلا علاقة له به، ولا وعي لديه عنه، وعندما يبدأ الطفل التعلم، فإنه يتعلَّم الكتابة ثم القراءة؛ إذ الكتابة وليدة الحِس، والقراءة وليدة الإدراك"؛ (اللغة والنحو، 1952م، 29 - 33).

وهذه الظواهر في مجملها تَنطبِق على طلاب العربية من الأعاجم، مع اختلافات طفيفة في وصف الظاهرة، وإن كان يُمثَّل لها بصور أخرى حسب الفئة العمرية؛ إذ عقل الطالب أكبر من عقل الطفل، وإن كان تفكيره في اللغة تفكيرًا طفوليًّا.

فابن خلدون يذهب إلى أن السبيل إلى تعلُّم العربية يتمثَّل في تقديم الموضوعات اللغوية الصافية وحِفْظها، وهذا عنده يُسمَّى صفة، وبالتكرار تكون حالاً، فمَلَكة لسانية.

ولكنه يشترط شرطًا لكي تتم العملية التعليمية على وجهها الأمثل، هذا الشرط هو تحليل المادة اللغوية وفهمها، بحيث لا يتوقف الأمر عند الحفظ والترديد فحسب، وهذا الذي تفوق به علماء الأندلس - كما أشار ابن خلدون - على غيرهم، فكانت لهم المدرسة اللغوية النحوية المشهورة، يقول ابن خلدون: "وأهل صناعة العربيَّة بالأندلس - يَقصد النحاة - ومُعلِّموها أقرب إلى تحصيل هذه المَلَكة وتعليمها ممن سواهم"؛ (المقدمة، 2005 م، 5: 317)، ثم يُفصِّل في ذِكْر السبب، فيقول "لقيامهم فيها على شواهد الرب وأمثالهم، والتفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم، فيسبق إلى المبتدئ كثير من المَلَكة أثناء التعليم، وهذا السلوك يجمع بين مرحلتي المحاكاة والملاحظة عند الطفل - فتنطبِع النفس بها؛ أي: باللغة - وتستعِد إلى تحصيلها وقبولها، وأما سواهم من أهل المغرب وإفريقية وغيرهم، فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثًا، وقطعوا النظر عن التفقه في تراكيب كلام العرب، إلا أن أعربوا شاهدًا أو رجَّحوا مذهبًا، من جهة الاقتضاء الذهني، لا من جهة محامل اللسان وتراكيبه، فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل، وبعدت عن مناحي اللسان ومَلَكته"؛ (المقدمة، 2005م، 5: 317 - 318).

وبهذا فإن ابن خلدون (ت 727 هـ) بنظريته في اكتساب المََلَكة اللسانية يُعَد - كما قال د. علي مدكور في إحدى محاضراته -: رائد النظرية اللغوية السلوكية، والريادة التي أقصدها ريادة نشأة وليست ريادة تمام وكمال واستواء، ولم تكن بداية هذه النظرية بداية حديثة مع اسكنر والسلوكيين المحدَثين في القرن العشرين كما هو مشهور.

ولو دقَّقنا النظرَ في كلام ابن خلدون لوجدنا أن المشكلة التعليمية في المغرب وإفريقية التي - أشار إليها ابن خلدون - هي المشكلة نفسها في ماليزيا، فالمعاهد الدينية، وهي أكثر حرصًا على اللغة العربيَّة من غيرها، تدرس مقررات المعاهد الأزهرية المصرية، من نحو وصرْف وحديث وفقه وعقيدة وتاريخ إسلامي بعد الاختصار المُخِل، والذي ينظر إلى الكم لا الكيف، وفي المقابل لا يعرف طلاب هذا المعاهد من اللغة إلا النزر القليل المشوَّه، بل الزهيد الممسوخ، وتجد في هذه الكتب موضوعات طوالاً، قد يعجز الطالب العربي نفسه عن فَهْمها - وهذا المأخذ يؤخذ على المعاهد الأزهرية المصرية نفسها، فهي تُقدِّم مناهج لا تتناسب ومستوى الطلاب - ولكنها تُقدم لهؤلاء الطلاب المساكين، وليس عليهم إلا أن يحفظوا ليحصلوا على الامتياز، ثم يخرجوا من مادة اللغة العربية صفر اليدين، بل ومن المواد الشرعية أيضًا.

والطلاب في هذه المعاهد يتعاملون مع مادة اللغة العربية على أنها مادة الحفظ والامتياز، وأما ركن الفَهْم فهو منسوخ، لا يجوز العمل به.

ولو رجعنا إلى طريقة علماء الأندلس في تناول النحو والصرف مع غير الناطقين بالعربية لحُلَّت المشكلة، أو لوقفنا - على الأقل - على جزء كبير من الحل.

ولكي نستطيع تطبيق كلام ابن خلدون، فإننا بحاجة إلى عدة أمور يجب أن تتوفَّر للطالب كي يُحقِّق نجاحًا في إنتاج اللغة، ومن هذه الأمور:
♦ الحاجة إلى منهج علمي قائم على أسس تربوية، يقوم عليه خبراء في اللغة وخبراء في إعداد المناهج التربوية.

♦ إتاحة البيئة العربيَّة للطلاب الناطقين بغير العربية، ولو مُصطنعة، وإجبار الطلاب على التحدث بها، فقد أثبت الواقع أن البلاد التي تهيئ البيئة العربية لطلابها أكثر نجاحًا من غيرها.

♦ اختيار المدرس الذي يقوم على تدريس هذه اللغة اختيارًا صحيحًا، فإن المدرس المُلِم بآداب هذه اللغة وطُرق تدريسها أقدر على اختيار الطريقة التعليمية، كما أنه أقدر على إيصال المعلومة للطالب دون أن يتسبَّب في عناء أو مشقة لهذا الطالب.

♦ الجزء الأكبر من تحديات تعليم اللغة العربية في ماليزيا يقع على الإدارات، وبعض هذه التحديات يقع على الطالب.

♦ غرْس أهداف تعليم اللغة العربية في نفوس الطلاب، وتقوية الدافع لديهم، كما يجب علينا أن نزيل وهمَ صعوبة العربية من عقول طلابنا، فهي وإن كانت صعبة، إلا أنها ليست مستحيلة، وإنما تَكمُن صعوبتها في دقتها ومتانتها ورصفها، وكل ذلك يزينها.

الخاتمة
خلص البحث إلى بعض النتائج التي يراها بداية لبناء مجتمع مسلم متكامل، حريص على لغة دينه، يؤدي واجبه نحوها، وهذه النتائج قد ذُكِر بعضها خلال الدراسة، وبعضها نذكره فيما يأتي:
♦ كان السلف - رضوان الله عليهم - حريصين كل الحرص على تقويم أي اعوجاج يطرأ على الألسنة، خوفًا على اللسان العربي، وإيمانًا منهم بوجوب التفقه فيه.

♦ اللغة العربية لغة الدين، ولا يُفهَم الدين إلا بها، لذا أوجب الحق - سبحانه وتعالى - تعلُّمها.

♦ الترجمات لا تفي بحاجات الأمم، خاصة أمة الإسلام، وهي سبب من أسباب تمزُّقها وضعْفها.

♦ إصلاح اللغة العربية لن يكون من منطلق فردي، وإن كانت المنطلقات الفردية مهمة.

♦ ما أصبح المسلمون كلأ مباحًا لكل مستعمر إلا لتخلِّيهم عن وَحدتهم، وكان تفرُّقهم نتيجة طبيعية لتركهم اللسان الجامع، لسان الدين، فصدق فيهم قول نبيهم - صلى الله عليه وسلم -: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأَكَلة إلى قصعتها))، ونحن الآن أحوج ما نكون إلى وَحدة تجمعنا، ورابطة تؤوينا، وظلٍّ نَستظِل به، ولن يكون هذا إلا إذا توحَّدت ثقافتنا، وتوحُّد ثقافتنا لن يكون إلا إذا توحَّدت لغتنا، فتوحُّد اللغة هو أولى خطوات إقامة الوَحدة الإسلامية.

♦ لم يكن السلوكيون أسبق إلى نظريتهم من علمائنا، فنظرية المَلَكة اللسانية عند ابن خلدون أسبق منهم، وهي نظرية تُعبِّر عن الفكرة نفسها.

♦ اللغة العربية لغة يتعبَّد المسلم الله بتعلُّمها وتعليمها؛ لأنها أداة الدين، وعليها مدار العبادات.

وبعد، فإن الحديث عن اللغة العربية يطول ولا يُمَل، ولكن هذا البحث أراد أن يوقِف القارئ الكريم على حِرص السلف الصالح - رضوان الله عليهم جميعًا - على لغتهم، وحبهم إياها، وإيمانهم بها كما أراد أن يُبيِّن أننا بحاجة إلى وقفة متأنية مع واقع اللغة العربية المعاصِر، فلا يَصِح لنا أن نعتمد على الترجمة مصدرًا لديننا.

والله أسأل أن يتقبَّل هذا العمل، ويجعله سبيلاً إلى رضاه، وصلى الله وسلم على نبيه ومصطفاه إلى يوم أن نلقاه، ونعيش في ظلِّ عطاءاته ونُعماه، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.

المراجع:
1- اتفاق المباني وافتراق المعاني؛ أبو الربيع سليمان بن بنين بن خلف بن عوض تقي الدين المصري، تحقيق: يحيى عبدالرؤوف جبر، دار عمار، ط1، 1985م.

2- الإحكام في أصول الأحكام؛ علي بن حزم الأندلسي، أحمد شاكر، مطبعة العاصمة بالقاهرة.

3- الأصول في النحو؛ أبو بكر محمد بن سهل السراج، تحقيق عبدالمحسن الفتلي، مؤسسة الرسالة - بيروت.

4- البيان والتبيين؛ أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق فوزي عطوي، دار صعب - بيروت، ط1، 1968م.

5- تاريخ الأدب العربي؛ كارل بروكلمان، ترجمة: د. عبدالحليم النجار، دار المعارف - القاهرة، ط (4).

6- تفسير المنار؛ محمد رشيد رضا، دار المنار - مصر، ط2، 1367هـ.

7- كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال؛ علي بن حسام الدين المتقي الهندي، مؤسسة الرسالة - بيروت، 1989م.

8- الثقافة المنطقيَّة في الفكر النحوي، نُحاة القرن الرابع الهجري نموذجًا، د. محي الدين محسب، ونسخة الملف وورد.

9- صبح الأعشى في صناعة الإنشا؛ أحمد بن علي القلقشندي، تحقيق: د. يوسف علي طويل، دار الفكر دمشق، ط 1، 1987م.

10- العقد الفريد؛ أحمد بن محمد بن عبدربه الأندلسي، تحقيق: مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1404هـ - 1983م.

11- الفقه على المذاهب الأربعة؛ عبدالرحمن الجزيري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1424هـ - 2003م.

12- اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم؛ شيخ الإسلام ابن تيمية، عالم الكتب، ط7، 1419هـ - 1999م.

13- المجموع شرح المهذب؛ محي الدين بن شرف النووي، طبعة دار الفكر.

14- الكتاب؛ سيبويه، تحقيق: عبدالسلام هارون، مكتبة الخانجي - القاهرة، ط3، 1408هـ - 1988م.

15- المستصفى في علم الأصول؛ محمد بن محمد الغزالي (أبو حامد)، تحقيق: د. حمزة بن زهير حافظ، الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة.

16- المقابسات؛ أبو حيان التوحيدي، تحقيق: محمد توفيق حسين.

17- المقتضب؛ أبو العباس محمد بن يزيد المبرد، تحقيق: محمد عبدالخالق عضيمة، ط 3، 1415هـ - 1994م، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.

18- معجم الأدباء؛ ياقوت الحموي الرومي، تحقيق: د. إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1993م.

19- المقدمة؛ عبدالرحمن بن خلدون، تحقيق: عبدالسلام الشدادي، الدار البيضاء، 2005م.

20- الموسوعة الفقهية؛ وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، برنامج إلكتروني، موافق المطبوع.

21- النحو العربي والدرس الحديث؛ د. عبده علي الراجحي، دار النهضة العربية، بيروت، 1979م.

[1] هذا البحث منشور في كتاب المؤشر.
[2] عطف "ورسولُه" بالرفع عند القراء كلهم: لأنه من عطْف الجملة، وتقديره: ورسولُه بريءٌ من المشركين، ففي هذا الرفع معنى بليغ وإيجاز في اللفظ، وهذه نكتة قرآنيَّة بليغة، وقد اهتدى بها ضابئ بن الحارث في قوله:
ومن يكُ أمسى بالمدينة رحله
فإني وقيارٌ بها لغريب
برفع (قيار) على تقدير: فإني بها لغريب، وقيار كذلك، وقد نسبت قراءة الجر إلى الحسن قراءة، ولم تَصِح نسبتُها إليه، وكيف يتصور جر ﴿ ورسوله ﴾، ولا عامل بمقتضى جرِّه، انظر: تفسير الآية في البحر المحيط؛ لأبي حيان.










رد مع اقتباس
قديم 2013-09-06, 13:34   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
leprence30
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي صرخة الضاد

صرخة الضاد
قراءة في كتاب: "اللغة العربية: سحر، وجمال، وعبقرية"
للأستاذ: إبراهيم اليوسفي

يأتي هذا الكتاب في سياقٍ تاريخي مُهمٍّ، تعيش فيه اللُّغة العربية مُنعطَفًا خطيرًا، على مستوى التخاطب، وعلى مستوى الكتابة، بما فيها الكتابة الفنية والنقدية، التي الأصل فيها أن تترجم رُوح هذه اللغة، أصالةً، وفصاحةً، وبلاغةً، وبيانًا.

لماذا صرخة الضاد؟
لقد نعتَ الدكتور أحمدُ شحلان هذا الكتاب بـ: "الكتاب الصيحة" فقال: "لعلَّ هذا الكتابَ الصَّيحة الذي ركب العاطفة الصادقة قبل أن يَركب التقيُّد بالمحددات الأكاديميَّة، يَعِظُ بعض رجال إعلامنا"[1]، ثم قال بعد ذلك: "يُذكرني هذا الكتاب الصيحة بصيحة أُخرى لذي الألسن، سيدي محمد أبو طالب - رحمه الله - عندما رفع ضد بعض وسائل الإعلام شعار (إني أرفع دعوى"[2].

غير أنني جَنحت في العنونة إلى الصرخة، باعتبار الصَّيحة فعلاً مجردًا، سواء كان بدافع الألم أم لا، كقوله تعالى - ضِمن المواطن الستة التي وردت فيها هذه اللفظة -: ﴿ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ﴾ [يس: 29]، التي قرأها عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "إِنْ كَانَتْ إِلَّا زقْيَةً وَاحِدَةً"، من زَقَا الصبيُّ، يَزْقُو، ويَزْقِي، زَقْوًا، وزَقْيًا إذا اشتدَّ بُكاؤه.

أما الصرخة فهي رد فعل، يتضمن صياحًا مصحوبًا بألم، كقوله تعالى: ﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ [فاطر: 37]، وعليه قول الشاعر الأعشى:
نُصَالِحُكُمْ حتى تبوءُوا بمثلِها
كصَرْخَةِ حُبْلَى أَسْلَمتْها قَبيلُها

والكاتب نفسه استعمل كلمة الصرخة في غير موضع، كما في قوله: "وإذا كان هذا هو حالَ اللُّغة العربية.. أفلا يكون - إذًا - من الإخلاص لهذه اللغة العربية أن أطلقها صرخةً مُدوِّيَة مُجلجلة، إيمانًا مني بأحقِّيتها في الوجود والنماء والتطور؟"[3].

ولا شك أن هذه هي النَّبرة التي صاحبت المؤلِّف من بداية الكتاب إلى نهايته، فهو يُفصح عن ذلك، بَدءًا من الإهداء حيث قال: "أُهدي هذا العمل الوطني المتواضع إلى كلِّ من يحمل همَّ لغته الوطنية، ويعتزُّ بها قولاً وعملاً"، وهو - أيضًا - ما أكَّده الدكتور "أحمد شحلان" حين حكم على هذا الكتاب بأنه: "تأوُّه عاشقٍ وَلِهٍ بلُغتِه، وتوجُّع مواطن يجري دمُّ لغة الضَّاد في عُروقه"[4].

لقد عَرفت هذه اللُّغة في زماننا تقاذُفات كبيرة، بين دُعاة العاميَّة، وأنصار التخلُّص من أهم صِمامات استقرارها؛ كالنحو، والصرف، والبلاغة، وأصول اللغة، ومناهضي كل أصيل، لا لشيء إلا لأنه قديم عتيق.

ولقد يضطر المعتني بلُغة القرآن إلى أن يصك أذنيه بيديه، ويغمض عينيه، ويغرس رأسَه بين رِجليه، حفاظًا على سمعه من الصمم، وعلى قلبه من الانفطار، وعلى نفسه من التصدُّع، وهو يستمع إلى بعض مقدمي الأخبار في وسائل الإعلام، أو المكلفين بإعداد التقارير الصحافية، لِهَول ما يَقصف ذهنه من الأخطاء اللُّغوية، والنَّحْوية، والصَّرفية، والتَّركيبيَّة.

يقول المؤلفُ: "هذه اللغة التي أصبحت غريبة ومُضطهدة في عُقر دارها، والتي بدأت العواصف الهوجاء تقتلعها من جذورها، كما تقتلع الأشجار"[5]، ثم تساءل على سبيل الإنكار قائلاً: "هل لا يوجد في هذه الأقطار العربية إلا من يُهدر كرامتَها، وكرامةَ الناطقين بها من عربٍ ومسلمين؟!".

ولم يُخفِ الكاتب اندهاشَه وامتعاضه، من استباحة اللغة العربية، ليس فقط من طرف الاستعمار الذي قطع أوصالها، ومزَّق أديمها إلا مما يخدم مصلحة ترجمة معتقداته، ومبادئه، وعلومه، وثقافته، بل - أيضًا - من طرف أبناء جِلدته، وأفراد عشيرته، الذين منهم من يَحكم على لُغته العربية بالموت، وأن حقَّها أن تدفن وتُنسى إلى الأبد، فقال بلهجة زَئِرَةٍ مُنتفضة: "وايم الله، إنني أمام هذا الإهمال، أُصبت وأُصيب كلُّ غيور بخيبَة أمل، بل صُعقت عندما اتضح لي أن السَّاحة في الوقت الراهن خالية من كل غيور وشجاع، واندهشت لهذا الموقف السلبي إن لم نقل: المخزي"[6].

وأكثر ما حزَّ في نفس المؤلف، أن بعض إخواننا انبهروا بثقافة الغرب، فاحتوشوها: غثَّها وسمينَها، وكان من هذا الغثِّ المردود أن انهزموا أمام لغة الوافد على حساب لُغتهم.

يقول متأسفًا على هذه الوضعية المرتَكِسة التي بلغتها عقول بعض أبناء الوطن: "وللأسف الشديد، فقد تحقق له (الاستعمار) ما أراد على يد بعض أبنائها (اللغة العربية) العاقِّين، الذين شحنهم بلُغته، والذين انبهروا بكل شيء يأتي من الغرب، ولو كان على حساب اللغة الوطنية"[7].

ويُعمِّق هذه النَّبرة باستفظاعٍ واقعُ اللغة العربية، وما يصيبها من سهام على سهام، ونِصال على نصال، يقول: "بربك أيها القارئُ، هل هناك مُنكر أفظعُ من أن يتنكَّر العربي المسلم للُغته، ويتخلى عن أعظم مقومات حياته وشخصيته؟ فإلى متى ستبقى هذه السهام المسمومة موجَّهة لهذه اللغة، لتصيب منها مقتلاً؟!"[8].

ثم يدلف الكاتب بعد ذلك إلى ضرورة الانتفاضة في وجه هذه السموم الدخيلة، ورصد هذه الأيدي الماكرة الخفية، مخاطبًا كلَّ غيور على لُغته، يقول: "إنه آن الأوان لتستيقظ الضمائر، ويُشمر المسؤولون عن ساعد الجدِّ، ويقوموا قومةَ رجل واحدٍ بدراسة علمية ومُعمقة، من شأنها أن تقيل هذه العثرات ليتجلى صفاؤها، وإشراقها، وتوهُّجها"[9].

ومرد هذا الأسى عند المؤلف، إلى كون اللغة العربية ذات تاريخ، كانت لغة تخاطب قوم لم يُفسد لسانَهم لحنٌ ولا دخيل، واختارها الله - عز وجل - لحمل كلامه في آخر رسالة أرسلها للعالمين، وكان لقوتها تجليات عظيمة بقيت محفورة في صفحة التاريخ، يذكر المؤلف مثالاً على ذلك فيقول: "ولم يمضِ على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة، حتى اضطر رجال الكنيسة أن يُترجموا صلواتهم إلى العربية، حتى تكون مفهومة لدى النصارى"[10]، وما ذلك إلا للقوة التي كانت تتمتع بها هذه اللغة، التي عمِّرت أكثرَ من عشرين قرنًا "وهو ما لم يُكتب في التاريخ للغة أخرى غيرها"[11]، "وكم عزَّ أقوامٌ بعزِّ لغات!".

ويشير المؤلف إلى أن مِن عناصر قوة اللغة العربية الذاتيَّة كثرةَ مترادفاتها، التي كان من فضلها أن "مكَّنت الشعراء من أن يَنظموا عليها قصائدهم الطويلة، مع التزام الرويِّ والقافية، كما أنها كانت أداة جيدة لبلاغة الكُتَّاب، وفصاحة الفصحاء؛ فقد استطاعوا أن يتخيَّروا من الألفاظ المرادفة ما يناسب السَّجع أحيانًا، والترصيع أحيانًا، الذي يُعرف عند البلاغيين بتوازن الألفاظ مع توافق الأَعْجاز أو تقاربها"[12].

وأضيف شيئًا آخر كان ولا زال مناط خلاف بين أهل اللغة، هل هذا الذي نسميه ترادفًا، يفيد اتحادًا كليًّا للفظتين في المعنى، بحيث يتخير الشاعر أو الساجع ما يناسب قافيته أو سجعه، أم أن الأمر أبعد مِن مجرَّد استبدال لفظة بأخرى؟

لقد كان علي بن عيسى الرماني (ت384هـ) أول من استعمل كلمة الترادف عنوانًا لكتاب، وهو كتاب: "الألفاظ المترادفة والمتقاربة في المعنى"، وإن كان قد سبق بثعلب (291هـ) الذي ورد عنده أقدم نصٍّ لغوي ورد فيه هذا المصطلح صراحةً، غير أن الرماني لم يفصح عن فرق دقيق بين المترادف والمتقارب في المعنى؛ ولذلك كان يطلق هذا مرة، وهذا مرة، ويعطف هذا على هذا كأنهما شيء واحد.

والحق أن التطابق التامَّ بين كلمتين عزيزٌ في اللغة العربية، فأنت حينما تقول: السَّيف والمهندُ، تَلمَح في الأول الاسم، وتلمحُ في الثاني الصِّفة، وعلى هذا يخرج تعدد الأسماء للمسمى الواحد، وعليه مدار كتب اللغة؛ ككتاب "الفروق اللغوية" لأبي هلال العسكري، الذي قال: "كلُّ اسْمَين يجريان على معنى من المعاني، وعين من الأعيان في لغة واحدة، فإن كلَّ واحد منهما يقتضي خلاف ما يقتضيه الآخر، وإلا لكان الثاني فضلاً لا يحتاج إليه، وإلى هذا ذهب المحققون من العلماء".

قال ابن الأعرابي (ت231هـ): "كلُّ حرْفين أوقَعَتْهُما العربُ على معنى واحد، في كلِّ واحد منهما معنًى ليس في صاحبه، ربما عرفناه فأخْبَرْنا به، وربما غمض علينا فلم نلزم العرب جهله"[13]؛ فالإنسان ليس هو البشر، الإنسان سمِّي إنسانًا لنسيانه، والبشر سُمِّي بشرًا لأنه بادي البَشَرة.

ومن الأمثلة التي ضربها أبو هلال العسكري في كتابه "الفروق" قوله: "الفرق بين التقريظ والمدح، المدح يكون للحي والميت، والتقريظ لا يكون إلا للحي، وخلافه التأبين، لا يكون إلا للميت، وأصل التقريظ من القَرَظ، وهو شيء يدبغ به الأديم، وإذا أدبغ به حسن وصلح وزادت قيمته، فَشُبِّه مدحُك للإنسان الحي بذلك، كأنك تزيد من قيمته بمدحك إياه، ولا يصح هذا المعنى في الميت؛ ولهذا يقال: مَدَحَ اللهَ، ولا يقال: قَرظَهُ".

وسأختصر مَناط صرخة الضاد عند الكاتب في أمرين اثنين:
الأمر الأول: مسألة التَّعددية اللغوية (العامية):
خصَّص المؤلف المحورَ الرابع من كتابه لتناوُل هذه القضية الشائكة، قضية غزو العامية لمواقع الفُصحى، ومحاصرتها في أهم معاقلها؛ كالتعليم، والإعلام بأنواعه، والمسرح، والمحاضرات، والإعلانات وغيرها، ورأى أن هذا الإقحام قد يكون عن غير قصد، ولكن قد يكون - أيضًا - مُدبَّرًا ومُخطَّطًا له من طرفِ جهات مختلفة، يقول: "بصورة إجمالية يمكن القول: إن الفُصحى أصبحت محاصرة بشكل ملحوظ، والمحاصِرون يَسعَون - بقصد أو غير قصد - إلى وضع كل آلية التحطيم، وكل معاول الهدم، وفي طليعتها إقحام العامية، أو بعض اللَّهجات التي لا تتوفر على الحد الأدنى من المكونات الأساسية للغة"[14].

فالعامِّيَّة في نظر أنصارها تعبير عن الأفكار بيُسر وسهولة، أما العربية فتحوج إلى معرفة النحو، والصرف، والتعبير، مع كثرة معانيها، وألفاظها، واشتقاقاتها، كما يتعللون باصطدام الحركة الشعرية الحديثة بجدار اللغة الفصحى، ومن ثَم، طالبوا بإسقاط حركات الإعراب، لأنها تمثِّل عبئًا ثقيلاً، وبالرجوع إلى التسكين؛ لأنه عمدة العاميَّة التي هي الأصل، كما زعم أحد أعضاء المجمع اللغوي بالأردن، الذي تحفَّظ المؤلف عن ذكر اسمه، حيث قال: "لُغتنا الحقيقية الفعلية هي العربية العاميَّة وليست الفصحى، إننا لا نتحدث بالفُصحى، ولا نحلم بالفُصحى، لأنها ليست لغة حديثنا، ولا لغة تفكيرنا، ولا لغة أحلامنا"[15].

ويضرب المؤلف مثالاً على ما يرونه عجزًا في اللغة العربية لترجمة المصطلحات الحديثة، مثل الماجستير والدكتوراه.

ولم يَفت المؤلف أن يعمِّق حُجج المناصرين للعامِّية بما يرونه دليلاً دامغًا، وهو أن العامية مُنحدرة من أصول عربية فصيحة، فهي وجه آخر لها، فلا تعارض، بل دعا أحد مؤيدي هذا القول إلى "تسجيل عامِّية كل قُطر، ويحتفظ بها في مكتبات صوتية، فالزمان آتٍ لأن نحتاجها، ونرجع إليها"[16]، أما غير ما ذكر من الحجج فهو واهٍ لا يستحق التعريج عليه.

وهنا سينبري المؤلف لنقض هذه الحجج، بما يُشبه الضربة القاضية عن طريق سؤال مُحرج: "لو فرضنا جدلاً استعمال العامية، فأي عامية نعتمد؟ وهي من حيث العدد لا تعد ولا تحصى، بل أكثر من ذلك، فنحن نجدها متعددة في الأمة الواحدة كلهجات فقط، مع وجود اختلاف بيِّن؛ ذلك أن لهجة البوادي غير لهجة المدن، بل حتى المدن مع بعضها، نجدها مختلفة اختلافًا واضحًا، وهذا من شأنه أن يبطل العامية التي تفكك ولا توحِّد"[17].

فاللغة الفصحى - إذًا - أداة توحيد بين الشعوب العربية، وإعاقتها إعاقة لكائن حيٍّ يتطور على ألْسِنة المتكلمين بها، كما أن التَّمكين لها هو بداية الطريق للتمكين للثقافة الإسلامية، ونشر حقيقة الحياة الإسلامية، المنبثقة عن كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولما سادت اللغة العربية في الأقطار، ساد معها الإسلام، وطبق الآفاقَ عقائدُ المسلمين، وثقافتُهم، وأحوالهُم، تمامًا كما هو الشأن اليوم بالنسبة للغة الإنجليزية، التي يَضطر أي منتج من قُطر آخر أن يكتب على منتجه ألفاظًا بالإنجليزية إن هو أراد الترويج لسلعته.

وفضلاً عن كل ذلك، يقول المؤلف: "إن الاهتمام باللغة العربية الفُصحى يَنطلق من ارتباطها بالدين الإسلامي، والتراث العربي المتميِّز"[18].

ويرى المؤلف أن التمكين للغة العربية لا يُذيب العامية، ولا يزيحها عن مسرح التخاطب، بل يُقرب المسافة بينهما، لتبقى "الطائفة الموهوبة تحاكي هذه اللغة في كتاباتها، وأحاديثها، على اختلاف المراتب والدرجات"[19].

ولم يكتف المؤلف بالدفاع عن لغته دفاعًا دُوغمائيًّا، ينزع إلى الانتصار لمجرد الانتصار، بل يُسهم في إيجاد الحلول المناسبة، للخروج من هذا الذي سمَّاه مأزقًا، والتوفيق بين الرَّأيين بما يراه مناسبًا.

يقول: "إن علاج المشكلة اللغوية يحتاج إلى سلوك أكثر من طريق، أول هذه الطرق، ما يعرف بتيسير قواعد اللغة تيسيرًا يقوم على نظرة فاحصة، وتأمل عميق، والنظرة الشاملة التي لا تعبث بالأصل، ولا تَقطع ما اتَّصل من تراث حضاري وفكري عريض"[20]، ثم يؤكد أن هذه المُهمَّة لن يستطيعها إلا الجهابذة من أهل اللغة، الذين ألمُّوا بالقديم منها والحديث، ووقفوا على وظيفتها الاجتماعية الخطيرة في حياة الأمة.

ويرى المؤلف أن اللغة العربية تدل على الفكر، في حين أصبحت "العامية في لغة الكتابة والخطب السياسية تدل - أحيانًا - على انهيار ذلك الفكر، أو هبوط المستوى الخُلقي إلى درجة الفحش والكذب"[21]، وذكر أن ذلك يتجلى في خُطب بعض الزُّعماء السِّياسيِّين، وعلى المسارح، وبعض القنوات الفضائية، مع أن "للكتابة حُرمتها، وأن هناك خطوطًا حمراء لا ينبغي تجاوزها، أو وطْؤها بالأقدام"[22].

أما الذين يتَّهمون العربية بالتَّقعُّر، والشدة، واختيار الألفاظ الحوشية، والأساليب الغريبة، فإنهم يُمسكون بخيوط واهيةٍ، فقد ولَّى زمن امرئ القَيس، وعمرو بن كلثوم، وسحبان وائل، وقس بن ساعدة، وصار من يتكلفون الحوشي في الكلام في الشِّعر والنثر قلَّة نادرةً، والنادر لا حكم له، فهذا جمهور الناس، يسمعون خطب الجمعة، والمواعظ، فيتأثرون بها، وينفعلون بها، بغض النظر عن درجة المخاطبين الثقافية.

الأمر الثاني: مسألة اللغة وعلاقتها بالشعر الحداثي:
وسيركز الكاتب على قضية الغموض التي ركبها هذا النوع من الشعر، حتى صار مستغلقًا، لا يكاد يفهمه إلا صاحبه، انطلاقًا من مقولة: "المعنى في بطن الشَّاعر"، واعترف بأن الخِصام حول هذه القضية قديم، بدأ في العصر العبَّاسي، وناقشها كبار النُّقَّاد؛ كالآمدي، والصولي، وعبدالقاهر الجُرجاني، غير أنه كان غموضًا لم يرتقِ إلى درجة التعمية والتعقيد، كما يُريده أنصار الشِّعر الحديث، الذين يرون أن هذا الشِّعر كلَّما كان غامضًا، تاهت أفكار القُرَّاء في فك ألغازه، والْتذَّت بسماع إلغازه، ويضرب الكاتب لذلك مِثالاً بقول أدونيس:
"المرايا تصالح بين الظَّهيرة واللَّيل، وخَلف المرايا جسد يفتح الطريق لأقاليمه الجديدة، جسد يبدأ الحريق في ركام العصور ما حيَّا نجمة الطَّريق، بين إيقاعها والقصيدة عابر آخر الجسور"[23].

ولقد حكَّ كثير من الأدباء والنقَّاد زناد فكرهم، ليفهموا شيئًا من كثير من هذا النوع من الكلام، فلم يصلوا إلى نتيجة.

و"الباحث عدنان علي رضا النَّحوي" - الأديب والشاعر المعروف، وصاحب التآليف العديدة في نظريَّة الأدب الإسلامي - يقول: "سمعت ذات مرَّة قَصيدة مِن هذا النوع، استغرق إلقاؤها بحدود نصف ساعة، خرجت منها وأنا لا أعي ماذا يريد الشاعر أن يقول، وسألت عددًا من المستمعين، فأسروا لي أنهم لم يفهموا شيئًا، وسألت الذين مدحوها وأعلنوا سرورهم بها، ماذا وعيتم؟ فتلجلجوا"[24].

ونظرًا لما في كثير من الشعر المنثور أو الحُرِّ من الضَّعف، والجنوح إلى اليسر والسهولة[25]، والتعمية الزائدة عن الحدِّ، رأينا "د: عباس الجراري" يتساءل عن قيمة هذا الشعر قائلاً: "لست أدري إذا كان جائزًا لنا أن نعتبر هذا النوع من الشعر"[26].

لذلك يرى الكاتب أن هذا النوع "أساء إلى اللغة العربية، لغة، وتركيبًا، وعَروضًا؛ لأنه ضرب - عُرض الحائط - بمعظم الثوابت، وقد لقي فشلاً ذريعًا لدى كل ذي ثقافة متينة، وفوق ذا وذاك، فإنه يسعى إلى طمس معالم الماضي بكل حمولاته"[27].

لنستمع إلى أحدهم كيف يهزأ بالقديم، ويرميه بأقذع الأوصاف، مفضِّلاً عليه كل جديد: "الشَّكل القديم عندنا قد بلغ الحال بِبِلاه وتهالُكِه، وبابتذاله و"عَهارته" حدًّا يجعل أي جديد خيرًا منه، فالشكل القديم ميئوس منه يأسًا باتًّا، ولا يحمل أي أمل للمستقبل"[28].

ولننظر أيَّ القصائد أشهر وأسير على الألسنة، وأسرع في الحفظ والاستحضار والاستدلال، أهي قصائد "امرئ القيس" و"النابغة" و"عنترة" و"المتنبِّي" و"أبي تمَّام" و"البحتري".. أم قصائد "الشعر الحرِّ" أو "الشعر النثري" أو "الشعر المتفلِّت"؟!

ثم لننظر هل ضاق الشِّعر العمودي عن حمل المعاني، وتبرم بالأخيلة والصور؟ ألم يتدخل في الحياة العامة والخاصة، وتناول مختلف الموضوعات، واقتحم كل الأغراض، وعبَّر بصدق ووضوح عن خَلجات النفس، ووصفها أدقَّ الوصف؟!

"لقد كان القرن الرابع الهجري يعجُّ بالمآسي والخطوب.. وكان العصر حافلاً بتيارات فكريَّة، ومذاهب فلسفية، وفِرق دينية، وصراعات سياسية.. فلم يعجز الشِّعر، ولم يتردد في التَّعبير عنه تعبيرًا واعيًا عميقًا، ولم يضطره ذلك إلى التخلي عن أوزانه وقوافيه"[29]، وإذا كان الشعر العمودي متهمًا بالحيلولة دون التعبير عن التقلُّبات الاجتماعية والسياسية والحضارية.. وعن النَّزعات النفسية، فهل استطاع الشعر الحرُّ ذلك، أم على العكس منه، وجدنا القيود التي فرضتها وحدة التفعيلة في الشعر المعاصر أشد وطأةً من التزام الوزن والقافية؟

ومِن خير مَن عبَّر عن ذلك "نازك الملائكة" حيث قالت: "إنه ينبغي ألا يطغى - أي الشكل الجديد - على شعرنا المعاصر كل الطغيان؛ لأن أوزانه لا تصلح للموضوعات كلها، بسبب القيود التي تفرضها عليه وحدة التفعيلة، وانعدام الوقفات، وقابلية التدفق والموسيقية"[30].

فإذا أضفنا كون هذا اللون من الشعر غريبًا عن بيئتنا، إلى كون كثير منه هزيلاً في مبناه ومعناه، وخلوه من الطَّرب والمتعة الموسيقية، إلى كون كثير من ألفاظه غريبة، أو مترجمة، أو عاميَّة، أو مبتكرة في نحوها وصرفها ابتكارًا رديئًا، لا تعترف بها اللغة العربية الأصيلة[31]، إلى كون جماعة ممن تزعَّموا نشره والدعوة إليه ممن عبَّروا صريحًا عن ثورتهم على اللغة، ومجابهتهم للقديم، ورفضهم لمقومات الأصالة[32].. علمنا أن هذه الدعوة لم يُرَدْ بها تطوير القصيدة العربية، ولا التحرر من قيودها المألوفة، وإنما هي تعبير عن مبدأ رفض القديم مطلقًا من جهة، والعجز عن مجاراة القصيدة العربية التي تحتاج إلى كفاية وتمكن من جهة ثانية.

غير أن كل ذلك لا يمنعنا من قبول الشِّعر الحُر الذي انبثق عن دراية وحنكة، وسلمت آلة صاحبه من الابتذال والإلغاز الغامض، فقد ينوِّع الشاعر المجيد في شكل القصيدة العمودية، وقد يخرج عن الصورة التراتبية المألوفة: صورة الشَّطرين المتماثلين، ولكنه يُركِّز على وزن معين، تلمس عُذوبته، وتحسُّ نغمه، وتطرب بموسيقاه؛ لأنه في الواقع لم يخرج عن تفاعيل الخليل، وإن غيَّر في ترتيبها، بل قد تلتزم القصيدة تفعيلة واحدة ترتب المعاني بحسبها، فإذا كانت هذه المعاني جيدة هادفة، معانيها أسبق إلى قلبك من ألفاظها، كان ذلك نوع تجديد في بِنية القصيدة، لا مشاحَّة في قبوله، والنَّسج على مِنواله، وهذا مما يُحسنه فطاحل الشعراء، الذين خبروا مواطن التذوق الشعري، واستكنهوا سرَّ البيان، من أمثال الشاعر: "محمود مفلح" الذي يقول في إحدى قصائده[33]:
أَنَا مُنْذُ أَطْلَقْتُ العِنَانَ لأَحْرُفِي وَبَدَأْتُ أُطْلِقُ بِالقَلَمْ
أَيْقَنْتُ أَنَّ الدَّرْبَ مَذْأَبَةٌ وَأَنَّ الحَرْفَ مَسْغَبَةٌ
وَأنِّي إِنْ أَمُتْ سَأَمُوتُ مِنْ أَجْلِ القِيَمْ
مِنْ أَجْلِ هَذَا صُنِّفَتْ فِيَّ الشُّكُوكُ وَوُزِّعَتْ فِيَّ التُّهَمْ

وهو الاتجاه المعتدل الذي مال إليه الكاتب، وانتصر إليه، لما رُوعيت فيه الثوابت النَّحوية، والصرفية، والدلاليَّة، والبلاغية، وأضيفت إليه معان جديدة، مستمدة من لغة العصر، ومحافظة على الأصل.. ولا بأس من اختراع بحور أخرى تضاف إلى البحور الخليلية، كذلك الشأن بإدخال ألفاظ جديدة أقرتها المجامع اللغوية.. وهذا شيء يستحق التأييد والمساندة"[34].

ثم ختم الكاتب هذا المحور بقوله: "إن الدراسات المستقبلية، كَفيلة إذا توفَّرت الإرادة بالإبقاء على الأنفع والأصلح، مصداقًا لقوله - تعالى -: ﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الرعد: 17]".

سَيَبْرُقُ في العُلا وَهَجي
وَتخمد ناره الخَطر
فَمهْما حاوَلوا قَهري
فسَوف يَلوكُهُم قَهر
وَمهمَا كَمَّموا صَوتي
يُسافرُ مِن فَمِي نَسر
وإنْ هم حاوَلوا مَحْوي
فَسَوف يُقهْقِه الفَجر
فَليسَ تَنالُ مِن عَزمي
شِباكُ الضرِّ والغَدر
ولَن يَقتاتَ زيدٌ من
شَراييني وَلا عَمرو
وأَهتِفُ إنَّ لي نَسلاً
وبالأَبناءِ أَفتَخِر

[1] - ص: 10.
[2] - ص: 10.
[3] - ص: 18.
[4] - ص: 7.
[5] - ص: 16.
[6] - ص: 16.
[7] - ص: 17 - 18.
[8] - ص: 19.
[9] - ص: 19.
[10] - ص: 34.
[11] - ص: 34.
[12] - ص: 51.
[13] - المزهر للسيوطي، ج: 1، ص: 314.
[14] - ص: 63.
[15] - ص: 64.
[16] - ص: 65.
[17] - نفسه.
[18] - ص: 66.
[19] - نفسه.
[20] - ص: 67.
[21] - ص: 68.
[22] - نفسه.
[23] - 79.
[24] - "الشعر المتفلت من التفعيلة إلى النثر" - د. عدنان علي رضا النحوي - ص: 60.
[25] - "النقد الأدبي الحديث" - د. غنيمي هلال" - ص: 374.
[26] - "الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه" - ص: 221.
[27] - ص: 82.
[28] - "قضية الشعر الجديد" - د. محمد النويهي - ص: 93.
[29] - "الأدب والحياة" - الخلاصة أحمد - ص: 106.
[30]- "قضايا الشعر المعاصر" - ص: 34.
[31] - تقول نازك الملائكة في معرض ردها على الذين ركبوا "الشعر الحر"، ونادوا بإهمال القافية: "وكان هذا صدى للشعر الغربي، وهو قد عرف الشعر المرسل الذي يخلو من القافية منذ مسرح شكسبير، والشعر الغربي اليوم أغلبه بلا قافية.. على أننا لا نملك إلا أن نلاحظ الذين ينادون بنبذ القافية، هم - غالبًا - الشعراء الذين يرتكبون الأخطاء النحوية واللغوية العروضية الشنيعة، مما يخشى معه أن تكون مناداة بعضهم بنبذ القافية تهربًا إلى السهولة، وتخلصًا من العبء اللغوي الذي تلقيه القافية على الشاعر"؛ "قضايا الشعر المعاصر" - ص: 36.
[32] - "صفحات مضيئة من تراث الإسلام" - أنور الجندي - ص: 179.
[33] - تنظر: جريدة "المسلمون"ع:279 - 8/6/1990.
[34] - ص: 81.











رد مع اقتباس
قديم 2013-09-06, 13:37   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
leprence30
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي بناء الجملة العربية ( دراسة نظرية تطبيقية على ديوان البهاء زهير )

ملخص الرسالة
بناء الجملة العربية
(دراسة نظرية تطبيقية على ديوان البهاء زهير)


أولاً: التعريف بالشاعر.
ثانيًا: مفهوم الجملة عند النحاة القدماء والمحدَثين:

1) مفهوم الجملة عند نُحاةِ العربية القدماء:
لم يظهر مصطلح (الجملة) عندَ سيبويه، "فسيبويه نفسه لم يستخدم مصطلح (الجملة) على الوجه الذي تناوله به مَن جاء بعده"[1].

وكتاب سيبويه يُمثِّل تلك المرحلة التي سبقته، وهذا لا يعني أنَّ سيبويه لم يكن يُدرك معنى الجملة أو الكلام، لكن يبدو أنَّ سيبويه ومن سبقه كانوا يهتمون بالتمثيل أكثر من اهتمامهم بالتَّعريف، فهو يقول مثلاً في باب المسند والمسند إليه: "وهما ما لا يُغني واحدٌ منهما عن الآخر، ولا يجد المتكلِّم منه بُدًّا، فمن ذلك الاسم المبتدأ والمبني عليه، وهو مثل قولك: عبدالله أخوك، وهذا أخوك، ومثل ذلك: يذهب عبدالله"[2]، وقد ورد لفظ الكلامِ عند سيبويه؛ حيث يقول: "واعلم أنَّ (قلت) في كلام العرب إنَّما وقعت على أن يُحكى بها، وإنَّما يحكى بعد القول ما كان كلامًا لا قولاً"[3].

واستدلَّ ابن جنِّي من ذلك على أن سيبويه فرَّق بين الكلام والقول قائلاً: "نعم، أخرج الكلام هنا مخرج ما قد استقرَّ في النُّفوس، وزالت عنه عوارضُ الشكوك، نحو قولك: زيد منطلق، ألا ترى أنه يَحسن أن تقول: زيد منطلق، فتمثيلُه بهذا يعلم منه أنَّ الكلام عنده ما كان من الألفاظ قائمًا برأسه، مُستقلاًّ بمعناه، وأنَّ القول عنده بخلاف ذلك؛ إذ لو كانت حالُ القول عنده حالَ الكلام، لَمَا قدَّم الفصل بينهما، ولما أراك فيه أن الكلام هو الجمل المستقلَّة بأنفسها، الغانية عن غيرها"[4].

ومصطلح الكلام يتَّسع عند سيبويه، فيستخدمه بمعنى النثر في مقابل الشِّعر، وبمعنى اللغة، وبمعنى القليل الاستعمال[5].

وظهر بعدَ سيبويه مصطلح (الجملة) مع مصطلح (الكلام)، وإن كان القُدماء استخدموا مصطلحَ (الكلام) بمدلول (الجملة) عندَ اللُّغويين المحدَثين، فهذا لا يعني أنَّهم لم يستخدموا مصطلح (الجملة)، فهذا المصطلح (الجملة) ذُكِر في كتب النحو، ولكن اختلف القدماء في مفهوم هذا المصطلح؛ فمنهم مَن يعدُّه مساويًا لمصطلح (الكلام)، ومنهم من يجعل (الجملة) غير (الكلام).

ويمكن التمييز بين الفريقين على النحو التالي:
• فريق يرى أنَّ (الكلام) هو (الجملة)، ويستخدم مصطلح (الكلام) بمدلول مصطلح (الجملة)، ولا يفرق بينهما.

ومِن هؤلاء ابن جنِّي (ت 392هـ)؛ حيث يقول: "أمَّا الكلام فكل لفظٍ مستقل بنفسه، مفيد لمعناه، وهو الذي يُسمِّيه اللُّغويون: الجمل"[6].

ومن هذا الفريق الزمخشري (ت: 538هـ)؛ حيث يقول: "والكلام هو المركب من كلمتين أسندت إحداهما إلى الأخرى، وذلك لا يتأتَّى إلاَّ من اسمين كقولك: زيد أخوك، وبشر صاحبُك، أو من فعل واسم، نحو: ضُرِب زيدٌ، وانطلق بكرٌ، ويُسمَّى جملة"[7].

• وأمَّا الفريق الثاني من النُّحاة، فقد فرَّقوا بين مصطلح (الجملة) ومصطلح (الكلام)، فالجملة عندهم أعمُّ من الكلام؛ حيث يشترط في الكلام أن يتضمَّن إسنادًا، وأن يكون مفيدًا يمكن السكوت عليه، والجملة - عندهم - ما تضمَّنت الإسناد، سواء أفادتْ معنى تامًّا أم لم تُفِد.

ومن هذا الفريق: ابن هشام (ت: 761هـ)؛ حيثُ يقول: "الكلام هو القول المفيد بالقصْد، والمراد بالمفيد: ما دلَّ على معنى يَحسن السكوت عليه"[8]، "والجملة: عبارة عن الفعل وفاعله، والمبتدأ والخبر، فهما ليسا مترادفَين كما توهَّم كثيرٌ من الناس، وهو ظاهر قول صاحب المفصَّل، والصواب أنَّها أعم منه؛ إذ شرط الكلام الإفادة بخلافها"[9].

وقد اختار السيوطي (ت: 911هـ) ذلك؛ حيث يقول: "والصواب أنَّها أعمُّ منه"[10].

أما رضيُّ الدين الأَسْتَراباذيُّ (ت: 686هـ)، فقد فرَّق بين الجملة والكلام تفرقةً أخرى من حيث القصد وعدم القصد، فالجملة عنده ما تضمَّنت الإسناد الأصلي، سواء أكانت مقصودة لذاتها أم لا، وهذا يشمل جملةَ الخبر والصلة والصِّفة وغيرها[11]، والكلام عنده، فهو ما تضمَّن الإسنادَ الأصلي، وكان مقصودًا لذاته[12].

وهذه التعريفات التي قدَّمها النُّحاة للجملة والكلام تُراعي اعتبار الشكل، واعتبار المعنى؛ فمن حيث الشكل لا بُدَّ للجملة والكلام أن يتضمَّنا إسنادًا بين كلمتين؛ يقول الزمخشري: "والكلام هو المركب من كلمتين أُسنِدت إحداهما إلى الأخرى"[13].

ومن حيث اعتبار المعنى، فلا بُدَّ للتركيب أن يكون مُفيدًا؛ يقول ابن يعيش (ت: 643هـ): "اعلم أنَّ الكلام عند النحويِّين عبارة عن كلِّ لفظ مستقلٍّ بنفسه مفيد لمعناه، ويُسمَّى الجملة، نحو: زيد أخوك، وقام بكر"[14]، ويقول ابن يعيش أيضًا في معرض الفرق بين الكلام والقول والكلِم: "الكلام عبارة عن الجمل المفيدة"[15].

ويقول ابن جنِّي (ت 392هـ): "أمَّا الكلام فكل لفظ مستقل بنفسه مفيد لمعناه، وهو الذي يُسمِّيه النحويون: الجمل، نحو: زيد أخوك، وقام محمد، وضُرب سعيد، وفي الدار أبوك، وصَه، ومَه، ورُوَيدًا، وحَاء وعَاء في الأصوات، وحس ولب وأف، فكل لفظ مستقل بنفسه، وجنيت منه ثمرة معناه، فهو كلام"[16]، فابن جنِّي في تعريفه للكلام - وهو الجمل عند النحويين - يُراعي جانب الشَّكل، فذكر أمثلة الكلام، ويُلاحظ في أمثلته أنَّها تشتمل على كل الاحتمالات التركيبيَّة الممكنة، بين اسم واسم (الجملة الاسمية)، أو بين اسم وفعل (الجملة الفعلية)، فذكر مثالَ الجملة الفعليَّة المبنية للمعلوم، والجملة الفعلية المبنية لما لم يُسمَّ فاعله، والمرفوع بالظرف على رأيِ الكوفيِّين، وهو مثالٌ للخبر الظرف المتقدم على المبتدأ على رأي البصريِّين، وأسماء الأفعال، وأسماء الأصوات، فكلُّها من حيث التركيب (الشكل) تحتوي على إسناد بين كلمتين، ومن حيثُ المعنى، فالجملة لا بُدَّ أن تكونَ تامَّة المعنى (كل لفظ مستقل بنفسه مفيد لمعناه)، ولفظ ابن جنِّي (مفيد لمعناه) يوضِّح ذلك.

ويوضح ابن هشام الإفادة: "والمراد بالمفيد: ما دلَّ على معنى يحسُن السُّكوت عليه"[17]، فابن هشام يُلخِّص تعريفَ القُدماء للجملة والكلام بقوله: "وقد تبيَّن مما ذكرناه في تفسير الكلام أنَّ شرطَه الإفادة، وأنَّه من كلمتين"[18].

يقول ابن هشام أيضًا: "والكلام قولٌ مفيدٌ مقصودٌ"[19]، وقريبٌ من هذا جاءتْ تعريفات النُّحاة للكلام[20].

• أنواع الجملة عند النُّحاة من حيث الدلالة:
تنقسم الجملة عند نُحاة العربية القدماء إلى:
1- جملة خبريَّة.
2- جملة إنشائيَّة.
3- جملة طلبية[21].

وضابط ذلك: أنَّه إمَّا أنْ يَحتمل التصديق والتكذيب أو لا، فإن احتملهما فهو الخبر، نحو: قام زيد، وما قام زيد، وإن لم يَحتملهما، فإمَّا أن يتأخَّر وجودُ معناه عن وجود لفظه أو يقترنا، فإن تأخر فهو الطلب، وإن اقترنا فهو الإنشاء؛ كقولك لعبدك: أنت حرٌّ.

واختار ابنُ هشام أن يكون الكلامُ خبرًا وإنشاءً فقط، فأدخل الطلب في الإنشاء[22].

• أنواع الجملة عند نحاة العربيَّة القدماء من حيث التركيب:
تنقسم الجملة عند جمهور النحاة قسمين:
أ- جملة اسمية: وهي التي صَدْرها اسم؛ كزيد قائم، وهيهات العقيق.
ب- جملة فعلية: وهي التي صدرها فعل؛ كقام زيد، وضُرب اللص، ويقوم زيد، وقم.

والتصدر: أي كون الكلمة المتصدرة ركنًا من أركان الجملة بالفعل، أو أنَّها كانت في الأصل ركنًا من أركانها، وهكذا تكون الجملة الاسمية هي المكوَّنة من المبتدأ والخبر، أو ممَّا كان أصله المبتدأ والخبر، والجملة الفعلية هي المكونة من الفعل والفاعل، أو مما كان أصله الفعل والفاعل[23].

ومن النُّحاة مَن جعلها ثلاثةَ أنواع وهو ابن هشام[24]؛ حيث زاد الجملة الظرفيَّة: "وهي المصدَّرة بالظرف أو الجار والمجرور".

ومن النُّحاة من جعلها أربعة أنواع وهو الزمخشري[25]؛ حيث زاد الجملة الشرطيَّة، وهي التي تتكوَّن من أسلوب شرط.

وقسَّم ابن هشام الجملة من حيث طولها أو بساطتها إلى:
1- جملة كبرى: وهي الجملة الاسمية التي خبرها جملة نحو: زيد قام أبوه.
2- جملة صغرى: وهي الجملة التي وقعت خبرًا لمبتدأ، أو صفة[26]... إلخ.

2- مفهوم الجملة عند اللغويين المحدَثين:
اختلفت دراسات اللغويين المحدثين للجملة عنها في الدِّراسات التقليدية من حيث التناول، ففي علم اللغة الحديث يُفرِّق علماء اللغة بين الجملة نمطًا، والجملة حدثًا كلاميًّا.

يقول أحد اللغويين المحدثين: "عبارة المبتدأ والخبر (جملة اسمية) تصف نموذجَ الجملة، بينما عبارة "محمد قائم" (جملة اسمية) مثالاً واقعيًّا لهذا النموذج المشار إليه في العبارة الأولى"[27].

وقد تعدَّدت تعريفات الجملة عند اللغويين المحدثين، وإن ظلَّ تعريف الجملة يجمع بين معياري الشكل والمضمون[28].

وأرجع بعض الباحثين تعدُّد تعريفات الجملة، إلى تعدُّد المدارس اللغوية؛ يقول: "ونظرًا لصُعُوبة البحث اللغوي العملي في الكلام المتصل، فقد اتَّخذت غالبية المدارس اللُّغوية التي ظهرت منذ الربع الثاني من القرن الحالي - الجملةَ وَحْدَة لُغوية مناسبة للدراسة، إلاَّ أن مفهوم الجملة ليس واضحًا كما قد يتبادر إلى الذِّهن؛ ولذلك فإنَّ تعريفها من أشق الأمور"[29].

وللمحدثين اتِّجاهات مُتباينة في تعريف الجُملة، فمنهم من يتبع نُحاةَ العربيَّة القُدماء، ومنهم من يتبع نُحاة المدارس الغربية.

فمن اللغويين الذين يتبعون القُدماء الأستاذ عباس حسن؛ يقول: "الكلام (أو الجملة) هو: ما تركَّب من كلمتين أو أكثر، وله معنى مفيد مستقل"[30]، مثل: فاز طالب نبيه، لن يهمل عاقلٌ واجبًا، فلا بُدَّ في الكلام من أمرين معًا هما: التركيب والإفادة المستقلة[31]، فهو في هذا يذكر تعريف القدماء بنصه، ويُلاحظ أنه يستخدم مصطلح (الكلام) - كما استخدمه القدماء - في مقابل (الجملة)، وهو بهذا يتبع الفريق الذي يُسوِّي بين الكلام والجملة من القدماء.

ومن اللغويين المحدثين من يتبع المدارس الغربيَّة في تعريف الجملة، ومن هؤلاء الدكتور عبدالرحمن أيوب؛ حيث يقول وهو يتحدَّث عن منهج النُّحاة القدماء في دراسة اللغة: "وقد اختارت المدرسة النَّحوية العربية أن تبدأ بالجزء وتنتهي بالكل، وبالرَّغم من أنَّنا لا ندين بهذا المنهج، فسنعرضه عليك لإيضاح وجهة نظر النحاة"[32].

ويقول مُوضِّحًا وجهة نظر اللغويين المحدثين في دراسة الجملة: "الكلام إذًا أعم من الجملة بهذا الاعتبار، مما هو قريبٌ من رأي علماء اللغة المحدثين، ولكن هؤلاء الأخيرين قد فرَّقوا بين الجملة باعتبارها أمرًا واقعيًّا، وبينها باعتبارها نموذجًا يُصاغ على قياسٍ منه عديدٌ من الجمل الواقعية"[33]، "فنموذج (اسم مسند إليه + اسم مسند) لا يُفيد فائدة لغوية، كما تفيد عبارة (محمد قائم) التي هي تطبيق لهذا النموذج، والواضح أنَّ النحاة - بمقتضى تعريفهم هذا - قد قصدوا بالجملة ما يقصده علماء اللغة بعبارة: (الحدث اللغوي)"[34].

ويبدو أنَّ مصطلح (الجملة) قد غلب على مصطلح (الكلام) في العصر الحديث، وبذلك يكون الكلام "هو النَّشاط الواقعي"؛ إذ إنَّ "اللغة" نظام، و"الكلام" أداء نشاطي طبقًا لصورة صوتيَّة ذهنية، والكلام هو التطبيق الصوتي، والمجهود العضوي الحركي الذي تنتج عنه أصواتٌ لغوية معينة[35]، والجملة هي وحدة الكلام الصُّغرى، أو هي الحد الأدنى من اللفظ المفيد[36].

والجملة عند الدكتور إبراهيم أنيس، يقول: "إنَّ الجملة في أقصر صُورها هي: أقلُّ قدر من الكلام، يفيد السامع معنى مُستقلاًّ بنفسه، سواء تركب هذا القدر من كلمة واحدة أو أكثر"[37].

ويوضح الدكتور أنيس القدر الذي يكون في أقصر صورة بقوله: "فإذا سأل القاضي أحد المتهمين قائلاً:
• من كان معك وقت ارتكاب الجريمة؟
فأجاب: زيد.
فقد نطق هذا المتهم بكلامٍ مُفيد، في أقصر صورة"[38].

والدكتور أنيس هنا لا يَشترط الإسنادَ الذي هو أهم عنصر من عناصر التركيب عند النُّحاة.

أنواع الجمل عند اللغويِّين المحدثين من حيث التركيب:
تأثَّر بعض النحاة المحدثين بالقدماء في تقسيم الجملة، ومن هؤلاء:
الأستاذ عباس حسن، فقد قسَّم الجملة ثلاثةَ أنواع[39]:
• الجملة الأصلية: وهي التي تقتصر على ركني الإسناد.

• الجملة الكبرى: وهي ما تتركَّب من مبتدأ خبره جملة اسمية أو فعلية.

• الجملة الصُّغرى: وهي الجملة الواقعة خبرًا، في جملة كبرى.

وهذا نفس تقسيم ابن هشام[40].

أما الأستاذ إبراهيم مصطفى، فقد قسَّم الجملة إلى:
• جملة تامَّة: وهي التي تشتملُ على رُكني الإسناد، وهذا يشمل الاسميةَ والفعلية.

• جملة ناقصة: وهي التي تشتمل على ركن واحد فقط من رُكني الإسناد، ويتمُّ بها المعنى، ومن هذه الجمل عنده: جملة المفعول المطلق الذي حُذِف فعلُه، مثل: تحية، سلامًا، ومنها جملة النداء نحو: يا محمد[41].

أما الدكتور عبدالرحمن أيوب، فقد قسَّم الجملة نوعين[42]:
• جملة إسنادية: وهي التي تشتمل على ركني الإسناد.

• جملة غير إسنادية: مثل النداء، جملة نِعم وبئس، جملة التعجُّب.

وتنقسم الجملة عند الدكتور محمد حماسة عبداللطيف إلى: إسنادية وغير إسنادية[43]، قسَّم الإسنادية إلى تامَّة وموجزة قال: "لذلك سوف تنسب الجملة الإسناديَّة التامة إلى صدورها، وكذلك الموجزة"[44]، "أمَّا الجملة غير الإسنادية، فسوف تنسب إلى معناها التركيبي"[45]، والجمل الإسنادية التامَّة عنده تنقسم إلى: (اسمية، فعلية، وصفية)، والجمل الإسناديَّة الموجَزة: وهي التي يُذكَر فيها عنصرٌ واحدٌ من عناصر الإسناد، ويُحذف العنصر الثاني حذفًا واجبًا وغالبًا، إلى: (فعلية موجزة، اسمية موجزة، جوابية موجزة) [46].

أمَّا الجملة غير الإسنادية عنده فهي[47]:
1- جملة الخالفة: (اسم الفعل + ضَميمَة مرفوعة أو منصوبة).
2- جملة التعجب.
3- جملة المدح والذم.
4- جملة خالفة الصوت (أسماء الأصوات).
5- جملة النداء.
6- جملة القسم.
7- جملة التحذير والإغراء.

والرأي الذي آخذ به، ويراه الباحث الأقرب إلى الصَّواب في تعريف الجملة هو رأي نحاة العربية القدماء، فلا بُدَّ للجملة من الإسناد، وتمام المعنى.

أمَّا من جهة التركيب، فالجملة إما بسيطة: وهي ما اقتصر فيها على ركني الإسناد (فعل + فاعل)، (مبتدأ + خبر)، وهي التي سماها النحويون (الجملة الصُّغرى)، وإما مركبة: وهي التي تدخل في عناصرها جملة أخرى تقوم بوظيفة ما في بنائها، وهي التي سماها النحويُّون (الجملة الكبرى).

ملخص الرسالة باللغة العربية
مِن المعلوم أنَّ المرء لا يتكلَّم نحوًا، ولكن يتكلَّم لغةً، وقد نشأ علم النحو وثيقَ الصلة بنصوص اللغة على اختلافها، ولم تتوقفْ دراسة النحاة القدماء على الجانب النظري فقط، بل تخطتْه إلى الجانب التطبيقي، استشهادًا بالقرآن الكرم، والشعر العربي، وهذا الارتباط الوثيق بين علم النحو، والنصوص الحية هو الذي أكسب النَّحو حيويته ونهوضَه، والدِّراسة تُحاول أن تقترب من النص؛ لأن تفسير أيِّ نص من نصوص العربية لا بُدَّ أن يعتمد في مرحلته الأولى على فَهْم بنائه لغويًّا ونحويًّا، ولذلك جاءت هذه الدراسة للجملة العربية.

وقد جاءتْ هذه الدراسة في مقدمة، وتمهيد، وخاتمة، وثلاثة أبواب، انقسم كل بابٍ فصلين، جاء كل فصلٍ في عدة مباحث.

ودار الحديث في المقدمة عن أهميَّة الدِّراسة، وهدفها، وسبب اختياري لهذا الموضوع، والدراسات السابقة، وخطة البحث.

وأمَّا التمهيدُ، فقد دار الحديث فيه عن التعريف بالشاعر موضوع الدِّراسة، ومعنى الجملة، وتعريفات النحاة قديمًا وحديثًا لها.

وجاء الحديث في الباب الأول، وهو بعنوان "بناء الجملة الاسمية" عن بنية الجملة الاسمية بنوعيها: المبتدأ والخبر، ودخول الناسخ عليها، وقد جاء هذا البابُ في فصلين:
الفصل الأول: "المبتدأ والخبر"، وقد جاء في ستة مباحث:
المبحث الأول: "الإسناد"، ودار الحديث فيه عن معنى الإسناد، وأهميته في بناء العلاقة الرَّابطة بين المبتدأ والخبر، ثم دراسة الأنماط التي أتى عليها المبتدأ والخبر في الدِّيوان.

المبحث الثاني: "الرتبة بين المبتدأ والخبر"، ودار الحديث فيه عن معنى الرُّتبة، ومتى تكون رتبةً حرة؟ ومتى تكون رتبة مقيدة؟ ومخالفات البهاء في الرتبة.

المبحث الثالث: "المطابقة بين المبتدأ والخبر"، ودار الحديث فيه عن معنى المطابقة، وأهميتها، وأهم الصور المحققة لظاهرة المطابقة، وما تُجيزه اللغة من المخالفة في بعض الأحيان، ورصد ما ورد مخالفًا عندَ البهاء ومحاولة تخريجه.

المبحث الرابع: "الربط بين المبتدأ والخبر"، ودار الحديث فيه عن معنى الربط، وأهميته، وبيان أنَّ الجملة من دون الرَّبط، لا تصبح جملة، ودار الحديث أيضًا عن أنواع الربط، والحالات التي تسمح اللغة فيها باختلاف المطابقة بين الضمير ومرجعه، وحالات الحَمْل على المعنى.

المبحث الخامس: "التضام بين المبتدأ والخبر"، ودار الحديث فيه عن معنى التضام، وأهميَّته في الإفصاح عن المعنى النَّحوي، وكذلك الحديث عن نوعي التضام إيجابًا وسلبًا.

المبحث السادس: "الدراسة الدلالية للمبتدأ والخبر"، ودار الحديث فيه عن دراسة المعنى للمبتدأ والخبر، ودرس المعنى الذي يُؤدِّيه الخبر إذا كان وصفًا، أو جملة اسمية أو فعلية، وكذلك المعاني التي يُؤدِّيها المبتدأ إذا جاء معرفةً أو نكرةً.

أمَّا الفصل الثاني، وهو بعنوان: "النواسخ"، فقد جاء في ستة مباحث أيضًا:
المبحث الأول: "الإسناد"، ودار الحديث فيه عن الإسناد بعد دخول الناسخ على الجملة، ونمط الجملة، وصيغ تلك النواسخ، وورودها من عدمه عند الشاعر.

المبحث الثاني: "الرتبة"، ودار الحديث فيه عن الرُّتبة بين الناسخ والمبتدأ والخبر، ورصد ما ورد مُطابقًا أو مخالفًا عند البهاء.

المبحث الثالث: "التضام"، ودار الحديث فيه عن التَّضام بين المبتدأ والخبر بعد دخول الناسخ عليهما، ودراسة تضام بعضِ النواسخ إلى الجملة، أو بعض الأدوات إلى النواسخ.

المبحث الرابع: "ليس"، دار الحديث فيه عن (ليس)، وتركيبها وتضامها، داخل الدِّيوان، واستعمال البهاء لها، ورأي النحويين في ذلك.

المبحث الخامس: "ظواهر نحوية في أفعال المقاربة والرَّجاء والشروع"، ودار الحديث فيه عن دراسة بعضِ الظواهر النادرة أو القليلة، التي وردتْ في استعمال الشاعر لهذه الأفعال.

المبحث السادس: "ظواهر نحوية في إن وأخواتها"، ودار الحديث فيه عن بعض الظواهر النادرة في استعمال الشاعر لهذه الحروف.

أمَّا الباب الثاني، وهو بعنوان: "بناء الجملة الفعليَّة"، فدار الحديث فيه عن بناء الجملة الفعلية، ودور القرائن في مكوناتها، وقد جاء في فصلين:
الفصل الأول: "العناصر الأساسيَّة في الجملة الفعلية"، ودار الحديث فيه عن دراسة الفعل والفاعل ونائبه، وما يَستتبعهم من أحكام، وقد جاء هذا الفصلُ في أربعة مباحث:
المبحث الأول: "الإسناد" ودار الحديث فيه عن الإسناد ودوره في الرَّبط بين الفعل والفاعل أو نائبه، وخلاف النحويِّين حول تحديد الجملة الفعليَّة، ورأي البحث في ذلك.

المبحث الثاني: "الرتبة"، ودار الحديث في هذا المبحث عن الرُّتبة بين الفعل والفاعل، وبيان أنَّها رتبة ملتزمة، كما رأى البصريون.

المبحث الثالث: "المطابقة"، ودار الحديث عن صور المطابقة بين الفِعل والفاعل من تطابُق نوعي، وتطابق عددي، والحالات التي تجيز فيها اللغة المخالفة، والحالات التي توجب فيها المخالفة، وما ورد مُطابقًا أو مخالفًا عند البهاء.

المبحث الرابع: "التضام"، ودار الحديث فيه عن الحذف الجائز والواجب لركني الإسناد، وجواز حذْف الفاعل من عدمه، ودور الحذف وتأثيره على المعنى، وورود الفاعل جملة، ومخالفات البهاء في ذلك وتخريجه.

أمَّا الفصل الثاني، وهو بعنوان: "مكملات جملة الإسناد في الجملة الفعلية"، فجاء في مبحثين:
المبحث الأول: "ظواهر نحويَّة في المفاعيل"، ودار الحديث في هذا المبحث عن الظواهر النحويَّة القليلة أو النادرة التي وردتْ في استعمال البهاء للمفاعيل.

المبحث الثاني: "الحال"، ودار الحديث فيه عن استعمال البهاء للحال في الديوان، وحالات مجيء الحال جامدًا أو مصدرًا، أو كونه عُمدة، ووقوع الحال جملة، وعامل الحال، ورصد مطابقة ذلك أو مُخالفته عندَ الشاعر.

الباب الثالث، وهو بعنوان: "اللغة والتركيب عند الشاعر"، فقد جاء في فصلين:
الفصل الأول: "اللغة"، ودار الحديث فيه عن لُغة الشاعر، والمادة اللغوية التي استقى منها مادته، وقد جاء في مبحثين:
المبحث الأول: "مصادر الشاعر اللغوية"، ودار الحديث فيه عن مادة الشاعر اللغويَّة، أو بمعنى أدق عن الألفاظ لدى الشَّاعر.

المبحث الثاني: "أغراض الشعر وأثرها في بناء الجملة"، ودار الحديث في هذا المبحث عن أغراض الشِّعر من مديحٍ وهجاءٍ، ورثاءٍ وغزلٍ ووصفٍ، وأثر ذلك على تنوُّع الجملة عند البهاء، ومناسبة كل غرضٍ لنوع الجملة التي اختارها الشاعر.

أما الفصل الثاني، وهو بعنوان: "التركيب"، فقد جاء في مبحثَين:
المبحث الأول: "ترابط التركيب داخل القصيدة"، دار الحديث في هذا المبحث عن ترابُط واتصال التركيب لدى الشاعر، في بناء القصيدة، والوَحدة الموضوعيَّة، ليس على مستوى المعنى فقط، بل على مستوى التركيب والبناء اللغوي.

المبحث الثاني: "مخالفات الشاعر في التركيب"، وقد دار الحديث في هذا المبحث عن مخالفات الشاعر النحويَّة، في التضام والرَّبط، ومخالفاته في العلامة الإعرابيَّة، وكذلك مخالفاته في الرتبة، ومحاولة تخريج ذلك.

أمَّا الخاتمة، فقد دار الحديث فيها عمَّا استخلصه البحث من دراسة بناء الجملة لدى الشاعر، وما تُوصي به الدراسة.

فهرس المحتويات
الموضوع
رقم الصفحة
المقدمة
(2- 12)
التمهيد
13
التعريف بالشاعر
13
مفهوم الجملة وأنواعها عند القدماء
14
مفهوم الجملة وأنواعها عند اللغويين المحدَثين
19
الباب الأول: بناء الجملة الاسمية
25
الفصل الأول: المبتدأ والخبر
26
المبحث الأول: الإسناد
27
أنماط الصيغة التي أتى عليها المبتدأ
28
أنواع الخبر وصيغه في الديوان
32
المبحث الثاني: الرتبة بين المبتدأ والخبر
37
الرتبة الحرَّة بين المبتدأ والخبر
37
تقدم المبتدأ وجوبًا
40
تقدم الخبر وجوبًا
42
المبحث الثالث: قرينة المطابقة
45
المطابقة في النوع
46
المطابقة في العدد
47
المطابقة في التعيين
49
المطابقة في الحالة الإعرابية
50
المبحث الرابع: قرينة الربط
52
الربط بالضمير
53
الربط بواسطة الإشارة
54
إعادة المبتدأ السابق بلفظه
55
العموم في الخبر
55
المبحث الخامس: قرينة التضام في الجملة الاسمية
56
أولاً: التضام السلبي
57
حذف المبتدأ جوازًا
57
حذف الخبر جوازًا
58
الحذف الجائز في الديوان
59
أولاً: حذف المبتدأ
59
ثانيًا: حذف الخبر
61
الحذف الواجب
62
أولاً: حذف المبتدأ وجوبًا
62
ثانيًا: حذف الخبر وجوبًا
64
ثانيا: التضام الإيجابي (تعدد الخبر)
66
تعدُّد الخبر عند البهاء
68
المبحث السادس: الدراسة الدلالية للمبتدأ والخبر
69
وظيفة الخبر
69
الإخبار بالاسم أو الوصف
69
الإخبار بالجملة الفعلية
70
الإخبار بواسطة شبه الجملة
72
دراسة المبتدأ من حيث التعريف والتنكير
73
أولاً: المبتدأ النكرة
73
ثانيًا: المبتدأ المعرفة
75
الفصل الثاني: النواسخ
81
المبحث الأول: الإسناد
82
دراسة الصيغة في الديوان
82
دراسة الخبر
88
مخالفات البهاء في الخبر
89
وقوع خبر كان جملة استفهامية
89
وقوع خبر ليس معرفة واسمها نكرة
89
المبحث الثاني: الرتبة
90
صور الرتبة في باب كان وأخواتها
90
توسط الخبر جوازًا
90
توسط الخبر وجوبًا
91
المبحث الثالث: التضام
93
التضام الإيجابي
93
التضام السلبي
95
المبحث الرابع: ليس عند البهاء
99
حذف خبر ليس وبقاء اسمها
102
توسط الخبر بين الناسخ واسمه في غير مواضع التوسط
103
المبحث الخامس: ظواهر نحوية في أفعال المقاربة والرجاء والشروع
105
توسط الخبر في مواضع لا يجوز فيها التوسط
105
دخول أن على خبر كاد
106
(عسى) في ديوان البهاء
107
المبحث السادس: ظواهر نحوية في إن وأخواتها
114
وقوع المصدر خبرًا عن إن واسمها اسم ذات
114
وقوع خبر إن جملة واسمها اسم ذات
114
ترك المطابقة بين اسم إن وخبرها
115
حذف اللام من خبر إن المؤكدة
115
عود الضمير مفهوم من الفعل السابق
115
حذف الخبر من إن وكأن ولكن
116
نتائج البحث في الجملة الاسمية
119
الباب الثاني: الجملة الفعلية
121
الفصل الأول: العناصر الأساسية للجملة الفعلية
122
المبحث الأول: الإسناد
123
الأنماط التي أتت عليها الجملة الفعلية المبنية للفاعل
125
ورود الفاعل نكرة
128
الأنماط التي أتت عليها الجملة الفعلية المبنية لغير الفاعل
130
المبحث الثاني: الرتبة
133
صور الرتبة كما وردت في الديوان
134
تقدم الفاعل على المفعول وجوبًا
134
تقدم المفعول على الفاعل جوازًا
136
تقدم المفعول على الفاعل وجوبًا
137
تقدم المفعول على الفعل والفاعل معًا
139
تقدم المفعول على الفعل والفاعل وجوبًا
139
المبحث الثالث: المطابقة
141
أولاً: التطابق النوعي
141
التطابق الواجب
141
التطابق الجائز
143
ثانيًا: التطابق العددي
147
المبحث الرابع: التضام
149
حذف الفعل جوازًا
149
حذف الفعل وجوبًا
151
حذف الفاعل جوازًا
152
وقوع الفاعل جملة
157
مسائل حذف الفاعل وجوبًا
159
حذف الفعل والفاعل معًا
161
ظاهرة اللف والنشر
163
الفصل الثاني: مكملات جملة الإسناد في الجملة الفعلية
165
المبحث الأول: ظواهر نحوية في المفاعيل
166
مجيء المفعول المطلق من فعل نصب نائبًا عن المفعول المطلق في بيت سابق
166
حذف عامل المفعول المطلق وإنابة المصدر منابه
167
تقدم المفعول المطلق على عامله
167
تقدم المفعول له على عامله
168
المبحث الثاني: الحال
170
مسائل مجيء الحال جامدة
170
مجيء الحال مصدرًا
172
مجيء الحال عمدة
173
مجيء الحال معرفة
175
مجيء الحال جملة
176
مجيء الحال جملة استفهامية
176
الرابط في جملة الحال
177
العامل في الحال
178
رتبة الحال مع صاحبها
180
الذكر والحذف في باب الحال
182
حذف عامل الحال جوازًا
183
حذف عامل الحال وجوبًا
183
نتائج البحث في الجملة الفعلية
185
الباب الثالث: اللغة والتركيب عند الشاعر
187
الفصل الأول: اللغة عند الشاعر
188
المبحث الأول: مصادر الشاعر اللغوية
189
استخدام الموروث
189
الموروث الدِّيني
189
أولاً: القرآن الكريم
189
ثانيًا: الحديث النبوي الشريف
191
الموروث الأدبي
192
أولاً: استخدام الشعر
192
ثانيًا: استخدام الشخصية
194
الموروث التاريخي
196
استخدام الأمثال
197
العامية وأثرها في لغة البهاء زهير
198
المبحث الثاني: أغراض الشعر وأثرها في بناء الجملة عند البهاء
201
أولاً: غرض المديح
201
ثانيًا: غرض الوصف
203
ثالثًا: غرض الرثاء
205
رابعًا: غرض الهجاء
207
خامسًا: غرض الغزل
208
الفصل الثاني: التركيب لدى البهاء
212
المبحث الأول: ترابط التركيب داخلَ القصيدة
213
المبحث الثاني: مخالفات الشاعر في التركيب
221
مخالفات البهاء في التضام والربط
221
مخالفات البهاء في التضام بين النعت والمنعوت
223
تقدُّم النعت على المنعوت
224
مخالفات البهاء في الجملة الواقعة نعتًا
225
مخالفات البهاء في العلامة الإعرابية
226
المخالفة في الضمير وفي ترابُط التركيب وترتيبه
228
نتائج البحث في اللغة والتركيب عندَ الشاعر
230
الخاتمة وما تُوصي به الدراسة
232
فهرس المصادر والمراجع
235
فهرس المحتويات
254

[1] "بناء الجملة العربية"، د. محمد حماسة عبداللطيف، (ص: 18).
[2] "كتاب سيبويه"، تحقيق: أ/ عبدالسلام هارون، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، (1/23).
[3] السابق، (1/122).
[4] "الخصائص"، لابن جني، (1/20)، تحقيق: أ/ محمد علي النجار، الهيئة المصرية للكتاب، 1986م.
[5] "بناء الجملة العربية"، (ص: 19).
[6] "الخصائص"، (1/20).
[7] "المفصل"، للزمخشري أبي القاسم محمود بن عمر، (ص: 6)، وانظر: "اللباب في علل الإعراب"، لأبي البقاء محب الدين بن عبدالله، (ص: 42)، تحقيق: غازي مختار طليمات، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، 1995م، واختاره العكبري، انظر: "مسائل خلافية في النحو"، (ص: 35، 37)، تحقيق: محمد خير الحلواني، دار الشرق العربي بيروت، الطبعة الأولى، 1992م.
[8] "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب"، لابن هشام، (ص: 490)، حققه وعلق عليه: د/ مازن المبارك، محمد علي حمد الله، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1412هـ - 1992م، وانظر: "الإعراب عن قواعد الإعراب"، لابن هشام، (ص: 17)، تحقيق: د/ أحمد محمد عبدالدايم، مكتبة الزهراء 1995م؛ حيثُ قال: "الجملة أعم من الكلام، فكل كلام جملة ولا ينعكس"، وانظر: "موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب"، (ص31، 32)، الشيخ خالد الأزهري، تحقيق: د/ عبدالكريم مجاهد، مؤسسة الرِّسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1996م.
[9] "مغني اللبيب"، (ص: 490).
[10] "همع الهوامع"، (1/12)، الطبعة الأولى، 1327هـ، عُني بتصحيحه محمد بدر النعساني.
[11] "شرح الرضي على الكافية"، (1/33)، تصحيح وتعليق: يوسف حسن عمر، منشورات مؤسسة الصادق، طهران، 1398هـ - 1978م.
[12] السابق نفسه.
[13] "المفصل"، (ص: 6).
[14] "شرح المفصل"، لابن يعيش، (1/20)، مكتبة المتنبي، القاهرة.
[15] السابق (1/21).
[16] "الخصائص"، (1/20).
[17] "شرح شذور الذهب"، (ص: 27)، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، المكتبة العصرية، بيروت، 1995م.
[18] "أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك"، (ص: 12)، منشورات المكتبة العصرية، بيروت.
[19] "شرح شذور الذهب"، (ص: 27).
[20] انظر: ابن عقيل، (1/14)، و"شرح الكافية"، للرضي (1/33)، و"مغني اللبيب"، (ص: 490)، و"حاشية الصبان على الأشموني"، (1/58)، و"تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد"، لابن مالك، (ص: 3)، و"اللمع"، لابن جني، (ص: 73)، وقد لخص ابن هشام المصري في رسالة "المباحث المرضية" هذا الخلاف، (ص: 49 - 66)، تحقيق د/مازن المبارك، دار ابن كثير، دمشق، الطبعة الأولى، 1987م.
[21] "شرح شذور الذهب"، لابن هشام، (ص: 32).
[22] السابق نفسه.
[23] انظر: "المقتضب"، (ص: 492 د)، (4/128)، تحقيق: محمد عبدالخالق عضيمة، الطبعة الثانية، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة 1399هـ، وانظر: "مغني اللبيب"، (ص491) يقول ابن هشام: "أي: كونه مسندًا أو مسندًا إليه"، فلا عبرة بما تقدم عليه من حروف"؛ "مغني اللبيب"، (ص: 492).
[24] "مغني اللبيب"، (ص: 492).
[25]"المفصل في صنعة الإعراب"، (ص: 44).
[26] "مغني اللبيب"، (ص: 497)، وانظر: "موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب"، (ص: 34).
[27] "دارسات نقدية في النحو العربي"، (ص: 125) د/ عبدالرحمن أيوب، مكتبة الأنجلو المصرية، 1975م.
[28] وقد يرجع ذلك إلى تأثُّر اللغويين المحدثين ببعض المدارس الغربيَّة، فقد نقل بعض الباحثين بعض تعريفات اللغويين الغربيين للجملة دون أنْ يشير إلى كونها تعريفات للجملة الإنجليزية، انظر مثلاً: "النحو العربي والدرس الحديث"، د/ عبده الراجحي، دار النهضة الحديثة، بيروت، 1979م، (ص: 35)، وانظر: "نحو النص: اتجاه جديد في الدرس النحوي"، (ص: 56 وما بعدها)، د/ محمد عفيفي، مكتبة زهراء الشرق، الطبعة الأولى، 2001م.
[29] "أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة"، (ص: 286)، د/ نايف خرما، وانظر: "بلاغة النص: مدخل نظري ودراسة تطبيقية"، د/ جميل عبدالمجيد، (ص: 7 - 8)، دار غريب للطباعة والنشر.
[30] "النحو الوافي"، للأستاذ عباس حسن، (1/15)، الطبعة العاشرة، دار المعارف.
[31] السابق نفسه.
[32] "دارسات نقدية في النحو العربي"، (ص: 3).
[33] السابق، (ص: 125).
[34] السابق، (ص: 126).
[35] "اللغة العربية معناها ومبناها"، د/ تمام حسن، (ص: 31 وما بعدها)، الهيئة العامة للكتاب.
[36] السابق نفسه.
[37] "من أسرار اللغة"، د/ إبراهيم أنيس، (ص: 276، 277) الطبعة السابعة، مكتبة الأنجلو.
[38] السابق، (ص: 277).
[39] "النحو الوافي"، (1/17).
[40] راجع هذا البحث، (ص: 19).
[41] "إحياء النحو العربي"، د/ إبراهيم مصطفى، (ص: 142)، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1917م.
[42] "دراسات نقدية في النحو العربي"، (ص: 129).
[43] هو نفس تقسيم الدكتور أيوب، ولكنه زاد عليه بعض التفصيل.
[44] "قرينة العلامة الإعرابية في الجملة بين النحاة القدماء والدارسين المحدثين"، (ص: 66)، رسالة دكتوراه، دار العلوم، 1396هـ - 1976م.
[45] السابق، (ص: 63).
[46] السابق، (ص: 68).
[47] السابق، (ص: 85 - 86).











رد مع اقتباس
قديم 2013-09-06, 13:38   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
leprence30
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي سحر الشعر في أفق السرد

سحر الشعر في أفق السرد
قراءة في مجموعة "عكارة الجسد"

مع الحداثة وبعدها تلاقحت الفنونُ الأدبية، وسقطت الأسجية الفاصلة بينها، فظهرت نصوصٌ إبداعية تنتمي لنوع بعينه، لكنها تتواشج وتقنياتِ نوع آخر؛ ذلك أن "الأنواع الأدبية مفاهيم مرنة متطورة، بمعنى أنها تتطور من عصر إلى عصر، ومن فترة إلى فترة، ومن مدرسة إلى مدرسة، ومن كاتب إلى كاتب، كل عمل جديد - خاصة إذا كان عملاً أصيلاً - يضيف إلى النوع، وكل كاتب متميز يغيِّر من طبيعة النوع، ومن ناحية أخرى، يدخل النوع الأدبي في علاقات متبادلة مع الأنواع والفنون المجاورة وغير المجاورة، ويستعير منها تقنيات وموضوعات جديدة تغيِّر من طبيعته"[1]، فتداخَلَ النثر والشعر حتى أصبحت "الحدود التي تفصل بينهما شديدة المراوغة"، بل أصبحت "أقل استقرارًا من الحدود الإدارية للصين" بتعبير جاكبسون[2]، حتى إن " تودوروف" وصَل أبعد من ذلك حين عد الرواية قصيدة القصائد، أو هي امتزاج الأنواع الأدبية[3].

وقد حدث هذا التداخُل في أدبنا في نهاية الستينيات، فلقد "شهدت وعيًا لدى الكتَّاب في إعطاء دفقة شاعرية لِلُغتهم، من خلال وعيهم بأن تداخُلَ الأجناس بين الشعر والنثر، قد يفيد لغة النثر في إعطائها دفقة شعرية بإدخال لغة الشعر إليها، وخصوصًا أن معظم هؤلاء الكتَّاب يمتلكون تلك الخاصية"[4].

إن الشعر حينما يتمازج مع النثر لا يعني على الإطلاق مجرد إحداث تشكيلات جمالية ترتقي بلغة النص، وتضفي عليه شيئًا من زخم الشعر وألقه، الغايةُ أو المقصد من تعمق التمفصل المزدوج بين السردي والشعري أن يكونَ للشعري داخل النثري "فاعلية نصية ورُؤيوية معًا، يحرِّر النص من الواقعية المباشرة، ويحرر اللغة من النثرية التقريرية، ويحرر خيال الكاتب من النماذج القبلية، كما يحرر اللغة من جهازية التلقي"[5].

وإذا كان الشعر يعتمد على جمالية الكلمات لتفجير طاقاته الشعرية؛ فيعِجُّ بالانزياحات والانحرافات وفوضى الحواس فضلاً عن إيقاعه، فإن شعرية لغة النثر يضاف إليها أمر خاص بطبيعة الجنس السردي خاصة يَزيدها ألقًا على ألقها إذا انضافت شعريةُ الأشياء إلى شعرية اللغة، وذلك عبر الأسطوري أو العجائبي، فترتفع اللغة عن حيز الواقع، لتحلِّق في سموات الخيال بلا حدود؛ لتكون جديرة بالتعبير عن ذلك الأسطوري أو العجائبي اللامحدود، وفي ذلك يقول "جون كوين": "إنه يمكن التعبير عن حدث أسطوري في لغة شعرية، ويتم بذلك تجميعُ مصدرين مختلفين في عمل جمالي واحد"[6]، هذا التصور يتعلق بالسرد إجمالاً، لكنه يغدو أكثرَ وضوحًا في القصة القصيرة عنه في الرواية؛ إذ الأولى لغلبة سمة الإيجاز والتركيز عليها - سواء في العناصر القصصية، أو العنصر اللغوي - سمحتْ بتقاربِها أو امتياحها من عناصر الشعر كما صرح بذلك الدكتور "الطاهر أحمد مكي"، مقررًا أن القصة القصيرة هي "أقرب ألوان النثر من الشعر، وفيها الكثير من خصائصه برغم ما يبدو بينهما من بُعْدٍ للوهلة الأولى، يجمع بينهما أن عمادَ كل منهما التكثيف والتوتر والتلاحم العاطفي والجمالي"[7]، ويرى د. "عبدالرحيم الكردي" المعنى ذاته مركزًا على الصورة كأهم خصائص اللغة الشعرية التي تشارك فيها القصةُ الشعرَ، يقول: "إن القصة القصيرة تشترك مع الشعر والصورة الكلامية في عنصر التصوير"[8].

واللغة الشعرية للسرد تتجلى في الانزياح بقسميه: استبدالي وسياقي؛ أما الانزياح السياقي - كالحذف والتقديم والتأخير - فعلى الرغم من كونه لفظيًّا فإن له أثرَه الواضح في الدلالة، فضلاً عن الإيقاع بالطبع إذا اطرد بشكل تراتبي، وأما الانزياح الاستبدالي - من استعارة ومجازٍ وتشبيه - فعليه العامل الأكبر في شعرية اللغة، ويقصد بفاعليتِه أن يكون فاعلاً - بحق - في دلالة النص وإنتاجه، ولا يقصد به أن يكون "نصًّا سرديًّا نثريًّا مزخرفًا بالشعر، ولا قصة يتضمن أسلوبها صورًا شعرية، وبمعنى آخر: ليس المراد سردًا نثرًا يبث الشعر في جُمَلِه في شكل صور بلاغية، ما نعنيه هو نص قائم على السرد (مستوى أفقي)، وعبر معمار النص (مستوى عمودي)" [9]، وعلى هذا؛ فلا يعتمد السرديُّ الشعري على صور جزئية تتخلَّله، تُشبِه الصور الكلامية المبثوثة في الشعر والنثر على حد سواء، دون تأثير كلي في النص الأصغر (القصة)، أو النص الأكبر (المجموعة).

ويدخل في الشعرية اللازماتُ اللفظية، باعتبارِها قد تمثِّلُ مفاتيحَ لقراءة النص، وكذا اختفاء أدوات الربط والتَّكرار اللغوي.

والشعرية - إجمالاً لغوية أو سردية - لا يمكنُ أن تغفل العتبات؛ لأنها تغيِّر قراءةَ النصوص - بتعبير جينت - وعلى هذا ستسير هذه القراءة الموجزة لمجموعة "عكارة الجسد" وفق ما يلي:
1- حوار العتبات.
2- الصورة.
3- الإيقاع.

1- حوار العتبات:
"عكارة الجسد" عنوان لمجموعة سيطر على لغتِها طابعُ الشعرية، ولعل العنوان في غرابتِهِ وشحنته المجازية يتقاطعُ ومعظمَ نصوص المجموعة فيُنيرها دون أن يوجهنا؛ فالعكارة عند ابن منظور "العكر: دُرْدِيُّ كل شيء، وعكرُ الماءِ والشراب والدهن: آخره وخاثره، وقد عكر، وشراب عكر، وعَكِرَ الماء والنبيذ عكرًا: إذا كَدِر، وعَكَّره وأعْكَره: جعل فيه العَكَر"[10].

فالعنوان يتجاذبُهُ عنصران: التنكير والإضافة؛ فـ: "العكارة" خرجت من قدرها التنكيري بالإضافة إلى الجسد المعرَّف، الذي أزف بدخولها عالم المجاز، فليس الجسد مما يصيبه الكدرُ حقيقة، ويتركنا العنوان الموجز نجترُّ معناه ونحاول تأويله، هل الكدر أصاب الأعضاء الحسية ففقَدت كفاءتَها عبر المَرَض الجسدي، أو هي عكارة الروح التي يمثل الجسد وعاءً حاويًا لها، ينقى بنقائِها، ويصيبه الكدر بتلوثها وفَقْدِها البراءة؟ وهذا المعنى هو الراجح؛ لِما له ما يعضده في أكثر من نص، يقول القاص في "ضفيرة من قش": "ضاع مني، ووجدتني جسدًا، جسدًا ثقيلاً، تعصف به الريح"، "وبينما أنا أجسد ملقى تفوح له رائحة"[11]، وفي "عكارة الجسد" يقول: "لا بد أن أصل إليها، تلك الروح الغارقة في بئر الجسد الغويط"، "فليُبْحِرْ إلى تلك الروح الغارقة في بئر الجسد الغويط"[12].

والنماذج الدالة على ذلك كثيرةٌ في النص كله مباشِرة كالسابقة، أو عبر الرمز كما في "إنسان الطير"؛ إذ جاءت الشخصية في هيئة نصف إنسان ونصف طير، له جَناحان ومخالب وذيل ورِجْل طائر ووجه إنسان، صعِد إلى السماء بعد محاولة رشوته؛ فالطائر رمز صوفي للروح، وصعوده للسماء تَرَقٍّ، ولعلنا نشير إلى صيغة المصدر بما لها من مبالغة عن فعلها في إضافتها إلى المفرد المعرَّف دون الجمع، فالجسد المقصود هو جنس الجسد البشري كافة، وكأنه قصد تأملات في تلوث هذا الجنس عبر حِقب الزمن الذي يتراءى بقوة في النصوص، ليبدو مُلحًّا، ومضنيًا للذات الساردة، مهما اختلف ضمير السرد.

لوحة الغلاف:
لوحة غريبة بقدر غرابة العنوان وبعض شخصيات السرد، فهي تتشكَّل من تداخل صور بشرية أربع: طفل مبتسم، ثم صياد يجذب شبكته، وأدنى منهما صورة خلفية لرجُلٍ متهدل الكتفين يسير نحو الشاطئ، ومَقطع للجزء الأسفل من وجه شيخ يبدو ساكنًا مزموم الشفتين، كل هذا على خلفية من بحر يملأ الغلاف، فالتداخل بين الصور الأربع ثابت وواضح، فيه صفاء لون الماء في أعلى اللوحة، فهو البحر دال الأخطار والسفر، والصور الأربع لطفل مبتسم، وشاب يشد رزقه من بين براثن الموج، وآخر يقف بعيدًا عن معترك المحاولة، والرابع يبدو مسجى لا قوة له، فكأنها مراحل حياة الإنسان أو الجسد البشري مع الحياة، يبدأ كصورة الطفل مبتسمًا، ثم يعود شيخًا يحمل الهموم والأدران، ولعل اختلاط الصورة وتداخلها عبر ما يشبه المونتاج - فالصور مركبة على بعضها البعض - يذكِّر بدلالة "عكر" اللغوية في اختلاط الشيء بغيره، "واعتكروا في الحرب: اختلطوا، واعتكر العسكر: رجع بعضه على بعض، فلم يقدر على عده، واعتكر الليل: اشتدَّ سَوَادُه واختلط والتبس..." [13]، فهل يقصد أن الأرواح البشرية اختلطت وتداخلت وخالطها غيرها؟ فقد توافق المفتتح الأول المتناصُّ مع كثير من النصوص دلاليًّا مع لوحة الغلاف، ثم يأتي النص ليؤكد هذا أو يغيِّره كما سنرى.

الإهداء
جاء الإهداء موجزًا مكثفًا ممهورًا بحروف اسم الكاتب الأولى:
"إلى قطة لَمَّا تَزَلْ تموء ص. ع"[14].

القطة دال أو علامة على الروح، تتصل بمعنى امتداد الرُّوح عبر الشعبي المؤيد بالطبيعة البيولوجية لهذا الحيوان، الجامع بين تناقضات تمثِّل مفارقة دلالية تمتد لتشمل كثيرًا من نصوص المجموعة، فهي تجمع بين القوة والضعف، الشراسة والحنو، الفناء وإمكانية تعدُّد الأرواح باعتبار الشعبي المشير إلى مرونتِها الجسدية، فعلى الرغم من الانتماء إلى فصيلة مفترسة في الأصل، فهي أشهر وأودعُ الحيوانات الأليفة، فهل تشبه الروح في صفائها وكدرها؟ وقيل: إن القطةَ رمز للخير والحرية والاستقلال لدى القدماء المصريين، فما زالت تلك المعاني موجودة تصطرع اصطراعها في النصوص.

أما عن عتبات القصص، فهي قصيرة في مجملِها، تتراوح بين كلمة واحدة، مُسنَد حُذف منه المسنَد إليه أو العكس، أو كلمتين، وندر ما زاد عن ذلك، بعضها غلب عليه المجاز أو المفارقة؛ كما في: "إنسان الطير"، "عكارة الجسد"، "أسود وأبيض"، "حبة العنب اللحمية"، أو كان شديد الواقعية؛ كـ: "مطر"، "جبروت"، "تلك الآلات"، "هو"، "الحرب"، منها ما دل على الشخصيات الغريبة: "إنسان الطير"، و"القطط كلها سوداء"، "تمثال"، أو ما دل على الشخصية مطلقًا؛ كـ: "رجل"، "هو"، وأكثرها أشار إلى الحدث، وهذه وتلك تشتركُ في تبئير ثنائية الروح وما يتصل بها، والجسد وما يتعلق به.

2- الصورة:
حينما نتطرَّق لِلُغة القص لا يعني مقاربتها مبتورة عن التيمة التي تقدِّمها، والعناصر الفنية والتكنيكات التي تشكلها، فكلها عناصر تتكامل وتتآزر لتشكل انطباعًا واحدًا، ومن ثم يُعَدُّ بترًا وعيبًا اجتزازُ أي منها وإفرادُه بالقراءة، ويقصد بالصورة هنا الصورة الكلية التي تشكل عناصر البناء المشكلة للتيمة، ولغة الوصف عبرها تمثل "صورة تجسيدية ممتدة، تتراص فيها المشاهد والصور القصصية لتكون النسيج الكلي للقصة الذي هو الصورة الكلية نفسها"[15]، فنجد القصة كلها لوحة واحدة/ صورة تجسد فكرةً ما في شكل الوصف المسرود، لا عبر التوقف الزمني؛ أي: الوصف الخالص الذي لا تحتملُه القصةُ القصيرة، فهي تلتقط أو تقدم عبر آنيَّة الحدث وجَرَيانه، من ذلك قصة "ضفيرة من قش" التي تشخص أو تجسِّد فكرة الإرادة الإنسانية أو الحرية عبر صورة حسية كلية، متخِذةً من الحلم والعجائبي إطارًا لها، فتبدأ القصة بصراخ: "صاح: لا، إنه لا زال حيًّا، لا زال يتنفس في رأسي، يصخب.. يصرخ... يعترض.. يلعب.. إنه الذي منذ الصِّغَر لم يحب وإنما انطلق، انطلق إلى الخلاء، يعانق الريح والمطر، هو الذي ألقى بجسده إلى النهر - البحر - وهو بعد لم يتعلم العوم.. فعلَّمه النهر - البحر - العوم، علمه كيف يكون نهرًا.. بحرًا.. وهو الذي صادف الأشجار ونادى عليها بأسمائها.. فطأطأت هاماتها له.. فكان عشه - هناك - في الأعالي.." [16].

إنها صورة لإرادة الإنسان الفطرية أو الحرية أو الذات الإيجابية - التي هي أصل الخير المطلق - كما يرى الصوفيون - تصطف بها الصورُ الجزئية التي تشكِّل كليتها لتصور المعنوي حيًّا يمارس الحياة بكل عنفوانها، بل إنه يفُوق الأحياء ويتعدَّاهم إلى حيث لا تبقى المقارنة أو الشَّبه قائمًا، تكتمل الصورة بمعابثة المعنوي/ الإيجابي لآليات العصر، فيصطدم بقطار ثم يخرج حيًّا، ويستمر الوصف الحركي عبر آليَّة الحدث ذي الإيقاع السريع الموافق إيقاعَ الحياة، الذات الإيجابية تنفخ في الذات السلبية آيات المغامرة والإقدام، ثم ينقطع الخيط، ويصحو الأخير مفزوعًا من حُلمه، و"صحوت من نومي"، فقد وظَّف الكاتبُ الحُلم المباشر ليستوعب تجسيد فكرته، وينطلق بها إلى حيز الإمكان، إن "ضفيرة القش" التي ربطت بدلاً من جنزير "الدراجة" هي علامة ميلاد الإرادة أو الحرية أو الذات الإيجابية من بساطة اللاممكن، وفي نهاية الحُلم يبقى الجسد مكانه، وضفيرة القش في يده، آية عجزه وآية إمكانه في آنٍ، الكاتب استعان في تجسيد تلك الصورة الكلية بجزئيات حملت الفكرة/ علامة الإرادة أو الإيجابية إلى حيز الوجود الفعلي المضمخ برائحة الزمن الممتد والملح عبر كل نصوص المجموعة "لألف عام شدني وراءه.. لألف ألف منذ بدء الخليقة وهو يشدني وراءه.. يقودني.. يعلِّمني.. يحرِّضني"[17].

المكان امتداد لدرامية الصورة في الخوف الكابوسي من موت الإرادة أو الحرية أو الذات الإيجابية، المفترض أنه كون الإنسان الأول - كما يقول باشلار - يتحول هذا الكون إلى قبر وسجن، فيؤكد عمومية التجرِبة الإنسانية مما يذكر بالمفتتح الأول "الجسد" جنس الإنسان المطلَق، فاستحال الكونُ بفَقْد أحد أركانه/ الروح قبرًا أو سجنًا.

فقد استطاع الكاتب عبر شعرية اللغة وحركيتها أن يعبرَ عن مدى حركية الإرادة أو الحرية؛ فهي تنطلق وتصخب وتصرخ وتعترض وتلعب، تعوم في النهر، تصادق الأشجار، تنادي عليها، تلاعب العصافير، وفي "عكارة الجسد" يقدم صورة للصراع بين الجسد بجِبلَّته الطينية، والروحِ بنقائها الفطري، فيصور رحلة للبحث عن الروح الغارقة في بئر الجسد، رحلة تنتهي بنهاية الجسد والروح معًا، الرحلة تتحول لصراع عنيف بين الجسد والروح، رغبة أو موقفًا شعوريًّا في النقاء، في التخلص من الأكدار التي حاقت ببدن الإنسان، جاء في المفتتح: "وكان عليه أن يصل إليها، تلك الروح الغارقة في بئر الجسد الغويط - عصفوره الذي كان، والذي ظل يزقزق لألف عام، عليه - الآن - أن يجهِّز سفينته ومجاديفه.. وأن يبحرَ إلى تلك الرُّوح يمسح عليها.. يربت عليها.. يأخذها إلى الشمس والهواء.. يغسلها بالماء والبرد.. يرفعها على امتداد ذراعه كما كان يفعل.. لتعلوه وتزقزق وتفرح من جديد"[18].

القصة تبدأ بضمير الغائب الذي يلتفت منه إلى المتكلم عبر مناجاة أسيانة في منتصفها، هذا الالتفات مؤذِنٌ بأن الغائب هو عين المتكلم، مطلق الإنسان الملوث بأدران المدنية؛ فالأسلوب واحد، واللغة في مناجياتها وإنشائيتها تؤذِن بذلك، فضلاً عن توظيف هذا الالتفات ليَشِيَ بأن الأنا انفصل عن أناه - الروح / الجسد - ليصير الآخر، وجدير بذلك أن يخاطب على أنه سيصبح هو هو، يقول: "عليه أن يأخذَه ليصبح هو.. هو"؛ فالهم الشعوري والموقف واحد، والتناص الديني يؤكِّد على الطقس التطهيري للجسد، وتعدد المكان ها هنا بين المدينة والقرية؛ ليعيد ثنائية القرية / المدينة، البراءة / التلوث "فليخرج به - الجسد - من هذه المدينة القاسية في ليلها السديمي، ليأخذ هذا الجسد معه، ينزعه عن تلك المدينة.. يخرج به من بين أحيائها الأموات.. الجثث المرصوصة الميتة.. السادرة في موتها.." [19].

والغريب بادٍ في تشكيل شخصيات القصة التي قدمتْها الصورةُ، فذاتُ الشخصية تنشطر إلى هو / هو؛ روح وجسد، روح توشك على الأفول، وجسد أثقلتْه الأكاذيب، فعليه أن يجرَّ هذا الجسد جرًّا إلى قريته / علامة الفطرة والنقاء؛ ليغسله في البحر/ علامة التطهير لتبرأ من أدرانها، ولا تقفُ الغرابة عند حد تصوير الشخصية المنشطرة، بل يتعدى ذلك إلى عجائبية الحدث التي كنَّت عن صعوبة طقوس التطهير " أيها البحر، ابتلع جسدي.. فَتِّتْه.. مزِّق أعضائي.. لتذوب مثل قطعة السكر.. أعِدْني إلى أبي في اشتياق إليه.. والموج معاول.. معاول تهوي على الجسد.. تفكِّك أعضاءه.. تضرب.. تضرب.. فينفك ذراع.. تضرب.. تضرب.. وذراع.. تضرب.. تضرب ولا روح.. عكارة.. ليس غير عكارة تضطرب"[20].

إن العنصر الزمنيَّ غير محدد الفترة، لكنه يلح بلازمة تتكرر في كل القصص تقريبًا "ألف عام"؛ إشارة لعمومية الزمن، وكذا الشخصيات في كل، فهي مطلق الإنسان في العصر الحديث كله، فلما "كان الإنسان هو ضحية التتابع الزمني والتغيير، كان للزمن والمكان دَلالةٌ فنية في تيمات القصة القصيرة المعاصرة، فأصبح السؤال عن ماهية الإنسان، إنما هو سؤال عن ماهية الزمن"[21]؛ ولذا استخدم النعت[22] ليعبر عن نتائج هذا التتابع "في ليل سديمي، الليل السديمي يتكاثف، في ليلها السديمي، ليل المدينة السديمى، والليالي تتساقط".

فالصورة الكلية في القصة وردت عبر التتابع التكراري، الذي قدم تيمة واحدة في صورتين مختلفين، جسَّدتَا المعنوي / الروح، وما يتعلق به في مقابل الجسد، والإلحاح على تقدم الزمن والدخول إلى الحضارة بعيدًا عن الفطرة المُذْكية لعنصر الروح على حساب الجسد؛ فالعلاقة بينهما طردية، كلما تقدم الزمن قلَّت الروحانية، وتعكَّر الجسد، وزادتْ خطاياه، والتصق بأصل جبلَّته الأرضية، ليس ذلك رؤيةً فلسفية خالصة يطرحها النص؛ وإنما هي قراءةٌ للواقع الحياتي المنغمس في الحسيات.

وفي نص "مطر" يقدم صورة للرغبة في الحياة والتطهير عبر عدة علامات، محددًا الزمنَ الليلَ، والمكان الأرض، "وينفلت في الليل لحظة المطر.. كسهم ينفلت.. عاريًا جموحًا.. تضرب ساقاه في الطين.. عيناه مفتوحتان.. مغمضتان.. وذراعاه ممدودتان.. ويشهق لحظة المطر.. يمد يديه يغترف.. اشرب.. الأرض تشرب.. والشجر يشرب، والزهر يشرب.. والدود"[23].

فالمطر: علامة الحياة أو الإحياء، التي يجسد فعلها على طالبها وكل الموجودات من خلال صورة كلية كثيفة شديدة الإيجاز، فلا يجاوز النصُّ الصفحةَ وبعض الصفحة، ويستمر طقس الإحياء بعد الموات، فالأرض تجرع الحياة وتتنفس، ويحتضن الباحث عن الحياة جسد الأرض يختلط بها، ثم ترتفع الأرض به لتلامس السماء، والارتفاع إلى السماء تطهير؛ فالسماء دال الروح، والأرض دال الجِبلَّة الطينية، فطقس الإحياء مع التطهير ارتقى بالأرضي إلى سمات السماوي، وقد اعتمد النص - إلى جوار التكثيف والاستعارات النابضة - على المفارقة التي هي جديرة بإبراز المتناقضات، فالبشري متيقظ لآليات الحياة، وغافل عنها في آن، "عيناه مفتوحتان.. مغمضتان"، "والزهر يشرب.. والدود يشرب"، فالحياة للجميع، والأرضي يلامس السماء "يمضي إلى باطن الأرض.. ويحس بجسد الأرض يرتفع.. يحمله في باطنه، ويرتفع، وتلامس السماء"، فالمفارقات على ضديتها تشكل آية التمازج مع الاختلاف، فالرؤية البصرية والقلبية متناقضتان في الفعل والحقيقة، متماثلتان في التعاور على الواحد، والزهر والدود متناقضتان في أصل أثر الصورة ووقعها على الشعور والبصر، لكنها تنتمي لجنس واحد؛ عالم الأحياء، والأرض والسماء متقابلتان في أصل وجودهما المكاني والعلاماتي، لكنهما يتكاملان في أصل تكوين الجنس البشري باعتبار الرمز الروح/ الجسد.

فالنص يبدو دراميًّا، ذو بداية ووسط ونهاية استراحت عندها نفسُ المتلقِّي بعد صخَب الحدث وآلية الاستمرار والتجدد عبر الأفعال المضارعة، وتوالي الصور الجزئية الاستعارية، مشكلاً نصًّا نثريًّا أشد قربًا من الشعر "ويسمع جسد الأرض يجرع.. يتنفس.. تسري الدماء في أوصاله.. ويحس بجسد الأرض يتحرك.. ويسمع تنهيدة الأرض.." [24].

والشخصيات في النصوص الثلاثة تناولت الغريب أو الرمز؛ ففي "عكارة الجسد" كان الجسد والرُّوح في صراعهما بطَلَيِ القصة، وفي "ضفيرة القش" الروح والجسد أيضًا، وضفيرة القش في دلالتها الرمزية، وأما في "مطر" فتعددت الشخصيات على الرغم من توحُّدها، وتناقضت بين بشر وزهر ودود، وأرض وسماء.

وقد غلب على القصص الثلاث سمةُ التعميم، فانتقل من الخاص المتعلق بشخصيات القصص إلى الإنساني العام، وهي سمة من سمات الغنائية[25]، وكذا الالتفات من ضمير الغائب إلى المتكلم في القصتين الأولى والثانية، والمناجاة في الثالثة.

الإيقاع:
ليس قصرًا على الشعر، بل هو في النثر كما الشعر، وإذا كان النوع قصًّا قصيرًا، فهو أكثر حضورًا، بل ربما أدخَلُ في بنية النص، والمراد بالإيقاع كل ما يتعلق بالجملة مسهمًا في تصوير الحدث، ورسم الصورة الكلية للنص، فيشمل المستوى الصوتي؛ كالتكرار واللازماتِ والجناس، وكذلك المستوى الدلالي؛ كالطباق والمقابلة والتوازي وحذف الروابط والتناص، كل ذلك كفيلٌ بإحداث تيار إيقاعي عبر التنقلات الحدَثية، ولا يغفل دور التشكيل البصري داخل النص، أو الإيقاع البصري داخل النصوص.

التكرار:
يرى بعض النقاد أن تكرار بعض الأحداث اللغوية أو بعض البنيات في النص يشبه تكرارَ الألوان في الفن التشكيلي، وهي الطريقة نفسها التي يدرك بها الشعر؛ حيث تصبح الأصواتُ والكلمات مثل الألوان الزيتية [26]، ويأتي التكرارُ في المجموعة على مستوى نص واحد أو عدة نصوص، فمن الأول كلمة "خصوصياتي" في القصة الحاملة للاسم ذاته؛ إذ تتكرر ست عشرة مرة في النص؛ لتفرغ حمولة إيقاعية تطرز جسد النص، ثم أخرى دلالية تشكل علاميته؛ فالخصوصيات علامة التفرد الإنساني أو الرُّوحي الذي تدنِّسه الحسيات، يستعين مع هذا التكرار بآلياتٍ كالتناصِّ الديني ليوضح دلالة العلامة "حجرتي وحدي.. بها خصوصياتي... لآخذه معي إلى حجرة مُغلَقة لا يدخلها إنس ولا جان".

التفاعل مع النص القرآني جعَل الحجرة تشبه كون الإنسان الأول في براءتِهِ وفطرته، يؤيد ذلك تناصٌّ ثانٍ مثَّل تحوُّل الحدث أو نموه صوب النهاية "وبدوت عاريًا؛ فأسرعتُ أُداري سوءتي"، فقد ارتكب خطيئة كخطيئة الإنسان الأول، ترتب عليها خروجُه من جنة تفرده إلى عالم البشر المحض / الجسد، "وأراني مبعثرًا.. تزحف فوقي الأقدام.. العربات.. الدواب.. الضحكات القميئة.. العتمة تغيبني.. تجعلني بشرًا".

ومن التكرار في "البلية الملونة" جملة تتكرر لتؤذِن بتقدُّم الحدث إلى فضاء مكاني مغاير "خذيني أيتها البلية الملونة إلى العالم، انطلقي بي أيتها البلية الملونة من هذه الحارة، انطلقي بي أيتها البلية الملونة إلى المدينة، اخرجي بي أيتها البلية الملونة من هذه البلاد، اخرجي بي أيتها البلية الملونة إلى عالم آخر، خذيني أيتها البلية إلى عالم الحُلم، أيتها البلية الملونة، أخرجيني من هذه الأحلام".

تتكرر العبارة بتراوح بن فعلين "خذيني واخرجيني"، ومع كلٍّ يتغير الفضاء، ويتكرَّر المرئي من فساد وظلم وقمع ونفاق، فيجعل هذه الجملة فاصلاً بين الفضاءات المكانية، وممثلاً لمكان آخرَ يبحثُ فيه الإنسان عن الروح، فيجد المادة سيطرت عليها[27].

ومن التكرار على مستوى عدة نصوص ما يشكل لازمة زمانية "ألف عام" وردت في أكثر من قصة؛ في: "خصوصياتي" و"ضفيرة القش"، و"البلية الملونة"، و"عكارة الجسد"، و"حبة العنب اللحمية"، و"الخضراوي"، و"مقتل الملك"، و"تحت الغطاء"، تلك اللازمة بتواترها في أكثرَ من قصة، وأكثر من مرة في القصة الواحدة أحيانًا - دال على رابط أو خيط واحد يجعل القصص تنتمي إلى مجموعات التيمة الواحدة على الرغم من كتابتها بين عامي 2003 - 2010، فاللازمة الزمنية في تحديدها ألف عام أو ألف ألف إنما عنى به التكثيرَ قاصدًا إلى تاريخ الإنسان؛ فالشخصيات خرجت من حيِّزِ التخصيص إلى التعميم، يؤكد هذا لازمة أخرى تكررت، وهي كلمة "جسد" الواردة معرَّفة في المفتتح الرئيس، فتتآزر اللازمتان لتؤذِنا أنَّا بإزاء تيمة ثنائية الجسد والروح، آية ذلك أن المجموعة ختمت بقصة قصيرة جدًّا معنونة بـ: "نهاية"، وهي تجمل تلك الدلالة "كانت الأيام تكر.. والسنون.. والدهور.. وهو جامد في مكانه لا يتحرك... يتوارى خَلْق.. ويبعث خَلْق.. وهو هو.. جامد في مكانه...".

السجع والتقابل:
يستخدم الكاتب السجع بقدر، لم يبدُ هاجسًا مهيمنًا إلا في النصوص التي حملت شِحنةً صوفية أو تناصًّا دينيًّا كما في "الخضراوي":
"خرج الخضراوي مقرورًا.
مشى الخضراوي في الليل وحيدًا".
"والخضراوي جلس لورده.. المصحف بين يديه.. والعين الدامعة عليه".
"في الأسفل الولد الأكبر يتطوح.
يا ألله.. بيت الخضراوي يترنح".
فالسجعُ مع المقابلة مثَّلا إيقاعًا مضمخًا بجو الحضرة والذِّكر.
وتأتي البنية التركيبية متقابلة لتُحدِثَ إيقاعًا آسرًا ودلالة تشترك في بناء الحدَث، جاء في "أسود وأبيض":
"ولما وجد نفسه أسود ضاق بسواده.
ولما وجد أقرانه بِيضًا ضاق ببياضِهم".
فجسد التقابلُ ثنائية الضياء والظلام الصوفية؛ لينطلق صوب طقوس التطهير.

ومن "الخضراوي" - لاحظ التناصَّ الديني ودلالته في اسم العلم -:
"في الدور الأعلى الولد الأصغر يتراقص.
في الأسفل الولد الأكبر يتطوح".
"الذِّكر على دقات الرَّقص،
الرقص على دقات الذِّكر".

التقابل يشير إلى ثنائية التطرف في الخير والشر الرامز لها ولدَا الخضراوي؛ تطرُّف في الدِّين، وتطرُّف في اللذات.

وفي "مطر" يستخدم التماثل التركيبي مع التكرار ليُحدِث توافقًا زمنيًّا يسهم في درامية الحدث:
"اشرب..
الأرض تشرب..
والشجر يشرب..
والزهر يشرب..
والدود
اشرب".
فالتماثل التركيبي مع المجاز جعل كل الكائنات سواءً في طقس الإحياء.

ومثله:
يسمع جسد الأرض يجرع..
يتنفس..
تسري الدماء في أوصاله..
ويحس بجسد الأرض يتحرك..
ويسمع تنهيدة الأرض..
ويحس بجسد الأرض يرتفع".

التكرار مع تشابه التركيب، واستخدام المجاز والرمزية الصوتية في تكرار صوت السين الصَّفيري بهمسه، يماثل طقس الإحياء أو التطهير، والسمو الروحي المتسارع المتلاحق الواقع على الجبلَّة الطينية.

وأحيانًا نجد جملاً ذات إيقاع صريح، من ذلك في "ضفيرة من قش":
"يقودني، يعلمني، يحرضني"، "كان قد غاب عني، ضاع مني"، "ووجدتني جسدًا، جسدًا ثقيلاً". فنجد الوافر ثم المتدارك ثم الكامل.

والفضاء النصي كما وضح من النماذج استخدَمَه القاصُّ استخدام فضاء النص الشعري، فيقطع الجمل كما الشعر، فضلاً عن حذف الروابط، فمن وصف إحدى الشخصيات الغريبة في "حبة العنب اللحمية" والتي ترمز للقوة السافرة في جبروتها:
"تَوْءمي؟ !
كان خرتيتًا..
خرتيتًا مكتملاً..
قرنه في الأعالي..
وظِلْفه في الأسافل..".

وكما وضَح فالنصُّ تعاوَر عليه عنصرَا الصورةِ والإيقاع؛ لإخراج نص نثريٍّ قصصي مضمخ بريا الشعري وآلياته، مسهمًا في دلالته، ممعنًا في إثرائها، لا تشكيلاً جماليًّا فحسب.

[1] خيري دومة، تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998، 33.
[2] رومان جاكبسون، قضايا الشعرية، ت محمد الولي، ومبارك حنون، دار توبقال للنشر، 1988، 10، 11.
[3] ينظر: تودوروف، المبدأ الحواري، ت فخري صالح، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1992، ص113.
[4] ناصر يعقوب، اللغة الشعرية وتجلياتها في الرواية العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الأردن، 2004، ص25.
[5] رشيد يحياوي، السارد شاعرًا، مملكة البحرين، 2008، ص126.
[6] جون كوين، بناء لغة الشعر، ت أحمد درويش، دار المعارف، القاهرة، ط3، 1993، ص140.
[7] الطاهر أحمد مكي، القصة القصيرة، دراسات ومختارات، دار المعارف، 1992، ص131.
[8] عبدالرحيم الكردي، البنية السردية للقصة القصيرة، مكتبة الآداب، القاهرة، ط3، 2005، 114.
[9] رشيد يحياوي، السارد شاعرًا، 128.
[10] ابن منظور، لسان العرب، دار صادر بيروت، ط4، 2005، مادة عكر.
[11] صلاح عبدالسيد، عكارة الجسد، أخبار اليوم، 2010، ص19، 21.
[12] السابق، ص34، 37.
[13] ينظر: ابن منظور، لسان العرب، مادة: عكر.
[14] المجموعة، ص5.
[15] مراد عبدالرحمن مبروك، الظواهر الفنية في القصة القصيرة المعاصرة، الهيئة المصرية، 1989، 93.
[16] المجموعة، ص17.
[17] المجموعة، ص19.
[18] نفسه، ص34.
[19] نفسه، ص35.
[20] المجموعة، ص38.
[21] مراد عبدالرحمن مبروك، الظواهر الفنية في القصة القصيرة، ص115.
[22] لا يقصد بالنعتِ النحويُّ، وإنما مطلق الوصف.
[23] المجموعة، ص121.
[24] المجموعة، ص121.
[25] ينظر: خيري دومة، تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة، 98، 170.
[26] المجموعة، ص121.
[27] ينظر دكلاس كلوفر، الرواية كقصيدة شعرية، ت د. الجيلاني كدية، مجلة دراسات سميائية، عدد 5، ص34.











رد مع اقتباس
قديم 2013-09-06, 13:52   رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
leprence30
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي البارع لأبي علي القالي

البارع لأبي علي القالي

أضواء على القالي:
أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي، هذا اسم العالم الذي نُصاحبه مع كتابه: "البارع".

عالمنا هاجر من بغداد العبَّاسية إلى الأندلس العربية طلبًا للرِّزق، ولا مانع من القول بأن الهجرة بغرض الشُّهرة أيضًا.

عندما سافر للأندلس اتصل بالخليفة عبدالرحمن وابنه الحكَم، وعُرف هناك باسم البغدادي، وتولى شؤون القَضاء في قُرطبة عاصمة الأدب والفنِّ، إلى أن لاقى باريه في عام 356هـ بإجماع الرُّواة.

لقد حاول القالي بجهْد علميٍّ مُتقَن أن يَنقل علم المَشرِق العربي إلى المغرب العربي، وأن يؤلف هناك في المغرب كتبًا تُضارع ما أُلِّف في المَشرِق، فأملى "أماليه" المشهورة، فاشتَهرت وذاع صيتها، كما ألف معجمه "البارع"؛ ليُضارع به المعاجم التي ظهرتْ في المشرق العربي، ويُقال: إنَّ أبا علي القالي بدأ العمل في معجمه عام 350هـ، واستمر يجمع موادَّه ويُدوِّنها حتى توفي 356 هـ قبل أن يتمَّه ويهذِّبه، فتولى تهذيبه محمد بن الحسين الفهري، الذي كان مساعدًا للقالي وهو من أهل قرطبة العلماء، وصديقه محمد بن معمر الجبالي، فاستَخْرجاه من الصُّكوك والرقاع، وهذَّباه من أصوله التي هي بخطِّ القالي؛ هذا في أرجح الروايات.

عالمنا: إسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون بن عيسى بن محمد بن سلمان، (أبو علي القالي)، أحفظ أهل زمانه للُّغة والشعر والأدب، وكان مولده في قرية (منازجرد) على شاطئ الفرات الشرقي بالقرب من بحيرة (وان).

في بغداد كان المهد الأول لثقافة القالي؛ حيث أقام بها 25 سنةً، بعدها بدأت رحلته المغربية للأندلس، وفي قرطبة استقرَّ وبلَغ الشهرة أيام عبدالرحمن الناصر، وتعلَّق به الحكَم المُستنصِر بن الناصر، ويُقال: إنه هو الذي كتَب إليه ورغَّبه في الوفود عليه، وكان الحكَم قبل ولايته الأمر - وبعد توليته - يُنشِّطه على التأليف (أي يُشجِّعه) بواسع العطاء، ويَشرح صدْره بالإفراط في الإكرام، وبذلك أعطاه تشجيعًا ماديًّا ومعنويًّا.

يَذكر القالي أنه تلقَّى النحو وعلوم العربية وآدابها على يد ابن درستويه والزجَّاج والأخفش الصغير، ونِفْطوَيه وابن دُرَيد وابن السِّراج، وابن الأنباري وغيرهم، ويقول السيوطي في (بغية الوعاة (ص: 198)) أنه - أي: القالي - دخل قرطبة سنة ثلاثين، فأكرمه صاحبها إكرامًا جزيلاً وأحسن مثواه، وقرأ عليه الناس كتب اللغة والأخبار، وصنَّف القالي الأمالي "أمالي القالي" في الأخبار والأشعار، ويعرف البعض هذا الكتاب باسم "النوادر"، وقد طُبع أكثر من مرة، وله "البارع" وهو من أوسع كتب اللغة، و"المقصور والممدود والمهموز"، قالوا: إنه لم يؤلَّف في بابه مثله، و"الأمثال" وأظنُّه ما زال مخطوطًا وهو مرتَّب على حروف المعجم العربي، وله "شرح المعلقات" وكتيِّبات عن الإبل والخيل.

ومن أشهر رواته أبو بكر الزبيدي عالم اللغة المشهور، وغيره.

"البارع"، المنهج والرحلة:
برغم اشتهار هذا المعجم واشتهار صاحبه، فإن الناس لم تَمِلْ إليه، ولذلك لم يصلْ إلينا منه نسخة كاملة، فقد ضاع منه أجزاءٌ كثيرة، وخاصة مقدِّمته التي لعلها توضِّح منهجيَّة القالي في التأليف، وبالتالي يَصعُب علينا كباحثين استخلاص فلسفته وطريقته ونظرته إلى ما سبقه من معاجم.

لم يَسِر القالي على نهْج أستاذه ابن دُرَيد صاحب "الجمهرة" في ترتيبه المعجمي، فقد عاد بدوره إلى الترتيب المخرجي، كما فعل الخليل بن أحمد الفراهيدي في معجمه "العين".

لقد رتَّب التالي أبواب معجمه ترتيبًا يُوافِق الخليل ولكنه يخالفه في بعض الحروف، وإن نظرة إلى الترتيبات الثلاثة - ترتيب الخليل، وترتيب التالي، وترتيب ابن دُرَيد - يتَّضح لنا مدى الاتفاق والاختلاف بين الأعلام الثلاثة:
ترتيب الخليل في "العين":
ع ح - هـ خ غ - ق ك - ج ش ض - ص س ز - ط د ت - ظ ذ ث - ر ل ن - ف ب م - و ا ي - الهمزة.

ترتيب ابن دريد في الجمهرة:
رتَّب أبوابه ترتيبًا أبجديًّا عاديًّا مُخالفًا بذلك ترتيب العين، والذي رآه ابن دريد معقَّدًا.

ترتيب القالي:
هـ ح ع خ ع - ق ك - ض ج ش - ل ر ن - ط د ت - ص ز س -ظ ذ ث - ف ب م - و ا ي.

ونلاحظ هنا أن القالي كان أدقَّ في وضعه (ل ر ن) قبل (ظ ذ ث) بخلاف الخليل الذي وضعهم بعد ظ ذ ث، مع أن (ظ ذ ث) أصوات من بين الأسنان مخارجها متقدِّمة في الفم عن اللام والراء والنون، كما أن القالي يُخالف الخليل بن أحمد في وضعه (ط د ت) قبل (ص ز س)، ويخالفه أيضًا في ترتيب بعض الحروف في داخل المجموعات.

إلا أن القالي يتفق مع الفراهيدي في نظام التقليبات، فهو يقلِّب المادة اللغوية على جميع الأوجه.

أما نظام الكمية (أي عدد الحروف)، فقد تابع فيها الخليل إجمالاً، وخالفه تفصيلاً؛ مثل: جمعه الفعل المعتل؛ سواء أكان معتل الأول، أو الآخِر، أو الوسط، مع الفعل اللفيف في باب واحد أسماه (أبواب الثلاثي المعتل)، وجاءت أبوابه على الوجه التالي:
1- أبواب الثنائي المضاعف - ويسمِّيه الثنائي في الخطِّ والثلاثي في الحقيقة.

2- أبواب الثلاثي الصحيح (بأنواعه).

3- أبواب الثلاثي المعتلِّ (بأنواعه).

4- أبواب الحواشي أو الأوشاب.

5- أبواب الرباعي وأنواعه.

6- أبواب الخماسي وأنواعه.

وذكر القالي في باب الأوشاب أسماء الأصوات ومُحاكاة الطيور والحيوانات - وقسَّمه في بعض الحروف إلى الفصول الآتية:
1- الثنائي المخفَّف.

2- الثلاثي الصحيح.

3- المضاعَف الفاء واللام (الأول والآخِر).

4- الثلاثي المعتل.

5- اللفيف.

6- المضاعف الرباعي.

كما يلاحظ أنه دمَج ما يسمِّيه الصرفيُّون بالرباعي المضاعَف؛ مثل: (زلزل) في الثنائي المضاعَف، كما فعل الخليل بن أحمد في عَينه.

ومما يؤخَذ على كتاب البارع - كغيره من المعاجم العربية - أنه قد يَذكُر الكلمة مرَّتَين، كذلك أكثر فيه المؤلف من ذكر أشياء عديدة على سبيل الاستطراد؛ فمثلاً عند ذكره لكلمة "داماء" التي فسَّرها بأنها جحر اليربوع، نجده قد ذكر سبعة مُترادِفات أخرى لتلك الكلمة، وفسَّر كل مُترادِف، وذكَر ما قيل بمناسبته من الشعر، مما استغرق قدرًا كبيرًا من الكتاب، على حين كان ينبغي أن يقتصر في كل حرف على ذكْر الكلمة التي وردتْ في ذلك الحرف فقط، ولكن يَظهر أن شخصية الأديب في القالي كانت تميل إلى الإطناب والاستطراد، كما كان يفعل في كتاب "الأمالي"، وإن اختلفت موضوعات الكتابَين اختلافًا كليًّا.

هذا هو معجم القالي الذي يعدُّ أول معجم ظهر في الأندلس، يقول عنه أبو بكر الزبيدي تلميذ القالي الوفيُّ: "إنه قاموس واسع قد شَمِل اللغات كلها"، يَقصد باللغات اللهجات، وذكر الزبيدي أيضًا أن البارع فاق كتاب "العين" بأربعمائة ورقة، كما أن القالي ذكَر فيه بعض أصول أوضح أنها مُستعمَلة، وكان الخليل في العين قد ذكر أنها مُهمَلة، ومن العلماء المتأخِّرين الذين أثنَوا على البارع الإمام السيوطي الذي اعتبره في كتابه "بُغية الوُعاة" أصحَّ القواميس التي رآها، ويعود السيوطي ليؤاخذ علماء عصره ومثقَّفيه أنهم أهملوا بارع القالي، وانصرفوا لمُحكم ابن سِيده وصِحاح الجَوهري.

ويَذكر أستاذنا الدكتور عبدالله درويش في دراسته القيمة عن: (المعاجم العربية) أنه ممن الْتبس عليهم الأمر في شأن "البارع" حاجي خليفة في بيلوجرفيته القيمة "كشف الظنون"؛ إذ ذكَر أن مِن بين مؤلَّفات القالي كتاب: (البارع في غريب الحديث)، وقد أدَّى هذا الالتباس أن يَشتبِه الأمر على كتاب دائرة المعارف الإسلامية الذين ذكروا تحت موضوع (القالي): أن من بين مؤلفاته كتاب "البارع في غريب الحديث"، وزادت دائرة المعارف على هذا أن ذكرت أن هذه المخطوطة موجود بعضٌ منها في المكتبة الأهلية في باريس تحت رقم 4235، ولكن هذا يخالف الواقع تمامًا؛ لأن هذه المخطوطة عينها قد صورتْ هي وقسْم آخَر من معجم البارع عثَر عليها في مكتبة المتحف البريطاني، وأخرجهما معًا في صورة كتاب المستشرق (فولتون)، والذي كان يعمل في تلك الأثناء أمينًا للمكتبة الشرقية بالمتحف عام 1931م.

ولكن ولوع صاحب "كشف الظنون" بكثرة تَعداد الكتب، أدَّى به إلى أن يجعل هذا العُنوان اسمًا لكتابَين مُختلفَين، والواقع أيضًا أن الاسم الكامل للكتاب هو: "البارع في غريب اللغة العربية"، ولا يَفوتنا قبل أن نترك شيخَنا القالي أن ننبِّه على أنه كان أستاذًا لأبي بكر الزبيدي الذي ألف "مختصر العين"، ويَظهر أن بعض أصحاب الطبقات قد غفَل عن هذا، فذكَر ما يُفيد خلاف ذلك مثل صدِّيق خان صاحب كتاب البلغة في (ص: 109) الذي زعَم أن أبا الوفا روى أن الزبيدي قد أخلَّ بكتاب "العين" حين حذَف الشواهد النافعة في مختصره، ولما رأى القالي ذلك من الزبيدي، عمل كتابه البارع فذكر فيه ما في العين وزيادة، وهذا سهو، فالقالي هو صاحب البارع والزبيدي عالم جليل قدَّم لنا "لحْن العامة"، و"طبقات اللغويين"، و"الاستدراك على أبنية سيبويه"، ويَكفيه ذلك فخرًا.

والله ولي التوفيق..











رد مع اقتباس
قديم 2013-09-06, 13:54   رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
leprence30
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي اقرأ: وثيقة عبورنا (الغائبة) إلى حياة أفضل!

اقرأ: وثيقة عبورنا (الغائبة) إلى حياة أفضل!

لعلَّ أغلب القراء الأربعينيِّين من سكان المدن وما جاورها، ما زالوا يذكرون ببعض الحميمية قصصَ كتب المطالعة في السنين الأولى من المرحلة الابتدائية: (طه والطبلة، والقرد وبائع الطرابيش، وقرد النجار والتقليد الأعمى، والثعلب والعنب)، وغيرها من القصص التي كانت من أولِ ما داعب خيالَنا الطفولي الغضَّ، كان كتابًا غير ملوَّن وبسيطًا في إخراجه، ويحوي صورًا معدودة وبسيطة جدًّا، مستوحاة من معاني القصة وأحداثها، ولم يكُ ينافسه في ذاك الزمنِ الجميل إلا تلك القصص المصوَّرة الواردة من مراكز ثقافية بعيدة في لبنان ومصر؛ مثل: سوبرمان، والوطواط، وتان وتان، ولولو الصغيرة، وميكي، وسندريلا، ومختارات الهلال، وقصص جرجي زيدان، وغيرها.

كما أننا ما زلنا نذكرُ تلك الزيارات النادرة والقصيرة والمملّة لمكتبة المدرسة المَهِيبة؛ حيث تراقبنا بلا رحمةٍ عينُ قيِّم المكتبة العجوز، وتلاحقنا وتحاصرنا، وصوته الأجشُّ، وتعابير وجهه تشي بقلقه البالغ من وجود هؤلاءِ الأطفال العابثين في المكتبة، وخوفه على تصنيف الكتب وأغلفتها وأوراقها من أيدينا الطائشة، ولم تَعْنِ تلك الزيارات - حسب تجارب البعض - حريةَ التجول في المكتبة، والاطلاع والاختيار؛ فالكتاب مقرَّر سلفًا، وما تلك الزيارة إلا لإجبارنا على قراءةٍ صامتة لصفحاتٍ من ذلك الكتاب المقرَّر تُعِيننا على تجاوز عَقَبة الامتحان الكتابي.

دارت عجلة الزمن بوتيرةٍ ومتغيرات ونقلات فاقت أحلامنا وتخيلاتنا.

كَبِرنا وزادت كتبنا المدرسية عددًا، ووزنًا، وإملالاً، وصرامة، وثقلاً في الظل والدم، كما يقولون مجازًا، وغاصت وغابت في بئر اللا شعور، تلك الدغدغةُ الجميلة والإثارة العجيبة لسطورِ (طه والطبلة) وأخواتها، وحرب سوبرمان ضد الجريمة، والشخصية السرية لنبيل فوزي، وقُوَى سوبرمان الخارقة التي لا يضعفها إلا الكريبتونيت الأخضر!

كَبِرنا وعَلَونا في مراحل الدراسة، وغاب الكتابُ والمطالعة الحرَّة عن حياة الكثير منا، وزاحم الكتاب المدرسي بمللِه وسأمه، ورعبه وهمِّه وغمِّه كلَّ ما عداه من الكتب الجميلة، واحتل مقامًا عاليًا بلا منافس، ويا للأسف! فقد اختزلت في ذلك الكتاب المدرسي الكئيب - خلسةً وجهلاً وبخسًا - كل تلك البحور من المعاني والصور، والخيالات والتجارب، والتوقعات التي تحويها كلمة، كانت يومًا ما جميلة ومثيرة؛ "كتاب"، فكَرِهَ الكثير منا الكتاب والمطالعة والقراءة، ليس كرهًا لمعنى الكتاب الأصلي؛ إنما كرهًا باطنًا ومتجذرًا لما آل إليه معنى الكتاب في عقولنا، حينما مسخ وضيّق واختزل معناه في الكتاب المدرسي، الذي يرتبط في عقولنا بالملل والواجبات المدرسية والامتحانات المصيرية!

تبرزُ هذه المقدِّمة المشوِّقة جوانب مهمَّة من إجابة سؤال مهم، يشغل بال المفكرين والباحثين في عالمنا العربي: لماذا نكرهُ القراءة، ونعادي الكتاب؟ ولِمَ ضَعُفت الرغبةُ في المطالعة والقراءة لدى شعوبنا العربية في مختلف الفئات العمرية؟

إنه سؤال مُقلِق ومهم، ولا يشغل أمرُه أهلَ التربية والتعليم فقط، ولكنه هاجس حضاري كبير يتحدَّى المختصين والخبراء في عددٍ من المجالات المهمة، ذات الصلة الوثيقة بالمشاريع والمبادرات التنموية على مستوى الدول والشعوب:
مجتمع المعرفة، الاقتصاد المعرفي، قرب نهاية اقتصادِ الموارد، الحاجة إلى القُوَى العاملة ذات الأساس المعرفي، النقلة إلى مجتمع المعرفة، مواكبة التوجُّه العالمي المعرفي... هذه أمثلةٌ لطائفةٍ من المصطلحات والموضوعات الجديدة التي بدأت تظهر وتتكرَّر في الآونة الأخيرة في طرحنا الإعلامي ومنتدياتنا، ويكثر الحديث والنقاش والخلاف حولها في لقاءاتنا ووِرَش العمل، ومؤتمراتنا وخططنا التعليمية ومشاريعنا التنموية.

لن نعرضَ في هذا السياق شرحًا وتفصيلاً لمجتمع المعرفة، ولسنا في مقامنا هذا بصدد الدعوة إليه، وبيان محاسنه، والدفاع عن مدرسته الفكرية، أو نقد الفكرة من أساسها، ويكفينا الإشارة إلى عموم الفكرة، وكونها تمثِّل توجهًا عالميًّا يجذب - لأسباب عديدة - بوصلة الفكر والبحث والتخطيط ورأس المال، والمشاريع في دول كثيرة، وما يَعْنِينا هنا هو الخطوط العريضة، وتحديدًا صلة موضوع حديثنا عن دراسة وعلاج العزوف الجماعي عن القراءة في بلداننا، والنقلة التنموية المرجوَّة من حالنا وأوضاعنا إلى حال وأوضاع أفضل من شتى النواحي، بما فيها الناحية المعرفية، وسوف نهتم ونركِّز على الحقائق والمضامين والنتائج، أكثر من الأسماء والمصطلحات التي يسهل الخلاف حولها.

تتولَّد من الصلة بين موضوع حديثنا ومصطلح مجتمع المعرفة فرضيةٌ في غاية الأهمية، تستحق الكثير من البحث التجريبي الممنهج؛ للنظر في أثرها وثقلها، ومن الأفضل - منهجيًّا وبحثيًّا - أن نعرضَ هذه الفرضية في صيغة سؤالٍ يحتاج للبحث المؤسَّسي المنهجي والمركز، ولا تغني في إجابته الظنون والأجوبة البديهية والعفوية: ما أهمية وأثر مستوى القراءة الشعبي في النقلة إلى مجتمع واقتصاد أساسهما المعرفة؟

لن نَحِيد عن مسارِ بحثنا بالخوض في إجابة السؤال السابق، فما عَرَضناه إلا لبيانِ أهمية دراسة الصلة المزعومة بين القراءة والتوجُّهات التنموية الكبرى على المستوى الدولي، ويَكفِينا من هذا الجانب التركيزُ على أهمية القراءة في الارتقاء بالفكر الإنساني عمومًا، ونفعها في مجال التجسير والفهم والحوار الحضاري الفاعل بين الشعوب، ولنواصل الحديث عن جوانب أكثر مساسًا بموضوعنا.

هنالك مجموعةٌ من التحدِّيات التي قد تُعزَى إليها ظاهرةُ العزوف عن القراءة ومعاداة الكتاب في عالمنا العربي، لعل من أهمها - للمثال لا للحصر -:
• ما ذكرنا سابقًا من انحصار العملية التعليمية في حدود الكتاب المدرسي غير المشوق.

• ضعف القدرة اللغوية لدى القراء عمومًا والناشئة خصوصًا.

• استعراض العضلات اللغوية والتقعُّر والتفاصح من جهة الكتَّاب.

• التخلُّف في صناعة المعرفة العربية الأصيلة وإنتاجها.

• الاكتفاء بالترجمة من اللغات الأخرى؛ مما يجعل استهلاكنا للمعرفة يفوقُ صناعتنا لها.

• تخلُّف صناعة الكتاب في أدب الأطفال خصوصًا، وتدنِّيه من ناحية الجَوْدة في المضمون والإخراج.

• غياب الكتاب والقراءة عن أساليبِنا التربوية وحياتنا عمومًا.

• عدم غرس حب المطالعة والقراءة الحرَّة لدى الناشئة بأساليب منهجية مجرَّبة وفاعلة.

• هجر البالغين للقراءة أدَّى إلى ندرة القدوات القارئين، وإضعاف تعليم القراءة عن طريق القدوة والمحاكاة.

• إهمال الأساليب المنهجية في تعليم القراءة وتحبيبها لشتَّى الفئات العمرية.

• غياب المعايير والمنهجية في إنتاج الكتب من ناحية ملاءمة لغتها ومحتواها، وإخراجها لمستوى القارئ وعمره وحاجاته.

إن الاهتمام بما يسمَّى "أدب الأطفال" في عالمنا العربي لَيُعدُّ من أهم الجبهات التي تُعِين على الغرس المبكِّر لحب الاطّلاع والقراءة الحرَّة في السنين الأولى من حياة الفرد، وكما أسلفنا القول عن التحدّيات في مجال القراءة، فإن النوايا الحسنة - مع أهميتها - لا تكفي لإنتاج أدبٍ يخاطب الطفل بطريقة فاعلة ومؤثِّرة؛ إذ لا يتصوَّر إنتاج أدب للطفل ذي معنى وفائدة في غياب الأساليب العلمية والنفسية والمنهجية؛ فلقد أضحى أدبُ الطفل فنًّا وعلمًا مستقلاًّ بذاته، وتخصصًا أكاديميًّا، وله مدارسه وخبراؤه، ومؤتمراته، ومصنفاته، واتجاهاته، وأساليبه، ومنهجياته، ورصيدُه المتراكم من الخبرات والتجارب والأخطاء، ومن الإنصاف أن نقرَّ بالحاجة إلى مَنْهَجة ومعيَرة أدب الطفل في عالمنا العربي، وانتشاله من مزالق عدة: عفوية النية الحسنة، وتواكل الترجمة، واستنساخ الجهود، وتدنِّي الأصالة، وضعف الإخراج والمخرجات مقارنة بجهود دول كثيرة تُولي هذا المجال أهميةً قصوى تفوقُ بمراحل ما لدينا.

لعلنا نختم بحثنا هذا بتوصيات مهمَّة في مجال تأسيس ومنهجة ومعيارية "أدب الطفل" في عالمنا العربي، وهذه التوصيات تذكر وتركز؛ كما أشارت "الأستاذة أميمة الخميس" في أحد اللقاءات، (لها عدة مؤلفات في أدب الطفولة)، بصراحة شديدة إلى حقيقة وخلاصة مهمَّة لتجربتها في الكتابة للطفل: "إن الكتابة للطفل عمل كبير ومتعدِّد الجوانب، يتجاوز طاقة الأفراد مهما كانوا متميزين، ويحتاج بكل صراحة وتجرُّد وأمانة إلى عملٍ مؤسسي وفريق متعدِّد المواهب، يشارك فيه مختصُّون وخبراء في جوانب عديدة"!

هذه التوصيات هي:
1- الإفادة من الخبرات العالمية في مجال أدب الطفل.

2- تكوين مجموعات بحثية متعدِّدة ومتكاملة تهتمُّ بالجوانب المتعلِّقة بأدب الطفل، في هذا السياق نذكر مثالاً لمشروع رائد "بالعربي 21"، تقوم عليه مؤسسة الفكر العربي بلبنان، بقيادة المساند للفكر "الأمير خالد الفيصل آل سعود".

3- معيارية أدب الطفل، ومن الجهود في هذا المجال: معايير أدب الأطفال التي أنتجتها بحوثُ ودراساتُ مؤسسةِ الفكر العربي، ولمَن أراد الاستزادةَ الرجوع إلى موقع المؤسسة وأدبياتها، ومن العاملين في المؤسسة الدكتورة "إيفا كوزوما" (باحثة لبنانية)، والدكتورة "منيرة الناهض" (من الخليج العربي).

4- مراعاة الفروق في الاهتمامات بين الذكور والإناث من الأطفال، كما تبرزها الأبحاث المنهجية، فبعض البحوث - مثلاً - تُشِير إلى تفضيل الإناث من الأطفال للمغامرات، وتفضيل الذكور للفكاهة.

5- تُشِير بعض البحوث الغربية إلى تدنِّي مستوى القراءة بعد الصف الدراسي الرابع، مقارنة بسابقه، ولعل هذا البحث يؤكِّد أهميةَ القيام بدراسات مشابهة في عالمنا العربي لتحديدِ المرحلة المناسبة للتدخل العلاجي المنهجي، ولا يستبعد أن التدخُّل يجب أن يبدأ في مرحلة رياض الأطفال أو ما قبلها في المنزل!

6- القيام بحملات وطنية تستهدفُ إشراكَ الأهالي في علاج المشكلة عن طريق أساليب عدة؛ منها القراءة الجهرية اليومية للطفل من قِبَل الوالدين أو الإخوان الكبار، ولهذا الأسلوب منافع مثبتة؛ منها: تعليم الطفل فنَّ الإصغاء - إثراء رصيده اللغوي - تعزيز القيم والأخلاق.

7- حماية أدب الطفل من الترهُّل الناتج من المبالغة في الشحن الوعظي، ويكفي في القصة - مثلاً - التركيز على خُلق أو خُلُقين في ثنايا قصة مشوِّقة وجاذبة، مع الإفادة من إرثنا الإسلامي في استيحاء بعض أفكار وقصص أدب الأطفال لدينا.

8- إثراء أدب الطفل بجاذبية القصص، وسحر الحكاية، وتماهي شخصية الطفل مع ما يقرأ في أدب الطفل.

9- إن أجمل توصيةٍ في مجال تأسيس ومنهجة والارتقاء بأدب الطفل في عالمنا العربي، هي عدم استسهال أدب الطفل، فنحن أمام تصحيح جذري للمفاهيم وتحدٍّ كبير، هو الصعود إلى مستوى الطفل وأدبه لفَهمه فهمًا صحيحًا، ولن يغني في هذا المجال اعتقادنا القديم والقاصر وغير المثمر، بأننا بوصفنا كبارًا وناضجين نحتاج أن ننزل من عليائنا إلى مستوى الطفل وأدبه.

10- وتلخيصًا: فإننا نحتاج للارتقاء بأدب الطفل لدينا إلى الصعود إلى مستوى الطفل، والصعود مرهقٌ، ولا يجيده إلا القلة؛ إذ هو يتطلب جهدًا ودراسة وبحثًا ومنهجية، أساسها تقدير هذا الكائن الصغير المملوء بالعجائب والتحدي، والذي نسمِّيه تجاوزًا "الطفل"!











رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
المغني, الوعد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 04:59

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc